مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل قول القائل تقولون إن القرآن صفة الله
فصل قول القائل تقولون إن القرآن صفة الله
عدلوأما قول القائل: تقولون: إن القرآن صفة الله وإن صفات الله غير مخلوقة، فإن قلتم: إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية، وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا.
فمن تبين له ما نبهنا عليه سهل عليه الجواب عن هذا وأمثاله؛ فإن منشأ الشبهة أن قول القائل: هذا كلام الله، يجعل أحكامه واحدة، سواء كان كلامه مسموعًا منه أو كلامه مبلغًا عنه.
ومن هنا تختلف طوائف من الناس.
طائفة قالت: هذا كلام الله، وهذا حروف وأصوات مخلوقة، فكلام الله مخلوق.
وطائفة قالت: هذا مخلوق، وكلام الله ليس بمخلوق، فهذا ليس كلام الله.
وطائفة قالت: هذا كلام الله، وكلام الله ليس بمخلوق، وهذا ألفاظنا وتلاوتنا، فألفاظنا وتلاوتنا غير مخلوقة.
ومنشأ ضلال الجميع من عدم الفرق في المشار إليه في هذا فأنت تقول: هذا الكلام الذي تسمعه من قائله صدق وحق وصواب، وهو كلام حكيم، وكذلك إذا سمعته من ناقله تقول: هذا الكلام صدق وحق وصواب وهو كلام حكيم، فالمشار إليه في الموضعين واحد، وتقول أيضا: إن هذا صوت حسن، وهذا كلام من وسط القلب، ثم إذا سمعته من الناقل تقول: هذا صوت حسن، أو كلام من وسط القلب، فالمشار إليه هنا ليس هو المشار إليه هناك، بل أشار إلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه، وإلى ما يختص به هذا من صوته وقلبه، وإذا كتب الكلام في صفحتين كالمصحفين تقول في كل منهما: هذا قرآن كريم، وهذا كتاب مجيد، وهذا كلام الله فالمشار إليه واحد، ثم تقول: هذا خط حسن وهذا قلم النسخ أو الثلث، وهذا الخط أحمر أو أصفر والمشار إليه هنا ما يختص به كل من المصحفين عن الآخر.
فإذا ميز الإنسان في المشار إليه بهذا وهذا تبين المتفق والمفترق، وعلم أن من قال: هذا القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق، أن المشار إليه الكلام من حيث هو، مع قطع النظر عما به وصل إلينا من حركات العباد وأصواتهم، ومن قال: هذا مخلوق وأشار به إلى مجرد صوت العبد وحركته، لم يكن له في هذا حجة على أن القرآن نفسه حروفه ومعانيه الذي تعلم هذا القارئ من غيره وبلغه بحركته وصوته مخلوق، من اعتقد ذلك فقد أخطأ وضل.
ويقال لهذا: هذا الكلام الذي أشرت إليه كان موجودًا قبل أن يخلق هذا القارئ، فهب أن القارئ لم تخلق نفسه ولا وجدت لا أفعاله ولا أصواته فمن أين يلزم أن يكون الكلام نفسه الذي كان موجودًا قبله يعدم بعدمه ويحدث بحدوثه؟ فإشارته بالخلق إن كانت إلى ما يختص به هذا القارئ من أفعاله وأصواته، فالقرآن غني عن هذا القارئ وموجود قبله فلا يلزم من عدم هذا عدمه، وإن كانت إلى الكلام الذي يتعلمه الناس بعضهم من بعض فهذا هو الكلام المنزل من الله الذي جاء به جبريل إلى محمد، وبلغه محمد لأمته، وهو كلام الله الذي تكلم به فذاك يمتنع أن يكون مخلوقًا، فإنه لو كان مخلوقًا لكان كلاما لمحله الذي خلق فيه ولم يكن كلاما لله؛ ولأنه لو كان سبحانه إذا خلق كلاما كان كلامه ما أنطق به كل ناطق كلامه مثل تسبيح الجبال والحصى وشهادة الجلود، بل كل كلام في الوجود، وهذا قول الحلولية الذين يقولون:
وكل كلام في الوجود كلامه**سواء علينا نثره ونظامه
ومن قال: القرآن مخلوق فهو بين أمرين: إما أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه، وبين أن يجعله غير متكلم بشيء أصلا، فيجعل العباد المتكلمين أكمل منه، وشبهه بالأصنام والجمادات والموات، كالعجل الذي لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، فيكون قد فرَّ عن إثبات صفات الكمال له حذرًا في زعمه من التشبيه، فوصفه بالنقص وشبهه بالجامد والموات.
وكذلك قول القائل: هذا نفس كلام الله، وعين كلام الله، وهذا الذي في المصحف هو عين كلام الله، ونفس كلام الله، و أمثال هذه العبارات. هذه مفهومها عند الإطلاق في فطر المسلمين أنه كلامه لا كلام غيره، وأنه لا زيادة فيه ولا نقصان؛ فإن من ينقل كلام غيره ويكتبه في كتاب قد يزيد فيه وينقص، كما جرت عادة الناس في كثير من مكاتبات الملوك وغيرها فإذا جاء كتاب السلطان فقيل: هذا الذي فيه كلام السلطان بعينه بلا زيادة ولا نقص؛ يعني: لم يزد فيه الكاتب ولا نقص. وكذلك من نقل كلام بعض الأئمة في مسألة من تصنيفه قيل: هذا الكلام كلام فلان بعينه؛ يعني لم يزد فيه ولم ينقص، كما قال النبي ﷺ: «نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلَّغه كما سمعه ».
فقوله: «فبلغه كما سمعه» لم يرد به أنه يبلغه بحركاته وأصواته التي سمعه بها، ولكن أراد أنه يأتي بالحديث على وجهه لا يزيد فيه ولا ينقص، فيكون قد بلغه كما سمعه. فالمستمع له من المبلغ يسمعه كما قاله ﷺ، ويكون قد سمع كلام رسول الله ﷺ كما قاله. وذلك معنى قولهم: هذا كلامه بعينه وهذا نفس كلامه. لا يريدون أن هذا هو صوته وحركاته، وهذا لا يقوله عاقل ولا يخطر ببال عاقل ابتداء، ولكن اتباع الظن وما تهوى الأنفس يلجئ أصحابه إلى القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات.
ولو ترك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة، فإذا رأى الناس كلامًا صحيحًا، فإن من تكلم بكلام وسمع منه ونقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل: إن نفس ما قام بالمتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته، وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلغ عنه، ولا فارقته وحلت في الورق، بل ولا يقول: إن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق، بل ولا يقول: إن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلغ عنه، فهذه الأمور كلها ظاهرة، لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلغ أو كتب في كتاب، فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه سبحانه كما كتب التوراة لموسى، وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ، وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم.
وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه، بل شعر مخلوق، كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء، ويقول الناس: هذا شعرحسان بعينه، وهذا هو نفس شعر حسان، وهذا شعر لبيد بعينه كقوله:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل**
ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلت بهم، بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلت بالرواة والمنشدين، فكيف يتوهم متوهم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته، وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلت فيه؟ وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق بل يمثلون العلم بنور السراج يقتبس منه المتعلم ولا ينقص ما عند العالم، كما يقتبس المقتبس ضوء السراج فيحدث الله له ضوءًا»، كما يقال: إن الهوى ينقلب نارًا بمجاورة الفتيلة للمصباح من غير أن تتغير تلك النار التي في المصباح، والمقرئ والمعلم يقرئ القرآن ويعلم العلم ولم ينقص مما عنده شيء، بل يصير عند المتعلم مثل ما عنده.
ولهذا يقال: فلان ينقل علم فلان، وينقل كلامه، ويقال: العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان وأمثال ذلك، كما يقال: نقلت ما في الكتاب ونسخت ما في الكتاب، أو نقلت الكتاب أو نسخته، وهم لا يريدون أن نفس الحروف التي في الكتاب الأول عدمت منه وحلت في الثاني، بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام، وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني مثل مافي الأول، فيبقى المقصود بالأول منقولا منسوخًا وإن كان لم يتغير الأول، بخلاف نقل الأجسام وتوابعها؛ فإن ذلك إذا نقل من موضع إلى موضع زال عن الأول.
وذلك لأن الأشياء لها وجود في أنفسها وهو وجودها العيني، ولها ثبوتها في العلم، ثم في اللفظ المطابق للعلم، ثم في الخط. وهذا الذي يقال: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان؛ وجود عيني، ووجود علمي، ولفظي، ورسمي؛ ولهذا افتتح الله كتابه بقوله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 1، فذكر الخلق عمومًا وخصوصًا، ثم ذكر التعليم عمومًا وخصوصًا، فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق العلم، والعلم هو المطابق للمعلوم.
ومن هنا غلط من غلط، فظن أن القرآن في المصحف كالأعيان في الورق، فظن أن قوله: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } 2 كقوله: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } 3 فجعل إثبات القرآن الذي هو كلام الله في المصاحف كإثبات الرسول في المصاحف، وهذا غلط؛ إثبات القرآن كإثبات اسم الرسول هذا كلام وهذا كلام، وأما إثبات اسم الرسول فهذا كإثبات الأعمال، أو كإثبات القرآن في زبر الأولين، قال تعالى: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } 4 وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } 5 فثبوت الأعمال في الزبر وثبوت القرآن في زبر الأولين هو مثل كون الرسول مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل؛ ولهذا قيد سبحانه هذا بلفظ الزبر و الكتب زبر. يقال: زبرت الكتاب: إذا كتبته، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، فالقرآن نفسه ليس عند بني إسرائيل ولكن ذكره، كما أن محمدا نفسه ليس عندهم ولكن ذكره، فثبوت الرسول في كتبهم كثبوت القرآن في كتبهم، بخلاف ثبوت القرآن في اللوح المحفوظ وفي المصاحف؛ فإن نفس القرآن أثبت فيها، فمن جعل هذا مثل هذا كان ضلاله بينا، وهذا مبسوط في موضعه.
والمقصود هنا أن نفس الموجودات وصفاتها إذا انتقلت من محل إلى محل حلت في ذلك المحل الثاني، وأما العلم بها والخبر عنها فيأخذه الثاني عن الأول مع بقائه في الأول، وإن كان الذي عند الثاني هو نظير ذلك ومثله، لكن لما كان المقصود بالعلمين واحدًا في نفسه صارت وحدة المقصود توجب وحدة التابع له والدليل عليه، ولم يكن للناس غرض في تعدد التابع، كما في الاسم مع المسمى؛ فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ودعا به أناس متعددون فالناس يقولون: إنه اسم واحد لمسمى واحد، فإذا قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، وقال ذلك هذا المؤذن وهذا المؤذن، وقاله غير المؤذن، فالناس يقولون: إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله، كما أن المسمى هو الله ورسوله.
وإذا قال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 6 وقال: { ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ } 7 وقال: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } 8 وقال: { بِسْمِ اللهِ } ففي الجميع المذكور هو اسم الله وإن تعدد الذكر والذاكر، فالخبر الواحد من المخبر الواحد من مخبره، والأمر الواحد بالمأمور به من الآمر الواحد بمنزلة الاسم الواحد لمسماه، هذا في المركب نظير هذا في المفرد، وهذا هو واحد باعتبار الحقيقة وباعتبار اتحاد المقصود وإن تعدد من يذكر ذلك الاسم والخبر، وتعددت حركاتهم وأصواتهم وسائر صفاتهم.
وأما قول القائل: إن قلتم: إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية فهذا قياس فاسد. مثاله مثال رجل ادعى أن النبي ﷺ يحل بذاته في بدن الذي يقرأ حديثه، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا: إن النبي ﷺ لا يحل في بدن غيره، فقال: أنتم تقولون: إن المحدث يقرأ كلامه، وأن ما يقرؤه هو كلام النبي ﷺ، فإذا قلتم ذلك فقد قلتم بالحلول، ومعلوم أن هذا في غاية الفساد.
والناس متفقون على إطلاق القول بأن كلام زيد في هذا الكتاب وهذا الذي سمعناه كلام زيد، ولا يستجيز العاقل إطلاق القول بأنه هو نفسه في هذا المتكلم، أو في هذا الورق. وقد نطقت النصوص بأن القرآن في الصدور كقول النبي ﷺ: «استذكروا القرآن، فلَهُوَ أشد تَفَلُّتًا من صدور الرجال من النَّعَم في عُقُلِهَا»، وقوله: «الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب» وأمثال ذلك، وليس هذا عند عاقل مثل أن يقال: الله في صدورنا وأجوافنا؛ ولهذا لما ابتدع شخص يقال له: الصوري بأن من قال: القرآن في صدورنا، فقد قال بقول النصارى، فقيل لأحمد: قد جاءت جهمية رابعة أي: جهمية الخلقية، واللفظية، والواقفية، وهذه الرابعة اشتد نكيره لذلك، وقال: هذا أعظم من الجهمية. وهو كما قال.
فإن الجهمية ليس فيهم من ينكر أن يقال: القرآن في الصدور، ولا يشبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة؛ فإن النصارى يقولون: الأب والابن وروح القدس إله واحد، وأن الكلمة التي هي اللاهوت تدرعت الناسوت، وهو عندهم إله يخلق ويرزق؛ ولهذا كانوا يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم، ويقولون: المسيح ابن الله؛ ولهذا كانوا متناقضين، فإن الذي تدرع المسيح إن كان هو الإله الجامع للأقانيم فهو الأب نفسه، وإن كان هو صفة من صفاته فالصفة لا تخلق ولا ترزق وليست إلها، والمسيح عندهم إله، ولو قال النصارى: إن كلام الله في صدر المسيح كما هو في صدور سائر الأنبياء والمؤمنين لم يكن في قولهم ما ينكر.
فالحلولية المشهورون بهذا الاسم من يقول بحلول الله في البشر، كما قالت النصارى والغالية من الرافضة وغلاة أتباع المشايخ، أو يقولون بحلوله في كل شيء كما قالت الجهمية أنه بذاته في كل مكان، وهو سبحانه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وكذلك من قال باتحاده بالمسيح أو غيره، أو قال باتحاده بالمخلوقات كلها، أو قال: وجوده وجود المخلوقات أو نحو ذلك.
فأما قول القائل: إن كلام الله في قلوب أنبيائه وعباده المؤمنين، وإن الرسل بلغت كلام الله، والذي بلغته هو كلام الله، وإن الكلام في الصحيفة ونحو ذلك، فهذا لا يسمى حلولا، ومن سماه حلولا لم يكن بتسميته لذلك مبطلا للحقائق. وقد تقدم أن ذلك لا يقتضي مفارقة صفة المخلوق له وانتقالها إلى غيره، فكيف صفة الخالق تبارك وتعالى؟
ولكن لما كان فيه شبهة الحلول تنازع الناس في إثبات لفظ الحلول ونفيه عنه، هل يقال: إن كلام الله حال في المصحف أو حال في الصدور؟ وهل يقال: كلام الناس المكتوب حال في المصحف أو حال في قلوب حافظيه ونحو ذلك؟ فمنهم طائفة نفت الحلول كالقاضي أبي يعلى وأمثاله وقالوا: ظهر كلام الله في ذلك ولا نقول: حل؛ لأن حلول صفة الخالق في المخلوق، أو حلول القديم في المحدث ممتنع. وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي الملقب بشيخ الإسلام وغيره، وقالوا: ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه، بل نطلق القول بأن الكلام في الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان، كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته، وطائفة ثالثة كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا: لا نطلق الحلول نفيًا ولا إثباتًا لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات ونفى ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق فنطلق ما أطلقته النصوص ونمسك عما في إطلاقه محذور لما في ذلك من الإجمال.
وأما قول القائل: إن قلتم: إن هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول، وإن قلتم غير ذلك، قلتم بمقالتنا، فجواب ذلك: أن المقالة المنكرة هنا تتضمن ثلاثة أمور، فإذا زالت لم يبق منكرًا:
أحدها: من يقول: إن القرآن العربي لم يتكلم الله به وإنما أحدثه غير الله كجبريل ومحمد، والله خلقه في غيره.
الثاني: قول من يقول: إن كلام الله ليس إلا معنى واحدًا هو الأمر والنهي والخبر، وأن الكتب الإلهية تختلف باختلاف العبارات لا باختلاف المعاني فيجعل معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدًا، وكذلك معنى آية الدَّيْن وآية الكرسي، كمن يقول: إن معاني أسماء الله الحسنى بمعنى واحد، فمعنى العليم والقدير والرحيم والحكيم معنى واحد، فهذا إلحاد في أسمائه وصفاته وآياته.
الثالث: قول من يقول: إن ما بلغته الرسل عن الله من المعنى والألفاظ ليس هو كلام الله، وإن القرآن كلام التالين لا كلام رب العالمين. فهذه الأقوال الثلاثة باطلة بأي عبارة عبر عنها.
وأما قول من قال: إن القرآن العربي كلام الله، بلغه عنه رسول الله ﷺ، وأنه تارة يسمع من الله، وتارة من رسله مبلغين عنه، وهو كلام الله حيث تصرف، وكلام الله تكلم به لم يخلقه في غيره، ولا يكون كلام الله مخلوقًا، ولو قرأه الناس وكتبوه وسمعوه. وقال مع ذلك: إن أفعال العباد وأصواتهم وسائر صفاتهم مخلوقة فهذا لا ينكر عليه، وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى، لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله تعالى وليس هو ولا شيء منه كلامًا لغيره، ولكن بلغته عنه رسله، وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأنه كلامه حروفه ومعانيه، ومع العلم بأن شيئًا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا في كلام الخالق أولى وأظهر. والله أعلم.
هامش
- ↑ [العلق: 1 5]
- ↑ [الواقعة: 77، 78]
- ↑ [الأعراف: 157]
- ↑ [القمر: 52]
- ↑ [الشعراء: 196]
- ↑ [العلق: 1]
- ↑ [هود: 41]
- ↑ [الأعلى: 1]