محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الحادية عشر


كتاب البيوع

1447 - مسألة : وكل شرط وقع في بيع منهما ، أو من أحدهما ، برضا الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان ، أو بالتخيير ، أو في أحد الوقتين - يعني قبل العقد أو بعده - ولم يذكراه في حين عقد البيع ، فالبيع صحيح تام ، والشرط باطل لا يلزم . فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع فالبيع باطل مفسوخ ، والشرط باطل - أي شرط كان لا تحاش شيئا - إلا سبعة شروط فقط ، فإنها لازمة ، والبيع صحيح ، إن اشترطت في البيع - وهي : اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى . واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى . واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة - وإن لم يذكرا أجلا . واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معا ويتبايعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة . واشتراط أن لا خلابة . وبيع العبد ، أو الأمة ، فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينا ، أو جزءا منسوبا مشاعا في جميعه ، سواء كان مالهما مجهولا كله ، أو معلوما كله ، أو معلوما بعضه ، مجهولا بعضه . أو بيع أصول نخل فيها ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده ، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءا معينا منها أو مسمى مشاعا في جميعها . فهذه ولا مزيد ، وسائرها باطل كما قدمنا - : كمن باع مملوكا بشرط العتق ، أو أمة بشرط الإيلاد ، أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة - قلت أو كثرت - أو إلى مكان مسمى قريب أو بعيد . أو دارا واشترط سكناها ساعة فما فوقها ، أو غير ذلك من الشروط كلها . برهان ذلك - : ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج أنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني أنا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - أنا هشام بن عروة عن أبيه قال : أخبرتني عائشة أم المؤمنين فذكرت حديثا قالت فيه { إن رسول الله خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } وذكر باقي الخبر . ومن طريق أبي داود حدثنا القعنبي ، وقتيبة بن سعيد قالا جميعا : نا الليث هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال : إن عائشة أم المؤمنين أخبرته { أن رسول الله قام فقال : ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة مرة ، شرط الله أحق وأوثق } . فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانا يرفع الإشكال كله . فلما كانت الشروط كلها باطلة - غير ما ذكرنا - كان كل عقد من بيع أو غيره : عقد على شرط باطل باطلا ولا بد ؛ لأنه عقد على أنه لا يصح إلا بصحة الشرط ، والشرط لا صحة له ، فلا صحة لما عقد بأن لا صحة له إلا بصحة ما لا يصح . قال أبو محمد : وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرنا ، فإنها منصوص على صحتها ، وكل ما نص رسول الله عليه فهو في كتاب الله عز وجل قال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } . وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } . وقال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } . فأما اشتراط الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى : { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } . وأما اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقول الله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } . وأما اشتراط " أن لا خلابة " فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو أربع مسائل . وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة ، أو من أن لا خديعة ، ومن صناعة العبد ، أو الأمة ، أو سائر صفات المبيع ، فلقول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فنص تعالى على التراضي منهما والتراضي لا يكون إلا على صفات المبيع ، وصفات الثمن ضرورة . وأما اشتراط الثمن إلى الميسرة فلقول الله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } . وروينا من طريق شعبة أخبرني عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين { أن رسول الله بعث إلى يهودي قدمت عليه ثياب : ابعث إلي بثوبين إلى الميسرة } وذكر باقي الخبر . وأما مال العبد ، أو الأمة واشتراطه ، واشتراط ثمر النخل المؤبر - : فلما روينا من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " أن رسول الله قال : { من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع } ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع . قال أبو محمد : ولو وجدنا خبرا يصح في غير هذه الشروط باقيا غير منسوخ لقلنا به ولم نخالفه ، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما - والحمد لله رب العالمين - وقد ذكرنا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال : كل بيع فيه شرط فليس بيعا . قال علي : فإن احتج معارض لنا بقول الله تعالى : { أوفوا بالعقود } وقوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } . وبما روي { المسلمون عند شروطهم } . قلنا : [ وبالله تعالى التوفيق ] أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود : لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه ولا على ظاهره ، وقد جاء القرآن بأن نجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه ، فمن عقد على معصية فحرام عليه الوفاء بها ، فإذ لا شك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، والباطل محرم ، فكل محرم فلا يحل الوفاء به . وكذلك قوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه ، وقد علمنا أن كل عهد نهى الله عنه فليس هو عهد الله تعالى ، بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به ، وقد نص رسول الله على أن { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } ، والباطل لا يحل الوفاء به . وأما الأثر في ذلك - : فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال أنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله { المسلمون عند شروطهم } . ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن محمد بن عمر عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز قال : قال رسول الله { المسلمون على شروطهم } . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا يحيى بن أبي زائدة عن عبد الملك عن عطاء : بلغنا أن النبي قال : { المسلمون عند شروطهم } . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطاة عن خالد بن محمد عن شيخ من بني كنانة سمعت عمر يقول : المسلم عند شرطه . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن عيينة عن يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب " إن مقاطع الحقوق ، عند الشروط " . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال : " المسلمون عند شروطهم " . قال أبو محمد : كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن عمرو بن زيد - هالك متروك باتفاق - والوليد بن رباح - مجهول - والآخر عبد الملك بن حبيب - هالك - ومحمد بن عمر - هو الواقدي مذكور بالكذب - وعبد الرحمن بن محمد - مجهول لا يعرف - ومرسل أيضا ، والثالث مرسل أيضا ، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة - وهو هالك - وخالد بن محمد - مجهول - وشيخ من بني كنانة - والآخر فيه إسماعيل بن عبيد الله ولا أعرفه . وخبر علي مرسل - ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف ` لقولنا ، لأن شروط المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم ، لا التي نهاهم عنها ، وأما التي نهوا عنها فليست شروط المسلمين . وقد نص رسول الله على أن { كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ، وإن كانت مائة شرط ، أو اشترط مائة مرة } وأنه لا يصح لمن اشترطه - : فصح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل ، فليس هو من شروط المسلمين ، فصح قولنا بيقين . ثم إن الحنفيين ، والمالكيين ، والشافعيين ، أشد الناس اضطرابا وتناقضا في ذلك ؛ لأنهم يجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها باطل ليست في كتاب الله عز وجل ، ويجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها حق ؛ لأنها في كتاب الله تعالى . فالحنفيون ، والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد ، وثمرة النخل المؤبر ، ولا يجيزون له ذلك ألبتة إلا بالشراء على حكم البيوع . والمالكيون ، والحنفيون ، والشافعيون : لا يجيزون البيع إلى الميسرة ، ولا شرط قول : لا خلابة ، عند البيع ، وكلاهما في كتاب الله عز وجل ، لأمر النبي بهما ، وينسون ههنا " المسلمون عند شروطهم " . وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع ، وهو شرط ليس في كتاب الله تعالى ، بل قد صح النهي عن هذا البيع جملة ، ومثل هذا كثير . قال أبو محمد : ولا يخلو كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها - : إما إباحة مال لم يجب في العقد ، وإما إيجاب عمل ، وإما المنع من عمل ، والعمل يكون بالبشرة ، أو بالمال فقط - وكل ذلك حرام بالنص قال رسول الله { إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام } . وأما المنع من العمل فإن الله تعالى يقول : { لم تحرم ما أحل الله لك } . فصح بطلان كل شرط جملة إلا شرطا جاء النص من القرآن أو السنة بإباحته - وههنا أخبار نذكرها ، ونبينها - إن شاء الله تعالى - لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب . حدثني محمد بن إسماعيل العذري القاضي بسرقسطة أنا محمد بن علي الرازي المطوعي نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري أنا جعفر بن محمد الخلدي أنا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير أنا محمد بن سليمان الذهلي أنا عبد الوارث - هو ابن سعيد التنوري - قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعا واشترط شرطا ؟ فقال : البيع باطل والشرط باطل ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك ؟ فقال البيع جائز والشرط باطل ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك ؟ فقال : البيع جائز والشرط جائز ؟ فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا ؟ فقال : لا أدري ما قالا - حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله { نهى عن بيع وشرط } البيع باطل والشرط باطل ؟ فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا ؟ فقال : لا أدري ما قالا - حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله قال : { اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء } البيع جائز والشرط باطل فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا ؟ فقال : لا أدري ما قالا ؟ أنا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله { أنه باع من رسول الله جملا واشترط ظهره إلى المدينة } البيع جائز والشرط جائز . وههنا خبر رابع - : رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا زياد بن أيوب أنا ابن علية نا أيوب السختياني أنا عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله { لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن } . وبه يأخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ، ويجيزه إذا كان فيه شرط واحد - وذهب أبو ثور إلى الأخذ بهذه الأحاديث كلها فقال : إن اشترط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة ، أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك ، أو ركوب الدابة كذلك ، أو لباس الثوب كذلك : جاز البيع والشرط ؛ لأن الأصل له ، والمنافع له ، فباع ما شاء وأمسك ما شاء ، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل ، كالولاء ونحوه ، وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشتري فالبيع والشرط باطلان معا . قال أبو محمد : هذا خطأ من أبي ثور ، لأن منافع ما باع البائع من دار ، أو عبد ، أو دابة ، أو ثوب ، أو غير ذلك ، فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه ، فإذا خرج عن ملكه فمن الباطل والمحال أن يملك ما لم يخلقه الله تعالى بعد ، من منافع ما باع ، فإذا أحدثها الله تعالى ، فإنما أحدثها الله تعالى في ملك غيره ، فهي ملك لمن حدثت [ عنده ] في ملكه - فبطل توجيه أبي ثور ، وكذلك باقي تقسيمه ؛ لأنه دعوى بلا برهان . وأما قول أحمد : فخطأ أيضا : لأن تحريم رسول الله الشرطين في بيع ليس مبيحا لشرط واحد ولا محرما له ، لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر ، فوجب طلب حكمه في غيره ، فوجدنا قوله { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } . فبطل الشرط الواحد ، وكل ما لم يعقد إلا به - وبالله تعالى التوفيق . وبقي حديث بريرة ، وجابر في الجمل ، فنقول - وبالله تعالى التوفيق . إننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج أنا عبد الله بن جعفر بن الورد أنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف أنا يحيى بن بكير أنا الليث بن سعد عن هشام بن عروة عن عروة عن { عائشة قالت جاءتني بريرة فقالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ؟ فقالت عائشة : إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة ، ويكون لي ولاؤك فعلت ؟ فعرضتها عليهم ، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع رسول الله ذلك ، فسألها ، فأخبرته ، فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت ، فقام رسول الله عشية في الناس ، فحمد الله عز وجل ، ثم قال : ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل - وإن كان مائة شرط - قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق } وذكر باقي الخبر " .

ومن طريق البخاري أنا أبو نعيم أنا عبد الواحد بن أيمن أنا أبي قال : { دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت : دخلت بريرة - وهي مكاتبة - وقالت : اشتريني وأعتقيني ؟ قالت : نعم ، قالت : لا تبيعوني حتى يشترطوا ولائي ؟ فقالت عائشة : لا حاجة لي بذلك ؟ فقال لها رسول الله اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطوا ما شاءوا ؟ فاشترتها عائشة فأعتقتها ، واشترط أهلها الولاء ؟ فقال رسول الله الولاء لمن أعتق وإن كان مائة شرط } . قال أبو محمد : فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ، ولا ظن كاذب ، مضاف إلى رسول الله ولا تحريف اللفظ ، وهو إن اشترط الولاء على المشتري في المبيع للعتق كان لا يضر البيع شيئا ، وكان البيع على هذا الشرط جائزا حسنا مباحا ، وإن كان الولاء مع ذلك للمعتق ، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحا غير منهي عنه ، ثم نسخ الله عز وجل ذلك وأبطله ، إذ خطب رسول الله بذلك - كما ذكرنا - فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط أو غيره جملة ، إلا شرطا في كتاب الله تعالى ، لا قبل ذلك أصلا - وقد قال تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } . وقال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } برهان ذلك - : أنه عليه السلام قد أباح ذلك ، وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ، ولا يغر أحدا ولا يخدعه - فإن قيل : فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث ؟ قلنا : ليس فيه اشتراطهم عتقها أصلا ولو كان لقلنا به ، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها إن أعتقت يوما ما ، أو إن أعتقتها ، إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط ، ولا يحل أن يزاد في الأخبار شيء ، لا لفظا ولا معنى ، فيكون من فعل ذلك كاذبا ، إلا أننا نقطع ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزا لنص رسول الله عليه وبينه ، فإذ لم يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه بشرط الصدقة ، أو بشرط الهبة ؛ أو بشرط التدبير - وكل ذلك لا يجوز . وأما حديث جابر : فإننا رويناه من طريق البخاري أنا أبو نعيم أنا زكريا سمعت عامرا الشعبي يقول : حدثني { جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي فضربه ، فدعا له ، فسار سيرا ليس يسير مثله ، ثم قال : بعنيه بأوقية ؟ قلت : لا ، ثم قال : بعنيه بأوقية ؟ فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي - فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرفت فأرسل على إثري ، فقال : ما كنت لآخذ جملك ، فخذ جملك ذلك ، فهو مالك } . ومن طريق مسلم أنا ابن نمير أنا أبي أنا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي حدثني جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر وفيه { أن رسول الله قال له : بعنيه ؟ فبعته بأوقية ، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي - فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ، ثم رجعت فأرسل في إثري ، فقال : أتراني ماكستك لآخذ جملك ، خذ جملك ودراهمك ، فهو لك } . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن العلاء أنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله فذكر هذا الخبر ، وفيه { أن رسول الله قال له : ما فعل الجمل بعنيه ؟ قلت : يا رسول الله بل هو لك قال : لا ، بل بعنيه ؟ قلت : لا ، بل هو لك ؟ قال لا ، بل بعنيه ، قد أخذته بأوقية ، اركبه ، فإذا قدمت المدينة فأتنا به ؟ فلما قدمت المدينة جئته به ، فقال لبلال يا بلال زن له أوقية وزده قيراطا } . هكذا رويناه من طريق عطاء بن جابر . قال أبو محمد : روي هذا أن ركوب جابر الجمل كان تطوعا من رسول الله واختلف فيه على الشعبي ، وأبي الزبير فروي عنهما عن جابر ، أنه كان شرطا من جابر - وروي عنهما أنه كان تطوعا من رسول الله . فنحن نسلم لهم أنه كان شرطا ، ثم نقول لهم - وبالله تعالى التوفيق - : إنه قد صح أن رسول الله قال : { قد أخذته بأوقية } . وصح عنه عليه السلام أنه قال : { أتراني ماكستك لآخذ جملك ؟ ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك ، فهو مالك } كما أوردنا آنفا . صح يقينا أنهما أخذان : أحدهما فعله رسول الله والآخر لم يفعله ، بل انتفى عنه ، ومن جعل كل ذلك أخذا واحدا فقد كذب رسول الله في كلامه ، وهذا كفر محض ، فإذ لا بد من أنهما أخذان ؛ لأن الأخذ الذي أخبر به عليه السلام عن نفسه هو بلا شك غير الأخذ الذي انتفى عنه ألبتة ، فلا سبيل إلى غير ما يحمل عليه ظاهر الخبر ، وهو إنه عليه السلام أخذه وابتاعه ، ثم تخير قبل التفرق ترك أخذه . وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضا في نفسه عليه السلام ؛ لأنه عليه السلام أخبره أنه لم يماكسه ليأخذ جمله - . فصح أن البيع لم يتم فيه قط ، فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط ، وهذا هو مقتضى لفظ الأخبار ، إذا جمعت ألفاظها . فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم يوجد في شيء من ألفاظ ذلك الخبر أصلا : أن البيع تم بذلك الشرط ، فقد بطل أن يكون في هذا الخبر : حجة في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها أصلا - وبالله تعالى التوفيق . فأما الحنفيون ، والشافعيون : فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلا ، فإنما الكلام بيننا وبين المالكيين فيه فقط ، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ، ولا مسافة قليلة من كثيرة ، ومن ادعى ذلك فقد كذب ، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار ؟ ويلزمهم إذ لم يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهرا - ولا عشرة أيام - وأبطلوا هذا الشرط ، وأجازوا بيعها ، واشتراط ركوبها مسافة يسيرة : أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه من ذلك المقدار الذي حللوه ، هذا فرض عليهم ، وإلا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه ، وفي ما لا يدري لعله يأتي حراما أو يمنع حلالا ، وهذا ضلال مبين ، فإن حدوا في ذلك مقدارا ما ، سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين ؟ فلاح فساد هذا القول بيقين لا شك فيه . ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره لنجتنبه ونأتي ما سواه ، إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا ، من أن نعلم الغيب وقد أمننا الله تعالى من ذلك . فإن قالوا : إن في بعض ألفاظ الخبر : أن ذلك كان حين دنوا من المدينة ؟ قلنا : الدنو يختلف ، ولا يكون إلا بالإضافة ، فمن أتى من تبوك فكان من المدينة على ست مراحل أو خمس فقد دنا منها ، ويكون الدنو أيضا على ربع ميل - وأقل أو أكثر - فالسؤال باق عليكم بحسبه . وأيضا : فإن هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد ، وهو إنما روى : أن ركوب جابر كان تطوعا من النبي وشرطا . وفي رواية المغيرة عن الشعبي عن جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي إلى غزاة - وأيضا فليس فيه أن النبي منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة ، فإذ لم يقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق ولا تقيسوا على اشتراط ذلك في ركوب جمل سائر الدواب ، وإلا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل . وإذ قستم على تلك الطريق سائر الطرق ، وعلى الجمل سائر الدواب فقيسوا على تلك المسافة سائر المسافات ؟ كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكبا متوجها إلى خيبر إلى غير القبلة : فقستم على تلك المسافة سائر المسافات : فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلا - وبالله تعالى التوفيق . وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها ، فمن ذلك - : ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال . قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وددنا لو أن عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، قد تبايعا حتى ننظر أيهما أعظم جدا في التجارة ، فاشترى عبد الرحمن بن عوف من عثمان فرسا بأرض أخرى بأربعين ألفا أو نحوها إن أدركتها الصفقة وهي سالمة ، ثم أجاز قليلا ، ثم رجع فقال : أزيدك ستة آلاف إن وجدها رسولي سالمة ؟ قال نعم ، فوجدها رسول عبد الرحمن قد هلكت ، وخرج منها بالشرط الآخر . قيل للزهري : فإن لم يشترط قال : فهي من البائع . فهذا عمل عثمان ، وعبد الرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ، وعلمهم لا مخالف لهم يعرف منهم ، ولم ينكر ذلك سعيد ، وصوبه الزهري . فخالف الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون : كل هذا ، وقالوا : لعل الرسول يخطئ أو يبطئ أو يعرضه عارض ، فلا يدري متى يصل ، وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم . ومن طريق وكيع أنا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبد الله عن عتبة بن مسعود قال : إن تميما الداري باع داره واشترط سكناها حياته وقال : إنما مثلي مثل أم موسى رد عليها ولدها ، وأعطيت أجر رضاعها . ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل قال : باع صهيب داره من عثمان واشترط سكناها - وبه يأخذ أبو ثور ، فخالفوه ، ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط في البيع . وقد ذكرنا قبل ابتياع نافع بن عبد الحارث دارا بمكة للسجن من صفوان بأربعة آلاف على إن رضي عمر فالبيع تام ، فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة - : فخالفوهم كلهم . ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر : أنه اشترى بعيرا بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة - وليس فيه وقت ذكر الإيفاء - : فخالفوه . ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال : أصاب عمار بن ياسر مغنما فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره ؟ فتبايع الناس إلى قدوم الراكب - وهذا عمل عمار والناس بحضرته - : فخالفوه . وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله وبالله تعالى التوفيق ؛ وحكم علي بشرط الخلاص ، وللحنفيين ، والمالكيين ، والشافعيين : تناقض عظيم فيما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه فيها ، قد ذكرنا بعضه ونذكر في مكان آخر - إن شاء الله تعالى - ما يسر الله تعالى لذكره ؛ لأن الأمر أكثر من ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) | كتاب البيوع (مسأله 1422) | كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)