البداية والنهاية/الجزء الثاني/ذكر أخبار غريبة في ذلك
قال أبو نعيم في (الدلائل) حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية المنقري، حدثنا عباد بن كسيب، عن أبيه، عن أبي عتوارة الخزاعي، عن سعير بن سوادة العامري قال:
كنت عشيقا لعقيلة من عقائل الحي، أركب لها الصعب والذلول، لا أبقي من البلاد مسرحا أرجو ربحا في متجر إلا أتيته، فانصرفت من الشام بحرث وأثاث أريد به كبة الموسم ودهماء العرب، فدخلت مكة بليل مسدف، فأقمت حتى تعرى عني قميص الليل، فرفعت رأسي فإذا قباب مسامته شعف الجبال مضروبة بأنطاع الطائف، وإذا جزر تنحر، وأخرى تساق، وإذا أكلة وحثثة على الطهاة يقولون: ألا عجلوا ألا عجلوا.
وإذا رجل يجهر على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله ميلوا إلى الغداء، وأنيسان على مدرجة يقول: يا وفد الله من طعم فليرح إلى العشاء، فجهرني ما رأيت، فأقبلت أريد عميد القوم، فعرف رجل الذي بي فقال أمامك، وإذا شيخ كأن في خديه الأساريع، وكأن الشعرى توقد من جبينه، قد لاث على رأسه عمامة سوداء، قد أبرز من ملائها جمة فينانة كأنها سماسم.
قال في بعض الروايات: تحته كرسي سماسم، ومن دونها نمرقة، بيده قضيب متخصر به، حوله مشايخ، جلس نواكس الأذقان ما منهم أحد يفيض بكلمة، وقد كان نمى إلى خبر من أخبار الشام أن النبي الأمي هذا أوان نجومه، فلما رأيته ظننته ذلك.
فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: مه مه كلا، وكأن قد وليتني إياه.
فقلت: من هذا الشيخ؟ فقالوا: هذا أبو نضلة، هذا هاشم بن عبد مناف، فوليت وأنا أقول: هذا والله المجد لا مجد آل جفنة - يعني ملوك عرب الشام من غسان كان يقال لهم آل جفنة - وهذه الوظيفة التي حكاها عن هاشم هي الرفادة: يعني إطعام الحجيج زمن الموسم.
وقال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، حدثنا سعيد بن عثمان، حدثنا علي بن قتيبة الخراساني، حدثنا خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال:
بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش وعلي مطرف خز، وجمتي تضرب منكبي، فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغيير، وأنا يومئذ سيد قومي، فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون؟ هل رابه من حدثان الدهر شيء؟
فقلت لها: بلى، وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى، ثم يضع يده على أم رأسها، ثم يذكر حاجته، ولم أفعل لأني كبير قومي.
فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة تنبت قد نال رأسها السماء، وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها.
ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها، ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم، ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا، فمنعني الشاب فقلت: لمن النصيب؟ فقال: النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها، فانتبهت مذعورا فزعا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغير ثم قالت:
لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، ويدين له الناس، ثم قال: - يعني عبد المطلب - لأبي طالب: لعلك تكون هذا المولود. قال: فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد رسول الله ﷺ، وبعد ما بعث.
ثم قال: كانت الشجرة والله أعلم أبا القاسم الأمين، فيقال: لأبي طالب ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار.
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي، حدثنا العباس بن بكار الضبي، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال العباس خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان ابن حرب، فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بابي سفيان وبالنفر، ويصنع أبو سفيان يوما ويفعل مثلى ذلك.
فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غداءك؟ فقلت: نعم. فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء، فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني، فقال: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله؟
فقلت: أي بني أخي؟ فقال أبو سفيان: إياي تكتم، وأي بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد؟
قلت: وأيهم على ذلك؟
قال: هو محمد بن عبد الله. فقلت: قد فعل؟ قال: بلى قد فعل، وأخرج كتابا باسمه من ابنه حنظلة بن أبي سفيان فيه أخبرك أن محمدا قام بالأبطح، فقال: أنا رسول أدعوكم إلى الله عز وجل.
فقال العباس: قلت أجده يا أبا حنظلة صادق، فقال: مهلا يا أبا الفضل، فوالله ما أحب أن يقول مثل هذا، إني لا أخشى أن يكون على ضير من هذا الحديث يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة، كل واحدة منهما غاية لنشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك؟
قلت: نعم قد سمعت.
قال: فهذه والله شؤمتكم، قلت: فلعلها يمنتنا.
قال: فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة بالخبر وهو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس اليمن، وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يتحدث فيه حبر من أحبار اليهود، فقال له اليهودي: ما هذا الخبر؟ بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال.
قال أبو سفيان: صدقوا وأنا عمه.
فقال اليهودي: أخو أبيه؟
قال: نعم.
قال: فحدثني عنه.
قال: لا تسألني ما أحب أن يدعى هذا الأمر أبدا، وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه، فرأى اليهودي أنه لا يغمس عليه، ولا يحب أن يعيبه.
فقال اليهودي: ليس به بأس على اليهود وتوراة موسى.
قال العباس: فناداني الحبر فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس من الغد، وفيه أبو سفيان ابن حرب والحبر، فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله ﷺ وأخبرك أنه عمه، وليس بعمه، ولكن ابن عمه، وأنا عمه وأخو أبيه.
قال: أخو أبيه؟
قلت: أخو أبيه، فأقبل على أبي سفيان فقال: صدق؟
قال: نعم صدق.
فقلت: سلني، فإن كذبت فليرد علي، فأقبل علي فقال: نشدتك هل كان لابن أخيك صبوة أو سفهة. قلت: لا، وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان، وإنه كان اسمه عند قريش الأمين.
قال: فهل كتب بيده؟
قال: العباس فظننت أنه خير له أن يكتب بيده فأردت أن أقولها، ثم ذكرت مكان أبي سفيان يكذبني ويرد علي. فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر ونزل رداؤه، وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود.
قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن أخيك، قلت: قد رأيت ما رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقت، وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك.
قال: لا أؤمن به حتى أرى الخيل في كداء.
قلت: ما تقول؟
قال: كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء.
قال العباس: فلما استفتح رسول الله ﷺ مكة ونظرنا إلى الخيل وقد طلعت من كداء، قلت: يا أبا سفيان تذكر الكلمة؟
قال: إي والله إني لذاكرها، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.
وهذا سياق حسن عليه البهاء والنور، وضياء الصدق، وإن كان في رجاله من هو متكلم فيه، والله أعلم.
وقد تقدم ما ذكرناه في قصة أبي سفيان مع أمية بن أبي الصلت، وهو شبيه بهذا الباب، وهو من أغرب الأخبار، وأحسن السياقات، وعليه النور، وسيأتي أيضا قصة أبي سفيان مع هرقل ملك الروم، حين سأله عن صفات رسول الله ﷺ وأحواله، واستدلاله بذلك على صدقه ونبوته، ورسالته.
وقال له: كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظن أنه فيكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولئن كن ما تقول حقا ليملكن موضع قدمي هاتين وكذلك وقع، ولله الحمد والمنة.
وقد أكثر الحافظ أبو نعيم من إيراد الآثار والأخبار عن الرهبان، والأحبار، والعرب، فأكثر وأطنب وأحسن وأطيب، رحمه الله ورضي عنه.