مجموع الفتاوى/المجلد السابع/من يختصه الله بفضله
من يختصه الله بفضله
عدلوهكذا سائر من يفضله الله تعالى فإنه يفضله بالأسباب التي يستحق بها التفضيل بالجزاء، كما يخص أحد الشخصين بقوة ينال بها العلم، وبقوة ينال بها اليقين والصبر والتوكل والإخلاص، وغير ذلك مما يفضله الله به، وإنما فضله في الجزاء بما فضل به من الإيمان، كما قال تعالى: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى الله أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ الله} 1، وقال في الآية الأخرى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 2، وقال: {الله يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} 3، وقال: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} 4
وقد بين في مواضع أسباب المغفرة وأسباب العذاب، وكذلك يرزق من يشاء بغير حساب، وقد عرف أنه قد يخص من يشاء بأسباب الرزق.
وإذا كان من الإيمان ما يعجز عنه كثير من الناس، ويختص الله به من يشاء، فذلك مما يفضلهم الله به، وذلك الإيمان ينفي عن غيرهم، لكن لا على وجه الذم بل على وجه التفضيل، فإن الذم إنما يكون على ترك مأمور أو فعل محظور. لكن على ما ذكره أبو طالب، يقال: فمثل هؤلاء مسلمون لا مؤمنون باعتبار، ويقال: إنهم مؤمنون باعتبار آخر، وعلى هذا ينفي الإيمان عمن فاته الكمال المستحب، بل الكمال الذي يفضل به على من فاته، وإن كان غير مقدور للعباد بل ينفي عنه الكمال الذي وجب على غيره، وإن لم يكن في حقه لا واجبا ولا مستحبا، لكن هذا لا يعرف في كلام الشارع، ولم يعرف في كلامه إلا أن نفي الإيمان يقتضي الذم حيث كان، فلا ينفي إلا عمن له ذنب، فتبين أن قوله: «أو مسلم» توقف في أداء الواجبات الباطنة والظاهرة كما قال جماهير الناس.
ثم طائفة يقولون: قد يكون منافقا ليس معه شيء من الإيمان، وهم الذين يقولون: الأعراب المذكورون منافقون ليس معهم من الإيمان شيء، وهذا هو القول الذي نصره طائفة، كمحمد بن نصر، والأكثرون يقولون: بل هؤلاء لم يكونوا من المنافقين الذين لا يقبل منهم شيء من أعمالهم، وإن كان فيهم شعبة نفاق، بل كان معهم تصديق يقبل معه منهم ما عملوه لله؛ ولهذا جعلهم مسلمين؛ ولهذا قال: {أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 5، كما قالوا مثل ذلك في الزاني والسارق وغيرهما ممن نفى عنه الإيمان، مع أن معه التصديق. وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم.
وأبو طالب جعل من كان مذموما، لترك واجب، من المؤلفة قلوبهم الذين لم يعطوا شيئًا، وجعل ذلك الشخص مؤمنا غيره أفضل منه، وأما الأكثرون فيقولون: إثبات الإسلام لهم دون الإيمان كإثباته لذلك الشخص كان مسلما لا مؤمنًا كلاهما مذموم، لا لمجرد أن غيره أفضل منه، وقد قال النبي ﷺ: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» ولم يسلب عمن دونه الإيمان، وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى} 6.
فأثبت الإيمان للفاضل والمفضول، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وقد قال النبي ﷺ: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر»، وقال لسعد ابن معاذ لما حكم في بني قريظة: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرْقٍعَة»، وكان يقول لمن يرسله في جيش أو سرية: «إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك». وهذه الأحاديث الثلاثة في الصحيح، وفي حديث سليمان عليه السلام: «وأسألك حكمًا يوافق حكمك».
فهذه النصوص وغيرها تدل على ما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان: أن أحد الشخصين قد يخصه الله باجتهاد يحصل له به من العلم ما يعجز عنه غيره فيكون له أجران، وذلك الآخر عاجز له أجر ولا إثم عليه، وذلك العلم الذي خص به هذا، والعمل به باطنا، وظاهرا زيادة في إيمانه، وهو إيمان يجب عليه، لأنه قادر عليه، وغيره عاجز عنه فلا يجب. فهذا قد فضل بإيمان واجب عليه وليس بواجب على من عجز عنه.
وهذا حال جميع الأمة فيما تنازعت فيه من المسائل الخبرية والعملية، إذا خص أحدهما بمعرفة الحق في نفس الأمر مع اجتهاد الآخر وعجزه، كلاهما محمود مثاب مؤمن، وذلك خصه الله من الإيمان الذي وجب عليه بما فضله به على هذا. وذلك المخطئ لا يستحق ذما ولا عقابا، وإن كان ذاك لو فعل ما فعل ذم وعوقب، كما خص الله أمة نبينا بشريعة فضلها به، ولو تركنا مما أمرنا به فيها شيئًا، لكان ذلك سببا للذم والعقاب، والأنبياء قبلنا لا يذمون بترك ذلك، لكن محمد ﷺ فضله الله على الأنبياء، وفضل أمته على الأمم من غير ذم لأحد من الأنبياء، ولا لمن اتبعهم من الأمم.
وأيضا، فإذا كان الإنسان لا يجب عليه شيء من الإيمان إلا ما يقدر عليه، وهو إذا فعل ذلك كان مستحقا لما وعد الله به من الجنة، فلو كان مثل هذا يسمى مسلما ولا يسمى مؤمنا، لوجب أن يكون من أهل الوعد بالجنة من يسمى مسلما لامؤمنا كالأعراب، وكالشخص الذي قال فيه النبي ﷺ: «أو مسلم» وكسائر من نفى عنه الإيمان مع أنه مسلم، كالزاني، والشارب، والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وغير هؤلاء، وليس الأمر كذلك.
فإن الله لم يعلق وعد الجنة إلا باسم الإيمان، لم يعلقه باسم الإسلام مع إيجابه الإسلام، وإخباره أنه دينه الذي ارتضاه، وأنه لا يقبل دينا غيره، ومع هذا فما قال: إن الجنة أعدت للمسلمين، ولا قال: وعد الله المسلمين بالجنة، بل إنما ذكر ذلك باسم الإيمان، كقوله: {وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 7، فهو يعلقها باسم الإيمان المطلق، أو المقيد بالعمل الصالح، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 8، وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} 9، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 10، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} 11، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} 12، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا} 13، وفي الآية الأخرى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلا} 14، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 15، وقال: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 16، وقال: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 17، وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 18، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالوعد بالجنة، والرحمة في الآخرة، وبالسلامة من العذاب، علق باسم الإيمان المطلق، والمقيد بالعمل الصالح، ونحو ذلك، وهذا كما تقدم أن المطلق يدخل فيه فعل ما أمر الله به ورسوله، ولم يعلق باسم الإسلام. فلو كان من أتى من الإيمان بما يقدر عليه وعجز عن معرفة تفاصيله قد يسمى مسلما لا مؤمنًا، لكان من أهل الجنة، وكانت الجنة يستحقها من يسمى مسلما وإن لم يسم مؤمنا، وليس الأمر كذلك، بل الجنة لم تعلق إلا باسم الإيمان، وهذا أيضا مما استدل به من قال: إنه ليس كل مسلم من المؤمنين الموعودين بالجنة؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان وعد الجنة معلقا باسم الإسلام، كما علق باسم الإيمان وكما علق باسم التقوى واسم البر، في مثل قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} 19، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 20، وباسم أولياء الله، كقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 21، فلما لم يجر اسم الإسلام هذا المجرى، علم أن مسماه ليس ملازما لمسمى الإيمان كما يلازمه اسم البر والتقوى وأولياء الله، وأن اسم الإسلام يتناول من هو من أهل الوعيد، وإن كان الله يثيبه على طاعته، مثل أن يكون في قلبه إيمان، ونفاق يستحق به العذاب، فهذا يعاقبه الله ولا يخلده في النار؛ لأن في قلبه مثقال ذرة أو أكثر من مثقال ذرة من إيمان.
هامش
- ↑ [آل عمران: 72، 73]
- ↑ [الأنعام: 124]
- ↑ [الحج: 75]
- ↑ [الفتح: 14]
- ↑ [الحجرات: 17]
- ↑ [الحديد: 10]
- ↑ [التوبة: 72]
- ↑ [البينة: 7، 8]
- ↑ [البقرة: 25]
- ↑ [البقرة: 277]
- ↑ [النساء: 173]
- ↑ [النساء: 175]
- ↑ [النساء: 57]
- ↑ [النساء: 122]
- ↑ [آل عمران: 57]
- ↑ [المائدة: 9]
- ↑ [الأنعام: 48]
- ↑ [الأعراف: 42]
- ↑ [القمر: 54]
- ↑ [الانفطار: 13]
- ↑ [يونس: 62: 64]