مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/سئل عن المصحف هل هو نفس القرآن
سئل عن المصحف هل هو نفس القرآن
عدلوسئل:
هل نفس المصحف هو نفس القرآن، أم كتابته؟ وما في صدور القراء هل هو نفس القرآن أو حفظه؟
فأجاب:
الواجب أن يطلق ما أطلقه الكتاب والسنة، كقوله تعالى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } 1، وقوله: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } 2، وقوله: { وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ } 3، وقوله: { يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } 4، وقوله تعالى: { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } 5.
وكذلك قول النبي ﷺ: «لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو»، وقوله: «استذكروا القرآن، فَلَهُوَ أَشد تَفَصِّيًا من صدور الرجال من النَّعَم في عُقُلِها» وكلاهما في الصحيحين، وقوله: «الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب» قال الترمذي: حديث صحيح.
فمن قال: القرآن في المصاحف والصدور، فقد صدق. ومن قال: فيها حفظه وكتابته، فقد صدق. ومن قال: القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور، فقد صدق. ومن قال: إن المداد أو الورق، أو صفة العبد أو فعله، أو حفظه وصوته قديم، أو غير مخلوق، فهو مخطئ ضال. ومن قال: إنما في المصحف ليس هو كلام الله، أو ما في صدور القراء ليس هو كلام الله، أو قال: إن القرآن العزيز لم يتكلم به الله، ولكن هو مخلوق، أو صنفه جبريل أو محمد، وقال: إن القرآن في المصاحف، كما أن محمدا في التوراة والإنجيل، فهو أيضا مخطئ ضال.
فإن القرآن كلام، والكلام نفسه يكتب في المصحف، بخلاف الأعيان؛ فإنه إنما يكتب اسمها وذكرها، فالرسول مكتوب في التوراة والإنجيل ذكره ونعته، كما أن القرآن في زبر الأولين، وكما أن أعمالنا في الزبر، قال تعالى: { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } 6، وقال تعالى: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } 7، ومحمد مكتوب في التوراة والإنجيل، كما أن القرآن في تلك الكتب، وكما أن أعمالنا في الكتب، وأما القرآن فهو نفسه مكتوب في المصاحف، ليس المكتوب ذكره والخبر عنه، كما يكتب اسم الله في الورق، ومن لم يفرق بين كتابة الأسماء والكلام، وكتابة المسميات والأعيان كما جرى لطائفة من الناس فقد غلط غلطًا سَوَّى فيه بين الحقائق المختلفة، كما قد يجعل مثل هؤلاء الحقائق المختلفة شيئًا واحدًا، كما قد جعلوا جميع أنواع الكلام معنى واحدًا.
وكلام المتكلم يسمع تارة منه، وتارة من المبلغ، فالنبي ﷺ لما قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» فهذا الكلام قاله رسول الله ﷺ بلفظه ومعناه؛ فلفظه لفظ الرسول ﷺ، ومعناه معنى الرسول، فإذا بلغه المبلغ عنه بلغ كلام الرسول بلفظه ومعناه؛ ولكن صوت الصحابي المبلغ ليس هو صوت رسول الله ﷺ.
فالقرآن كلام الله، لفظه ومعناه، سمعه منه جبريل، وبلغه عن الله إلى محمد، ومحمد سمعه من جبريل وبلغه إلى أمته، فهو كلام الله حيث سمع وكتب وقرئ، كما قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } 8.
وكلام الله تكلم الله به بنفسه، تكلم به باختياره وقدرته، ليس مخلوقًا بائنًا عنه، بل هو قائم بذاته، مع أنه تكلم به بقدرته ومشيئته، ليس قائمًا بدون قدرته ومشيئته.
والسلف قالوا: لم يزل الله تعالى متكلمًا إذا شاء. فإذا قيل: كلام الله قديم، بمعنى أنه لم يصر متكلمًا بعد أن لم يكن متكلمًا، ولا كلامه مخلوق، ولا معنى واحد قديم قائم بذاته، بل لم يزل متكلمًا إذا شاء فهذا كلام صحيح.
ولم يقل أحد من السلف: إن نفس الكلام المعين قديمًا، وكانوا يقولون: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ولم يقل أحد منهم: إن القرآن قديم، ولا قالوا: إن كلامه معنى واحد قائم بذاته، ولا قالوا: إن حروف القرآن أو حروفه وأصواته قديمة أزلية قائمة بذات الله، وإن كان جنس الحروف لم يزل الله متكلمًا بها إذا شاء، بل قالوا: إن حروف القرآن غير مخلوقة، وأنكروا على من قال: إن الله خلق الحروف.
وكان أحمد وغيره من السلف ينكرون على من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق. يقولون: من قال: هو مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق، فهو مبتدع؛ فإن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ لفظًا، ويراد باللفظ الملفوظ به، وهو نفس الحروف المنطوقة، وأما أصوات العباد ومداد المصاحف فلم يتوقف أحد من السلف في أن ذلك مخلوق، وقد نص أحمد وغيره على أن صوت القارئ صوت العبد، وكذلك غير أحمد من الأئمة. وقال أحمد: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو جهمي؛ فالإنسان وجميع صفاته مخلوق، حركاته وأفعاله وأصواته مخلوقة، وجميع صفاته مخلوقة، فمن قال عن شيء من صفات العبد: إنها غير مخلوقة أو قديمة، فهو مخطئ ضال، ومن قال عن شيء من كلام الله أو صفاته: إنه مخلوق، فهو مخطئ ضال.
وأما أصوات العباد بالقرآن، والمداد الذي في المصحف، فلم يكن أحد من السلف يتوقف في ذلك، بل كلهم متفقون أن أصوات العباد مخلوقة، والمداد كله مخلوق، وكلام الله الذي يكتب بالمداد غير مخلوق، قال الله تعالى: { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } 9.
وهذه المسائل قد بسط الكلام عليها، وذكر أقوال الناس واضطرابهم فيها في مواضع أخر.
هامش
- ↑ [البروج: 21، 22]
- ↑ [الواقعة: 77 79]
- ↑ [الطور: 13]
- ↑ [البينة: 2، 3]
- ↑ [عبس: 11 16]
- ↑ [الشعراء: 196]
- ↑ [القمر: 52]
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [الكهف: 109]