البداية والنهاية/الجزء الثاني/ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم
ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد
هم من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه، ثم الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ:
« يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخبر في يديك، قم فابعث بعث النار من ذريتك.
فيقول: يا رب وما بعث النار؟
فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
قال فاشتد ذلك عليهم.
قالوا: يا رسول الله: أينا ذلك الواحد؟
فقال رسول الله ﷺ: أبشروا فإن منكم واحدا، ومن يأجوج ومأجوج ألفا }
وفي رواية:
« فقال ابشروا فإن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه ». أي: غلبتاه كثرة، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم أضعاف الناس مرارا عديدة، ثم هم من ذرية نوح، لأن الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله: { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارا } [نوح: 26] .
وقال تعالى: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } [العنكبوت: 15] .
وقال: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } [الصافات: 77] .
وتقدم في الحديث المروي في المسند والسنن: أن نوحا ولد له ثلاثة، وهم: سام، وحام، ويافث، فسام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك ؛ فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك، وهم مغل المغول، وهم أشد بأسا وأكثر فسادا من هؤلاء، ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم.
وقد قيل: إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد وألجأ يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه، فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم، فتركوا من ورائه، فلهذا قيل لهم: الترك.
ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطت بتراب، فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم وغيره وضعفوه، وهو جدير بذلك، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن.
وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا ؛ فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو غاية في القصر، ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل، ورجم بالغيب بغير برهان، والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم.
وقد قال النبي ﷺ:
« إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا » ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
وهذا فيصل في هذا الباب وغيره. وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفا.
فإن صح في خبر قلنا به، وإلا فلا نرده، إذ يحتمله العقل والنقل أيضا قد يرشد إليه، والله أعلم.
بل قد ورد حديث مصرح بذلك أن صح، قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة، عن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال:
« إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معائشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا، وإن من وارئهم ثلاث أمم: تاويل، وتاريس، ومنسك ».
وهو حديث غريب جدا، وإسناده ضعيف، وفيه نكارة شديدة.
وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في تاريخه أن رسول الله ﷺ ذهب إليهم ليلة الإسراء، فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته، وأنه دعا تلك الأمم التي هناك (تاريس، وتاويل، ومنسك) فأجابوه، فهو حديث موضوع، اختلقه أبو نعيم عمرو بن الصبح، أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث، والله أعلم.
فإن قيل: فكيف دلَّ الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة، وأنهم في النار ولم يبعث إليهم رسل، وقد قال الله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والأعذار إليهم، كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء: 15] .
فإن كانوا في زمن الذي قبل بعث محمد ﷺ قد أتتهم رسل منهم، فقد قامت على أولئك الحجة، وإن لم يكن قد بعث الله إليهم رسلا فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة.
وقد دل الحديث المروي من طرق عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله ﷺ:
« إن من كان كذلك، يمتحن في عرصات القيامة، فمن أجاب الداعي دخل الجنة، ومن أبى دخل النار ».
وقد أوردنا الحديث بطرق وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } .
وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة، وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم، ولا ينافي الأخبار عنهم بأنهم من أهل النار، لأن الله يطلع رسوله ﷺ على ما يشاء من أمر الغيب.
وقد اطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء، وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له، فهم لا يجيبون الداعي إلى يوم القيامة، فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيبا للحق في الدنيا لو بلغهم فيها، لأن في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذبا في الدنيا، فإيقاع الإيمان هناك لما يشاهد من الأهوال أولى وأحرى منه في الدنيا، والله أعلم.
كما قال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12] .
وقال تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم: 38] .
وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله ﷺ » « دعاهم ليلة الإسراء فلم يجيبوا ».
فإنه حديث منكر بل موضوع، وضعه عمرو بن الصبح.
وأما السد: فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد والنحاس، وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال، فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم.
قال البخاري: وقال رجل للنبي ﷺ رأيت السد.
قال: « وكيف رأيته؟ »
قال: مثل البرد المحبر.
فقال: « رأيته هكذا ».
ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم، وأره مسندا من وجه متصل أرتضيه، غير أن ابن جرير رواه في تفسيره مرسلا فقال: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج.
قال: « انعته لي ».
قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء.
قال: « قد رأيته ».
وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلا من جهته، وكتب لهم كتبا إلى الملوك يوصلونهم من بلاد إلى بلاد حتى ينهوا إلى السد، فيكشفوا عن خبره، وينظروا كيف بناه ذو القرنين، على أي صفة؟ فلما رجعوا أخبروا عن صفته، وأن فيه بابا عظيما، وعليه أقفال، وأنه بناء محكم شاهق منيف جدا، وأن بقية اللبن الحديد والآلات في برج هناك.
وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد، ومحلته في شرقي الأرض في جهة الشمال في زاوية الأرض الشرقية الشمالية، ويقال: إن بلادهم متسعة جدا، وإنهم يقتاتون بأصناف من المعايش من حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر، وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم.
فإن قيل: فما الجمع بين قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله ﷺ من نوم محمرا وجهه وهو يقول:
« لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ».
وحلق، تسعين.
قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟
قال: « نعم إذا كثر الخبث ».
وأخرجاه في (الصحيحين): من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ:
« فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وعقد تسعين ».
فالجواب أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن، وأن هذا استعارة محضة، وضرب مثل فلا إشكال.
وأما على قول من جعل ذلك إخبارا عن أمر محسوس كما هو الظاهر المتبادر فلا إشكال أيضا، لأن قوله: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } .
أي: في ذلك الزمان لأن هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدرا، وتسليطهم عليه بالتدريج قليلا قليلا، حتى يتم الأجل وينقضي الأمر المقدور، فيخرجون كما قال الله تعالى: { وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } [الأنبياء: 96] .
ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده قائلا: حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال:
« إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرون غدا إن شاء الله ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئة يوم تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس، فيستقون المياه، وتتحصن الناس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم.
فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها ».
قال رسول الله ﷺ:
« والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم ».
ورواه أحمد أيضا عن حسن بن موسى، عن سفيان، عن قتادة به. وهكذا رواه ابن ماجه من حديث سعيد، عن قتادة، إلا أنه قال حديث أبو رافع.
ورواه الترمذي من حديث أبي عوانة، عن قتادة به، ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شعاع الشمس من ورائه لرقته، فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظا، وإنما هو مأخوذ عن كعب الأحبار، كما قاله بعضهم، فقد استرحنا من المؤنة، وإن كان محفوظا، فيكون محمولا على أن صنيعهم هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم كما هو المروي عن كعب الأحبار.
أو يكون المراد بقوله: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } أي: نافذا منه فلا ينفي أن يلحسوه ولا ينفذوه، والله أعلم.
وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في (الصحيحين) عن أبي هريرة:
« فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين ».
أي: فتح فتحا نافذا فيه، والله أعلم.