الرد على المنطقيين


كون لفظ التركيب مجملا يطلق على معان

وما فروا منه من التركيب قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع وبينا ان لفظ التركيب مجمل يراد به تركيب الجسم من اجزاء كانت متفرقة فاجتمعت كتركيب السكنجبين وغيره من الادوية بل ومن الاطعمة والاشربة والملابس والمساكن من اجزائها التي كانت متفرقة فألف بينها وركب بعضها مع بعض حتى صارت على الحال المركبة

وقد يراد بالمركب ما لا يمتزج فيه احد الاثنين بالاخر كما يقال ركب الباب في موضعه وركب المسمار في الباب وهذا التركيب اخص من الاول وهو المشهور من الكلام وقد قال تعالى في أي صورة ما شاء ركبك الانفطار ومعلوم ان عاقلا لا يقول ان الله تعالى مركب بهذا المعنى الاول ولا بالثاني

وقد يقال المركب على ما يمكن مفارقة بعض اجزائه لبعض كأخلاط الانسان واعضائه فانها وان لم يعقل انها كانت مفترقة فاجتمعت بل خلقه الله من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ولكن يمكن تفريق بعض اعضائه عن بعض ويعقل ايضا انه اذا مات استحال فصار بعضه ترابا وبعضه هواء فتفرقت اعضائه واخلاطه وكذلك سائر الحيوان والنبات ومعلوم ان عاقلا لا يقول ان هذا مركب بهذا الاعتبار

واما تسمية الواحد الموصوف بصفاته مركبا كتسمية الحي العالم القادر الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركبا فهذا اصطلاح لهم لا يعرف شيء من الشرائع ولا اللغات ولا عقول جماهير العقلاء جعلوا هذا تركيبا وان تسميته مركبا

فاذا قالوا نحن نسميه تركيبا لان فيه اثبات معان متعددة لذات واحدة ونحن نسمي ذلك تركيبا ونقيم الدليل العقلي على امتناعه قيل اذا كان الا كذلك فالنظر في المعاني المعقولة لا في الالفاظ السمعية ونحن لا نوافقكم على جعل الانسان مركبا من الحيوانية والناطقية ولا ان في الوجود شيئا مركبا من اجزاء عقلية بل المركب من الاجزاء العقلية انما يكون في الاذهان لا الاعيان وكل ما في الوجود من المركبات فانما هو مركب من اجزاء حسية موجودة في الخارج

والناس قد تنازعوا في الجسم هل هو مركب من اجزاء حسية وهو الجواهر المفردة او من اجزاء عقلية وهي المادة والصورة او لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة اقوال والصحيح عندنا القول الثالث ثم يليه قول من جعله مركبا من الاجزاء الحسية وافسد الثلاثة قول من جعله مركبا من الاجزاء العقلية كما قد بسط في موضعه

وحينئذ فمن قال ان الباري جسم وان الجسم مركب من الاجزاء الحسية او العقلية كان الاستدلال على بطلان هذا التركيب استدلالا مقبولا ممن يقوله فان مطلوبه صحيح لكن يبقى النظر هل يحسن هذا المستدل الإستدلال عليه او لا يحسنه

واما من قال انه ليس ب مركب لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وانما اسميه جسما او جوهرا لان الجسم و الجوهر عندي اسم لكل موجود قائم بنفسه فهذا النزاع معه في اسم الجسم والجوهر نزاع لفظي لا عقلي ولا شرعي فان الشرع لم ينطق بهذا الاسم لا نفيا ولا اثباتا والعقل انما ينظر في المعاني لا في مجرد اللفظ فالنظر مع هذا اما في اثبات كون الجسم مركبا احد التركيبين وهذا بحث عقلي معروف واما في كون لفظ الجسم في اللغة لكل مركب وهذا مركب وهذا بحث لغوي له موضع اخر

وهؤلاء ليس مقصودهم بنفي التركيب هذا المعنى فقط فان هذا يوافقهم عليه كثير من مثبتة الصفات لكن مقصودهم انه لا يتصف بصفة ثبوتية اصلا واخذوا لفظ التركيب الذي وافقتهم بعض اهل الكلام على نفي معناه وتوسعوا فيه حتى جعلوه اعم مما وافقهم عليه اولئك المتكلمون ونفوه وصاروا كالجهمية المحضة التي تنفي الاسماء والصفات او تثبتها على وجه المجاز

دليل نفاة الصفات والرد عليه

والمقصود هنا ان نقول قولهم الموصوف بالحياة والعلم والقدرة مركب من هذا وهذا يقال لهم سموا هذا تركيبا او تجسيما او ما شئتم من الاسماء فما الدليل على نفي هذا عقلا او سمعا قالوا الدليل على ذلك ان كل مركب مفتقر الى اجزائه وجزؤه غيره ف المركب مفتقر الى غيره والمفتقر الى غيره ليس واجبا بنفسه

فيقال اجزاء هذا الدليل والفاظه التي تسمونها حدودا كلها الفاظ مجملة تحتمل حقا وباطلا واستعمال الالفاظ المجملة في الحدود والقياس من باب السفسطة

فيقال لكم قد عرف ان لفظ المركب مجمل وان المراد به هنا ذات تقوم بها صفات وحينئذ فالمراد بالافتقار تلازم الذات والصفات بمعنى انه لا توجد الذات الا مع وجود صفتها الملازمة لها ولا توجد الصفة الا مع وجود الذات الملازمة لها ولو قدر انه اريد بالتركيب التركيب من الاجزاء الحسية او العقلية مع تلازم الاجزاء فهذا معناه

فاذا قيل كل مركب مفتقر الى جزئه ان عني به انه مستلزم لجزئه وانه لا يوجد الا بوجود جزئه فهذا صحيح فان وجود المجموع بدون كل من احاده ممتنع وان اريد انه يفتقر اليه افقار المفعول الى فاعله والمعلول الى علته الفاعلة او القابلة او الغائية او الصورية فهذا باطل فان الواحد من العشرة والجزء من الجملة لا يجوز ان يكون فاعلا ولا غاية ولا هي هو الصورة

ثم قولكم وجزؤه غيره يقال لفظ الغير يراد به ما كان مباينا للشيء وما يجوز مفارقته له وما ليس اياه فان اردتم ان جزء المجموع ما هو مباين له فهذا باطل فانه يمتنع ان يكون مباينا له مع كونه جزءا منه فيمتنع ان يكون غيرا له بهذا الاعتبار وان قلتم يجوز ان يفارقه فهذا ليس عام على الاطلاق بل يجوز في بعض الافراد ان يفارق غيره من الاجزاء ويفارق المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية ولا يلزم ذلك في كل مجموع لا سيما على اصلهم فان الفلك عندهم مركب من اجزائه وصفاته ولا يجوز عندهم على اجزائه التفرق

والمسلمون وجمهور العقلاء عندهم ان الله حي عليم قدير ولا يجوز ان يفارقه كونه حيا عالما قادرا بل لم يزل ولا يزال كذلك وكونه حيا عالما قادرا من لوازم ذاته وهي ملازمة لذاته لا يجوز عليه الافتراق بوجه من الوجوه فامتنع ان تكون صفاته هذه اغيارا بهذا الاعتبار

وان فسر الغيران بما ليس احدهما هو الاخر او بما يجوز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالاخر فلا ريب ان صفة الموصوف التي يمكن معرفتها بدونه غير له بهذا الاعتبار لكن اذا كانت تلك الصفة لازمة له وهو لازم لها لم يكن في ذلك ما يوجب ان يكون احدهما مفتقرا الى الاخر مفعولا للاخر ولا علة فاعلة ولا غائية ولا صورية اكثر ما في ذلك ان تكون الصفة مفتقرة الى الذات افتقار الحال الى محله القابل له وهم يسمون القابل علة قابلة لكن فيما يحدث لها من المقبولات لا فيما يكون لازما لها ازلا وابدا وان قدر انهم يسمون جميع ذلك علة ومعلولا فتكون الذات علة قابلة للصفة بهذا الاعتبار وكون الصفة معلولة هو معنى كونها صفة قائمة بالموصوف

مجموع الذات والصفة لا يفتقر الى العلل الاربع

ومع هذا فليس مجموع الذات والصفة مفتقرا الى شيء من انواع العلل الاربع لا الى الفاعل ولا الى الغاية ولا الى القابل ولا الى الصورة فبطل ان يقال المجموع مفتقر الى جزئه افتقار المعلول الى علته بوجه من الوجوه لكن غايته ان فيه افتقار الصفة الى الموصوف افتقار الحال اللازم لمحله الى محله المستلزم له فيقال لهم واي شيء في كونه موجودا بنفسه لا فاعل له ما يوجب نفي هذا التلازم الذي سموه افتقار نحو ذاته وصفاته

وقولهم ما افتقر الى غيره لم يكن واجبا بنفسه يقال لهم قد علم ان المراد بالافتقار التلازم والمراد بالغير ما هو داخل في المجموع اما الذات واما الصفات ليس المراد به ما هو مباين له وما يجوز مفارقته له وغايته ان يراد ان الصفة لا بد لها من الموصوف فليس المراد افتقار المعلول الى علته الفاعلة وحينئذ فليس في هذا التلازم الذي سميتموه افتقارا ولا في هذه الصفات التي سميتموها اغيارا ما يوجب ان يكون شيء من ذلك مفعولا لفاعل ولا لعلة فاعلة

وواجب الوجود الذي دلت الممكنات عليه هو الموجود بنفسه القائم بنفسه رب العالمين الذي لا يفتقر الى فاعل ولا علة فاعلة بل هو بنفسه وصفاته لا يفتقر الى شيء من العلل الاربع

كون صفاته تعالى واجبة الوجود

واما نفس صفاته فليس لها فاعل ولا علة فاعلة ولا علة غائية ولا صورية فهي واجبة الوجود اذا عنى بواجب الوجود احد هذه المعاني

وان عنى ب واجب الوجود ما هو اعم من ذلك حتى يدخل فيه ما ليس له محل يقوم به فليست واجبة الوجود بهذا التفسير بل هي ممكنة الوجود والذات مستلزمة لها وهي محل لها

واذا قيل فيلزم ان يكون الذات فاعلة وقابلة وذاك باطل قيل كلا المقدمتين ممنوعة فان كون الذات مستلزمة لصفتها القائمة بها لا يقتضى ان تكون فاعلة لها بل يمتنع ان تكون الذات فاعلة للصفة اللازمة في الممكن فكيف في رب العالمين بل يمتنع ان يكون الرب فاعلا لما هو لازم له وان كان بائنا عنه كالفلك فكيف يكون فاعلا لصفته اللازمة له وان قدر انهم سموا هذا الاستلزام فعلا وقالوا هي فاعلة بهذا الاعتبار قيل لهم فلا نسلم انه لا يجوز كون الشيء الواحد فاعلا وقابلا بهذا الاعتبار بل ولا باعتبار اخر

فان استدلوا على ذلك بحجتهم المعروفة المبينة على نفي التركيب فلا يمكنهم جعل ذلك مقدمة في نفس الدليل لان هذا مصادرة على المطلوب وهو جعل المطلوب مقدمة في اثبات نفسه بعبارة اخرى فانهم اذا نفوا التركيب عن الواجب بناء على مقدمات منها ان الواحد لا يكون فاعلا وقابلا واثبتوا هذه المقدمة بناء على نفي التركيب كانوا قد اثبتوا كلا من المقدمتين بالاخرى فلا تكون واحدة منهما ثابتة

والدليل الدال على اثبات واجب الوجود دل على اثبات فاعل مبدع ل الممكنات والمبدع لها يمتنع ان يكون صفة قائمة بغيره فان ذلك الموصوف هو الفاعل حينئذ دون مجرد الصفة وهذا الواجب الذي دلت عليه اياته ليس يفتقر الى علة من العلل الاربع مع اتصافه بصفاته اللازمة له

اذا جاز استلزام الذات للمفعولات فاستلزامها للصفات اولى

ومن اعظم تناقض هؤلاء انهم يقولون الذات اذا استلزمت الصفات كان ذلك افتقارا منها الى الغير فلا تكون واجبة وهم يقولون ان الذات مستلزمة لمفعولاتها المنفصلة عنها ولا يجعلون ذلك منافيا لوجوب وجودها بنفسها فان كان الاستلزام للمفعولات لا ينافي وجوب الوجود فالاستلزام للصفات اولى ان لا ينافيه

وان كان ذلك الاستلزام ينافي وجوب الوجود كان حينئذ قد عرض له ان يفعل بعد ان لم يكن فاعلا وهذا ممتنع عندهم وهذا اظهر المعقولات التي قهروا بها المتكلمين الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الاشعرية والكلابية واتباعهم ولم يميز الطائفتان بين فاعل النوع وفاعل العين

ثم إذا جاز ان يفعل ف الفعل ثبوتي فيلزم قيامه به ودعوى ان المفعول عين الفعل مكابرة للعقل واذا جاز قيام الفعل به كان قيام الصفات بطريق الاولى

فساد القول بأن المفعول عين الفعل

والذين جعلوا المفعول عين الفعل من اهل الكلام كالاشعرية ومن وافقهم من حنبلي وشافعي ومالكي وغيرهم انما الجاهم الى ذلك فرارهم من قيام الحوادث بالقديم وتسلسل الحوادث وهذان كل منهما غير ممتنع عند هؤلاء الفلاسفة مع ان اولئك المتكلمين النفاة حجتهم على النفي ضعيفة

وجماهير المسلمين وطوائفهم على خلاف ذلك والقول بأن الخلق غير المخلوق هو مذهب السلف قاطبة وذكر البخاري في كتاب خلق افعال العباد انه قول العلماء مطلقا بلا نزاع وهو قول ائمة الحديث وجمهورهم وقول اكثر طوائف الكلام كالهشامية والكلابية والكرامية وقول جمهور الفقهاء من اصحاب ابي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وقول الصوفية كما حكاه عنهم صاحب التعرف لمذهب التصوف وهو قول اهل السنة فيما حكاه البغوي صاحب شرح السنة

وحجة هؤلاء انه لو كان الخلق غير المخلوق لكان اما قديما واما حادثا فان كان قديما لزم قدم المخلوق فيلزم قدم العالم وان كان حادثا فانه يفتقر الى خلق اخر ويلزم التسلسل ويلزم ايضا كون الرب محلا للحوادث

فيقال لهم جميع هذه المقدمات مما ينازعكم الناس فيها ولا تقدرون على اثبات واحدة منها فقولكم لو كان قديما لزم قدم المخلوق يقول لكم من توافقونه على قدم الارادة نحن وانتم متفقون على قدم الارادة وان تأخر المراد فتأخر المخلوق عن الخلق كذلك او اولى وهذا جواب الحنفية والكرامية وكثير من الحنبلية والشافعية والمالكية والصوفية واهل الحديث لهم

واما قولهم ان كان محدثا افتقر الى خلق اخر فهذا ايضا ممنوع فانهم يسلمون ان المخلوقات محدثة منفصلة بدون حدوث خلق فاذا جاز هذا في الحادث المنفصل عن المحدث فلان يجوز حدوث الحادث المتصل به بدون خلق بطريق الاولى والاخرى

ولهذا كان كثير من هؤلاء او اكثرهم هم يقولون ان الخلق الذي قام به حادث لا محدث ويقولون ما قام به من الفعل حدث بنفس القدرة والارادة لا يفتقر الى خلق وانما يفتقر الى الخلق المخلوق والمخلوق ما كان منفصلا عنه وكثير منهم يسمونه محدثا ويقولون هو محدث ليس ب مخلوق فان المخلوق ما خلقه بائنا عنه واما نفس فعله وكلامه ورضاه وغضبه وفرحه الذي يقوم بذاته ب قدرته فانه وان كان حادثا ومحدثا فليس ب مخلوق وليس كل حادث ولا محدث مخلوقا عند هؤلاء

فان قيل النزاع في ذلك لفظي قيل هذا لا يضرهم فان من سمى ذلك القائم به مخلوقا قالوا له غايته ان المخلوق الذي هو نفس الخلق لا يفتقر الى خلق اخر ولا يلزم من ذلك ان المخلوق الذي ليس ب خلق لا يفتقر الى الخلق فان من المعقول ان المخلوق لا بد له من خلق واما الخلق نفسه اذا جوز وجود مخلوق بلا خلق فتجويز خلق بلا خلق اولى والمنازع لهم يجوز وجود كل مخلوق بلا خلق فاذا جوزوا هم نوعا منه بلا خلق كان ذلك اولى بالجواز والفرق بين نفس الخلق الذي به خلق المخلوق وبين المخلوق معقول

البحث في قيام الحوادث به تعالى

وكذلك احتجاجهم بامتناع حلول الحوادث لا ينفع الفلاسفة فان هذا انما نفوه لامتناع قيام الحادث بالقديم وهؤلاء الفلاسفة يجوزون قيام الحادث بالقديم ومن جوز قيام الصفات بالباري منهم جوز قيام الحوادث به مثل كثير من اساطينهم القدماء والمتأخرين كأبي البركات وغيره فهذان قولان معروفان لهم اما القول الثالث وهو تجويز الصفات دون الافعال فهذا لا اعرف به قائلا منهم فان كان قد قاله بعضهم فالكلام معه كالكلام مع من قال ذلك من اهل الكلام

وعلى هذا فلا يلزم التسلسل وان لزم فانما هو تسلسل في الاثار وهو وجود كلام بعد كلام او فعل بعد فعل والنزاع في هذا مشهور وانما يعرف نفيه عن الجهمية والقدرية ومن وافقهم من كلابي وكرامي ومن وافقهم من المتفقه واما ائمة السلف وائمة السنة فلا يمنعون هذا بل يجوزونه بل يوجبونه ويقولون ان الله لم يزل متكلما اذا شاء بل يقولون انه لم يزل فاعلا يقوم به الافعال الاختيارية بمشيئته وقدرته وهذا كله مبسوط في مواضعه

والمقصود هنا انه يلزم من كونه فاعلا قيام الصفات به فان الفعل امر وجودى وان يفعل من اقسام الوجود ووجود المخلوق المفعول بلا خلق ولا فعل ممتنع واذا قام الخلق به فالعلم والقدرة لازمة الخلق وقيامهما به اولى

وانهم ان قالوا يستلزم المفعول ولا يستلزم الصفة لكون الملزوم مفتقرا الى اللازم فهذا من اعظم التناقض وان قالوا انه لا يستلزمه كان ذلك ادل على بطلان قولهم في الصفات والافعال وكان الدليل يدل على قيام الافعال به والصفات وقيام الصفات به اولى من قيام الافعال فبطل ما نفوا به الصفات وسموه تركيبا

والواحد الذي قالوا انه لا يصدر عنه الا واحد هو الواحد المسلوب عنه الصفات كلها بل هو الوجود المقيد بكل سلب وهذا لا حقيقة له الا في الذهن واي موجود مخلوق قدر فهو اكمل من هذا الخيال الذي لا حقيقة له في الخارج

والتعظيم له انما نشأ من اعتقاد انه رب العالمين وانه واجب الوجود ونحو ذلك من الصفات التي تظهر كمالها واما من هذه الجهة النافية السلبية فما من وجود الا وهو اكمل منه واذا كانوا قد جمعوا بين وصفه بذلك الكمال وهذا النقصان الذي يكون كل موجود اكمل منه دل على تناقضهم وفساد قولهم وكان ما قالوه من الحق حقا وما قالوه من الباطل باطلا وهذه المسائل الالهية مبسوطة في موضعها

رد القول بأن قياس التمثيل لا يفيد الا الظن

والمقصود هنا الكلام على المنطق وما ذكروه من البرهان وانهم يعظمون قياس الشمول ويستخفون ب قياس التمثيل ويزعمون انه انما يفيد الظن وان العلم لا يحصل الا بذلك وليس الامر كذلك بل هما في الحقيقة من جنس واحد وقياس التمثيل الصحيح اولى بافادة المطلوب علما كان او ظنا من مجرد قياس الشمول ولهذا كان سائر العقلاء يستدلون ب قياس التمثيل اكثر مما يستدلون ب قياس الشمول بل لا يصح قياس الشمول في الامر العام الا بتوسط قياس التمثيل وكل ما يحتج به على صحة قياس الشمول في بعض الصور فانه يحتج به على صحة قياس التمثيل في تلك الصورة ومثلنا هذا بقولهم الواحد لا يصدر عنه الا واحد فانه من اشهر اقوالهم الالهية الفاسدة

واما الاقوال الصحيحة فهذا ايضا ظاهر فيها فان قياس الشمولي لا بد فيه من قضية كلية موجبة ولا نتاج عن سالبتين ولا عن جزئيتين باتفاقهم والكلي لا يكون كليا الا في الذهن فاذا عرف تحقق بعض افراده في الخارج كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليا موجبا فانه اذا احس الانسان ببعض الافراد الخارجية انتزع منه وصفا كليا لا سيما اذا كثرت افراده فالعلم بثبوت الوصف المشترك لاصل في الخارج هو اصل العلم بالقضية الكلية وحينئذ فالقياس التمثيلي اصل للقياس الشمولي اما ان يكون سببا في حصوله واما ان يقال لا يوجد بدونه فكيف يكون وحده اقوى منه

وهؤلاء يمثلون الكليات بمثل قول القائل الكل اعظم من الجزء و النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان والاشياء المساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وما من كلي من هذه الكليات الا وقد علم من افراده الخارجة امور كثيرة واذا اريد تحقق هذه الكلية في النفس ضرب لها المثل بفرد من افرادها وبين انتفاء الفارق بينه وبين غيره او ثبوت الجامع وحينئذ يحكم العقل بثبوت الحكم لذلك المشترك الكلي وهذا حقيقة قياس التمثيل

ولو قدرنا ان قياس الشمول لا يفتقر الى التمثيل وان العلم بالقضايا الكلية لا يفتقر الى العلم بمعين اصلا فلا يمكن ان يقال اذا علم الكلي مع العلم بثبوت بعض افراده في الخارج كان انقص من ان يعلمه بدون العلم بذالك المعين فان العلم بالمعين ما زاده الا كمالا فتبين ان ما نفوه من صورة القياس اكمل مما اثبتوه

ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل هو من كلام متأخريهم

واعلم انهم في المنطق الالهي بل والطبيعي غيروا بعض ما ذكره ارسطو لكن ما زادوه في الالهي خير من كلام ارسطو فاني قد رايت الكلامين وارسطو واتباعه في الالهيات اجهل من اليهود والنصارى بكثير كثير واما في الطبيعيات فغالب كلامه جيد واما المنطق فكلامه فيه خير من كلامه في الالهي

وما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل والاحتجاج عليه بما ذكروه هو من كلام متأخريهم لما راوا استعمال الفقهاء له غالبا والفقهاء يستعملونه كثيرا في المواد الظنية وهناك الظن حصل من المادة لا من صورة القياس فو صوروا تلك المادة ب قياس الشمول لم يفد ايضا الا الظن لكن هؤلاء ظنوا ان الضعف من جهة الصورة فجعلوا صورة قياسهم يقينيا وصورة قياس الفقهاء ظنيا

ومثلوه بأمثلة كلامية ليقرروا ان المتكلمين يحتجون علينا بالاقيسة الظنية كما مثلوه من الاحتجاج عليهم بأن الفلك جسم او مؤلف فكان محدثا قياسا على الانسان وغيره من المولدات ثم اخذوا يضعفون هذا القياس لكن انما ضعفوه بضعف مادته فان هذا الدليل الذي ذكره الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الاشعرية وغيرهم على حدوث الاجسام ادلة ضعيفة لاجل مادتها لا لكون صورتها ظنية ولهذا لا فرق بين ان يصوروها بصورة التمثيل او الشمول

والآمدى ونحوه ممن يصنف في الفلسفة ويكره التمثيل بمثل هذا لما فيه من التشنيع على المتكلمين فيمثل بمثال متفق عليه كقوله العالم موجود فكان قديما كالباري فان احدا من العقلاء لا يحتج على قدم العالم بكونه موجودا والا لزم قدم كل موجود وهذا لا يقوله عاقل

ابطال القول بأن الدوران والتقسيم لا يفيدان الا الظن

وما ذكروه من ان قياس التمثيل انما يثبت بالدوران او التقسيم وكلاهما لا يفيد الا الظن قول باطل ويلزمهم مثل ذلك في قياس الشمول

اما التقسيم فانهم يسلمون انه يفيد اليقين اذا كان حاصرا واذا كان كذلك فانه يمكن حصر المشترك في اقسام لا يزيد عليها وابطال التعليل بجميعها الا بواحد وان لم يمكن ذلك لم يمكن جعل ذلك المشترك حدا اوسط فلا يفيد اليقين ولو استعمل فيه قياس الشمول

جواب اعتراضهم على السبر والتقسيم بقولهم

واما قوله يجوز ان يكون الحكم ثابتا في الاصل لذات الاصل والا لزم التسلسل فنقول لا يلزم التسلسل الا اذا كان لا يثبت الا لخارج اما اذا كان تارة يثبت لخارج وتارة لغير خارج لم يلزم التسلسل وحينئذ فلا يمتنع ان تعلم ان الحكم في هذا الاصل المعين لم يثبت لما يختص به بل لوصف مشترك بينه وبين غيره

فائدتان في تعليل الحكم بعلة قاصرة

وهذا كما يقول الفقهاء ان الحكم يعلل تارة ب علة متعدية وتارة ب علة قاصرة والتعليل بالقاصرة اذا كانت منصوصة جائز باتفاق الفقهاء وانما تنازعوا فيما اذا كانت مستنبطة والاكثرون على جواز ذلك وهو الصحيح وهو مذهب مالك والشافعي واحمد بن حنبل في المنصوص عنه فانه دائما يعلل بالعلل القاصرة وهو اختيار ابي الخطاب وغيره من اصحابه

ولكن القاضي ابو يعلى وطائفه وافقوا اصحاب ابي حنيفة في منعهم التعليل بالقاصرة وهذا من كلام متأخريهم وسبب ذلك النزاع في مسئلة تعليل الربو في المذهب والفضة وامثالهما هل العلة فيه متعدية او قاصرة واما ابو حنيفة نفسه وصاحباه لم ينقل عنهم في ذلك شيء والذي يليق بعقلهم وفضلهم انهم لا يمنعون ذلك مطلقا كما لا يمتنع في المنصوصة

وفي ذلك فائدتان قصر الحكم على مورد النص ومنع الالحاق لئلا يظن الظان ان الحكم يثبت فيما سوى مورد النص كما يعلل تحريم الميته بعلة تمنع دخول المذكي فيها ويعلل تحريم الدم بعلة تمنع دخول العرق والريق وغيرهما فيها ويعلل اختصاص الهدى والاضحية ب(الأنعام) بعلة تمنع دخول غيرها فيها ويعلل وجوب الحد في الخمر بعلة تمنع دخول الدم والميتة فيها وامثال ذلك كثيرة بل من يقول ان جميع الاحكام يثبت بالنص يقول انها معللة ب علل قاصرة لكن انما يعلل بالعلة المتعدية نص يتناول بعض انواع الحكم فيعلل ذلك الحكم بعلة تتعدى الى سائر النوع الذي دل على ثبوت الحكم فيه نص اخر

والفائدة الثانية معرفة حكم الشرع وما اشتمل عليه من مصالح العباد في المعاش والمعاد فان ذلك مما يزيد به الايمان والعلم ويكون اعون على التصديق والطاعة واقطع لشبه اهل الالحاد والشناعة وانصر لقول من يقول ان الشرع جميعه انما شرع لحكمة ورحمة لم يشرع لا لحكمة ورحمة بل لمجرد قهر التعبد ومحض المشيئة

واذا كانت الاوصاف في الاصل قد تكون مختصة بذات الاصل وقد تكون مشتركة بينه وبين غيره خارجة عنه لم يلزم اذا كان هذا الاصل ثبت الحكم فيه لخارج مشترك ان يكون الحكم في كل اصل لخارج مشترك

جواب قولهم

قوله وان ثبت لخارج فمن الجائز ان يكون لغير ما ابدى وان لم يطلع عليه مع البحث عنه بخلاف الحسيات فيقال اما ان يكون التقسيم في العقليات قد يفيد اليقين واما ان لا يفيده بحال فان كان الاول بطل جعلهم الشرطى المنفصل من صور القياس والبرهان وان كان الثاني بطل كلامهم هذا ومعلوم ان هذا احق بالبطلان من ذاك فان القائل اذا قال الوجود اما ان يكون واجبا واما ان يكون ممكنا واما ان يكون قديما واما ان يكون حادثا واما ان يكون قائما بنفسه واما ان يكون قائما بغيره واما ان يكون مخلوقا واما ان يكون خالقا ونحو ذلك من التقسيم الحاصر لجنس الوجود كان هذا حصرا لكلي عقلي بل الوجود اعم الكليات واذا امكن العقل ان يحصر اقسامه فحصر اقسام بعض انواعه اولى وهم يسلمون هذا كله وهذا هو العلم الاعلى عندهم فكيف يقولون ان السبر والتقسيم لا يفيد اليقين

تمثيل التقسيم الحاصر في مسئلة الرؤية

ثم اذا اختلف الناس في ما يجوز رؤيته فقال بعضهم المصحح للرؤية امر لا يكون الا وجوديا محضا فما كان وجوده اكمل كان احق ان يرى وقال اخر بل المصحح لها ما يختص بالوجود الناقص الذي هو اولى بالعدم مثل كون كل الشيء محدثا مسبوقا بالعدم او ممكنا يقبل العدم كان قول من علل امكان الرؤية بما يشترك فيه القديم والحادث والواجب والممكن اولى من هذا فان الرؤية وجود محض وهي انما تتعلق بموجود لا بمعدوم فما كان اكمل وجودا بل كان وجوده واجبا فهو احق بها مما يلازمه العدم ولهذا يشترط فيها النور الذي هو بالوجود اولى من الظلمة والنور الاشد كالشمس لم يمتنع رؤيته لذاته بل لضعف الابصار فهذا يقتضى انا نعجز عن رؤية الله مع ضعف ابصارنا ولهذا لم يطق موسى رؤية الله في الدنيا لكن لا يمتنع ان تكون رؤيته ممكنه والله قادر على تقوية ابصارنا لنراه

واذا قيل هي مشروطة باللون و الجهة ونحو ذلك مما يمتنع على الله قيل له كل ما لا بد منه في الرؤية لا يمتنع في حق الله فاذا قال القائل لو رؤى للزم كذا واللازم منتف كانت احدى مقدمتيه كاذبة وهكذا كل ما اخبر به الصادق الذي اخبر بأن المؤمنين يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر كل ما اخبر به وظن الظان ان في العقل ما يناقضة لا بد ان يكون احدى مقدماته باطلة

فاذا قال لو رؤى لكان متحيزا او جسما او كان في جهة او كان ذا لون وذلك منتف عن الله قيل له جميع هذه الالفاظ مجملة لم يأت شرع بنفي مسماها حتى تنفى بالشرع وإنما ينفيها من ينفيها فيستفسر عن مراده إذ البحث في المعاني المعقولة لا في مجرد هذه الالفاظ

فيقال ما تريد بأن المرئي لا بد أن يكون متحيزا فان المتحيز في لغة العرب التي نزل بها القرآن يعنى به ما يحوزه غيره كما في قوله تعالى أو متحيزا الى فئة (الأنفال) فهذا تحيز موجود يحيط به موجود غيره الى موجودات تحيط به وسمى متحيزا لانه تحيز من هؤلاء الى هؤلاء والمتكلمون يريدون بالتحيز ما شغل الحيز والحيز عندهم تقدير مكان ليس أمرا موجودا فالعالم عندهم متحيز وليس في حيز وجودى والمكان عند أكثرهم وجودى

فاذا أريد بالمتحيز ما يكون في حيز وجودى منعت المقدمة الاولى وهو قوله كل مرئى متحيز فان سطح العالم يمكن أن يرى وليس في عالم آخر وإن قال بل أريد به لا بد أن يكون في حيز وإن كان عدميا قيل له العدم ليس بشئ فمن جعله في الحيز العدمى لم يجعله في شئ موجود ومعلوم انه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق فاذا كان الخالق بائنا عن المخلوقات كلها لم يكن في شئ موجود وإذا قيل هو في حيز معدوم كان حقيقته انه ليس في شئ فلم قلت إن هذا محال

وكذلك إذا قال يلزم ان يكون جسما ففيه إجمال التنبيه عليه

وكذلك إذا قال في جهة فان الجهة يراد بها شئ موجود وشئ معدوم فان شرط في المرئي ان يكون في جهة موجودة كان هذا باطلا برؤية سطح العالم وإن جعل العدم جهة قيل له إذا كان بائنا عن العالم ليس معه هناك غيره فليس في جهة وجودية وإذا سميت ما هنالك جهة وقلت هو في جهة على هذا التقدير منعت انتفاء اللازم وقيل لك العقل والسمع يدلان على ثبوت هذا اللازم لا على انتفائه

وهذا التقسيم مثلنا به في مسئلة الرؤية فانها من أشكل المسائل العلقية وأبعدها من قبول التقسيم المنحصر ومع هذا فان حصر الاقسام فيها ممكن فكيف يغيرها

وحيئنذ فاذا احتج عليها ب قياس التمثيل فقيل المخلوقات الموجودة يمكن رؤيتها فالخالق احق بامكان الرؤية لان المصحح للرؤية في المخلوقات امر مشترك بين الخالق والمخلوق لا يختص بالمخلوق وإذا كان المشترك مستلزما لصحة الرؤية ثبتت صحة الرؤية

ولا يجعل المشترك المصحح هو مجرد الوجود كما يسلكه الاشعري ومن اتبعه كالقاضي أبى بكر وطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كالقاضي ابى يعلى بل يجعله القيام بالنفس كما يسلكه ابن كلاب وغيره من مثبتي الرؤية من اصحاب احمد وغيرهم كأبي الحسن الزاغونى أو لا يعين المصحح بل يجعل قدرا مشتركا كالتقسيم الحاصر وهو أيضا يفيد اليقين كما قد بسط في موضعه

وإذا كانت مسئلة الرؤية والمصحح لها أمكن تقريره على هذا الوجه فكيف فيما هو أوضح منها إذا قيل الفاعل منا مريد وهو متصور لما يفعله فالخالق آولى أن يعلم ما خلق او قيل إذا كان الفعل الاختياري فينا مشروطا بالعلم فهو في حق الخالق أولى لأن ما به استلزمت الإرادة العلم إما أن يختص بالعبد أو يكون مشتركا والاول باطل فتعين الثاني لان استلزام الارادة العلم كمال للفاعل لا نقص فيه والواجب احق بالكمال الذي لا نقص فيه من الممكن المخلوق فاذا كان العبد يعلم ما يفعل فالباري آولى أن يعلم ما يفعل

وإذا قيل إذا كان الرب حيا امكن كونه سميعا بصيرا متكلما وما جاز له من الصفات وجب له لان ثبوت صفاته له لا تتوقف على غيره ولا يجعله غيره متصفا بصفات الكمال لان من جعل غيره كاملا فهو أحق بالكمال منه وغيره مخلوقه ويمتنع ان يكون مخلوقه اكمل منه بل ويمتنع ان يكون هو الذي اعطاه صفات الكمال لان ذلك يستلزم الدور القبلي او غير ذلك من الادلة التي بسطت في غير هذا الموضع

وهم في كلامهم في جنس القياس لم يتعرضوا لآحاد المسائل ونحن لا نحتاج الى ذلك لكن الغرض التمثيل لمسائل قد يشكل على كثير من الناس استعمال القياس فيها لأجل المادة فتبين أن لها مادة يمكن ان يستخرج منها أدلة تلك المطالب وتلك المادة تصور بصورة الشمول تارة وبصورة التمثيل أخرى لكن إذا صورت بصورة الشمول علم ان افرادها لا تتساوى وإذا صورت بصورة التمثيل علم أن الرب أحق بكل كمال لا نقص فيه ان يثبت له واحق بنفى كل نقص عنه من نفيه عن سائر الموجودات

جواب قولهم

وإن كان منحصرا فمن الجائز ان يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع

وأما قولهم إذا انحصرت الاقسام فمن الجائز ان يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع فيقال هذا ممكن في بعض الصور كالمسائل الظنية من الفقه او غيره إذا قيل خيار الامة المعتقة تحت العبد كقصة بريرة إما أن يكون ثبت لكونها كانت تحت ناقص وإما ان يكون لكونها ملكت نفسها أمكن أن يقال وإما أن يكون لمجموع الامرين

لكن تعليله بما يختص الاصل سواء كان هو المجموع او بعض منه إنما يمكن العلم بنفيه كما يمكن العلم بغيره من المنفيات كما إذا قيل الانسان إنما كان حساسا متحركا بالارادة لحيوانيته لا لانسانيته والحيوانية مشتركة بينه وبين الفرس وسائر الحيوان فيكون حساسا متحركا بالارادة فلا يمكن ان يدعى في مثل هذه ان المختص بالانسان هو علة كونه حساسا متحركا بالارادة بل العلة ليست إلا المشترك بينه وبين الحيوان

وكذلك إذا قيل القديم لا يجوز عدمه لان قدمه إما بنفسه أو بموجب يجب قدمه بنفسه وما كان قديما بنفسه كان موجودا بنفسه بالضرورة فان القدم أخص من الوجود فيلزم من ثبوته ثبوت الوجود فاذا قديما بنفسه فهو موجود بنفسه بالضرورة وما كان موجودا بنفسه فهو واجب بنفسه وإلا لافتقر الى فاعل فالقديم إما واجب بنفسه وإما لازم للواجب بنفسه وكلاهما ممتنع العدم لانه يستلزم عدم الواجب بنفسه ولو عدم لكان قابلا للعدم فلا يكون واجبا بنفسه ولهذا اتفق العقلاء على هذا وهو ان القديم إما موجود واجب بنفسه وإما لازم لما هو كذلك

فاذا قال القائل لو كانت الافلاك قديمة لامتنع عدمها لكن عدمها ممكن بالادلة الدالة عليه فلا تكون قديمة لم يجز ان يقال بل القديم لا يجوز عدمه لعلة مختصة بالقديم بنفسه دون ما كان معلولا لغيره فالافلاك وإن قيل هي قديمة فهى ممكنة العدم فان هذا باطل لما ذكرناه من ان المشترك بين الواجب بنفسه والواجب بغيره هو مستلزم لقدم المشترك بين القديم الموجود بنفسه والقديم الموجود بغيره فمن ادعى قديما موجودا بغيره وقال إنه مع هذا يمكن عدمه فقوله متناقض كما بسط في موضعه ولهذا لم يقل احد من العقلاء إنها قديمة يمكن عدمها الامكان المعروف وإنما ادعوا ان لها ماهية باعتبار نفسها فقيل الوجود والعدم ولكن وجب لها الوجود من غيرها

وقد تبين بطلان هذا في غير هذا الموضع وبين ان هذا قول مخالف لجميع العقلاء حتى ارسطو واتباعه لا يكون عندهم ممكنا الا المحدث الذي يمكن وجوده وعدمه او حتى هؤلاء الذين قالوا بأنها قديمة يمكن وجودها وعدمها كابن سينا واتباعه تناقضوا ووافقوا سلفهم وسائر العقلاء فذكروا في عدة مواضع ان الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون الا محدثا وان كل ما كان دائما لا يكون ممكنا واما القديم الذي لا يمكن عدمه فليس عندهم ممكنا وان كان وجوبه بغيره

وانما خالف في هذا طائفة من الفلاسفة كابن سينا وامثاله الذين ارادوا ان يجمعوا بين قول سلفهم وبين ما جاءت به الرسل مع دلالة العقول عليه فلم يمكنهم ذلك الا بما خالفوا به الرسل مع مخالفة العقول مع مخالفة سلفهم فيما اصابوا فيه وموافقتهم فيما اخطئوا فيه وكان كفرا في الملل ومع تناقضهم ومخالفة جميع العقلاء

واما قولهم ب ثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الاوصاف المقارنة له في الاصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز ان يكون الحكم في تلك معللا بعلة اخرى فيقال هذا غلط وذلك انه متى ثبت الحكم مع المشترك في صورة تمتنع ان تكون الاوصاف الزائدة المقارنة له في الاصل مؤثرة في الحكم مع تخلف غيره من الاوصاف فانها مختصة بالاصل فلو كانت مؤثرة لم يجز ان يوجد الحكم في غير الاصل وحينئذ فعدمها لا يؤثر والصورة الاخرى قد يثبت فيها وجود المشترك

واما امكان وجود وصف اخر مستقل بعلة فهذا لا بد من نفيه اما بدليل قاطع او ظاهر او بأن الاصل عدمه ويكون القياس حينئذ يقينيا او ظنيا

والكلام فيما اذا حصرت اقسام العلة ونفي التعليل عن كل منها الا واحد والنفي قد يكون لنفي التعليل بها من الاصل وقد يكون لنفي التعليل مطلقا فالاول يحتاج معه الى الثاني في تلك الصورة وأما الثاني فهو يتناول النفي في تلك الصورة وغيرها

وقولهم وإن كان لا علة له سواه فجائز ان يكون علة لخصوصه لا لعمومه فيقال هذا هو في معنى السؤال الاول وهو ان يكون الحكم ثبت لذات المحل لا لامر منفصل وهو التعليل بالعلة القاصرة الواقفة على مورد النص

وأما قولهم إن بين أن ذلك الوصف يستلزم الحكم وأن الحكم لازم لعموم ذاته فمع بعده يستغنى عن التمثيل فيقال لا بعد في ذلك بل كلما دل عل ان الحد الاوسط يستلزم الاكبر فانه يستدل به على جعل ذلك الحد وصفا مشتركا بين أصل وفرع ويلزمه الحكم

وأما قوله إنه يستغنى عن التمثيل فيقال نعم والتمثيل في مثل هذا يذكر للايضاح وليتصور للفرع نظير لان الكلى إنما وجوده كلى في الذهن لا في الخارج فاذا عرف تحققه في الخارج كان أيسر لوجود نظيره ولان المثال قد يكون ميسرا لاثبات التعليل بل قد لا يمكن بدونه وسائر ما تثبت به العلة من الدوران والمناسبة وغير ذلك إذا اخذ معه السبر والتقسيم أمكن كون القياس قطعيا

وأيضا فقد يكون قياس التمثيل يقينيا في كذا فان الجمع بين الاصل والفرع كما يكون بابداء الجامع يكون بالغاء الفارق وهو ان يعلم ان هذا مثل هذا لا يفترقان في مثل هذا الحكم ومساوى المساوى مساو والعلم بالمساواة والمماثلة مما قد يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع فاذا علم حكم أحد المتماثلين علم ان الاخر مثله لا سيما إذا كان الكلام فيما تجرد من المعقولات مثل القول بأن شيئا من السواد عرض مفتقر الى المحل فيقال سائر أفراد السواد كذلك بل ويقال وسائر الالوان كذلك وكذلك إن قيل إن حركة الكواكب تحدث شيئا بعد شئ قيل وسائر الحركات كذلك

وبالجملة فقد بينا أن كل قياس لا بد فيه من قضية كلية إيجابية وبينا أن تلك القضية لا بد أن يعلم صدق كونها كلية وكل ما به يعلم ذلك به يعلم ان الحكم لازم لذلك الكلى المشترك فيمكن جعل ذلك الكلى المشترك هو الجامع بين الاصل والفرع فكل قياس شمول يمكن جعلة قياس تمثيل فاذا أفاد اليقين لم يزده التمثيل إلا قوة

إذا علمت إحدى المقدمتين بنص المعصوم فاستعمال الشمول اولى

وقياس التمثيل يمكن جعله قياس شمول لكن قد يكون بيان صحته محتاجا الى بيان إحدى مقدمتيه لا سيما الكبرى فانها هى في الغالب التي تحتاج الى البيان وإذا كان كذلك الاصل المقيس عليه أولا أسهل في البيان ف قياس التمثيل أعون على البيان إلا إذا كانت القضية الكلية معلومة بنص المعصوم فهنا يكون الاستدلال بها اولى من الاستدلال بقياس التمثيل لكن الدليل هنا يكون شرعيا لم تعلم إحدى مقدمتيه إلا بنص المعصوم أو الاجماع المعصوم لم تعلم بمجرد العقل وهم

والكلام مع من يجعل مواد البرهان القضايا الكلية المعلومة بدون قول المعصوم بل قد يسمون القياس المستدل على إحدى مقدماته بقول المعصوم من الخطابي والجدلى لانهم يجعلون تلك القضايا من المسلمات والمقبولات لا من البرهانيات اليقينيات

وهذا ايضا من ضلالهم فان القضية اليقينية ما علم انها حق علما يقينيا فاذا علم بدليل قطعي أن المعصوم لا يقول إلا حقا وعلم بالضرورة أنه قضى بهذه القضية الكلية كما قضى ب ان الله بكل شئ عليم وأن الله خالق كل شيء وانه لا نبي بعده ونحو ذلك من القضايا الخبرية التي علم بالضرورة ان المعصوم أخبر بها عامة كلية كان هذا من أحسن الطرق في حصول اليقين وهذا الطريق لا يدخل في قياسهم البرهاني ولكن هذا لما كان مبنيا على مقدمات سمعية لم نقررها في هذا الموضع لم نحتج به عليهم بل احتججنا عليهم بما يسلمونه

وما بيناه بمجرد العقل من ان قولهم العلوم الكسبية لا تحصل إلا بقياسهم البرهاني قول باطل بل هو من ابطل الاباطيل

هذا في جانب النفي

المقام الرابع: المقام الايجابي في الاقيسة والتصديقاتفي قولهم إن القياس يفيد العلم بالتصديقات

فصل

وأما المقام الثاني وهو المقام الرابع من المقامات الاربعة المذكورة أولا وهو أدق المقامات تبصرة على ما تقدم من المقامات

فان ما نبهنا عليه خطأهم في منع إمكان التصور إلا بالحد بل ومن نفى دعوى حصول التصور بالحد وبقى انحصار التصديق فيما ذكروه من والقياس مدركه قريب والعلم به ظاهر وخطأ المنطقيين فيه واضح بأدنى تدبر وإنما يلبسون على الناس بالتهويل والتطويل

المقامان الاول والثاني

وأظهرها خطأ دعواهم ان التصورات المطلوبة لا تحصل إلا بما ذكروه من الحد ثم أن مجرد الحد يفيد تصور الحقائق الثابتة في الخارج بمجرد قول الحاد سواء جعل الحد هو الجملة التامة الخبرية التي يسمونها القضية والتقييد الجزئي او جعل الحد هو خبر المبتدأ المفرد وإن كان له صفات تقيده وتميزه

فإنه إذا قال ما الانسان فقيل الحيوان الناطق أو قيل الانسان الحيوان الناطق فقد يقال الحد هو قولك الانسان هو الحيوان الناطق وقد يقال بل الحد الحيوان الناطق وهذا في حكم المفرد وليس هذا كلاما تاما يحسن السكوت عليه إن لم يقدر له مبتدأ يكون خبرا عنه أو جعل مبتدأ خبر محذوف ومن جعل هذا وحده هو الحد وجعله بمجرده يفيد تصور الحقيقة فقوله أبعد عن الصواب

المقام الثالث

وبعد ذلك قولهم إن شيئا من التصديقات المطلوبة لا ينال إلا بما ذكروه من القياس فان هذا النفي العام امر لا سبيل الى العلم به ولا يقوم عليه دليل أصلا وقد اشرنا الى فساد ما ذكروه مع انه معلوم البطلان بما يحصل من التصديقات المطلوبة بدون ما ذكروه من القياس كما يحصل تصورات مطلوبة بدون ما يذكرونه من الحد

بخلاف هذا المقام الرابع فان كون القياس المؤلف من مقدمتين يفيد النتيجة هو امر صحيح في نفسه

كون القياس المنطقي عديم التأثير في العلم

لكن الذي بينه نظار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب الى أرسطو صاحب التعاليم أن ما ذكروه من صور القياس ومواده مع كثرة التعب العظيم ليس فيه فائدة علمية بل كل ما يمكن علمه ب قياسهم المنطقي يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي وما لا يمكن علمه بدون قياسهم لا يمكن علمه ب قياسهم فلم يكن في قياسهم لا تحصيل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه ولا حاجة به الى ما يمكن العلم به بدونه فصار عديم التأثير في العلم وجودا وعدما ولكن فيه تطويل كثير متعب فهو مع انه لا ينفع في العلم فيه إتعاب الاذهان وتصنييع الزمان وكثرة الهذيان

والمطلوب من الادلة والبراهين بيان العلم وبيان الطرق المؤدية الى العلم وقالوا يعنى نظار المسلمين هذا لا يفيد هذا المطلوب بل قد يكون من الاسباب المعوقة له لما فيه من كثرة تعب الذهن كمن يريد أن يسلك الطريق ليذهب الى مكة أو غيرها من البلاد فاذا سلك الطريق المستقيم المعروف وصل في مدة قريبة بسعى معتدل وإذا قيض له من يسلك به التعاسيف والعسف في اللغة الاخذ عل غير طريق بحيث يدور به طرقا دائرة ويسلك به مسالك منحرفة فانه يتعب تعبا كثيرا حتى يصل الى الطريق المستقيمة إن وصل وإلا فقد يصل الى غير المطلوب فيعتقد اعتقادات فاسدة وقد يعجز بسبب ما يحصل له من التعب والاعياء فلا هو نال مطوبه ولا هو استراح هذا إذا بقى في الجهل البسيط وهكذا هؤلاء

ولهذا حكى من كان حاضرا عند موت إمام المنطقيين في زمانه الخونجي صاحب الموجز وكشف الاسرار وغيرهما انه قال عند موته اموت وما علمت شيئا إلا علمى بأن الممكن يفتقر الى الواجب ثم قال الافتقار وصف سلبي اموت وما علمت شيئا

فهذا حالهم إذا كان منتهى احدهم الجهل البسيط وأما من كان منتهاه الجهل المركب فكثير والواصل منهم الى علم يشبهونه بمن قيل له أين أذنك فأدار يده فوق رأسه ومدها إلى أذنه بكلفة وقد كان يمكنه أن يوصلها الى أذنه من تحت رأسه فهو أسهل وأقرب

استعمال طرق غير الفطرية تعذيب للنفوس بلا منفعة

والامور الفطرية متى جعل لها طرق غير الفطرية كانت تعذيبا للنفوس بلا منفعة لها كما لو قيل لرجل اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية فان هذا ممكن بلا كلفة فلو قال له قائل اصبر فانه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدها وتميز بينها وبين الضرب فان القسمة عكس الضرب فان الضرب هو تضعيف آحاد العددين بآحاد العدد الآخر والقسمة توزيع آحاد أحد العددين على آحاد العدد الاخر ولهذا إذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه عاد المقسوم وإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد المضروبين خرج المضروب الاخر ثم يقال ما ذكرته في حد الضرب لا يصح فانه إنما يتناول ضرب العدد الصحيح لا يتناول ضرب المكسور بل الحد الجامع لهما أن يقال الضرب طلب جملة تكون نسبتها الى احد المضروبين كنسبة الواحد الى المضروب الاخر فاذا قيل اضرب النصف في الربع فالخارج هو الثمن ونسبته الى الربع كنسبة النصف الى الواحد

فهذا وإن كان كلاما صحيحا لكن من المعلوم أن من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه حتى يتصور هذا كله كان هذا تعذيبا له بلا فائدة وقد لا يفهم هذا الكلام وقد يعرض له فيه إشكالات


الرد على المنطقيين
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19