مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل في منشأ النزاع والاشتباه
فصل في منشأ النزاع والاشتباه
عدلفإن قيل: ما منشأ هذا النزاع والاشتباه والتفرق والاختلاف؟ قيل: منشؤه هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع، وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع، استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف أهل الكلام على ذلك، بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام، قالوا: إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم تنوعت طرقهم في المقدمة الأولى: فتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلوا عن الحركة والسكون وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الاجتماع والافتراق وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة: الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون، وهي حادثة. وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام لا تخلو عن بعض أنواع الأعراض.
وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون: القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، ويقولون: إن الأعراض يمتنع بقاؤها؛ لأن العرض لا يبقى زمانين، وهذه الطريقة هي التي اختارها الآمدي، وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها، وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة، كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي وأمثالهم.
وأما الهشامية والكرامية وغيرهم من الطوائف، الذين يقولون بحدوث كل جسم، ويقولون: إن القديم تقوم به الحوادث، فهؤلاء إذا قالوا: بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، كما هو قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل، فإنهم يقولون: إن الجسم القديم يخلو عن الحوادث بخلاف الأجسام المحدثة، فإنها لا تخلو عن الحوادث.
والناس متنازعون في السكون، هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ فمن قال: إنه وجودي قال: إن الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون إذا انتفت عنه الحركة قام به السكون الوجودي، وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك، ومن قال: إنه عدمي لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت سكون وجودي، فمن قال: إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث، كما هو قول الكرامية وغيرهم يقولون: إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي، بل ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم أنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلا، ولا يقولون: إن عدم الفعل أمر وجودي كذلك الحركة عند هؤلاء، وكان كثير من أهل الكلام يقولون: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث بناءً على أن هذه مقدمة ظاهرة فإن ما لا يسبق الحادث فلابد أن يقارنه أو يكون بعده، وما قارن الحادث فهو حادث وما كان بعده فهو حادث.
وهذا الكلام مجمل، فإنه إذا أريد به ما لا يخلو عن الحادث المعين أو ما لا يسبق الحادث المعين، فهو حق بلا ريب، ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث جملة ما له أول أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك، وأما إذا أريد بالحوادث الأمور التي تكون شيئًا بعد شيء لا إلى أول. وقيل: إنه ما لا يخلو عنها وما لم يخل عنها فهو حادث لم يكن ذلك ظاهرًا ولا بينا، بل هذا المقام حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام؛ ولهذا صار المستدلون بقولهم: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها، فذكروا في ذلك طرقًا قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع.
وهذا الأصل تنازع الناس فيه على ثلاثة أقوال:
فقيل: ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقًا، وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم.
وقيل: بل يجوز دوام الحوادث مطلقا، وليس كل ما قارن حادثًا بعد حادث لا إلى أول يجب أن يكون حادثًا، بل يجوز أن يكون قديمًا، سواء كان واجبًا بنفسه أو بغيره، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول، والفاعل والمفعول ونحو ذلك، وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك، كأرسطو وأتباعه مثل ثامسطيوس، والاسكندر الإفريدوسي وبرقلس، والفارابي، وابن سينا وأمثالهم.
وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو، فلم يكونوا يقولون بقدم الأفلاك. ثم الفلاسفة من هؤلاء وهؤلاء متنازعون في قيام الصفات والحوادث بواجب الوجود على قولين معروفين لهم، وإثبات ذلك قول كثير من الأساطين القدماء، وبعض المتأخرين، كأبي البركات صاحب المعتبر وغيره، كما بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع.
وقيل: بل إن كان المستلزم للحوادث ممكنًا بنفسه، وأنه هو الذي يسمى مفعولا ومعلولا، ومربوبًا ونحو ذلك من العبارات وجب أن يكون حادثًا، وإن كان واجبًا بنفسه لم يجز أن يكون حادثًا، وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة، وهو قول جماهير أهل الحديث، وصاحب هذا القول يقول ما لا يخلو عن الحوادث وهو ممكن بنفسه فهو حادث، أو ما لا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث؛ لأنه إذا كان مفعولا مستلزما للحوادث امتنع أن يكون قديمًا؛ فإن القديم المعلول لا يكون قديمًا إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله، بحيث يكون معه أزليا لا يتأخر عنه، وهذا ممتنع.
فإن كونه مفعولا ينافي كونه قديمًا، بل قدمه ينافي كونه ممكنا، فلا يكون ممكنا إلا ما كان محدثًا عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، وهذا قول الفلاسفة القدماء قاطبة كأرسطو وأتباعه، وإنما أثبت ممكنًا قديمًا بعض متأخريهم كابن سينا وأتباعه، خالفوا في ذلك الفلاسفة القدماء قاطبة، كما خالفوا في ذلك جماهير العقلاء من سائر الطوائف؛ ولهذا تناقضوا في أحكام الممكن، وورد عليهم فيه من الأسئلة ما لا جواب لهم عنه، كما ذكرت ذلك في الرد على الأربعين وغير ذلك من المواضع.
وما يدعى من أن المعلول قد يقارن علته إنما يعقل فيما كان شرطًا لا فاعلا، كقولهم: حركت يدي فتحرك الخاتم، فإن حركة اليد شرط في تحريك الخاتم، والشرط والمشروط قد يتلازمان، وليست فاعلة مبدعة لها، وكذلك الشعاع مع النار والشمس ونحو ذلك، وأما ما يكون فاعلا فلا يتصور أن يقارنه مفعوله في الزمان، سواء كان فاعلا بالإرادة أو قدر أنه فاعل بغير إرادة، وسواء سمى فاعلا بالذات أو بالطبع، أو ما قدر، لا يتصور أن يكون المفعول مقارنًا لفاعله في الزمان، كما اعترف بذلك جماهير العقلاء من الأولين والآخرين.
وأرسطو وأتباعه لم يقولوا: إن الفلك مفعول للرب، ولا أنه معلول لعلة فاعلية أبدعت ذاته، بل زعموا أنه قديم واجب بنفسه، وأن له علة غائية يتشبه بها، نحو حركة المعشوق يجب أن يقتدى به، والفلك عندهم يتحرك للتشبه بتلك العلة؛ ولهذا قالوا: الفلسفة: هي التشبه بالإله بحسب الطاقة، وقولهم وإن كان فيه من الكفر والجهل بالله أعظم مما في قول ابن سينا وأتباعه، وفيهم من التناقض في الإلهيات ما ليس هذا موضع بسطه فلم يتناقضوا في إثبات ممكن قديم كتناقض متأخريهم.
ولهذا لما كانت هذه القضية مستقرة في فطر العقلاء، وكان مجرد العلم والخبر بأن السموات مخلوقة أو مصنوعة أو مفعولة موجبًا للعلم بأنها حادثة، لا يخطر بالفطر السليمة إمكان كونها مفعولة لفاعل فعلها، مع كونها قديمة لم تزل معه؛ ولهذا لم يدع هذا إلا هذه الشرذمة القليلة من المتفلسفة.
وأيضا، فإن ما استلزم الحوادث يمتنع أن يكون فاعله موجبًا بذاته يستلزم معلوله في الأزل؛ فإن الحوادث المتعاقبة شيئًا بعد شيء، لا يكون مجموعها في الأزل، ولا يكون شيء منها أزليًا، بل الأزلي هو دوامها واحدًا بعد واحد، والموجب بذاته المستلزم لمعلوله في الأزل لا يكون معلوله شيئًا بعد شيء، سواء كان صادرًا عنه بواسطة أو بغير واسطة؛ فإن ما كان واحدا بعد واحد يكون متعاقبًا حادثًا شيئا بعد شيء، فيمتنع أن يكون معلولا مقارنًا لعلته في الأزل بخلاف ما إذا قيل: إن المقارن لذلك هو الموجب بذاته الذي يفعل شيئًا بعد شيء، فإنه على هذا التقدير لا يكون في الأزل موجبًا بذاته، ولا علة سابقة تامة لشيء من العالم، فلا يكون معه في الأزل من المخلوقات شيء لكن فاعليته للمفعولات تكون شيئًا بعد شيء، وكل مفعول يوجد عنده وجود كمال فاعليته، إذ المؤثر التام المستلزم لجميع شروط التأثير لا يتخلف عنه أثره، إذ لو تخلف لم يكن مؤثرًا تامًا، فوجود الأثر يستلزم وجود المؤثر التام، ووجود المؤثر التام يستلزم وجود الأثر، فليس في الأزل مؤثر تام، فليس مع الله شيء من مخلوقاته قديم بقدمه، والأزل ليس هو حدًا محدودًا ولا وقتا معينا، بل كل ما يقدره العقل من الغاية التي ينتهى إليها فالأزل قبل ذلك، كما هو قبل ما قدره، فالأزل لا أول له، كما أن الأبد لا آخر له.
وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقول: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء»، فلو قيل: إنه مؤثر تام في الأزل لشيء من الأشياء لزم أن يكون مقارنا له دائمًا، وذلك ينافي كونه مفعولا له، وإنما يصح مثل هذا في الصفة اللازمة للموصوف، فإنه إذا قيل: الذات مقتض تام للصفة كان المعنى أن الذات مستلزمة للصفة، ليس المراد بذلك أن الذات مبدعة للصفة؛ فإنه إذا تصور معنى المبدع امتنع في المقارن بصريح المعقول، سواء سمى علة فاعلة أو خالقًا أو غير ذلك، وامتنع أن يقوم بالأثر شيء من الحوادث؛ لأن كل حادث يحدث لا يحدث إلا إذا وجد مؤثره التام عند حدوثه، وإن كانت ذات المؤثر موجودة قبل ذلك، لكن لابد من كمال وجود شروط التأثير عند وجود الأثر وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، وتخلف المعلول عن العلة التامة، ووجود الممكن بدون المرجح التام. وكل هذا ممتنع، فامتنع أن يكون مؤثرًا لشيء من الحوادث في الأزل، وامتنع أن يكون مؤثرًا في الأزل فيما يستلزم الحوادث؛ لأن وجود الملزوم بدون اللازم محال، فامتنع أن يكون المفعول المستلزم للحوادث قديمًا.
وإذا قيل: ذاته مقتضية للحادث الثاني بشرط انقضاء الأول. قيل: فليس هو مقتضيًا لشيء واحد دائمًا، فلا يكون معه قديم من مفعولاته، وقيل أيضا: هذا إنما يكون إذا كانت لذاته أحوال متعاقبة تختلف المفعولات لأجلها، فأما إذا قدر ألا يقوم بها شيء من الأحوال المتعاقبة، بل حالها عند وجود الحادث كحالها قبله، كان امتناع فعله للحوادث المتعاقبة البائنة أعظم من امتناع فعله لحادث معين، فإذا كان الثاني ممتنعًا عندهم فالأول أولى بالامتناع، ومتى كان للذات أحوال متعاقبة تقوم بها بطلت كل حجة لهم على قدم شيء من العالم، وامتنع أيضا قدم شيء من العالم إذا كان المفعول لابد له من فاعل، والفعل الحادث لا يكون مفعوله إلا حادثًا، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
هامش