مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/فصل في لفظ الطلاق


فصل في لفظ الطلاق

عدل

من قال: من أن السراح والفراق صريح في الطلاق؛ لأن القرآن ورد بذلك، وجعل الصريح ما استعمله القرآن فيه، كما يقوله الشافعى والقاضى وغيرهما من الأصحاب، فقوله ضعيف لوجهين:

أحدهما: أن هذا الأصل لا دليل عليه، بل هو فاسد؛ فإن الواقع أن الناس ينطقون بلغاتهم التي توافق لغة العرب أو تخالفها من عربية أخرى عربا مقررة أو مغيرة لفظا أو معنى، أو من عربية مُوَلَّدة، أو عربية مُعَرَّبة، تلقيت عن العجم، أو عن عجمية، فإن الطلاق ونحوه يثبت بجميع هذه الأنواع من اللغات، إذ المدار على المعنى ولم يحرم ذلك عليهم، أو حرم عليهم فلم يلتزموه، فإن ذلك لا يوجب وقوع ما لم يوقعوه. وأيضا، فاستعمال القرآن لفظا في معنى لا يقتضى أن ذلك اللفظ لا يحتمل غير ذلك المعنى.

الوجه الثاني: وهو القاصم أن هذه الألفاظ أكثر ما جاءت في القرآن في غير الطلاق، مثل قوله: { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ } 1، فهذا بعد التطليق البائن الذي لا عدة فيه أمر بتسريحهن مع التمتيع، ولم يرد به إيقاع طلاق ثان، فإنه لا يقع ولا يؤمر به وفاقًا، وإنما أراد التخلية بالفعل، وهو رفع الحبس عنها، حيث كان النكاح فيه الجمع ملكا وحكما، والجمع حسا وفعلا بالحبس، وكلاهما موجبه، وهما متلازمان؛ فإذا زال الملك أُمِر بإزالة اليد: كما يقال: في الأموال الملك والحيازة، فالقبض في الموضعين تابع للعقد فإذا رفع العقد إما بإزالة اليد التي هي القبض.

وقوله: { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } 2، لا يستدل به على أن التسريح هو التطليق، فإنه قد يريد به التخلية الفعلية حيث قرنه بالمتاع، لكن التخلية الفعلية مستلزمة للتطليق، أو يريد به الأمرين، ولم يرد به الطلاق وحده؛ لأن ذلك لا يفيدهن بل يضرهن، وكذلك قوله: { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } 3، وقوله: { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } 4، كذلك. فإن الرجعية إذا قاربت انقضاء العدة لا يؤمر فيها بتطليق ثان إذا لم يرتجعها، وإنما يؤمر بتخلية سبيلها وهو التسريح والفراق بالأبدان، بحيث لا يحبسهن ولا يستولى عليهن، كرفع اليد عن الأموال.

قوله: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } 5، نص في أنه لا حرج فيما أخطأ به من دعاء الرجل إلى غير أبيه، أو إلى غير مولاه.

ثم قد يستدل به على رفع الجناح في جميع ما أخطأ به الإنسان من قول أو عمل: إما بالعموم لفظا، ويقال: ورود اللفظ العام على سبب مقارن له في الخطاب لا يوجب قصره عليه، وإما بالعموم المعنوى بالجامع المشترك من أن الإخطاء لا تأثير له في القلب، فيكون عمل جارحة بلا عمد قلب، والقلب هو الأصل كما قال: «إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد. وإذا كان الأصل لم يعمل شيئا لم يضر عمل الفروع دونه؛ لأنه صالح لا فساد فيه فيكون الجسد كله صالحا فلا يكون فاسدا، فلا يكون في ذلك إثم إذ الإثم لا يكون إلا عن فساد في الجسد، وتكون هذه الآية ردفا لقوله: { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } 6 قال: قد فعلت.

ويؤيده قوله في الإيمان: { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } 7، { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } 8، فإنه إذا كان اليمين بالله وفيها ما فيها لا يؤاخذ فيها إلا بما كسب القلب، فغيرها من الأقوال كذلك وأولى، وإذا كان ما حلف عليه من اليمين يظنه كما حلف عليه، فتبين بخلافه هو من الخطأ الذي هو اللغو؛ لأن قلبه لم يكسب مخالفة، كما لو أنه أخبر بذلك من غير يمين لم يكن عليه إثم الكاذب، كما لو دعا الرجل لغير أبيه ومولاه خطأ، وإذا لم يكن بلا يمين عليه إثم الكاذب لم يكن مع اليمين عليه حكم الحالف المخالف؛ إذ اليمين على الماضى حين يؤكد بالقسم، فكذلك ما حلف عليه من المستقبل، وفعل المحلوف عليه ناسيًا ليمينه، أو مخطئًا جاهلا بأنه المحلوف عليه لم يكسب قلبه مخالفة ولا حنثا، كما أنه لو وعد بذلك من غير يمين لم يكن مخالفًا، ولو أمر به فتركه كذلك لم يكن عاصيا.

وهذا دليل يتناول الطلاق وغيره، إما من جهة العموم المعنوى أو المعنوى واللفظى، وأى فرق بين أن يقارن اللغو عقد اليمين، أو يقارن الحنث فيها، وقوله: { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } ، أي: هذا سبب المؤاخذة؛ لا أنه موجب لها بالاتفاق فيوجد الخطأ في سببها وشرطها، ومن قال: لا لغو في الطلاق فلا حجة معه؛ بل عليه لأنه لو سبق لسانه بذكر الطلاق من غير عمد القلب لم يقع به وفاقا، وأما إذا قصد اللفظ به هازلا فقد عمد قلبه ذكره، كما لو عمد ذكر اليمين به.


هامش

  1. [الأحزاب: 49]
  2. [الأحزاب: 28]
  3. [البقرة: 231]
  4. [الطلاق: 2]
  5. [الأحزاب: 5]
  6. [البقرة: 286]
  7. [البقرة: 225]
  8. [المائدة: 89]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الخامس عشر
سورة الأعراف | فصل في حجة إبليس | تفسير قوله تعالى إنه يراكم هو وقبيله | تفسير قوله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا | تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية | تفسير قوله تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة الأعراف | تفسير قوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون | فصل في تفسير قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة | سورة الأنفال | فصل في تفسير قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم | فصل في تفسير قوله تعالى فلم تقتلوهم | فصل في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم | سورة التوبة | تفسير في قوله لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان | تفسير قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله | تفسير قوله تعالى قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون | تفسير قوله تعالى لقد تاب الله على النبي | سورة يونس | فصل تفسير قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء | تفسير آيات مشكلة في سورة يونس | سورة هود | فصل تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه | فصل في تفسير قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه | فصل في أن المؤمن على أمر من الله | فصل في تفسير قوله تعالى كتاب أحكمت آياته | سئل عن تفسير قوله تعالى وأما الذين سعدوا ففي الجنة | سورة يوسف | فصل في تفسير قوله تعالى هيت لك قال معاذ الله | فصل في تفسير قوله تعالى رب السجن أحب إلي | فصل في مقارنة حال يوسف عليه السلام بحال محمد | قال شيخ الإسلام لم يفعل يوسف ذنبا الذي نسي ذكر ربه هو الفتى | سئل عن قوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله | فصل في تفسير قوله تعالى حتى إذا استيأس الرسل | سورة الرعد | فصل في تفسير قوله تعالى وجعلو لله شركاء قل سموهم | سورة الحجر | فصل في تفسير ثلاث آيات متشابهة اللفظ والمعنى | سورة النحل | فصل في منافع اللباس | تفسير قوله تعالى قل نزله روح القدس من ربك بالحق | سورة الإسراء | تفسير قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه | سورة الكهف | فصل في تفسير قوله تعالى وكان الإنسان أكثر شيء جدلا | سورة مريم | فصل في بيان مضمون سورة مريم | سئل عن تفسير قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف | سورة طه | فصل في بيان مضمون سورة طه | فصل في طريقتي العلم والعمل | فصل في تفسير قوله تعالى إن هذان لساحران | فصل في نكتة الإعراب في قوله تعالى إن هذان لساحران | سورة الأنبياء | فصل في بيان منزلة سورة الأنبياء | سورة الحج | فصل في بيان المكي والمدني من السورة | تفسير قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم | تفسير قوله تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف | سورة المؤمنون | تفسير قوله تعالى أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما | سورة النور | فصل في معاني مستنبطة من سورة النور | فصل في ضرورة امتحان من يراد الزواج منه وغيره | فصل في تعظيم الفاحشة بالباطل | فصل في تفسير قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء | تفسير قوله تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم | فصل في تفسير قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون | سئل عن تفسير قوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم | سورة الفرقان | فصل في بيان أكبر الكبائر | فصل في تقسيم الأمم | فصل في تقسيم الفضائل | فصل في تفضيل الإسلام على سائر الأديان الأخرى | فصل في بيا ن أجناس الناس | فصل في أن فعل المأمور به صادر عن القوة الإرادية | سورة النمل | تفسير بعض الآيات المشكلة في سورة النمل | سورة الأحزاب | تفسير قوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم | فصل في لفظ الطلاق