الرد على المنطقيين


فصل برهان اخر للرازي على هذا التفريق

ثم ذكر برهانا اخر على ما ادعاه من ان ما كان لزومه بغير وسط كان بينا فقال برهان اخر وهو انا اذا عقلنا ماهية فانه تبقى بعض لوازمها مجهولة ويمكننا تعرف تلك اللوازم المجهولة فلو لا وجود لوازم بينه الثبوت للشيء والا لزم التسلسل واما عدم تعرف تلك اللوازم وكلاهما باطلان

قال وهذا البرهان كاف في اثبات اصل المقصود من ان الصفات اللازمة في نفسها يلزم بعضها بوسط في نفس الامر وبعضها بغير وسط وانما يدل هذا على ان الانسان قد يتبين له لزوم بعض اللوازم بلا دليل وبعضها لا يتبين الا بدليل

وهذا لا ريب فيه لكن الدليل كل ما كان مستلزما للمدلول لا يختص بما يكون علة للمدلول ولا بعض اللوازم في نفس الامر علة لبعض ولا كل ما كان بينا لزيد يجب ان يكون بينا لعمرو

فتبين ان الفرق الذي ذكره بين الاوليات والمشهورات من ان الاولى هو الذي يكون حمله على موضوعه اولا في الوجودين حملا ثانيا غلط لا يستقيم الا في الوجود الخارجي فانه ليس في اللوازم ترتيب حتى يكون بعضها اولا وبعضها ثانيا ولا في الذهن فان الوسط انما هو الدليل فيعود الفرق الى ان الاوليات ما لا يفتقر الى دليل والنظريات ما يفتقر الى دليل وهذا كلام صحيح متفق عليه لا يحتاج الى ما ذكروه ولكن هذا يوجب كون القضية اولية ونظرية هو من الامور الاضافية فقد تكون بديهية لزيد نظرية لعمرو باعتبار تمام التصور فمتى تصور الشيء تصورا اتم من تصور غيره تصور من لوازمه ما لم يتصوره ذو التصور الناقص فلم يحتج في معرفته بتلك اللوازم الى وسط واحتاج صاحب التصور الناقص الى وسط وايضا فهذا لا يوجب كون المشهورات ليست يقينية كما سنذكره ان شاء الله

رد ابن سينا تفريقهم بين الصفات الذاتية واللازمة

ولفظ ابن سينا في اشاراته قال واما اللازم غير المقوم يخص باسم اللازم فان كان المقوم ايضا لازما فهو الذي يصحب الماهية ولا يكون جزءا منها مثل كون المثلث مساوي الزوايا القائمتين

قال وامثال هذا ان كان لزومها بغير وسط كانت معلومة واجبة اللزوم وكانت ممتنعة الرفع من الوهم مع كونها غير مقومة وان كان لها وسط بين يبين به علمت واجبة به

قال واعني بالوسط ما يقرن بقولنا لانه كذا وهذا الوسط ان كان مقوما للشيء لم يكن اللازم مقوما له لان مقوم المقوم مقوم بل كان لازما له ايضا فان احتاج الى وسط تسلسل الى غير نهاية فلم يكن وسطا وان لم يحتج فهناك لازم بين اللزوم بلا وسط وان كان الوسط لازما متقدما واحتاج الى توسط لازم اخر او مقوم غير منته من ذلك الى لازم بلا وسط تسلسل الى غير النهاية فلا بد في كل حال من لازم بغير وسط وقد بان انه ممتنع الرفع في الوهم فلا يلتفت اذا الى ما يقال ان كل ما ليس بمقوم فقد يصح رفعه من الوهم ومن امثلة كون كل عدد مساويا للاخر او مفاوتا

قلت مقصوده بهذا الرد على من قال من المنطقيين ان الفرق بين الصفة الذاتية والعرضية اللازمة ان ما ليس بذاتي يمكن رفعه في الوهم فيمكن تصور الموصوف بدون تصوره بخلاف الذاتي فتبين ان اللوازم لا بد ان تنتهي الى لازم بين لا يفتقر الى وسط وذاك يمتنع رفعه في الوهم اذا تصور الموصوف وهذا الذي قاله جيد وهو يبطل الفرق الذي هو عمدتهم

ولهم فرق ثان بأن الذاتي ما لا يفتقر الى علة واللازم ما يفتقر الى علة والعلة هي الوسط وهذا الفرق افسد من الذي قبله فان كون بعض الصفات اللازمة تفتقر الى علة دون بعض باطل ثم سواء قيل يفتقر الى علة او وسط وسواء جعل ذلك هو الدليل او هو ايضا علة لثبوته في الخارج فان من اللوازم ما لا يفتقر الى علة فبطل هذا الفرق الثاني

والفرق الثالث التقدم في الذهن او في الخارج وهو ان الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف الا بعد تصوره بخلاف اللازم العرضي فانه متصور بعد تصور الملزوم والذاتي هو المقوم وهذا الفرق ايضا فاسد فان الصفة لا تتقدم على الموصوف في الخارج اصلا واما في الذهن فقد تتصور الصفة والموصوف جميعا فلا يتقدم تصور الصفة وبتقدير التقدم فهذا يختلف باختلاف التصور التام والناقص لا باختلاف اللوازم نفسها

فعلى هذه الفروق الثلاثة او احدها يعتمدون حتى الذين صاروا يجعلون المنطق في اول اصول الفقه من المتأخرين هذا عمدتهم كما يذكر ذلك الامدي وابن الحاجب وغيرهما وكلها باطلة اما التقدم الخارجي فمن المعلوم بصريح العقل ان الصفة القائمة بالموصوف والعرض القائم بالجوهر لا يعقل تقدمه عليه بوجه من الوجوه بل اذا اعتبر تقدم عقلي او غيره فالذات متقدمة على الصفات

واما في التصور فالتصور مراتب متعددة يكون مجملا ومفصلا فالانسان قد يخطر له الانسان ولا يستحضر شيئا من صفاته فهذا تصوره تصورا مجملا وقد يخطر له مع ذلك انه ناطق كما قد يخطر له مع ذلك انه ضاحك واذا تصور الحيوان قد يخطر له انه حساس كما قد يخطر له انه متحرك بالارادة وكما يخطر له انه متألم او متلذذ وانه يحب ويبغض واذا تصور ان الانسان حيوان ناطق ولم يتصور الحيوان مفصلا لم يكن قد تصور الانسان مفصلا فما من صفة لازمة الا ويمكن وجودها في التصور المفصل وحذفها في التصور المجمل

وحينئذ فقول القائل ان الذاتي ما لا يتصور الموصوف الا بعد تصوره ان ادعاه في كل تصور فهذا باطل وهو ممن يسلم بطلانه فانه يقول قولك عن الانسان انه حيوان ناطق حمد تام يفيد تصور حقيقته ومع هذا لم يتصور الذاتيات مفصلة فانه لم يستحضر في ذهنه ان الحيوان هو الجسم الحساس النامي المتحرك بالارادة فثبت انهم يجعلونه متصور الحقيقة بدون استحضار الذاتيات على وجه التفصيل فلا يجب في كل ذاتي ان يتقدم تصوره المفصل

واما التصور المجمل فلا يجب فيه استحضار شيء من الصفات وتصور الانسان مجملا كتصور الحيوان مجملا ومعلوم ان الموصوف يشاركه غيره في صفات ويفارقه في صفات فاذا لم يجب ذكر جميع الصفات المشتركة على وجه التفصيل فدعوى الاكتفاء ببعضها دون بعض تحكم محض واذا كانت حقيقة الانسان عندهم متصورة بدون تصور الصفات الذاتية المشتركة على وجه التفصيل علم ان ما ذكروه من ان الذاتي ما لا يمكن تصور الموصوف بدونه باطل وان اكتفوا بالتصور المجمل فمن تصور الانسان مطلقا فقد دخل في جميع ذلك صفاته وبسط هذا له موضع اخر

والمقصود هنا الكلام على ما فرقوا به بين الاوليات والمشهورات من ان الاوليات ليس بين الموصوف وصفته وسط في نفس الامر بخلاف غيره وقد تبين بطلان هذا الفرق طردا وعكسا وانه قد يكون من اللوازم التي لا وسط لها في نفس الامر ما يفتقر الى دليل ومن اللوازم التي يدعون افتقارها الى وسط ما يعلم ثبوته بلا دليل وان التفريق بين اللوازم بوسط في نفس الامر باطل وان الوسط الذي هو الدليل يختلف باختلاف احوال الناس ليس هو امرا لازما للقضايا فهذه عدة اوجه من هذا الطريق الاول

النوع الثاني: لا دليل على دعواهم ان المشهورات ليست من اليقينيات

النوع الثاني ان يقال المراد بالمشهورات عندهم هي القضايا العلمية كلها مثل كون العدل حسنا والظلم قبيحا والعلم حسنا والجهل قبيحا والصدق حسنا والكذب قبيحا والاحسان حسنا ونحو ذلك من الامور التي تنازع الناس هل حسنها وقبحها بالعقل ام لا المثبتة والنفاة للحسن والقبح العقليين

واكثر الطوائف على اثبات الحسن والقبح العقليين لكن لا يثبتونه كما يثبته نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم بل القائلون بالتحسين والتقبيح من اهل السنة والجماعة من السلف والخلف كمن يقول به من الطوائف الاربعة وغيرهم يثبتون القدر والصفات ونحوهما مما يخالف فيه المعتزلة اهل السنة ويقولون مع هذا باثبات الحسن والقبح العقليين وهذا قول الحنفية ونقلوه ايضا عن ابي حنيفة نفسه وهو قول كثير من المالكية والشافعية والحنبلية كأبي الحسن التميمي وابي الخطاب وغيرهما من ائمة اصحاب احمد كأبي علي بن ابي هريرة و ابي بكر القفال الشاشي وغيرهما من الشافعية وكذلك من اصحاب مالك وكذلك اهل الحديث كأبي نضر السجزي وابي القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما

بل هؤلاء ذكروا ان نفي ذلك هو من البدع التي حدثت في الاسلام في زمن ابي الحسن الاشعري لما ناظر المعتزلة في القدر بطريق الجهم بن صفوان ونحوه من ائمة الجبر فاحتاج الى هذا النفي قالوا والا فنفي الحسن والقبح العقليين مطلقا لم يقله احد من سلف الامة ولا ائمتها بل ما يؤخذ من كلام الائمة والسلف في تعليل الاحكام وبيان حكمة الله في خلقه وامره وبيان ما فيما امر الله به من الحسن الذي يعلم بالعقل وما في مناهيه من القبح المعلوم بالعقل ينافي قول النفاة

والنفاة ليس لهم حجة في النفي اصلا وقد استقصى ابو الحسن الآمدي ما ذكروه من الحجج وبين انها عامتها فاسدة وذكر هو حجة اضعف من غيرها وهو ان الحسن والقبح عرض والعرض لا يقوم بالعرض فان اثبات هذا لا يحتاج الى قيام العرض بالعرض كما توصف الاعراض بالصفات وجميع ذلك قائم بالعين الموصوفة فنقول هذا سواد شديد وهذه حركة سريعة وبطيئة وهم يسلمون ان كون الفعل صفة كمال او صفة نقص او ملائما للفاعل او منافرا له قد يعلم بالعقل وهذه صفات للفعل وهي قائمة بالموصوف

ومن الناس من يظن ان الحسن والقبح صفة لازمة للموصوف وان معنى كون الحسن صفة ذاتية له هذا معناه وليس الامر كذلك بل قد يكون الشيء حسنا في حال قبيحا في حال كما يكون نافعا ومحبوبا في حال وضارا وبغيضا في حال والحسن والقبح يرجع الى هذا وكذلك يكون حسنا في حال وسيئا في حال باعتبار تغير الصفات

والحسن والقبح من افعال العباد يرجع الى كون الافعال نافعة لهم وضارة لهم وهذا مما لا ريب فيه انه يعرف بالعقل ولهذا اختار الرازي في اخر امره ان الحسن والقبح العقليين ثابتان في افعال العباد واما اثبات ذلك في حق الله تعالى فهو مبني على معنى محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه وفرحه بتوبة التائب ونحو ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع وهل ذلك صفات ليست هي الارادة كما اتفق عليه السلف والائمة او ذلك هو الارادة بعينها كما يقوله من يقوله من المعتزلة والجهمية ومن وافقهم

بيان ان قضايا التحسين والتقبيح من اعظم اليقينيات

والمقصود هنا ذكر هذه القضايا المشهورة من بني ادم كلهم كقولهم العدل حسن وجميل وصاحبه يستحق المدح والكرامة والظلم قبيح مذموم سيء وصاحبه يستحق الذم والاهانة فان هؤلاء نفوا كونها من اليقينيات وهذا يستلزم ان لا يقول الفلاسفة بالحسن والقبح العقليين اذ لم يكن في العقل قضية برهانية عقلية ومن الناس من حكى عنهم القول بذلك والتحقيق انهم في ذلك متنازعون مضطربون كما في امثال ذلك

فنقول دعوى المدعي ان هذه القضايا ليست من اليقينيات دعوى باطلة بل هذه من اعظم اليقينيات المعلومة بالعقل وذلك ان التصديق مسبوق بالتصور فينبغي ان ننظر معنى قولنا العدل حسن والظلم قبيح ثم ننظر في ثبوت هذا المحمول لهذا الموضوع ولنتكلم في عدل الناس وظلمهم

فنقول الناس اذا قالوا العدل حسن والظلم قبيح فهم يعنون بهذا ان العدل محبوب للفطرة يحصل لها بوجوده لذة وفرح نافع لصاحبه ولغير صاحبه يحصل به اللذة والفرح وما تتنعم به النفوس واذا قالوا الظلم قبيح فهم يعنون به انه ضار لصاحبه ولغير صاحبه وانه بغيض يحصل به الالم والغم وما تتعذب به النفوس ومعلوم ان هذه القضايا هي في علم الناس لها بالفطرة وبالتجربة اعظم من اكثر قضايا الطب مثل كون السقمونيا تسهل الصفراء فلم كانت التجربيات يقينية وهذه التي هي اشهر منها وقد جربها الناس اكثر من تلك لا تكون يقينية مع ان المجربين لها اكثر واعلم واصدق وجزئياتها في العالم اكثر من جزئيات تلك والمخبرون بذلك عنها ايضا اكثر واعلم واصدق

فان الانسان من نفسه يجد من لذة العدل والصدق والعلم والاحسان والسرور بذلك ما لا يجده من الظلم والكذب والجهل والناس الذين وصل اليهم ذلك والذين لم يصل اليهم ذلك يجدون في انفسهم من اللذة والفرح والسرور بعدل العادل وبصدق الصادق وعلم العالم واحسان المحسن ما لا يجدونه في الظلم والكذب والجهل والاساءة ولهذا يجدون في انفسهم محبة لمن فعل ذلك وثناء عليه ودعاء له وهم مفطورون على محبة ذلك واللذة به لا يمكنهم دفع ذلك من انفسهم كما فطروا على وجود اللذة بالاكل والشرب والالم بالجوع والعطش فلم كانت تلك القضايا من اليقينيات المعلومة بالحس والعقل كالتجربة وغيرها ولم تكن هذه من القضايا العقلية المعلومة ايضا بالحس والعقل والامر فيها اعظم واللذة التي توجد بهذه لذة روحانية عقلية شريفة والانسان كلما كمل عقله كانت هذه اللذة احب اليه من تلك اللذة

ثم الفلاسفة اثبتوا معاد الارواح واللذة العقلية وهي مبنية على هذه القضايا التي سموها المشهورات فان لم تكن معلومة كان ما اثبتوه من ذلك ليس فيه شيء من العلم بل يقولون ما يقوله غيرهم من ان اللذات الباطنة اقوى واشرف من اللذات الظاهرة ويدعون الضرورة في اثبات لذة وراء اللذات الحسية الظاهرة واذا كانت اللذة اما ادراك الملائم كما قد يزعمونه او هي تابعة ولازمة للادراك الملائم كما يقوله غيرهم وهو الصحيح فمعلوم ان العلم والعدل والصدق والاحسان ملائم لبني آدم فيكونوا ملتذين بذلك بل يكون التذاذهم بذلك اعظم من غيره وهذا معنى كون الفعل حسنا ومعنى كونه قبيحا ضد ذلك

واذا تصور معنى الحسن والقبح علم ان هذه المشهورات من اعظم اليقينيات فانها ما اتفقت عليها الامم لما علموه بالحس والعقل والتجربة بل اتفاق الناس على هذه اعظم من اتفاقهم على عامة ما يذكرونه وقد يعيش طوائف من الناس زمانا لا تخطر لهم القضايا الكلية العقلية التي جعلوها مبادى العلم كقول القائل النفي والاثبات لا يجتمعان وان يعلم ان هذا الشيء المعين اذا كان موجودا لم يكن معدوما لكن قد لا تخطر لهم القضية الكلية بل وقد لا يخطر لهم تقدير اجتماع وجوده وعدمه فان هذا التقدير ممتنع فلا يخطر لاكثر الناس ولا توجد طائفة الا وهي تحسن العدل والصدق والعلم وتقبح ضد ذلك

وايضا فالحكمة عندهم وعند سائر الامم نوعان علم وعمل وهذه الحكمة عند المسلمين قال مالك رحمه الله الحكمة معرفة الدين والعمل به ولذلك قال ابن قتيبة الحكمة عند العرب العلم و العمل و الحكمة العملية عندهم و عند غيرهم تتضمن علم الأخلاق وسياسة المنزل وسياسة المدنية وبنى ذلك كله على هذه القضايا المشهورة بل وكل عمل يؤمر به فلا بد فيه من العدل فالعدل مأمور به في جميع الأعمال والظلم منهى عنه نهيا مطلقا

ولهذا جاءت أفضل الشرائع والمناهج بتحقيق هذا كله وتكلميه فأوجب الله العدل لكل أحد على كل أحد في كل حال كما قال تعالى يأيها الذين أمنوا كونوا قومين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن فقيرا أو غنيا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا و قال تعالى وقال تعالى يأيها الذين امنوا كونوا قومين لله شهدآء بالقسط ولا يجر منكم شنان قوم أي يحملنكم بغض قوم كعدوكم الكفار على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى وقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينت وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الامنت الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل النساء وقال تعالى إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتآئى ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (النحل) ومثل هذا كثير

وكذلك تحريم الظلم بمجموع أنواعه كثير في النصوص الالهية حتى في الحديث الالهى حديث ابي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي إنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني اغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى يا عبادي لو ان أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا يا عبادي لو ان أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا يا عبادي لو أن اولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكى إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط يا عبادي إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم اوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

والمقصود أن الحكمة العملية كلها مبنية على هذه القضايا والنفس لها قوتان العلمية والعملية والعمل لا بد ان يكون بعلم فان لم يكن هذه القضايا معلومة لم يكن شئ من الحكمة العملية معلوما ولا شئ من الاعمال والاخلاق المحمودة والمذمومة معلوما وهذا مع ما فيه من المناقضة لما يقولونه هو وغيرهم من العقلاء فهو مكابرة ظاهرة مع أنا في هذا النوع من الكلام لم نقصد إقامة الدليل على فساد قولهم بل صورناه لتعلم حقيقته وطالبناهم بالدليل على أن هذه المشورات ليست يقينية فانهم لم يذكروا على ذلك دليلا اصلا وسنتكلم على ما توهموه دليلا من قولهم هذه القضايا ليست بأولية لما ذكروه من الفرق بين الاولى وغيره قد تقدم بطلان هذا الفرق ولكن نحن نسلم ان من القضايا ما يكون بديهيا أوليا لبعض الناس أو لكلهم ويكون مجرد تصور طرفى القضية موجبا للحكم لكن ليس علة ذلك كون المحمول لازما للموضوع بلا وسط في نفس الامر كما ذكر ذلك الرازي ونحوه وإن كان هذا لم نجده في كلام ابن سينا وامثاله بل الوسط عنده الدليل كما تقدم بل ولا ذاك امرا لازما للقضية بل قد تكون بديهية لزيد ونظرية لعمرو بحسب المتصور لتمامه ونقضانه

وهذا مما قد تنازع فيه بعضهم ويدعون أن كل ما كان اوليا لزيد فهو اولى لغيره كما يدل كلامهم على ذلك وأن الادميين يشتركون في العلم بكل ما هو أولى لكل شخص منهم لانها موجب العقل والعقل مشترك وهذا القول إن كنا نبطله ونقول القضية قد تكون ضرورية لزيد نظرية لعمرو كذلك غير ذلك من القضايا قد تكون المتواترة لهذا محسوسة لهذا والمجربة لهذا معلومة بالاستدلال لهذا ونحو ذلك

وإذا كان كذلك فنحن ليس مقصودنا أن هذه القضايا المشهورة أولية أو ليست أولية ولا انها اوليه لجميع الناس أو لبعضهم بل المقصود انها من جملة القضايا الواجب قبولها التي يجب التصديق بها وتكون مادة للبرهان فانهم جعلوا المعتقدات ثلاثة الواجب قبوها والمشهورات والوهميات والمقصود هنا ان المشهورات العامة مثل حسن العدل وقبح الظلم هى من الواجب قبولها وإن لم نقل هى اولية فان الواجب قبولها قد جعلوها اصناقا اوليات ومشاهدات ومجربات وحدسيات ومتواترات وقضايا قياساتها معها

وهذه المشهورات إذا لم تكن اولية لم تكن بدون كثير من المجربات والحدسيات ونحو ذلك فتكون مادة للبرهان اليقيني كالمتواترات والمجربات فان المتواترات والمجربات ليست اوليات وهذه المشهورات ابلغ من كثير من المجربات والعلم بها والتصديق بها في نفوس الامم قاطبة أقوى واثبت من العلم بكثير من المجربات والمتواترات التي تواترت عند بعض الامم دون بعض

وبهذا الاعتبار فلم يذكروا حجة على انها ليست من اليقينيات فان قولهم موجب الحكم بها العادات او الاحوال النفسانية أو مصلحة النظام هذا لا ينافي كونها يقينية بل هو دليل على ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى فان المجربات كلها عاديات فكونها عاديات لا ينافى كونها يقينيات وكذلك كون قوى النفس تقتضيها فان هذا يدل على الملائمة والمنافرة وهذا هو معنى الحسن والقبح فلذلك لا ينافى كونها قضايا صادقة معلومة الصدق وكذلك كون نظام العالم مربوطا بها لا ينافى كونها صادقة معلومة فليس فيما ذكروه ما ينافي العلم بها ولا يدعى كونها أولية بالمعنى الذي ذكروه كما لا يدعى ذلك في المجربات والمتواترات وذلك لا ينافى كونها من اليقينيات

النوع الرابع: خاصة العقل والفطرة استحسان الحسن واستقباح القبيح

النوع الرابع أن يقال قوله لا عمدة لها إلا الشهرة وهو أنه لو خلى الانسان وعقله المجرد ووهمه وحسه الى قوله لم يقض بها الانسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه مثل حكمنا بأن سلب مال الانسان قبيح وأن الكذب قبيح لا ينبغي ان يقدم عليه

فيقال لا نسلم هذا فان هذا دعوى مجردة وقوله سلب مال الانسان قبيح لفظ عام وقد يسلب ماله بعدل وقد يسلب بظلم والكلام فيما إذا علم الانسان أنه سلب ماله ظلما مثل أن يعلم ان الاثنين المشتركين في المال من كل وجه استولى أحدهما على الاخر فسلبه أكثر من نصف ونحو ذلك فان عقول العقلاء قاطبة وأوهامهم تقضى بقبح هذا

أما الوهم فانه قد فسره بقوله في الاشارات

وايضا فان الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئية معانى جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحواس مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده فعندك قوة هذا شأنها

فهذه القوة التي سموها الوهم هى التي يدرك بها الانسان صداقة الصديق وعدواة العدو ويدرك بها كل من الزوجين ما في الزوج الاخر من الامر المحبوب وبها يميل الانسان الى غيره وبها ينفر عنه ولهذا يقولون اكبر حاكم على النفوس الوهم

ومعلوم أن هذه القوة تميل الى الشخص الذي تعلم انه عادل صادق محسن وتنفر عن الشخص الذي تعلم انه كاذب ظالم مسئ بل تميل الى هذا الشخص وإن لم يصل اليها من جهته نفع وضرر والنفوس مجبولة على محبة العدل وأهله وبغض الظلم وأهله وهذه المحبة التي في الفطرة هو المعنى بكونه حسنا وهذا البغض هو المعنى بكونه قبيحا كما يقال في الصورة الظاهرة هذا حسن وهذا قبيح فالحسن الظاهر ما يحسه الحس الظاهر والحسن الباطن ما يحسه القلب الباطن وإذا كانت النفوس مجبولة على محبة هذا وبغض هذا فهذا معنى الحسن والقبح فكيف يقال لو ترك الانسان وحسه وعقله ووهمه لم يقض بها ونفوس بنى آدم مجبولة على استحسان هذا واستقباح هذا

وأما العقل فأخص صفات العقل عند الانسان ان يعلم الانسان ما ينفعه ويفعله ويعلم ما يضره ويتركه والمراد بالحسن هو النافع والمراد بالقبيح هو الضار فكيف يقال إن عقل الانسان لا يميز بين الحسن وبين القبيح وهل اعظم تفاضل العقلاء إلا بمعرفة هذا من هذا بل وجنس الناس يميل الى من يتصف بالصفات الجميلة وينفر عمن يتصف بالقبائح فذاك يميل جنس الانسان الى سمع كلامه ورؤيته وهذا ينفر عن رؤيته وسمع كلامه

النوع الخامس: في بيان كون هذه المشورات معلومة بالفطرة

النوع الخامس إن مبادى هذه القضايا أمر ضروري في النفوس فانها مفطورة على حب ما يلائمها وبغض ما يضرها والمراد بالحسن ما يلائمها وبالقبيح ما يضرها وإذا كانت مفطورة على حب هذا وبغض هذا فالمراد بقولنا حسن إنه ملائم نافع والمراد بقولنا قبيح إنه ضار مؤذ وهذا أمر فطري فعلم ان الناس بفطرتهم يعلمون هذه القضايا المشهورة بينهم

النوع السادس: في بيان كون الموجب لاعتقاد هذه المشهورات من لوازم الانسانية

النوع السادس ان يقال لو لم يكن لهذه القضايا مبدأ في قوى الانسان لم تشتهر في جميع الامم فان المشهور في جميع الامم لا بد ان يكون له موجب في الفطرة المشتركة بين جميع الامم فعلم أن الموجب لاعتقاد هذه القضايا امر اشتركت فيه الامم وذلك لا يكون إلا من لوازم الانسانية فان الامم لم تشترك كلها في غير لوازم الانسانية

النوع السابع: رد ابن سينا على نفسه في قوله بأن المشهورات لا تدرك بقوى النفس

النوع السابع قوله لو توهم الانسان بنفسه أنه خلق دفعة تام العقل ولم يسمع ادبا ولم يطع انفعالا نفسانيا ولا خلقا لم يقض في امثاله بشئ هذا ممنوع بل إن كان تام العقل علم ان العلم والعدل والصدق ينفعه وتصلح به نفسه وتلتذ وأن الكذب والظلم يضره ويفسد نفسه ويؤلمها ولو قدر أنه لا يعلم به أحد غير علم العقل بأنه إذا ظلم أبغضه الناس وعادوه وغير علمه بأن الله يعاقبه

فان قيل الانسان يلتذ بما يراه قبيحا كما قد يلتذ بما يأخذه ظلما فيأكله ويشربه قيل وإن التذ بدنه فان قلبه وعقله لا يلتذ بذلك بل يلتذ إذا عدل وإن قدر انه يلتذ به لذة حاضرة فانه يتألم بقبح عاقبته عنده وإذا لم يتألم فلغيبة عقله عن إدراك المؤلم كما قد يحصل للسكران وغيره من أمور تؤلمه ولا يتألم بها لغيبة عقله عن إدراكها

وهذا مما قد ذكره ابن سينا نفسه فقال في نمط البهجة والسعادة إنه قد يسبق الى الاوهام العامية أن اللذات القوية المستعلية هي الحسية وأن ما عداها لذات ضعيفة وكلها خيالات غير حقيقة

وقد يمكن ان ينبه من جملتهم من له تمييز ما فيقال له اليس الذ ما يصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وأمور تجرى مجراها وانتم تعلمون ان المتمكن من غلبة ما ولو في امر خسيس كالشطرنج والنرد قد يعرض له منكوح ومطعوم فيرفضه لما يعتاضه من لذة الغلبة الوهمية وقد يعرض منكوح ومطعوم لطالب العفة والرياسة مع صحة جسمه في صحبة حشمه فينفض اليد منهما مراعاة للحشمة فيكون مراعاة الحشمة آثر وألذ لا محالة هناك من المنكوح والمطعوم، وإذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بانعام يصيبون موضعه أثروه على الالتذاذ بمشتهى حيوانى متنافس فيه وآثروا فيه غيرهم على انفسهم مسرعين الى (الأنعام) به

وكذلك فان كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ويستحقر هول الموت ومفاجاة العطب عند مناجزة المبارزين وربما اقتحم الواحد على عدد دهم ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقعه من لذة الحمد ولو بعد الموت كأن تلك تصل اليه وهو ميت

فقد بان ان اللذات الباطنة مستعلية على اللذات الحسية وليس ذلك في العاقل فقط بل وفي العجم من الحيوانات فان من كلاب الصيد ما يقنص الصيد على الجوع ثم يمسكه على صاحبه وربما حمله اليه والراضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها وربما خاطرت محامية عليه اعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها

فاذا كانت اللذات الباطنة اعظم من الظاهرة وإن لم تكن عقلية فما قولك في العقلية

فيقال له هذا كله حجة عليك في قولك إن استحسان الحسن واستقباح القبيح لا يدركه الانسان لا بحسه ولا بعقله ولا بوهمه وانت قد ذكرت ان الانسان بل الحيوان يلتذ بالحمد والثناء ويلتذ بالغلبة ويلتذ ب(الأنعام) والاحسان والرحمة أعظم من التذاذة بالأكل والشرب ومعلوم ان لذة الاكل والشرب مما يعلم بالحس الظاهر فهذه اللذه الباطنة يعلم بالحس الباطن وبالوهم فكيف تقول إن الحسن والوهم والعقل لا يعلم به حسن الحسن وقبح القبيح وما ذكرته من التذاذ الانسان بالايثار وتركه الطعام الشهى مراعاة الحشمة ونحو ذلك إنما هو لكونه يرى ذاك قبيحا وهذا جميلا ويلتذ بفعل الجميل لذة باطنة يحس بها فكيف يقال إن الحسن والقبيح لا ينال بشئ من قوى النفس وإنما يصدق به لمجرد الشهرة فقط من غير موجب حسي ولا وهمى ولا عقلى

النوع الثامن: رد قولهم إن العقل بمجرده لا يقضى في المشهورات بشئ

النوع الثامن انه قال

تنبيه إن اللذة هى إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك والالم هو إدراك ونيل ما لوصول ما هو عند المدرك نقص وشر من حيث هو كذلك وقد يختلف الخير والشر بحسب القياس فالشئ الذي هو عند الشهوة خير هو مثل المطعم الملائم والملمس الملائم والذي هو عند الغضب خير فهو الغلبة والذي عند العقل فتارة وباعتبار فالحق وتارة وباعتبار فالجميل ومن العقليات نيل الشكر ووفور الحمد والمدح والكرامة وبالجملة فان همم ذوي العقول في ذلك مختلفة

وكل خير بالقياس الى شيء ما فهو الكمال الذي يختص به وينحوه باستعداده الأول وكل لذة فانها تتعلق بأمرين بكمال خيري وبادراك له من حيث هو كذلك

فيقال هذا تصريح بان العقل يحب الحق ويلتذ به ويحب الجميل ويلتذ به وان محبة الحمد والشكر والكرم هي من العقليات وهذا صحيح فان للانسان قوتين قوة علمية فهى تحب الحق وقوة عملية فهى تحب الجميل والجميل هو الحسن والقبيح ضده

وتفريقه بين الحق والجميل هو بحسب اصطلاحه وإلا فاللغة التي جاء بها القرآن وتكلم بها الرسول لفظ الحق منها يتضمن النوعين كقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق وقوله الوتر حق فمن شاء أوتر بركعة ومن شاء اوتر بثلاث ومن شاء اوتر بخمس او سبع ومثل هذا موجود في غير موضع من كلامه ومن هذا الباب قوله اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شئ ما خلا الله باطل

ومنه قوله تعالى ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل الحج وقوله فدلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال يونس ومعلوم أن ما عبد من دونه موجود مخلوق ولكن عبادته باطلة وهو باطل لان المقصود منه بالعبادة معدوم ولهذا يقول الفقهاء بطلت العبادة وبطل العقد وقد قال تعالى ولا تبطلوا اعمالكم محمد والابطال ضد الاحقاق وقال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله اضل أعمالهم والذين امنوا وعملوا الصلحت وامنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سياتهم واصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وان الذين امنوا اتبعوا الحق من ربهم

وقد بين الله ان الاعمال السيئة القبيحة باطلة في مثل قوله والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمت في بحر لجي يغشه موج النور فهذا الثاني مثل ما يصدر عن الجهل البسيط والاول الجهل المركب وقال تعالى يايها الذين امنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والادى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدون على شئ مما كسبوا (البقرة) فهذا مثل إبطال العمل بالمن والاذى وبالرياء والكفر والمقصود انها لم تبق نافعة بخلاف العمل الحق المحمود فانه نافع ومنه قوله تعالى وقدمنا الى ما عملوا من علم فجعلنه هباء منثورا الفرقان

وبالجملة فما ذكروه تصريح منهم بأن العقل يميز بين الجميل والقبيح وأن العاقل يلتذ بالجميل ويتألم بالقبيح وأن الجميل كمال وخير للقوة العاقلة من حيث هى كذلك وهذا مناقض لقولهم إن العقل بمجرده لا يقضى في أمثال هذا بشئ لا بحسن ولا بقبيح وهكذا تناقضوا في نفس الوهميات كما سنذكره إن شاء الله وسبب ذلك انهم تارة يقولون بموجب الفطرة فيكون كلامهم صحيحا وتارة يقولون بمقتضى الفطرة الفاسدة التي قد فسدت بالاعتقادات الفاسدة فيقولون باطلا

كون الوجود كله مبنيا على الحق والعدل

وهذه القضايا التي اتفقت الامم عليها مثل حسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم داخلة في مسمى الحق كما تقدم في كلام الله ورسوله وكذلك كلام العقلاء قاطبة يسمون هذا كله حقا ويقولون لصاحب الدين له عليه حق وأعطيه حقه وإذا حكم بينهما بعدل وقسم بانصاف يقولون هذا حق وإن حكم بخلاف ذلك يقولون هذا ظلم وجور وإذا لم يكن عنده شيء حق بل هو يدعى الباطل فيسمون الصدق حقا والكذب باطلا كما في كلام الله ورسوله قال النبي - إن لصاحب الحق مقالا وفي لفظ إن لصاحب الحق اللسان واليد وقال - لكعب بن مالك لما طلب غريمه أي كعب دع الشطر قال قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه

وذلك لان الامور الحسنة تتضمن امرا موجودا ماضيا ومستقبلا ففيها وجود وكمال الوجود والامور القبيحة تتضمن عدما ماضيا او مستقبلا ففيها نفى الوجود أو كمال الوجود فان كان موجودا كان العلم بوجوده حقا مطابقا له والاخبار عن وجوده كذلك وأما الكذب المتضمن نفيه والجهل الذي هو عدم العلم به فهو عدم علم وعدم قول حق بل الكذب من جنس الجهل المركب وأيضا العلم كمال وجود والصدق كمال وجود والجهل والكذب صفة نقص

وكذلك العدل كالتسوية بين المتماثلين والتفصيل بين المختلفين هو تحقيق الامور على ما هى عليه وتكميلها ولهذا مبنى الوجود كله على العدل حتى في المطاعم والملابس والابنية ونحو ذلك فالبيت المبنى إن لم تكن حيطانه معتدلة بل كان بعضها اطول من بعض طولا فاحشا او كان منحنيا غير مستقيم فسد السقف وكذلك الثياب إن لم تكن على مقدار لا بسيها معادلة لهم وإلا لم ينتفعوا بها وكذلك ما يضع من المطاعم والادوية إن لم أجزاؤه معتدلة في الصفة والقدر في الكم والكيف فسد وكان مضرا لا نافعا فهذا موجود في الامور المحسوسة ان العدل فيها حسن أي تحصل به المنفعة والمصلحة والظلم فيها قبيح أي تحصل به المضرة والفساد

وعلم الاخلاق والسياسة عندهم وعند سائر العقلاء مبنى على العدل ولهذا جعلوا كمال الانسان العملى اربعة امور إصلاح الشهوة والغضب والعدل بينهما وفي العلم بذلك والذي ذكروه هو بعض صفات الكمال التي أرسل الله بها رسله وانزل بها كتبه والاقتصار على ما ذكروه لا تحصل به السعادة التي هى كمال الانسان ولكنه من الامور المعتبرة فيها

وقد بسطنا هذه الامور وبينا قصور فلسفتهم عن حصول السعادة والكمال بها وأنها ابلغ في القصور من دين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل وان ما عندهم إذا اخذ منه الحق وترك الباطل كان جزءا من الاجزاء المحصلة للسعادة وفيه امور كثيرة باطلة وأمور هي حق لكن ليس مما تحصل به السعادة والكمال

الوجه العاشر: لا حجة على تكذيبهم بأخبار الانبياء الخارجة عن قياسهم

الوجه العاشر ان الانبياء والاولياء لهم من علم الوحي والالهام ما هو خارج عن قياسهم الذي ذكروه بل الفراسة ايضا وامثالها فان ادخلوا ذلك فيما ذكروه من الحسيات والعقليات لم يمكنهم نفى ما لم يدركوه ولم يبق لهم ضابط وهذا موضع ينبغى تحقيقه

وهم اعنى ابن سينا واتباعه جعلوا القضايا من جهة ما يصدق بها المستعملة بين القائسن ومن يجرى مجراهم أربعة اصناف الاول الواجب قبولها التي هى مادة البرهان وهي الاوليات والحسيات والمجربات والحدسيات والمتواترات وربما ضموا الى ذلك قضايا معها حدودها ولم يذكروا دليلا على هذا الحصر ولهذا اعترف المنتضرون لهم ان هذا التقسيم منتشر غير منحصر يتعذر إقامة دليل عليه

وإذا كان كذلك لم يلزم ان كل ما لم يدخل في قياسهم أن لا يكون معلوما وحينئذ فلا يكون المنطق آلة قانونية تعصم مراعاتها من الخطأ فانه إذا ذكر له قضايا يمكن العلم بها بغير هذه الطرق لم يمكن وزنها بهذه الالة وعامة هؤلاء المنطقيون يكذبون بما لم يستدل عليه بقياسهم وهذا في غاية الجهل لا سيما إن كان الذي كذبوا به من أخبار الانبياء فيكونون ممن قال الله فيه بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله يونس وهذا صار بمنزلة المنجم إذا كذب بعلم الطب أو الطبيب إذا كذب بعلم النجوم والناس أعداء ما جهلوا ومن جهل شيئا عاداه

فاذا كان اشرف العلوم لا سبيل الى معرفتها بطريقهم لزم امران أحدهما انه لا حجة لهم على ما يكذبون به مما ليس في قياسهم دليل عليه والثاني أن ما علموه خسيس بالنسبة الى ما جهلوه فكيف إذا علم انه لا يفيد النجاة ولا السعادة

الوجه الحادى عشر: بطلان قولهم إن البرهانى والخطابي والجدلى هي المذكورة في قوله تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة الاية

الوجه الحادي عشر إنهم يجعلون ما هو حق وعلم يجب تصديقه ليس علما وما هو باطل ليس بعلم علما وذلك أن هؤلاء جعلوا اجناس الاقيسة باعتبار مادتها خمسة البرهان والخطابة والجدل والشعر والسفسطة اصله سوفسطيقا وكذلك سائرها لها اسماء باليونانية ولسائر اجناس المنطق لكنها الفاظ طويلة مثل قاطيغورياس وانولوطيقا الى غير ذلك واللغة العربية اوجز وأبين فهى أكمل بيانا واوجز لفظا

ويجعلون القياس باعتبار صورته قسمين الاقترانى والاستثنائى لتأليفه من الحمليات والشرطيات المتصلة والمنفصلة ويتكلمون قبل القياس في القضايا واقسامها وأحكامها مثل النقيض والعكس المستوى وعكس النقيض فانها إذا صحت بطل نقيضها وصح عكسها وعكس نقيضها فاذا قيل كل إنسان حيوان فنقيضه باطل وهو انه ليس شيء من الانسان حيوان وصح عكسه وهو ان بعض الحيوان إنسان وعكس نقيضه وهو ان ما ليس بحيوان فليس بانسان فإن التناقض اختلاف القضيتين بالسلب والايجاب على وجه يلزم من صدق احدهما كذب الأخرى وإن العكس جعل الموضوع محمولا والمحمول موضوعا مع بقاء الصدق وعكس النقيض والسالبة هو ان يجعل الموضوع محمولا مع جعل الايجاب سلبا

واقسامها الكلية والجزئية والموجبة والسالبة أي العامة والخاصة والمثبتة والنافية وقبل ذلك يتكلمون في مفردات القضية وهي المعاني المفردة مثل الكلام في الكلي والجزئي والذاتي والعرضى وقبل ذلك في الالفاظ الدالة على المعاني كدلالة المطابقة والتضمن والالتزام

والمقصود في هذا كله هو الحد والقياس والقياس هو المطلوب الاعظم والمطلوب الاعظم من انواع القياس هو القياس البرهاني قالوا والبرهان ما كانت مواده يقينية وهي التي يجب قبولها كما تقدم واما الخطابي فمواده هي المشهورات التي تصلح لخطاب الجمهور سواء كانت علمية او ظنية والجدلي هو الذي مواده ما يسلمها المجادل سواء كانت علمية او ظنية او مشهورة او غير مشهورة وهذا احسن ما تفسر به هذه الاصناف الثلاثة

وكثير منهم يقول بل البرهاني ما كانت مقدماته واجبة القبول كما تقدم والجدلي ما كانت مقدماته مشهورة سواء كانت حقا او باطلا او واجبة او ممتنعة او ممكنة والخطابي ما كانت مقدماته ظنية كيف كانت فالخطابي هو الذي يفيد الظن مطلقا سواء كانت مقدماته مسلمة او مشهورة والجدلي ما يكون مقدماته مشهورة

ومنهم من يقول بل البرهاني مؤلف من الواجبات والجدلي من الاكثريات والخطابي من المتساويات والشعري من الممتنعات وهذا ليس بشيء فان الشعري ما تشعر به النفس فيقصد به تنفيرها وترغيبها وترهيبها وقد يكون صدقا وقد يكون كذبا ولكن المقصود بالشعريات تحريك النفس لا لإفادتها علما

وابن سينا رد هذا القول فقال ولا يلفت الى ما يقال من ان البرهانيات واجبة والجدلية ممكنة اكثرية والخطابية ممكنة متساوية لا مثل فيها ولا قدرة والشعرية كاذبة ممتنعة فليس الاعتبار بذلك ولا اشار اليه صاحب المنطق لكنه مع رده لهذا ذكر القول الثاني فقال القياسات البرهانية مؤلفة من المقدمات الواجب قبولها والجدلية مؤلفة من المشهورات والتقريرية ما كانت واجبة او ممكنة او ممتنعة والخطابية مؤلفة من المظنونات والمقبولات التي ليست بمشهورة وما يشبهها كيف كانت ولو ممتنعة والشعرية مؤلفة من المقدمات المخيلة من حيث يشعر من يخيلها كانت صادقة او كاذبة واما السوفسطائية فهي التي تستعمل الشبهة ويشاركها في ذلك الممتحنة المجربة على سبيل التغليط فان كان التشبيه بالواجبات ونحو استعمالها سمي صاحبها سوفسطائيا وان كان بالمشهورات سمي صاحبها مشاغبا ومماريا والمشاغب بازاء الجدلي والسوفسطائي بازاء الحليم

وهذا الذي ذكره في مواد الجدلي والخطابي ضعيف ايضا بل مواد الجدلي هي المسلمات التي يسلمها المجادل سواء كانت مشهورة او لم تكن وسواء كانت حقا او باطلا ومواد الخطابي هي المشهورات ونحوها التي يخاطب بها الجمهور وكل من ذلك يكون برهانيا وغير برهاني ويكون صادقا وكاذبا هذا مراد قدمائهم وهو اشبه باللفظ والتقسيم

واما كون الخطابيات هي الظنيات مطلقا فهذا خطا عند القوم فانه اذا كانت الجدليات قد تكون علمية فالخطابيات التي هي اشرف منها اولى انها قد تكون علمية فان الخطاب ارفع من الجدل عندهم والتفسير الاول تفسير محققيهم المتقدمين فانه ليس من شرط الخطابي ولا الجدلي ان لا يكون علميا كما انه ليس من شرط البرهاني ان لا يخاطب به الجمهور وان لا يجادل به المنازع بل البرهاني اذا كان مشهورا صلح للبرهان والخطابة والجدلي اذا كان برهانيا صلح للبرهان والجدل واذا كانت القضية مبرهنة وهي مشهورة مسلمة من المناظر صلحت للبرهان والخطابة والجدل بخلاف الشعري فان المقصود به تحريك النفس ليس المراد به ان يفيد لا علما ولا ظنا فلهذا لم يدخل مع الثلاثة وايضا فالخطابيات يراد بها خطاب الجمهور وهذا انما يكون بالقضايا المشهورة عند الجمهور وان كانت ظنية واذا كانت علمية فهو اجود فليس من شرطها ان لا تكون علمية واما الجدلي فانما هو خطاب لناس معينين فاذا سلموا تلك المقدمات حصل مقصود الجدلي وان لم تكن مشهورة

واما السوفسطائي فهو المشبه الملبس وهو الباطل الذي اخرج في صورة الحق والمراد بيان فساده والا فليس لاحد ان يتكلم به فانه كذب في صورة صدق وباطل في صورة حق لكن المقصود بذكره تعريفه وامتحان الاذهان بحل شبه السوفسطائية

ثم قد يقول من يقول من حذاقهم ومن يروم ان يقرن بين طريقهم وطريق الانبياء ان الاقسام الثلاثة البرهان والجدل والخطابة هي المذكورة في قوله تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن ((النحل))

كلام اهل الفلسفة في الانبياء عليهم السلام

ثم يقولون ان ما جاءت به الانبياء فهو من جنس الخطابة التي قصد بها خطاب الجمهور لم يقصد به تعريف الحقائق هذا في الامور العملية فان مبادى الامور العلمية قد لا يجعلونها من البرهانيات بل من المشهورات كالعلم بحسن العدل وقبح الظلم واما العلميات فيقولون ان الانبياء لم يذكروا حقائق الامور في معرفة الله والمعاد وانما اخبروا الجمهور بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في اقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا بذلك الحق ويقولون انهم ارادوا بخطابهم للناس ان يعتقدوا الامور على خلاف ما هي عليه وهي من جنس الكذب لمصلحة الناس وهم يعلمون هذه المرتبة ثم النبي عندهم هل يعرف الامور العلمية فيه نزاع بينهم

وهم يعظمون محمدا - يقولون لم يأت الى العالم ناموس افضل من ناموسه ويفضله كثير منهم على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف عليه وهم حائرون في امور الانبياء ولهذا كلامهم في الانبياء في غاية الاضطراب ولم ينقلوا عن ارسطو واتباعه فيهم شيئا بل ذكروا من كلام افلاطون وغيره في النواميس ما جعلوا به واضعى النواميس من اليونان وغيرهم من جنس الانبياء الذين ذكرهم الله في القران ونحن نعلم ان الرسل جميعهم دعوا الى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهة يعبدون الزخرف وقال تعالى ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت (النحل) والنواميس التي يذكرونها فيها شرك لا يأمر به احد من انبياء الله فعلم ان كل من ذكروه من واضعى النواميس المخالفة لما اتفقت عليه الرسل فليس بني ولا متبع لنبي بل هو من جنس واضعي النواميس من ملوك الكفار ووزرائهم وعقلائهم وعلمائهم وعبادهم

وهم وان عظموا الانبياء ونواميسهم فلاجل انهم اقاموا قانون العدل الذي لا تقوم مصلحة العالم الا به ويوجبون طاعة الانبياء والعمل بنواميسهم وهي الشرائع التي جاؤا بها ولكنهم لم يأتوا بالامور العلمية بل بالعمليات النافعة والعلميات عندهم اما ان تكون التي علمها وما امكنه اظهارها بل اظهر ما يخالف الحق عنده لمصلحة الجمهور واما انه لم يعلمها والا فهم يجوزون للرجل ان يتمسك بأي ناموس كان ولا يوجبون اتباع نبي بعينه لا محمد ولا غيره الا من جهة مصلحة دنياهم بذلك لا لانه يعذب في الاخرة على مخالفة شريعة محمد او غيره

ولهذا لما ظهرت الترك الكفار واراد من أراد منهم ان يدخل في الاسلام قبل ظهور الاسلام عليهم اشار عليه بعض من كان معه من الفلاسفة بأن لا يفعل فان ذاك لسانه عربي ولا يحتاجون الى شريعته ونحو هذا الكلام يبين ان الشريعة التي جاء بها محمد لا يحتاج اليها مثلكم وامثالكم وقد قيل ان الذي اراد الدخول في الاسلام وقال له منجمه هذا هو هولاكو ولما قدم هلاكو الشام وتقلد القضاء من جهته بعض قضاة الشام الذين كانوا يعظمون صوفية الفلاسفة كابن عربي ونحوه ودخل الى البلد اخذ يثني على ملك الكفار ويعظمه ويذكر ما يذكر من فضائله بزعمه فقال له بعض الحاضرين ياليته كان مسلما فقال القاضي واي حاجة لهذا الى الاسلام سواء كان مسلما او لم يكن وهذا بناء على هذا الاصل

فالنبي عندهم يشبه من بعض الوجوه ائمة المذاهب عند المتكلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وسفيان الثوري والليث بن سعد والاوزاعي وداود بن علي وغير هؤلاء من ائمة الفقهاء

فان المتكلمين يعظمون هؤلاء في علم الشريعة العملية والقضايا الفقهية واما في الكلام واصول الدين مثل مسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوات والمعاد فلا يلتزمون موافقة هؤلاء بل قد يجعلون شيوخهم المتكلمين افضل منهم في ذلك وقد يقولون انهم وان علموا ذلك لكن لم يبسطوا القول فيه ولم يبينوه كما فعل ذلك شيوخ المتكلمين

فالنبي عند هؤلاء المتفلسفة يشبه المجتهد المتبوع عند المتكلمين ولهذا يقول من يقرنهم بالانبياء كأصحاب رسائل اخوان الصفا وامثالهم اتفقت الانبياء والحكماء او يقولون الانبياء والفلاسفة كما يقول الاصوليون اتفق الفقهاء والمتكلمون وهذا قول الفقهاء والمتكلمين ونحو ذلك والذين يعظمونهم يريدون التوفيق بين ما يقولونه وبين ما جاءت به الانبياء كما تقدم انهم يجعلون الاقيسة الثلاثة هي المذكورة في صورة (النحل) ويجعلون الملائكة هي هي العقول والنفوس ومنهم طائفة ادعت كثرة الملائكة كأبي البركات صاحب المعتبر وهؤلاء اقرب عندهم فان الانبياء صرحوا بكثرة الملائكة وقد يجعلون الجن والشياطين هي قوى النفوس الصالحة والفلسفة وقد بسط القول عليهم في غير هذا الموضع وبين ان الملائكة التي اخبرت بها الرسل من ابعد الاشياء عما يدعونه من العقول والنفوس وان الجن والشياطين احياء ناطقون موجودون ليسوا اعراضا قائمة بغيرها

الكلام على جعلهم الاقيسة الثلاثة من القران

والمقصود هنا كلامهم في المنطق فنقول قوله تعالى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن (النحل) ليس المراد به ما يذكونه من القياس البرهاني والخطابي والجدلي فان الاقيسة التي هي عندهم برهانية قد تقدم بعض وصفها وانها لا تفيد قط الا امرا كليا لا يدل على شيء معين وتلك الكليات غالبها انما توجد في الاذهان لا في الاعيان والذي جاء به الرسول امران خبر وامر

فأما الخبر فانه اخبر عن الله بأسمائه وصفاته المعينة وهذا امر يعترفون هم انه لا يعرف ببرهانهم وما اخبر به الرسول عن ربه عز و جل فهم من ابعد الناس عن معرفته وكفار اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل اقرب الى الرسول فيه منهم اليه وكذلك ما اخبر به عن الملائكة والعرش والكرسي والحنة والنار ليس في ذلك شيء يمكن معرفته بقياسهم وليس المراد بالعرش الفلك التاسع ولا بالكرسي الثامن كما قد بسط في موضع اخر ولو قدر انه كذلك فليس هذا مما يعلم بالقياس المنطقي

والرسول اخبر عن امور معينة مثل نوح وخطابه لقومه واحواله المعينة ومثل ابراهيم واحواله المعينة ومثل موسى وعيسى واحوالهما المعينة وليس شيء من ذلك يمكن معرفته بقياسهم لا البرهاني ولا غيره فان اقيستهم لا تفيد الا امورا كلية وهذه امور خاصة

وكذلك اخبر عما كان وعما سيكون بعده من الحوادث المعينة حتى اخبر عن التتر بما ثبت في الصحيحين عنه من غير وجه انه قال لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الاعين ذلف الانوف حمر الخدود ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة فهل يتصور ان قياسهم وبرهانهم يدل على ادمي معين او امة معينة فضلا عن ان يوصف بهذه الصفات قبل ظهورهم بنحو سبعمائة سنة

وكذلك قوله الثابت في الصحيح لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من ارض الحجاز تضيء بها اعناق الابل ببصرى وهذه النار قد خرجت قبل مجيء اكثر الكفار الى بغداد سنة خمس وخمسين وستمائة وقد تواتر عن اهل بصرى انهم راوا ببصرى اعناق الابل من ضوء تلك النار وخبر هذه النار مشهور متواتر بعد ان خرجت بجبال الحجاز وكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم وفزع لها الناس فزعا شديدا فهل يدل قياس برهاني او غير برهاني على هذا الامر المعين ويخبر به المخبر قبل حدوثه بأكثر من ستمائة وخمسين سنة فان هذا اخبر به النبي - في اخر ايام النبوة وابو هريرة انما اسلم عام خير سنة سبع من الهجرة وصحب النبي - اقل من اربع سنين فأخباره كلها متأخرة

وكذلك سائر ما اخبر به من الامور الماضية والمستقبلة والامور الحاضرة مما يعلمون هم انه يمتنع ان يعرف ذلك بالقياس البرهاني وغيره فان ذاك انما يدل على امر مطلق كلي لا على شيء معين

واما العمليات التي امر بها فهم وان ادعوا ان ما عندهم من الحكمة الخلفية والمنزلة والمدنية تشبه ما جاء به من الشريعة العملية فهذا من اعظم البهتان وذاك ان حكمتهم العملية انما مبناها على انهم عرفوا ان النفس لها قوة الشهوة والغضب الشهوة لجلب الملائم والغضب لدفع المنافي فجعلوا الحكمة الخلقية مبناها على ذلك فقالوا ينبغي تهذيب الشهوة والغضب لكون كل منهما بين الافراط والتفريط وهذا يسمى عفة وهذا يسمى شجاعة والتعديل بينهما عدلا وهذه الثلث تطلب لتكميل النفس بالحكمة النظرية العلمية فصار الكمال عندهم هذه الامور العفة والشجاعة والعدل والعلم

وقد تكلم في هذا طوائف من الداخلين في الاسلام واستشهدوا على ذلك بما وجدوه في القران والحديث وكلام السلف في مدح هذه الامور والذين صنفوا في الاخلاق والاعمال على طريق هؤلاء مثل كتاب موازين الاعمال لابي حامد ومثل اصحاب رسائل اخوان الصفا ومثل كتب محمد بن يوسف العامري وغيره يبنون كلامهم على هذا الاصل

لكن غلطوا فان مراد الله ورسوله بالعلم الذي يمدحه ليس هو العلم النظري الذي هو عند فلاسفة اليونان بل الحكمة اسم يجمع العلم والعمل به في كل امة قال ابن قتيبة وغيره الحكمة عند العرب العلم والعمل به وسئل مالك عن الحكمة فقال هو معرفة الدين والعمل به وكل امة لها حكمة بحسب علمها ودينها فالهند لهم حكمة مع انهم مشركون كفار والعرب قبل الاسلام كانت لهم حكمة وكان فيهم حكماء العرب مع كونهم مشركين يعبدون الاوثان فكذلك اليونان لهم حكمة كحكمتهم

وحكماء كل طائفة هم افضل تلك الطائفة علما وعملا لكن لا يلزم من ذلك ان يكونوا ممدوحين عند الله وعند رسوله فان الممدوح عند الله وعند رسوله لا يكون قط الا من المؤمنين المسلمين الذين امنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وعبدوا الله وحده لم يشركوا به شيئا ولم يكذبوا نبيا من انبيائه ولا كتابا من كتبه

ولا يثنى الله قط الا على هؤلاء كما قال تعالى ان الذين امنوا والذين هادوا والنصرى والصبئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يجزنون (البقرة) وقال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصرى تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صدقين بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة) وقال ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا النساء

وقد ذكر الله عن الانبياء واتباعهم انهم كانوا مسلمين مؤمنين من نوح الى الحواريين وقال تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخسرين (آل عمران) وهذا عام في الاولين والاخرين وقال ان الدين عند الله الاسلام (آل عمران) وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة (النحل) وقوله تعالى اسلم وجهة لله وهو محسن أي اخلص قصده وعمله لله وهو محسن يفعل الصالحات وهذا هو الاسلام وهو ان يكون عمله عملا صالحا ويعمله لله تعالى وهذا هو عبادة الله وحده لا شريك له وبهذا بعث الله الرسل جميعهم


الرد على المنطقيين
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19