مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/قاعدة في القرآن وكلام الله
قاعدة في القرآن وكلام الله
فإن الأمة اضطربت في هذا اضطرابًا عظيمًا، وتفرقوا واختلفوا بالظنون والأهواء بعد مضي القرون الثلاثة، لما حدثت فيهم الجهمية المشتقة من الصابئة، وقد قال الله تعالى: { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } 1، وقال تعالى: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } 2.
والاختلاف نوعان: اختلاف في تنزيله، واختلاف في تأويله.
والمختلفون الذين ذمهم الله هم المختلفون في الحق؛ بأن ينكر هؤلاء الحق الذي مع هؤلاء، أو بالعكس؛ فإن الواجب الإيمان بجميع الحق المنزل، فأما من آمن بذلك وكفر به غيره فهذا اختلاف يذم فيه أحد الصنفين، كما قال تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } إلى قوله: { وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } 3، والاختلاف في تنزيله أعظم، وهو الذي قصدنا هنا، فنقول:
الاختلاف في تنزيله هو بين المؤمنين والكافرين؛ فإن المؤمنين يؤمنون بما أنزل، والكافرون كفروا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله فسوف يعلمون، فالمؤمنون بجنس الكتاب والرسل من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين يؤمنون بذلك، والكافرون بجنس الكتاب والرسل من المشركين والمجوس والصابئين يكفرون بذلك.
وذلك أن الله أرسل الرسل إلى الناس لتبلغهم كلام الله الذي أنزله إليهم، فمن آمن بالرسل آمن بما بلغوه عن الله، ومن كذب بالرسل كذب بذلك، فالإيمان بكلام الله داخل في الإيمان برسالة الله إلى عباده، والكفر بذلك هو الكفر بهذا، فتدبر هذا الأصل، فإنه فرقان هذا الاشتباه؛ ولهذا كان من يكفر بالرسل تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على بشر، كما أنه قد يكفر برب العالمين؛ مثل فرعون وقومه، قال الله تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ } الآية 4، وقال تعالى عن نوح وهود: { أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } 5 وقال: { وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } 6 إلى آخر الكلام، فإن في هذه الآيات تقرير قواعد، وقال عن الوحيد 7: { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } 8.
ولهذا كان أصل الإيمان الإيمان بما أنزله، قال تعالى: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } إلى قوله: { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } 9 وفي وسط السورة: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } الآية 10، وفي آخرها: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ... } 11 الآيتين. وفي السورة التي تليها: { الم اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } 12. وذكر في أثناء السورة الإيمان بما أنزل، وكذلك في آخرها: { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } إلى قوله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } الآية 13.
ولهذا عظم تقرير هذا الأصل في القرآن، فتارة يفتتح به السورة إما إخبارًا كقوله: { ذَلِكَ الْكِتَابُ } وقوله: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } 14 وقوله: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } الآية 15. وكذلك ال { طس } وال { حم }. فعامة ال { الم } وال { الر }، وال { طس }، وال { حم } كذلك.
وإما ثناء بإنزاله كقوله: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } 16، { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } الآية 17.
وأما في أثناء السور فكثير جدًا، وثنى قصة موسى مع فرعون؛ لأنهما في طرفي نقيض في الحق والباطل؛ فإن فرعون في غاية الكفر والباطل حيث كفر بالربوبية وبالرسالة، وموسى في غاية الحق والإيمان من جهة أن الله كلمه تكليما لم يجعل الله بينه وبينه واسطة من خلقه، فهو مثبت لكمال الرسالة وكمال التكلم، ومثبت لرب العالمين بما استحقه من النعوت، وهذا بخلاف أكثر الأنبياء مع الكفار؛ فإن الكفار أكثرهم لا يجحدون وجود الله ولم يكن - أيضا - للرسل من التكليم ما لموسى، فصارت قصة موسى وفرعون أعظم القصص وأعظمها اعتبارًا لأهل الإيمان ولأهل الكفر؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقص على أمته عامة ليله عن بني إسرائيل، وكان يتأسى بموسى في أمور كثيرة، ولما بشر بقتل أبي جهل يوم بَدْر قال: «هذا فرعون هذه الأمة»، وكان فرعون وقومه من الصابئة المشركين الكفار؛ ولهذا كان يعبد آلهة من دون الله، كما أخبر الله عنه بقوله: { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } 18 وإن كان عالما بما جاء به موسى مستيقنا له، لكنه كان جاحدًا مثبورًا، كما أخبر الله بذلك في قوله: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } الآية 19 وقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } إلى قوله: { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ } الآية 20.
والكفار بالرسل من قوم نوح وعاد، وثمود وقوم لوط، وشعيب وقوم إبراهيم، وموسى ومشركي العرب، والهند والروم والبربر، والترك واليونان والكشدانيين، وسائر الأمم المتقدمين والمستأخرين، يتبعون ظنونهم وأهواءهم، ويعرضون عن ذكر الله، الذي آتاهم من عنده، كما قال لهم لما أهبط آدم من الجنة: { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } 21 وفي موضع آخر: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } الآية 22. وفي أخرى: { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } 23.
ثم إنهم مع أنهم ما نزل الله بما هم عليه من سلطان، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، يزعمون أن لهم العقل والرأي والقياس العقلي والأمثال المضروبة، ويسمون أنفسهم الحكماء والفلاسفة، ويدعون الجدل والكلام، والقوة والسلطان والمال، ويصفون أتباع المرسلين بأنهم سُفَهاء، وأراذل وضُلاَّل، ويسخرون منهم، قال الله تعالى: { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } 24 وقال: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } 25، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ } إلى قوله: { وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } 26 وقال تعالى عن قوم نوح: { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } 27 وقالوا: { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } 28 وقال: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ } 29 وقال: { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } 30، بل هم يصفون الأنبياء بالجنون والسَّفَه والضلال وغير ذلك، كما قالوا عن نوح: { مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } 31 وقالوا: { قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } 32 ولهود: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } 33.
هامش
- ↑ [البقرة: 176]
- ↑ [البقرة: 231]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [يونس: 2]
- ↑ [الأعراف: 63]
- ↑ [الأنعام: 91]
- ↑ [هو الوليد بن المغيرة]
- ↑ [المدثر: 25]
- ↑ [البقرة: 1 4]
- ↑ [البقرة: 136]
- ↑ [البقرة: 285، 286]
- ↑ [آل عمران: 1 4]
- ↑ [آل عمران: 193 199]
- ↑ [يونس: 1]
- ↑ [هود: 1]
- ↑ [الكهف: 1]
- ↑ [الفرقان: 1]
- ↑ [الأعراف: 127]
- ↑ [النمل: 13، 14]
- ↑ [الإسراء: 101، 102]
- ↑ [البقرة: 38، 39]
- ↑ [طه: 123، 124]
- ↑ [الأعراف: 35]
- ↑ [غافر: 83]
- ↑ [البقرة: 13]
- ↑ [المطففين: 29 33]
- ↑ [الشعراء: 111]
- ↑ [هود: 72]
- ↑ [البقرة: 212]
- ↑ [هود: 38]
- ↑ [القمر: 9]
- ↑ [الأعراف: 60]
- ↑ [الأعراف: 66]