مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/سئل عن قوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وقوله إنه لقول رسول كريم
سئل عن قوله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله وقوله إنه لقول رسول كريم
عدلوسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } 1 فسماه هنا كلام الله، وقال في مكان آخر: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } 2 فما معنى ذلك؟ فإن طائفة ممن يقول بالعبارة يدعون أن هذا حجة لهم، ثم يقولون: أنتم تعتقدون أن موسى صلوات الله عليه سمع كلام الله عز وجل حقيقة من الله من غير واسطة، وتقولون: إن الذي تسمعونه كلام الله حقيقة، وتسمعونه من وسائط بأصوات مختلفة، فما الفرق بين هذا وهذا؟ وتقولون: إن القرآن صفة لله تعالى وإن صفات الله تعالى قديمة، فإن قلتم: إن هذا نفس كلام الله تعالى فقد قلتم بالحلول، وأنتم تكفرون الحلولية والاتحادية، وإن قلتم غير ذلك قلتم بمقالتنا، ونحن نطلب منكم في ذلك جوابا نعتمد عليه إن شاء الله تعالى.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، هذه الآية حق كما ذكر الله، وليست إحدى الآيتين معارضة للأخرى بوجه من الوجوه، ولا في واحدة منهما حجة لقول باطل، وإن كان كل من الآيتين قد يحتج بها بعض الناس على قول باطل، وذلك أن قوله: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } فيه دلالة على أنه يسمع كلام الله من التالي المبلغ، وأن ما يقرؤه المسلمون هو كلام الله، كما في حديث جابر في السنن: أن النبي ﷺ كان يَعْرِض نفسه على الناس في الموقف ويقول: «ألا رَجُلٌ يحملني إلى قومه لأبلِّغَ كلام ربي؟ فإن قريشًا منعوني أن أبلّغ كلام ربي»، وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما خرج على المشركين فقرأ عليهم: { الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } 3 قالوا له: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ فقال: ليس بكلامي ولا بكلام صاحبي، ولكنه كلام الله.
وقد قال تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } 4 فمن قال: إن هذا القرآن قول البشر، كان قوله مضاهيًا لقول: الوحيد الذي أصلاه الله سقر. ومن المعلوم لعامة العقلاء أن من بلغ كلام غيره كالمبلغ لقول النبي ﷺ: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» إذا سمعه الناس من المبلغ قالوا: هذا حديث رسول الله ﷺ، وهذا كلام رسول الله ﷺ. ولو قال المبلغ: هذا كلامي وقولي لكذبه الناس؛ لعلمهم بأن الكلام كلام لمن قاله مبتدئًا منشئًا، لا لمن أداه راويا مبلغًا. فإذا كان مثل هذا معلومًا في تبليغ كلام المخلوق، فكيف لا يعقل في تبليغ كلام الخالق، الذي هو أولى ألا يجعل كلامًا لغير الخالق جل وعلا؟
وقد أخبر تعالى بأنه منزل منه، فقال: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } 5، وقال: { حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } 6، { حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } 7. فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به إلى رسول الله ﷺ من البشر، والله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، وكلاهما مبلغ له، كما قال: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } 8، وقال: { إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } 9 وهو مع هذا كلام الله ليس لجبريل ولا لمحمد فيه إلا التبليغ والأداء، كما أن المعلمين له في هذا الزمان والتالين له في الصلاة أو خارج الصلاة ليس لهم فيه إلا ذلك، لم يحدثوا شيئًا من حروفه ولا معانيه، قال الله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } إلى قوله: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } 10.
كان بعض المشركين يزعم أن النبي ﷺ تعلمه من بعض الأعاجم الذين بمكة، إما عبد ابن الحضرمي وإما غيره، كما ذكر ذلك المفسرون، فقال تعالى: { لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } أي: يضيفون إليه التعليم لسان { أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } فكيف يتصور أن يعمله أعجمي وهذا الكلام عربي؟ وقد أخبر أنه نزله روح القدس من ربك بالحق، فهذا بيان أن هذا القرآن العربي الذي تعلمه من غيره لم يكن هو المحدث لحروفه ونظمه؛ إذ يمكن لو كان كذلك أن يكون تلقى من الأعجمي معانيه وألف هو حروفه، وبيان أن هذا الذي تعلمه من غيره نزل به روح القدس من ربك بالحق يدل على أن القرآن جميعه منزل من الرب سبحانه وتعالى لم ينزل معناه دون حروفه.
ومن المعلوم أن من بلَّغ كلام غيره كمن بلَّغ كلام النبي ﷺ أو غيره من الناس، أو أنشد شعر غيره كما لو أنشد منشد قول لَبِيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل**
أو قول عبد الله بن رواحة، حيث قال:
وهذا الشعر قاله منشئه، لفظه ومعناه، وهو كلامه لا كلام غيره بحركته وصوته ومعناه القائم بنفسه، ثم إذا أنشده المنشد وبلغه عنه علم أنه شعر ذلك المنشئ وكلامه ونظمه وقوله، مع أن هذا الثاني أنشده بحركة نفسه وصوت نفسه، وقام بقلبه من المعنى نظير ما قام بقلب الأول، وليس الصوت المسموع من المنشد هو الصوت المسموع من المنشئ والشعر شعر المنشئ لا شعر المنشد. والمحدث عن النبي ﷺ إذا روى قوله: «إنما الأعمال بالنيات» بلغه بحركته وصوته، مع أن النبي ﷺ تكلم به بحركته وصوته، وليس صوت المبلغ صوت النبي ﷺ، ولا حركته كحركته، والكلام كلام رسول الله ﷺ لا كلام المبلغ له عنه.
فإذا كان هذا معلوما معقولا، فكيف لا يعقل أن يكون ما يقرأ القارئ إذا قرأ: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } 11 أن يقال: هذا الكلام كلام البارئ، وإن كان الصوت صوت القارئ. فمن ظن أن الأصوات المسموعة من القراء صوت الله فهو ضال مفتر، مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، قائل قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين، بل قد أنكر الإمام أحمد وغيره على من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق وبَدَّعُوه، كما جَهَّمُوا 12. من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. وقالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق، كيف تصرف، فكيف من قال: لفظي به قديم أو صوتي به قديم؟ فابتداع هذا وضلاله أوضح. فمن قال: إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئًا من ذلك، فهو ضال مبتدع.
وهؤلاء قد يحتجون بقوله: { حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ } 13 ويقولون: هذا كلام الله، وكلام الله غير مخلوق، فهذا غير مخلوق، ونحن لا نسمع إلا صوت القارئ، وهذا جهل منهم؛ فإن سماع كلام الله، بل وسماع كل كلام، يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة، ويكون بواسطة الرسول المبلغ له، قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } 14.
ومن قال: إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران، أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران، فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا. ولو قال قائل: إنا نسمع كلام النبي ﷺ كما سمعه الصحابة منه لكان ضلاله واضحًا، فكيف من يقول: أنا أسمع كلام الله منه كما سمعه موسى؟ وإن كان الله كلم موسى تكليمًا بصوت سمعه موسى فليس صوت المخلوقين صوتًا للخالق. وكذلك مناداته لعباده بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب، وتكلمه بالوحي حتى يسمع أهل السموات والأرض صوته كجر السلسلة على الصفا، وأمثال ذلك مما جاءت به النصوص والآثار كلها ليس فيها أن صفة المخلوق هي صفة الخالق، بل ولا مثلها، بل فيها الدلالة على الفرق بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق، فليس كلامه مثل كلامه، ولا معناه مثل معناه، ولا حرفه مثل حرفه، ولا صوته مثل صوته، كما أنه ليس علمه مثل علمه، ولا قدرته مثل قدرته، ولا سمعه مثل سمعه، ولا بصره مثل بصره؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
ولما استقر في فِطَر الخلق كلهم الفرق بين سماع الكلام من المتكلم به ابتداء وبين سماعه من المبلغ عنه، كان ظهور هذا الفرق في سماع كلام الله من المبلغين عنه أوضح من أن يحتاج إلى الإطناب. وقد بين أئمة السنة والعلم كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتابه في خلق الأفعال، وغيرهما من أئمة السنة من الفرق بين صوت الله المسموع منه وصوت العباد بالقرآن وغيره، ما لا يخالفهم فيه أحد من العلماء أهل العقل والدين.
هامش
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [التكوير: 19]
- ↑ [الروم: 1 3]
- ↑ [المدثر: 11 25]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [فصلت: 1، 2]
- ↑ [الجاثية: 1، 2، الأحقاف: 1، 2]
- ↑ [المائدة: 67]
- ↑ [الجن: 27، 28]
- ↑ [النحل: 98 103]
- ↑ [الفاتحة: 2-4]
- ↑ [أي: نسبوه إلى طائفة الجهمية أتباع جهم بن صفوان]
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [الشورى: 51]