البداية والنهاية/الجزء الثاني/بيان طلب ذي القرنين عين الحياة



بيان طلب ذي القرنين عين الحياة


وقد ذكر ابن عساكر من طريق وكيع، عن أبيه، عن معتمر بن سليمان، عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه زين العابدين خبرا مطولا جدا فيه: أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رناقيل، فسأله ذو القرنين هل تعلم في الأرض عينا يقال لها عين الحياة؟

فذكر له صفة مكانها، فذهب ذو القرنين في طلبها، وجعل الخضر على مقدمته، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات، فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين إليها.

وذكر اجتماع ذي القرنين ببعض الملائكة في قصر هناك، وأنه أعطاه حجرا، فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه، فوضعوه في كفة ميزان وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها، حتى سأل الخضر فوضع قباله حجرا وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به.

وقال: هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى بالتراب، فسجد له العلماء تكريما له وإعظاما، والله أعلم.

ثم ذكر تعالى أنه حكم في أهل تلك الناحية: { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابا نُكْرا } [الكهف: 86- 87] أي: فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة، وبدأ بعذاب الدنيا لأنه أزجر عند الكافر.

{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرا } [الكهف: 89] فبدأ بالأهم وهو ثواب الآخرة، وعطف عليه الإحسان منه إليه، وهذا هو العدل والعلم والإيمان.

قال الله تعالى: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا } أي: سلك طريقا راجعا من المغرب إلى المشرق، فيقال: إنه رجع في ثنتي عشر سنة { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرا }

أي: ليس لهم بيوت ولا أكنان يستترون بها من حر الشمس، قال كثير من العلماء: ولكن كانوا يأوون إذا اشتد عليهم الحر إلى أسراب قد اتخذوها في الأرض شبه القبور.

قال الله تعالى: { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرا } أي: ونحن نعلم ما هو عليه ونحفظه ونكلؤه بحراستنا في مسيره ذلك كله من مغارب الأرض إلى مشارقها.

وقد روي عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وغيرهما من السلف: أن ذا القرنين حج ماشيا، فلما سمع إبراهيم الخليل بقدومه تلقاه، فلما اجتمعا دعا له الخليل ووصاه بوصايا، ويقال: إنه جيء بفرس ليركبها فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل، فسخر الله له السحاب وبشره إبراهيم بذلك، فكانت تحمله إذا أراد.

وقوله تعالى: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْما لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } [الكهف: 92-93] يعني غشما. يقال: إنهم هم الترك أبناء عم يأجوج ومأجوج. فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم، وقطعوا السبل عليهم، وبذلوا له حملا وهو الخراج، على أن يقيم بينهم وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إليهم، فامتنع من أخذ الخراج اكتفاء بما أعطاه الله من الأموال الجزيلة.

{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالا وآلات ليبني بينهم وبينهم سدا، وهو الردم بين الجبلين وكانوا لا يستطيعون الخروج إليهم إلا من بينهما، وبقية ذلك بحار مغرقة وجبال شاهقة، فبناه كما قال تعالى من الحديد والقطر وهو النحاس المذاب، وقيل: الرصاص. والصحيح: الأول.

فجعل بدل اللبن حديدا، وبدل الطين نحاسا، ولهذا قال تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } أي: يعلوا عليه بسلالم ولا غيرها { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } أي: بمعاول ولا فؤوس ولا غيرها. فقابل الأسهل بالأسهل والأشد بالأشد.

{ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي: قدر الله وجوده ليكون رحمة منه بعباده أن يمنع بسببه عدوان هؤلاء القوم على من جاورهم في تلك المحلة.

{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } أي: الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي: مساويا للأرض ولا بد من كون هذا. ولهذا قال: { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّا } .

كما قال تعالى: { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ... } الآية [الأنبياء: 96-97] .

ولهذا قال ههنا: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يعني: يوم فتح السد على الصحيح.

{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعا } وقد أوردنا الأحاديث المروية في خروج يأجوج ومأجوج في التفسير، وسنوردها إن شاء الله في كتاب الفتن والملاحم من كتابنا هذا إذا انتهينا إليه، بحول الله وقوته وحسن توفيقه ومعونته وهدايته.

قال أبو داود الطيالسي، عن الثوري: بلغنا أن أول من صافح ذو القرنين، وروي عن كعب الأحبار أنه قال لمعاوية: إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه إذا هو مات أن تصنع طعاما وتجمع نساء أهل المدينة، وتضعه بين أيديهن، وتأذن لهن فيه إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئا، فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه، فقالت لهن: سبحان الله كلكن ثكلى؟ فقلن: إي والله، ما منا إلا من أثكلت، فكان ذلك تسلية لأمه.

وذكر إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد، عن بعض أهل الكتاب وصية ذي القرنين وموعظة أمه موعظة بليغة طويلة فيها حكم وأمور نافعة، وأنه مات وعمره ثلاثة آلاف سنة، وهذا غريب.

قال ابن عساكر: وبلغني من وجه آخر أنه عاش ستا وثلاثين سنة.

وقيل: كان عمره ثنتين وثلاثين سنة، وكان بعد داود بسبعمائة سنة وأربعين سنة، وكان بعد آدم بخمسة آلاف ومائة وإحدى وثمانين سنة، وكان ملكه ست عشرة سنة.

وهذا الذي ذكره إنما ينطبق على إسكندر الثاني لا الأول، وقد خلط في أول الترجمة وآخرها بينهما، والصواب التفرقة كما ذكرنا اقتداء بجماعة من الحفاظ، والله أعلم.

وممن جعلهما واحدا الإمام عبد الملك بن هشام راوي السيرة، وقد أنكر ذلك عليه الحافظ أبو القاسم السهيلي رحمه الله إنكارا بليغا، ورد قوله ردا شنيعا، وفرق بينهما تفريقا جيدا كما قدمنا قال: ولعل جماعة من الملوك المتقدمين تسموا بذي القرنين تشبها بالأول، والله أعلم.

البداية والنهاية - الجزء الثاني
ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام | قصة حزقيل | قصة اليسع عليه السلام | فصل في حال بني إسرائيل | قصة شمويل عليه السلام | قصة داود وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وإعلامه | ذكر كمية حياته وكيفية وفاته عليه السلام | قصة سليمان بن داود عليهما السلام | ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته | باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد داود وسليمان | ومنهم ارميا بن حلقيا من سبط لاوي بن يعقوب | ذكر خراب بيت المقدس | ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام | ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها | وهذه قصة العزير | فصل:حفظ عزيرا التوراة | قصة زكريا ويحيى عليهما السلام | بيان سبب قتل يحيى عليه السلام | قصة عيسى بن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام | ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم العذراء البتول | باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا | ذكر منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام | بيان نزول الكتب الأربعة ومواقيتها | بيان شجرة طوبى ما هي؟ | ذكر خبر المائدة | فصل توجه عيسى عليه السلام نحو البحر. | ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء | ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله | فصل اختلاف أصحاب المسيح في رفع عيسى إلى السماء. | بيان بناء بيت لحم والقمامة | كتاب أخبار الماضين من بني إسرائيل وغيرهم | خبر ذي القرنين | بيان طلب ذي القرنين عين الحياة | ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم | قصة أصحاب الكهف | قصة الرجلين المؤمن والكافر | قصة أصحاب الجنة | قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم | قصة أصحاب القرية | قصة لقمان | قصة أصحاب الأخدود | بيان الإذن في الرواية عن أخبار بني إسرائيل | قصة جريج أحد عباد بني إسرائيل | قصة برصيصا | قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبق عليهم | خبر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع | حديث الذي استلف من صاحبه ألف دينار فأداها | قصة أخرى شبيهة بهذه القصة في الصدق والأمانة | قصة توبة قاتل التسعة وتسعين نفسا | حديث بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها | حديث كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون | حديث إنما هلكت بنو إسرائيل | حديث بينما كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش | حديث عذبت امرأة في هرة | حديث كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة | حديث إن مما أدرك الناس | حديث بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي | قصة الملكين التائبين | حديث إن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا | حديث كان رجل يداين الناس | حديث الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل | حديث أتشفع في حد من حدود الله؟ | حديث كلاكما محسن | حديث إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم | حديث لعن الله اليهود | حديث فأمر بلال أن يشفع الأذان | حديث لعنة الله على اليهود والنصارى | حديث لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر | حديث إنما أجلكم في أجل من خلا من قبلكم من الأمم | فصل: بعض القصص من الإسرائيليات | تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم | ليس للجنب لمس التوراة | كتاب الجامع الأخبار الأنبياء المتقدمين | حديث إني خاتم ألف نبي | ذكر أخبار العرب | قصة سبأ | فصل إقامة ست قبائل من سبأ في اليمن. | قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر | قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة | وثوب لخنيعة ذي شناتر على ملك اليمن | خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان | خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما | سبب قصد أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة | خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن | ما آل إليه أمر الفرس باليمن | قصة الساطرون صاحب الحضر | خبر ملوك الطوائف | ذكر بني إسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة | قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للأصنام | باب جهل العرب | خبر عدنان جد عرب الحجاز | أصول أنساب عرب الحجاز إلى عدنان | قريش نسبا واشتقاقا وفضلا وهم بنو النضر بن كنانة | خبر قصي بن كلاب وارتجاعه ولاية البيت إلى قريش وانتزاعه ذلك من خزاعة | فصل: تفويض قصي أمر الوظائف لابنه عبد الدار | ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية | ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية | حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية | شيء من أخبار عبد الله بن جدعان | امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات | أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي | بحيرا الراهب | ذكر قس بن ساعدة الإيادي | زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه | شيء من الحوادث في زمن الفترة | كعب بن لؤي | تجديد حفر زمزم | نذر عبد المطلب ذبح ولده | تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية | كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم | باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم | صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام | فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام | ذكر ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط الشرفات | حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام | رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة | فصل ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة | فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام | فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام | قصة بحيرا | فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام | شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار | فصل شهود رسول الله عليه الصلاة والسلام حلف المطيبين مع عمومته | تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد | باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة | فصل ذكر خديجة لورقة بن نوفل عن النبي عليه الصلاة والسلام | فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين | فصل تعظيم قريش للحرم تعظيما زائدا أدى إلى الابتداع | مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وذكر شيء من البشارات بذلك | فصل طلب اليهود من الله تعالى أن يبعث لهم نبيا يحكم بينهم وبين الناس | ذكر أخبار غريبة في ذلك | قصة عمرو بن مرة الجهني | قصة سيف بن ذي يزن وبشارته بالنبي | باب في هواتف الجان