محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الثالثة والعشرون


كتاب البيوع

1501 مسألة : والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة ، وفي بيع الفضة بالفضة ، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك ، أو لم يتبايعا ؛ لأن التواعد ليس بيعا . وكذلك المساومة أيضا جائزة تبايعا أو لم يتبايعا لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك ، وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه ، قال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن ، إذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام أو حلال ، فالفرض مأمور به في القرآن والسنة ، والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة ، وما عدا هذين فليس فرضا ولا حراما فهو بالضرورة : حلال إذ ليس هنالك قسم رابع وبالله تعالى التوفيق .

1502 مسألة : ولا يحل بدل دراهم بأوزن منها لا بالمعروف ولا بغيره وهذا هو المنكر لا المعروف ، لأنه خلاف ما جاء عن النبي وعن أبي بكر ، وعمر وابن عمر ، وقد ذكرنا هذا آنفا عن عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وهو قول الناس ، وأجاز ذلك مالك وما نعلم له موافقا قبله ممن رأى الربا في النقد .

1503 مسألة : ولا يحل بيع آنية ذهب ولا فضة إلا بعد كسرها لصحة نهي النبي عنها وقد ذكرناه في " كتاب الطهارة " فلا يحل تملكها فإذ لا يحل تملكها فلا يحل بيعها ؛ لأنها أكل مال بالباطل . وبالله تعالى التوفيق .

1504 مسألة : وجائز أن يبتاع المرء نصف درهم بعينه ، أو نصف دراهم بأعيانها ، أو نصف دينار كذلك ، أو نصف دنانير بأعيانها مشاعا : يبتاع الفضة بالذهب ، والذهب بالفضة ، ويتفقان على إقرارها عند أحدهما أو عند أجنبي . ولا يجوز في ذلك ذهب بذهب أصلا ، ولا فضة بفضة أصلا ، لأنه يصير عينا بغير عين ، وهذا لا يحل إلا عينا بعين على ما قدمنا وأما الذهب بالفضة مشاعا ، فلم يأت بالنهي عنه نص { وما كان ربك نسيا }

1505 مسألة : ولا يحل بيع بدينار إلا درهما ؛ فإن وقع فهو باطل مفسوخ ؛ لأنه إخراج لقيمة الدرهم من الدينار ، فصار استثناء مجهولا ، إذ باع بدينار إلا قيمة درهم منه . فإن كانت قيمة الدرهم معلومة عندهما فهو باطل أيضا ، لأنهما شرطا إخراج الدرهم بعينه من الدينار ، وهذا محال ؛ لأنه ليس هو بعض للدينار فيخرج منه ، فهو باطل بكل حال وقولنا هو قول عطاء ، والنخعي ومحمد بن سيرين وأجازه أبو سلمة بن عبد الرحمن وبالله تعالى التوفيق

1506 مسألة : والربا في كل ما ذكرنا بين العبد وسيده كما هو بين الأجنبيين ، وبين المسلم والذمي ، وبين المسلم والحربي ، وبين الذميين كما هو بين المسلمين ، ولا فرق . روينا من طريق قاسم بن أصبغ أنا بكر بن حماد أنا مسدد أنا حفص بن غياث عن أبي العوام البصري عن عطاء كان ابن عباس يبيع من غلمانه النخل السنتين والثلاث ، فبعث إليه جابر بن عبد الله : أما علمت نهي رسول الله عن هذا ؟ فقال ابن عباس : بلى ، ولكن ليس بين العبد وبين سيده ربا وهو قول الحسن وجابر بن زيد والنخعي والشعبي وسفيان الثوري وعثمان البتي ، والحسن بن حي ، والليث ، وأبي حنيفة ، والشافعي . وإنما قاله هؤلاء على أصلهم الذي قد تقدم إفسادنا له من أن العبد لا يملك ، وذكرنا أن ابن عمر يرى العبد يملك ، وهذا جابر قد أنكر ذلك على ابن عباس . وروينا من طريق ابن أبي شيبة أنا إسحاق بن منصور أنا إبراهيم عن أبي إسحاق عن عبد الله بن شداد ، قال : مر الحسين بن علي رضي الله عنهما براع فأهدى الراعي إليه شاة ؟ فقال له الحسين : حر أنت أم مملوك ؟ فقال : مملوك ، فردها الحسين عليه ؟ فقال له المملوك : إنها لي ، فقبلها منه ، ثم اشتراه واشترى الغنم ، فأعتقه ، وجعل الغنم له . فهذا الحسين تقبل هدية المملوك إذا أخبره أنها له وقد ذكرنا مثل ذلك عن رسول الله فيما سلف من كتابنا هذا وهو الحجة البالغة لا من سواه وإذا حرم الله تعالى الربا وتوعد فيه فما خص عبدا من حر { وما كان ربك نسيا } والعجب : أن الشافعي ، وأبا حنيفة : لا يجيزان أن يبيع المرء مال نفسه من نفسه ، فإن كان مال العبد لسيده فقد نقضوا أصلهم ، وأجازوا له بيع مال نفسه من نفسه . وإن كان مال العبد ليس للسيد ما لم يبعه أو ينتزعه : فقد أجازوا الربا صراحا . وأما الكفار : فإن الله تعالى يقول : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } وقال تعالى : { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وقال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فصح أن كل ما حرم علينا فهو حرام عليهم ، ونسأل من خالفنا : أيلزمهم دين الإسلام ويحرم عليهم ما هم عليه من خلافه ؟ وهل هم على باطل أم لا ؟ فإن قالوا : لا يلزمهم دين الإسلام ، ولا يحرم عليهم ما هم عليه من خلافه ، وأنهم ليسوا على باطل : كفروا بلا مرية . وإن قالوا : يلزمهم دين الإسلام وحرام عليهم ما هم عليه من خلافه ، وهم على باطل ؟ قالوا الحق ورجعوا إلى قولنا ، ولزمه إبطال الباطل ، وفسخ الحرام ، فيهتدي بهدي الله تعالى ، أو الإقرار على نفسه بأنه ينفذ الحكم بالباطل ، ويجيز الحرام ، وما أوردنا منه كل هذا . فإن قالوا : ما هم عليه من الكفر أشد ؟ قلنا : إن الذي هم عليه من الكفر لا يفسح لهم في إعلانه ، وقد جاء النص بأن لا نجبرهم على الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج . وكذلك جاء بأن نحكم بينهم بما أنزل الله ، فلا يحل ترك أحد النصين للآخر وبالله تعالى التوفيق . وقال أبو حنيفة : لا بأس بالربا بين المسلم ، والحربي وهذا عظيم جدا .

1507 مسألة : وجائز بيع اللحم بالحيوان من نوع واحد كانا أو من نوعين وكذلك يجوز بيع اللحم باللحم من نوع واحد أو من نوعين متفاضلا ، ومتماثلا . وجائز تسليم اللحم في اللحم كذلك . وتسليم الحيوان في اللحم ، كلحم كبش بلحم كبش متفاضلا ومتماثلا ، يدا بيد ، وإلى أجل وكذلك باللحم من غير نوعه أيضا وكتسليم كبش في أرطال لحم كبش أو غيره إلى أجل كل ذلك جائز حلال . قال الله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } وقال تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } فهذا كله بيع لم يفصل تحريمه . وأما اللحم باللحم فلم يأت نهي عنه أصلا ، لا صحيح ولا سقيم من أثر . وأما اللحم بالحيوان فجاء فيه أثر لا يصح . وهذا كله قول أبي سليمان وأصحابنا . وروي عن ابن عباس وهو قول سفيان الثوري واختلف الحاضرون على فرق : فطائفة منعت من بيع اللحم بالحيوان جملة ، أي لحم كان لا تحاش شيئا ، بأي حيوان كان لا تحاش شيئا ، حتى منعوا من بيع العبد باللحم . وهذا قول الشافعي ، واختلف قوله في اللحم باللحم فروي عنه : أن يجمع لحوم الحيوان كلها طائرة ووحشية ، والأنعام ، كلها صنف واحد . وروي عنه : أن لحم كل نوع صنف على حياله ، ولم يختلف عنه في أنه لا يباع لحم بلحم أصلا حتى يتناهى جفافه ويبسه ؟ فعلى أحد قوليه : لا يباع قديد غنم بقديد إبل ، أو بقديد دجاج ، أو إوز أو مثلا بمثل ، وعلى القول الثاني : أنه لا يباع قديد غنم بقديد غنم ، إلا يدا بيد ، مثلا بمثل ، وجائز أن يباع بقديد البقر متفاضلا يدا بيد . وقال أبو حنيفة : جائز بيع اللحم بالحيوان على كل حال ، جائز كل ذلك ، كقولنا سواء بسواء . وقال محمد بن الحسن : جائز بيع لحم شاة بشاة حية ، إذا كان اللحم أكثر من لحم الشاة الحية ، فإن كان مثله أو أقل لم يجز ، وأجاز بيع شاة ببقرة حية كيف شاءوا . وأجاز أبو حنيفة ، وأصحابه بيع لحم شاة بلحم شاة متماثلا نقدا ولا بد ، وكذلك لحم كل صنف بلحم من صنفه وأباحوا التفاضل يدا بيد في كل لحم بلحم من غير صنفه ، والبقر عندهم صنف ، والغنم صنف آخر ، والإبل صنف ثالث وكذلك كل حيوان في صنفه ، إلا الحيتان فإنها كلها عنده صنف واحد ، وإلا لحوم الطير ، فرأوا بيع بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد ، لا نسيئة ، كلحم دجاج بلحم دجاج ، أو بلحم صيد ، أو غير ذلك . ورأى شحم البطن من كل حيوان صنفا غير لحمه ، وغير شحم ظهره . ورأى الألية صنفا آخر غير اللحم والشحم . وهذه وساوس لا نظير لها ، وأقوال لا تعقل ، ولا تعلم عن أحد قبله . وقال مالك : ذوات الأربع كلها صنف واحد : البقر ، والغنم ، والإبل ، والأرانب ، والأيايل ، وحمر الوحش ، وكل ذي أربع ، فلا يحل لحم شيء منها بحي منها فلم يجز بيع لحم أرنب حي بلحم جمل أصلا ، ولا لحم جمل بلحم كبش ، إلا مثلا بمثل ، يدا بيد ، وكذلك سائر ذوات الأربع . ورأى الطير كله صنفا واحدا : الدجاج ، والحمام ، والنعام ، والإوز ، والحجل ، والقطا ، وغير ذلك فلم يجز أيضا لحم شيء منها بحي منها وإن كان من غير نوعه وأجاز في لحم بعضها ببعض : التماثل يدا بيد ، ومنع من التفاضل ، فلم يجز التفاضل في لحم دجاج بلحم حبارى وهكذا في كل شيء منها . ورأى الحيتان كلها صنفا واحدا كذلك أيضا . ورأى الجراد صنفا رابعا على حياله ، هذا وهو عنده صيد من الطير يجزيه المحرم . وحرم القديد النيء باللحم المشوي ، وحرمهما جميعا باللحم النيء الطري ، وأجاز كل شيء من هذه الثلاثة الأصناف باللحم المطبوخ من صنفها متفاضلة ومتماثلة يدا بيد ، وأجاز اللحم المطبوخ بعسل باللحم المطبوخ بلبن متماثلا ومنع فيه من التفاضل . وأجاز شاة مذبوحة بشاة مذبوحة على التحري وهذا ضد أصله . وهذه أقوال في غاية الفساد ، ولا نعلم أحدا قالها قبله ولو تقصينا تطويلهم ههنا وتناقضه ، لطال جدا وفي هذا كفاية لمن نصح نفسه . قال أبو محمد : واحتج الشافعيون بما رويناه من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب { نهى رسول الله عن بيع الحيوان باللحم . } ومن طريق الحجاج بن المنهال أنا عبد الله بن عمر النميري عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول { نهى رسول الله أن يبتاع الحي بالميت } قال الزهري : فلا يصلح بشاة حية . ومن طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس : أن رجلا أراد أن يبيع جزءا من لحم بعير بشاة ؟ فقال أبو بكر الصديق : لا يصلح هذا . وصح عن سعيد بن المسيب : أن لا يباع حي بمذبوح ، وأنه لا يجوز بعير بغنم معدودة إن كان يريد البعير لينحره . وقال : كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة . وقال أبو الزناد : أدركت الناس ينهون عن بيع اللحم بالحيوان ويكتبونه في عهود العمال في زمن أبان بن عثمان ، وهشام بن إسماعيل وذكره ابن أبي الزناد عن الفقهاء السبعة ، وأنهم كانوا يعظمون ذلك ولا يترخصون فيه . قال أبو محمد : أما الخبر في ذلك فمرسل لم يسند قط ، والعجب من قول الشافعي : إن المرسل لا يجوز الأخذ به ، ثم أخذ ههنا بالمرسل . ثم عجب آخر من الحنفيين القائلين : المرسل كالمسند ، ثم خالفوا هذا المرسل الذي ليس في المراسيل أقوى منه [ يعظمون هذا ] وهذا مما خالف فيه الحنفيون جمهور العلماء . ثم المالكيون : فعجب ثالث ؛ لأنهم احتجوا بهذا الخبر ، وأوهموا أنهم أخذوا به ، وهم قد خالفوه ؛ لأنهم أباحوا لحم الطير بالغنم ، وهذا خلاف الخبر وإنما هو موافق لقول الشافعي . وقد خالف مالك أيضا ههنا ما روي عن الفقهاء السبعة ، وعمل الولاة بالمدينة ، وهذا يعظمه جدا إذا وافق رأيهم واحتجوا بخبر أبي بكر وهو من رواية ابن أبي يحيى إبراهيم ، وأول من أمر أن لا تؤخذ روايته فمالك ، ثم عن صالح مولى التوأمة ، وأول من ضعفه فمالك فيا لله ويا للمسلمين إذا روى الثقات خبرا يخالف رأيهم تحيلوا بالأباطيل في رده ، وإذا روى من يشهدون عليه بالكذب ما يوافقهم احتجوا به ، فأي دين يبقى مع هذا ؟ فإن قال الشافعيون : مراسيل سعيد بن المسيب حجة بخلاف غيره ؟ قلنا لهم : الساعة صارت حجة ؟ فدونكم ما رويناه من طريق سعيد بن منصور نا حفص بن ميسرة عن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب ، قال { : نهى رسول الله أن يباع الحيوان بالمفاطيم من الغنم فقولوا به ، وإلا فقد تلاعبتم ، واتقوا الله . } وقد رويت في هذه آثار أيضا بزيادة ، فروينا من طريق حماد بن سلمة حدثنا عبد الكريم بن يزيد بن طلق : أن رجلا نحر جزورا فجعل يبيع العضو بالشاة ، وبالقلوص ، إلى أجل فكره ذلك ابن عمر . ومن طريق وكيع أنا إسرائيل عن عبد الله بن عصمة سمعت ابن عباس وسئل عمن اشترى عضوا من جزور قد نحرت برجل عناق وشرط على صاحبها أن يرضعها حتى تفطم ؟ فقال ابن عباس : لا يصلح . قال أبو محمد : هذا شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل . وروينا من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل عن ابن عباس قال : لا بأس أن يباع اللحم بالشاة . فإن قيل : هذا عن رجل ؟ قلنا : وخبر أبي بكر عن ابن أبي يحيى وليس بأوثق ممن سكت عنه كائنا من كان . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري : لا بأس بالشاة القائمة بالمذبوحة .

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/كتاب البيوع
كتاب البيوع (مسأله 1411 - 1414) | كتاب البيوع (مسأله 1415 - 1416) | كتاب البيوع (مسأله 1417) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1417) | كتاب البيوع (مسأله 1418 - 1420) | كتاب البيوع (مسأله 1421) | كتاب البيوع (مسأله 1422) | كتاب البيوع (مسأله 1423 - 1426) | كتاب البيوع (مسأله 1427 - 1428) | كتاب البيوع (مسأله 1429 - 1446) | كتاب البيوع (مسأله 1447) | كتاب البيوع (مسأله 1448 - 1460) | كتاب البيوع (مسأله 1461 - 1464) | كتاب البيوع (مسأله 1465 - 1466) | كتاب البيوع (مسأله 1467 - 1470) | كتاب البيوع (مسأله 1471 - 1474) | كتاب البيوع (مسأله 1475 - 1479) | كتاب البيوع (مسأله 1480) | كتاب البيوع (تتمة مسأله 1480) | كتاب البيوع (مسأله 1481 - 1484) | كتاب البيوع (مسأله 1485 - 1491) | كتاب البيوع (مسأله 1492 - 1500) | كتاب البيوع (مسأله 1501 - 1507) | كتاب البيوع (مسأله 1508 - 1511) | كتاب البيوع (مسأله 1512 - 1516) | كتاب البيوع (مسأله 1517 - 1538) | كتاب البيوع (مسأله 1539 - 1551) | كتاب البيوع (مسأله 1552 - 1556) | كتاب البيوع (مسأله 1557 - 1559) | كتاب البيوع (مسأله 1560 - 1565) | كتاب البيوع (مسأله 1566 - 1567) | كتاب البيوع (مسأله 1568 - 1582) | كتاب البيوع (مسأله 1583 - 1594)