كتاب الأم/كتاب الجزية/الأصل فيمن تؤخذ الجزية منه ومن لا تؤخذ
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: بعث الله عز وجل رسوله ﷺ بمكة وهي بلاد قومه وقومه أميون، وكذلك من كان حولهم من بلاد العرب، ولم يكن فيهم من العجم إلا مملوك، أو أجير، أو مجتاز، أو من لا يذكر قال: الله تبارك وتعالى {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته} الآية فلم يكن من الناس أحد في أول ما بعث أعدى له من عوام قومه ومن حولهم، وفرض الله عز وجل عليه جهادهم فقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} فقيل: فيه فتنة شرك ويكون الدين كله واحدا لله وقال: في قوم كان بينه وبينهم شيء {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم} الآية. مع نظائر لها في القرآن. أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) أخبرنا سفيان بن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبي عصام المزني عن أبيه (أن النبي ﷺ كان إذا بعث سرية قال: إن رأيتم مسجدا، أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا) أخبرنا سفيان عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أليس قال: رسول الله ﷺ (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) قال: أبو بكر هذا من حقها لو منعوني عقالا مما أعطوا رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه ".
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: يعني من منع الصدقة، ولم يرتد أخبرنا الثقة عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة أن عمر قال: لأبي بكر هذا القول أو ما معناه.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وهذا مثل الحديثين قبله في المشركين مطلقا، وإنما يراد به والله تعالى أعلم مشركو أهل الأوثان، ولم يكن بحضرة رسول الله ﷺ ولا قربه أحد من مشركي أهل الكتاب إلا يهود المدينة وكانوا حلفاء الأنصار، ولم تكن أنصار اجتمعت أول ما قدم رسول الله ﷺ إسلاما فوادعت يهود رسول الله ﷺ ولم تخرج إلى شيء من عداوته بقول يظهر، ولا فعل حتى كانت وقعة بدر فكلم بعضها بعضا بعداوته والتحريض عليه فقتل رسول الله ﷺ فيهم، ولم يكن بالحجاز علمته إلا يهودي، أو نصراني بنجران وكانت المجوس بهجر وبلاد البربر وفارس نائين عن الحجاز دونهم مشركون أهل أوثان كثير.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فأنزل الله عز وجل على رسوله فرض قتال المشركين من أهل الكتاب فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) الآية. ففرق الله عز وجل كما شاء لا معقب لحكمه بين قتال أهل الأوثان ففرض أن يقاتلوا حتى يسلموا وقتل أهل الكتاب ففرض أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية، أو أن يسلموا وفرق الله تعالى بين قتالهم أخبرنا الثقة يحيى بن حسان عن محمد بن أبان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه (أن رسول الله ﷺ كان إذا بعث سرية أو جيشا أمر عليهم قال: إذا لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، أو ثلاث خلال شك علقمة ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين فإن أجابوك فاقبل منهم وأخبرهم أنهم إن فعلوا أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، وإن اختاروا المقام في دارهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله عز وجل كما يجري على المسلمين وليس لهم في الفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن لم يجيبوك إلى الإسلام فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم ودعهم، فإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم).
[قال الشافعي]: حدثني عدد كلهم ثقة عن غير واحد كلهم ثقة لا أعلم إلا أن فيهم سفيان الثوري عن علقمة بمثل معنى هذا الحديث لا يخالفه.
[قال الشافعي]: وهذا في أهل الكتاب خاصة دون أهل الأوثان وليس يخالف هذا الحديث حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)، ولكن أولئك الناس أهل الأوثان والذين أمر الله أن تقبل منهم الجزية أهل الكتاب، والدليل على ذلك ما وصفت من فرق الله بين القتالين، ولا يخالف أمر الله عز وجل أن يقاتل المشركون حتى يكون الدين لله ويقتلوا حيث وجدوا حتى يتوبوا ويقيموا الصلاة وأمر الله عز وجل بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، ولا تنسخ واحدة من الآي غيرها، ولا واحد من الحديثين غيره وكل فيما أنزل الله عز وجل ثم سن رسوله فيه.
[قال الشافعي]: ولو جهل رجل فقال: إن أمر الله بالجزية نسخ أمره بقتال المشركين حتى يسلموا جاز عليه أن يقول جاهل مثله بل الجزية منسوخة بقتال المشركين حتى يسلموا، ولكن ليس فيهما ناسخ لصاحبه، ولا مخالف.