مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل التنازع في الحروف الموجودة في كلام الآدميين
فصل التنازع في الحروف الموجودة في كلام الآدميين
ثم تنازع بعض المتأخرين في الحروف الموجودة في كلام الآدميين. وسبب نزاعهم أمران:
أحدهما: أنهم لم يفرقوا بين الكلام الذي يتكلم الله به فيسمع منه، و بين ما إذا بلغه عنه مبلغ فسمع من ذلك المبلغ؛ فإن القرآن كلام الله، تكلم به بلفظه ومعناه بصوت نفسه، فإذا قرأه القراء قرؤوه بأصوات أنفسهم، فإذا قال القارئ: { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } 1 كان هذا الكلام المسموع منه كلام الله لا كلام نفسه، وكان هو قرأه بصوت نفسه لا بصوت الله، فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ، كما قال النبي ﷺ: «زينوا القرآن بأصواتكم»، وكان يقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي»، وكلا الحديثين ثابت، فبين أن الكلام الذي يبلغه كلام ربه، وبين أن القارئ يقرؤه بصوت نفسه، وقال ﷺ: «ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن». قال أحمد والشافعي وغيرهما: هو تحسينه بالصوت. قال أحمد بن حنبل: يحسنه بصوته، فبين أحمد أن القارئ يحسن القرآن بصوت نفسه.
والسبب الثاني: أن السلف قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. وقالوا: لم يزل متكلما إذا شاء. فبينوا أن كلام الله قديم، أي جنسه قديم لم يزل. ولم يقل أحد منهم: إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم: القرآن قديم، بل قالوا: إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه، وكان منزلا منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزليًا قديمًا بقدم الله، وإن كان الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، فجنس كلامه قديم. فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض.
فمن قال: إن حروف المعجم كلها مخلوقة، وأن كلام الله تعالى مخلوق، فقد قال قولا مخالفًا للمعقول الصريح، والمنقول الصحيح. ومن قال: نفس أصوات العباد أو مدادهم أو شيئًا من ذلك قديم، فقد خالف أيضا أقوال السلف، وكان فساد قوله ظاهرًا لكل أحد، وكان مبتدعًا قولا لم يقله أحد من أئمة المسلمين، ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين، بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك. ومن قال: إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين، فقد ابتدع قولا باطلا في الشرع والعقل.
ومن قال: إن جنس الحروف التي تكلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة، وأن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقًا، والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له، وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة فقد أصاب.
وإذا قال: إن الله هَدَى عباده وعلَّمهم البيان، فأنطقهم بها باللغات المختلفة، وأنعم عليهم بأن جعلهم ينطقون بالحروف التي هي مباني كتبه وكلامه وأسمائه فهذا قد أصاب، فالإنسان وجميع ما يقوم به من الأصوات والحركات وغيرها مخلوق كائن بعد أن لم يكن، والرب تعالى بما يقوم به من صفاته وكلماته وأفعاله غير مخلوق، والعباد إذا قرؤوا كلامه فإن كلامه الذي يقرءونه هو كلامه لا كلام غيره، وكلامه الذي تكلم به لا يكون مخلوقًا، وكان ما يقرءون به كلامه من حركاتهم وأصواتهم مخلوقًا، وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوبًا في المصاحف وكلامه غير مخلوق، والمداد الذي يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق.
وقد فرق سبحانه وتعالى بين كلامه وبين مداد كلماته بقوله تعالى: { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } 2 وكلمات الله غير مخلوقة، والمداد الذي يكتب به كلمات الله مخلوق، والقرآن المكتوب في المصاحف غير مخلوق، وكذلك المكتوب في اللوح المحفوظ وغيره، قال تعالى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } 3، وقال: { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } 4، وقال تعالى: { يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } 5 وقال: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ ِلَّاالْمُطَهَّرُونَ } 6.
هامش
- ↑ [الفاتحة 2، 3]
- ↑ [الكهف: 109]
- ↑ [البروج: 21، 22]
- ↑ [عبس: 11-14]
- ↑ [البينة: 2، 3]
- ↑ [الواقعة: 77-79]