محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الأولى

ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414)


كتاب البيوع

1411 - مسألة: البيع قسمان: إما بيع سلعة حاضرة مرئية مقلبة بسلعة كذلك، أو بسلعة بعينها غائبة معروفة موصوفة، أو بدنانير، أو بدراهم: كل ذلك حاضر مقبوض، أو إلى أجل مسمى، أو حالة في الذمة وإن لم يقبض. والقسم الثاني: بيع سلعة بعينها غائبة معروفة أو موصوفة بمثلها، أو بدنانير، أو بدراهم: كل ذلك حاضر مقبوض، أو إلى أجل مسمى، أو حالة في الذمة وإن لم يقبض. أما بيع الحاضر المرئي المقلب بمثله أو بدنانير أو دراهم حاضرة مقبوضة أو إلى أجل مسمى، أو حالة في الذمة: فمتفق على جوازه.

وأما بيع سلعة غائبة بعينها مرئية موصوفة معينة، ففيه خلاف فأحد قولي الشافعي: المنع من بيع الغائب جملة وقال مرة: هو جائز وله خيار الرؤية، وقال مرة: مثل قولنا في جواز بيع الغائب وجواز النقد فيه ولزوم البيع إذا وجد على الصفة التي وقع البيع عليها بلا خيار في ذلك. وأجاز مالك بيع الغائبات إلا أنه لم يجز النقد فيها جملة في أحد قوليه: رواه ابن وهب عنه وأجاز ابن القاسم عنه النقد في الضياع والدور قربت أم بعدت

وأما العروض فإنه أجاز النقد فيه إن كان قريبا، ولا يجوز إن كان بعيدا.

وقال أبو حنيفة: بيع الغائبات جائز موصوفة وغير موصوفة، والنقد في ذلك جائز إلا أن الخيار للمشتري إذا رأى ما اشترى، فله حينئذ أن يرد البيع، وأن يمضيه سواء وجده كما وصف له، أو وجده بخلاف ما وصف له. وله الخيار أيضا في فسخ البيع أو إمضائه قبل أن يرى ما اشترى. ولو أشهد على نفسه أنه قد أسقط ماله من الخيار، وأنه قد أمضى البيع والتزمه: لم يلزمه شيء من ذلك وهو بالخيار كما كان فإذا رأى وجه الجارية التي اشترى وهي غائبة ولم يقلب سائرها فقد لزمته وسقط خياره، ولا يردها إلا من عيب

وكذلك القول في العبد سواء سواء. قال: فإن اشترى دابة غائبة فرأى عجزها لزمته وإن لم ير سائرها، ولا يردها إلا من عيب، وكذلك سائر الحيوان حاشا بني آدم. قال: فإن اشترى ثيابا غائبة أو حاضرة مطوية فرأى ظهورها ومواضع طيها ولم ينشرها فقد لزمته وسقط خياره، ولا يردها إلا من عيب. قال: فإن اشترى ثيابا هروية في جراب أو ثيابا زطية في عدل، أو سمنا، في زقاق، أو زيتا كذلك، أو حنطة في غرارة، أو عروضا مما لا يكال، ولا يوزن، أو حيوانا ولم ير شيئا من ذلك: فإن له خيار الرؤية حتى يرى كل ما اشترى من ذلك. ولو رأى جميع الثياب إلا واحدا منها أو جميع الدواب إلا واحدا منها فله فسخ البيع إن شاء، وسواء وجد كل ما رأى كما وصف له بخلاف ما وصف له، إلا السمن والزيت، والحنطة، فإنه إن رأى بعض ذلك فكان ما لم ير منه مثل الذي رأى: فقد لزمه البيع وسقط خياره. قال: فإن ابتاع دارا فرآها من خارجها ولم يرها من داخل: فقد لزمته وسقط خيار الرؤية، ولا يردها إلا من عيب

وروي عن زفر: أنه لا يسقط خياره إلا حتى يرى مع ذلك شيئا من أرضها. وقال أبو يوسف: لمس الأعمى لباب الدار ولحائطها: يسقط خياره ويلزمه البيع، ولا يردها إلا من عيب. قال أبو حنيفة، وأصحابه: وليس له أن يرد البيع إذا رأى ما ابتاع إلا بمحضر البائع، فلو اشترى اثنان شراء واحد غائبا فرأياه فرد أحدهما البيع وأجازه الآخر فلا يجوز الرد إلا أن يرداه معا. قالوا: فإن أرسل رسولا ليقبض له ما اشترى فرأى الرسول الشيء المبيع وقبضه فالمشتري باق على خياره، فلو وكل وكيلا فرأى الوكيل الشيء المبيع وقبضه فقد سقط خيار المشتري في قول أبي حنيفة، ولم يسقط عند أبي يوسف، ومحمد، وقال أبو حنيفة مرة: الخيار أيضا للبائع إذا باع ما لم ير كما للمشتري، ثم رجع عن ذلك.

قال أبو محمد: وروي في ذلك عن السلف وفي ذلك أثر، وهو أن عثمان باع من طلحة رضي الله عنهما أرضا بالكوفة، فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أر، وقال طلحة: بل لي الخيار لأني اشتريت ما لم أر: فحكم بينهما جبير بن مطعم، فقضى: أن الخيار لطلحة لا لعثمان وقال ابن شبرمة: بخيار الرؤية للبائع وللمشتري معا كما روي عن عثمان.

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم، ويونس بن عبيد والمغيرة، قال إسماعيل: عن الشعبي، وقال يونس: عن الحسن، وقال المغيرة: عن إبراهيم، ثم اتفقوا كلهم فيمن اشترى شيئا لم ينظر إليه كائنا ما كان، قالوا: هو بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك، وقال إبراهيم: هو بالخيار وإن وجده كما شرط له، وروي أيضا عن مكحول، وهو قول الأوزاعي، وسفيان الثوري والنقد عندهم في كل ذلك جائز. وخالفهم غيرهم، كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: إذا ابتاع الرجل البيع ولم يره ونعت له فوافق النعت وجب في عتقه. قال الحجاج: وحدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن ابن سيرين: إذا ابتاع البيع ولم يره فوصفه له البائع فجاء على الوصف فهو له. وقال الحسن: هو بالخيار إذا رآه. قال أيوب: ولا أعلم رجلا اشترى بيعا لم يره فوصفه له البائع فوجده على ما وصفه له فرده عليه إلا هو من الظالمين.

ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا جرير عن المغيرة عن الحارث العكلي فيمن اشترى العدل من البر فنظر بعض التجار إلى بعضه فقد وجب عليه إذا لم ير عوارا فيما لم ينظر إليه.

ومن طريق شعبة عن الحكم، وحماد فيمن اشترى عبدا قد رآه بالأمس ولم يره يوم اشتراه، قالا جميعا: لا يجوز حتى يراه يوم اشتراه.

قال أبو محمد: هذا كله ما نعلمه عن المتقدمين.

فأما أقوال أبي حنيفة التي ذكرنا فأقوال في غاية الفساد لا تؤثر عن أحد من أهل الإسلام قبله نعني الفرق بين ما يسقط الخيار مما يرى من الرقيق، ومما يرى من الدواب، ومما يرى من الثياب الزطية في الوعاء، وما يرى من الثياب التي ليست في عدل، وما يرى من السمن، والزيت، والحنطة، والدور، وكل ذلك وساوس لا حظ لها في شيء من العقل، ولا لها مجاز على القرآن، ولا السنن، ولا الروايات الفاسدة، ولا قول أحد من السلف، ولا من قياس لا جلي، ولا خفي، ولا من رأي له حظ من السداد، وما كان هكذا فلا يحل لأحد القول به.

وأما قولا مالك جميعا فكذلك أيضا سواء سواء، ولا نعلمهما عن أحد قبله، وما لهم شبهة أصلا، إلا أن بعضهم ادعى العمل في ذلك، وهذا باطل؛ لأنهما عنه قولان كما ذكرنا كلاهما مخالف لصاحبه فإن كان العمل على أحدهما فقد خالف العمل في قوله الآخر، وخلاف المرء لما يراه حجة قاطعة في الدين عظيم جدا، وليس في الممكن أن يكون العمل على كليهما.

وأيضا: فإن تحديده جواز النقد إن كان المبيع قريبا ومنعه من النقد إن كان المبيع بعيدا وهو لم يحد مقدار البعد الذي يحرم فيه النقد من القرب الذي يجوز فيه النقد عجب جدا وأي عجب أعجب ممن يحرم ويحلل ثم لا يبين لمن يتبعه العمل المحرم ليجتنبه من المحلل ليأتيه.

واحتج بعض مقلديه في المنع من النقد في ذلك، وهو قول الليث بأن قال: إن نقد في ذلك ثم وجده على خلاف ما وصف له فرد البيع كان البائع قد انتفع بالثمن مدة فصار ذلك سلفا جر منفعة.

قال أبو محمد: وهذا الأحتجاج أفسد من القول الذي احتج له. ونقول لهم: نعم فكان ماذا وما صار قط سلفا جر منفعة بل هو بيع كسائر البيوع، ولا فرق. ثم أين وجدتم المنع من سلف جر منفعة في أي كتاب الله عز وجل وجدتم ذلك أم في أي سنة لرسول الله أم في أي قول صاحب ثم العجب كله أنه ليس على ظهر الأرض سلف إلا وهو يجر منفعة للمستسلف، ولولا أنه ينتفع به ما استسلفه، فما سمعنا بأبرد، ولا بأغث من هذا القول ثم لو كان ما ذكروا لوجب بذلك إبطال جميع البيوع كلها؛ لأنه لا بيع في العالم إلا وهذه العلة موجودة فيه؛ لأنه لا بيع إلا وممكن أن يستحق فيرد، أو يوجد فيه عيب فيرد به، فهلا منعوا النقد في كل بيع من أجل ذلك لأنه إذا رد صار البائع قد رد إلى المشتري الثمن بعد أن انتفع به فيصير سلفا جر منفعة وما ندري كيف يستجيز ذو ورع أن يغر قوما من المسلمين بمثل هذا الأحتجاج الفاسد ونسأل الله العافية فسقط هذا القول جملة.

وأما قول الشافعي في المنع من بيع الغائب فإن أصحابه احتجوا له بنهي رسول الله عن بيع الغرر، وعن الملامسة، والمنابذة، لا نعلم لهم حجة غير هذا أصلا، ولا حجة لهم فيه؛ لأن بيع الغائب إذا وصف عن رؤية، وخبرة، ومعرفة، وقد صح ملكه لما اشترى، فأين الغرر. فإن قالوا: قد تهلك السلعة قبل حين البيع فيقع البيع فاسدا

قلنا: وقد تستحق السلعة فيقع البيع فاسدا، ولا فرق فأبطلوا بهذا النوع من الغرر كل بيع في الأرض، فلا غرر ههنا أصلا، إلا كالغرر في سائر البيوع كلها، ولا فرق.

وأما المنابذة، والملامسة فروينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت عبيد الله، هو ابن عمر عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي : أنه نهى عن بيعتين: المنابذة والملامسة، وزعم أن الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسا والمنابذة أن يقول: أنبذ ما معي وتنبذ ما معك ليشتري أحدهما من الآخر، ولا يدري كل واحد منهما كم مع الآخر، ونحو من ذا ".

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أبو داود الطيالسي، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا أبي عن صالح، هو ابن كيسان، عن ابن شهاب أن عامر بن سعد بن أبي وقاص أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن الملامسة، والملامسة لبس الثوب لا ينظر إليه وعن المنابذة، والمنابذة طرح الرجل ثوبه إلى الرجل قبل أن يقلبه.

قال أبو محمد: وهذا حرام بلا شك، وهذا تفسير أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما، وهما الحجة في الشريعة، واللغة، ولا مخالف لهما في هذا التفسير، وليس هذا بيع غائب ألبتة، بل هو بيع حاضر فظهر تمويه من احتج منهم بهذين الخبرين.

قال علي: إلا أن هذين الخبرين هما حجة على أبي حنيفة في إجازته بيع الغائب والحاضر غير موصوفين، ولا مرئيين.

قال علي: ومما يبطل قول الشافعي أنه لم يزل المسلمون يتبايعون الضياع بالصفة؛ وهي في البلاد البعيدة، قد بايع عثمان ابن عمر، رضي الله عنهم، مالا لعثمان بخيبر بمال لأبن عمر بوادي القرى، وهذا أمر مشهور. فإن احتجوا بنهي النبي عن بيع ما ليس عندك.

قلنا: نعم، والغائب هو عند بائعه لا مما ليس عنده؛ لأنه لا خلاف في لغة العرب في صدق القائل: عندي ضياع، وعندي دور، وعندي رقيق ومتاع غائب وحاضر إذا كان كل ذلك في ملكه، وإنما ليس عند المرء ما ليس في ملكه فقط، وإن كان في يده. والبرهان على فساد قول الشافعي هذا هو قول الله تعالى: {وأحل الله البيع}.

وقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. فبيع الغائب بيع داخل فيما أحله الله تعالى، وفي التجارة التي يتراضى بها المتبايعان، فكل ذلك حلال إلا بيعا حرمه الله تعالى على لسان رسوله في القرآن، والسنة الثابتة. ومن الباطل المتيقن أن يكون الله تعالى يحرم علينا بيعا من البيوع فيجمل لنا إباحة البيع جملة، ولا يبينه لنا على لسان نبيه المأمور بالبيان، هذا أمر قدمناه ولله تعالى الحمد لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وليس في وسعنا أن نعرف ما حرم الله علينا، وما أحله لنا، وما أوجبه علينا، إلا بورود النص بذلك، وما نعلم للشافعي في المنع من بيع الغائبات الموصوفات سلفا.

فإن قيل: فأين قول الحكم، وحماد، الذي رويتموه آنفا. قلنا: إنهما لم يمنعا من بيع الغائب، وإنما منعا من بيع ما لم يره المشتري يوم الشراء وقد يراه في أول النهار ويغيب بعد ذلك فلم يشترطا حضوره في حين عقد البيع، ولا يحل أن يقول أحد ما لم يقل بالظن الكاذب وبالله التوفيق.

قال علي: فسقطت هذه الأقوال كلها، وبقي قول من أوجب خيار الرؤية جملة على ما روينا عن إبراهيم، والحسن، والشعبي، ومكحول، وأحد قولي الشافعي، فوجدناهم يذكرون أثرا رويناه من طريق وكيع عن الحسن بن حي عن الحسن البصري " أن رسول الله قال: من اشترى بيعا فهو بالخيار حتى ينظر إليه.

قال أبو محمد: وهذا مرسل، ولا حجة في مرسل، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة؛ لأنه ليس فيه: أن له الخيار إذا وجده كما وصف له، وظاهره قطع الخيار بالنظر، فهو مخالف لقول أبي حنيفة جملة وبالله تعالى التوفيق. وهذا مما تركه المالكيون، وهم يقولون بالمرسل؛ لأنهم لا يجعلون لهم خيارا قبل أن يراه أصلا. وذكروا ما روينا من طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن مكحول " أن رسول الله قال: من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء رده. وإسماعيل ضعيف، وأبو بكر بن مريم مذكور بالكذب، ومرسل مع ذلك، ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة؛ لأنه يحتمل أن يريد له رده إن وجده بخلاف ما وصف له.

1412 - مسألة: فإن وجد مشتري السلعة الغائبة ما اشترى كما وصف له فالبيع له لازم، وإن وجده بخلاف ذلك فلا بيع بينهما إلا بتجديد صفة أخرى برضاهما جميعا.

برهان ذلك: أنه اشترى شراء صحيحا إذا وجد الصفة كما اشترى كما ذكرنا آنفا، فإن وجد الصفة بخلاف ما عقد الأبتياع عليه فبيقين ندري أنه لم يشتر تلك السلعة التي وجد؛ لأنه اشترى سلعة بصفة كذا، لا سلعة بالصفة التي وجد، فالتي وجد غير التي اشترى بلا شك من أحد فإن لم يشترها فليست له.

فإن قيل: فألزموا البائع إحضار سلعة بالصفة التي باع

قلنا: لا يحل هذا؛ لأنه إنما باع عينا معينة لا صفة مضمونة، فلا يجوز إلزامه إحضار ما لم يبع فصح أن عقده فاسد؛ لأنه لم يقع على شيء أصلا وبالله تعالى التوفيق وهذا قول أبي سليمان وغيره.


1413 - مسألة: فإن بيع شيء من الغائبات بغير صفة ولم يكن مما عرفه البائع لا برؤية، ولا بصفة من يصدق ممن رأى ما باعه، ولا مما عرفه للمشتري برؤية، أو بصفة من يصدق، فالبيع فاسد مفسوخ أبدا، لا خيار في جوازه أصلا. ويجوز ابتياع المرء ما وصفه له البائع صدقه أو لم يصدقه. ويجوز بيع المرء ما وصفه له المشتري صدقه أو لم يصدقه فإن وجد المبيع بتلك الصفة، فالمبيع لازم، وإن وجد بخلافها، فالمبيع باطل، ولا بد. وأجاز الحنفيون بيع العين المجهولة غير الموصوفة، وجعلوا فيها خيار الرؤية، كما ذكرنا وقولنا في أنه لا يجوز إلا بمعرفة وصفه: هو قول مالك في بعض ذلك، أو قول أبي سليمان، وغيرهما.

قال أبو محمد: واحتج الحنفيون لقولهم بالخبر الثابت عن رسول الله أنه نهى عن بيع الحب قبل أن يشتد، قالوا: ففي هذا إباحة بيعه بعد اشتداده وهو في أكمامه بعد لم يره أحد، ولا تدرى صفته.

قال علي: وهذا مما موهوا به وأوهموا أنه حجة لهم، وليس كذلك؛ لأنه ليس في هذا الخبر إلا النهي عن بيعه قبل اشتداده فقط، وليس فيه إباحة بيعه بعد اشتداده، ولا المنع من ذلك فاعجبوا لجرأة هؤلاء القوم على الله تعالى بالباطل؛ إذ احتجوا بهذا الخبر ما ليس فيه منه شيء، وخالفوه فيما جاء فيه نص، فهم يجيزون بيع الحب قبل أن يشتد على شرط القطع، فيا لضلال هذه الطريقة

قال أبو محمد: وعجب آخر: أنهم كذبوا في هذا الخبر فأقحموا فيه ما ليس فيه منه نص، ولا أثر من إباحة بيع الحب بعد أن يشتد، ثم لم يقنعوا بهذه الطامة حتى أوجبوا بهذا الخبر ما ليس فيه له ذكر، ولا إشارة إليه بوجه من الوجوه: من بيع الغائبات التي لا تعرف صفاتها، ولا عرفها البائع، ولا المشتري، ولا وصفها لهما أحد، ثم لم يلبثوا أن نقضوا ذلك ككرة الطرف فحرموا بيع لحم الكبش قبل ذبحه، والنوى دون التمر قبل أكله، وبيع الزيت في الزيتون قبل عصره، وبيع الألبان في الضروع واحتجوا في ذلك بأنه كله مجهول لا تدرى صفته، وهذا موق وتلاعب بالدين ونعوذ بالله من مثله.

قال علي: ونحن نجيز بيع الحب بعد اشتداده كما هو في أكمامه بأكمامه، وبيع الكبش حيا ومذبوحا كله لحمه مع جلده، وبيع الشاة بما في ضرعها من اللبن، وبيع النوى مع التمر؛ لأنه كله ظاهر مرئي، ولا يحل بيعه دون أكمامه؛ لأنه مجهول لا يدري أحد صفته، ولا بيع اللحم دون الجلد، ولا النوى دون التمر، ولا اللبن دون الشاة كذلك.

قال أبو محمد: ولا يخلو بيع كل ذلك قبل ظهوره من أن يكون إخراجه مشترطا على البائع، أو على المشتري، أو عليهما، أو على غيرهما، أو لا على أحد، فإن كان مشترطا على البائع، أو على المشتري: فهو بيع بثمن مجهول وإجارة بثمن مجهول وهذا باطل؛ لأن البيع لا يحل بنص القرآن إلا بالتراضي، والتراضي بضرورة الحس لا يمكن أن يكون إلا بمعلوم لا بمجهول، فكذلك إن كان مشترطا عليهما، أو على غيرهما.

وأيضا: فإن كل ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، فإن لم يشترط على أحد فهو أكل مال بالباطل حقا؛ لأنه لا يصل إلى أخذ ما اشتراه

قال علي: والبرهان على بطلان بيع ما لم يعرف برؤية، ولا بصفة: صحة نهي النبي عن بيع الغرر وهذا عين الغرر؛ لأنه لا يدري ما اشترى أو باع. وقول الله؛ تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. ولا يمكن أصلا وقوع التراضي على ما لا يدرى قدره، ولا صفاته، وإنما فرقنا بين صفة البائع للمشتري، أو المشتري للبائع صدق أحدهما الآخر أو لم يصدقه فأجزنا البيع بذلك وبين صفة غيرهما، فلم يجزه إلا ممن يصدقه الموصوف له، فلأن صفة البائع للمشتري، أو صفة المشتري للبائع عليها وقع البيع، وبها تراضيا، فإن وجد المبيع كذلك علمنا أن البيع وقع صحيحا على حق وعلى ما يصح به التراضي وإلا فلا.

وأما إذا وصفه لهما غيرهما ممن لا يصدقه الموصوف له فإن البيع ههنا لم يقع على صفة أصلا، فوقع العقد على مجهول من أحدهما أو من كليهما وهذا حرام لا يحل. فإن وصفه من صدقه الموصوف له، فالتصديق يوجب العلم، فإنما اشترى ما علم، أو باع البائع ما علم، فالعقد صحيح، والتراضي صحيح. فإن وجد المبيع كذلك علم أن البيع انعقد على صحة، وإن وجد بخلاف ذلك علم أن البيع لم ينعقد على صحة، كما لو وجده قد استحال عما عرفه عليه، ولا فرق وبالله تعالى التوفيق.

1414 - مسألة: وجائز بيع الثوب الواحد المطوي، أو في جرابه، أو الثياب الكبيرة كذلك، إذا وصف كل ذلك، فإن وجد كل ذلك كما وصف فالبيع لازم، وإلا فالبيع باطل.

قال علي: التفريق بين الواحد، والكثير، خطأ، وليس إلا حرام، فقليله وكثيره حرام، أو حلال، فقليله وكثيره حلال وهذا بعينه هولوا وشنعوا على الحنفيين في إباحتهم قليل المسكر وتحريمهم كثيره، ولا يقبل مثل هذا إلا من رسول الله فقط، وما نعلم لهم شيئا شغبوا به إلا أنهم قالوا: أمر الثوب الواحد يسهل نشره وتقليبه وطيه، وهذا يصعب في الكثير. فقلنا لهم: وأين وجدتم هذه الشريعة أن تكون صعوبة العمل تبيح المحرمات، والبيوع المحرمة

ثم نقول لهم: ما تقولون في ثوبين مدرجين في جراب أو جرابين فإن أباحوا ذلك، سألناهم عن الثلاثة، ثم عن الأربعة، ثم نزيدهم هكذا، واحدا فواحدا فإن حرموا سألناهم عن الدليل على تحليل ما أحلوا من ذلك وتحريم ما حرموا، وعن الدليل على صعوبة ما جعلوه لصعوبته حلالا، وعلى سهولة ما جعلوه لسهولته حراما وهذا ما لا سبيل إليه.

وأيضا: فرب ثياب يكون نشرها وطيها أسهل من نشر ثوب واحد وطيه، هذا أمر يعرف ضرورة، كالمروي المجلوب من بغداد الذي لا يقدر على إعادة طيه بعد نشره إلا واحد بين ألوف، وإنما الحكم في ذلك كوجوه صحة التراضي بعلمها بالصفة، وارتفاع الغرر في عقد البيع عن الجهالة فقط وبالله تعالى التوفيق.

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) | كتاب البيوع (مسأله 1422) | كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)