مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل في المراد بلفظ الحروف
فصل في المراد بلفظ الحروف
عدلولفظ الحرف يراد به حروف المعاني التي هي قسيمة الأسماء والأفعال، مثل حروف الجر والجزم، وحرفي التنفيس، والحروف المشبهة للأفعال مثل: إنَّ وأخواتها، وهذه الحروف لها أقسام معروفة في كتب العربية، كما يقسمونها بحسب الإعراب إلى ما يختص بالأسماء وإلى ما يختص بالأفعال، ويقولون: ما اختص بأحد النوعين ولم يكن كالجزء منه كان عاملا كما تعمل حروف الجر، وإن وأخواتها في الأسماء، وكما تعمل النواصب والجوازم في الأفعال، بخلاف حرف التعريف وحرفي التنفيس؛ كالسين وسوف فإنهما لا يعملان لأنهما كالجزء من الكلمة، ويقولون: كان القياس في ما أنها لا تعمل؛ لأنها تدخل على الجمل الاسمية والفعلية، ولكن أهل الحجاز أعملوها لمشابهتها لـ"ليس"، وبلغتهم جاء القرآن في قوله: { مَا هَذَا بَشَرًا } 1 { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } 2.
ويقسمون الحروف باعتبار معانيها إلى حروف استفهام، وحروف نفي، وحروف تحضيض وغير ذلك، ويقسمونها باعتبار بنيتها كما تقسم الأفعال والأسماء إلى مفرد وثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي. فاسم الحرف هنا منقول عن اللغة إلي عرف النحاة بالتخصيص، وإلا فلفظ الحرف في اللغة يتناول الأسماء والحروف والأفعال، وحروف الهجاء تسمى حروفًا وهي أسماء كالحروف المذكورة في أوائل السور؛ لأن مسماها هو الحرف الذي هو حرف الكلمة.
وتقسم تقسيمًا آخر إلى حروف حَلْقِيَّة وشَفَهِيَّة، والمذكورة في أوائل السور في القرآن هي نصف الحروف، واشتملت من كل صنف على أشرف نصفيه: على نصف الحلقية، والشفهية، والمطبقة، والمصمتة، وغير ذلك من أجناس الحروف.
فإن لفظ الحرف أصله في اللغة هو: الحد والطرف، كما يقال: حروف الرغيف وحرف الجبل. قال الجوهري: حرف كل شيء طرفه وشفيره وحده، ومنه حرف الجبل وهو أعلاه المحدد، ومنه قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } إلى قوله: { وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } 3، فإن طرف الشيء إذا كان الإنسان عليه لم يكن مستقرًا؛ فلهذا كان من عَبَدَ اللَّهَ على السَّرَّاء دون الضراء عابدًا له على حرف؛ تارة بظهره وتارة ينقلب على وجهه، كالواقف على حرف الجبل، فسميت حروف الكلام حروفًا لأنها طرف الكلام وحده ومنتهاه؛ إذ كان مبدأ الكلام من نفس المتكلم، ومنتهاه حده وحرفه القائم بشفتيه ولسانه؛ ولهذا قال تعالى: { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } 4 فلفظ الحرف يراد به هذا وهذا وهذا.
ثم إذا كتب الكلام في المصحف سَمُّوا ذلك حروفًا، فيراد بالحرف الشكل المخصوص، ولكل أمة شكل مخصوص هي خطوطهم التي يكتبون بها كلامهم، ويراد به المادة، ويراد به مجموعهما، وهذه الحروف المكتوبة تطابق الحروف المنطوقة وتبينها وتدل عليها فسميت بأسمائها؛ إذ كان الإنسان يكتب اللفظ بقلمه؛ ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلى قوله: { مَا لَمْ يَعْلَمْ } 5، فبين سبحانه في أول ما أنزله أنه سبحانه هو الخالق الهادي الذي خلق فَسَوَّى، والذي قَدَّرَ فهدى، كما قال موسى: { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } 6، فالخلق يتناول كل ما سواه من المخلوقات ثم خص الإنسان فقال: { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ، ثم ذكر أنه علم؛ فإن الهدى والتعليم هو كمال المخلوقات.
والعلم له ثلاث مراتب: علم بالجنَان، وعبارة باللسان، وخط بالبنان؛ ولهذا قيل: إن لكل شيء أربع وجودات: وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي. وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، واللسان، والبنان، لكن الوجود العيني هو وجود الموجودات في أنفسها والله خالق كل شيء، وأما الذهني الجناني فهو العلم بها الذي في القلوب، والعبارة عن ذلك هو اللساني، وكتابة ذلك هو الرسمي البناني، وتعليم الخط يستلزم تعليم العبارة واللفظ، وذلك يستلزم تعليم العلم فقال: { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } 7 لأن التعليم بالقلم يستلزم المراتب الثلاث، وأطلق التعليم، ثم خص، فقال: { عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } .
وقد تنازع الناس في وجود كل شيء، هل هو عين ماهيته أم لا؟ وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبين أن الصواب من ذلك أنه قد يراد بالوجود ما هو ثابت في الأعيان، وبالماهية ما يتصور في الأذهان، فعلى هذا فوجود الموجودات الثابت في الأعيان ليس هو ماهيتها المتصورة في الأذهان، لكن الله خلق الموجود الثابت في الأعيان وعلم الماهيات المتصورة في الأذهان، كما أنزل بيان ذلك في أول سورة أنزلها من القرآن، وقد يراد بالوجود والماهية كلاهما؛ ما هو متحقق في الأعيان، وما هو متحقق في الأذهان، فإذا أريد بهذا وهذا ما هو متحقق في الأعيان أو ما هو متصور في الأذهان، فليس هما في الأعيان اثنان، بل هذا هو هذا. وكذلك الذهن إذا تصور شيئًا فتلك الصورة هي المثال الذي تصورها، وذلك هو وجودها الذهني الذي تتصوره الأذهان، فهذا فصل الخطاب في هذا الباب.
ومن تدبر هذه المسائل وأمثالها تبين له أن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } 8
وقد بسط الكلام على أصول هذه المسائل وتفاصيلها في مواضع أخرى؛ فإن الناس كثر نزاعهم فيها حتى قيل: مسألة الكلام حيرت عقول الأنام. ولكن سؤال هذين لا يحتمل البسط الكثير؛ فإنهما سألا بحسب ما سمعاه واعتقداه وتصوراه، فإذا عرف السائل أصل مسألته ولوازمها وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، تبين له أن من الخلق من تكلم في مثل هذه الأسماء بالنفي والإثبات من غير تفصيل، فلابد له أن يقابله آخر بمثل إطلاقه.
ومن الأصول الكلية أن يعلم أن الألفاظ نوعان: نوع جاء به الكتاب والسنة، فيجب على كل مؤمن أن يقر بموجب ذلك، فيثبت ما أثبته الله ورسوله وينفي ما نفاه الله ورسوله، فاللفظ الذي أثبته الله، أو نفاه حق؛ فإن الله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والألفاظ الشرعية لها حرمة. ومن تمام العلم أن يبحث عن مراد رسوله بها ليثبت ما أثبته وينفي ما نفاه من المعاني؛ فإنه يجب علينا أن نصدقه في كل ما أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر، ثم إذا عرفنا تفصيل ذلك كان ذلك من زيادة العلم والإيمان. وقد قال تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } 9.
وأما الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها، فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده، فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره.
ثم التعبير عن تلك المعاني، إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها؛ بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرًا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة، ومعان مشتبهة، حتي تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره، فضلا عن أن يعرف دليله، ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئًا بل يكون في قوله نوع من الصواب، وقد يكون هذا مصيبًا من وجه وهذا مصيبًا من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث.
وكثير من الكتب المصنفة في أصول علوم الدين وغيرها، تجد الرجل المصنف فيها في المسألة العظيمة كمسألة القرآن والرؤية، والصفات والمعاد، وحدوث العالم وغير ذلك يذكر أقوالا متعددة، والقول الذي جاء به الرسول وكان عليه سلف الأمة ليس في تلك الكتب، بل ولا عرفه مصنفوها ولا شعروا به، وهذا من أسباب توكيد التفريق والاختلاف بين الأمة، وهو مما نهيت الأمة عنه، كما في قوله تعالى: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } 10 قال ابن عباس: تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدعة والفُرْقَة.
وقد قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } 11، وقال تعالى: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } 12. وقد خرج النبي ﷺ على أصحابه وهم يتنازعون في القَدَر، وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ وهذا يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: «أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ أن ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه». ومما أمر الناس به: أن يعملوا بمحكم القرآن، ويؤمنوا بمتشابهه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد كتبت في أصول هذه المسائل قواعد متعددة وأصول كثيرة، ولكن هذا الجواب كتب وصاحبه مستوفز في قعدة واحدة، والله تعالى يهدينا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.
هامش
- ↑ [يوسف: 31]
- ↑ [المجادلة: 2]
- ↑ [الحج: 11]
- ↑ [البلد: 8، 9]
- ↑ [العلق: 1 5]
- ↑ [طه: 50]
- ↑ [العلق: 4]
- ↑ [النور: 40]
- ↑ [المجادلة: 11]
- ↑ [آل عمران: 105، 106]
- ↑ [الأنعام: 159]
- ↑ [البقرة: 176]