التاج في أخلاق الملوك/باب في صفة ندماء الملك/آداب رسول الملك

آداب رسول الملك

ومن الحق على الملك أن يكون رسوله صحيح الفطرة والمزاج، ذا بيانٍ وعبارة، بصيراً بمخارج الكلام وأجوبته، مؤدياً لألفاظ الملك ومعانيها، صدوق اللهجة، لا يميل إلى طمع ولا طبع، حافظاً لما حمل.

وعلى الملك أن يمتحن رسوله محنةً طويلةً، قبل أن يجعله رسولاً.

وكانت ملوك الأعاجم، إذا آثرت أن تختار من رعيتها من تجعله رسولاً إلى بعض ملوك الأمم، تمتحنه أولاً، بأن توجهه رسولاً إلى بعض خاصة الملك، ومن في قرار داره في رسائلها.

ثم تقدم عيناً عليه، يحضر رسالته ويكتب كلامه. فإذا رجع الرسول الرسالة، جاء العين بما كتب من ألفاظه وأجوبته. فقابل بها الملك ألفاظ الرسول. فإن اتفقت أو اتفقت معانيها، عرف الملك صحة عقله، وصدق لهجته، ثم جعله الملك رسولاً إلى عدوه، وجعل عليه عيناً يحفظ ألفاظه ويكتبها، ثم يرفعها إلى الملك. فإن اتفق كلام الرسول وكلام عين الملك، وعلم أن رسوله قد صدقه عن عدوه ولم يتزيد عليه للعداوة بينهما، جعله رسوله إلى ملوك الأمم، ووثق به. ثم كان بعد ذلك يقيم خبره مقام الحجة.

وكان أردشير بن بابك يقول: كم من دمٍ قد سفكه الرسول بغير حله! وكم من جيوش قد قتلت، وعساكر قد هزمت، وحرمةٍ قد انتهكت، ومال قد انتهب، وعهدٍ قد نقض بخيانة الرسول وأكاذيبه!

وكان يقول: على الملك، إذا وجه رسولاً إلى ملك آخر، أن يردفه بآخر.

وإن وجه رسولين، أتبعهما باثنين، وإن أمكنه أن لا يجمع بين رسولين في طريقٍ ولا ملاقاةٍ ولا يتعارفان فيتواطآ، فعل. ثم عليه، إن أتاه رسوله بكتاب أو رسالة من ملك في خير أو شر، أن لا يحدث في ذلك خيراً أو شراً، حتى يكتب إليه مع رسول ربما حرم بعض ما أمل، فافتعل الكتب، وحرض المرسل على المرسل إليه، فأغراه به، وكذب عليه.

ويقال إن الأسكندر وجه رسولاً إلى بعض ملوك الشرق، فجاءه برسالة شك في حرفٍ منها فقال له الاسكندر: ويلك! إن الملوك لا تخلو من مقوم ومسدد، إذا مالت.

وقد جئتني برسالةٍ صحيحة الألفاظ، بينة العبارة؛ غير أن فيها حرفاً ينقضها؛ أفعلى يقين أنت من هذا الحرف أم شاك فيه؟ فقال الرسول: بل على يقين أنه قاله. فأمر الاسكندر أن تكتب ألفاظه حرفاً حرفاً، ويعاد إلى الملك مع رسولٍ آخر، فيقرأ عليه ويترجم له.

فلما قريء الكتاب على الملك، فمر بذلك الحرف، أنكره فقال للمترجم: ضع يدي على هذا الحرف فوضعها.

فأمر أن يقطع ذلك الحرف بسكينة، فقطع من الكتاب. وكتب إلى الإسكندر: إن رأس المملكة صحة فطرة الملك، ورأس الملك صدق لهجة رسوله، إذ كان عن لسانه ينطق، وإلى أذنه يؤدي. وقد قطعت بسكينتي ما لم يكن من كلامي، إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلاً.

فلما جاء الرسول بهذا إلى الإسكندر، دعا الرسول الأول، فقال: ما حملك على كلمةٍ أردت بها فساد ملكين؟ فأقر الرسول أن ذلك كان لتقصير رآه من الموجه إليه. فقال الاسكندر: فأراك لنفسك لسعيت، لا لنا! فلما فاتك بعض ما أملت، جعلت ذلك ثأراً في الأنفس الخطيرة الرفيعة! فأمر بلسانه، فنزع من قفاه.



التاج في أخلاق الملوك لعمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبي عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى عام 255هـ)

باب في الدخول على الملوك | دخول الأشراف | دخول الأوساط | كيفية الدخول على الملك | استقبال الملك للملوك | وداع الملك للملوك | باب في مطاعمة الملوك | المنصور والفتى الهاشمي | على مائدة اسحق بن ابراهيم | شرف مؤاكلة الملوك | بين معاوية والحسن بن علي | شره القضاة | الملك وضيوفه على المائدة | الحديث على المائدة | طبقات الندماء | في حضرة الملك | مراتب الندماء والمغنين | أقسام الناس | انقلاب الحال في عهد بهرام جور | في عهد الأمويين | الخليفة الأمين | الخليفة المأمون | أخلاق الملك السعيد | أنعام الملوك ومنتهم | العفو عند المقدرة | آداب البطانة مع الملوك | حديث الملك | بين معاوية والرهاوي | أقوال في حسن الاستماع | عود إلى أخلاق الملوك | معاقبة أنوشروان للخائن | عبد الملك والأشدق | الرشيد والبرامكة | مراعاة حرمة الملك | إغضاء البصر وخفض الصوت بحضرة الملك | في غياب الملك | مكافآت الملوك | باب في صفة ندماء الملك | عدة الملك في سفره أو نزهته | خلال الندماء وملاعبة الملوك | آداب الندماء عند نعاس الملك | إمامة الملك للصلاة | آداب مسايرة الملك | مسايرة الموبذ لقباذ | مسايرة شرحبيل لمعاوية | صاحب الشرطة والهادي | ما قاله الهاشمي للخراساني | عدم تسمية أو تكنية الملك | عند تشابه الأسماء | ما يتفرد به الملك في عاصمته | دعاء الملك وتعزيته | غضب الملك ورضاه | وعلى هذا أخلاق الملوك وصنيعهم | أسرار الملك | حفظ حرم الملك | امتحان من يطعن في المملكة | تقاضي الملك عن الصغائر | رد على العامة | إكرام الأوفياء | أدب سماع الملك ومحادثته | إعادة الحديث | أمارات الذهاب من مجلس الملك | اغتياب الآخرين أمام الملك | آداب رسول الملك | احتياط الملك | معاملة ابن الملك للملك | صلاح الجفوة في التأديب | صفات المقربين من الملك | سخاء الملك وحياؤه | اعتلال الملك | جوائز البطانة | هدايا المهرجان والنيروز | لهو الملوك وشربهم | زيارة الملوك لأخصانهم | استقبال الملوك للناس في الأعياد | عقوبة الملك الظالم | استقصاء أحوال الرعية | الملوك أمام الأمور الجليلة | الحرب خدعة | النهاية |