الرد على المنطقيين


الدليل ما كان موصلا الى المطلوب

فكذلك الدليل والبرهان فان الدليل هو المرشد الى المطلوب والموصل الى المقصود وكل ما كان مستلزما لغيره فانه يمكن ان يستدل به عليه ولهذا قيل الدليل ما يكون النظر الصحيح فيه موصلا الى علم أو ظن وبعض المتكلمين يخص لفظ الدليل بما يوصل الى العلم ويسمى ما يوصل الى الظن أمارة وهذا اصطلاح من اصطلح عليه من المعتزلة ومن تلقاه عنهم

فالمقصود ان كل ما كان مستلزما لغيره بحيث يكون ملزوما له فانه يكون دليلا عليه وبرهانا له سواء كانا وجوديين أو عدميين أو أحدهما وجوديا والاخر عدميا فأبدا الدليل ملزوم للمدلول عليه والمدلول لازم للدليل

ثم قد يكون الدليل مقدمة واحدة متى علمت علم المطلوب وقد يحتاج المستدل الى مقدمتين وقد يحتاج الى ثلاث مقدمات وأربع وخمس وأكثر ليس لذلك حد مقدر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب بل ذلك بحسب علم المستدل الطالب بأحوال المطلوب والدليل ولوازم ذلك وملزوماته

فاذا قدر أنه قد عرف ما به يعلم المطلوب إلا مقدمة واحدة كان دليله الذي يحتاج الى بيانه له تلك المقدمة كمن علم أن الخمر محرم وعلم ان النبيذ المتنازع فيه مسكر لكن لم يعلم أن كل مسكر هو خمر فهو لا يحتاج إلا الى هذه المقدمة فاذا قيل ثبت في الصحيح عن النبي - أنه قال كل مسكرخمر حصل مطلوبه ولم يحتج إلى ان يقال كل نبيذ مسكر وكل مسكر خمر ولا ان يقال كل مسكر خمر وكل خمر حرام فان هذا كله معلوم له لم يكن يخفى عليه إلا ان اسم الخمر هل هو مختص ببعض المسكرات كما ظنه طائفة من علماء المسلمين أو هو شامل لكل مسكر فاذا ثبت له عن صاحب الشرع أنه جعله عاما لا خاصا حصل مطلوبه وهذا الحديث في صحيح مسلم ويروى بلفظين كل مسكر خمر وكل مسكر حرام

ولم يقل كل مسكر خمر وكل خمر حرام كالنظم اليوناني وإن كان روى في بعض طرق الحديث فليس بثابت فان النبي - اجل قدرا في عمله وبيانه من أن يتكلم بمثل هذيانهم فانه إن قصد مجرد تعريف الحكم لم يحتج مع قوله الى دليل وإن قصد بيان الدليل كما بين الله في القران عامة المطالب الالهية التي تقرر الايمان بالله ورسله واليوم الاخر فهو - أعلم الخلق بالحق وأحسنهم بيانا له

فعلم أنه ليس جميع المطالب يحتاج الى مقدمتين ولا يكفى في جميعها مقدمتان بل يذكر ما يحصل به البيان والدلالة سواء كان مقدمة او مقدمتين أو اكثر وما قصد به هدى عاما كالقرآن الذي انزله الله بيانا للناس يذكر فيه من الادلة ما ينتفع به الناس عامة

وأما ما قد يعرض لبعضهم في بعض الاحوال من سفسطة تشككه في المعلومات فتلك من جنس المرض والوساوس وهذه إنما يمكن بيان أنواعها العامة وأما ما يختص به كل شخص فلا ضابط له حتى يذكر في كلام بل هذا يزول بأسباب تختص بصاحبه كدعائه لنفسه ومخاطبة شخص معين له بما يناسب حاله ونظرة هو فيما يخص حاله ونحو ذلك

وأيضا فما يذكرونه من القياس لا يفيد إلا العلم بأمور كلية لا يفيد العلم بشئ معين من الموجودات ثم تلك الامور الكلية يمكن العلم بكل واحد منها بما هو أيسر من قياسهم فلا تعلم كلية ب قياسهم إلا والعلم بجزئياتها ممكن بدون قياسهم الشمولى وربما كان أيسر فان العلم بالمعينات قد يكون أبين من العلم بالكليات وهذا مسبوط فى موضعه

ليس في قياسهم إلا صورة الدليل من غير بيان صحته او فساده

والمقصود هنا أن المطلوب هو العلم والطريق اليه هو الدليل فمن عرف دليل مطلوبه عرف مطلوبه سواء نظمه بقياسهم ام لا ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم ولا يقال إن قياسهم يعرف صحيح الادلة من فاسدها فان هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم فان قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته وأما كون الدليل المعين مستلزما لمدلوله فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل وليس في قياسهم بيان صحة شئ من المقدمات ولا فسادها وإنما يتكلمون في هذا إذا تكلموا في مواد القياس وهو الكلام في المقدمات من جهة ما يصدق بها وكلامهم في هذا فيه خطأ كثير كما نبه عليه في موضع آخر

الحقيقة المعتبرة في كل دليل هو اللزوم

والمقصود هنا ان الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم فمن عرف ان هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم وإن لم يذكر لفظ اللزوم ولا تصور معنى هذا اللفظ بل من عرف أن كذا لا بد له من كذا او أنه إذا كان كذا كان كذا وأمثال هذا فقد علم اللزوم كما يعرف ان كل ما في الوجود فهو أية لله فانه مفتقر اليه محتاج اليه لا بد له منه فيلزم من وجوده وجود الصانع

وكما يعلم ان المحدث لا بد له من محدث كما قال تعالى ام خلقوا من غير شئ ام هم الخلقون الطور وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم انه لما قدم في فداء الاسرى عام بدر سمع النبي - يقرأ في المغرب بالطور قال فلما سمعت قوله ام خلقوا من غير شئ ام هم الخلقون الطور أحسست بفؤادي قد انصدع

فان هذا تقسيم حاصر يقول أخلقوا من غير خالق خلقهم فهذا ممتنع في بداية العقول ام هم خلقوا أنفسهم فهذا أشد امتناعا فعلم ان لهم خالقا خلقهم وهو سبحانه وتعالى ذكر الدليل بصيغة استفهام الانكار ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس لا يمكن أحدا إنكارها فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعى وجود حادث بدون محدث أحدثه ولا يمكنه أن يقول هو أحدث نفسه

وقد بسطنا الكلام على ما قاله الناس في هذا المقام من الحدوث والامكان وعلة الافتقار الى المؤثر وذكرنا عامة طرائق اهل الارض في إثبات الصانع من المتكلمين والفلاسفة وطرق الانبياء صلوات الله عليهم وما سلكه عامة نظار الاسلام من معتزلي وكرامى وكلابي واشعري وفيلسوف وغيرهم في غير موضع مثل كتاب تعارض العقل والنقل وغير ذلك

وكذلك بينا طرق الناس في إثبات العلم بالنبوات في شرح الاصبهانية وكتاب الرد على النصارى وغيرهما

وبينا أن كثيرا من النظار يسلك طريقا في الاستدلال على المطلوب ويقول لا يوصل الى المطلوب إلا بهذا الطريق ولا يكون الامر كما قاله في النفى وإن كان مصيبا في صحة ذلك الطريق فان المطلوب كلما كان الناس الى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا وطرق الناس في معرفتها كثيرة وكثير من الطرق لا يحتاج اليه اكثر الناس وإنما يحتاج اليه من لم يعرف غيره أو من أعرض عن غيره وبعض الناس يكون الطريق كلما كان ادق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول كان انفع له لان نفسه اعتادت النظر الطويل في الامور الدقيقة فاذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به ومثل هذا قد يستعمل معه الطريق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته لا لكون العلم بالمطلوب متوقفا علهيا مطلقا فان من الناس من إذا عرف ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الاذكياء معرفته لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم فيجب معرفة الامور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات وهذا يسلك معه هذه السبيل

وأيضا فان النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدر به ويقويه على العلم فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال وهذا مقصد حسن

ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرايض والوصايا والدور لشحذ الذهن فانه علم صحيح في نفسه ولهذا يسمى الرياضي فان لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة انواع في رياضة الابدان بالحركة والمشي كما يذكر ذلك الاطباء وغيرهم وفي رياضة النفوس بالاخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة وفي رياضة الاذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الامور الغامضة

ويروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انه قال إذا لهوتم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض اراد إذا لهوا بعمل ان يلهوا بعمل ينفعهم في دينهم وهو الرمي وإذا لهوا بكلام لهوا بكلام ينفعهم ايضا في عقلهم ودينهم وهو الفرائض

وعلم الفرائض نوعان احكام وحساب

فالاحكام ثلاثة انواع احدها علم الاحكام على مذهب بعض الفقهاء وهذا اولها ويليه علم أقاويل الصحابة والعلماء فيما اختلف فيه منها ويليه علم ادلة ذلك من الكتاب والسنة

وأما علم حساب الفرائض فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات وللفرائض في ذلك طريق معلومة وكتب مصنفة وهذا الثاني كله علم معقول يعلم بالعقل كما يعلم بالعقل سائر حساب المعاملات وغير ذلك من الانواع التي يحتاجها اليها الناس

ثم قد ذكروا حساب المجهولات الملقب بحساب الجبر والمقابلة وهو علم قديم لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك اول من عرف انه ادخله في ذلك محمد بن موسى الخوارزمي وبعض الناس يذكر عن علي بن ابي طالب رضى الله عنه انه تكلم في ذلك وانه تعلم زيادة ذلك من يهودي وهذا كذب على علي رضى الله عنه

ونحن قد بينا في الكتاب المصنف في الدور لما ذكرنا فيه ان لفظ الدور يقال على ثلاثة انواع

الدور الكوني الذي يذكر في الادلة العقلية أنه لا يكون هذا حتى يكون هذا ولا يكون هذا حتى يكون هذا وطائفة من النظار كالرازي يقولون هو ممتنع والصواب انه نوعان كما يقوله الامدي وغيره دور قبلي ودور معي في الدور القبلي ممتنع والدور المعى ممكن

فالدور القبلي الذي يذكر في العل وفي الفاعل والمؤثر ونحو ذلك مثل ان يقال لا يجوز ان يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر لانه يفضى الى الدور

وهو ان يكون هذا قبل ذاك وذاك قبل هذا وذاك فاعل لهذا وهذا فاعل لذاك فيكون الشئ فاعلا لفاعله ويكون قبل قبله وقد اورد الرازي وغيره عليه إشكالات ذكرناها وبينا وجه حلها طرق إثبات الصانع

وأما الدور المعى فهو كدور الشرط مع الشروط وأحد المتضائفين مع الاخر إذا قيل صفات الرب لا تكون إلا مع ذاته ولا تكون ذاته إلا مع صفاته فهذا صحيح وكذلك إذا قيل لا تكون الابوة إلا مع النبوة ولا تكون النبوة إلا مع الابوة

والنوع الثاني مما يسمى دورا الدور الحكمى الفقهي المذكور في المسئلة السريجية وغيرها وقد افردنا في هذا مصنفات وبينا حقيقة هذا الدور وأنه باطل عقلا وشرعا وبينا في مصنف آخر هل في الشريعة شئ من هذا الدور ام لا

والنوع الثالث الدور الحسابي وهو ان يقال لا يعلم هذا حتى يعلم هذا فهذا هو الذي يطلب حله بحساب الجبر والمقابلة

وقد ذكر كثير من متأخرى الفقهاء مسائل وذكروا أنها لا تنحل إلا بطريق الجبر والمقابلة وقد بينا انه يمكن الجواب عن كل مسئلة شرعية جاء بها الرسول - بدون حساب الجبر والمقابلة وإن كان ايضا حساب الجبر والمقابلة صحيحا وقد كان لابي وجدي رحمهما الله فيه من النصيب ما قد عرف

ليست شريعة الاسلام موقوفة على شئ من علومهم

فنحن قد بينا ان شريعة الاسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شئ يتعلم من غير المسلمين أصلا وإن كان طريقا صحيحا بل طريق الجبر والمقابلة فيها تطويل يغنى الله عنه بغيره كما ذكرنا في المنطق

وهكذا كل ما بعث به الرسول - مثل العلم بجهة القبلة والعلم بمواقيت الصلوة والعلم بطلوع الفجر والعلم بالهلال فكل هاذ يمكن العلم به بالطرق المعروفة التي كان الصحابة والتابعون لهم باحسان يسلكونها ولا يحتاج معها الى شئ آخر وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقا أخر وكثير منهم يظن انه لا يمكن المعرفة بالشريعة إلا بها وهذا من جهلهم

العلم بجهة القبلة

كما قد يظن طائفة من الناس ان العلم بالقبلة لا يمكن إلا بمعرفة أطوال البلاد وعروضها، وعرض البلد هو بعد ما بينه وبين خط الاستواء والموازي كدائرة معدل النهار وذلك يعرف بارتفاع القطب الشمالي فان القطبين إذا كانا على دائرة الافق كان بعد كل منها عن خط الاستواء بعدا واحدا وليس لخط الاستواء عرض فاذا بعد الانسان عن خط الاستواء مقدار درجة فلكية ارتفع القطب في قطره عن دائرة الافق مقدار درجة ثم إذا بعد درجتين ارتفع القطب درجتين وهلم جرأ فعرض البلد يعرف بارتفاع القطب فاذا كان البلدان عرضهما سواء كدمشق وبغداد وعرض كل منهما ثلاثا وثلاثين درجة يكون ارتفاع القطب فيهما واحدا

وأما الطول فليس له حد في السماء يضبط به إذ هو بحسب المعمور من الارض فيجعل الطول مبدأ العمارة وكانوا يحدون بجزائر تسمى جزائر الخالدات من جهة الغرب ويمكن ان تفرض بلدة ويجعل الطول شرقيا وغربيا كما فعل بعضهم حيث جعل مكة شرفها الله تعالى هي التي يعتبر بها الطول لانها باقية محفوظة محروسة وجعل الطول نوعين شرقيا وغربيا

فهذا علم صحيح حسابي يعرف بالعقل لكن معرفة المسلمين بقبلتهم في الصلوة ليست موقوفة على هذا بل قد ثبت عن صاحب الشرع صلوات الله عليه انه قال ما بين المشرق والمغرب قبلة قال الترمذي حديث صحيح وبهذا كان عند جماهير العلماء أن المصلى ليس عليه ان يستدل بالقطب ولا الجدى ولا غير ذلك بل إذا جعل من في الشام ونحوها المغرب عن يمينه والمشرق عن شماله كانت صلوته صحيحة فان الله إنما امر باستقبال شطر المسجد الحرام وفي الحديث المسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الارض ولهذا لم يعرف عن الصحابة انهم ألزموا الناس في الصلوة ان يعتبروا الجدى

كون اعتبار الجدى لمعرفة القبلة بدعة

ولهذا انكر الامام احمد وغيره من العلماء على من ألزم الناس باعتبار الجدي فضلا عن طول البلاد وعرضها بل المساجد التي صلى فيها الصحابة كمسجد دمشق وغيره فيه انحراف يسير عن مسامتة عين الكعبة وكذلك غيره فكان هذا من الحكمة أن يعرف إجماع الصحابة والتابعين لهم باحسان على ان المصلى ليس عليه مسامتة عين الكعبة بل تكفيه الجهة التي هي شطر المسجد الحرام

من بدع المتكلمين ردهم ما صح من الفلسفة

وكذلك ما يعلم بالمشاهدة والحساب الصحيح من أحوال الفلك علم صحيح لا يدفع والافلاك مستديرة ليست مضلعة ومن قال إنها مضلعة أو جوز ذلك من أهل الكلام فهو وأمثاله ممن يرد على الفلاسفة وغيرهم ما قالوه من علم صحيح معقول مع كونه موافقا للمشروع وهذا من بدع اهل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه فانهم ناظروا الفلاسفة في العلم الالهي في مسئلة حدوث العالم وإثبات الصانع ومسائل المعاد والنبوات وغير ذلك بطرق فاسدة حائدة من مسلك الشرع والعقل

وكان ذلك من أسباب ضلال كثير من الناس حيث ظنوا ان ما يقوله هؤلاء المبتدعون هو الشرع المأخوذ عن الرسول وليس الامر كذلك بل كلما علم بالعقل الصريح فلا يوجد عن الرسول إلا ما يوافقه ويصدقه

إجماع المسلمين على أن الفلك مستدير

وما نحن فيه من كرية الافلاك واستدارتها من هذا الباب بل هذا مما أجمع عليه سلف الامة من الصحابة والتابعين لا يعرف بينهم نزاع في ان الفلك مستدير وقد حكى إجماع علماء المسلمين على ذلك غير واحد منهم ابو الحسين بن المنادى الامام الذي له أربعمائة مصنف وكان من الطبقة الثانية من اصحاب احمد ومنهم ابو محمد بن حزم ومنهم ابو الفزج بن الجوزي والاثار بذلك معروفة ثابتة عن السلف كما دل على ذلك الكتاب والسنة

وقد ذكرنا طرفا من ذلك في جواب مسئلة سئلنا عنها في هذا الباب فذكرنا دلالة الكتاب والسنة على ذلك موافقا لما علم بالحساب العقلي

وقد قال تعالى وهو الذي خلق اليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون الانبياء وقال تعالى لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (يس)

تفسير قوله تعالى كل في فلك يسبحون

وقد ذكر الامام ابو محمد عبد الرحمن بن ابي حاتم في تفسيره ثنا ابى يعنى الامام ابا حاتم الرازي ثنا نصر بن علي حدثني ابي عن شعبة بن الحجاج عن الاعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله كل في فلك يسبحوق قال في فلكة مثل فلكة المغزل

وذكر عن احمد الزبيري عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله يسبحون قال يدورون في أبواب السماء كما يدور المغزل في الفلكة

وقال ثنا الحسن بن الحسن ثنا إبراهيم بن عبدالله بن الهروى ثنا حجاج عن ابي جريج اخبرني عبدالله بن كثير انه سمع مجاهدا يقول وكل في فلك يسبحون قال النجوم والشمس والقمر فلكة كفلكة المغزل وقال مثل ذلك الحسبان يعنى مجاهد حسبان الرحى وهو سفودها القائم الذي يدور عليه والحسبان في اللغة سهام قصار الواحدة حسبانة وكان مجاهد يفسر قوله والشمس والقمر بحسبان الرحمن بهذا وقال غيره هو من الحساب قيل هو مصدر وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان

قال مجاهد ولا يدور المغزل إلا بالفلكه ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل ولا يدور الحسبان إلا بالرحى ولا يدور الرحى إلا بالحسبان قال فكذلك النجوم والشمس والقمر هي في فلك لا يدمن إلا به ولا يدوم إلا بهن قال فنقر بأصبعه قال فقال مجاهد يدمن كذلك كما نقر قال فالحسبان والفلك يصيران الى شئ واحد غير ان الحسبان في الرحى والفلك في المغزل كل ذلك عن مجاهد

قلت قوله لا يدوم إلا به أي لا يدور إلا به ومنه الدوامة بالضم والتشديد وهي فلكة يرميها الصبي بخيط فتدوم على الارض أي تدور ومنه تدويم الطير وهو تحليقه وهو دورانه في طيرانه ليرتفع الى السماء وقوله نقر بأصبعه يعنى نقر بها من الارض وأدارها ليشبه بذلك دوران الفلك

وقال ابن ابي حاتم قرى على يونس بن عبد الاعلى ثنا ابن وهب ثنا السري ابن يحيى قال سأل رجل الحسن البصري عن قوله كل في فلك يسبحون قال يعنى استدارتهم

وقال بندة ثنا أبي ثنا عبيد الله بن عائشة ثنا عبدالواحد بن زياد ثنا ابو روق سمعت الضحاك في قوله كل في فلك يسبحون قال يدور ويذهب

ثنا ابي ثنا مسروق بن المرزبان ثنا يحي بن ابي زائدة ثنا ورقاء عن ابن ابي نجيح عن مجاهد كل في فلك يسبحون قال الفلك كحديدة الرحى يعنى قطب كحديدة الرحى وهو قطب الرحى وهو السفود القائم الذي يسمى أيضا حسبانا

ثنا بن على الحسين بن حنيد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا مروان بن معاوية عن جويبر عن الضحاك في فلك يسبحون قال الفلك السرعة والجري في الاستدارة ويسبحون يعملون يريد أن لفظ الفلك يدل على الاستدارة وعلى سرعة الحركة كما في دوران فلكة المغزل ودوران الرحى

وقال ثنا أبي ثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله في فلك يقول دوران وقوله يسبحون يعني يجرون

وعن إياس بن معاوية قال السماء على الأرض مثل القبة

وقد بسط القول في ذلك بدلائله من الكتاب والسنة في غير هذا الموضع

ولفظ الفلك في لغة العرب يدل على الاستدارة قال الجوهري فلكة المغزل سميت بذلك لاستدارتها والفلكة قطعة من الأرض أو الرمل تستدير وترتفع على ما حولها والجمع فلك وقال ومنه قيل فلك ثدى الجارية تفليكا وتفلك استدار قلت والسباحة تتضمن الجري بسرعة كما ذكر ذلك أهل اللغة

العلم بالهلال

وكذلك أيضا الهلال فان الشارع جعله معلقا بالرؤية فقال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وقال إنا أمة أمية لانكتب ولا نحسب إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا وقال صوموا من الوضح الى الوضح

والعارفون بالحساب لا يتنازعون في ان الهلال لا يمكن ضبط وقت طلوعه بالحساب فانهم وإن عرفوا أن نور القمر مستفاد من الشمس وعرفوا انه إذا اجتمع القرصان عند الاستسرار لا يرى له ضوء فاذا فارق الشمس صار فيه النور فهم أكثر ما يمكنهم ان يضبطوا بالحساب كم بعده عند غروب الشمس عن الشمس هذا إذا قدر صحة تقويم الحساب وتعديله فانهم يسمونه علم التقويم والتعديل لانهم يأخذون اعلى مسير الكواكب وادناه فيأخذون معدله فيحسبونه

فاذا قدر انهم حزروا ارتفاعه عند مغيب الشمس لم يكن في هذا ما يدل على ثبوت الرؤية ولا انتفائها لان الرؤية امر حسى لها اسباب متعددة من صفاء الهواء وكدره وارتفاع المنظر وانخفاضه وحدة البصر وكلاله فمن الناس من لا يراه ويراه من هو أحد بصرا منه ويرى من مكان عال ولا يرى من منخفض ويكون الجو صافيا فيرى ويكون كدرا فلا يرى

فلما كانت اسباب الرؤية لا تنضبط بالحساب لم تمكن معرفة وقت الرؤية بالحساب ولهذا كان قدماء علماء الهيئة كبطلميوس صاحب المجسطي وغيره لم يتكلموا في ذلك بحرف وإنما تكلم فيه بعض المتأخرين مثل كوشيار الديلمي ونحوه لما رأوا الشريعة قد جاءت باعتبار الرؤية احبوا ان يعرفوا ذلك بالحساب فضلوا وأضلوا

ومن قال إنه لا يرى على اثنتي عشرة درجة أو عشر او نحو ذلك فقد أخطأ فان من الناس من يراه على أقل من ذلك ومنهم من لا يراه على ذلك بل قد يراه نصف النهار إذا فارق الشمس أدنى مفارقة فلا للعقل اعتبروا ولا للشرع عرفوا ولهذا انكر عليهم ذلك حذاق ضاعتهم

العلم بطلوع الفجر

وهكذا امر الفجر فان الزمان يوم واسبوع وشهر وعام فأما اليوم فيعلم بالحس والمشاهدة وكذلك الشهر والعام يعرف بالعدد في القمرية وبالرؤية في الشمسية قال تعالى ولبثوا في كهفهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا (الكهف) كانت ثلثمائة شمسية وثلثمائة وتسع هلالية

وأما الاسبوع فليس له حد يعرف بالحس والعقل وإنما عرف باخبار الانبياء ان الله خلق هذا العالم في ستة ايام ثم استوى على العرش ولهذا شرع الله لاهل الملل ان يجتمعوا في الاسبوع يوما لعبادة الله وحده ويكون ذلك سببا لحفظ الاسبوع الذي به يعلم ان الله خلق هذا العالم في ستة ايام ولهذا لا توجد اسماء الاسبوع في لغة من لا يعرفون شرائع الانبياء كالمشركين من الترك وغيرهم فانهم لا يعرفونه والعادة تتبع التصور فمن لم يتصور شيئا لم يعرفه

واليوم يعرف بطلوع الفجر وهو النور الذي يظهر من جهة المشرق وهو أول نور الشمس المتصل الذي لا ينقطع بخلاف الفجر الاول فانه يأتي بعده ظلمة والاعتبار في الشرع في الصلوة والصيام وغير ذلك بالثاني ويعرف بالحس والمشاهدة كما يعرف الهلال ويعرف بالقياس على ما قرب منه تقريبا إذا عرف عند طلوعه مواضع الكواكب من السماء فيستدل في اليوم الثاني بذلك على وقت طلوعه

وأما تقدير حصة الفجر بأمر محدود من حركة الفلك مساو لحصة العشاء كما فعله طائفة من الموقتين فغلطوا في ذلك كما غلط من قدر قوس الرؤية تقديرا مطلقا وذلك لان الفجر نور الشمس وهو شعاعها المنعكس الذي يكون من الهواء والارض وهذا يختلف باختلاف مطارحة التي ينعكس عليها فاذا كان الجو صافيا من الغيوم لم يظهر فيه النور كما يظهر اذا كان فيه بخار فان البخار لغلظه وكثافته ينعكس عليه الشعاع ما لا ينعكس على الهواء الرقيق الا ترى ان الشمس اذا طلعت انما يظر شعاعها على الارض والجبال ونحو ذلك من الاجسام الكثيفة وان كانت صقيلة كالمراة والماء كان اظهر واما الهواء فانه وان استنار بها فان الشعاع لا يقف فيه بل يخرقه الى ان يصل الى جسم كثيف فينعكس

ففي الشتاء تكون الابخرة في الليل كثيرة لكثرة ما يتصعد من الارض بسبب رطوبتها ولا يحلل البخار فيها فينعكس الشعاع عليه فيظهر الفجر حينئذ قبل ما يظهر لو لم يكن بخار واما الصيف فان الشمس بالنهار تحلل البخار فاذا غربت الشمس لم يكن للشعاع التابع لها بخار يرده فتطول في الصيف حصة العشاء بهذا السبب وتطول في الشتاء حصة الفجر بهذا السبب وفي الصيف تقصر حصة الفجر لتأخر ظهور الشعاع اذ لا بخار يرده لان الرطوبات في الصيف قليلة وتقصر حصة العشاء في نهار الشتاء لكثرة الابخرة في الشتاء فحاصلة ان كلا من الحصتين تتبع ما قبلها في الطول والقصر بسبب البخار لا بسبب فلكي

والذين ظنوا ان ذلك يكون عن حركة الفلك قدروه بذلك فغلطوا في تقديرهم وصاروا يقولون حصة الفجر في الشتاء اقصر منها في الصيف وحصة العشاء في الصيف اقصر منها في الشتاء فان هذه جزء من الليل وهذه جزء من النهار فتتبعه في قدره ولم يعرفوا الفرق بين طلوع الشمس وغروبها وبين طلوع شعاعها فان الشمس تتحرك في الفلك فحركتها تابعة للفلك والشعاع هو بحسب ما يحمله وينعكس عليه من الهواء الابخرة وهذا امر له سبب ارضي ليس مثل حركة الفلك

ولهذا كان ما قالوه بالقياس الفاسد امرا يخالقه الحس ويعرف كذب ما قالوه باتفاق طوائف بني ادم فالذي يعرف بالحس والعقل الصريح لا يخالفه شرع ولا عقل ولا حس فان الادلة الصادقة لا تتعارض مدلولاتها ولكن ما يقال بقياس فاسد وظن فاسد يقع فيه الاختلاف

كون عدد الافلاك تسعة ليس عليه دليل

وعدد الافلاك وكونها تسعة ليس امرا معلوما ولا قام دليل على انه ليس وراء التسعة شيء بل صرح ائمتهم بأنه يجوز ان تكون اشياء اخر وهذه التسعة انما اثبتوها بما راوه من اختلاف حركات الكواكب وكذلك اثبتوا لكل كوكب من الخمسة المتحيزة عددا من الافلاك بسبب اختلاف حركاته وعرفوا ارتفاع بعضها فوق بعض بكسوف الاسفل للاعلى وبينهم اختلاف كثير يطول وصفه في الامور الفلكية التي لا تعرف بالحس وكثير مما يقولونه في ذلك لا يقوم عليه دليل

ولهذا لما اخبرت الانبياء بعرش الرب وكرسيه ظن بعضهم ان الكرسي هو الفلك الثامن والعرش هو الفلك التاسع وهذا القول مع انه لا دليل عليه اصلا فهو باطل من وجوه كثيرة قد بينا بعضها في مسئلة الاحاطة

وجمهورهم يقولون بحدوث هذا العالم وانما عرف القول بقدمه من ارسطو ومتبعيه وقد رايت كلام ارسطو في ذلك في مقالة اللام وهي اخر العلم الالهي ومنتهى فلسفته وتكلمنا على ما ذكره هو وغيره من الفلاسفة وبينا ان ما قاله خالف فيه جمهور الفلاسفة واساطينهم وليس معه قط دليل يدل على قدم شيء من العالم وانما تدل على دوام الفاعلية وتوابع ذلك

وقد بسطنا الكلام على ذلك في الكلام على هذا الاصل وما اضطربوا فيه وهم المبتدعون من المتكلمين الذين يضيفون الى الشريعة ما لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله احد من سلف الامة ولا ائمتها فيجمعون في كلامهم بين حق وباطل والمتفلسفة في كلامهم حق وباطل وكلا الطائفتين لا يوافق ما دل عليه العقل الصريح المطابق لما جاءت به الرسل

اختلافهم في مدة بقاء العالم

ثم الجمهور منهم القائلون بحدوث هذا العالم تكلم منهم طوائف في بقائه وفي وقت فنائه من الروم والهند وغيرهم لكن بلا دليل صحيح وسبب ذلك انهم لم يعرفوا للحوادث التي في هذا العالم سببا الا حركة الفلك وما يتجدد فيه من الاشكال واتصالات الكواكب فقاسوا بقاءه على ذلك فمنهم من قال يبقى اثني عشر الف سنة ومنهم من قال ستة وثلاثين الف سنة ومنهم من قال ثلثمائة الف وستون الف سنة ومنهم من قال ثمانية واربعين الف سنة او اربعة وعشرين الف سنة وكل ذلك قول بلا علم

فإن منشأ النزاع ان الثوابت كان المعروف عندهم انها تقطع الفلك كل مائة سنة درجة من درجات الفلك التي هي ثلثمائة وستون درجة فلما رصدوها زمن المأمون زعموا ان الصحيح انها تقطعها في ثلثي هذه المدة كل سنة وستين سنة وثلثي سنة والصواب ان الرصد الاول هو الصحيح وقد اعتبر ذلك بمواضع الكواكب التي ذكرها غير واحد من القدماء في كتبهم واصطرلاباتهم ومواضعها الان تدل على اعتبار ذلك على ان الرصد القديم هو الصحيح وانها تقطع الدرجة في مائة سنة

واذا ضرب ذلك في ثلثمائة وستين كان على القول الاول ستة وثلاثين الفا وعلى القول الثاني اربعة وعشرين الفا ومن قال ثلثمائة الف وستون الفا قال هذا دور في عشرة ادوار ومن قال اثنا عشر الف سنة جعل لكل برج الف سنة وليس معهم دليل يدل على ان هذه المدة هي مدة بقاء الفلك

والاصل الذي بنوا عليه فاسد وهو ظنهم ان الحوادث جميعها سببها حركات الفلك

تقابلهم لمنكري تأثير حركات الفلك في الحوادث مطلقا

وهذا الاصل قد تقابلوا فيه هم والمبتدعة من اهل الكلام فأولئك يقولون ليس لشيء من حركات الفلك تأثير في هذا العالم ولا شيء منها سبب في حدوث شيء

بل يطردون هذا في جميع الموجودات فلا يجعلون الله خلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا يجعلون للانسان قدرة تؤثر في مقدورها ولا لشيء من الاجسام طبيعة ولا غريزة بل يقولون فعل عنده لا به وخالفوا بذلك الكتاب والسنة واجماع السلف والائمة وصرائح العقول

فان الله تعالى يقول ان في خلق السموات والارض واختلف اليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل الله من السماء من ماء فأخيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايت لقوم يعقلون (البقرة) وقال تعالى وهو الذي يرسل الريح بشرا بين يدى رحمته حتى اذا أقلت سحابا ثقالا سقنه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (الأعراف) وقال ونزلنا من السماء ماء مبركا فانبتنا به جنت وحب الحصيد ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يذكر سبحانه انه فعل هذا بهذا كما ذكر انه انزل الماء بالسحاب وانه احيا الارض بالماء

والعلماء متفقون على اثبات حكمة الله في خلقه وامره واثبات الاسباب والقوى كما قد ذكرنا اقوالهم في موضعها وليس من السلف من انكر كون حركات الكواكب قد تكون من تمام اسباب الحوادث كما ان الله جعل هبوب الرياح ونور الشمس والقمر من اسباب الحوادث

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - انه قال ان الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا تنكسفان لموت احد ولا لحياته ولكنهما ايتان من ايات الله يخوف الله بهما عباده فاذا رايتموهما فافزعوا الى الصلوة

وامر رسول الله - عند الكسوف بالصلوة والذكر والدعاء والصدقة والعتاقة والاستغفار وكذلك عند سائر الايات التي يخوف الله بها عباده

وقوله لا تنكسفان لموت احد ولا لحياته رد لما كان قد توهمه بعض الناس من ان كسوف الشمس كان لاجل موت ابراهيم ابن النبي - وكان قد مات وكسفت الشمس فتوهم بعض الجهال من المسلمين ان الكسوف كان لاجل هذا فبين لهم النبي - ان الكسوف لا يكون سببه موت احد من اهل الارض ونفى بذلك ان يكون الكسوف معلولا عن ذلك وظنوا ان هذا من جنس اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ كما ثبت ذلك في الصحيح فنفى النبي - ذلك وبين ان ذلك من ايات الله التي يخوف بها عباده

والتخويف انما يكون بما يكون سببا للشر قال تعالى وما نرسل بالايت الا تخويفا فلو كان الكسوف وجوده كعدمه بالنسبة الى الحوادث لم يكن سببا لشر وهو خلاف نص الرسول

وايضا في السير ان النبي - نظر الى القمر وقال لعائشة يا عائشة تعوذي بالله من شر هذا فان هذا هو الغاسق اذا وقب والاستعاذة انما تكون مما يحدث عنه شر

وامر - عند انعقاد اسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئتة الله تعالى وقدرته من الصلوة والدعاء والذكر والاستغفار والتوبة والاحسان بالصدقة والعتاقة فان هذه الاعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه كما في الحديث ان الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والارض فيعتلجان

وهذا كما لو جاء عدو فانه يدفع بالدعاء وفعل الخير وبالجهاد له واذا هجم البرد يدفع باتخاذ الدفء فكذلك الاعمال الصالحة والدعاء

وهذا ما اتفق عليه الملل واساطين الفلاسفة حتى يذكر عن بطلميوس انه قال واعلم ان ضجيج الاصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات يحلل ما عقدته الافلاك الدائرات

وكسوف الشمس انما يكون وقت استسرار القمر اخر الشهر وخسوف القمر انما يكون ليالي الابدار الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر كما ان الهلال قد يكون ليلة الثلاثين او الحادي والثلاثين هذا الذي اجرى الله به عادته في حركات الشمس والقمر

وما ذكره بعض الفقهاء من تقدير اجتماع الكسوف وصلوة العيد فهذا لم يقله احد من الصحابة ولا ذكره اكثر العلماء لا احمد ولا غيره ولكن ذكره طائفة من الفقهاء من اصحاب الشافعي واحمد وغيرهما تبعا لما ذكره الشافعي وانه رضي الله عنه لما تكلم فيما اذا اجتمع صلوتان كيف يصنع وذكر انه يقدم ما يفوت على ما لا يفوت ذكر من جملة التقدير صلوة العيد والكسوف طردا للقاعدة مع اعراضه عن كون ذلك يقع او لا يقع كما يقدر الفقهاء مسائل كثيرة لطرد القياس مع اعراضهم عن وقوع ذلك في الوجود بل يقدرون ما يعلمون انه لا يقع عادة كعشرين جدة وفروع الوصايا فجاء بعض الفقهاء فأخذ يكابر ويقول ان هذا قد يقع

وذكروا عن الواقدي انه قال ابراهيم مات يوم العاشر وذلك اليوم كسفت الشمس وهذا كله باطل والواقدي ليس بحجة بالاجماع اذا اسند ما ينقله فكيف اذا كان مقطوعا وقول القائل انها كسفت يوم العاشر بمنزلة قوله طلع الهلال في عشرين من الشهر لكن هذه عادة ظاهرة يعرفها الناس كلهم وتلك عادة يعرفها من استقراها وعرف اسبابها ومجاري النيرين من الناس

التكلم بلا علم في الشرعيات وفي العقليات وضرره

فليس لاحد ان يتكلم بلا علم بل يحذر ممن يتكلم في الشرعيات بلا علم وفي العقليات بلا علم فان قوما ارادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة واقيستهم الفاسدة فكان ما فعلوه مما جرا الملحدين اعداء الدين عليه فلا للاسلام نصروا ولا لاعدائه كسروا

واقوام يدعون انهم يعرفون العلوم العقلية وانها قد تخالف الشريعة وهم من اجهل الناس بالعقليات والشرعيات واكثر ما عندهم من العقليات امور قلدوا من قالها لو سئلوا عن دليل عقلي يدل عليها لعجزوا عن بيانه والجواب عما يعارضه ثم من العجائب انهم يتركون اتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون الا الحق ويعرضون عن تقليدهم ثم يقلدون في مخالفة ما جاءوا به من يعلمون هم انه ليس بمعصوم وانه قد يخطىء تارة ويصيب اخرى

وهؤلاء عندهم امور معلومة من الحسابيات مثل وقت الكسوف والخسوف ومثل كرية الافلاك ووجود السحاب من البخاري ونحو ذلك من الامور الطبيعية والرياضية فيحتجون بها على من يظن انه من اهل الشرع فيسرع ذلك المنتسب الى الشرع برد ما يقولونه بجهله فيكون رد ما قالوه من الحق سببا لتنفيرهم عما جاء به الرسول من الحق بسبب مناظرة هذا الجاهل

والله تعالى امرنا ان لا نكذب ولا نكذب بحق وانما مدح سبحانه من يصدق فيتكلم بعلم ويصدق ما يقال له من الحق قال تعالى ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا او كذب بالحق لما جاءه اليس في جهنم مثوى للكفرين العنكبوت والذي جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون الزمر وهاتان صفتان لنوع واحد وهو من يجى بالصدق ويصدق بالحق اذا جاءه فهذا هو المحمود عند الله واما من كذب او كذب بما جاءه من الحق فذلك مذموم عند الله تعالى

وكذلك قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم أي لا تقل ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا الاسراء

وقال تعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والائم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون (الأعراف) وقال تعالى ان يتبعون الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا النجم ومثل هذا متعدد في كتاب الله تعالى

حقيقة ملائكة الله تعالى وعقول الفلاسفة

ثم ان حركات الافلاك وان كانت من جملة الاسباب فليس الحوادث كلها صادرة عن حركة الفلك بل فوق ذلك من مخلوقات الله امور اخر

وملائكة الله الذين يدبر بهم امر السماء والارض وهم المدبرات امرا والمقسمات امرا التي اقسم الله بها في كتابه ليست هي الكواكب عند احد من سلف الامة وليست الملائكة هي العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة المشاون اتباع ارسطو ونحوهم كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وبين خطأ من يظن ذلك ويجمع بين ما قالوه وبين ما جاءت به الرسل

ويقول ان قوله اول ما خلق الله العقل هو حجة لهم على العقل الاول ويسمونه القلم ليجعلوا ذلك مطابقا لقوله اول ما خلق الله القلم بسطنا الكلام على ذلك في نحو مجلد في الكلام على السبعينية وغيرها وذكرنا ان حديث العقل ضعيف باتفاق اهل المعرفة بالحديث كأبي حاتم بن حبان وابي جعفر العقيلي وابي الحسن الدار قطني وابي الفرج بن الجوزي وغيرهم بل هو موضوع عندهم

ومع هذا فلفظه اول ما خلق الله العقل قال له اقبل فأقبل فقال له ادبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا اكرم على منك فبك اخذ ربك اعطى وبك الثواب وبك العقاب فان كان الحديث صحيحا فهو حجة عليهم لان معناه انه خاطب العقل في اول اوقات خلقه بهذا الخطاب وفيه انه لم يخلق خلقا اكرم عليه منه فهذا يدل على انه خلق قبله غيره

وايضا فالعقل في لغة الرسول وأصحابه وامته عرض من الاعراض يكون مصدر عقل يعقل عقلا كما في قوله لعلهم يعقلون ولعلكم تعقلون ولهم قلوب لا يعقلون بها ونحو ذلك وقد يراد به الغريزة التي في الانسان قال احمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما ان العقل غريزة

والعقل في لغة فلاسفة اليونان جوهر قائم بنفسه فأين هذا من هذا ولهذا قال في الحديث فبك اخذ وبك اعطى وبك الثواب وبك العقاب وهذا يقال في عقل بني ادم

وهم يزعمون ان اول ما صدر عن رب العالمين جوهر قائم بنفسه وانه رب جميع العالم وان العقل العاشر هو رب كل ما تحت فلك القمر ومنه تنزلت الكتب على الانبياء

وعندهم ان الله لا يعرف عين موسى ولا عيسى ولا محمد ولا غير ذلك من جزئيات هذا العالم فضلا عن علمه بتفاصيل ما جرى يوم بدر ويوم احد ويوم الاحزاب وغير ذلك من الاحوال التي يذكرها الله في القران ويخبر بما كان ويكون من الامور المعينة الجزئية

ولهذا كان قولهم في النبوة انها مكتسبة وانها فيض يفيض على روح النبي اذا استعدت نفسه لذلك فمن راض نفسه حتى استعدت فاض ذلك عليه وان الملائكة هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية وكلام الله هو ما يسمعه في نفسه من الاصوات بمنزلة ما يراه النائم في منامه

ومن عرف ما اخبر الله به عن ملائكته جبريل وغيره في غير موضع علم ان هذا الذي قالوه اشد مخالفة لما جاءت به الرسل من اقوال الكفار المبدلين من اليهود والنصارى فان الله اخبر عن الملائكة لما جاءوا الى ابراهيم في صورة البشر اضيافا ثم ذهبوا الى لوط في غير موضع واخبر عن جبريل حين ذهب الى مريم وتمثل لها بشرا سويا ونفخ فيها

وكان جبريل يأتي النبي - في صورة دحية الكلبي غير مرة واتاه مرة في صورة اعرابي وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ان الحرث بن هشام قال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال يأتيني احيانا في مثل صلصلة الجرس وهو اشد على فيفصم عني وقد وعيت ما قال واحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعى ما يقول قالت عائشة لقد رايته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا

وقد قال تعالى انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين وما صاحبكم بمجنون ولقد راه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم التكوير واكثر القراء يقرءون بظنين يعني بمتهم وقد قرى بضنين أي ببخيل وزعم بعض المتفلسفة ان هذا هو العقل الفعال لانه دائم الفيض فيقال قد قال لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم والعقل الفعال لو قدر وجوده فلا تأثير له فيما ثم وانما تأثيره فيما تحت فلك القمر فكيف ولا حقيقة له

بل ما يدعونه من المجردات والمفارقات غير النفس الناطقة ك العقول والنفوس انما وجودها في الاذهان لا في الاعيان كما بسط الكلام عليها في الصفدية وغيرها فان ما يقولونه من العقليات في الطبيعيات غالبه صحيح وكذلك في الحساب المجرد حساب العدد والمقدار الكم والكيف فان هذا كله صحيح وانما يغلط الانسان فيه من نفسه


الرد على المنطقيين
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19