البداية والنهاية/الجزء الثاني/بيان الإذن في الرواية عن أخبار بني إسرائيل
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ قال: قال: « حدثوا عني ولا تكذبوا عليَّ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ».
وقال أيضا: حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ قال: قال: « لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ».
وقال: « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، حدثوا عني ولا تكذبوا علي، قال: ومن كذب علي - قال همام احسبه قال - متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ». وهكذا رواه مسلم، والنسائي من حديث همام، ورواه أبو عوانة الإسفراييني، عن أبي داود السجستاني، عن هدبة، عن همام عن زيد بن أسلم به. ثم قال: قال أبو داود: أخطأ فيه همام، وهو من قول أبي سعيد كذا قال. وقد رواه الترمذي عن سفيان، عن وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم ببعضه مرفوعا، فالله أعلم.
قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، حدثني أبو كبشة السلولي أن عبد الله بن عمرو بن العاص حدثه، أنه سمع رسول الله ﷺ يعني يقول: « بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ». ورواه أحمد أيضا عن عبد الله بن نمير، وعبد الرزاق، كلاهما عن الأوزاعي به.
وهكذا رواه البخاري عن أبي عاصم النبيل عن الأوزاعي به.
وكذا رواه الترمذي عن بندار، عن أبي عاصم، ثم رواه عن محمد بن يحيى الذهلي، عن محمد بن يوسف العرياني، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، وقال حسن صحيح.
وقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى - أبو موسى - حدثنا هشام بن معاوية، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبد الله بن عمرو قال: كان نبي الله ﷺ يحدثنا عامة ليلة عن بني إسرائيل حتى نصبح، ما نقوم فيها إلا لمعظم صلاة. ورواه أبو داود عن محمد بن مثنى.
ثم قال البزار: حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا عفان، حدثنا أبو هلال عن قتادة، عن أبي حسان، عن عمران بن حسين قال: كان رسول الله ﷺ: « يحدثنا عامة ليلة عن بني إسرائيل لا يقوم إلا لمعظم صلات ».
قال البزار وهشام: احفظ من أبي هلال يعني: أن الصواب عن عبد الله بن عمرو، لا عن عمران بن حصين، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى هو - القطان - عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ». إسناد صحيح ولم يخرجوه.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا وكيع، حدثنا ربيع بن سعد الجعفي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: « حدثوا عن بني إسرائيل فإنه قد كان فيهم الأعاجيب ».
ثم أنشأ يحدث ﷺ قال: « خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى أتوا مقبرة من مقابرهم، فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله عز وجل، فيخرج لنا رجلا قد مات نسائله، يحدثنا عن الموت ففعلوا، فبينما هم كذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر من تلك القبور، بين عينيه أثر السجود.
فقال: يا هؤلاء ما أردتم إلي فقد مت منذ مائة عام فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت ».
وهذا حديث غريب، إذا تقرر جواز الرواية عنهم، فهو محمول على ما يمكن أن يكون صحيحا، فأما ما يعلم أو يظن بطلانه لمخالفته الحق الذي بأيدينا عن المعصوم، فذاك متروك مردود لا يعرج عليه، ثم مع هذا كله لا يلزم من جواز روايته أن تعتقد صحته، لما رواه البخاري قائلا: حدثنا محمد بن يسار، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله ﷺ: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ». تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وروى الإمام أحمد من طريق الزهري عن أبي نملة الأنصاري، عن أبيه أنه كان جالسا عند رسول الله ﷺ، فقال: إذا جاء رجل من اليهود فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟
فقال رسول الله ﷺ: « الله أعلم ».
فقال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم.
فقال رسول الله ﷺ: « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم ». تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب أتى النبي ﷺ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي ﷺ قال فغضب، وقال:
« أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي به لقد جئتكم به بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي به لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ». تفرد به أحمد، وإسناده على شرط مسلم.
فهذه الأحاديث دليل على أنهم قد بدلوا ما بأيديهم من الكتب السماوية وحرفوها، وأولوها، ووضعوها على غير مواضعها، ولا سيما ما يبدونه من المعربات التي لم يحيطوا بها علما وهي بلغتهم، فكيف يعبرون عنها بغيرها، ولأجل هذا وقع في تعريبهم خطأ كبير، ووهم كثير، مع ما لهم من المقاصد الفاسدة، والآراء الباردة.
وهذا يتحققه من نظر في كتبهم التي بأيديهم، وتأمل ما فيها من سوء التعبير، وقبيح التبديل والتغيير، وبالله المستعان، وهو نعم المولى، ونعم النصير.
وهذه التوراة التي يبدونها، ويخفون منها كثيرا فيما ذكروه، فيها تحريف، وتبديل، وتغيير، وسوء تعبير، يعلم من نظر فيها، وتأمل ما قالوه، وما أبدوه، وما أخفوه، وكيف يسوغون عبارة فاسدة البناء والتركيب، باطلة من حيث معناها وألفاظها.
وهذا كعب الأحبار من أجود من ينقل عنهم، وقد أسلم في زمن عمر، وكان ينقل شيئا عن أهل الكتاب، فكان عمر رضي الله عنه يستحسن بعض ما ينقله لما يصدقه من الحق، وتأليفا لقلبه، فتوسع كثير من الناس في أخذ ما عنده، وبالغ أيضا هو في نقل تلك الأشياء التي كثير منها ما يساوي مداده، ومنها ما هو باطل لا محالة، ومنها ما هو صحيح لما يشهد له الحق الذي بأيدينا.
وقد قال البخاري، وقال أبو اليمان: حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، يعني من غير قصد منه.
وروى البخاري من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسوله أحدث الكتب بالله، تقرأونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله، وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق، أو تصدقوا بباطل، والله أعلم.