مجموع الفتاوى/المجلد السابع/فصل: في الجمع بين الأحاديث التي ذكرت فيها أركان الإسلام الخمسة
فصل: في الجمع بين الأحاديث التي ذكرت فيها أركان الإسلام الخمسة
عدلأول ما في الحديث سؤاله عن الإسلام: فأجابه بأن «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت». وهذه الخمس هي المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا». وهذا قاله النبي ﷺ بعد أن فرض الله الحج، فلهذا ذكر الخمس: وأكثر الأحاديث لا يوجد فيها ذكر الحج في حديث وفد عبد القيس «آمركم بالإيمان بالله وحده. أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس». وحديث وفد عبد القيس من أشهر الأحاديث وأصحها. وفي بعض طرق البخاري لم يذكر الصيام، لكن هو مذكور في كثير من طرقه وفي مسلم، وهو أيضا مذكور في حديث أبي سعيد الذي ذكر فيه قصة وفد عبد القيس رواه مسلم، في صحيحه عنه، واتفقا على حديث ابن عباس وفيه أنه أمرهم بإيتاء الخمس من المغنم؛ والخمس إنما فرض في غزوة بدر، وشهر رمضان فرض قبل ذلك.
ووفد عبد القيس من خيار الوفد الذين وفدوا على النبي ﷺ، وقدومهم على النبي ﷺ كان قبل فرض الحج، وقد قيل قدموا سنة الوفود: سنة تسع والصواب أنهم قدموا قبل ذلك، فإنهم قالوا: إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر - يعنون أهل نجد - وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، وسنة تسع كانت العرب قد ذلت وتركت الحرب، وكانوا بين مسلم أو معاهد خائف لما فتح الله مكة ثم هزموا هوازن يوم حنين، وإنما كانوا ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، وقد بعث النبي ﷺ أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأردفه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لتنفيذ العهود التي كانت بين النبي ﷺ وبين العرب، إلا أنه أجلهم أربعة أشهر من حين حجة أبي بكر، وكانت في ذي القعدة. وقد قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} الآية1، وهذه الأربعة التي أجلوها الأربعة الحرم.
ولهذا غزا النبي ﷺ النصارى بأرض الروم عام تبوك سنة تسع قبل إرسال أبي بكر أميرا على الموسم، وإنما أمكنه غزو النصارى لما اطمأن من جهة مشركي العرب، وعلم أنه لا خوف على الإسلام منهم؛ ولهذا لم يأذن لأحد ممن يصلح للقتال في التخلف فلم يتخلف إلا منافق، أو الثلاثة الذين تيب عليهم أو معذور؛ ولهذا لما استخلف عليا على المدينة عام تبوك طعن المنافقون فيه لضعف هذا الاستخلاف وقالوا: إنما خلفه لأنه يبغضه. فاتبعه علي وهو يبكي فقال: أتخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». وكان قبل ذلك يستخلف على المدينة من يستخلفه وفيها رجال من أهل القتال، وذلك لأنه لم يكن حينئذ بأرض العرب لا بمكة ولا بنجد ونحوهما من يقاتل أهل دار الإسلام - مكة والمدينة وغيرهما - ولا يخيفهم، ثم لما رجع من تبوك أقر أبا بكر على الموسم يقيم الحج والصلاة، ويأمر ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأتبعه بعلي لأجل نقض العهود؛ إذ كانت عادة العرب أن لا يقبلوا إلا من المطاع الكبير أو من رجل من أهل بيته.
والمقصود: أن هذا يبين أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل ذلك؛ وأما حديث ضمام فرواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك: «نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل يسأله، ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا؟ قال: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: صدق ثم ولى الرجل وقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال: رسول الله ﷺ لئن صدق ليدخلن الجنة ». وعن أنس قال: بينما نحن جلوس مع النبي ﷺ في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله؛ ثم قال لهم: أيكم محمد؟ - والنبي ﷺ متكئ بين ظهرانيهم فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ؟ فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له: النبي ﷺ قد أجبتك فقال الرجل للنبي ﷺ: إنني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك؛ فقال: سل عما بدا لك؟ فقال: أسألك بربك ورب من قبلك؟ آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم وذكر أنه سأله عن الصلاة والزكاة؛ ولم يذكر الصيام والحج فقال: الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي؛ وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر».
هذان الطريقان في الصحيحين، لكن البخاري لم يذكر في الأول الحج، بل ذكر الصيام؛ والسياق الأول أتم، والناس يجعلون الحديثين حديثا واحدا. ويشبه - والله أعلم - أن يكون البخاري رأى أن ذكر الحج فيه وهما لأن سعد بن أبي بكر؛ هم من هوازن وهم أصهار رسول الله ﷺ وهوازن كانت معهم وقعة حنين بعد فتح مكة، فأسلموا كلهم بعد الوقعة، ودفع إليهم النبي ﷺ النساء والصبيان بعد أن قسمها على المعسكر، واستطاب أنفسهم في ذلك فلا تكون هذه الزيارة إلا قبل فتح مكة، والحج لم يكن فرض إذ ذاك.
وحديث طلحة بن عبيد الله ليس فيه إلا الصلاة والزكاة والصيام وقد قيل: إنه حديث ضمام وهو في الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله ﷺ فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله ﷺ «خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غير ذلك؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسول الله ﷺ الزكاة قال: هل علي غيرها قال: لا إلا أن تطوع قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله ﷺ: أفلح إن صدق» وليس في شيء من طرقه ذكر الحج بل فيه ذكر الصلاة والزكاة والصيام كما في حديث وفد عبد القيس.
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة فقال «تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه فلما ولى قال النبي ﷺ: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا»، وهذا يحتمل أن يكون ضماما، وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر الصلاة والزكاة فقط، كما في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن أعرابيا عرض لرسول الله ﷺ وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله أو يا محمد. أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار قال: فكف رسول الله ﷺ ثم نظر في أصحابه ثم قال: «لقد وفق أو لقد هدي ثم قال: كيف قلت؟ قال: فأعاد فقال رسول الله ﷺ: تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصل الرحم فلما أدبر قال رسول الله ﷺ: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة» هذه الألفاظ في مسلم.
وقد جاء ذكر الصلاة والصيام في حديث النعمان بن قوقل رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل النبي ﷺ قال: «أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أدخل الجنة؟ قال: نعم قال: والله لا أزيد على ذلك شيئا».
وفي لفظ أتى النبي ﷺ النعمان بن قوقل. وحديث النعمان هذا قديم؛ فإن النعمان بن قوقل قتل قبل فتح مكة قتله بعض بني سعد بن العاص، كما ثبت ذلك في الصحيح؛ فهذه الأحاديث خرجت جوابا لسؤال سائلين.
أما حديث ابن عمر فإنه مبتدأ، وأحاديث الدعوة، والقتال فيها الصلاة والزكاة، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله».
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رواه مسلم عن جابر «قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. فكان من فقه أبي بكر أنه فهم من ذلك الحديث المختصر أن القتال على الزكاة قتال على حق المال وقد بين النبي ﷺ مراده بذلك في اللفظ المبسوط الذي رواه ابن عمر.
والقرآن صريح في موافقة حديث ابن عمر كما قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} 2. وحديث معاذ لما بعثه إلى اليمن لم يذكر فيه النبي ﷺ إلا الصلاة والزكاة. فلما كان في بعض الأحاديث ذكر بعض الأركان دون بعض أشكل ذلك على بعض الناس. فأجاب بعض الناس بأن سبب هذا أن الرواة اختصر بعضهم الحديث الذي رواه، وليس الأمر كذلك؛ فإن هذا طعن في الرواة ونسبة لهم إلى الكذب إذ هذا الذي ذكره إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث وفد عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، وحديث ضمام حيث ذكر بعضهم الخمس وبعضهم لم يذكره، وحديث النعمان بن قوقل حيث ذكر بعضهم فيه الصيام، وبعضهم لم يذكره، فبهذا يعلم أن أحد الراويين اختصر البعض أو غلط في الزيادة. فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيهما كذلك لا سيما والأحاديث قد تواترت بكون الأجوبة كانت مختلفة وفيهما ما بين قطعا أن النبي ﷺ تكلم بهذا تارة وبهذا تارة والقرآن يصدق ذلك؛ فإن الله علق الأخوة الإيمانية في بعض الآيات بالصلاة والزكاة فقط كما في قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 3 كما أنه علق ترك القتال على ذلك في قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} 4 وقد تقدم حديث ابن عمر الذي في الصحيحين موافقا لهذه الآية وأيضا فإن في حديث وفد عبد القيس ذكر خمس المغنم، لأنهم كانوا طائفة ممتنعة يقاتلون، ومثل هذا لا يذكر جواب سؤال سائل بما يجب عليه في حق نفسه، ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن النبي ﷺ أجاب بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي؛ بل قد ثبت في الصحيح أن أول ما أنزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} - إلى قوله - {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 5 ثم أنزل عليه بعد ذلك {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} {قُمْ فَأَنذِرْ} 6 فهذا الخطاب إرسال له إلى الناس والإرسال بعد الإنباء؛ فإن الخطاب الأول ليس فيه إرسال وآخر سورة اقرأ {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 7. فأول السورة أمر بالقراءة وآخرها أمر بالسجود؛ والصلاة مؤلفة من أقوال وأعمال فأفضل أقوالها القراءة وأفضل أعمالها السجود؛ والقراءة أول أقوالها المقصودة، وما بعده تبع له. وقد روي أن الصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرضت الخمس ليلة المعراج وكانت ركعتين ركعتين؛ فلما هاجر أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، وكانت الصلاة تكمل شيئا بعد شيء، فكانوا أولا يتكلمون في الصلاة، ولم يكن فيها تشهد ثم أمروا بالتشهد؛ وحرم عليهم الكلام؛ وكذلك لم يكن بمكة لهم أذان.
وإنما شرع الأذان بالمدينة بعد الهجرة؛ وكذلك صلاة الجمعة والعيد؛ والكسوف، والاستسقاء، وقيام رمضان وغير ذلك. إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة. وأمروا بالزكاة، والإحسان في مكة أيضا، ولكن فرائض الزكاة ونصبها إنما شرعت بالمدينة. وأما صوم شهر رمضان فهو إنما فرض في السنة الثانية من الهجرة؛ وأدرك النبي ﷺ تسع رمضانات. وأما الحج فقد تنازع الناس في وجوبه؛ فقالت طائفة فرض سنة ست من الهجرة عام الحديبية باتفاق الناس. قالوا: وهذه الآية تدل على وجوب الحج ووجوب العمرة أيضا، لأن الأمر بالإتمام يتضمن الأمر بابتداء الفعل وإتمامه. وقال الأكثرون: إنما وجب الحج متأخرا قيل سنة تسع؛ وقيل سنة عشر وهذا هو الصحيح؛ فإن آية الإيجاب إنما هي قوله تعالى: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 8 وهذه الآية في آل عمران في سياق مخاطبته لأهل الكتاب، وصدر آل عمران وما فيها من مخاطبة أهل الكتاب نزل لما قدم على النبي ﷺ وفد نجران النصارى وناظروه في أمر المسيح؛ وهم أول من أدى الجزية من أهل الكتاب، وكان ذلك بعد إنزال سورة براءة التي شرع فيها الجزية، وأمر فيها بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وغزا النبي ﷺ غزوة تبوك التي غزا فيها النصارى لما أمر الله بذلك في قوله: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 9 ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث وإنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
وقد قدم على النبي ﷺ وفد عبد القيس، وكان قدومهم قبل فتح مكة على الصحيح، كما قد بيناه وقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر يعنون بذلك أهل نجد: من تميم وأسد وغطفان، لأنهم بين البحرين وبين المدينة، وعبد القيس هم من ربيعة ليسوا من مضر؛ ولما فتحت مكة زال هذا الخوف، ولما قدم عليه وفد عبد القيس أمرهم بالصلاة والزكاة؛ وصيام رمضان؛ وخمس المغنم؛ ولم يأمرهم بالحج وحديث ضمام قد تقدم أن البخاري لم يذكر فيه الحج، كما لم يذكره في حديث طلحة وأبي هريرة وغيرهما مع قولهم: إن هذه الأحاديث هي من قصة ضمام وهذا ممكن؛ مع أن تاريخ قدوم ضمام هذا ليس متيقنا.
وأما قوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله} 10 فليس في هذه الآية إلا الأمر بإتمام ذلك وذلك يوجب إتمام ذلك على من دخل فيه، فنزل الأمر بذلك لما أحرموا بالعمرة عام الحديبية، ثم أحصروا فأمروا بالإتمام وبين لهم حكم الإحصار، ولم يكن حينئذ قد وجب عليهم لا عمرة ولا حج.
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض الظاهرة التي تقاتل على تركها الطائفة الممتنعة كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة ما يجب على السائل، فمن أجابه بالصلاة والصيام، لم يكن عليه زكاة يؤديها ومن أجابه بالصلاة والزكاة والصيام: فإما أن يكون قبل فرض الحج؛ وهذا هو الواجب في مثل حديث عبد القيس ونحوه، وإما أن يكون السائل ممن لا حج عليه.
وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض؛ ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما؛ لأنهما عبادتان؛ بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد؛ فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم، وأن يأكل سرا كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وأما الصلاة والزكاة، فأمر ظاهر لا يمكن الإنسان بين المؤمنين أن يمتنع من ذلك. وهو ﷺ يذكر في الإسلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل عليها الناس، ويصيرون مسلمين بفعلها؛ فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان الصوم واجبا، كما في آيتي براءة، فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس.
وكذلك «لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» أخرجاه في الصحيحين.
ومعاذ أرسله إلى اليمن في آخر الأمر بعد فرض الصيام؛ بل بعد فتح مكة بل بعد تبوك وبعد فرض الحج والجزية فإن النبي ﷺ مات ومعاذ باليمن وإنما قدم المدينة بعد موته؛ ولم يذكر في هذا الحديث الصيام لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج؛ لأن وجوبه خاص ليس بعام وهو لا يجب في العمر إلا مرة.
ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئا من هذه الفرائض الأربع بعد الاقرار بوجوبها؛ فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهوكافر بإتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وائمتها، وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة، وهم جهمية المرجئة: كجهم والصالحى وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن؛ وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة. وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الايمان الباطن تصديقا وحبا وإنقيادا بدون الإقرار الظاهر ممتنع.
وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها، كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك، وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الاسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل. وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد:
أحدها: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد إختارها أبو بكر
والثاني: أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الاقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره.
والثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد.
والرابع: يكفر بتركها وترك الزكاة فقط.
والخامس: بتركها، وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج وهذه المسألة لها طرفان:
أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.
والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
فأما الطرف الثاني: فهو مبنى على مسألة كون الايمان قولا وعملا؛ كما تقدم ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح؛ ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} 11. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما،
في الحديث الطويل، حديث التجلي «أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق لا يستطيع السجود» فإذا كان هذا حال من سجد رياء، فكيف حال من لم يسجد قط؛ وثبت أيضا في الصحيح «أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء الا موضع السجود فان الله حرم على النار أن تأكله» فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله؛ وكذلك ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ يعرف أمته يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فدل على أن من لم يكن غرا محجلا لم يعرفه النبي ﷺ، فلا يكون من أمته وقوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} 12
وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} 13 وكذلك قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 14 وكذلك قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} 15 فوصفه بترك الصلاة، كما وصفه بترك التصديق، ووصفه بالتكذيب والتولي والمتولي هو العاصي الممتنع من الطاعة. كما قال تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ الله أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 16 وكذلك وصف أهل سقر بأنهم لم يكونوا من المصلين، وكذلك قرن التكذيب بالتولي في قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرَى كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} 17
وأيضا في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فاذا انتفي ذلك انتفت الأخوة وأيضا فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» وفي المسند «من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة».
وأيضا فإن شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها فيقال: اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
وفي الصحيح «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا» وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك؛ مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه. . . أدخله الله الجنة» ونحو ذلك من النصوص.
وأجود ما اعتمدوا عليه قوله ﷺ: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة».
قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة، ولا دلالة في هذا؛ فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} 18 وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي ﷺ صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها، وعلى غيرها من الصلوات، وقد قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} 19 فقيل لابن مسعود وغيره: ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها. فقالوا: ما كنا نظن
ذلك إلا تركها. فقال: لو تركوها لكانوا كفارا. وكذلك قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} 20 ذمهم مع أنهم يصلون، لأنهم سهوا عن حقوقها الواجبة، من فعلها في الوقت، وإتمام أفعالها المفروضة، كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» فجعل هذه صلاة المنافقين لكونه أخرها عن الوقت، ونقرها؛ وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر؛ وقالوا يا رسول الله أفلا نقاتلهم قال: «لا ما صلوا» وثبت عنه أنه قال: «سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة» فنهى عن قتالهم إذا صلوا، وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، وذلك ترك المحافظة عليها لا تركها وإذا عرف الفرق بين الأمرين، فالنبي ﷺ، إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها ولا يتناول من لم يحافظ، فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفارا مرتدين بلا ريب، ولا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزما لشريعة النبي ﷺ وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطن قط لا يكون إلا كافرا، ولو قال: أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها، كان هذا القول مع هذه الحال كذبا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذبا فيما أظهره من القول؛ فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان وأن الأعمال ليست من الإيمان وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم ايمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه.
وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات، ويترك بعضها، كان معه من الايمان بحسب ما فعله، والإيمان يزيد وينقص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق؛ كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيرا من الناس؛ بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة بل يصلون أحيانا، ويدعون أحيانا، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الأسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام؛ فإن هذه الاحكام إذا جرت على المنافق المحض كابن أبي وأمثاله من المنافقين فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى.
وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة، فإن كثيرا من الققهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر. وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه كابن أبي وأمثاله ومع هذا، فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماؤهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته.
ولما خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب رضي الله عنه واعتزلوا جماعة المسلمين قال لهم: إن لكم علينا ألا نمنعكم المساجد، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء، فلما استحلوا قتل المسلمين وأخذ أموالهم، قاتلهم بأمر النبي ﷺ؛ حيث قال: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، ، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة».
فكانت الْحَرُورِيَّة قد ثبت قتالهم بسنة النبي ﷺ، واتفاق أصحابه، ولم يكن قتالهم قتال فتنة كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين في المسلمين، بل قد ثبت عن النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أنه قال للحسن ابنه: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، وقال في الحديث الصحيح: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، فتقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق»، فدل بهذا على أن ما فعله الحسن من ترك القتال إما واجبًا أو مستحبًا، لم يمدحه النبي ﷺ على ترك واجب أو مستحب، ودل الحديث الآخر على أن الذين قاتلوا الخوارج وهم علي وأصحابه، كان أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن قتال الخوارج أمر به النبي ﷺ ليس قتالهم كالقتال في الجمل وصفين، الذي ليس فيه أمر من النبي.
والمقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه، لم يحكموا بكفرهم ولا قاتلوهم حتى بدؤوهم بالقتال. والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكى عنه في ذلك قولان، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد.
والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول. فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع.
فإن قيل: فالله قد أمر بجهاد الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن، فإذا كان المنافق تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر، فكيف يمكن مجاهدته؟
قيل: ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق، لابد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وقد قال تعالى في حق المنافقين: {وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 21. فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات، وفعل المحرمات ما يستحق عليه العقوبة، عوقب على الظاهر، ولا يعاقب على ما يعلم من باطنه، بلا حجة ظاهرة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يعلم من المنافقين، من عرفه الله بهم، وكانوا يحلفون له وهم كاذبون، وكان يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله. وأساس النفاق الذي بني عليه وأن المنافق لابد أن تختلف سريرته وعلانيته وظاهره وباطنه؛ ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} 22، وقال: {وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 23 وأمثال هذا كثير، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 24، وقال {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 25.
وبالجملة فأصل هذه المسائل: أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر، وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة، كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا، فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين.
وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد.
ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازمًا له، أو جزءًا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئًا خطأ بينًا، وهذه بدعة الإرجاء، التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها.
هامش
- ↑ [التوبة: 5]
- ↑ [التوبة: 5]
- ↑ [التوبة: 11]
- ↑ [التوبة: 5]
- ↑ [العلق: 1: 5]
- ↑ [المدثر: 1، 2]
- ↑ [العلق: 19]
- ↑ [آل عمران: 97]
- ↑ [التوبة: 29]
- ↑ [البقرة: 196]
- ↑ [القلم: 42، 43]
- ↑ [المرسلات: 46: 49]
- ↑ [الإنشقاق: 21: 23]
- ↑ [القيامة: 31، 32]
- ↑ [المدثر: 42: 47]
- ↑ [الفتح: 16]
- ↑ [العلق: 9: 16]
- ↑ [البقرة: 238]
- ↑ [مريم: 59]
- ↑ [الماعون: 4، 5]
- ↑ [محمد: 30]
- ↑ [البقرة: 10]
- ↑ [المنافقون: 1]
- ↑ [الحجرات: 15]
- ↑ [البقرة: 177]