مجموع الفتاوى/المجلد السابع/فصل: تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعا كثيرا
فصل: تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعا كثيرا
عدلثم بعد ذلك تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعًا كثيرًا، منه لفظي، وكثير منه معنوي، فإن أئمة الفقهاء لم ينازعوا في شيء مما ذكرناه من الأحكام وإن كان بعضهم أعلم بالدين وأقوم به من بعض، ولكن تنازعوا في الأسماء كتنازعهم في الإيمان: هل يزيد وينقص؟ وهل يستثنى فيه أم لا؟ وهل الأعمال من الإيمان أم لا؟ وهل الفاسق المِلِّي مؤمن كامل الإيمان أم لا؟
والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه، كما قال عُمَيْر بن حبيب الخَطْمِي وغيره من الصحابة: الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ فقال: إذا ذكرنا الله، وحمدناه، وسبحناه، فتلك زيادته. وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا، فذلك نقصانه، فهذه الألفاظ المأثورة عن جمهورهم.
وربما قال بعضهم وكثير من المتأخرين: قول وعمل ونية، وربما قال آخر: قول وعمل ونية واتباع السنة، وربما قال: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، أي بالجوارح. وروى بعضهم هذا مرفوعًا إلى النبي ﷺ في النسخة المنسوبة إلى أبي الصلت الهروي عن علي بن أبي موسى الرضا. وذلك من الموضوعات على النبي ﷺ، باتفاق أهل العلم بحديثه. وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق، والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هوقول المنافقين، وهذا لا يسمى قولا إلا بالتقييد، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} 1، وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين، التي لا يتقبلها الله. فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر، لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك، قال بعضهم: ونية، ثم بين آخرون: أن مطلق القول والعمل والنية لا يكون مقبولا إلا بموافقة السنة. وهذا حق أيضا، فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال، وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسمًا لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولابد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل حب الله، وخشية الله، والتوكل على الله، ونحو ذلك. فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها.
وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه؛ لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذا إحدى الروايتين عن مالك، والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم: إنه يزيد وينقص، وبعضهم عدل عن لفظ الزيادة والنقصان إلى لفظ التفاضل، فقال: أقول: الإيمان يتفاضل ويتفاوت، ويروى هذا عن ابن المبارك وكان مقصوده الإعراض عن لفظ وقع فيه النزاع، إلى معنى لا ريب في ثبوته. وأنكر حماد بن أبي سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء، وأما إبراهيم النَّخعِيّ إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبي سليمان وأمثاله، ومن قبله من أصحاب ابن مسعود؛ كعلقمة، والأسود فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة، وكانوا يستثنون في الإيمان، لكن حماد ابن أبي سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة، ومن بعدهم.
ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء وتبديعهم، وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحدًا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك، وقد نص أحمد وغيره من الأئمة: على عدم تكفير هؤلاء المرجئة. ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرًا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم، فقد غلط غلطًا عظيمًا. والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة، وأمثال هؤلاء، ولم يكفر أحمد الخوارج ولا القدرية إذا أقروا بالعلم، وأنكروا خلق الأفعال، وعموم المشيئة، لكن حكى عنه في تكفيرهم روايتان.
وأما المرجئة، فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال: إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة. وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين، وإنكار بدع الجهمية الملحدين، وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة، وإن كانوا جهالا مبتدعين، وظلمة فاسقين.
وهؤلاء المعروفون مثل حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة كانوا يجعلون قول اللسان، واعتقاد القلب من الإيمان، وهو قول أبي محمد بن كلاب وأمثاله، لم يختلف قولهم في ذلك، ولا نقل عنهم أنهم قالوا: الإيمان مجرد تصديق القلب.
لكن هذا القول حكوه عن الجهم بن صفوان، ذكروا أنه قال: الإيمان مجرد معرفة القلب، وإن لم يقر بلسانه، واشتد نكيرهم لذلك حتى أطلق وكيع بن الجراح، وأحمد ابن حنبل وغيرهما كفر من قال ذلك، فإنه من أقوال الجهمية، وقالوا: إن فرعون وإبليس وأبا طالب واليهود وأمثالهم، عرفوا بقلوبهم وجحدوا بألسنتهم، فقد كانوا مؤمنين. وذكروا قول الله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 2، وقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} 3، وقوله: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} 4، وقالوا: إبليس لم يكذب خبرًا، ولم يجحد، فإن الله أمره بلا رسول، ولكن عصى واستكبر، وكان كافرًا من غير تكذيب في الباطن، وتحقيق هذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وحدث بعد هؤلاء قول الكرامية: إن الإيمان قول اللسان، دون تصديق القلب، مع قولهم: إن مثل هذا يعذب في الآخرة ويخلد في النار. وقال أبو عبد الله الصالحي: إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم، فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب، وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر، كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة، وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما؛ ولهذا عدهم أهل المقالات من المرجئة. والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث: إن الإيمان قول وعمل، وهو اختيار طائفة من أصحابه، ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان.
والإيمان المطلق عنده ما يحصل به الموافاة، والاستثناء عنده يعود إلى ذلك، لا إلى الكمال والنقصان والحال. وقد منع أن يطلق القول بأن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، وصنف في ذلك مصنفًا معروفًا عند أهل السنة، في كتاب المقالات. وقال: إنه يقول بقولهم.
وقد ذهب طائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة كأبي منصور الماتريدي وأمثاله إلى نظير هذا القول في الأصل، وقالوا: إن الإيمان هو ما في القلب، وأن القول الظاهر شرط لثبوت أحكام الدنيا، لكن هؤلاء يقولون بالاستثناء ونحو ذلك كما عرف من أصلهم وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه، كما قال النبي ﷺ: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان».
ثم قالت الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان، فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره فحكموا بأن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان. وقالت المرجئة، والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئًا واحدًا لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءًا منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج، لكن قد يكون له لوازم ودلائل فيستدل بعدمه على عدمه.
وكان كل من الطائفتين بعد السلف والجماعة وأهل الحديث متناقضين، حيث قالوا: الإيمان قول وعمل، وقالوا مع ذلك: لا يزول بزوال بعض الأعمال، حتى إن ابن الخطيب وأمثاله جعلوا الشافعي متناقضًا في ذلك، فإن الشافعي كان من أئمة السنة، وله في الرد على المرجئة كلام مشهور، وقد ذكر في كتاب الطهارة من الأم إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم على قول أهل السنة، فلما صنف ابن الخطيب تصنيفًا فيه، وهو يقول في الإيمان بقول جهم والصالحي، استشكل قول الشافعي ورآه متناقضًا.
وجماع شبهتهم في ذلك: أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة. وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا. قالوا: فإذا كان الإيمان مركبًا من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها. وهذا قول الخوارج والمعتزلة، قالوا: ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمنًا بما فيه من الإيمان، كافرًا بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع، ولهذه الشبهة والله أعلم امتنع من امتنع من أئمة الفقهاء أن يقول بنقصه، كأنه ظن: إذا قال ذلك يلزم ذهابه كله، بخلاف ما إذا زاد.
ثم إن هذه الشبهة هي شبهة من منع أن يكون في الرجل الواحد طاعة ومعصية؛ لأن الطاعة جزء من الإيمان، والمعصية جزء من الكفر. فلا يجتمع فيه كفر وإيمان، وقالوا: ما ثم إلا مؤمن محض أو كافر محض، ثم نقلوا حكم الواحد من الأشخاص إلى الواحد من الأعمال، فقالوا: لا يكون العمل الواحد محبوبًا من وجه مكروهًا من وجه، وغلا فيه أبو هاشم فنقله إلى الواحد بالنوع فقال: لا يجوز أن يكون جنس السجود أو الركوع أو غير ذلك من الأعمال بعض أنواعه طاعة، وبعضها معصية؛ لأن الحقيقة الواحدة لا توصف بوصفين مختلفين، بل الطاعة والمعصية تتعلق بأعمال القلوب، وهو قصد الساجد دون عمله الظاهر، واشتد نكير الناس عليه في هذا القول وذكروا من مخالفته للإجماع وجحده للضروريات شرعًا وعقلا، ما يتبين به فساده.
وهؤلاء منتهى نظرهم أن يروا حقيقة مطلقة مجردة تقوم في أنفسهم، فيقولون: الإيمان من حيث هو هو، والسجود من حيث هو هو، لا يجوز أن يتفاضل، ولا يجوز أن يختلف وأمثال ذلك، ولو اهتدوا لعلموا أن الأمور الموجودة في الخارج عن الذهن متميزة بخصائصها، وأن الحقيقة المجردة المطلقة لا تكون إلا في الذهن، وأن الناس إذا تكلموا في التفاضل والاختلاف، فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمر مطلق مجرد في الذهن لا وجود له في الخارج، ومعلوم أن السواد مختلف، فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان. وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق الذي يتصوره الذهن فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، لكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان.
ومثل هذا الغلط وقع فيه كثير من الخائضين في أصول الفقه، حيث أنكروا تفاضل العقل أو الإيجاب أو التحريم، وإنكار التفاضل في ذلك قول القاضي أبي بكر وابن عقيل وأمثالهما، لكن الجمهور على خلاف ذلك، وهو قول أبي الحسن التميمي، وأبي محمد البربهاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي الخطاب وغيرهم. وكذلك وقع نظير هذا لأهل المنطق والفلسفة ولمن تابعهم من أهل الكلام والاتحاد، في توحيد واجب الوجود ووحدته، حتى أخرجهم الأمر إلى ما يستلزم التعطيل المحض، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وأهل المنطق اليونان مضطربون في هذا المقام، يقول أحدهم القول، ويقول نقيضه، كما هو مذكور في موضعه، ونحن نذكر ما يتعلق بهذا الموضع فنقول ولا حول ولا قوة إلا بالله: الكلام في طرفين:
أحدهما: أن شعب الإيمان هل هي متلازمة في الانتفاء؟
والثاني: هل هي متلازمة في الثبوت؟
أما الأول:
فإن الحقيقة الجامعة لأمور سواء كانت في الأعيان أو الأعراض إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ولا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، وسواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها. وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة، بل قد تبقى التسعة، فإذا زال أحد جزئي المركب لا يلزم زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون زالت الصورة المجتمعة، وزالت الهيئة الاجتماعية، وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب، كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.
فيقال: أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقى على تركيبه فهذا لا ينازع فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان، أو الصلاة، أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقى ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه، ولا يقول أحد: إن الشجرة أو الدار إذا زال بعضها بقيت مجتمعة كما كانت، ولا أن الإنسان أو غيره من الحيوان إذا زال بعض أعضائه بقى مجموعًا.
كما قال النبي ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانِه، أو يُنَصِّرَانِهِ، أو يُمَجِّسَانِهِ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء»، فالمجتمعة الخلق بعد الجدع لا تبقى مجتمعة، ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء.
وأما زوال الاسم فيقال لهم: هذا أولا بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال رسول الله ﷺ في الحديث المتفق عليه: «الإيمان بضع وسبعون شُعْبَة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، ونحن نسلم لهم أنه ما بقى إلا بعضه لا كله، وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت.
يبقى النزاع: هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء، فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين، منها: ما يكون التركيب شرطًا في إطلاق الاسم، ومنها: ما لا يكون كذلك، فالأول كاسم العشرة، وكذلك السكنجبين، ومنها ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء، وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب، وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك.
وكذلك لفظ العبادة، والطاعة، والخير، والحسنة، والإحسان، والصدقة، والعلم، ونحو ذلك، مما يدخل فيه أمور كثيرة، يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها، وعند زوال بعض الأجزاء وبقاء بعض، وكذلك لفظ القرآن فيقال على جميعه وعلى بعضه، ولو نزل قرآن أكثر من هذا لسمى قرآنا، وقد تسمى الكتب القديمة قرآنًا، كما قال النبي ﷺ: «خفف على داود القرآن»، وكذلك لفظ القول والكلام والمنطق ونحو ذلك، يقع على القليل من ذلك وعلى الكثير.
وكذلك لفظ الذكر والدعاء، يقال للقليل والكثير، وكذلك لفظ الجبل؛ يقال على الجبل وإن ذهب منه أجزاء كثيرة.
ولفظ البحر والنهر؛يقل عليه وإن نقصت أجزاؤه، وكذلك المدينة والدار والقرية والمسجد ونحو ذلك، يقال على الجملة المجتمعة، ثم ينقص كثير من أجزائها والاسم باق، وكذلك أسماء الحيوان والنبات كلفظ الشجرة، يقال على جملتها، فيدخل فيها الأغصان وغيرها، ثم يقطع منها ما يقطع والاسم باق، وكذلك لفظ الإنسان والفرس والحمار، يقال على الحيوان المجتمع الخلق، ثم يذهب كثير من أعضائه والاسم باق، وكذلك أسماء بعض الأعلام؛ كزيد وعمرو، يتناول الجملة المجتمعة، ثم يزول بعض أجزائها والاسم باق. وإذا كانت المركبات على نوعين، بل غالبها من هذا النوع، لم يصح قولهم: إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم، إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي.
ومعلوم أن اسم الإيمان من هذا الباب؛ فإن النبي ﷺ قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبه، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان». ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان.
وقد ثبت عنه ﷺ في الصحيحين أنه قال: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان»، فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه، وأن ذاك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة، ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن، والصلاة، والحج، ونحو ذلك، أما الحج ونحوه ففيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل كرمي الجمار، والمبيت بمنى، ونحو ذلك، وفيه أجزاء ينقص بزوالها من كماله المستحب، كرفع الصوت بالإهلال، والرَّمل والاضطباع في الطواف الأول.
وكذلك الصلاة، فيها أجزاء تنقص بزوالها عن كمال الاستحباب، وفيها أجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة، في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ما له أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، وأمور ليست كذلك. فقد رأيت أجزاء الشيء تختلف أحكامها شرعًا وطبعًا، فإذا قال المعترض: هذا الجزء داخل في الحقيقة، وهذا خارج من الحقيقة، قيل له: ماذا تريد بالحقيقة؟ فإن قال: أريد بذلك ما إذا زال صار صاحبه كافرًا، قيل له: ليس للإيمان حقيقة واحدة، مثل حقيقة مسمى مسلم في حق جميع المكلفين في جميع الأزمان بهذا الاعتبار، مثل حقيقة السواد والبياض، بل الإيمان والكفر يختلف باختلاف المكلف وبلوغ التكليف له، وبزوال الخطاب الذي به التكليف ونحو ذلك.
وكذلك الإيمان والواجب على غيره مطلق، لا مثل الإيمان الواجب عليه في كل وقت، فإن الله لما بعث محمدا رسولا إلى الخلق، كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت، ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل، فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنا تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافرًا.
قال الإمام أحمد: كان بدء الإيمان ناقصًا، فجعل يزيد حتى كمل؛ ولهذا قال تعالى عام حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} 5.
وأيضا، فبعد نزول القرآن وإكمال الدين، إذا بلغ الرجل بعض الدين دون بعض، كان عليه أن يصدق ما جاء به الرسول جملة، وما بلغه عنه مفصلا، وأما ما لم يبلغه ولم يمكنه معرفته، فذاك إنما عليه أن يعرفه مفصلا إذا بلغه، وأيضا. فالرجل إذا آمن بالرسول إيمانًا جازمًا، ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال، مات كامل الإيمان الذي وجب عليه، فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك. وكذلك القادر على الحج والجهاد يجب عليه ما لم يجب على غيره من التصديق المفصل، والعمل بذلك.
فصار ما يجب من الإيمان يختلف باختلاف حال نزول الوحي من السماء وبحال المكلف في البلاغ وعدمه، وهذا مما يتنوع به نفس التصديق، ويختلف حاله باختلاف القدرة والعجز وغير ذلك من أسباب الوجوب، وهذه يختلف بها العمل أيضا. ومعلوم أن الواجب على كل من هؤلاء لا يماثل الواجب على الآخر. فإذا كان نفس ما وجب من الإيمان في الشريعة الواحدة يختلف ويتفاضل وإن كان بين جميع هذه الأنواع قدر مشترك موجود في الجميع؛ كالإقرار بالخالق، وإخلاص الدين له والإقرار برسله واليوم الآخر على وجه الإجمال فمن المعلوم أن بعض الناس إذا أتى ببعض ما يجب عليه دون بعض كان قد تبعض ما أتى فيه من الإيمان، كتبعض سائر الواجبات.
يبقى أن يقال: فالبعض الآخر قد يكون شرطًا في ذلك البعض، وقد لا يكون شرطًا فيه، فالشرط كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه، أو آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} 6. وقد يكون البعض المتروك ليس شرطًا في وجود الآخر ولا قبوله.
وحينئذ، فقد يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق. وبعض شعب الإيمان وشعبة من شعب الكفر، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر»، وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «من مات ولم يغْزُ ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة نفاق»، وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية»، وفي الصحيح عنه ﷺ قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لن يدعوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم».
وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت»، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا ترْغَبُوا عن آبائكم، فإن كُفْرًا بكم أن ترغبوا عن آبائكم»، وهذا من القرآن الذي نسخت تلاوته: «لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن أبائكم»، وفي الصحيحين عن أبي ذر، سمع رسول الله ﷺ يقول: «ليس من رجل ادَّعَى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلا كَفَر، ومن ادَّعَى ما ليس له فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار، ومن رمى رجلا بالكفر، أو قال: ياعدو الله وليس كذلك، إلا رجع عليه».
وفي لفظ البخاري: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه، إلا كفر بالله ومن ادعى قومًا ليس منهم، فليتبوأ مقعده من النار»، وفي الصحيحين من حديث جرير وابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال في حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض» ورواه البخاري من حديث ابن عباس، وفي البخاري عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما»، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية في إثْرِ سَمَاء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: «أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب».
وفي صحيح مسلم قال: قال رسول الله ﷺ: «ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة، إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: بالكواكب، وبالكواكب» ونظائر هذا موجودة في الأحاديث. وقال ابن عباس وغير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 7 {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 8 و{الظَّالِمُونَ} 9: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. وقد ذكر ذلك أحمد والبخاري وغيرهما.
هامش
- ↑ [الفتح: 11]
- ↑ [النمل: 14]
- ↑ [البقرة: 146]
- ↑ [الأنعام: 33]
- ↑ [المائدة: 3]
- ↑ [النساء: 150، 151]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [المائدة: 47]
- ↑ [المائدة: 45]