البداية والنهاية/الجزء الثاني/صفحة واحدة

البداية والنهاية المؤلف ابن كثير
صفحة واحدة
ملاحظات: الجزء الثاني في صفحة واحدة



ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام

قال ابن جرير في (تاريخه): لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين، وأمور السالفين من أمتنا وغيرهم، أن القائم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كان كالب بن يوفنا، يعني أحد أصحاب موسى عليه السلام، وهو زوج أخته مريم، وهو أحد الرجلين اللذين ممن يخافون الله وهما يوشع وكالب، وهما القائلان لبني إسرائيل حين نكلوا عن الجهاد { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } 1.

قال ابن جرير ثم من بعده: كان القائم بأمور بني إسرائيل حزقيل بن يوذي، وهو الذي دعا الله فأحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.

قصة حزقيل

قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } 2.

قال محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع، خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذي، وهو ابن العجوز، وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ }

قال ابن إسحاق: فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض، فقال لهم الله موتوا فماتوا جميعا، فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، فمضت عليهم دهور طويلة، فمر بهم حزقيل عليه السلام فوقف عليهم متفكرا، فقيل له: أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟

فقال: نعم.

فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحما، وأن يتصل العصب بعضه ببعض، فناداهم عن أمر الله له بذلك، فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.

وقال أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } 3.

قالوا: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها، فنزلوا ناحية منها فهلك أكثر من بقي في القرية، وسلم الآخرون فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم.

فوقع في قابل فهربوا، وهم بضعة وثلاثون ألفا، حتى نزلوا ذلك المكان وهو واد أفيح، فناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه، أن موتوا فماتوا، حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم، مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم، فجعل يتفكر فيهم، ويلوي شدقيه وأصابعه.

فأوحى الله إليه يا حزقيل تريد أن أريك كيف أحييهم؟

قال: نعم، وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم.

فقيل له: ناد، فنادى: يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن نادِ يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحما، فاكتست لحما ودما وثيابها التي ماتت فيها.

ثم قيل له: ناد، فنادى: أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا، قال أسباط: فزعم منصور بن المعتمر، عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، فرجعوا إلى قومهم أحياء، يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلا عاد رسما، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.

وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف. وعنه: ثمانية آلاف.

وعن أبي صالح: تسعة آلاف.

وعن ابن عباس أيضا: كانوا أربعين ألفا.

وعن سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات.

وقال ابن جريج. عن عطاء: هذا مثل، يعنى أنه سيق مثلا مبينا أنه لن يغنى حذر من قدر، وقول الجمهور أقوى إن هذا وقع.

وقد روى الإمام أحمد، وصاحبا الصحيح. من طريق الزهري. عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن عباس، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء وقع بالشام.

فذكر الحديث، يعني في مشاورته المهاجرين والأنصار، فاختلفوا عليه، فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا ببعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله يقول:

« إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه » فحمد الله عمر ثم انصرف.

وقال الإمام: حدثنا حجاج ويزيد المفتي قالا: حدثنا ابن أبي ذؤيب عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام، عن النبي :

« أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ».

قال: فرجع عمر من الشام. وأخرجاه من حديث مالك، عن الزهري، بنحوه.

قال محمد بن إسحاق: ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل، ثم إن الله قبضه إليه، فلما قبض نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم، وعظمت فيهم الأحداث، وعبدوا الأوثان، وكان في جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له: بعل، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.

قلت: وقد قدمنا قصة إلياس تبعا لقصة الخضر، لأنهما يقرنان في الذكر غالبا، ولأجل أنها بعد قصة موسى في سورة الصافات، فتعجلنا قصته لذلك، والله أعلم.

قال محمد بن إسحاق فيما ذكر له عن وهب بن منبه قال: ثم تنبأ فيهم بعد إلياس وصيه اليسع بن أخطوب عليه السلام وهذه:

قصة اليسع عليه السلام

وقد ذكره الله تعالى مع الأنبياء في سورة الأنعام في قوله: { وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطا وَكُلّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } 4

وقال تعالى في سورة ص: { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ } 5.

قال إسحاق بن بشر أبو حذيفة، أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: كان بعد إلياس اليسع عليهما السلام، فمكث ما شاء الله أن يمكث، يدعوهم إلى الله مستمسكا بمنهاج إلياس وشريعته حتى قبضه الله عز وجل إليه، ثم خلف فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الأحداث والخطايا، وكثرت الجبابرة، وقتلوا الأنبياء، وكان فيهم ملك عنيد طاغ. ويقال: إنه الذي تكفل له ذو الكفل إن هو تاب ورجع دخل الجنة فسمى ذا الكفل.

قال محمد بن إسحاق: هو اليسع بن أخطوب. وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في حرف الياء من تاريخه: اليسع وهو الأسباط بن عدي بن شوتلم بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. ويقال: هو ابن عم إلياس النبي عليهما السلام، ويقال: كان مستخفيا معه بجبل قاسيون من ملك بعلبك، ثم ذهب معه إليها، فلما رفع إلياس، خلفه اليسع في قومه، ونبأه الله بعده.

ذكر ذلك عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن وهب بن منبه قال وقال غيره: وكان ببانياس.

ثم ذكر ابن عساكر قراءة من قرأ اليسع بالتخفيف وبالتشديد، ومن قرأ والليسع وهو اسم واحد لنبي من الأنبياء، قلت: قد قدمنا قصة ذا الكفل بعد قصة أيوب عليهما السلام، لأنه قد قيل: إنه ابن أيوب، فالله أعلم.

فصل في حال بني إسرائيل

قال ابن جرير وغيره: ثم مرج أمر بني إسرائيل، وعظمت منهم الخطوب والخطايا، وقتلوا من قتلوا من الأنبياء، وسلط الله عليهم بدل الأنبياء ملوكا جبارين، يظلمونهم ويسفكون دماءهم، وسلط الله عليهم الأعداء من غيرهم أيضا، وكانوا إذا قاتلوا أحدا من الأعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان في قبة الزمان، كما تقدم ذكره، فكانوا ينصرون ببركته، وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون.

فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان، غلبوهم وقهروهم على أخذه، فانتزعوه من أيديهم، فلما علم بذلك ملك بنى إسرائيل في ذلك الزمان، مالت عنقه فمات كمدا، وبقى بنو إسرائيل كالغنم بلا راع، حتى بعث الله فيهم نبيا من الأنبياء يقال له شمويل، فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا ليقاتلوا معه الأعداء، فكان من أمرهم ما سنذكره مما قص الله في كتابه.

قال ابن جرير: فكان من وفاة يوشع بن نون إلى أن بعث الله عز وجل شمويل بن بالى أربعمائة سنة وستون سنة. ثم ذكر تفصيلها بمدد الملوك الذين ملكوا عليهم، وسماهم واحدا واحدا تركنا ذكرهم قصدا.

قصة شمويل عليه السلام

هو شمويل ويقال له: أشمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن اليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا.

قال مقاتل: وهو من ورثة هارون.

وقال مجاهد: هو أشمويل بن هلفاقا، ولم يرفع في نسبه أكثر من هذا، فالله أعلم.

حكى السدي بإسناده عن ابن عباس، وابن مسعود، وأناس من الصحابة، والثعلبي وغيرهم: أنه لما غلبت العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وسبوا من أبنائهم جمعا كثيرا، وانقطعت النبوة من سبط لاوي، ولم يبق فيهم إلا امرأة حبلى، فجعلت تدعو الله عز وجل أن يرزقها ولدا ذكرا، فولدت غلاما فسمته أشمويل، ومعناه بالعبرانية إسماعيل، أي سمع الله دعائي.

فلما ترعرع بعثته إلى المسجد وأسلمته عند رجل صالح فيه، يكون عنده ليتعلم من خيره وعبادته، فكان عنده فلما بلغ أشده بينما هو ذات ليلة نائم إذا صوت يأتيه من ناحية المسجد، فانتبه مذعورا، فظنه الشيخ يدعوه فسأله: أدعوتني؟ فكره أن يفزعه.

فقال نعم. نم، فنام.

ثم ناداه الثانية فكذلك، ثم الثالثة، فإذا جبريل يدعوه فجاءه فقال: إن ربك قد بعثك إلى قومك، فكان من أمره معهم ما قص الله في كتابه، قال الله تعالى في كتابه العزيز:

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فصل طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } 6.

قال أكثر المفسرين: كان نبي هؤلاء القوم المذكورين في هذه القصة هو شمويل.

وقيل: شمعون.

وقيل: هما واحد.

وقيل: يوشع، وهذا بعيد لما ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير في تاريخه أن بين موت يوشع وبعثة شمويل أربعمائة سنة وستين سنة، فالله أعلم.

والمقصود أن هؤلاء القوم لما أنهكتهم الحروب، وقهرهم الأعداء، سألوا نبي الله في ذلك الزمان وطلبوا منه أن ينصب لهم ملكا يكونون تحت طاعته، ليقاتلوا من ورائه ومعه وبين يديه الأعداء، فقال لهم: { هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .

أي: وأي شيء يمنعنا من القتال { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } يقولون: نحن محروبون موتورون، فحقيق لنا أن نقاتل عن أبنائنا المنهورين المستضعفين فيهم المأسورين في قبضتهم.

قال تعالى: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } كما ذكر في آخر القصة أنه لم يجاوز النهر مع الملك إلا القليل، والباقون رجعوا ونكلوا عن القتال { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكا } قال الثعلبي: وهو طالوت بن قيش بن أفيل بن صارو بن تحورت بن أفيح بن أنيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل.

قال عكرمة والسدي: كان سقاءا. وقال وهب بن منبه: كان دباغا. وقيل غير ذلك فالله أعلم.

ولهذا: { قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ } وقد ذكروا أن النبوة كانت في سبط لاوى، وأن الملك كان في سبط يهوذا، فلما كان هذا من سبط بنيامين نفروا منه وطعنوا في إمارته عليهم، وقالوا نحن أحق بالملك منه. وقد ذكروا أنه فقير لا سعة من المال معه، فكيف يكون مثل هذا ملكا؟

{ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } قيل: كان الله قد أوحى إلى شمويل أن أيّ بني إسرائيل كان طوله على طول هذه العصا، وإذا حضر عندك يفور هذا القرن الذي فيه من دهن القدس، فهو ملكهم، فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا، فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت.

ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن، فدهنه منه وعينه الملك عليهم، وقال لهم: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } قيل: في أمر الحروب، وقيل: بل مطلقا، { وَالْجِسْمِ } قيل: الطول، وقيل: الجمال. والظاهر من السياق أنه كان أجملهم وأعلمهم بعد نبيهم عليه السلام { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } فله الحكم وله الخلق والأمر { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .

{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وهذا أيضا من بركة ولاية هذا الرجل الصالح عليهم ويمنه عليهم، أن يرد الله عليهم التابوت الذي كان سلب منهم، وقهرهم الأعداء عليه، وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه

{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } قيل: طشت من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء.

وقيل: السكينة مثل الريح الحجوج.

وقيل: صورتها مثل الهرة إذا صرخت في حال الحرب أيقن بنو إسرائيل بالنصر.

{ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قيل: كان فيه رضاض الألواح وشيء من المن الذي كان نزل عليهم بالتيه.

{ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ } أي: تأتيكم به الملائكة يحملونه، وأنتم ترون ذلك عيانا، ليكون آية لله عليكم وحجة باهرة على صدق ما أقوله لكم وعلى صحة ولاية هذا الملك الصالح عليكم ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }

وقيل: إنه لما غلب العمالقة على هذا التابوت، وكان فيه ما ذكر من السكينة والبقية المباركة.

وقيل: كان فيه التوراة أيضا، فلما استقر في أيديهم وضعوه تحت صنم لهم بأرضهم، فلما أصبحوا إذا التابوت على رأس الصنم فوضعوه تحته، فلما كان اليوم الثاني إذا التابوت فوق الصنم، فلما تكرر هذا علموا أن هذا أمر من الله تعالى، فأخرجوه من بلدهم، وجعلوه في قرية من قراهم، فأخذهم داء في رقابهم، فلما طال عليهم هذا جعلوه في عجلة، وربطوها في بقرتين وأرسلوهما.

فيقال: إن الملائكة ساقتهما حتى جاءوا بهما ملأ بني إسرائيل وهم ينظرون كما أخبرهم نبيهم بذلك، فالله أعلم على أي صفة جاءت به الملائكة، والظاهر أن الملائكة كانت تحمله بأنفسهم كما هو المفهوم بالجنود من الآية، والله أعلم.

وإن كان الأول قد ذكره كثير من المفسرين أو أكثرهم { فَلَمَّا فصل طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } .

قال ابن عباس، وكثير من المفسرين: هذا النهر هو نهر الأردن، وهو المسمى بالشريعة، فكان من أمر طالوت بجنوده عند هذا النهر عن أمر نبي الله له، عن أمر الله له اختبارا وامتحانا، أن من شرب من هذا النهر فلا يصحبني في هذه الغزوة، ولا يصحبني إلا من لم يطعمه إلا غرفة في يده. قال الله تعالى: { فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُمْ }

قال السدي: كان الجيش ثمانين ألفا، فشرب منه ستة وسبعون ألفا، فبقي معه أربعة آلاف. كذا قال.

وقد روى البخاري في صحيحه من حديث إسرائيل، وزهير، والثوري، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا أصحاب محمد نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن.

وقول السدي: إن عدة الجيش كانوا ثمانين ألفا فيه نظر، لأن أرض بيت المقدس لا تحتمل أن يجتمع فيها جيش مقاتلة يبلغون ثمانين ألفا، والله أعلم.

قال الله تعالى: { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } أي: استقلوا أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم بالنسبة إلى قلتهم وكثرة عدد عدوهم.

{ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } يعني: بها الفرسان منهم. والفرسان: أهل الإيمان والإيقان الصابرون على الجلاد والجدال والطعان.

{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر، أي يغمرهم به من فوقهم فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم في مجال الحرب ومعترك الأبطال، وحومة الوغى والدعاء إلى النزال، فسألوا التثبت الظاهر والباطن، وأن ينزل عليهم النصر على أعدائهم، وأعدائه من الكافرين الجاحدين بآياته وآلائه، فأجابهم العظيم القدير السميع البصير الحكيم الخبير إلى ما سألوا، وأنالهم ما إليه فيه رغبوا.

ولهذا قال: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي: بحول الله لا بحولهم، وبقوة الله ونصره لا بقوتهم وعددهم، مع كثرة أعدائهم وكمال عددهم، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } 7.

وقوله تعالى: { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } فيه دلالة على شجاعة داود عليه السلام، وأنه قتله قتلا أذل به جنده وكسره، ولا أعظم من غزوة يقتل فيها ملك عدوه فيغنم بسبب ذلك الأموال الجزيلة، ويأسر الأبطال والشجعان والأقران وتعلو كلمة الإيمان على الأوثان، ويدال لأولياء الله على أعدائه، ويظهر الدين الحق على الباطل وأوليائه.

وقد ذكر السدي فيما يرويه: أن داود عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه، وكانوا ثلاثة عشر ذكرا، كان سمع طالوت ملك بني إسرائيل وهو يحرض بني إسرائيل على قتل جالوت وجنوده، وهو يقول: من قتل جالوت زوجته بابنتي، وأشركته في ملكي.

وكان داود عليه السلام يرمي بالقذافة - وهو المقلاع - رميا عظيما، فبينا هو سائر مع بني إسرائيل إذ ناداه حجر: أن خذني فإن بي تقتل جالوت، فأخذه ثم حجر آخر كذلك، ثم آخر كذلك، فأخذ الثلاثة في مخلاته.

فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه، فتقدم إليه داود فقال له: ارجع فإني أكره قتلك، فقال: لكني أحب قتلك، وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعها في القذافة، ثم أدارها فصارت الثلاثة حجرا واحدا، ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه، وفر جيشه منهزما.

فوفى له طالوت بما وعده فزوجه ابنته، وأجرى حكمه في ملكه، وعظم داود عليه السلام عند بني إسرائيل، وأحبوه ومالوا إليه أكثر من طالوت، فذكروا أن طالوت حسده وأراد قتله، واحتال على ذلك فلم يصل إليه، وجعل العلماء ينهون طالوت عن قتل داود فتسلط عليهم فقتلهم، حتى لم يبق منهم إلا القليل.

ثم حصل له توبة وندم وإقلاع عما سلف منه، وجعل يكثر من البكاء، ويخرج إلى الجبانة فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه، فنودي ذات يوم من الجبانة: أن يا طالوت قتلتنا ونحن أحياء، وآذيتنا ونحن أموات، فازداد لذلك بكاؤه وخوفه واشتد وجله، ثم جعل يسأل عن عالم يسأله عن أمره، وهل له من توبة، فقيل له: وهل أبقيت عالما؟

حتى دل على امرأة من العابدات، فأخذته فذهبت به إلى قبر يوشع عليه السلام.

قالوا: فدعت الله فقام يوشع من قبره فقال: أقامت القيامة؟ فقالت: لا ولكن هذا طالوت يسألك هل له من توبة؟

فقال: نعم، ينخلع من الملك ويذهب فيقاتل في سبيل الله حتى يقتل، ثم عاد ميتا.

فترك الملك لداود عليه السلام، وذهب ومعه ثلاثة عشر من أولاده فقاتلوا في سبيل الله حتى قتلوا، قالوا فذلك قوله: { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } هكذا ذكره ابن جرير في تاريخه من طريق السدي بإسناده. وفي بعض هذا نظر ونكارة، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق: النبي الذي بعث فأخبر طالوت بتوبته هو اليسع بن أخطوب، حكاه ابن جرير أيضا.

وذكر الثعلبي: أنها أتت به إلى قبر أشمويل، فعاتبه على ما صنع بعده من الأمور وهذا أنسب. ولعله إنما رآه في النوم لا أنه قام من القبر حيا، فإن هذا إنما يكون معجزة لنبي، وتلك المرأة لم تكن نبية، والله أعلم. وزعم أهل التوراة أن مدة ملك طالوت إلى أن قتل مع أولاده أربعون سنة، فالله أعلم.

قصة داود وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وإعلامه

هو داود بن ايشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن ارم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه، وخليفته في أرض بيت المقدس.

قال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام قصيرا، أزرق العينين، قليل الشعر، طاهر القلب ونقيه. تقدم أنه لما قتل جالوت، وكان قتله له فيما ذكر ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر، فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان وصار الملك إلى داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة بين خير الدنيا والآخرة، وكان الملك يكون في سبط، والنبوة في آخر، فاجتمع في داود هذا وهذا.

كما قال تعالى: { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي: لولا إقامة الملوك حكاما على الناس، لأكل قوي الناس ضعيفهم، ولهذا جاء في بعض الآثار:

السلطان ظل الله في أرضه.

وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: إن الله ليزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن

وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن جالوت لما بارز طالوت فقال له: اخرج إلي وأخرج إليك، فندب طالوت الناس فانتدب داود فقتل جالوت.

قال وهب بن منبه: فمال الناس إلى داود، حتى لم يكن لطالوت ذكر، وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود. وقيل: إن ذلك كان عن أمر شمويل حتى قال بعضهم أنه ولاه قبل الوقعة.

قال ابن جرير، والذي عليه الجمهور: أنه إنما ولي ذلك بعد قتل جالوت، والله أعلم.

وروى ابن عساكر، عن سعيد بن عبد العزيز: أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم، وأن النهر الذي هناك هو المذكور في الآية، فالله أعلم.

وقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } 8.

وقال تعالى: {... وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } 9 أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء، وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها فقال: { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } أي: لا تدق المسمار فيفلق، ولا تغلظه فيفصم، قاله مجاهد، وقتادة، والحكم، وعكرمة.

قال الحسن البصري، وقتادة، والأعمش: كان الله قد ألان له الحديد حتى كان يفتله بيده، لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة.

قال قتادة: فكان أول من عمل الدروع من زرد، وإنما كانت قبل ذلك من صفائح.

قال ابن شوذب: كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم، وقد ثبت في الحديث:

« أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وأن نبي الله داود كان يأكل من كسب يده ».

وقال تعالى: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفصل الْخِطَابِ } 10.

قال ابن عباس، ومجاهد: الأيد: القوة في الطاعة، يعني: ذا قوة في العبادة والعمل الصالح.

قال قتادة: أُعطي قوة في العبادة، وفقها في الإسلام.

قال: وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل، ويصوم نصف الدهر.

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله قال:

« أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود: كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى ».

وقوله: { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } 11.

كما قال: { يا جبال أوبي معه والطير } 12 أي: سبحي معه. قاله ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد في تفسير هذه الآية.

{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } أي: عند آخر النهار وأوله. وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحدا، بحيث أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه يقف الطير في الهواء، يُرجع بترجيعه، ويسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه، كلما سبح بكرة وعشيا صلوات الله وسلامه عليه.

وقال الأوزاعي: حدثني عبد الله بن عامر قال: أعطي داود من حُسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى أن كان الطير والوحش ينعكف حوله، حتى يموت عطشا وجوعا، وحتى إن الأنهار لتقف.

وقال وهب بن منبه: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله، فيعكف الجن، والإنس، والطير، والدواب على صوته، حتى يهلك بعضها جوعا.

وقال أبو عوانة الإسفراييني: حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا محمد بن منصور الطوسي، سمعت صبيحا أبا تراب رحمه الله، قال أبو عوانة: وحدثني أبو العباس المدني، حدثنا محمد بن صالح العدوي، حدثنا سيار - هو ابن حاتم - عن جعفر، عن مالك قال: كان داود عليه السلام إذا أخذ في قراءة الزبور تفتقت العذارى. وهذا غريب.

وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: سألت عطاء عن القراءة على الغناء فقال: وما بأس بذلك؟ سمعت عبيد بن عمر يقول: كان داود عليه السلام يأخذ المعزفة فيضرب بها، فيقرأ عليها، فترد عليه صوته، يريد بذلك أن يبكي وتبكي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سمع رسول الله صوت أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال: « لقد أوتي أبو موسى من مزامير آل داود ». 13.

وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال:

« لقد أعطى أبو موسى من مزامير داود ». على شرط مسلم.

وقد روينا عن أبي عثمان الترمذي أنه قال: لقد سمعت البربط والمزمار، فما سمعت صوتا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري. وقد كان مع هذا الصوت الرخيم، سريع القراءة لكتابه الزبور كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« خفف على داود القراءة، فكان يأمر بدابته فتسرج، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه ».

وكذلك رواه البخاري منفردا به عن عبد الله بن محمد بن عبد الرزاق به، ولفظه:

« خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يديه ».

ثم قال البخاري: ورواه موسى بن عقبة، عن صفوان - هو ابن سليم - عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي . وقد أسنده ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام في (تاريخه)، من طرق: عن إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، ومن طريق أبي عاصم عن أبي بكر السبري، عن صفوان بن سليم به.

والمراد بالقرآن ههنا الزبور: الذي أنزله عليه، وأوحاه إليه، وذكر رواية أشبه أن يكون محفوظا، فإنه كان ملكا له أتباع، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغني به على وجه التخشع، صلوات الله وسلامه عليه.

وقد قال الله تعالى: { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورا } 14، والزبور: كتاب مشهور، وذكرنا في التفسير، الحديث الذي رواه أحمد وغيره، أنه أنزل في شهر رمضان، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه.

وقوله: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفصل الْخِطَابِ } 15 أي: أعطيناه ملكا عظيما، وحكما نافذا.

روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام في بقر: ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه، فأنكر المدعى عليه، فأرجأ أمرهما إلى الليل، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعي، فلما أصبح قال له داود: إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك، فأنا قاتلك لا محالة، فما خبرك فيما ادعيته على هذا؟

قال: والله يا نبي الله إني لمحق فيما ادعيت عليه، ولكني كنت اغتلت أباه قبل هذا، فأمر به داود فقتل، فعظم أمر داود في بني إسرائيل جدا وخضعوا له خضوعا عظيما.

قال ابن عباس: وهو قوله تعالى: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ }

وقوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } أي: النبوة.

{ وَفصل الْخِطَابِ } قال شريح، والشعبي، وقتادة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وغيرهم: فصل الخطاب: الشهود والأيمان، يعنون بذلك البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.

وقال مجاهد والسدي: هو إصابة القضاء وفهمه.

وقال مجاهد: هو الفصل في الكلام، وفي الحكم، واختاره ابن جرير، وهذا لا ينافي ما روى عن أبي موسى أنه قول أما بعد.

وقال وهب بن منبه: لما كثر الشر وشهادات الزور في بني إسرائيل، أعطي داود سلسلة لفصل القضاء، فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس، وكانت من ذهب، فإذا تشاجر الرجلان في حق، فأيهما كان محقا نالها، والآخر لا يصل إليها، فلم تزل كذلك حتى أودع رجل رجلا لؤلؤة فجحدها منه، واتخذ عكازا وأودعها فيه.

فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعي، فلما قيل للآخر: خذها بيدك، عمد إلى العكاز، فأعطاه المدعى وفيه تلك اللؤلؤة، وقال: اللهم إنك تعلم أني دفعتها إليه، ثم تناول السلسلة فنالها، فأشكل أمرها على بني إسرائيل، ثم رفعت سريعا من بينهم. ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين، وقد رواه إسحاق بن بشر عن إدريس بن سنان، عن وهب به بمعناه.

{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } 16.

وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف ههنا، قصصا وأخبارا أكثرها إسرائيليات، ومنها ما هو مكذوب لا محالة، تركنا إيرادها في كتابنا قصدا اكتفاء واقتصارا على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وقد اختلف الأئمة في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود، أو إنما هي سجدة شكر ليست من عزائم السجود على قولين:

قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي، عن العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟

قال: أو ما تقرأ: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام، فسجدها رسول الله .

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل - هو ابن علية - عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: في السجود في (ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله يسجد فيها.

وكذا رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث أيوب، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال النسائي: أخبرني إبراهيم بن الحسن المقسمي، حدثنا حجاج بن محمد، عن عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي سجد في (ص) وقال:

« سجدها داود توبة، ونسجدها شكرا ».

تفرد به أحمد، ورجاله ثقات.

وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري قال:

قرأ رسول الله وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة، نزل فسجد، وسجد معه الناس، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس للسجود، فقال النبي :

« إنما هي توبة نبي، ولكن رأيتكم تشزنتم للسجود ». فنزل وسجد.

تفرد به أبو داود، وإسناده على شرط الصحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد، حدثنا بكر - هو ابن عمر - وأبو الصديق الناجي أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رأى رؤيا أنه يكتب ص، فلما بلغ إلى التي يسجد بها، رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا، قال فقصها على النبي فلم يزل يسجد بها بعد. تفرد به أحمد.

وروى الترمذي، وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس، عن الحسن بن محمد بن، عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريج: حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودي، فسمعتها تقول وهي ساجدة:

اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود.

وقال ابن عباس: فرأيت النبي قام فقرأ السجدة ثم سجد، فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة.

ثم قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقد ذكر بعض المفسرين أنه عليه السلام مكث ساجدا أربعين يوما وقاله مجاهد، والحسن، وغيرهما.

وورد في ذلك حديث مرفوع لكنه من رواية يزيد الرقاشي، وهو ضعيف متروك الرواية.

قال الله تعالى: { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي: إن له يوم القيامة لزلفى، وهي القربة التي يقربه الله بها، ويدنيه من حظيرة قدسه بسببها، كما ثبت في حديث

« المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وحكمهم وما ولوا ».

وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا فضيل، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله :

« إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر ».

وهكذا رواه الترمذي من حديث فضيل بن مرزوق الأغر به، وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبي زياد، حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان، سمعت مالك بن دينار في قوله: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } قال: يقوم داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش، فيقول الله: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم، الذي كنت تمجدني في الدنيا، فيقول: وكيف وقد سلبته؟

فيقول: إني أرده عليك اليوم.

قال: فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.

قال تعالى: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } 17 هذا خطاب من الله تعالى مع داود، والمراد ولاة الأمور، وحكام الناس، وأمرهم بالعدل، واتباع الحق المنزل من الله لا ما سواه من الآراء والأهواء، وتوعد من سلك غير ذلك، وحكم بغير ذلك.

وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به في ذلك الوقت في العدل، وكثرة العبادة، وأنواع القربات، حتى إنه كان لا يمضي ساعة من آناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته في عبادة ليلا ونهارا كما قال تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } 18.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام، حدثنا صالح المزي، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد قال: قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن أشكرك، وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك، قال: فأتاه الوحي أن يا داود: ألست تعلم أن الذي بك من النعم مني؟

قال: بلى يا رب.

قال: فإني أرضى بذلك منك.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن بالويه، حدثنا محمد بن يونس القرشي، حدثنا روح بن عبادة، حدثني عبد الله بن لاحق، عن ابن شهاب قال: قال داود: الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، فأوحى الله إليه إنك أتعبت الحفظة يا داود.

ورواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن علي بن الجعد، عن الثوري مثله.

وقال عبد الله بن المبارك في كتاب (الزهد) أنبأنا سفيان الثوري، عن رجل، عن وهب بن منبه قال: إن في حكمة آل داود حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات:

ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات، وإجمام للقلوب، وحق على العاقل:

أن يعرف زمانه، ويحفظ لسانه، ويقبل على شأنه، وحق على العاقل أن لا يظعن إلا في إحدى ثلاث: زاد لمعاده، ومرمة لمعاشه، ولذة في غير محرم.

وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا، عن أبي بكر بن أبي خيثمة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي الأغر، عن وهب بن منبه فذكره.

ورواه أيضا عن علي بن الجعد، عن عمر بن الهيثم الرقاشي، عن أبي الأغر، عن وهب بن منبه فذكره. وأبو الأغر هذا هو الذي أبهمه ابن المبارك في روايته، قاله ابن عساكر.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا بشر بن رافع، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له: أبو عبد الله قال: سمعت وهب بن منبه فذكر مثله.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه السلام أشياء كثيرة مليحة منها: قوله: كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد.

وروي بسند غريب مرفوعا، قال داود: يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها، وعن داود عليه السلام أنه قال: مثل الخطيب الأحمق في نادي القوم، كمثل المغني عند رأس الميت. وقال أيضا: ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى.

وقال: انظر ما تكره أن يذكر عنك في نادي القوم فلا تفعله إذا خلوت.

وقال: لا تعدن أخاك بما لا تنجزه له، فإن ذلك عداوة ما بينك وبينه.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر الواقدي، حدثني هشام بن سعد، عن عمر مولى عفرة قال: قالت يهود لما رأت رسول الله يتزوج النساء: انظروا إلى هذا الذي لا يشبع من الطعام، ولا والله ما له همة إلا إلى النساء، حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك، فقالوا:

لو كان نبيا ما رغب في النساء، وكان أشدهم في ذلك حيي بن أخطب، فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله عليه وسلامه، فقال: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... } 19 يعني بالناس رسول الله .

{... فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكا عَظِيما } يعني: ما أتى الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة، سبعمائة مهرية، وثلاثمائة سرية، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة منهن: امرأة أوريا أم سليمان بن داود، التي تزوجها بعد الفتنة. هذا أكثر مما لمحمد . وقد ذكر الكلبي نحو هذا، وإنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولسليمان ألف امرأة منهن ثلاثمائة سرية.

وروى الحافظ في تاريخه في ترجمة صدقة الدمشقي، الذي يروى عن ابن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصي، عن أبي هريرة الحمصي، عن صدقة الدمشقي، أن رجلا سأل ابن عباس عن الصيام فقال: لأحدثنك بحديث كان عندي في البحث مخزونا إن شئت أنبأتك بصوم داود، فإنه كان صواما قواما، وكان شجاعا لا يفر إذا لاقى، وكان يصوم يوما ويفطر يوما.

وقال رسول الله :

« أفضل الصيام صيام داود، وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا يكون فيها، وكانت له ركعة من الليل يبكي فيها نفسه، ويبكي ببكائه كل شيء، ويصرف بصوته الهموم والمحموم ».

وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان، فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام، ومن وسطه ثلاثة أيام، ومن آخره ثلاثة أيام، يستفتح الشهر بصيام، ووسطه بصيام، ويختمه بصيام.

وإن شئت أنبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى بن مريم، فإنه كان يصوم الدهر، ويأكل الشعير، ويلبس الشعر، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، ليس له ولد يموت، ولا بيت يخرب، وكان أينما أدركه الليل صفَّ بين قدميه، وقام يصلي حتى يصبح، وكان راميا لا يفوته صيد يريده، وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فيقضي لهم حوائجهم.

وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران، فإنها كانت تصوم يوما، وتفطر يومين.

وإن شئت أنبأتك بصوم النبي العربي الأمي - محمد - فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ويقول: « إن ذلك صوم الدهر ».

وقد روى الإمام أحمد، عن أبي النصر، عن فرج بن فضالة، عن أبي هرم، عن صدقة، عن ابن عباس مرفوعا في صوم داود.

ذكر كمية حياته وكيفية وفاته عليه السلام

قد تقدم في ذكر الأحاديث الواردة في خلق آدم أن الله لما استخرج ذريته من ظهره، فرأى فيهم الأنبياء عليهم السلام، ورأى فيهم رجلا يزهر فقال: أي رب من هذا؟

قال: هذا ابنك داود.

قال: أي رب كم عمره؟

قال: ستون عاما.

قال: أي رب زد في عمره.

قال: لا إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف عام. فزاده أربعين عاما.

فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت فقال: بقي من عمري أربعون سنة، ونسي آدم ما كان وهبه لولده داود، فأتمها الله لآدم ألف سنة، ولداود مائة سنة.

رواه أحمد عن ابن عباس. والترمذي وصححه عن أبي هريرة، وابن خزيمة، وابن حبان.

وقال الحاكم: على شرط مسلم. وقد تقدم ذكر طرقه وألفاظه في قصة آدم.

قال ابن جرير: وقد زعم بعض أهل الكتاب أن عمر داود كان سبعا وسبعين سنة، قلت: هذا غلط مردود عليهم، قالوا: وكان مدة ملكه أربعين سنة، وهذا قد يقبل نقله لأنه ليس عندنا ما ينافيه ولا ما يقتضيه.

وأما وفاته عليه السلام فقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا قبيصة، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن أبي هريرة أن رسول الله :

« قال كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلق الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع، قال فخرج ذات يوم وغلقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار، فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن بداود، فجاء داود فإذا الرجل قائم في وسط الدار فقال له داود: من أنت؟

فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا أمنع من الحجاب.

فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت، مرحبا بأمر الله، ثم مكث حتى قبضت روحه، فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس.

فقال سليمان للطير: أظلي على داود، فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض.

فقال سليمان للطير: اقبضي جناحا.

قال: قال أبو هريرة: فطفق رسول الله يرينا كيف فعلت الطير.

وقبض رسول الله بيده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية ».

انفرد بإخراجه الإمام أحمد، وإسناده جيد قوي، رجاله ثقات.

ومعنى قوله: وغلبت عليه يومئذ المضرحية، أي وغلبت على التظليل عليه الصقور الطوال الأجنحة، واحدها مضرحي. قال الجوهري: وهو الصقر الطويل الجناح.

وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: مات داود عليه السلام فجأة، وكان بسبت وكانت الطير تظله.

وقال السدي أيضا عن أبي مالك، وعن سعيد بن جبير قال: مات داود عليه السلام يوم السبت فجأة.

وقال إسحاق بن بشر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: مات داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة، ومات يوم الأربعاء فجأة.

وقال أبو السكن الهجري: مات إبراهيم الخليل فجأة، وداود فجأة، وابنه سليمان فجأة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، رواه ابن عساكر.

وروي عن بعضهم أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه، فقال له: دعني أنزل أو أصعد، فقال: يا نبي الله قد نفذت السنون والشهور والآثار والأرزاق، قال: فخر ساجدا على مرقاة من تلك المراقي فقبضه وهو ساجد.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا وافر بن سليمان، عن أبي سليمان الفلسطيني، عن وهب بن منبه قال: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام، فجلسوا في الشمس في يوم صائف قال: وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب، عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس، ولم يمت في بني إسرائيل بعد موسى وهارون أحد، كانت بنو إسرائيل أشد جزعا عليه منهم على داود.

قال: فآذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل لهم وقاية لما أصابهم من الحر، فخرج سليمان فنادى الطير فأجابت، فأمرها أن تظل الناس، فتراص بعضهم إلى بعض من كل وجه، حتى استمسكت الريح، فكاد الناس أن يهلكوا غما، فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم.

فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلي الناس من ناحية الشمس، وتنحي عن ناحية الريح، ففعلت فكان الناس في ظل وتهب عليهم الريح، فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان.

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثني الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله :

{ لقد قبض الله داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا، ولقد مكث أصحاب المسيح على سننه وهديه مائتي سنة } هذا حديث غريب، وفي رفعه نظر، والوضين بن عطاء كان ضعيفا في الحديث، والله أعلم.

قصة سليمان بن داود عليهما السلام

قال الحافظ ابن عساكر: هو سليمان بن داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عمينا داب بن ارم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبي الربيع نبي الله بن نبي الله. جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق، قال ابن ماكولا: فارص بالصاد المهملة، وذكر نسبه قريبا مما ذكره ابن عساكر.

قال الله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } 20 أي: ورثه في النبوة والملك، وليس المراد ورثه في المال، لأنه قد كان له بنون غيره، فما كان ليخص بالمال دونهم.

ولأنه قد ثبت في الصحاح من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن رسول الله قال:

« لا نورث ما تركنا فهو صدقة ».

وفي لفظ: « نحن معاشر الأنبياء لا نورث »، فأخبر الصادق المصدوق أن الأنبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم، بل يكون أموالهم صدقة من بعدهم على الفقراء والمحاويج، لا يخصون بها أقرباؤهم لأن الدنيا كانت أهون عليهم، وأحقر عندهم من ذلك، كما هي عند الذي أرسلهم واصطفاهم وفضلهم.

وقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } الآية يعني أنه عليه السلام كان يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها، ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ: أنبأنا علي بن حمشاد، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا علي بن قدامة، حدثنا أبو جعفر الاستوائي، يعني محمد بن عبد الرحمن، عن أبي يعقوب العمي، حدثني أبو مالك قال:

مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟

قالوا: وما يقول يا نبي الله؟

قال: يخطبها إلى نفسه ويقول: زوجيني، أسكنك أي غرف دمشق شئت.

قال سليمان عليه السلام: لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد، ولكن كل خاطب كذاب.

رواه ابن عساكر، عن أبي القاسم زاهر بن طاهر، عن البيهقي به.

وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي: من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات، والجنود، والجيوش، والجماعات من الجن، والإنس، والطيور والوحوش، والشياطين السارحات، والعلوم والفهوم، والتعبير عن ضمائر المخلوقات، من الناطقات والصامتات.

ثم قال: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي: من بارئ البريات، وخالق الأرض والسموات.

كما قال تعالى: { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } 21.

يخبر تعالى عن عبده، ونبيه، وابن نبيه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، أنه ركب يوما في جيشه جميعه من الجن والإنس والطير، فالجن والإنس يسيرون معه، والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره، وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة، أي: نقباء يردون أوله على آخره، فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه، ولا يتأخر عنه.

قال الله تعالى: { حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } فأمرت، وحذرت، وأعذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور.

وقد ذكر وهب أنه مر وهو على البساط بواد بالطائف، وأن هذه النملة كان اسمها جرسا، وكانت من قبيلة يقال لهم بنو الشيصبيان، وكانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب.

وفي هذا كله نظر، بل في هذا السياق دليل على أنه كان في موكبه راكبا في خيوله وفرسانه، لا كما زعم بعضهم من أنه كان إذ ذاك على البساط، لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شيء، ولا وطء، لأن البساط كان عليه جميع ما يحتاجون إليه من الجيوش، والخيول، والجمال، والأثقال، والخيام، والأنعام، والطير من فوق ذلك كله، كما سنبينه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

والمقصود أن سليمان عليه السلام فهم ما خاطبت به تلك النملة لامتها من الرأي السديد، والأمر الحميد، وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار، والفرح والسرور، بما أطلعه الله عليه دون غيره، وليس كما يقوله بعض الجهلة من أن الدواب كانت تنطق قبل سليمان وتخاطب الناس، حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد، وألجمها فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك.

فإن هذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون، ولو كان هذا هكذا لم يكن لسليمان في فهم لغاتها مزية على غيره، إذ قد كان الناس كلهم يفهمون ذلك، ولو كان قد أخذ عليها العهد أن لا تتكلم مع غيره وكان هو يفهمها، لم يكن في هذا أيضا فائدة يعول عليها، ولهذا قال:

{ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي: ألهمني وأرشدني: { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } فطلب من الله أن يقيضه للشكر على ما أنعم به عليه وعلى ما خصه به من المزية على غيره، وأن ييسر عليه العمل الصالح، وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصاحين. وقد استجاب الله تعالى له.

والمراد بوالديه: داود عليه السلام وأمه، وكانت من العابدات الصالحات، كما قال: سنيد بن داود عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر عن النبي قال: « قالت أم سليمان بن داود: يا بني لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيرا يوم القيامة ». رواه ابن ماجه عن أربعة من مشايخه عنه به نحوه.

وقال عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، أن سليمان بن داود عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون، فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي، فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقيتم، إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها.

قال ابن عساكر: وقد روي مرفوعا، ولم يذكر فيه سليمان، ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز، عن سلامة بن روح بن خالد، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله يقول:

« خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون الله، فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال النبي ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة ».

وقال السدي: أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه السلام، فأمر الناس فخرجوا، فإذا بنملة قائمة على رجليها، باسطة يديها، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ولا غناء بنا عن فضلك. قال: فصب الله عليهم المطر.

قال تعالى: { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابا شَدِيدا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } 22.

يذكر تعالى ما كان من أمر سليمان والهدهد، وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون، يقدمون بما يطلب منهم، ويحضرون عنده بالنوبة، كما هي عادة الجنود مع الملوك.

وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ابن عباس وغيره أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الأسفار يجيء فينظر له هل بهذه البقاع من ماء، وفيه من القوة التي أودعها الله تعالى فيه أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض، فإذا دلهم عليه حفروا عنه واستنبطوه وأخرجوه واستعملوه لحاجتهم، فلما تطلبه سليمان عليه السلام ذات يوم فقده، ولم يجده في موضعه من محل خدمته.

{ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } أي: ماله مفقود من ههنا، أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي. { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابا شَدِيدا } توعده بنوع من العذاب، اختلف المفسرون فيه، والمقصود حاصل على كل تقدير. { أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي: بحجة تنجيه من هذه الورطة.

قال الله تعالى: { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي: فغاب الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها { فَقَالَ } لسليمان { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي: اطلعت على ما لم تطلع عليه { وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } أي: بخبر صادق { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة، والتبابعة المتوجين، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم، لم يخلف غيرها، فملَّكوها عليهم.

وذكر الثعلبي وغيره أن قومها ملكوا عليهم بعد أبيها رجلا، فعم به الفساد، فأرسلت إليه تخطبه، فتزوجها فلما دخلت عليه سقته خمرا، ثم حزت رأسه، ونصبته على بابها، فأقبل الناس عليها، وملكوها عليهم، وهي بلقيس بنت السيرح، وهو الهدهاد، وقيل: شراحيل بن ذي جدن بن السيرح بن الحرث بن قيس بن صيفي بن سبابن يشجب بن يعرب بن قحطان.

وكان أبوها من أكابر الملوك، وكان يأبى أن يتزوج من أهل اليمن، فيقال: إنه تزوج بامرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن، فولدت له هذه المرأة، واسمها تلقمة، ويقال لها بلقيس.

وقد روى الثعلبي من طريق سعيد بن بشير عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: « كان أحد أبوي بلقيس جنيا ». وهذا حديث غريب، وفي سنده ضعف.

وقال الثعلبي: أخبرني أبو عبد الله بن قبحونة، حدثنا أبو بكر بن جرحة، حدثنا ابن أبي الليث، حدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: ذكرت بلقيس عند رسول الله فقال: « لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة » إسماعيل بن مسلم هذا هو المكي ضعيف.

وقد ثبت في صحيح البخاري، من حديث عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رسول الله لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى، قال: « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ». ورواه الترمذي، والنسائي، من حديث حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي بمثله، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقوله: { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي: مما من شأنه أن تؤتاه الملوك { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } يعني: سرير مملكتها كان مزخرفا بأنواع الجواهر، والآلي، والذهب، والحلي الباهر.

ثم ذكر كفرهم بالله، وعبادتهم الشمس من دون الله، وإضلال الشيطان لهم، وصده إياهم عن عبادة الله وحده لا شريك له، الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، ويعلم ما يخفون وما يعلنون أي: يعلم السرائر، والظواهر من المحسوسات والمعنويات.

{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي: له العرش العظيم الذي لا أعظم منه في المخلوقات، فعند ذلك بعث معه سليمان عليه السلام، كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله، وطاعة رسوله، والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه، ولهذا قال لهم: { أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ } أي: لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي: وأقدموا علي سامعين مطيعين، بلا معاودة ولا مراودة.

فلما جاءها الكتاب مع الطير، ومن ثم اتخذ الناس البطائق، ولكن أين الثريا من الثرى، تلك البطاقة كانت مع طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له، فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم، أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها، وهي في خلوة لها، ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها.

فجمعت أمراءها، ووزراءها، وأكابر دولتها إلى مشورتها { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } ثم قرأت عليهم عنوانه أولا:

{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ } ثم قرأته وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ثم شاورتهم في أمرها، وما قد حل بها، وتأدبت معهم، وخاطبتهم وهم يسمعون { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرا حَتَّى تَشْهَدُونِ } تعني: ما كنت لأبت أمرا إلا وأنتم حاضرون.

{ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } يعنون: لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال، فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين { وَ } مع هذا { اَلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } فبذلوا لها السمع والطاعة، وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة، وفوضوا إليها في ذلك الأمر لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم، فكان رأيها أتم وأسد من رأيهم، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب، ولا يمانع، ولا يخالف، ولا يخادع.

{ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } تقول برأيها السديد: إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة لم يخلص الأمر من بينكم، إلا إلي، ولم تكن الحدة والشدة والسطوة البليغة إلا علي.

{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } أرادت أن تصانع عن نفسها وأهل مملكتها، بهدية ترسلها، وتحف تبعثها، ولم تعلم أن سليمان عليه السلام لا يقبل منهم، والحالة هذه صرفا ولا عدلا، لأنهم كافرون وهو وجنوده عليهم قادرون.

ولهذا: { فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة، كما ذكره المفسرون.

ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه والناس حاضرون يسمعون { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } يقول: ارجع بهديتك التي قدمت بها إلى من قد من بها فإن عندي مما قد أنعم الله علي وأسداه إلي من الأموال والتحف والرجال، ما هو أضعاف هذا وخير من هذا، الذي أنتم تفرحون به، وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه.

{ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } أي: فلأبعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم، ولا نزالهم، ولا مما نعتهم، ولا قتالهم، ولأخرجنهم من بلدهم، وحوزتهم، ومعاملتهم، ودولتهم أذلة { وَهُمْ صَاغِرُونَ } عليهم الصغار، والعار، والدمار.

فلما بلغهم ذلك عن نبي الله، لم يكن لهم بد من السمع والطاعة، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة، وأقبلوا صحبة الملكة أجمعين، سامعين، مطيعين، خاضعين، فلما سمع بقدومهم عليه، ووفودهم إليه، قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان، ما قصَّه الله عنه في القرآن.

{ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } 23.

لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس، وهو سرير مملكتها التي تجلس عليه وقت حكمها قبل قدومها عليه { قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } يعني: قبل أن ينقضي مجلس حكمك.

وكان فيما يقال من أول النهار إلى قريب الزوال، يتصدى لمهمات بني إسرائيل، وما لهم من الأشغال { وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } أي: وإني لذو قدرة على إحضاره إليك، وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } .

المشهور: أنه آصف بن برخيا، وهو ابن خالة سليمان، وقيل: هو رجل من مؤمني الجان، كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم، وقيل: رجل من بني إسرائيل من علمائهم، وقيل: إنه سليمان، وهذا غريب جدا، وضعفه السهيلي، بأنه لا يصح في سياق الكلام. قال: وقد قيل فيه قول رابع وهو: جبريل.

{ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } قيل: معناه قبل أن تبعث رسولا إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض، ثم يعود إليك، وقيل: قبل أن يصل إليك أبعد من تراه من الناس، وقيل: قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك، وقيل: قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته، وهذا أقرب ما قيل.

{ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّا عِنْدَهُ } أي: فلما رأى عرش بلقيس مستقرا عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس في طرفة عين { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } أي: هذا من فضل الله علي، وفضله على عبيده، ليختبرهم على الشكر أو خلافه { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي: إنما يعود نفع ذلك عليه { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } أي: غني عن شكر الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين.

ثم أمر سليمان عليه السلام أن يغير حلى هذا العرش، وينكر لها، ليختبر فهمها وعقلها، ولهذا قال:

{ نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } وهذا من فطنتها وغزارة فهمها، لأنها استبعدت أن يكون عرشها، لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن، ولم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب.

قال الله تعالى إخبارا عن سليمان وقومه: { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ } أي: ومنعها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها من دون الله، اتباعا لدين آبائهم وأسلافهم، لا لدليل قادهم إلى ذلك، ولا حداهم على ذلك.

وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج، وعمل في ممره ماء، وجعل عليه سقفا من زجاج وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء، وأمرت بدخول الصرح، وسليمان جالس على سريره فيه.

{ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وقد قيل: إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان، وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر، فينفره ذلك منها، وخشوا أن يتزوجها لأن أمها من الجان، فتتسلط عليهم معه.

وذكر بعضهم أن حافرها كان كحافر الدابة وهذا ضعيف، وفي الأول أيضا نظر والله أعلم.

إلا أن سليمان قيل: إنه لما أراد إزالته حين عزم على تزوجها، سأل الإنس عن زواله فذكروا له الموسى، فامتنعت من ذلك، فسأل الجان فصنعوا له النورة، ووضعوا له الحمام، فكان أول من دخل الحمام، فلما وجد مسه قال: أوه من عذاب أوه أوه، قبل أن لا ينفع أوه. رواه الطبراني مرفوعا، وفيه نظر.

وقد ذكر الثعلبي وغيره أن سليمان لما تزوجها أقرها على مملكة اليمن وردها إليه، وكان يزورها في كل شهر مرة، فيقيم عندها ثلاثة أيام، ثم يعود على البساط، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور باليمن: غمدان، وسالحين، وبيتون، فالله أعلم.

وقد روى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه أنه سليمان لم يتزوجها، بل زوجها بملك همدان، وأقرها على ملك اليمن، وسخر زوبعة ملك جن اليمن، فبنى لها القصور الثلاثة التي ذكرناها باليمن، والأول أشهر وأظهر، والله أعلم.

وقال تعالى في سورة ص: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } 24.

يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان عليهما السلام، ثم أثنى الله عليه تعالى فقال: { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي: رجاع مطيع لله، ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات، وهي التي تقف على ثلاث، وطرف حافر الرابعة، الجياد: وهي المضمرة السراع.

{ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } يعني: الشمس، وقيل: الخيل على ما سنذكره من القولين. { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قيل: مسح عراقيبها وأعناقها بالسيوف، وقيل: مسح عنها العرق، لما أجراها وسابق بينها وبين يديه على القول الآخر.

والذي عليه أكثر السلف الأول، فقالوا: اشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس، روي هذا عن علي بن أبي طالب وغيره، والذي يقطع به أنه لم يترك الصلاة عمدا من غير عذر، اللهم إلا أن يقال: إنه كان سائغا في شريعتهم فأخر الصلاة لأجل أسباب الجهاد وعرض الخيل من ذلك.

وقد ادعى طائفة من العلماء في تأخير النبي صلاة العصر يوم الخندق، أن هذا كان مشروعا إذ ذاك، حتى نسخ بصلاة الخوف، قاله الشافعي وغيره.

وقال مكحول، والأوزاعي: بل هو حكم محكم إلى اليوم أنه يجوز تأخيرها بعذر القتال الشديد، كما ذكرنا تقرير ذلك في سورة النساء عند صلاة الخوف.

وقال آخرون: بل كان تأخير النبي صلاة العصر يوم الخندق نسيانا، وعلى هذا فيحمل فعل سليمان عليه السلام على هذا، والله أعلم.

وأما من قال: الضمير في قوله حتى توارت بالحجاب، عائد على الخيل، وأنه لم تفته وقت صلاة، وإن المراد بقوله: { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ }

يعني: مسح العرق عن عراقيبها وأعناقها، فهذا القول اختاره ابن جرير، ورواه الوالبي، عن ابن عباس في مسح العرق.

ووجه هذا القول ابن جرير بأنه ما كان ليعذب الحيوان بالعرقبة، ويهلك مالا بلا سبب ولا ذنب لها، وهذا الذي قاله فيه نظر، لأنه قد يكون هذا سائغا في ملتهم، وقد ذهب بعض علمائنا إلى أنه إذا خاف المسلمون أن يظفر الكفار على شيء من الحيوانات من أغنام ونحوها، جاز ذبحها وإهلاكها، لئلا يتقووا بها، وعليه حمل صنيع جعفر بن أبي طالب يوم عقر فرسه بموته.

وقد قيل إنها كانت خيلا عظيمة، قيل: كانت عشرة آلاف فرس، وقيل: عشرين ألف فرس، وقيل: كان فيها عشرون فرسا من ذوات الأجنحة.

وقد روى أبو داود في سننه: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا يحيى بن أيوب، حدثني عمارة بن عزية أن محمد بن إبراهيم حدثه، عن محمد بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: قدم رسول الله من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها ستر، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب، فقال: « ما هذا يا عائشة؟ ». فقالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع. فقال: « ما هذا الذي أرى وسطهن؟ ». قالت: فرس. قال: « وما الذي عليه هذا؟ ». قالت: جناحان. قال: « فرس له جناحان؟ ». قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة. قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه .

وقال بعض العلماء: لما ترك الخيل لله، عوضه الله عنها بما هو خير له منها، وهو الريح التي كانت غدوها شهرا ورواحها شهرا كما سيأتي الكلام عليها.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة، وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل، وقال: « إنك لا تدع شيئا اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيرا منه ».

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدا ثُمَّ أَنَابَ } ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما من المفسرين ههنا آثارا كثيرة عن جماعة من السلف، وأكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات، وفي كثير منها نكارة شديدة، وقد نبهنا على ذلك في كتابنا التفسير، واقتصرنا ههنا على مجرد التلاوة، ومضمون ما ذكروه أن سليمان عليه السلام غاب عن سريره أربعين يوما، ثم عاد إليه، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس، فبناه بناء محكما.

وقد قدمنا أنه جدده، وأن أول من جعله مسجدا إسرائيل عليه السلام، كما ذكرنا ذلك عند قول أبي ذر، قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟

قال: « المسجد الحرام ».

قلت: ثم أي؟

قال: « مسجد بيت المقدس ».

قلت: كم بينهما؟

قال: « أربعون سنة ».

ومعلوم أن بين إبراهيم الذي بنى المسجد الحرام، وبين سليمان بن داود عليهما السلام، أزيد من ألف سنة. دع أربعين سنة وكان سؤاله الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده بعد إكماله البيت المقدس كما قال الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، بأسانيدهم عن عبد الله بن فيروز الديلمي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : « إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالا ثلاثا، فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة، سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها ».

فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى، فقد أثنى الله تعالى عليه وعلى أبيه في قوله: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّا آتَيْنَا حُكْما وَعِلْما... } 25.

وقد ذكر شريح القاضي، وغير واحد من السلف: أن هؤلاء القوم كان لهم كرم، فنفشت فيه غنم قوم آخرين أي: رعته بالليل، فأكلت شجره بالكلية، فتحاكموا إلى داود عليه السلام فحكم لأصحاب الكرم بقيمته، فلما خرجوا على سليمان قال: بما حكم لكم نبي الله؟

فقالوا: بكذا وكذا.

فقال: أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب الكرم، فيستغلونها نتاجا ودرا حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما كان عليه، ثم يتسلموا غنمهم. فبلغ داود عليه السلام ذلك فحكم به.

وقريب من هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما، فتنازعتا في الآخر.

فقالت الكبرى: إنما ذهب بابنك.

وقالت الصغرى: بل إنما ذهب بابنك.

فتحاكمتا إلى داود فحكم به للكبرى، فخرجتا على سليمان فقال: ائتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به لها ».

ولعل كلا من الحكمين كان سائغا في شريعتهم، ولكن ما قاله سليمان أرجح، ولهذا أثنى الله عليه بما ألهمه إياه، ومدح بعد ذلك أباه فقال: { وَكُلّا آتَيْنَا حُكْما وَعِلْما وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } 26.

ثم قال: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } أي: وسخرنا لسليمان الريح عاصفة {.. تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } 27.

وقال في سورة ص: { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } 28.

لما ترك الخيل ابتغاء وجه الله، عوضه الله منها الريح التي هي أسرع سيرا، وأقوى وأعظم، ولا كلفة عليه لها، تجري بأمره رخاء { حَيْثُ أَصَابَ } أي: حيث أراد من أي البلاد، كان له بساط مركب من أخشاب بحيث إنه يسع جميع ما يحتاج إليه من الدور المبنية، والقصور، والخيام، والأمتعة، والخيول، والجمال، والأثقال، والرجال من الأنس والجان، وغير ذلك من الحيوانات والطيور، فإذا أراد سفرا أو مستنزها، أو قتال ملك، أو أعداء من أي بلاد الله شاء.

فإذا حمل هذه الأمور المذكورة على البساط، أمر الريح فدخلت تحته فرفعته، فإذا استقل بين السماء والأرض، أمر الرخاء فسارت به، فإن أراد أسرع من ذلك، أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون فوضعته في أي مكان شاء، بحيث إنه كان يرتحل في أول النهار من بيت المقدس، فتغدو به الريح فتضعه باصطخر مسيرة شهر فيقيم هناك إلى آخر النهار، ثم يروح من آخره فترده إلى بيت المقدس.

كما قال تعالى: { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } 29.

قال الحسن البصري: كان يغدو من دمشق، فينزل باصطخر فيتغدى بها، ويذهب رائحا منها، فيبيت بكابل، وبين دمشق وبين اصطخر مسيرة شهر، وبين اصطخر وكابل مسيرة شهر.

قلت: قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان: أن اصطخر بنتها الجان لسليمان، وكان فيها قرار مملكة الترك قديما، وكذلك غيرها من بلدان شتى كتدمر، وبيت المقدس، وباب جبرون، وباب البريد، اللذان بدمشق على أحد الأقوال.

وأما القطر فقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وغير واحد: هو النحاس.

قال قتادة: وكانت باليمن أنبعها الله له.

قال السدي: ثلاثة أيام فقط، أخذ منها جميع ما يحتاج إليه للبنايات وغيرها، وقوله: { وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } 30 أي: وسخر الله له من الجن عمالا يعملون له ما يشاء، لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته، ومن خرج منهم عن الأمر عذبه { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ } وهي: الأماكن الحسنة، وصدور المجالس { وَتَمَاثِيلَ } وهي: الصور في الجدران، وكان هذا سائغا في شريعتهم وملتهم { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } .

قال ابن عباس: الجفنة كالجوبة من الأرض وعنه كالحياض، وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك وغيرهم. وعلى هذه الرواية يكون الجواب جمع جابية، وهي الحوض الذي يجبي فيه الماء، كما قال الأعشى:

تروح على آل المحلق جفنة * كجابية الشيخ العراقي يفهق

وأما القدور الراسيات فقال عكرمة: أثافيها، منها. يعني: أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن، وهكذا قال مجاهد، وغير واحد.

ولما كان هذا بصدد إطعام الطعام، والإحسان إلى الخلق من إنسان وجان، قال تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } 31.

وقال تعالى: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } يعني أن منهم من قد سخره في البناء، ومنهم من يأمره بالغوص في الماء لاستخراج ما هنالك من الجواهر، والآلي، وغير ذلك مما لا يوجد إلا هنالك.

وقوله: { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ } أي: قد عصوا فقيدوا، مقرنين: اثنين اثنين في الأصفاد، وهي القيود، هذا كله من جملة ما هيأه الله، وسخر له من الأشياء التي هي من تمام الملك، الذي لا ينبغي لأحد من بعده، ولم يكن أيضا لمن كان قبله.

وقد قال البخاري: ثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي قال:

« إن عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان:

رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فرددته خاسئا ».

وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة.

وقال مسلم: حدثنا محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء قال: قام رسول الله فصلى فسمعناه يقول:

« أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله ثلاثا » وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله: سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك.

قال: « إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي.

فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات.

ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان، لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدنية ». وكذا رواه النسائي عن محمد بن سلمة به.

وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا مرة بن معبد، ثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال: رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي، فذهبت أمر بين يديه فردني، ثم قال: حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ من صلاته قال:

« لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين: الإبهام والتي تليها، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل ».

روى أبو داود منه: « فمن استطاع » إلى آخره عن أحمد بن سريج، عن أحمد الزبيري به.

وقد ذكر غير واحد من السلف أنه كانت لسليمان من النساء ألف امرأة، سبعمائة بمهور، وثلاثمائة سراري، وقيل: بالعكس ثلاثمائة حرائر، وسبعمائة من الإماء. وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمرا عظيما جدا.

قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي قال:

« قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله.

فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل فلم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه، فقال النبي لو قالها لجاهدوا في سبل الله ».

وقال شعيب، وابن أبي الزناد: تسعين وهو أصح. تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال أبو يعلى: حدثنا زهير، حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل امرأة منهن تلد غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فطاف تلك الليلة على مائة امرأة فلم تلد منهن امرأة إلا امرأة ولدت نصف إنسان.

فقال رسول الله : لو قال إن شاء الله لولدت كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل ».

إسناده على شرط الصحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، ثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ولم يستثن، فما ولدت إلا واحدة منهن بشق إنسان، قال: قال رسول الله :

« لو استثنى لولد له مائة غلام كلهم يقاتل في سبيل الله عز وجل ».

تفرد به أحمد أيضا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله.

قال: ونسي أن يقول إن شاء الله، فطاف بهن.

قال: فلم تلد منهن امرأة إلا واحدة نصف إنسان.

فقال رسول الله : لو قال إن شاء الله لم يحنث، وكان دركا لحاجته ».

وهكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به مثله.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا مقاتل، عن أبي الزناد، وابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن سليمان بن داود كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية، فقال يوما: لأطوفن الليلة على ألف امرأة فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يستثن، فطاف عليهن فلم تحمل واحدة منهن، إلا امرأة واحدة منهن جاءت بشق إنسان، فقال النبي :

« والذي نفسي بيده لو استثنى فقال: إن شاء الله لولد له ما قال فرسان ولجاهدوا في سبيل الله عز وجل ».

وهذا إسناد ضعيف لحال إسحاق بن بشر، فإنه منكر الحديث، ولا سيما وقد خالف الروايات الصحاح.

وقد كان له عليه السلام من أمور الملك، واتساع الدولة، وكثرة الجنود وتنوعها، ما لم يكن لأحد قبله، ولا يعطيه الله أحدا بعده كما قال: { وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } 32 { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } 33 وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق.

ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه وأسداه، من النعم الكاملة العظيمة إليه قال: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي: أعط من شئت، واحرم من شئت، فلا حساب عليك، أي تصرف في المال كيف شئت، فإن الله قد سوغ لك كلما تفعله من ذلك ولا يحاسبك على ذلك.

وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول، فإن من شأنه أن لا يعطي أحدا، ولا يمنع أحدا إلا بإذن الله له في ذلك، وقد خير نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بين هذين المقامين، فاختار أن يكون عبدا رسولا.

وفي بعض الروايات أنه استشار جبريل في ذلك، فأشار إليه أن تواضع، فاختار أن يكون عبدا رسولا صلوات الله وسلامه عليه، وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة، فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين حتى تقوم الساعة، فالله الحمد والمنة.

ولما ذكر تعالى ما وهبه لنبيه سليمان عليه السلام، من خير الدنيا نبه على ما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل، والأجر الجميل، والقربة التي تقربه إليه، والفوز العظيم والإكرام بين يديه، وذلك يوم المعاد والحساب، حيث يقول تعالى: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }

ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته

قال الله تبارك وتعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } 34.

روى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما من حديث إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي قال:

« كان سليمان نبي الله عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها ما اسمك؟

فتقول: كذا.

فيقول: لأي شيء أنت؟

فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء أنبتت، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه.

فقال لها: ما اسمك؟

قالت: الخروب.

قال: لأي شيء أنت؟

قالت: لخراب هذا البيت.

فقال سليمان: اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا، والجن تعمل فأكلتها الأرضة، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين، - قال وكان ابن عباس يقرؤها كذلك-.

قال: فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء ».

لفظ ابن جرير.

وعطاء الخراساني في حديثه نكارة.

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس موقوفا، وهو أشبه بالصواب، والله أعلم.

وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة:

كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي توفي فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه، إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيأتيها فيسألها ما اسمك؟

فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا.

فيقول لها: لأي شيء نبت؟

فتقول: نبت لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع، فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت نبتت دواء قالت نبت دواء لكذا وكذا، فيجعلها كذلك.

حتى نبتت شجرة يقال لها: الخروبة فسألها: ما اسمك؟

فقالت: أنا الخروبة.

فقال: ولأي شيء نبت؟

فقالت: نبت لخراب هذا المسجد.

فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي، وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات، ولم تعلم به الشياطين وهم في ذلك يعملون له، يخافون أن يخرج فيعاقبهم.

وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول الست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر.

فدخل شيطان من أولئك فمر، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام وهو في المحراب إلا احترق، ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع.

ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتا، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته - وهي العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة.

وهي قراءة ابن مسعود فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبون، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له، وذلك قول الله عز وجل: { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .

يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين، قال فإنهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب، فهو ما يأتيها بها الشيطان تشكرا لها، وهذا فيه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.

وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن خيثمة قال: قال سليمان بن داود عليهما السلام لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني، قال: ما أنا أعلم بذاك منك، إنما هي كتب يلقي إلي فيها تسمية من يموت.

وقال أصبغ بن الفرج، وعبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير، ليس له باب، فقام يصلي فاتكأ على عصاه، قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متوك على عصاه، ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت.

قال: والجن تعمل بين يديه، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، قال: فبعث الله دابة الأرض - يعني - إلى منسأته فأكلتها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر، فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا، قال فذلك قوله: { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }

قال أصبغ، وبلغني عن غيره: أنها مكثت سنة تأكل في منسأته حتى خرَّ. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف وغيرهم، والله أعلم.

قال إسحاق بن بشر، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وغيره: أن سليمان عليه السلام عاش ثنتين وخمسين سنة، وكان ملكه أربعين سنة.

وقال إسحاق: أنبأنا أبو روق، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن ملكه كان عشرين سنة، والله أعلم.

وقال ابن جرير: فكان جميع عمر سليمان بن داود عليهما السلام نيفا وخمسين سنة.

وفي سنة أربع من ملكه ابتدأ ببناء بيت المقدس فيما ذكر، ثم ملك بعده ابنه رحبعام مدة سبع عشرة سنة فيما ذكره ابن جرير، وقال: ثم تفرقت بعده مملكة بني إسرائيل.

باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد داود وسليمان

قال محمد بن إسحاق: وكان قبل زكريا ويحيى، وهو ممن بشر بعيسى ومحمد عليهما السلام، وكان في زمانه ملك اسمه حزقيا على بني إسرائيل ببلاد بيت المقدس، وكان سامعا مطيعا لشعيا فيما يأمره به، وينهاه عنه من المصالح، وكانت الأحداث قد عظمت في بني إسرائيل فمرض الملك، وخرجت في رجله قرحة، وقصد بيت المقدس ملك بابل في ذلك الزمان، وهو سنحاريب.

قال ابن إسحاق: في ستمائة ألف راية، وفزع الناس فزعا عظيما شديدا، وقال الملك للنبي شعيا: ماذا أوحى الله إليك في أمر سنحاريب وجنوده؟ فقال: لم يوح إليّ فيهم شي بعد.

ثم نزل عليه الوحي بالأمر للملك حزقيا، بأن يوصي ويستخلف على ملكه من يشاء، فإنه قد اقترب أجله، فلما أخبره بذلك أقبل الملك على القبلة فصلى وسبح ودعا وبكى، فقال وهو يبكي، ويتضرع إلى الله عز وجل بقلب مخلص، وتوكل وصبر:

اللهم رب الأرباب، وإله الآلهة القدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم المترحم الرؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرني بعلمي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي سري وإعلاني لك.

قال: فاستجاب الله له ورحمه، وأوحى الله إلى شعيا أن يبشره بأنه قد رحم بكاءه، وقد أخر في أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب وجنوده، فلما قال له ذلك ذهب منه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخر ساجدا وقال في سجوده:

يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت، اللهم أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي.

فلما رفع رأسه، أوحى الله إلى شعيا أن يأمره أن يأخذ ماء التين فيجعله على قرحته فيشفى، ويصبح قد برئ.

ففعل ذلك فشفي، وأرسل الله على جيش سنحاريب الموت، فأصبحوا وقد هلكوا كلهم سوى سنحاريب وخمسة من أصحابه منهم: بخت نصّر.

فأرسل ملك بني إسرائيل فجاء بهم فجعلهم في الأغلال، وطاف بهم في البلاد على وجه التنكيل بهم والإهانة لهم، سبعين يوما، ويطعم كل واحد منهم كل يوم رغيفين من شعير، ثم أودعهم السجن.

وأوحى الله تعالى إلى شعيا، أن يأمر الملك بإرسالهم إلى بلادهم لينذروا قومهم ما قد حل بهم، فلما رجعوا جمع سنحاريب قومه وأخبرهم بما قد كان من أمرهم، فقال له السحرة والكهنة: إنا أخبرناك عن شأن ربهم وأنبيائهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفهم الله به. ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين.

قال ابن إسحاق: ثم لما مات حزقيا ملك بني إسرائيل، مرج أمرهم، واختلطت أحداثهم، وكثر شرهم، فأوحى الله تعالى إلى شعيا، فقام فيهم فوعظهم وذكرهم، وأخبرهم عن الله بما هو أهله، وأنذرهم بأسه وعقابه إن خالفوه وكذبوه.

فلما فرغ من مقالته عدوا عليه، وطلبوه ليقتلوه، فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها، فلما رأوا ذلك جاؤوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها، ونشروه معها، فإنا الله وإنا إليه راجعون.

ومنهم ارميا بن حلقيا من سبط لاوي بن يعقوب

وقد قيل إنه الخضر. رواه الضحاك عن ابن عباس. وهو غريب وليس بصحيح.

قال ابن عساكر: جاء في بعض الآثار أنه وقف على دم يحيى بن زكريا وهو يفور بدمشق، فقال: أيها الدم فتنت الناس فاسكن فسكن، ورسب حتى غاب.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني علي بن أبي مريم، عن أحمد بن حباب، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال أرميا: أي رب أي عبادك أحب إليك؟

قال: أكثرهم لي ذكرا، الذين يشتغلون بذكري عن ذكر الخلائق، الذين لا تعرض لهم وسادس الفناء، ولا يحدثون أنفسهم بالبقاء، الذين إذا عرض لهم عيش الدنيا قلوه، وإذا زوى عنهم سروا بذلك، أولئك أنحلهم محبتي، وأعطيهم فوق غاياتهم.

ذكر خراب بيت المقدس

وقوله تعالى: { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدا شَكُورا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّا كَبِيرا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدا مَفْعُولا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرا } 35.

وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا، حين ظهرت فيهم المعاصي: أن قم بين ظهراني قومك، فأخبرهم أن لهم قلوبا ولا يفقهون، وأعينا ولا يبصرون، وآذانا ولا يسمعون، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم، فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي، وهل شقي أحد ممن أطاعني بطاعتي؟

إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها، وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها، أما أحبارهم فأنكروا حقي، وأما قراؤهم فعبدوا غيري، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا، وأما ولاتهم فكذبوا علي وعلى رسلي، خزنوا المكر في قلوبهم، وعودوا الكذب ألسنتهم.

وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيولا لا يفقهون ألسنتهم، ولا يعرفون وجوههم، ولا يرحمون بكاءهم، ولأبعثن فيهم ملكا جبارا قاسيا، له عساكر كقطع السحاب، ومواكب كأمثال الفجاج، كأن خفقان راياته طيران النسور، وكأن حمل فرسانه كر العقبان، يعيدون العمران خرابا، ويتركون القرى وحشة، فيا ويل إيليا وسكانها، كيف أذللهم للقتل، وأسلط عليهم السباع، وأعيد بعد لجب الأعراس صراخا،

وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد شرافات القصور مساكن السباع، وبعد ضوء السرج وهج العجاج، وبالعز ذلا، وبالنعمة العبودية، وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب، وبالمشي على الزرابي الخبب، ولأجعلن أجسادهم زبلا للأرض، وعظامهن ضاحية للشمس، ولأدوسنهم بألوان العذاب، ثم لآمرن السماء فتكون طبقا من حديد، والأرض سبيكة من نحاس، فإن أمطرت لم تنبت الأرض، وإن أنبتت شيئا في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم.

ثم أحبسه في زمان الزرع، وأرسله في زمان الحصاد، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئا سلطت عليه الآفة، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة، فإن دعوني لم أجبهم، وإن سألوا لم أعطهم، وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم. رواه ابن عساكر بهذا اللفظ.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا إدريس، عن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى لما بعث أرميا إلى بني إسرائيل، وذلك حين عظمت الأحداث فيهم، فعملوا بالمعاصي وقتلوا الأنبياء، طمع بخت نصر فيهم، وقذف الله في قلبه، وحدث نفسه بالمسير إليهم، لما أراد الله أن ينتقم به منهم، فأوحى الله إلى أرميا إني مهلك بني إسرائيل ومنتقم منهم، فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري ووحي.

فقام أرميا فشق ثيابه، وجعل الرماد على رأسه، وخر ساجدا وقال: يا رب وددت أمي لم تلدني، حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل، فيكون خراب بين المقدس، وبوار بني إسرائيل من أجلي، فقال له: ارفع رأسك، فرفع رأسه فبكى، ثم قال: يا رب من تسلط عليهم؟ فقال: عبدة النيران، لا يخافون عقابي، ولا يرجون ثوابي.

قم يا أرميا فاستمع وحي أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل. من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك، ولأمر عظيم أجتبيتك.

فقم مع الملك تسدده وترشده، فكان مع الملك يسدده، ويأتيه الوحي من الله حتى عظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم، ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده، فأوحى الله إلى أرميا أن ائت قومك من بني إسرائيل.

قم فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمتي عليهم، وعرفهم أحداثهم.

فقال أرميا: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لم تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني.

فقال الله تعالى: أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي، وأن الخلق والأمر كله لي، وأن القلوب والألسنة كلها بيدي، فأقلبها كيف شئت فتطيعني، فأنا الله الذي ليس شيء مثلي، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي، وإنه لا يخلص التوحيد ولم تتم القدرة إلا لي، ولا يعلم ما عندي غيري.

وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها ففعلت أمري، وحددت عليها حدودا فلا تعدو حدي، وتأتي بأمواج كالجبال فإذا بلغت حدي ألبستها مذلة لطاعتي، وخوفا واعترافا لأمري، وإني معك ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي، لتبلغهم رسالاتي فتستوجب لذلك أجر من اتبعك ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.

انطلق إلى قومك فقم فيهم.

وقل لهم: إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم، فلذلك استبقاكم يا معشر أبناء الأنبياء، وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي؟

وكيف وجدتم مغبة معصيتي؟

وهل وجدوا أحدا عصاني فسعد بمعصيتي؟

وهل علموا أحدا أطاعني فشقي بطاعتي؟

إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة، وتركوا الأمر الذي به أكرمت آباءهم، وابتغوا الكرامة من غير وجهها.

أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم، ويعملون فيهم بغير كتابي، حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري وسنتي، وعزوهم عني، فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي.

وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي، ونسوا عهدي، فهم يحرفون كتابي، ويفترون على رسلي، جرأة منهم علي، وغرة بي، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي؟ وهل ينبغي لي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني؟ أو آذن لأحد بالطاعة لأحد، وهي لا تنبغي إلا لي.

وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، ويطيعونهم في معصيتي، ويوفون لهم بالعهود الناقضة لعهدي، فهم جهلة بما يعلمون، لا ينتفعون بشيء مما علموا من كتابي.

وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون، يخوضون مع الخائضين، يتمنون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم، بغير صدق منهم ولا تفكر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم، وكيف كان جهدهم في أمري، حين اغتر المغترون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني.

فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني، فتطولت عليهم، وصفحت عنهم، فأكثرت ومددت لهم في العمر، وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون، وكل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية، وأظهرهم على العدو، ولا يزدادون إلا طغيانا وبعدا مني.

فحتى متى هذا؟

أبي يسخرون؟

أم بي يتحرشون؟

أم إياي يخادعون؟

أم علي يجترئون؟

فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحكيم، ويضل فيها رأي ذوي الرأي، وحكمة الحكيم، ثم لأسلطن عليهم جبارا قاسيا عاتبا ألبسه الهيبة، وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة، وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل سواد الليل المظلم.

له فيه عساكر مثل قطع السحاب، ومواكب مثل العجاج، وكأن حفيف راياته طيران النسور، وحمل فرسانه كسرب العقبان، يعيدون العمران خرابا والقرى وحشا، ويعثون في الأرض فسادا، ويتبرون ما علوا تتبيرا، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون، ولا يرحمون، ولا يبصرون، ولا يسمعون، يجولون في الأسواق بأصوات مرتفعة مثل زئير الأسد، تقشعر من هيبتها الجلود، وتطيش من سمعها الأحلام بألسنة لا يفقهونها، ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها.

فوعزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي، ولأخلين مجالسهم من حديثها ودروسها، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها، الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير الدين، ويتعلمون فيها لغير العمل.

لأبدلن ملوكها بالعز الذل، وبالأمن الخوف، وبالغنى الفقر، وبالنعمة الجوع، وبطول العافية والرخاء أنواع البلاء، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء، وبالأرواح الطيبة والأدهان جيف القتل، وبلباس التيجان أطواق الحديد، والسلاسل والأغلال.

ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة، والحصون الحصينة الخراب، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد ضوء السراج دخان الحريق، وبعد الأنس الوحشة والقفار.

ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار، وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار، والخبب إلى الليل في بطون الأسواق، وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه، والسوق والأسفار والأرواح السموم.

ثم لأدوسنهم بأنواع العذاب، حتى لو كان الكائن منهم في حالق لوصل ذلك إليه، إني إنما أكرم من أكرمني، وإنما أهين من هان عليه أمري.

ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقا من حديد، ولآمرن الأرض فلتكونن سبيكة من نحاس، فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت، فإن أمطرت خلال ذلك شيئا سلطت عليهم الآفة، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة، وإن دعوني لم أجبهم، وإن سألوني لم أعطهم، وإن بكوا لم أرحمهم، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم.

وإن قالوا: اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآبائنا من قبلنا برحمتك وكرامتك، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك، وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك، ثم مكنت لنا في البلاد، واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغارا، وحفظتنا وإياهم برحمتك كبارا، فأنت أوفى المنعمين وإن غيّرنا، ولا تبدل وإن بدلنا.

وإن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك، فإن قالوا ذلك قلت لهم: إني أبتدئ عبادي برحمتي ونعمتي، فإن قبلوا أتممت، وإن استزادوا زدت، وإن شكروا ضاعفت، وإن غيروا غيرت، وإذا غيروا غضبت، وإذا غضبت عذبت، وليس يقوم شيء بغضبي.

قال كعب: فقال أرميا: برحمتك أصبحت أتعلم بين يديك، وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك، ولكن برحمتك أبقيتني لهذا اليوم، وليس أحد أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولا، والإقامة في دار الخاطئين، وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا تغيير مني، فإن تعذبني فبذنبي، وإن ترحمني فذلك ظني بك.

ثم قال: يا رب سبحانك وبحمدك، وتباركت ربنا وتعاليت، أتهلك هذه القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك؟ يا رب سبحانك وبحمدك، وتباركت ربنا وتعاليت لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد، ومن البيوت التي رفعت لذكرك، يا رب سبحانك وبحمدك، وتباركت وتعاليت لمقتل هذه الأمة وعذابك إياهم، وهم من ولد إبراهيم خليلك، وأمة موسى نجيك، وقوم داود صفيك.

يا رب أي القرى تأمن عقوبتك بعد؟ وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولد خليلك إبراهيم؟ وأمة نجيك موسى؟ وقوم خليفتك داود؟ تسلط عليهم عبدة النيران.

قال الله تعالى: يا أرميا من عصاني فلا يستنكر نقمتي، فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي، ولو أنهم عصوني لأنزلنهم دار العاصين إلا أن أتداركهم برحمتي.

قال أرميا: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا وحفظتنا به، وموسى قربته نجيا، فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا، ولا تسلط علينا عدونا، فأوحى الله إليه:

يا أرميا إني قدستك في بطن أمك، وأخرتك إلى هذا اليوم، فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل والمساكين وابن السبيل، لمكنت الداعم لهم وكانوا عندي بمنزلة جنة، ناعم شجرها، طاهر ماؤها، ولا يغور ماؤها، ولا تبور ثمارها ولا تنقطع.

ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل: إني كنت لهم بمنزلة الداعي الشفيق أجنبهم كل قحط وكل عسرة، وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشا ينطح بعضها بعضا، فيا ويلهم ثم يا ويلهم، إنما أكرم من أكرمني، وأهين من هان عليه أمري، إن من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي.

وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعا فيظهرونها في المساجد والأسواق، وعلى رؤوس الجبال، وظلال الأشجار، حتى عجت السماء إليَّ منهم، وعجت الأرض والجبال، ونفرت منها الوحوش بأطراف الأرض وأقاصيها، وفي كل ذلك لا ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب.

قال: فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم، وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب، عصوه وكذبوه واتهموه، وقالوا: كذبت وأعظمت على الله الفرية، فتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته وتوحيده، فمن يعبده حين لا يبقى له في الأرض عابد، ولا مسجد ولا كتاب.

لقد أعظمت الفرية على الله، واعتراك الجنون، فأخذوه وقيدوه وسجنوه، فعند ذلك بعث الله عليهم بخت نصر، فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم، ثم حاصرهم فكان كما قال تعالى: { فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ } 36.

قال: فلما طال بهم الحصر نزلوا على حكمه، ففتحوا الأبواب وتخللوا الأزقة، وذلك قوله: { فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ } وحكم فيهم حكم الجاهلية، وبطش الجبارين، فقتل منهم الثلث، وسبى الثلث، وترك الزمنى والشيوخ والعجائز، ثم وطئهم بالخيل، وهدم بيت المقدس، وساق الصبيان، وأوقف النساء في الأسواق حاسرات، وقتل المقاتلة، وخرب الحصون، وهدم المساجد، وحرق التوراة، وسأل عن دانيال الذي كان قد كتب له الكتاب، فوجدوه قد مات.

وأخرج لهم أهل بيته الكتاب إليه، وكان فيهم دانيال بن حزقيل الأصغر، وميشائيل، وعزرائيل، وميخائيل، فأمضى لهم ذلك الكتاب، وكان دانيال بن حزقيل خلفا من دانيال الأكبر.

ودخل بخت نصر بجنوده بيت المقدس، ووطئ الشام كلها، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، فلما فرع منها انصرف راجعا وحمل الأموال التي كانت بها، وساق السبايا فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الأحبار والملوك تسعين ألف غلام، وقذف الكناسات في بيت المقدس، وذبح فيه الخنازير.

وكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود، وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب، وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط ايشى بن يعقوب، وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون، ونفتالي ابني يعقوب، وأربعة عشر ألفا من سبط دان بن يعقوب، وثمانية آلاف من سبط يستاخر بن يعقوب، وألفين من سبط زبالون بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي، واثني عشر ألفا من سائر بني إسرائيل، وانطلق حتى قدم أرض بابل.

قال إسحاق بن بشر: قال وهب بن منبه: فلما فعل ما فعل، قيل له: كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم، ويصفك وخبرك لهم، ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، وتهدم مساجدهم، وتحرق كنائسهم، فكذبوه واتهموه وضربوه وقيدوه وحبسوه.

فأمر بخت نصر فأخرج أرميا من السجن، فقال له: أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم؟

قال: نعم. قال: فأنى علمت ذلك؟ قال: أرسلني الله إليهم فكذبوني.

قال: كذبوك وضربوك وسجنوك؟ قال: نعم.

قال: بئس القوم قوم كذبوا نبيهم، وكذبوا رسالة ربهم، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك وأواسيك، وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك.

قال له أرميا: إني لم أزل في أمان الله منذ كنت، لم أخرج منه ساعة قط، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك، ولم يكن لك عليهم سلطان، فلما سمع بخت نصر هذا القول منه تركه، فأقام أرميا مكانه بأرض إيليا.

وهذا سياق غريب. وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة. وفيه من جهة التعريب غرابة.

وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: كان بخت نصر أصفهبذا لما بين الأهواز إلى الروم للملك على الفرس، وهو لهراسب. وكان قد بنى مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء، وقاتل الترك وألجأهم إلى أضيق الأماكن، وبعث بخت نصر لقتال بني إسرائيل بالشام، فلما قدم الشام صالحه أهل دمشق، وقد قيل: إن الذي بعث بخت نصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب، وذلك لتعدي بني إسرائيل على رسله إليهم.

وقد روى ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب: أن بخت نصر لما قدم دمشق وجد بها دما يغلي على كبا - يعني القمامة - فسألهم ما هذا الدم؟ فقالوا: أدركنا آباءنا على هذا. وكلما ظهر عليه الكبا ظهر، قال: فقتل على ذلك سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم فسكن.

وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا، وهذا لا يصح لأن يحيى بن زكريا بعد بخت نصر بمدة، والظاهر أن هذا دم نبي متقدم، أو دم لبعض الصالحين، أو لمن شاء الله ممن الله أعلم به.

قال هشام بن الكلبي: ثم قدم بخت نصر بيت المقدس فصالحه ملكها، وكان من آل داود، وصانعه عن بني إسرائيل، وأخذ منه بخت نصر رهائن ورجع. فلما بلغ طبرية بلغه أن بني إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه، لأجل أنه صالحه فضرب رقاب من معه من الرهائن، ورجع إليهم فأخذ المدينة عنوة.

وقتل المقاتلة، وسبى الذرية. قال: وبلغني أنه وجد في السجن أرميا النبي، فأخرجه وقص عليه ما كان من أمره إياهم، وتحذيره لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه. فقال بخت نصر: بئس القوم قوم عصوا رسول الله، وخلى سبيله، وأحسن إليه، واجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل، فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا ونحن نتوب إلى الله عز وجل مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا، فدعا ربه فأوحى الله إليه أنه غير فاعل، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة.

فأخبرهم ما أمره الله تعالى به فقالوا: كيف نقيم بهذه البلدة وقد خرجت وغضب الله على أهلها؟ فأبوا أن يقيموا.

قال ابن الكلبي: ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد، فنزلت طائفة منهم الحجاز، وطائفة يثرب، وطائفة وادي القرى، وذهبت شرذمة منهم إلى مصر، فكتب بخت نصر إلى ملكها يطلب منه من شرد منهم إليه، فأبى عليه، فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه وسبى ذراريهم.

ثم ركب إلى بلاد المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية. قال: ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب، ومصر، وأهل بيت المقدس، وأرض فلسطين، والأردن، وفي السبي دانيال وغيره من الأنبياء.

قلت: والظاهر أنه دانيال بن حزقيل الأصغر، لا الأكبر، على ما ذكره وهب بن منبه، والله أعلم.

ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام

قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن عبد الأعلى الشيباني قال: إن لم أكن سمعته من شعيب بن صفوان، فحدثني بعض أصحابنا عنه، عن الأجلح الكندي، عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: ضرا بخت نصر أسدين، فألقاهما في جب، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه، فمكث ما شاء الله ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب.

فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام: أن اعدد طعاما وشرابا لدانيال، فقال: يا رب أنا بالأرض المقدسة، ودانيال بأرض بابل من أرض العراق، فأوحى الله إليه أن أعدد ما أمرناك به، فإنا سنرسل من يحملك ويحمل ما أعددت.

ففعل وأرسل إليه من حمله، وحمل ما أعده، حتى وقف على رأس الجب، فقال دانيال: من هذا؟

قال: أنا أرميا.

فقال: ما جاء بك؟

فقال: أرسلني إليك ربك.

قال: وقد ذكرني ربي؟

قال: نعم.

فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي يجيب من رجاه، والحمد لله الذي من وثق به لم يكله إلى غيره، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة، والحمد لله الذي هو يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي يقينا حين يسوء ظننا بأعمالنا، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين ينقطع الحيل عنا.

وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن أبي خلد بن دينار، حدثنا أبو العالية قال: لما افتتحنا تستر وجدنا في مال بيت الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا.

فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟

قال: سيركم وأموركم ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد.

قلت: فما صنعتم بالرجل؟

قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس، فلا ينبشونه.

قلت: فما يرجون منه؟

قال: كانت السماء إذا حبست عنهم المطر برزوا بسريره فيمطرون.

قلت: من كنتم تظنون الرجل؟

قال: رجل يقال له دانيال.

قلت: منذ كم وجدتموه قد مات؟

قال: منذ ثلاثمائة سنة.

قلت: ما تغير منه شيء؟

قال: لا إلا شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع.

وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية، ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظا من ثلاثمائة سنة، فليس بنبي، بل هو رجل صالح لأن عيسى بن مريم ليس بينه وبين رسول الله نبي، بنص الحديث الذي في البخاري.

والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة، وقيل ستمائة، وقيل ستمائة وعشرون سنة، وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة، وهو قريب من وقت دانيال إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الأمر، فإنه قد يكون رجلا آخر، إما من الأنبياء، أو الصالحين.

ولكن قربت الظنون أنه دانيال لأن دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجونا، كما تقدم، وقد روي بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر. وعن أنس بن مالك بإسناد جيد: أن طول أنفه ذراع، فيحتمل على هذا أن يكون رجلا من الأنبياء الأقدمين قبل هذه المدد، والله أعلم.

وقد قال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب أحكام القبور: حدثنا أبو بلال محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، حدثنا أبو محمد القاسم بن عبد الله، عن أبي الأشعث الأحمري قال: قال رسول الله :

« إن دانيال دعا ربه عزَّ وجل أن تدفنه أمة محمد ».

فلما افتتح أبو موسى الأشعري تستر، وجده في تابوت تضرب عروقه ووريده، وقد كان رسول الله قال: « من دل على دانيال فبشروه بالجنة ».

فكان الذي دل عليه رجل يقال له حرقوص، فكتب أبو موسى إلى عمر بخبره، فكتب إليه عمر أن ادفنه، وابعث إلى حرقوص، فإن النبي بشره بالجنة، وهذا مرسل من هذا الوجه. وفي كونه محفوظا نظر، والله أعلم.

ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو بلال، حدثنا قاسم بن عبد الله، عن عنبسة بن سعيد، وكان عالما قال: وجد أبو موسى مع دانيال مصحفا، وجرة فيها ودك ودراهم وخاتمه، فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: أما المصحف فابعث به إلينا، وأما الودك فابعث إلينا منه، ومر من قبلك من المسلمين يستشفون به، واقسم الدراهم بينهم، وأما الخاتم فقد نفلناكه.

وروي عن ابن أبي الدنيا من غير وجه: أن أبا موسى لما وجده وذكروا له أنه دانيال، التزمه وعانقه وقبله، وكتب إلى عمر يذكر له أمره، وأنه وجد عنده مالا موضوعا قريبا من عشرة آلاف درهم، وكان من جاء اقترض منها، فإن ردها وإلا مرض، وإن عنده ربعة، فأمر عمر بأن يغسل بماء وسدر، ويكفن ويدفن ويخفى قبره، فلا يعلم به أحد، وأمر بالمال أن يرد إلى بيت المال، وبالربعة فتحمل إليه، ونفله خاتمه.

وروي عن أبي موسى: أنه أمر أربعة من الأسراء فسكروا نهرا، وحفروا في وسطه قبرا، فدفنه فيه ثم قدم الأربعة الأسراء فضرب أعناقهم، فلم يعلم موضع قبره غير أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني إبراهيم بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: رأيت في يد ابن بردة بن أبي موسى الأشعري خاتما نقش فصه أسدان، بينهما رجل يلحسان ذلك الرجل.

قال أبو بردة: هذا خاتم ذلك الرجل الميت، الذي زعم أهل هذه البلدة أنه دانيال، أخذه أبو موسى يوم دفنه.

قال أبو بردة: فسأل أبو موسى علماء تلك القرية عن نقش ذلك الخاتم فقالوا: إن الملك الذي كان دانيال في سلطانه، جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له: إنه يولد ليلة كذا وكذا غلام يعور ملكك ويفسده، فقال الملك: والله لا يبقى تلك الليلة غلام إلا قتلته، إلا أنهم أخذوا دانيال فألقوه في أجمة الأسد، فبات الأسد ولبوته يلحسانه ولم يضراه، فجاءت أمه فوجدتهما يلحسانه، فنجاه الله بذلك حتى بلغ ما بلغ.

قال أبو بردة: قال أبو موسى: قال علماء تلك القرية فنقش دانيال صورته، وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه، لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك. إسناد حسن.

ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها

واجتماع الملأ من بني إسرائيل بعد تفرقهم في بقاع الأرض و شعابها

قال الله تعالى في كتابه المبين، وهو أصدق القائلين: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْما أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْما فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 37.

قال هشام بن الكلبي: ثم أوحى الله تعالى إلى أرميا عليه السلام فيما بلغني: أني عامر بيت المقدس فأخرج إليها فأنزلها، فخرج حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها، فمتى يعمرها؟ ومتى يحييها الله بعد موتها؟

ثم وضع رأسه فنام، ومعه حماره وسلة من طعام، فمكث في نومه سبعين سنة، حتى هلك بخت نصر، والملك الذي فوقه، وهو لهراسب، وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وقام بعده ولده بشتاسب بن لهراسب، وكان موت بخت نصر في دولته، فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين، فلم يبق بها من الإنس أحد.

فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: أن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع، وملَّك عليهم رجلا من آل داود، وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها، فرجعوا فعمروها، وفتح الله لأرميا عينيه فنظر إلى المدينة كيف تبني، وكيف تعمر، ومكث في نومه ذلك حتى تمت له مائة سنة، ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة، وقد عهد المدينة خرابا فلما نظر إليها عامرة آهلة، قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.

قال: فأقام بنو إسرائيل بها، ورد الله عليهم أمرهم، فمكثوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم في زمن ملوك الطوائف. ثم لم يكن لهم جماعة ولا سلطان، يعني بعد ظهور النصارى عليهم، هكذا حكاه ابن جرير في تاريخه عنه.

وذكر ابن جرير أن لهراسب كان ملكا عادلا سائسا لمملكته، قد دانت له العباد، والبلاد، والملوك، والقواد، وأنه كان ذا رأي جيد في عمارة الأمصار، والأنهار، والمعاقل. ثم لما ضعف عن تدبير المملكة بعد مائة سنة ونيف، نزل عن الملك لولده بشتاسب، فكان في زمانه ظهور دين المجوسية.

وذلك أن رجلا كان اسمه زردشت، كان قد صحب أرميا عليه السلام، فأغضبه فدعا عليه أرميا، فبرص زردشت، فذهب فلحق بأرض آذربيجان، وصحب بشتاسب، فلقنه دين المجوسية الذي اخترعه من تلقاء نفسه، فقبله منه بشتاسب، وحمل الناس عليه وقهرهم، وقتل منهم خلقا كثيرا ممن أباه منهم.

ثم كان بعد بشتاسب، بهمن بن بشتاسب وهو من ملوك الفرس المشهورين، والأبطال المذكورين، وقد ناب بخت نصر لكل واحد من هؤلاء الثلاثة، وعمَّر دهرا طويلا قبحه الله.

والمقصود أن هذا الذي ذكره ابن جرير من أن هذا المار على هذه القرية هو: أرميا عليه السلام، قال وهب بن منبه، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وغيرهما، وهو قوي من حيث السياق المتقدم.

وقد روي عن علي، وعبد الله بن سلام، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي، وسليمان بن بريدة، وغيرهم، أنه عزير، وهذا أشهر عند كثير من السلف والخلف، والله أعلم.

وهذه قصة العزير

قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: هو عزير بن جروة، ويقال: بن سوريق بن عديا بن أيوب بن درزنا بن عري بن تقي بن اسبوع بن فنحاص بن العازر بن هارون بن عمران.

ويقال: عزير بن سروخا، جاء في بعض الآثار أن قبره بدمشق، ثم ساق من طريق أبي القاسم البغوي، عن داود بن عمرو، عن حبان بن علي، عن محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا لا أدري العين بيع، أم لا، ولا أدري أكان عزير نبيا أم لا.

ثم رواه من حديث مؤمل بن الحسن، عن محمد بن إسحاق السجزي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذؤيب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا نحوه.

ثم روي من طريق إسحاق بن بشر، وهو متروك عن جويبر، ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس: أن عزيرا كان ممن سباه بخت نصر، وهو غلام حدث، فلما بلغ أربعين سنة، أعطاه الله الحكمة، قال: ولم يكن أحد أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه، قال: وكان يُذكر مع الأنبياء، حتى محى الله اسمه من ذلك، حين سأل ربه عن القدر، وهذا ضعيف ومنقطع ومنكر، والله أعلم.

وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد، عن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن سلام: أن عزيرا هو العبد الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن كعب وسعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، ومقاتل، وجويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، وعبد الله بن إسماعيل السدي، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس وإدريس، عن جده وهب بن منبه قال إسحاق:

كل هؤلاء حدثوني عن حديث عزير، وزاد بعضهم على بعض قالوا بإسنادهم: إن عزيرا كان عبدا صالحا حكيما، خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف أتى إلى خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر.

ودخل الخربة وهو على حماره، فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين، وسلة فيها عنب، فنزل في ظل تلك الخربة، وأخرج قصعة معه، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزا يابسا معه، فألقاه في تلك القصعة في العصير، ليبتل ليأكله، ثم استلقى على قفاه، وأسند رجليه إلى الحائط، فنظر سقف تلك البيوت، ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها، ورأى عظاما بالية فقال: { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } .

فلم يشك أن الله يحييها، ولكن قالها تعجبا، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه، فأماته الله مائة عام، فلما أتت عليه مائة عام، وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث، قال: فبعث الله إلى عزير ملكا، فخلق قلبه ليعقل قلبه وعينيه، لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى.

ثم ركَّب خلقه وهو ينظر، ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك وهو يرى ويعقل، فاستوى جالسا فقال له الملك: كم لبثت؟ قال لبثت يوما أو بعض يوم.

وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة، وبعث في آخر النهار، والشمس لم تغب، فقال: أو بعض يوم، ولم يتم لي يوم، فقال له الملك: بل لبثت مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك يعني: الطعام الخبز اليابس، وشرابه العصير الذي كان اعتصره في القصعة، فإذا هما على حالهما لم يتغير العصير والخبز يابس، فذلك قوله: { لَمْ يَتَسَنَّهْ } يعني: لم يتغير.

وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شيء من حالهما، فكأنه أنكر في قلبه، فقال له الملك: أنكرت ما قلت لك انظر إلى حمارك، فنظر إلى حماره قد بليت عظامه، وصارت نخرة، فنادى الملك عظام الحمار فأجابت، وأقبلت من كل ناحية، حتى ركبه الملك، وعزير ينظر إليه، ثم ألبسها العروق والعصب، ثم كساها اللحم، ثم أنبت عليها الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الملك، فقام الحمار رافعا رأسه، وأذنيه إلى السماء، ناهقا يظن القيامة قد قامت فذلك قوله: { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْما } .

يعني: وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضا في أوصالها، حتى إذا صارت عظاما مصورا حمارا بلا لحم، ثم انظر كيف نكسوها لحما.

فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير من أحياء الموتى وغيره.

قال: فركب حماره حتى أتى محلته، فأنكره الناس، وأنكر الناس، وأنكر منزله، فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، كانت أمة لهم.

فخرج عنهم عزير، وهي بنت عشرين سنة، كانت عرفته وعقلته، فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة، فقال لها عزير: يا هذه أهذا منزل عزير؟

قالت: نعم هذا منزل عزير فبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا، وقد نسيه الناس، قال: فإني أنا عزير، كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني.

قالت: سبحان الله فإن عزيرا قد فقدناه منذ مائة سنة، فلم نسمع له بذكر، قال: فإني أنا عزير.

قالت: فإن عزيرا رجل مستجاب الدعوة، يدعو للمريض، ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله أن يرد علي بصري حتى أراك، فإن كنت عزيرا عرفتك، قال: فدعا ربه، ومسح بيده على عينيها فصحتا، وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله، فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال، فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير.

وانطلقت إلى محلة بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم، وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشر سنة، وبني بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها، فقالت: أنا فلانة مولاتكم، دعا لي ربه فرد علي بصري، وأطلق رجلي، وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه.

قال: فنهض الناس فأقبلوا إليه فنظروا إليه، فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير، فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة، فيما حدثنا غير عزير، وقد حرق بخت نصر التوراة، ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا، وكان أبوه سروخا، وقد دفن التوراة أيام بخت نصر في موضع يعرفه أحد غير عزير.

فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره، فاستخرج التوراة، وكان قد عفن الورق، ودرس الكتاب، قال: وجلس في ظل شجرة، وبنو إسرائيل حوله، فجدد لهم التوراة، ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه، فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، فمن ثم قالت اليهود عزير بن الله، للذي كان من أمر الشهابين، وتجديده التوراة، وقيامه بأمر بني إسرائيل.

وكان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل، والقرية التي مات فيها يقال لها سايراباذ.

قال ابن عباس فكان كما قال الله تعالى: { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } يعني: لبني إسرائيل وذلك أنه كان يجلس مع بنيه، وهم شيوخ وهو شاب، لأنه مات وهو ابن أربعين سنة، فبعثه الله شابا كهيئة يوم مات، قال ابن عباس: بُعث بعد بخت نصر، وكذلك قال الحسن، وقد أنشد أبو حاتم السجستاني في معنى ما قاله ابن عباس:

وأسود رأس شاب من قبله ابنه * ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر

يرى ابنه شيخا يدبّ على عصا * ولحيته سوداء والرأس أشقر

وما لابنه حيل ولا فضل قوة * يقوم كما يمشي الصبي فيعثر

يعد ابنه في الناس تسعين حجة * وعشرين لا يجري ولا يتبختر

وعمر أبيه أربعون أمرها * ولان ابنه تسعون في الناس عبر

فما هو في المعقول إن كنت داريا * وان كنت لا تدري فبالجهل تعذر

فصل:حفظ عزيرا التوراة

المشهور أن عزيرا نبي من أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان فيما بين داود وسليمان، وبين زكريا ويحيى، وأنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة، ألهمه الله حفظها، فسردها على بني إسرائيل، كما قال وهب بن منبه، أمر الله ملكا، فنزل بمعرفة من نور، فقذفها في عزير، فنسخ التوراة حرفا بحرف حتى فرغ منها.

وروى ابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عبد الله بن سلام عن قول الله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } 38 لم قالوا ذلك؟ فذكر له ابن سلام ما كان من كتبه لبني إسرائيل التوراة من حفظه، وقول بني إسرائيل لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب، وأن عزيرا قد جاءنا بها من غير كتاب، فرماه طوائف منهم، وقالوا عزير ابن الله.

ولهذا يقول كثير من العلماء: إن تواتر التوراة انقطع في زمن العزير، وهذا متجه جدا إذا كان العزيز غير نبي، كما قاله عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري.

وفيما رواه إسحاق ابن بشر، عن مقاتل بن سليمان، عن عطاء، وعن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه ومقاتل، عن عطاء بن أبي رباح قال:

كان في الفترة تسعة أشياء: بخت نصر، وجنة صنعاء، وجنة سبأ، وأصحاب الأخدود، وأمر حاصورا، وأصحاب الكهف، وأصحاب الفيل، ومدينة أنطاكية، وأمر تبع.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: كان أمر عزير وبخت نصر في الفترة. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله قال:

« إن أولى الناس بابن مريم الأنبياء أولاد علات لانا إنه ليس بيني وبينه نبي ».

وقال وهب بن منبه: كان فيما بين سليمان وعيسى عليهما السلام.

وقد روى ابن عساكر، عن أنس بن مالك، وعطاء بن السائب أن عزيرا كان في زمن موسى بن عمران، وأنه استأذن عليه فلم يأذن له، يعني لما كان من سؤاله عن القدر، وأنه انصرف وهو يقول: مائة موتة أهون من ذل ساعة، وفي معنى قول عزير مائة موتة أهون من ذل ساعة قول بعض الشعراء:

قد يصبر الحر على السيف * ويأنف الصبر على الحيف

ويؤثر الموت على حالة * يعجز فيها عن قرى الضيف

فأما ما روى ابن عساكر وغيره، عن ابن عباس، ونوف البكالي، وسفيان الثوري وغيرهم، من أنه سأل عن القدر فمحا اسمه من ذكر الأنبياء، فهو منكر، وفي صحته نظر، وكأنه مأخوذ عن الإسرائيليات.

وقد روى عبد الرزاق، وقتيبة بن سعيد، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن نوف البكالي قال: قال عزير فيما يناجي ربه: (يا رب تخلق خلقا فتضل من تشاء، وتهدي من تشاء) فقيل له: أعرض عن هذا، فعاد فقيل له: لتعرض عن هذا أو لأمحون اسمك من الأنبياء، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. وهذا لا يقتضي وقوع ما توعد عليه لو عاد فما محيا اسمه، والله أعلم.

وقد روى الجماعة سوى الترمذي من حديث يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة، وكذلك رواه شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملة، فأمر بجهازه، فأخرج من تحتها، ثم أمر بها فأحرقت بالنار، فأوحى الله إليه مهلا نملة واحدة ».

فروى إسحاق بن بشر، عن ابن جريج، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه أنه عزير. وكذا روى عن ابن عباس، والحسن البصري أنه عزير، فالله أعلم.

قصة زكريا ويحيى عليهما السلام

قال الله تعالى في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم:

{ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّا * وَحَنَانا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّا * وَبَرّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارا عَصِيّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا } 39.

وقال تعالى: {... وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } 40.

وقال تعالى في سورة الأنبياء: { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبا وَرَهَبا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } 41.

وقال تعالى: { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ } 42.

قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل: زكريا بن برخيا، ويقال: زكريا بن دان، ويقال: زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن اينا من ابن رحبعام بن سليمان بن داود أبو يحيى النبي عليه السلام من بني إسرائيل.

دخل البثينة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى، وقيل: إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى، والله أعلم.

وقد قيل غير ذلك في نسبه، ويقال فيه زكريا بالمد وبالقصر، ويقال: زكرى أيضا.

والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام، وما كان من أمره حين وهبه الله ولدا على الكبر، وكانت امرأته مع ذلك عاقرا في حال شبيبتها، وقد أسنت أيضا حتى لا ييئس أحد من فضل الله ورحمته، ولا يقنط من فضله تعالى وتقدس فقال تعالى: { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّا } .

قال قتادة عند تفسيرها: إن الله يعلم القلب النقي، ويسمع الصوت الخفي. وقال بعض السلف: قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرا عنده مخافته فقال: يا رب يا رب يا رب، فقال الله: لبيك لبيك لبيك.

{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } أي: ضعف وخار من الكبر.

{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا } استعارة من اشتعال النار في الحطب، أي: غلب على سواد الشعر شيبه، كما قال ابن دريد في مقصورته:

أما ترى رأسي حاكى لونه * طرة صبح تحت أذيال الدَجا

واشتعل المبيض في مسوده * مثل اشتعال النار في جمر الغضا

وآض عود اللهو يبسا ذاويا * من بعد ما قد كان مجاج الثرى

يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطنا وظاهرا، وهكذا قال زكريا عليه السلام.

{ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبا } وقوله: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّا } أي: ما دعوتني فيما أسألك إلا الإجابة، وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان، وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير أوانها، ولا في أوانها، وهذه من كرامات الأولياء، فعلم أن الرازق للشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدا، وإن كان قد طعن في سنه.

{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } وقوله: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا } قيل: المراد بالموالي العصبة، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته، فسأل وجود ولد من صلبه يكون برا تقيا مرضيا ولهذا قال: { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ } أي: من عندك بحولك وقوتك.

{... وَلِيّا * يَرِثُنِي... } أي: في النبوة والحكم في بني إسرائيل { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّا } يعني: كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء، فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي.

وليس المراد ههنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة، ووافقهم ابن جرير ههنا، وحكاه عن أبي صالح من السلف لوجوه

أحدها: ما قدمنا عند قوله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } 43 أي: في النبوة والملك، كما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين العلماء المروي في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها، من طرق عن جماعة من الصحابة: أن رسول الله قال:

« لا نورث ما تركنا فهو صدقة ».

فهذا نص على أن رسول الله لا يورث، ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من وراثه، الذين لولا هذا النص لصرف إليهم، وهم: ابنته فاطمة، وأزواجه التسع، وعمه العباس رضي الله عنهم.

واحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث، وقد وافقه على روايته عن رسول الله عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وأبو هريرة، وآخرون رضي الله عنهم.

الثاني: أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء: « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ». وصححه.

الثالث: أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها، أو يلتفتوا إليها، أو يهمهم أمرها، حتى يسألوا الأولاد ليحوزوها بعدهم، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة، لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولدا يكون وارثا له فيها.

الرابع: أن زكريا عليه السلام كان نجارا يعمل بيده، ويأكل من كسبها، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده، والغالب ولا سيما من مثل حال الأنبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهادا يستفضل منه ما لا يكون ذخيرة له، يخلفه من بعده، وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهم، إن شاء الله.

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد - يعني ابن هرون - أنبأنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله قال: « كان زكريا نجارا ». وهكذا رواه مسلم، وابن ماجه من غير وجه عن حماد بن سلمة به.

وقوله: { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا } وهذا مفسر بقوله: { فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ } 44.

فلما بشر بالولد، وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد والحالة هذه له { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّا } أي: كيف يوجد ولد من شيخ كبير. قيل: كان عمره إذ ذاك سبعا وسبعين سنة، والأشبه والله أعلم أنه كان أسن من ذلك.

{ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا } يعني: وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد والله أعلم، كما قال الخليل: { أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } 45 وقالت سارة { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } 46.

وهكذا أجيب زكريا عليه السلام، قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه { كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي: هذا سهل يسير عليه { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا } أي: قدرته أوجدتك بعد أن لم تكن شيئا مذكورا، أفلا يوجد منك ولدا وإن كنت شيخا.

وقال تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبا وَرَهَبا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } 47 ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت، وقيل: كان في لسانها شئ أي: بذاءة.

{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً } أي: علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به.

{ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّا } يقول: علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزا، وأنت في ذلك سوي الخلق، صحيح المزاج، معتدل البنية، وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب، واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه.

{ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّا } والوحي ههنا هو: الأمر الخفي، إما بكتابه كما قاله مجاهد والسدي، أو إشارة كما قاله مجاهد أيضا، ووهب، وقتادة.

قال مجاهد، وعكرمة، ووهب، والسدي، وقتادة: اعتقل لسانه من غير مرض.

وقال ابن زيد: كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد.

{ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّا } يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام، وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه.

قال عبد الله بن المبارك، قال معمر، قال الصبيان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خلقنا، قال: وذلك قوله { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّا }

وأما قوله: { وَحَنَانا مِنْ لَدُنَّا } فروى ابن جرير، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: لا أدري ما الحنان.

وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك { وَحَنَانا مِنْ لَدُنَّا } أي: رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا، فوهبنا له هذا الولد.

وعن عكرمة { وَحَنَانا } أي: محبة عليه، ويحتمل أن يكون ذلك صفة لتحنن يحيى على الناس، ولا سيما على أبويه وهو محبتهما والشفقة عليهما، وبره بهما، وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائض والرذائل، والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره، ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمرا ونهيا، وترك عقوقهما قولا وفعلا فقال: { وَبَرّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارا عَصِيّا } ثم قال: { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا } .

هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر، فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ويصير إلى الآخر، ولا يدري ما بين يديه، ولهذا يستهل صارخا إذا خرج من بين الأحشاء، وفارق لينها وضمها، وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها.

وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار، وصار بعد الدور والقصور إلى عرصة الأموات سكان القبور، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور، فمن مسرور ومحبور، ومن محزون ومثبور، وما بين جبير وكسير، وفريق في الجنة وفريق في السعير، ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول:

ولدتك أمك باكيا مستصرخا * والناس حولك يضحكون سرور

فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا * في يوم موتك ضاحكا مسرورا

ولما كانت هذه المواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل موطن منها فقال: { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا } .

وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: أن الحسن قال: إن يحيى وعيسى التقيا فقال له عيسى: استغفر لي أنت خير مني، فقال له الآخر: استغفر لي أنت خير مني، فقال له عيسى: أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك، فعرف والله فضلهما.

وأما قوله في الآية الأخرى: { وَسَيِّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ } 48 فقيل: المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء، وقيل غير ذلك، وهو أشبه لقوله: { هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } 49.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أن رسول الله قال:

« ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحد يقول أنا خير من يونس بن متى ». علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وهو منكر الحديث.

وقد رواه ابن خزيمة، والدارقطني، من طريق أبي عاصم العباداني، عن علي بن زيد بن جدعان به مطولا. ثم قال ابن خزيمة: وليس على شرطنا.

وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: خرج رسول الله على أصحابه يوما وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل: موسى كليم الله، وقال قائل: عيسى روح الله وكلمته، وقال قائل: إبراهيم خليل الله، وهم يذكرون ذلك

فقال: « أين الشهيد ابن الشهيد، يلبس الوبر، ويأكل الشجر مخافة الذنب ».

قال ابن وهب: يريد يحيى بن زكريا.

وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، حدثني ابن العاص أنه سمع رسول الله يقول: « كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب، إلا ما كان من يحيى بن زكريا ».

فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين، وقد عنعن ههنا.

ثم قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب مرسلا.

ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم قد رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق: حدثنا محمد بن الأصبهاني، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو قال:

ما أحد لا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا ثم تلا { وَسَيِّدا وَحَصُورا } ثم رفع شيئا من الأرض فقال: ما كان معه إلا مثل هذا، ثم ذبح ذبحا. وهذا موقوف من هذه الطريق، وكونه موقوفا أصح من رفعه، والله أعلم.

وأورده ابن عساكر من طرق: عن معمر، عن ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر وهو ضعيف، عن عثمان بن سباح، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ، عن النبي بنحوه.

وروي من طريق أبي داود الطيالسي وغيره، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبيه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله :

« الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليها السلام ».

وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني: حدثنا إسحاق بن أحمد، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، سمعت أبا سليمان يقول: خرج عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا يتماشيان، فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى: يا ابن خالة لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبدا.

قال: وما هي يا ابن خالة.

قال: امرأة صدمتها.

قال: والله ما شعرت بها.

قال: سبحان الله بدنك معي فأين روحك؟

قال: معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرفة عين.

فيه غرابة وهو من الإسرائيليات.

وقال إسرائيل، عن أبي حصين، عن خيثمة قال: كان عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا ابني خالة، وكان عيسى يلبس الصوف، وكان يحيى يلبس الوبر، ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم، ولا عبد ولا أمة، ولا مأوى يأويان إليه أين ماجنهما الليل أويا، فلما أرادا أن يتفرقا قال له يحيى: أوصني،.

قال: لا تغضب.

قال: لا أستطيع إلا أن أغضب.

قال: لا تقتن مالا.

قال: أما هذه فعسى.

وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه هل مات زكريا عليه السلام موتا، أو قتل قتلا على روايتين.

فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان، عن أبيه، عن وهب بن منبه أنه قال: هرب من قومه فدخل شجرة، فجاؤوا فوضعوا المنشار عليهما، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن، فأوحى الله إليه لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض ومن عليها، فسكن أنينه حتى قطع باثنتين. وقد روي هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله.

وروى إسحاق بن بشر، عن إدريس بن سنان، عن وهب أنه قال: الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا، فأما زكريا فمات موتا، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري، أن النبي قال: « إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكاد أن يبطئ، فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن؟

فقال يا أخي: إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي، قال: فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن: أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك، مثل من اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك، وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا.

وأمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه قبل عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا.

وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

وأمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه.

وآمركم بذكر الله عز وجل كثيرا، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل »

وقال رسول الله : «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: بالجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربق الإسلام من عنقه، إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم، قال: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل ».

وهكذا رواه أبو يعلى، عن هدبة بن خالد، عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير.

وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي، وموسى بن إسماعيل كلاهما، عن أبان بن يزيد العطار به.

ورواه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن محمد بن شعيب بن سابور، عن معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الأشعري به.

ورواه الحاكم، من طريق مروان بن محمد الطاطري، عن معاوية بن سلام، عن أخيه به.

ثم قال: تفرد به مروان الطاطري، عن معاوية بن سلام.

قلت: وليس كما قال.

ورواه الطبراني، عن محمد بن عبدة، عن أبي نوبة الربيع بن يافع، عن معاوية بن سلام، عن أبي سلام، عن الحارث الأشعري، فذكر نحو هذه الرواية.

ثم روى الحافظ ابن عساكر، من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: ذكر لنا عن أصحاب رسول الله فيما سمعوا من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات، وذكر نحو ما تقدم.

وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس، إنما كان يأنس إلى البراري، ويأكل من ورق الأشجار، ويرد ماء الأنهار، ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان، ويقول: من أنعم منك يا يحيى.

وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه، فوجداه عند بحيرة الأردن، فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديدا لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عز وجل.

وقال ابن وهب، عن مالك، عن حميد بن قيس، عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا العشب، وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه.

وقال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: جلست يوما إلى أبي إدريس الخولاني، وهو يقص فقال: ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاما، فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال: إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاما، إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشهم.

وقال ابن المبارك، عن وهيب بن الورد قال: فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام، فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبرا وأقام فيه يبكي على نفسه، فقال: يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام، وأنت في قبر قد احتفرته قائم تبكي فيه، فقال: يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بين الجنة والنار مفازة، لا يقطع إلا بدموع البكائين.

فقال له: ابك يا بني، فبكيا جميعا.

وهكذا حكاه وهب بن منبه ومجاهد بنحوه.

وروى ابن عساكر عنه أنه قال: إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم، فكذا ينبغي للصديقين أن لا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عز وجل، ثم قال: كم بين النعيمين وكم بينهما، وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه.

بيان سبب قتل يحيى عليه السلام

وذكروا في قتله أسبابا من أشهرها: أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق، كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه، أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فبقي في نفسها منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب منها، استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعثت إليه من قتله، وجاء برأسه ودمه في طشت إلى عندها، فيقال: إنها هلكت من فورها وساعتها. وقيل: بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك، فتمنع عليها الملك، ثم أجابها إلى ذلك، فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طشت.

وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال: أنبأنا يعقوب الكوفي، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن ابن عباس أن رسول الله ليلة أسري به رأى زكريا في السماء، فسلم عليه وقال له: يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان، ولم قتلك بنو إسرائيل؟

قال: يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه، وكان أجملهم وأصبحهم وجها، وكان كما قال الله تعالى { وَسَيِّدا وَحَصُورا } وكان لا يحتاج إلى النساء، فهوته امرأة ملك بني إسرائيل، وكانت بغية، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها، فأجمعت على قتل يحيى، ولهم عيد يجتمعون في كل عام، وكانت سنة الملك أن يوعد ولا يخلف ولا يكذب.

قال: فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته، وكان بها معجبا، ولم تكن تفعله فيما مضى، فلما أن شيعته قال الملك: سليني فما سألتني شيئا إلا أعطيتك، قالت: أريد دم يحيى بن زكريا، قال لها: سليني غيره. قالت: هو ذاك. قال: هو لك.

قال: فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي، وأنا إلى جانبه أصلي، قال: فذبح في طشت وحمل رأسه ودمه إليها.

قال: فقال رسول الله :

« فما بلغ من صبرك ».

قال: ما انفتلت من صلاتي.

قال: فلما حمل رأسه إليها، فوضع بين يديها، فلما أمسوا خسف الله بالملك، وأهل بيته وحشمه، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل: قد غضب إله زكريا لزكريا، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا.

قال: فخرجوا في طلبي ليقتلوني، وجاءني النذير فهربت منهم، وإبليس أمامهم يدلهم علي، فلما تخوفت أن لا أعجزهم، عرضت لي شجرة فنادتني وقالت: إليّ إليّ، وانصدعت لي ودخلت فيها.

قال: وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي، والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجا من الشجرة، وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه الشجرة، هذا طرف ردائه دخلها بسحره، فقالوا: نحرق هذه الشجرة، فقال إبليس: شقوه بالمنشار شقا. قال: فشققت مع الشجرة بالمنشار، قال له النبي :

« هل وجدت له مسا أو وجعا ».

قال: لا، إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها.

هذا سياق غريب جدا، وحديث عجيب، ورفعه منكر، وفيه ما ينكر على كل حال، ولم ير في شيء من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث. وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الإسراء: فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة.

فجاء على قول الجمهور كما هو ظاهر الحديث، فإن أم يحيى أشياع بنت عمران، أخت مريم بنت عمران. وقيل: بل أشياع وهي امرأة زكريا أم يحيى، هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم، فيكون يحيى ابن خالة مريم، فالله أعلم.

ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا، هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره على قولين؟ فقال الثوري، عن الأعمش، عن شمر بن عطية قال: قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبيا، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام.

وقال أبو عبيد القاسم ابن سلام، حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قدم بخت نصر دمشق، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي، فسأل عنه فأخبروه، فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن. وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهو يقتضي أنه قتل بدمشق، وإن قصة بخت نصر كانت بعد المسيح، كما قاله عطاء، والحسن البصري، فالله أعلم.

وروى الحافظ ابن عساكر، من طريق الوليد بن مسلم، عن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير، وفي رواية كأنما قتل الساعة، وذكر في بناء مسجد دمشق، أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة فالله أعلم.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصى في فضائل الأقصى من طريق العباس بن صبح، عن مروان، عن سعيد بن عبد العزيز، عن قاسم مولى معاوية قال: كان ملك هذه المدينة - يعني دمشق - هداد بن هداد وكان قد زوجه ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق، وهو الصاغة العتيقة.

قال: وكان قد حلف بطلاقها ثلاثا، ثم أنه أراد مراجعتها، فاستفتى يحيى بن زكريا فقال: لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا، وذلك بإشارة أمها، فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك، وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جيرون من أتاه برأسه في صينية، فجعل الرأس يقول له: لا تحل له، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.

فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها، وأتت به أمها وهو يقول كذلك، فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها، ثم إلى حقويها، وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن، ويلطمن وجوههن، ثم خسف بها إلى منكبيها، فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها، لتتسلى برأسها ففعل، فلفظت الأرض جثتها عند ذلك، ووقعوا في الذل والفناء.

ولم يزل دم يحيى يفور، حتى قدم بخت نصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفا.

قال سعيد بن عبد العزيز: وهي دم كل نبي، ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال: أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله، فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس، فتبعهم إليها فقتل خلقا كثيرا لا يحصون كثرة، وسبا منهم، ثم رجع عنهم.

قصة عيسى بن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام

قال الله تعالى في سورة آل عمران، التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية، منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله، الذين زعموا أن لله ولدا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله ، فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم، ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة، وهم: الذات المقدسة، وعيسى، ومريم، على اختلاف فرقهم.

فأنزل الله عز وجل صدر هذه السورة، بين فيها أن عيسى عبد من عباد الله، خلقه وصوره في الرحم كما صور غيره من المخلوقات، وأنه خلقه من غير أب، كما خلق آدم من غير أب ولا أم، وقال له: كن فكان، سبحانه وتعالى، وبين أصل ميلاد أمه مريم، وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم، كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته.

فقال تعالى وهو أصدق القائلين: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتا حَسَنا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } 50.

يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام، والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته، ثم خصص فقال: { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ } فدخل فيهم بنو إسماعيل، وبنو إسحاق. ثم ذكر فضل هذا البيت الطاهر الطيب وهم آل عمران، والمراد بعمران هذا: والد مريم عليها السلام.

وقال محمد بن إسحاق: وهو عمران بن باشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن احريق بن موثم بن عزازيا بن امصيا بن ياوش بن احريهو بن يازم بن يهفاشاط بن ايشا بن ايان بن رحبعام بن سليمان بن داود.

وقال أبو القاسم ابن عساكر: مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليود بن اخنر بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن ايبود بن زريابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن امون بن ميشا بن حزقا بن احاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن ايشا بن ايبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام، وفيه مخالفة كما ذكره محمد بن إسحاق.

ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام. وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم اشياع في قول الجمهور، وقيل: زوج خالتها اشياع فالله أعلم.

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أن أم مريم كانت لا تحبل، فرأت يوما طائرا يزق فرخا له، فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في خدمة بيت المقدس، قالوا: فحاضت من فورها، فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام، { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } وقرئ: بضم التاء

{ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } أي: في خدمة بيت المقدس، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداما من أولادهم.

وقولها: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } استدل به على تسمية المولود يوم يولد، وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلى رسول الله ، فحنك أخاه وسماه عبد الله.

وجاء في حديث الحسن، عن سمرة مرفوعا:

« كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه ».

رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي، وجاء في بعض ألفاظه « ويدمى » بدل « ويسمى » وصححه بعضهم، والله أعلم.

وقولها: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها.

فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي قال:

« ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها ».

ثم يقول أبو هريرة: واقرؤا إن شئتم { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } 51.

أخرجاه من حديث عبد الرزاق.

ورواه ابن جرير، عن أحمد بن الفرج، عن بقية، عن عبد الله بن الزبيدي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي بنحوه.

وقال أحمد أيضا: حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا ابن أبي ذؤيب، عن عجلان مولى المشمعل، عن أبي هريرة، عن النبي قال:

« كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى ».

تفرد به من هذا الوجه.

ورواه مسلم، عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي يونس مولى أبي هريرة، عن أبي هريرة، عن النبي بنحوه.

وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي قال:

« كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضينه، إلا ما كان من مريم وابنها، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذلك حين يلكزه الشيطان بحضينه ».

وهذا على شرط مسلم، ولم يخرجه من هذا الوجه.

ورواه قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين، إلا عيسى بن مريم ومريم ». ثم قرأ رسول الله { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }

وكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن النبي بأصل الحديث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك حدثنا المغيرة - هو ابن عبد الله الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي :

« قال كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ».

وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقوله: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتا حَسَنا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها، لفتها في خروقها، ثم خرجت بها إلى المسجد، فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم، فتنازعوا فيها.

والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها، وكفالة مثلها في صغرها، ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل أن زوجته أختها أو خالتها على القولين، فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم.

قال الله تعالى: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي: بسبب غلبه لهم في القرعة، كما قال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } 52.

قالوا: وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفا به، ثم حملوها ووضعوها في موضع، وأمروا غلاما لم يبلغ الحنث، فأخرج واحدا منها، وظهر قلم زكريا عليه السلام، فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية، وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر، فأيهم جرى قلمه على خلاف جريه في الماء فهو الغالب، ففعلوا فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء.

ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعدا فهو الغالب، ففعلوا فكان زكريا هو الغالب لهم، فكفلها إذ كان أحق بها شرعا وقدرا لوجوه عديدة.

قال الله تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } 53.

قال المفسرون: اتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواه، فكانت تعبد الله فيه، وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت، إذا جاءت نوبتها، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة، والصفات الشريفة.

حتى أنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه، فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيسألها { أَنَّى لَكِ هَذَا } فتقول: { هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي: رزق رزقنيه الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه، وإن كان قد أسن وكبر، قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } 54 قال بعضهم: قال يا من يرزق مريم الثمر في غير أوانه، هب لي ولدا وإن كان في غير أوانه، فكان من خبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته.

قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيها وَجِيها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } 55.

يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء عالمي زمانها، بأن اختارها لإيجاد ولد منها من غير أب، وبشرت بأن يكون نبيا شريفا

{ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } أي: في صغره، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكذلك في حال كهولته، فدل على أنه يبلغ الكهولة، ويدعو إلى الله فيها.

وأمرت بكثرة العبادة، والقنوت، والسجود، والركوع، لتكون أهلا لهذه الكرامة، ولتقوم بشكر هذه النعمة، فيقال: إنها كانت تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها، رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها.

فقول الملائكة: { يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ } أي: اختارك واجتباك. { وَطَهَّرَكِ } أي: من الأخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } يحتمل أن يكون المراد عالمي زمانها، كقوله لموسى: { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } 56.

وكقوله عن بني إسرائيل: { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } 57.

ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام أفضل من موسى، وأن محمدا أفضل منهما، وكذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها، وأكثر عددا وأفضل علما وأزكى عملا من بني إسرائيل وغيرهم.

ويحتمل أن يكون قوله: { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } محفوظ العموم، فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها، ووجد بعدها، لأنها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها، ونبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، محتجا بكلام الملائكة والوحي إلى أم موسى، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره، فلا يمتنع على هذا أن يكون مريم أفضل من سارة وأم موسى، لعموم قوله: { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ } إذ لم يعارضه غيره، والله أعلم.

وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره، عن أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال، وليس في النساء نبية، فيكون أعلى مقامات مريم، كما قال الله تعالى: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } 58 فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها، وممن يكون بعدها، والله أعلم.

وقد جاء ذكرها مقرونا مع آسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، رضي الله عنهن وأرضاهن.

وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من طرق عديدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله :

« خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله :

« حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ».

ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زانجويه، عن عبد الرزاق به وصححه. ورواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي وابن عساكر من طريق تميم بن زياد، كلاهما عن أبي جعفر الرازي، عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله :

« خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رسول الله ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب قال: كان أبو هريرة يحدث أن النبي قال:

« خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه لزوج في ذات يده ».

قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرا قط.

وقد رواه مسلم في صحيحه، عن محمد بن رافع، وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به.

وقال أحمد: حدثنا زيد بن الجباب، حدثني موسى بن علي، سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله :

« خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده ».

قال أبو هريرة: وقد علم رسول الله أن ابنة عمران لم تركب الإبل، تفرد به، وهو على شرط الصحيح.

ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة.

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا داود بن أبي الفرات، عن علباء بن أحمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خط رسول الله في الأرض أربع خطوط فقال:

« أتدرون ما هذا؟ »

قالوا: الله ورسوله أعلم.

فقال رسول الله : « أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ».

ورواه النسائي من طرق، عن داود بن أبي هند، وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث:

حدثنا يحيى بن حاتم العسكري، نبأنا بشر بن مهران بن حمدان، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله :

« حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين: فاطمة بنت محمد، وخديجة بنت خويلد، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران ».

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا وهب بن منبه، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة أنها قالت لفاطمة: أرأيت حين أكبت على رسول الله فبكيت ثم ضحكت؟

قالت: أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أسرع أهله لحوقا به وأني سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران فضحكت.

وأصل هذا الحديث في الصحيح، وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه: أنهما أفضل الأربع المذكورات.

وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير، عن يزيد - هو ابن أبي زياد - عن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله :

« فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، إلا ما كان من مريم بنت عمران ».

إسناد حسن، وصححه الترمذي ولم يخرجوه.

وقد روي نحوه من حديث علي بن أبي طالب، ولكن في إسناده ضعف. والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الأربع، ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة، ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة، لكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الأول.

فقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا أبو الحسن بن الفرا، وأبو غالب، وأبو عبد الله ابنا البنا، قالوا: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أحمد بن سليمان، حدثنا الزبير -هو ابن بكار - حدثنا محمد بن الحسن، عن عبد العزيز بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن كريم، عن ابن عباس قال:

قال رسول الله :

« سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون » فإن كان هذا اللفظ محفوظا بثم التي للترتيب، فهو مبين لأحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء، وتقدم على ما تقدم من الألفاظ التي وردت بواو العطف التي لا تقتضي الترتيب ولا تنفيه، والله أعلم.

وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي، عن داود الجعفري، عن عبد العزيز بن محمد - وهو الدراوردي - عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس مرفوعا، فذكره بواو العطف، لا بثم الترتيبية، فخالفه إسنادا ومتنا، فالله أعلم.

فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال: قال رسول الله :

« كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».

وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله :

« كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».

فإنه حديث صحيح كما ترى، اتفق الشيخان على إخراجه ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية، ولعل المراد بذلك في زمانهما، فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره، فآسية كفلت موسى الكليم، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الأمة كخديجة، وفاطمة فخديجة خدمت رسول الله قبل البعثة خمسة عشر سنة، وبعدها أزيد من عشر سنين، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها رضي الله عنها وأرضاها.

وأما فاطمة بنت رسول الله فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها، لأنها أصيبت برسول الله وبقية أخواتها متن في حياة النبي .

وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول الله إليه، ولم يتزوج بكرا غيرها، ولا يعرف في سائر النساء في هذه الأمة بل ولا في غيرها أعلم منها ولا أفهم، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فأنزل براءتها من فوق سبع سموات.

وقد عمرت بعد رسول الله قريبا من خمسين سنة، تبلغ عنه القرآن والسنة، وتفتي المسلمين، وتصلح بين المختلفين، وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين، في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين، والأحسن الوقف فيهما، رضي الله عنهما وما ذاك إلا لأن قوله :

« وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ».

يحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاما بالنسبة إلى ما عدى المذكورات، والله أعلم.

والمقصود ههنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها، ويجوز أن يكون تفضيلها على النساء مطلقا، كما قدمنا.

وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي في الجنة، هي وآسية بنت مزاحم. وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك، واستأنس بقوله: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارا } 59 قال: فالثيب آسية، ومن الأبكار مريم بنت عمران، وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم، فالله أعلم.

قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا أبي، أنبأنا عمي الحسين، حدثنا يونس بن نفيع، عن سعد بن جنادة - هو العوفي - قال: قال رسول الله :

« إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وأخت موسى ».

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يونس بن شعيب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله :

« أشعرت أن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثم أخت موسى ».

رواه ابن جعفر العقيلي من حديث عبد النور به، وزاد: فقلت هنيئا لك يا رسول الله.

ثم قال العقيلي: وليس بمحفوظ.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن يعلى بن المغيرة، عن ابن أبي داود قال: دخل رسول الله على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه، فقال لها:

« بالكره مني ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة: مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون ».

قالت: وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله؟

قال: « نعم ».

قالت: بالرفاء والبنين.

وروى ابن عساكر من حديث محمد بن زكريا الغلابي: حدثنا العباس بن بكار، حدثنا أبو بكر الهزلي، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله دخل على خديجة، وهي في مرض الموت فقال:

« يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فاقرئهن مني السلام ».

قالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟

قال: « لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثم أخت موسى ».

وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد: حدثنا محمد بن صالح بن عمر، عن الضحاك ومجاهد، عن ابن عمر قال: نزل جبريل إلى رسول الله بما أرسل به، وجلس يحدث رسول الله إذ مرت خديجة فقال جبريل: من هذه يا محمد؟

قال: « هذه صديقة أمتي »

قال جبريل: معي إليها رسالة من الرب عز وجل يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب، لا نصب فيه ولا صخب.

قالت: الله السلام، ومنه السلام، والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ما ذلك البيت الذي من قصب؟

قال: « لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران، وبيت آسية بنت مزاحم، وهما من أزواجي يوم القيامة ».

وأصل السلام على خديجة من الله، وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه، ولا وصب، في الصحيح. ولكن هذا السياق بهذه الزيادات غريب جدا، وكل من هذه الأحاديث في أسانيدها نظر.

وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية، عن صفوان بن عمرو، عن خالد بن معدان، عن كعب الأحبار أن معاوية سأله عن الصخرة، يعني: صخرة بيت المقدس، فقال: الصخرة على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، ينظمان سموط أهل الجنة حتى تقوم الساعة.

ثم رواه من طريق إسماعيل، عن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسعود، عن عبد الرحمن، عن خالد بن معدان، عن عبادة بن الصامت، عن النبي بمثله.

وهذا منكر من هذا الوجه، بل هو موضوع، قد رواه أبو زرعة، عن عبد الله بن صالح، عن معاوية، عن مسعود بن عبد الرحمن، عن ابن عابد أن معاوية سأل كعبا عن صخرة بيت المقدس فذكره.

قال الحافظ بن عساكر: وكونه من كلام كعب الأحبار أشبه.

قلت: وكلام كعب الأحبار هذا، إنما تلقاه من الإسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل، وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم، وهذا منه، والله أعلم.

ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم العذراء البتول

قال الله تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانا شَرْقِيّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرا سَوِيّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاما زَكِيّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرا مَقْضِيّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانا قَصِيّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا * وَبَرّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارا شَقِيّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَموتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } 60.

ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا، التي هي كالمقدمة لها والتوطئة قبلها، كما ذكر في سورة آل عمران، قرن بينهما في سياق واحد، وكما قال في سورة الأنبياء:

{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبا وَرَهَبا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ * وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } 61.

وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة، تخدم بيت المقدس، وأنه كفلها زوج أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام، وأنه اتخذ لها محرابا وهو المكان الشريف من المسجد، لا يدخله أحد عليها سواه.

وأنها لما بلغت، اجتهدت في العبادة، فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات، وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام.

وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها، وبأنه سيهب لها ولدا زكيا يكون نبيا كريما، طاهرا، مكرما، مؤيدا بالمعجزات، فتعجبت من وجود ولد من غير والد، لأنها لا زوج، لها ولا هي ممن تتزوج، فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

فاستكانت لذلك، وأنابت، وسلمت لأمر الله، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر، ولا تعقل، وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها، أو لحاجة ضرورية، لا بد منها من استقاء ماء، أو تحصيل غذاء.

فبينما هي يوما قد خرجت لبعض شؤونها { انْتَبَذَتْ } أي: انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى، إذ بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرا سَوِيّا } فلما رأته { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّا }

قال أبو العالية: علمت أن التقي ذو نهية، وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق، اسمه: تقي، فإن هذا قول باطل بلا دليل، وهو من أسخف الأقوال.

{ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ } أي: خاطبها الملك قائلا: إنما أنا رسول ربك أي لست ببشر، ولكني ملك بعثني الله إليك { لِأَهَبَ لَكِ غُلَاما زَكِيّا } أي: ولدا زكيا { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ } أي: كيف يكون لي غلام، أو يوجد لي ولد { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّا } أي: ولست ذات زوج، وما أنا ممن يفعل الفاحشة.

{ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي: فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه، قائلا: { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } أي: وعد أنه سيخلق منك غلاما، ولست بذات بعل، ولا تكونين ممن تبغين { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي: وهذا سهل عليه ويسير لديه، فإنه على ما يشاء قدير.

وقوله: { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي: ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلا على كمال قدرتنا على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى.

وقوله: { وَرَحْمَةً مِنَّا } أي: نرحم به العباد، بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له، وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة، والأولاد، والشركاء، والنظراء، والأضداد، والأنداد.

وقوله: { وَكَانَ أَمْرا مَقْضِيّا } يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها، يعني: أن هذا أمر قد قضاه الله وحتمه وقدره وقرره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق، واختاره ابن جرير، ولم يحك سواه، والله أعلم.

ويحتمل أن يكون قوله: { وَكَانَ أَمْرا مَقْضِيّا } كناية عن نفخ جبريل فيها، كما قال تعالى: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } 62

فذكر غير واحد من السلف: أن جبريل نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة إلى فرجها، فحملت من فورها، كما تحمل المرأة عند جماع بعلها.

ومن قال: أنه نفخ في فمها، أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن.

فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل إليها ملك من الملائكة، وهو جبريل عليه السلام، وأنه إنما نفخ فيها، ولم يواجه الملك الفرج، بل نفخ في جيبها، فنزلت النفخة إلى فرجها، فانسلكت فيه، كما قال تعالى: { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } فدل على أن النفخة ولجت فيه، لا في فمها، كما روي عن أبي بن كعب، ولا في صدرها كما رواه السدي، بإسناده عن بعض الصحابة.

ولهذا قال تعال: { فَحَمَلَتْهُ } أي: حملت ولدها { فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانا قَصِيّا } وذلك لأن مريم عليها السلام لما حملت ضاقت به ذرعا، وعلمت أن كثيرا من الناس سيكون منهم كلام في حقها.

فذكر غير واحد من السلف، منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل، كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له: يوسف بن يعقوب النجار، وكان ابن خالها، فجعل يتعجب من ذلك عجبا شديدا، وذلك لما يعلم من ديانتها، ونزاهتها، وعبادتها، وهو مع ذلك يراها حبلى، وليس لها زوج.

فعرض لها ذات يوم في الكلام، فقال: يا مريم هل يكون زرع من غير بذر؟

قالت: نعم. فمن خلق الزرع الأول؟

ثم قال: فهل يكون شجر من غير ماء ولا مطر؟

قالت: نعم. فمن خلق الشجر الأول؟

ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟

قالت: نعم، إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، قال لها: فأخبريني خبرك؟

فقالت: إن الله بشرني { بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ } ويروي مثل هذا عن زكريا عليه السلام، أنه سألها فأجابته بمثل هذا، والله أعلم.

وذكر السدي بإسناده عن الصحابة:

أن مريم دخلت يوما على أختها، فقالت لها أختها: أشعرت أني حبلى؟

فقالت مريم: وشعرت أيضا أني حبلى، فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى: إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله:

{ مُصَدِّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } .

ومعنى السجود ههنا: الخضوع والتعظيم كالسجود عند المواجهة للسلام، كما كان في شرع من قبلنا، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم.

وقال أبو القاسم: قال مالك: بلغني أن عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا ابنا خالة، وكان حملهما جميعا معا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إن أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.

قال مالك: أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام، لأن الله تعالى جعله يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص.

رواه ابن أبي حاتم.

وروي عن مجاهد قال: قالت مريم: كنت إذا خلوت حدثني وكلمني، وإذا كنت بين الناس سبح في بطني.

ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر، كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعهن، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر.

وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر.

وعن ابن عباس ما هو إلا أن حملت به فوضعته في الحال، و هذا الظاهر، لأن الله تعالى ذكر الانتباذ بعد الحمل، قال بعضهم: حملت به تسع ساعات، واستأنسوا لذلك بقوله: { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانا قَصِيّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } والصحيح أن تعقيب كل شيء بحسبه لقوله: { فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً } 63.

وكقوله: { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاما فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْما ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } 64.

ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوما كما ثبت في الحديث المتفق عليه.

قال محمد بن إسحاق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا.

قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم، واعتزلتهم، وانتبذت مكانا قصيا.

وقوله: { فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } أي: فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة، وهو بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به، عن أنس مرفوعا، والبيهقي بإسناد، وصححه عن شداد بن أوس مرفوعا أيضا ببيت لحم الذي بنى عليه بعض ملوك الروم، فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل.

{ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها، حين تأتيهم بغلام على يدها مع أنها قد كانت عندهم من العابدات، الناسكات، المجاورات في المسجد، المنقطعات إليه، المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة.

فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت إن لو كانت ماتت قبل هذا الحال، أو كانت { نَسْيا مَنْسِيّا } أي: لم تخلق بالكلية.

وقوله: { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } وقرىء من تحتها على الخفض، وفي المضمر قولان: أحدهما أنه جبريل، قاله العوفي عن ابن عباس، قال: ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم.

وهكذا قال سعيد بن جبير، وعمرو بن ميمون، والضحاك، والسدي، وقتادة، وقال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وسعيد بن جبير، في رواية هو ابنها عيسى، واختاره ابن جرير.

وقوله: { أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا } قيل: النهر وإليه ذهب الجمهور. وجاء فيه حديث رواه الطبراني، لكنه ضعيف، واختاره ابن جرير، وهو الصحيح.

وعن الحسن، والربيع بن أنس، وابن أسلم، وغيرهم، أنه ابنها، والصحيح الأول لقوله: { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا } فذكر الطعام والشراب، ولهذا قال: { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا } ثم قيل: كان جذع النخلة يابسا، وقيل: كانت نخلة مثمرة، فالله أعلم.

ويحتمل أنها كانت نخلة، لكنها لم تكن مثمرة إذ ذاك، لأن ميلاده كان في زمن الشتاء، وليس ذاك وقت ثمر، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان: { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا } قال عمرو بن ميمون ليس شيء أجود للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا شيبان، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأنصاري، عن عروة بن رويم، عن علي بن أبي طالب قال:

قال رسول الله :

« أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها ».

وقال رسول الله :

« أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران ».

وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن شيبان بن فروخ، عن مسروق بن سعيد، وفي رواية مسرور بن سعد، والصحيح مسرور بن سعيد التميمي، أورد له ابن عدي هذا الحديث عن الأوزاعي به، ثم قال: وهو منكر الحديث، ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث.

وقال ابن حبان: يروي عن الأوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها.

وقوله: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا } وهذا من تمام كلام الذي ناداها من تحتها قال: { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدا } أي: فإن رأيت أحدا من الناس { فَقُولِي } له أي: بلسان الحال والإشارة { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْما } أي: صمتا وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام، قاله قتادة والسدي وابن أسلم ويدل على ذلك قوله { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا } فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل.

وقوله تعالى: { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّا } ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها، فمروا على محلتها والأنوار حولها، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها، فقالوا لها: { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا } أي: أمرا عظيما منكرا.

وفي هذا الذي قالوه نظر، مع أنه كلام ينقض أوله آخره، وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملت بنفسها، وأتت به قومها وهي تحمله. قال ابن عباس: وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوما.

والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا } والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال، ثم قالوا لها: { يَا أُخْتَ هَارُونَ } قيل: شبهوها بعابد من عباد زمانهم، كانت تساميه في العبادة وكان اسمه هرون. وقيل: شبهوها برجل فاجر في زمانهم اسمه هرون. قاله سعيد بن جبير. وقيل: أرادوا بهرون أخا موسى شبهوها به في العبادة.

وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهرون نسبا، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهرون ضربت بالدف يوم نجا الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وملأه، فاعتقد أن هذه هي هذه، وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح، مع نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولا، ولله الحمد والمنة.

وقد ورد الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هرون، وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها، ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها والله أعلم.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن إدريس، سمعت أبي يذكره عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله إلى نجران فقالوا:

أرأيت ما تقرؤن: { يَا أُخْتَ هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا.

قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله فقال:

« ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم ».

وكذا رواه مسلم، والنسائي، والترمذي من حديث عبد الله بن إدريس، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه.

وفي رواية: « ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم ».

وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهرون، حتى قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير، منهم ممن يسمى بهرون أربعون ألفا، فالله أعلم.

والمقصود أنهم قالوا: { يَا أُخْتَ هَارُونَ } ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هرون، وكان مشهورا بالدين والصلاح والخير ولهذا قالوا: { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّا } أي: لست من بيت هذا شيمتهم ولا سجيتهم، لا أخوك ولا أمك ولا أبوك، فاتهموها بالفاحشة العظمى، ورموها بالداهية الدهياء.

فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله، ففر منهم فلحقوه، وقد انشقت له الشجرة فدخلها، وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشروه فيها كما قدمنا. ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار، فلما ضاق الحال وانحصر المجال، وامتنع المقال، عظم التوكل على ذي الجلال، ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال.

{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } أي: خاطبوه وكلموه، فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه. فعندها { قَالُوا } من كان منهم جبارا شقيا { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّا } أي: كيف تحيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب، وهو مع ذلك رضيع في مهده، ولا يميز بين محض وزبده، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا، والاستهزاء والتنقص لنا والازدراء، إذ لا تردين علينا قولا نطقيا، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبيا فعندها:

{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا * وَبَرّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارا شَقِيّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا } هذا أول كلام تفوه به عيسى بن مريم، فكان أول ما تكلم به أن { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } اعترف لربه تعالى بالعبودية، وأن الله ربه، فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله، بل هو عبده ورسوله، وابن أمته، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله: { آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا } فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا، لعنهم الله وقبحهم.

كما قال تعالى: { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانا عَظِيما } 65 وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا: إنها حملت به من زنا في زمن الحيض، لعنهم الله، فبرأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة، واتخذ ولدها نبيا مرسلا أحد أولي العزم الخمسة الكبار.

ولهذا قال: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنْتُ } وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة، تعالى وتقدس.

{ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا } وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد، بالصلاة والإحسان إلى الخليقة بالزكاة، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة، وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج، على اختلاف الأصناف، وقرى الأضياف، النفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات، وسائر وجوه الطاعات، وأنواع القربات.

ثم قال: { وَبَرّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارا شَقِيّا } أي: وجعلني برا بوالدتي، وذلك أنه تأكد حقها عليه لتمحض جهتها إذ لا والد له سواها، فسبحان من خلق الخليقة، وبرأها وأعطى كل نفس هداها.

{ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارا شَقِيّا } أي: لست بفظ ولا غليظ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا }

وهذه الأماكن الثلاثة التي تقدم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام، ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية، وبين أمره ووضحه وشرحه قال: { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 66.

كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران: { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } 67.

ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكبا، يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم، وهم: العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح، فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك، وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله، وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكصوا وامتنعوا عن المباهلة، وعدلوا إلى المسالمة والموادعة.

وقال قائلهم: وهو العاقب عبد المسيح: يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلاَّ إلف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فطلبوا ذلك من رسول الله ، وسألوه أن يضرب عليهم جزية، وأن يبعث معهم رجلا أمينا، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، وقد بينا ذلك في تفسير آل عمران، وسيأتي بسط هذه القضية في السيرة النبوية، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح قال لرسوله: { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } يعني: من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله، ولهذا قال: { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي: لا يعجزه شيء ولا يكترثه ولا يؤوده، بل هو القدير الفعال لما يشاء { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 68.

وقوله: { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد، أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلههم، وأن هذا هو الصراط المستقيم.

قال الله تعالى: { فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } 69 أي: فاختلف أهل الزمان ومن بعدهم فيه، فمن قائل من اليهود: إنه ولد زنية، واستمروا على كفرهم وعنادهم. وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا: هو الله. وقال آخرون: هو ابن الله.

وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم الناجون المثابون المؤيدون المنصورون، ومن خالفهم في شيء من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون، وقد توعدهم العلي العظيم الحكيم العليم بقوله: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، أنبأنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عمير بن هانئ، حدثني جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت، عن النبي قال:

« من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ».

قال الوليد: فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عمير، عن جنادة وزاد: « من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء ».

وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جابر به. ومن طريق أخرى عن الأوزاعي به.

باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا

قال تعالى في آخر هذه السورة: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئا إِدّا } أي: شيئا عظيما ومنكرا من القول وزورا.

{ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدا } 70.

فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد، لأنه خالق كل شيء ومالكه، وكل شيء فقير إليه، خاضع ذليل لديه، وجميع سكان السموات والأرض عبيده، وهو ربهم لا إله إلا هو ولا رب سواه.

كما قال تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } 71.

فبين أنه خالق كل شيء فكيف يكون له ولد، والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين، والله تعالى لا نظير له ولا شبيه له، ولا عديل له، فلا صاحبة له فلا يكون له ولد. كما قال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ } 72.

تقرر أنه الأحد الذي لا نظير له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله { الصَّمَدُ } وهو السيد الذي كمل في علمه وحكمته وبلغ رحمته وجميع صفاته { لَمْ يَلِدْ } أي: لم يوجد منه ولد { وَلَمْ يُولَدْ } أي: ولم يتولد عن شيء قبله { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ } أي: وليس له عدل ولا مكافئ ولا مساو فقطع النظير المداني الأعلى والمساوي، فانتفى أن يكون له ولد، إذ لا يكون الولد إلا متولدا بين شيئين متعادلين أو متقاربين، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقال تبارك وتعالى وتقدس: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا * لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابا أَلِيما وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّا وَلَا نَصِيرا } 73.

ينهى تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والإطراء في الدين، وهو مجاوزة الحد، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد، فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول، التي أحصنت فرجها، فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها عن أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه السلام.

والذي اتصل بها من الملك هي الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم، وهي مخلوقة من مخلوقات الله تعالى، كما يقال بيت الله، وناقة الله، وعبد الله، وكذا روح الله، أضيفت إليه تشريفا لها وتكريما. وسمي عيسى بها لأنه كان بها من غير أب، وهي الكلمة أيضا التي عنها خلق، وبسببها وجد، كما قال تعالى { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 74.

وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 75.

وقال تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } 76.

فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى عليهم لعائن الله، كل من الفريقين ادعوا على الله شططا، وزعموا أن له ولدا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وأخبر أنهم ليس لهم مستند فيما زعموه، ولا فيما ائتفكوه، إلا مجرد القول ومشابهة من سبقهم إلى هذه المقالة الضالة، تشابهت قلوبهم.

وذلك أن الفلاسفة عليهم لعنة الله، زعموا أن العقل الأول صدر عن واجب الوجود، الذي يعبرون عنه بعلة العلل والمبدأ الأول، وأنه صدر عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك، ثم صدر عن الثاني كذلك حتى تناهت العقول إلى عشرة، والنفوس إلى تسعة، والأفلاك إلى تسعة، باعتبارات فاسدة ذكروها، واختيارات باردة أوردوها، ولبسط الكلام معهم وبيان جهلهم وقلة عقلهم موضع آخر.

وهكذا طوائف من مشركي العرب زعموا لجهلهم أن الملائكة بنات الله، وأنه صاهر سروات الجن فتولد منهما الملائكة. تعالى الله عما يقولون، وتنزه عما يشركون كما قال تعالى: { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } 77.

وقال تعالى: { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } 78.

وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } 79.

وقال تعالى في أول سورة الكهف، وهي مكية: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّما لِيُنْذِرَ بَأْسا شَدِيدا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرا حَسَنا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبا } 80.

وقال تعالى: { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } 81.

فهذه الآيات المكيات، الكريمات، تشمل الرد على سائر فرق الكفرة من الفلاسفة، ومشركي العرب، واليهود، والنصارى، الذين ادعوا وزعموا بلا علم أن لله ولدا سبحانه وتعالى عما يقولون الظالمون المعتدون علوا كبيرا.

ولما كانت النصارى عليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة، من أشهر من قال بهذه المقالة، ذُكروا في القرآن كثيرا للرد عليهم، وبيان تناقضهم، وقلة علمهم، وكثرة جهلهم، وقد تنوعت أقوالهم في كفرهم، وذلك أن الباطل كثير التشعب، والاختلاف، والتناقض، وأما الحق فلا يختلف ولا يضطرب.

قال الله تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافا كَثِيرا } 82 فدل على أن الحق يتحد ويتفق، والباطل يختلف ويضطرب، فطائفة من ضلالهم وجهالهم زعموا أن المسيح هو الله تعالى، وطائفة قالوا هو ابن الله عز الله، وطائفة قالوا هو ثالث ثلاثة جل الله.

قال الله تعالى في سورة المائدة: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 83.

فأخبر تعالى عن كفرهم وجهلهم، وبين أنه الخالق القادر على كل شيء، المتصرف في كل شيء، وأنه رب كل شيء ومليكه وإلهه.

وقال في أواخرها: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } 84.

حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا، فأخبر أن هذا صدر منهم مع أن الرسول إليهم هو عيسى بن مريم، قد بين لهم أنه عبد مربوب مخلوق مصور في الرحم، داع إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتوعدهم على خلاف ذلك بالنار، وعدم الفوز بدار القرار، والخزي في الدار الآخرة، والهوان والعار، ولهذا قال: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } .

ثم قال: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ } قال ابن جرير وغيره: المراد بذلك قولهم بالأقانيم الثلاثة: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن على اختلافهم في ذلك ما بين الملكية واليعقوبية والنسطورية، عليهم لعائن الله.

كما سنبين كيفية اختلافهم في ذلك، ومجامعهم الثلاثة في زمن قسطنطين بن قسطس، وذلك بعد المسيح بثلاثمائة سنة وقبل البعثة المحمدية بثلاثمائة سنة، ولهذا قال تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: وما من إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا كفوء له، ولا صاحبة له، ولا ولد.

ثم توعدهم وتهددهم فقال: { وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ثم دعاهم برحمته ولطفه إلى التوبة والاستغفار من هذه الأمور الكبار والعظائم التي توجب النار فقال: { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .

ثم بين حال المسيح وأمه وأنه عبد رسول وأمه صديقة، أي: ليست بفاجرة كما يقوله اليهود لعنهم الله، وفيه دليل على أنها ليست بنبية كما زعمه طائفة من علمائنا.

وقوله: { كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } كناية عن خروجه منهما كما يخرج من غيرهما، أي: ومن كان بهذه المثابة كيف يكون إلها، تعالى الله عن قولهم وجهلهم علوا كبيرا.

وقال السدي وغيره: المراد بقوله: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } زعمهم في عيسى وأمه أنهما الإلهان مع الله، يعني كما بين تعالى كفرهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة:

{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 85.

يخبر تعالى أنه يسأل عيسى بن مريم يوم القيامة على سبيل الإكرام له والتقريع والتوبيخ لعابديه، عمن كذب عليه وافترى وزعم أنه ابن الله، أو أنه الله، أو أنه شريكه، تعالى الله عما يقولون، فيسأله وهو يعلم أنه لم يقع منه ما يسأله عنه، ولكن لتوبيخ من كذب عليه، فيقول له: { أأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } أي: تعاليت أن يكون معك شريك.

{ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي: ليس هذا يستحقه أحد سواك { إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } .

وهذا تأدب عظيم في الخطاب والجواب: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } أي ما قلت غير ما أمرتني عليه حين أرسلتني إليهم، وأنزلت علي الكتاب الذي كان يتلى عليهم، ثم فسر ما قال لهم بقوله: { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي: خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم.

{ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } أي: رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي، فرحمتني وخلصتني منهم، وألقيت شبهي على أحدهم، حتى انتقموا منه، فلما كان ذلك { كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .

ثم قال على وجه التفويض إلى الرب عز وجل، والتبري من أهل النصرانية: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } أي: وهم يستحقون ذلك، { وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وهذا التفويض والإسناد إلى المشيئة بالشرط، لا يقتضي وقوع ذلك، ولهذا قال: { فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ولم يقل: الغفور الرحيم.

وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله ، قام بهذه الآية الكريمة ليلة حتى أصبح { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وقال:

« إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئا ».

وقال: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } 86.

وقال تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } 87.

وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } 88.

وقال تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرا } 89.

وقال تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ } 90.

وثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال:

« يقول الله تعالى: شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، يزعم أن لي ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد ».

وفي (الصحيح) أيضا: عن رسول الله أنه قال:

« لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ».

ولكن ثبت في الصحيح أيضا عن رسول الله أنه قال:

« إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ».

ثم قرأ: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } 91.

وهكذا قوله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } 92.

وقال تعالى: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } 93.

وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } 94.

وقال تعالى: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدا } 95

ذكر منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام

قد تقدم أنه ولد ببيت لحم، قريبا من بيت المقدس، وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر، وأن مريم سافرت هي ويوسف بن يعقوب النجار، وهي راكبة على حمار، ليس بينهما وبين الإكاف شيء وهذا لا يصح، والحديث الذي تقدم ذكره دليل على أن مولده كان ببيت لحم، كما ذكرنا ومهما عارضه فباطل.

وذكر وهب بن منبه أنه لما ولد خرت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك، حتى كشف لهم إبليس الكبير أمر عيسى، فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء، وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره، فسأل الكهنة عن ذلك، فقالوا هذا لمولد عظيم في الأرض.

فبعث رسله ومعهم ذهب، ومر، ولبان، هدية إلى عيسى، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عما أقدمهم، فذكروا له ذلك، فسأل عن ذلك الوقت، فإذا قد ولد فيه عيسى بن مريم ببيت المقدس.

واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد، فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له، ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه، فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا، قيل لها إن رسل ملك الشام إنما جاؤوا ليقتلوا ولدك، فاحتملته فذهبت به إلى مصر، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتي عشرة سنة.

وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره، فذكر منها أن الدهقان الذي نزلوا عنده، افتقد مالا من داره، وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج، فلم يدر من أخذه، وعزَّ ذلك على مريم عليها السلام، وشق على الناس وعلى رب المنزل، وأعياهم أمرها.

فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك، عمد إلى رجل أعمى وآخر مقعد، من جملة من هو منقطع إليه، فقال للأعمى: احمل هذا المقعد وانهض به، فقال: إني لا أستطيع ذلك، فقال: بلى كما فعلت أنت وهو، حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة من الدار، فلما قال ذلك صدقاه فيما قال، وأتيا بالمال، فعظم عيسى في أعين الناس، وهو صغير جدا.

ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده، فلما اجتمع الناس وأطعمهم، ثم أراد أن يسقيهم شرابا، يعني خمرا، كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان، لم يجد في جراره شيئا، فشق ذلك عليه.

فلما رأى عيسى ذلك منه، قام فجعل يمر على تلك الجرار، ويمر يده على أفواهها، فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلأت شرابا من خيار الشراب، فتعجب الناس من ذلك جدا، وعظموه، وعرضوا عليه وعلى أمه مالا جزيلا فلم يقبلاه، وارتحلا قاصدين بيت المقدس، والله أعلم.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا عثمان بن ساج وغيره، عن موسى بن وردان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، وعن مكحول، عن أبي هريرة قال:

إن عيسى بن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل، فمجد الله تمجيدا لم تسمع الآذان بمثله، لم يدع شمسا ولا قمرا ولا جبلا ولا نهرا ولا عينا إلا ذكره في تمجيده فقال:

اللهم أنت القريب في علوك، المتعال في دنوك، الرفيع على كل شيء من خلقك، أنت الذي خلقت سبعا في الهواء، بكلماتك مستويات، طباقا أجبن وهن دخان من فرقك، فأتين طائعات لأمرك، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك

وجعلت فيهن نورا على سواد الظلام، وضياء من ضوء الشمس بالنهار، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك، وجعلت فيهن مصابيح يهتدي بهن في الظلمات الحيران.

فتباركت اللهم في مفطور سمواتك، وفيما دحوت من أرضك، دحوتها على الماء فسمكتها على تيار الموج الغامر، فأذللتها إذلال التظاهر، فذل لطاعتك صعبها، واستحيى لأمرك أمرها، وخضعت لعزتك أمواجها، ففجرت فيها بعد البحور الأنهار، ومن بعد الأنهار الجداول الصغار، ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار، ثم أخرجت منها والأنهار الأشجار والثمار.

ثم جعلت على ظهرها الجبال، فوتدتها أوتادا على ظهر الماء، فأطاعت أطوادها وجلمودها، فتباركت اللهم فمن يبلغ بنعته نعتك، أمن يبلغ بصفته صفتك؟

تنشر السحاب، وتفك الرقاب، وتقضي الحق، وأنت خير الفاصلين، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب، لا إله إلا أنت سبحانك سترت السموات عن الناس، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يغشاك من عبادك الأكياس.

نشهد أنك لست بإله استحدثناك، ولا رب يبيد ذكره، ولا كان معك شركاء فندعوهم ونذكرك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشك فيك، نشهد أنك أحد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن لك كفوا أحد.

وقال إسحاق بن بشر، عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس: إن عيسى بن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلا، حتى بلغ ما يبلغ الغلمان، ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان، فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول، وكانوا يسمونه ابن البغية، وذلك قوله تعالى: { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانا عَظِيما } 96.

قال: فلما بلغ سبع سنين، أسلمته أمه في الكتاب، فجعل لا يعلمه المعلم شيئا إلا بدره إليه، فعلمه أبا جاد.

فقال عيسى: ما أبو جاد؟

فقال المعلم: لا أدري.

فقال عيسى: كيف تعلمني ما لا تدري؟

فقال المعلم: إذا فعلِّمني.

فقال له عيسى: فقم من مجلسك فقام، فجلس عيسى مجلسه فقال: سلني.

فقال المعلم: ما أبو جاد؟

فقال عيسى: الألف آلاء الله، والباء بهاء الله، والجيم بهجة الله وجماله.

فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد.

ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله عن ذلك، فأجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل ولا يتمادى.

وهكذا روى ابن عدي من حديث إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن مليكة، عمن حدثه، عن ابن مسعود، وعن مسعر بن كدام، عن عطية، عن أبي سعيد رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب، وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد وهو مطول لا يفرح به. ثم قال ابن عدي: وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد لا يرويه غير إسماعيل.

وروى ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة قال: كان عبد الله بن عمر يقول: كان عيسى بن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟

فيقول: نعم.

فيقول: خبأت لك كذا وكذا، فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي.

فتقول: وأي شيء خبأت لك؟

فيقول: كذا وكذا.

فتقول له: من أخبرك؟

فيقول: عيسى بن مريم.

فقالوا: والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسدنهم، فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم، فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم فقالوا: إنما هؤلاء قردة وخنازير.

فقال: اللهم كذلك فكانوا كذلك.

رواه ابن عساكر.

وقال إسحق بن بشر عن جويبر، ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاما من الله، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى فهمت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر فذلك قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } 97.

وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين.

وهذه صفة غريبة الشكل، وهي أنها ربوة: وهو المكان المرتفع من الأرض الذي أعلاه مستو يقر عليه، وارتفاعه متسع ومع علوه فيه عيون الماء معين وهو الجاري السارح على وجه الأرض.

فقيل: المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح، وهو نخلة بيت المقدس، ولهذا { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا } وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف، وعن ابن عباس بإسناد جيد أنها أنهار دمشق، فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق، وقيل: ذلك بمصر كما زعمه من زعمه من أهل الكتاب، ومن تلقاه عنهم والله أعلم، وقيل: هي الرملة.

وقال إسحق بن بشر: قال لنا إدريس، عن جده وهب بن منبه قال: إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمر الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا قال: فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء بهما إلى إيليا، وأقام بها حتى أحدث الله له الإنجيل، وعلمه التوراة، وأعطاه إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والعلم بالغيوب، مما يدخرون في بيوتهم، وتحدث الناس بقدومه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب، فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره.

بيان نزول الكتب الأربعة ومواقيتها

قال أبو زرعة الدمشقي: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عمن حدثه قال: أنزلت التوراة على موسى في ست ليال خلون من شهر رمضان، ونزل الزبور على داود في اثنتي عشر ليلة خلت من شهر رمضان، وذلك بعد التوراة بأربعمائة سنة واثنتين وثمانين سنة، وأنزل الإنجيل على عيسى بن مريم في ثمانية عشرة ليلة خلت من رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عاما، وأنزل الفرقان على محمد في أربع وعشرين من شهر رمضان.

وقد ذكرنا في التفسير عند قوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } 98 الأحاديث الواردة في ذلك، وفيها: أن الإنجيل أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

وذكر ابن جرير في تاريخه: أنه أنزل عليه وهو ابن ثلاثين سنة، ومكث حتى رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقال إسحاق بن بشر: وأنبأنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ومقاتل، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم: يا عيسى جد في أمري ولا تهن واسمع وأطع، يا ابن الطاهرة البكر البتول إنك من غير فحل، وأنا خلقتك آية للعالمين، إياي فاعبد، وعليّ فتوكل، خذ الكتاب بقوة، فسر لأهل السريانية بلغ من بين يديك إني أنا الحق الحي القائم الذي لا أزول.

صدقوا النبي الأمي العربي صاحب الجمل والتاج، وهي العمامة والمدرعة، والنعلين، والهراوة وهي القضيب، الأنجل العينين، الصلت الجبين، الواضح الخدين، الجعد الرأس، الكث اللحية، المقرون الحاجبين، الأقنى الأنف، المفلج الثنايا، البادي العنفقة، الذي كان عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه.

له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا التفت التفت جميعا، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وينحدر من صبب، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، وريح المسك تنفح منه، ولم ير قبله ولا بعده مثله، الحسن القامة، الطيب الريح، نكاح النساء ذا النسل القليل، إنما نسله من مباركة لها بيت يعني في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب.

تكفله يا عيسى في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك، له منها فرخان مستشهدان، وله عندي منزلة ليست لأحد من البشر، كلامه القرآن، ودينه الإسلام، وأنا السلام، طوبى لمن أدرك زمانه، وشهد أيامه وسمع كلامه.

بيان شجرة طوبى ما هي؟

قال عيسى: يا رب وما طوبى؟

قال: غرس شجرة أنا غرستها بيدي، فهي للجنان كلها، أصلها من رضوان، وماؤها من تسنيم، وبردها برد الكافور، وطعمها طعم الزنجبيل، وريحها ريح المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا.

قال عيسى: يا رب اسقني منها، قال: حرام على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي، وحرام على الأمم أن يشربوا منها حتى يشرب منها أمة ذلك النبي.

قال: يا عيسى أرفعك إلي؟

قال: رب ولم ترفعني؟

قال: أرفعك ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب، ولتعينهم على قتال اللعين الدجال، أهبطك في وقت صلاة ثم لا تصلي بهم لأنها مرحومة، ولا نبي بعد نبيهم.

وقال هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه أن عيسى قال: يا رب أنبئني عن هذه الأمة المرحومة، قال: أمة أحمد هم علماء حكماء كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله. يا عيسى هم أكثر سكان الجنة لأنه لم تذل ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت به رقابهم. رواه ابن عساكر.

وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن بديل العقيلي، عن عبد الله بن عوسجة قال: أوحى الله إلى عيسى بن مريم أنزلني من نفسك كهمك، واجعلني ذخرا لك في معادك، وتقرب إليّ بالنوافل أحبك، ولا تول غيري فأخذلك، اصبر على البلاء وارض بالقضاء، وكن لمسرتي فيك فإن مسرتي أن أطاع فلا أعصى، وكن مني قريبا، وأحي ذكري بلسانك، ولتكن مودتي في صدرك.

تيقظ من ساعات الغفلة، واحكم في لطيف الفطنة، وكن لي راغبا راهبا، وأمت قلبك في الخشية لي، وراع الليل لحق مسرتي، واظمِ نهارك ليوم الري عندي، نافس في الخيرات جهدك، واعترف بالخير حيث توجهت، وقم في الخلائق بنصيحتي، واحكم في عبادي بعدلي، فقد أنزلت عليك شفاء وسواس الصدور من مرض النسيان، وجلاء الأبصار من غشاء الكلال، ولا تكن حلسا كأنك مقبوض وأنت حي تنفس.

يا عيسى بن مريم ما آمنت بي خليقة إلا خشعت، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي، فأشهدك أنها آمنة من عقابي، ما لم تغير أو تبدل سنتي، يا عيسى ابن مريم البكر البتول ابك على نفسك أيام الحياة بكاء من ودع الأهل، وقلا الدنيا، وترك اللذات لأهلها، وارتفعت رغبته فيما عند إلهه، وكن في ذلك تلين الكلام، وتفشي السلام، وكن يقظان إذا نامت عيون الأبرار، حذار ما هو آت من أمر المعاد، وزلازل شدايد الأهوال، قبل أن لا ينفع أهل ولا مال.

وأكحل عينك بملول الحزن إذا ضحك البطالون، وكن في ذلك صابرا محتسبا، وطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين، رج من الدنيا بالله يوم بيوم، وذق مذاقة ما قد حرب منك أين طعمه وما لم يأتك كيف لذته، فرح من الدنيا بالبلغة، وليكفك منها الخشن الحثيث، قد رأيت إلى ما يصير، اعمل على حساب فإنك مسؤول، لو رأت عيناك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك.

وقال أبو داود في كتاب القدر: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن طاووس، عن أبيه قال: لقي عيسى بن مريم إبليس فقال: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك؟ قال إبليس: فارقَ بذروة هذا الجبل فتردى منه فانظر هل تعيش أم لا - فقال ابن طاووس - عن أبيه فقال عيسى: أما علمت أن الله قال: لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت.

وقال الزهري: إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الله يبتلي عبده.

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة، أنبأنا سفيان، عن عمرو، عن طاووس قال: أتى الشيطان عيسى بن مريم فقال: أليس تزعم أنك صادق، فاتِ هوة فألق نفسك قال: ويلك أليس قال: يا ابن آدم لا تسألني هلاك نفسك، فإني أفعل ما أشاء.

وحدثنا أبو توبة الربيع بن نافع، حدثنا حسين بن طلحة، سمعت خالد بن يزيد قال: تعبد الشيطان مع عيسى عشر سنين أو سنتين، أقام يوما على شفير جبل، فقال الشيطان: أرأيت أن ألقيت نفسي هل يصيبني إلا ما كتب لي؟ قال: إني لست بالذي أبتلي ربي، ولكن ربي إذا شاء ابتلاني، وعرفه أنه الشيطان ففارقه.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا شريح بن يونس، حدثنا علي بن ثابت، عن الخطاب بن القاسم، عن أبي عثمان قال: كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر.

قال: نعم.

قال: ألق نفسك من هذا الجبل، وقل قدر علي.

فقال: يا لعين، الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عز وجل.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا الفضل بن موسى البصري، حدثنا إبراهيم بن بشار سمعت سفيان بن عيينة يقول: لقي عيسى بن مريم إبليس فقال له إبليس: يا عيسى بن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلمت في المهد صبيا، ولم يتكلم فيه أحد قبلك قال: بل الربوبية للإله الذي أنطقني ثم يميتني ثم يحيني.

قال: فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحي الموتى، قال: بل الربوبية لله الذي يحي من يشاء ويميت من أحييت ثم يحييه.

قال: والله إنك لإله في السماء وإله في الأرض، قال: فصكه جبريل صكة بجناحيه، فما نباها دون قرون الشمس، ثم صكه أخرى بجناحيه فما نباها دون العين الحامية، ثم صكه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه، وفي رواية فأسلكه فيها حتى وجد طعم الحمأة، فخرج منها وهو يقول: ما لقي أحد من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم.

وقد روي نحو هذا بابسط منه من وجه آخر.

فقال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرني أبو الحسن بن رزقويه، أنبأنا أبو بكر أحمد بن سبدي، حدثنا أبو محمد الحسن بن علي القطان، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، أنبأنا علي بن عاصم، حدثني أبو سلمة سويد عن بعض أصحابه قال: صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له: إنه لا ينبغي لك أن تكون عبدا، فأكثر عليه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه، فجعل لا يتخلص منه، فقال له فيما يقول: لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبدا، قال: فاستغاث عيسى بربه فأقبل جبريل وميكائيل، فلما رآهما إبليس كف، فلما استقر معه على العقبة اكتنفا عيسى، وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي.

قال: فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك، فقال لعيسى: قد أخبرتك أنه لا ينبغي أن تكون عبدا، إن غضبك ليس بغضب عبد، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت، ولكن أدعوك لأمر هو لك آمر الشياطين فليطيعوك، فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلها ليس معه إله، ولكن الله يكون إلها في السماء، وتكون أنت إلها في الأرض.

فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه، وصرخ صرخة شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل، فكف إبليس فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه، فصك به عين الشمس، ثم ضربه ضربة أخرى فأقبل إبليس يهوي، ومر عيسى وهو بمكانه فقال: يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعبا شديدا فرمى به في عين الشمس، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية، قال: فغطوه فجعل كلما صرخ غطوه في تلك الحمأة، قال: والله ما عاد إليه بعد.

قال: وحدثنا إسماعيل العطار، حدثنا أبو حذيفة قال: واجتمع إليه شياطينه فقالوا: سيدنا قد لقيت تعبا، قال: إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل، وسأضل به بشرا كثيرا، وأبث فيهم أهواء مختلفة، وأجعلهم شيعا ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله، قال: وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقا بذكر نعمته على عيسى، فقال: { يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ... } 99.

يعني: إذ قويتك بروح القدس - يعني جبريل - { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } الآية كلها، وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعوانا، ترضى بهم وصحابة وأعوانا يرضون بك، هاديا وقائدا إلى الجنة، فذلك فاعلم خلقان عظيمان، من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي، وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا، وصلينا فلم يقبل صلاتنا، وتصدقنا فلم يقبل صدقاتنا، وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا.

فقل لهم: ولم ذلك وما الذي يمنعني إن ذات يدي؟ قلت: أوليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء، وإن البخل لا يعتريني، أولست أجود من سأل، وأوسع من أعطى؟ أو أن رحمتي ضاقت، وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي، ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى بن مريم غروا أنفسهم بالحكمة التي تورث في قلوبهم، ما استأثروا به الدنيا أثره على الآخرة.

لعرفوا من أين أوتوا، وإذا لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام، وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربوني، ويستحلون محارمي؟ وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغصبون الناس عليها فيأخذونها من غير حلها؟ يا عيسى إنما أجزي عليها أهلها، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء؟

ازددت عليهم غضبا يا عيسى، وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من عبدني وقال: فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار، ورفقائك في المنازل، وشركاءك في الكرامة، وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار.

وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أني مثبت هذا الأمر على يدي عبدي محمد، وأختم به الأنبياء والرسل، ومولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يتزين بالفحش، ولا قوال بالخنا، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل التقوى ضميره، والحكم معقوله، والوفاء طبيعته، والعدل سيرته، والحق شريعته، والإسلام ملته، اسمه أحمد، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأغني به بعد العائلة، وأرفع به بعد الضيعة، أهدي به وأفتح به بين آذان صم وقلوب غلف وأهواء مختلفة متفرقة، أجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، إخلاصا لاسمي وتصديقا لما جاءت به الرسل.

ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل في مساجدهم، ومجالسهم، وبيوتهم، ومنقلبهم، ومثواهم يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، قرباتهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، وقربانهم في بطونهم، رهبان بالليل، ليوث في النهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم.

وسنذكر ما يصدق كثيرا من هذا السياق، مما سنورده من سورتي المائدة والصف، إن شاء الله وبه الثقة.

وقد روى أبو حذيفة إسحق بن بشر بأسانيده، عن كعب الأحبار ووهب بن منبه، وابن عباس، وسلمان الفارسي، دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما بعث عيسى بن مريم، وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون منه ويستهزؤن به، فيقولون: ما أكل فلان البارحة وما ادخر في منزله؟ فيخبرهم فيزداد المؤمنون إيمانا، والكافرون والمنافقون شركا وكفرانا.

وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوي إليه، إنما يسيح في الأرض ليس له قرار، ولا موضع يعرف به، فكان أول ما أحيا من الموتى أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي، فقال لها: مالك أيتها المرأة؟

فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت، أو يحييها الله لي فأنظر إليها.

فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟ قالت: نعم.

قالوا: فصلى ركعتين، ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن، فاخرجي قال: فتحرك القبر، ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عني؟

فقالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكا فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إليّ روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني من مخافة القيمة.

ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين، يا أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة، وأن يهون علي كرب الموت، فدعا ربه فقبضها إليه، واستوت عليها الأرض، فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا.

وقدمنا في عقيب قصة نوح أن بني إسرائيل سألوه أن يحيي لهم سام بن نوح، فدعا الله عز وجل وصلى لله فأحياه الله لهم، فحدثهم عن السفينة وأمرها، ثم دعا فعاد ترابا.

وقد روى السدي، عن أبي صالح وأبي مالك، عن ابن عباس في خبر ذكره: وفيه أن ملكا من ملوك بني إسرائيل مات، وحمل على سريره، فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عز وجل فأحياه الله عز وجل، فرأى الناس أمرا هائلا، ومنظرا عجيبا.

قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ *وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } 100 يذكره تعالى بنعمته عليه، وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب، بل من أم بلا ذكر، وجعله له آية للناس، ودلالة على كمال قدرته تعالى، ثم إرساله بعد هذا كله { وَعَلى وَالِدَتِكَ } في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة، وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون.

ولهذا قال: { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وهو: جبريل بإلقاء روحه إلى أمه، وقرنه معه في حال رسالته، ومدافعته عنه لمن كفر به { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي: تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي كهولتك { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي: الخط والفهم، نص عليه بعض السلف { وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } .

وقوله: { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } أي: تصوره وتشكله من الطين على هيئته، عن أمر الله له بذلك { فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِي } أي: بأمري، يؤكد تعالى بذكر الإذن له في ذلك لرفع التوهم.

وقوله: { وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ } قال بعض السلف: وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لأحد من الحكماء إلى مداواته { وَالْأَبْرَصَ } هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص، وصار داؤه عضالا { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى } أي: من قبورهم أحياء بإذني، وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مرارا متعددة مما فيه كفاية.

وقوله: { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } وذلك حين أرادوا صلبه فرفعه الله إليه، وأنقذه من بين أظهرهم، صيانة لجنابه الكريم عن الأذى، وسلامة له من الردى.

وقوله: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } قيل: المراد بهذا الوحي وحي إلهام، أي أرشدهم الله إليه ودلهم عليه كما قال: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } 101.

{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } 102.

وقيل: المراد وحي بواسطة الرسول، وتوفيق في قلوبهم، لقبول الحق، ولهذا استجابوا قائلين: { آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } .

وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى بن مريم، أن جعل له أنصارا وأعوانا ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى لعبده محمد : {...هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } 103.

وقال تعالى: { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } 104.

كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان، فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بآيات بهرت الأبصار، وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر، وما ينتهي إليه، وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل، الذي لا يمكن صدوره، إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقا له، أسلموا سراعا ولم يتلعثموا.

وهكذا عيسى ابن مريم، بعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنى لحكيم إبراء الأكمه، الذي هو أسوأ حالا من الأعمى والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره، هذا مما يعلم كل أحد معجزة دالة على صدق من قامت به، وعلى قدرة من أرسله.

وهكذا محمد وعليهم أجمعين، بعث في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فلفظه معجز تحدى به الإنس والجن، أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا، وما ذاك إلا لأنه كلام الخالق عز وجل، والله تعالى لا يشبهه شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

والمقصود أن عيسى عليه السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين، استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم، فانتدب له من بينهم طائفة صالحة، فكانوا له أنصارا وأعوانا، قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته، وذلك حين همَّ به بنو إسرائيل، ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان، فعزموا على قتله وصلبه، فأنقذه الله منهم، ورفعه إليه من بين أظهرهم، وألقى شبهه على أحد أصحابه.

فأخذوه فقتلوه وصلبوه، وهم يعتقدونه عيسى، وهم في ذلك غالطون، وللحق مكابرون، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون، قال تعالى: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } .

وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } 105.

إلى أن قال بعد ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } 106.

فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد قام فيهم خطيبا، فبشرهم بخاتم الأنبياء الآتي بعده، ونوه باسمه، وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه، إذا شاهدوه إقامة للحجة عليهم وإحسانا من الله إليهم، كما قال تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } 107.

قال محمد بن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟

قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام ».

وقد روي عن العرباض بن سارية، وأبي أمامة، عن النبي نحو هذا، وفيه: « دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ».

وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ... } الآية 108 ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى، قام فيهم خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم، وأنها بعده في النبي العربي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق أحمد، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.

قال الله تعالى: { فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } 109 يحتمل عود الضمير إلى عيسى عليه السلام، ويحتمل عوده إلى محمد .

ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الإسلام وأهله، ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته، على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } أي: من يساعدني في الدعوة إلى الله { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ } وكان ذلك في قرية يقال لها الناصرة، فسموا بذلك النصارى.

قال الله تعالى: { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ } يعني لما دعا عيسى بني إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى، منهم من آمن، ومنهم من كفر، وكان ممن آمن به أهل أنطاكية بكمالهم، فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير، بعث إليهم رسلا ثلاثة أحدهم شمعون الصفا، فآمنوا واستجابوا، وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس، لما تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية.

وكفر آخرون من بني إسرائيل، وهم جمهور اليهود، فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد، وأصبحوا ظاهرين عليهم قاهرين لهم، كما قال تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ... } الآية 110.

فكل من كان إليه أقرب كان غالبا فمن دونه، ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه، من أنه عبد الله ورسوله، كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه وأطروه، وأنزلوه فوق ما أنزل الله به، ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه اليهود فيه عليهم لعائن الله، كان النصارى قاهرين لليهود في أزمان الفترة، إلى زمن الإسلام وأهله.

ذكر خبر المائدة

قال الله تعالى: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدا مِنَ الْعَالَمِينَ } 111.

قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة عن ابن عباس، وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر وغيرهم من السلف، ومضمون ذلك: أن عيسى عليه السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يوما، فلما أتموها سألوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها، وتطمئن بذلك قلوبهم، أن الله قد تقبل صيامهم، وأجابهم إلى طلبتهم، وتكون لهم عيدا يفطرون عليها يوم فطرهم، وتكون كافية لأولهم وآخرهم، لغنيهم وفقيرهم.

فوعظهم عيسى في ذلك، وخاف عليهم أن لا يقوموا بشكرها، ولا يؤدوا حق شروطها، فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عز وجل، فلما لم يقلعوا عن ذلك، قام إلى مصلاه ولبس مسحا من شعر، وصف بين قدميه، وأطرق رأسه، وأسبل عينيه بالبكاء، وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال، أن يجابوا إلى ما طلبوا.

فأنزل الله تعالى المائدة من السماء، والناس ينظرون إليها تنحدر بين غمامتين، وجعلت تدنوا قليلا قليلا وكلما دنت سأل عيسى ربه عز وجل أن يجعلها رحمة لا نقمة، وأن يجعلها بركة وسلامة، فلم تزل تدنوا حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام، وهي مغطاة بمنديل.

فقام عيسى يكشف عنها، وهو يقول: بسم الله خير الرازقين، فإذا عليها سبعة من الحيتان، وسبعة أرغفة، ويقال: وخل، ويقال: ورمان وثمار، ولها رائحة عظيمة جدا، قال الله لها كوني فكانت.

ثم أمرهم بالأكل منها فقالوا: لا نأكل حتى تأكل، فقال: إنكم الذين ابتدأتم السؤال لها، فأبوا أن يأكلوا منها ابتداء، فأمر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى، وكانوا قربيا من ألف وثلاثمائة، فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أو آفة أو مرض مزمن، فندم الناس على ترك الأكل منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك.

ثم قيل: إنها كانت تنزل كل يوم مرة، فيأكل الناس منها، يأكل آخرهم كما يأكل أولهم، حتى قيل: إنها كان يأكل منها نحو سبعة آلاف، ثم كانت تنزل يوما بعد يوم، كما كانت ناقة صالح يشربون لبنها يوما بعد يوم.

ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء أو المحاويج دون الأغنياء، فشق ذلك على كثير من الناس، وتكلم منافقوهم في ذلك، فرفعت بالكلية، ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير.

وقد روى ابن أبي حاتم، وابن جرير جميعا: حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي، حدثنا سفيان بن حبيب، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار بن ياسر، عن النبي قال:

« نزلت المائدة من السماء خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا، ولا يدخروا، ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير ».

ثم رواه ابن جرير، عن بندار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار موقوفا، وهذا أصح، وكذا رواه من طريق سماك، عن رجل من بني عجل، عن عمار موقوفا، وهو الصواب والله أعلم.

وخلاس عن عمار منقطع، فلو صح هذا الحديث مرفوعا لكان فيصلا في هذه القصة، فإن العلماء اختلفوا في المائدة هل نزلت أم لا؟

فالجمهور أنها نزلت، كما دلت عليه هذه الآثار، كما هو المفهوم من ظاهر سياق القرآن، ولا سيما قوله: { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } كما قرره ابن جرير، والله أعلم.

وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح إلى مجاهد، وإلى الحسن بن أبي الحسن البصري، أنهما قالا: لم تنزل، وأنهم أبوا نزولها حين قال: { فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدا مِنَ الْعَالَمِينَ } ولهذا قيل: إن النصارى لا يعرفون خبر المائدة، وليس مذكورا في كتابهم، مع أن خبرها مما يتوفر الدواعي على نقله، والله أعلم.

وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير، فليكتب من هناك، ومن أراد مراجعته فلينظره من ثم، ولله الحمد والمنة.

فصل توجه عيسى عليه السلام نحو البحر.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا رجل سقط اسمه، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو هلال محمد بن سليمان، عن بكر بن عبد الله المزني قال: فقد الحواريون نبيهم عيسى، فقيل لهم توجه نحو البحر، فانطلقوا يطلبونه، فلما انتهوا إلى البحر، إذا هو يمشي على الماء، يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى، وعليه كساء مرتد بنصفه، ومؤتزر بنصفه، حتى انتهى إليهم.

فقال له بعضهم - قال أبو هلال ظنت أنه من أفاضلهم - ألا أجيء إليك يا نبي الله؟ قال: بلى، قال: فوضع إحدى رجليه على الماء، ثم ذهب ليضع الأخرى، فقال: أوه غرقت يا نبي الله، فقال: أرني يدك يا قصير الإيمان، لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة، مشى على الماء.

ورواه أبو سعيد ابن الأعرابي، عن إبراهيم بن أبي الجحيم، عن سليمان بن حرب، عن أبي هلال، عن بكر بنحوه.

ثم قال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن الأشعث، عن الفضيل بن عياض قال: قيل لعيسى بن مريم يا عيسى بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين.

قالوا: فإنا آمنا كما آمنت، وأيقنا كما أيقنت.

قال: فامشوا إذا.

قال فمشوا معه في الموج فغرقوا.

فقال لهم عيسى: ما لكم؟

فقالوا: خفنا الموج.

قال: ألا خفتم رب الموج؟

قال: فأخرجهم، ثم ضرب بيده إلى الأرض، فقبض بها ثم بسطها، فإذا في إحدى يديه ذهب، وفي الأخرى مدر أو حصى.

فقال: أيهما أحلى في قلوبكم؟

قالوا: هذا الذهب.

قال: فإنهما عندي سواء.

وقدمنا في قصة يحيى بن زكريا عن بعض السلف أن عيسى عليه السلام كان يلبس الشعر، ويأكل من ورق الشجر، ولا يأوي إلى منزل ولا أهل ولا مال، ولا يدخر شيئا لغد، قال بعضهم كان يأكل من غزل أمه، صلوات الله وسلامه عليه.

وروى ابن عساكر عن الشعبي أنه قال: كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الساعة صاح، ويقول لا ينبغي لابن مريم أن تذكر عنده الساعة ويسكت. وعن عبد الملك بن سعيد بن بحر أن عيسى كان إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلي.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، حدثنا جعفر بن بلقان أن عيسى كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره، ولا أملك نفع ما أرجو، وأصبح الأمر بيد غيري، وأصبحت مرتهنا بعملي، فلا فقير أفقر مني، اللهم لا تشمت بي عدوي، ولا تسؤ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تسلط علي من لا يرحمني.

وقال الفضيل بن عياض عن يونس بن عبيد كان عيسى يقول: لا نصيب حقيقة الإيمان، حتى لا يبالي من أكل الدنيا. قال الفضيل: وكان عيسى يقول: فكرت في الخلق، فوجدت من لم يخلق أغبط عندي ممن خلق.

وقال إسحاق بن بشر عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة، قال: وإن الفرارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى، قال: وبينما عيسى يوما نائم على حجر قد توسده وقد وجد لذة النوم، إذ مر به إبليس فقال يا عيسى: ألست تزعم أنك لا تريد شيئا من عرض الدنيا، فهذا الحجر من عرض الدنيا، فقال فقام عيسى فأخذ الحجر ورمى به إليه وقال: هذا لك مع الدنيا.

وقال معتمر بن سليمان: خرج عيسى على أصحابه، وعليه جبة صوف، وكساء، وتبان، حافيا باكيا شعثا، مصفر اللون من الجوع، يابس الشفتين من العطش، فقال السلام عليكم يا بني إسرائيل، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟

قالوا: أين بيتك يا روح الله؟

قال: بيتي المساجد، وطبي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصون، وشعاري خوف رب العزة، وجلسائي الزمني والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء، وأنا طيب النفس غير مكترث، فمن أغنى مني وأربح. رواه ابن عساكر.

وروي في ترجمة محمد بن الوليد بن أبان بن حبان أبي الحسن العقيلي المصري: حدثنا هانئ بن المتوكل الإسكندراني، عن حيوة بن شريح، حدثني الوليد ابن أبي الوليد، عن سفي بن نافع، عن أبي هريرة، عن النبي قال:

« أوحى الله تعالى إلى عيسى أن يا عيسى انتقل من مكان إلى مكان لئلا تعرف فتؤذى، فوعزتي وجلالي لأزوجنك ألف حوراء، ولأولمن عليك أربعمائة عام ».

وهذا حديث غريب رفعه، وقد يكون موقوفا من رواية سفي بن نافع عن كعب الأحبار، أو غيره من الإسرائيليين، والله أعلم.

وقال عبد الله بن المبارك، عن سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب قال: قال عيسى للحواريين: كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك فاتركوا لهم الدنيا.

وقال قتادة: قال عيسى عليه السلام: سلوني فإني لين القلب، وإني صغير عند نفسي.

وقال إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال عيسى للحواريين: كلوا خبز الشعير، واشربوا الماء القراح، واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين، بحق ما أقول لكم أن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، وأن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وأن عباد الله ليسوا بالمتنعمين بحق ما أقول لكم، إن شركم عالم يؤثر هواه على علمه، يود أن الناس كلهم مثله. وروي نحوه عن أبي هريرة.

وقال أبو مصعب، عن مالك أنه بلغه أن عيسى كان يقول: يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح، والبقل البري، وخبز الشعير، وإياكم وخبز البر، فإنكم لن تقوموا بشكره.

وقال ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى يقول: اعبروا الدنيا ولا تعمروها، وكان يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة.

وحكى وهيب بن الورد مثله وزاد. ورب شهوة أورثت أهلها حزنا طويلا. وعن عيسى عليه السلام: يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضيفا، واتخذ المساجد بيتا، وعلم عينك البكاء، وجسدك الصبر، وقلبك التفكر، ولا تهتم برزق غد فإنها خطيئة.

وعنه عليه السلام أنه قال: كما أنه لا يستطيع أحدكم أن يتخذ على موج البحر دارا، فلا يتخذ الدنيا قرارا، وفي هذا يقول سابق البربري:

لكم بيوت بمستن السيوف وهل * يبنى على الماء بيت أسه مدر

وقال سفيان الثوري: قال عيسى بن مريم لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء والنار في إناء.

وقال إبراهيم الحربي، عن داود بن رشيد، عن أبي عبد الله الصوفي قال: قال عيسى: طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله.

وعن عيسى عليه السلام: إن الشيطان مع الدنيا، وفكره من المال، وتزينه مع الهوى، واستمكانه عند الشهوات.

وقال الأعمش، عن خيثمة: كان عيسى يضع الطعام لأصحابه ويقوم عليهم، ويقول: هكذا فاصنعوا بالقرى، وبه قالت امرأة لعيسى عليه السلام: طوبى لحجر حملك، ولثدي أرضعك، فقال: طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه.

وعنه: طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته، وحفظ لسانه، ووسعه بيته.

وعنه: طوبى لعين نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية، وانتبهت إلى غير إثم.

وعن مالك بن دينار قال: مر عيسى وأصحابه بجيفة فقالوا: ما أنتن ريحها!

فقال: ما أبيض أسنانها لينهاهم عن الغيبة.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن، عن زكريا بن عدي قال: قال عيسى بن مريم: يا معشر الحواريين ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا. قال زكريا: وفي ذلك يقول الشاعر:

أرى رجالا بأدنى الدين قد قنعوا * ولا أراهم رضوا في العيش بالدون

فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما * استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

وقال أبو مصعب، عن مالك: قال عيسى بن مريم عليه السلام: لا تكثروا الحديث بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.

وقال الثوري: سمعت أبي يقول، عن إبراهيم التيمي قال: قال عيسى لأصحابه: بحق أقول لكم من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.

وقال مالك بن دينار: قال عيسى: إن أكل الشعير مع الرماد، والنوم على المزابل مع الكلاب، لقليل في طلب الفردوس.

وقال عبد الله بن المبارك: أنبأنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد قال: قال عيسى: اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها، فإن قلتم نحن أعظم بطونا من الطير فانظروا إلى هذه الأباقر من الوحوش والحمر، فإنها تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز.

وقال صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبد الله، عن يزيد بن ميسرة قال: قال الحواريون للمسيح: يا مسيح الله انظر إلى مسجد الله ما أحسنه، قال: آمين آمين بحق ما أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجرا قائما إلا أهلكه بذنوب أهله. إن الله لا يصنع بالذهب ولا بالفضة ولا بهذه الأحجار التي تعجبكم شيئا، إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة، وبها يعمر الله الأرض، وبها يخرب الله الأرض إذا كانت على غير ذلك.

وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه: أخبرنا أبو منصور أحمد بن محمد الصوفي، أخبرتنا عائشة بنت الحسن بن إبراهيم الوركانية قالت: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهشيم إملاء، حدثنا الوليد بن أبان إملاء، حدثنا أحمد بن جعفر الرازي، حدثنا سهيل بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز، عن المعتمر، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي قال:

« مر عيسى عليه السلام على مدينة خربة فأعجبه البنيان فقال: أي رب مر هذه المدينة أن تجيبني، فأوحى الله إلى المدينة أيتها المدينة الخربة جاوبي عيسى.

قال: فنادت المدينة: عيسى حبيبي وما تريد مني؟

قال: ما فعل أشجارك، وما فعل أنهارك، وما فعل قصورك، وأين سكانك؟

قالت: حبيبي جاء وعد ربك الحق، فيبست أشجاري، ونشفت أنهاري، وخربت قصوري، ومات سكاني.

قال: فأين أموالهم؟

فقالت: جمعوها من الحلال والحرام، موضوعة في بطني، لله ميراث السموات والأرض.

قال: فنادى عيسى عليه السلام فعجبت من ثلاث أناس: طالب الدنيا والموت يطلبه، وباني القصور والقبر منزله، ومن يضحك ملء فيه والنار أمامه، ابن آدم لا بالكثير تشبع ولا بالقليل تقنع، تجمع مالك لمن لا يحمدك، وتقدم على رب لا يعذرك، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك، وإنما تملأ بطنك إذا دخلت قبرك، وأنت يا ابن آدم ترى حشد مالك في ميزان غيرك ».

هذا حديث غريب جدا وفيه موعظة حسنة فكتبناه لذلك.

وقال سفيان الثوري، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي قال: قال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء، فإن قلب الرجل حيث كنزه.

وقال ثور بن يزيد، عن عبد العزيز بن ظبيان قال: قال عيسى بن مريم: من تعلم وعلم وعمل دعي عظيما في ملكوت السماء.

وقال أبو كريب: روي أن عيسى عليه السلام قال: لا خير في علم لا يعبر معك الوادي، ويعبر بك النادي.

وروى ابن عساكر بإسناد غريب عن ابن عباس مرفوعا أن عيسى قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكم غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، والأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر تبين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف عليكم فيه فردوا علمه إلى الله عز وجل.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن رجل، عن عكرمة قال: قال عيسى: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير، فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها فإن الحكمة خير من اللؤلؤ، ومن لا يريدها شر من الخنزير.

وكذا حكى وهب وغيره عنه، وعنه: أنه قال لأصحابه: أنتم ملح الأرض، فإذا فسدتم فلا دواء لكم، وإن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب، والصبحة من غير سهر.

وعنه أنه قيل له: من أشد الناس فتنة؟ قال: زلة العالم، فإن العالم إذا زل يزل بزلته عالم كثير.

وعنه أنه قال: يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء، وعملكم داء، مثلكم مثل شجرة الدفلى، تعجب من رآها وتقتل من أكلها.

وقال وهب: قال عيسى: يا علماء السوء جلستم على أبواب الجنة فلا تدخلوها ولا تدعون المساكين يدخلونها، إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه.

وقال مكحول: التقى يحيى وعيسى فصافحه عيسى وهو يضحك، فقال له يحيى: يا ابن خالة مالي أراك ضاحكا كأنك قد أمنت؟

فقال له عيسى: ما لي أراك عابسا كأنك قد يئست؟

فأوحى الله إليهما: إن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه.

وقال وهب بن منبه: وقف عيسى هو وأصحابه على قبر وصاحبه يدلى فيه، فجعلوا يذكرون القبر وضيقه فقال: قد كنتم فيما هو أضيق منه من أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسع وسع.

وقال أبو عمر الضرير: بلغني أن عيسى كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما. والآثار في مثل هذا كثيرة جدا. وقد أورد الحافظ ابن عساكر منها طرفا صالحا، اقتصرنا منها على هذا القدر، والله الموفق للصواب.

ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء

ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء في حفظ الرب وبيان كذب اليهود والنصارى في دعوى الصلب

قال الله تعالى: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } 112.

وقال تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلا * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانا عَظِيما * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزا حَكِيما * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا } 113.

فأخبر تعالى أنه رفعه إلى السماء بعد ما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان.

قال الحسن البصري، ومحمد بن إسحاق: كان اسمه داود بن نورا، فأمر بقتله وصلبه، فحصروه في دار ببيت المقدس، وذلك عشية الجمعة ليلة السبت، فلما حان وقت دخولهم ألقى شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده، ورفع عيسى من روزنة من ذلك البيت إلى السماء، وأهل البيت ينظرون.

ودخل الشرط فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقي عليه شبهه، فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له، وسلم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب، وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا كثيرا فاحشا بعيدا.

وأخبر تعالى بقوله: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي: بعد نزوله إلى الأرض في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فإنه ينزل ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام. كما بينا ذلك بما ورد فيه من الأحاديث عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة النساء. وكما سنورد ذلك مستقصى في كتاب الفتن والملاحم، عند أخبار المسيح الدجال، فنذكر ما ورد في نزول المسيح المهدي عليه السلام من ذي الجلال لقتل المسيح الدجال الكذاب الداعي إلى الضلال.

وهذا ذكر ما ورد في الآثار في صفة رفعه إلى السماء.

قال ابن أبي حاتم، حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:

لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا منهم من الحواريين، يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال لهم: إن منك من يكفر بي اثني عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني فيكون معي في درجتي؟

فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا. فقال عيسى اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا، فقال: أنت هو ذاك. فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.

قال وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه. فكفر به بعضهم اثني عشرة مرة بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق.

فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية.

وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية.

وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء، ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون.

فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا . قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } 114.

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس على شرط مسلم.

ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية به نحوه.

ورواه ابن جرير عن مسلم بن جنادة، عن أبي معاوية، وهكذا ذكر غير واحد من السلف، وممن ذكر ذلك مطولا محمد بن إسحاق بن يسار قال: وجعل عيسى عليه السلام يدعو الله عز وجل أن يؤخر أجله، يعني ليبلغ الرسالة ويكمل الدعوة، ويكثر الناس الدخول في دين الله.

قيل: وكان عنده من الحواريين اثني عشر رجلا: بطرس، ويعقوب بن زبدا، ويحنس أخو يعقوب، واندراوس، وفليبس، وابرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوس، وفتاتبا، ويودس كريا يوطا، وهذا هو الذي دل اليهود على عيسى.

قال ابن إسحاق: وكان فيهم رجل آخر اسمه سرجس، كتمته النصارى وهو الذي ألقي شبه المسيح عليه فصلب عنه، قال: وبعض النصارى يزعم أن الذي صلب عن المسيح، وألقي عليه شبهه هو: يودس بن كريا يوطا، والله أعلم.

وقال الضحاك عن ابن عباس: استخلف عيسى شمعون، وقتلت اليهود يودس، الذي ألقي عليه الشبه.

وقال أحمد بن مروان: حدثنا محمد بن الجهم قال: سمعت الفراء يقول في قوله: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } قال: إن عيسى غاب عن خالته زمانا، فأتاها فقام رأس الجالوت اليهودي فضرب على عيسى حتى اجتمعوا على باب داره، فكسروا الباب، ودخل رأس جالوت ليأخذ عيسى، فطمس الله عينيه عن عيسى، ثم خرج إلى أصحابه فقال: لم أره ومعه سيف مسلول.

فقالوا: أنت عيسى، وألقى الله شبه عيسى عليه فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فقال جل ذكره: { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } .

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي، عن هرون بن عنترة، عن وهب بن منبه قال: أتى عيسى ومعه سبعة عشر من الحوارين في بيت فأحاطوا بهم، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا لتبرزن إلينا عيسى أو لنقتلنكم جميعا.

فقال عيسى لأصحابه: من يشتري منكم نفسه اليوم بالجنة؟ فقال رجل: أنا، فخرج إليهم فقال: أنا عيسى، وقد صوره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، فظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.

قال ابن جرير: وحدثنا المثنى، حدثنا إسحاق بن الحجاج، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: أن عيسى بن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت، وشق عليه، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال: أحضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة.

فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا من الطعام، أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من رد عليّ شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه.

فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعظم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم.

وأما حاجتي التي استعنتكم عليها فتدعون الله لي، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلى، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء، وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها؟

فقالوا: والله ما ندري ما لنا، والله لقد كنا نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي وتتفرق الغنم، وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه.

ثم قال الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني، فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد الحواريين فقالوا: هذا من صحابه فجحد، وقال: ما أنا بصاحبه فتركوه، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه.

فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح، فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه، وكان شبه عليهم قبل ذلك، فأخذوه واستوثقوا منه وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون: أنت كنت تحي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟

ويبصقون عليه ويلقون عليه الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم، فمكث سبعا، ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب، فجاءهما عيسى فقال: على من تبكيان؟ قالتا: عليك.

فقال: إني قد رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر، وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود.

فسأل عنه أصحابه فقالوا: إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه، فقال: لو تاب لتاب الله عليه.

ثم سألهم عن غلام كان يتبعهم يقال له يحيى فقال: هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم.

وهذا إسناد غريب عجيب، وهو أصح مما ذكره النصارى من أن المسيح جاء إلى مريم وهي جالسة تبكي عند جذعه، فأراها مكان المسامير من جسده، وأخبرها أن روحه رفعت وأن جسده صلب، وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل، وزيادة باطلة في الإنجيل على خلاف الحق، ومقتضى الدليل.

وحكى الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن حبيب، فيما بلغه، أن مريم سألت من بيت الملك بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام وهي تحسب أنه ابنها، أن ينزل جسده، فأجابهم إلى ذلك ودفن هنالك، فقالت مريم لأم يحيى: ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح؟ فذهبتا فلما دنتا من القبر قالت مريم لأم يحيى: ألا تسترين فقالت: وممن أستتر؟

فقالت: من هذا الرجل الذي هو عند القبر، فقالت أم يحيى: إني لا أرى أحدا، فرجت مريم أن يكون جبريل، وكانت قد بعد عهدها به، فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر، فلما دنت من القبر قال لها جبريل، وعرفته: يا مريم أين تريدين؟ فقالت: أزور قبر المسيح فأسلم عليه وأحدث عهدا به.

فقال: يا مريم إن هذا ليس المسيح، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا، ولكن هذا الفتى الذي ألقي شبهه عليه وصلب وقتل مكانه. وعلامة ذلك أن أهله قد فقدوه، فلا يدرون ما فعل به، فهم يبكون عليه، فإذا كان يوم كذا وكذا فأت غيض كذا وكذا فإنك تلقين المسيح.

قال: فرجعت إلى أختها، وصعد جبريل، فأخبرتها عن جبريل وما قال لها من أمر الغيضة. فلما كان ذلك اليوم ذهبت فوجدت عيسى في الغيضة، فلما رآها أسرع إليها، وأكب عليها فقبل رأسها، وجعل يدعو لها كما كان يفعل، وقال: يا أمه إن القوم لم يقتلوني، ولكن الله رفعني إليه وأذن لي في لقائك، والموت يأتيك قريبا فاصبري، واذكري الله كثيرا، ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت.

قال: وبلغني أن مريم بقيت بعد عيسى خمس سنين، وماتت ولها ثلاث وخمسون سنة، رضي الله عنها وأرضاها.

وقال الحسن البصري: كان عمر عيسى عليه السلام يوم رفع أربعا وثلاثين سنة، وفي الحديث: « إن أهل الجنة يدخلونها جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين ».

وفي الحديث الآخر على ميلاد عيسى وحسن يوسف. وكذا قال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.

فأما الحديث الذي رواه الحاكم في (مستدركه) ويعقوب بن سفيان الفسوي في (تاريخه) عن سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن يزيد، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أن أمه فاطمة بنت الحسين حدثته: أن عائشة كانت تقول:

أخبرتني فاطمة أن رسول الله أخبرها: أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش الذي بعده نصف عمر الذي كان قبله، وأنه أخبرني أن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة سنة، فلا أراني إلا ذاهب على رأس ستين. هذا لفظ الفسوي فهو حديث غريب.

قال الحافظ ابن عساكر: والصحيح أن عيسى لم يبلغ هذا العمر، وإنما أراد به مدة مقامه في أمته، كما روى سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة قال: قالت فاطمة: قال لي رسول الله : إن عيسى بن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة. وهذا منقطع.

وقال جرير، والثوري، عن الأعمش: إن إبراهيم مكث عيسى في قومه أربعين عاما. ويروى عن أمير المؤمنين علي: أن عيسى عليه السلام رفع ليلة الثاني والعشرين من رمضان، وتلك الليلة في مثلها توفي علي بعد طعنة بخمسة أيام.

وقد روى الضحاك، عن ابن عباس: أن عيسى لما رفع إلى السماء، جاءته سحابة فدنت منه حتى جلس عليها، وجاءته مريم فودعته وبكت، ثم رفع وهي تنظر، وألقى إليها عيسى بردا له وقال: هذا علامة ما بيني وبينك يوم القيامة، وألقى عمامته على شمعون.

وجعلت أمه تودعه بإصبعها تشير بها إليه حتى غاب عنها، وكانت تحبه حبا شديدا لأنه توفر عليها حبه من جهتي الوالدين، إذ لا أب له، وكانت لا تفارقه سفرا ولا حضرا. قال بعض الشعراء:

وكنت أرى كالموت من بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر

وذكر إسحاق بن بشر، عن مجاهد بن جبير: أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل الذي شبه لهم، وهم يحسبونه المسيح، وسلم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس، فبلغ أمرهم إلى صاحب الروم وهو ملك دمشق في ذلك الزمان، فقيل له:

إن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويفعل العجائب فعدوا عليه فقتلوه، وأهانوا أصحابه وحبسوهم، فبعث فجيء بهم، وفيهم يحيى بن زكريا، وشمعون، وجماعة فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه، فبايعهم في دينهم، وأعلى كلمتهم، وظهر الحق على اليهود، وعلت كلمة النصارى عليهم.

وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه، وجيء بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه، فمن ثم عظمت النصارى الصليب، ومن هاهنا دخل دين النصرانية في الروم، وفي هذا نظر من وجوه:

أحدها: أن يحيى بن زكريا نبي لا يقر على أن المصلوب عيسى فإنه معصوم، يعلم ما وقع على جهة الحق.

الثاني: أن الروم لم يدخلوا في دين المسيح إلا بعد ثلاثمائة سنة، وذلك في زمان قسطنطين بن قسطن باني المدينة المنسوبة إليه، على ما سنذكره.

الثالث: أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته، جعلوا مكانه مطرحا للقمامة والنجاسة، وجيف الميتات والقاذورات، فلم يزل كذلك حتى كان في زمان قسطنطين المذكور، فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح، ووجدوا الخشبة التي صلب عليها المصلوب، فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفي، فالله أعلم أكان هذا أم لا؟

وهل كان هذا لأن ذلك الرجل الذي بذل نفسه كان رجلا صالحا، أو كان هذا محنة وفتنة لأمة النصارى في ذلك اليوم حتى عظموا تلك الخشبة، وغشوها بالذهب واللآلئ، ومن ثم اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها.

وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة، وبني مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة، فهي هذه المشهورة اليوم ببلد بيت المقدس، التي يقال لها القمامة، باعتبار ما كان عندها، ويسمونها القيامة، يعنون التي يقوم جسد المسيح منها.

ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد وكناسته وقاذوراته على الصخرة التي هي قبلة اليهود، فلم يزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس، فكنس عنها القمامة بردائه، وطهرها من الأخباث والأنجاس، ولم يضع المسجد وراءها، ولكن أمامها حيث صلى رسول الله ليلة الإسراء بالأنبياء وهو المسجد الأقصى.

ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله

قال الله تعالى: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } 115.

قيل: سمي المسيح لمسحه الأرض، وهو سياحته فيها وفراره بدينه من الفتن في ذلك الزمان، لشدة تكذيب اليهود له، وافترائهم عليه وعلى أمه، عليهما السلام. وقيل: لأنه كان ممسوح القدمين.

وقال تعالى: { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } 116.

وقال تعالى: { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } 117 والآيات في ذلك كثيرة جدا، وقد تقدم ما ثبت في (الصحيحين):

« ما من مولود إلا والشيطان يطعن في خاصرته حين يولد فيستهل صارخا، إلا مريم وابنها، ذهب يطعن فطعن في الحجاب ».

وتقدم حديث عمير بن هانئ، عن جنادة، عن عبادة، عن رسول الله أنه قال: « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ». رواه البخاري وهذا لفظه، ومسلم.

وروى البخاري ومسلم من حديث الشعبي، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: قال رسول الله : « إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران، وإذا آمن بعيسى بن مريم ثم آمن بي فله أجران، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه فله أجران ». هذا لفظ البخاري.

وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشام، عن معمر (ح) وحدثني محمود، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال النبي : « ليلة أسري بي لقيت موسى، قال: فنعته فإذا رجل حسبته قال مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنؤة. قال ولقيت عيسى فنعته النبي فقال: ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس، يعني الحمام، ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به... ». الحديث.

وقد تقدم في قصتي إبراهيم وموسى، ثم قال: حدثنا محمد بن كثير، أنبأنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال النبي : « رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط ». تفرد به البخاري.

وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع قال: قال عبد الله بن عمر: ذكر النبي يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: « إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال، تضرب لمته بين منكبيه، رجل الشعر يقطر رأسه ماء، واضعا يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت فقلت من هذا؟ فقالوا المسيح بن مريم. ثم رأيت رجلا وراءه جعد قطط أعور عين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن، واضعا يده على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت من هذا؟ فقالوا: المسيح الدجال ». ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.

ثم قال البخاري: تابعه عبد الله بن نافع، ثم ساقه من طريق الزهري، عن سالم بن عمر قال: الزهري: وابن قطن رجل من خزاعة، هلك في الجاهلية، فبين صلوات الله وسلامه عليه صفة المسيحيين مسيح المهدي، ومسيح الضلالة، ليعرف هذا إذا نزل فيؤمن به المؤمنون، ويعرف الآخر فيحذره الموحدون.

وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي قال: « رأى عيسى بن مريم رجلا يسرق فقال له: أسرقت؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني ». وكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق.

وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن وغيره، عن أبي هريرة قال: ولا أعلمه إلا عن النبي قال: « رأى عيسى رجلا يسرق فقال: يا فلان أسرقت؟ فقال: لا والله ما سرقت. فقال: آمنت بالله وكذبت بصري ».

وهذا يدل على سجية طاهرة، حيث قدم حلف ذلك الرجل، فظن أن أحدا لا يحلف بعظمة الله كاذبا على ما شاهده منه عيانا، فقبل عذره ورجع على نفسه فقال: آمنت بالله أي: صدقتك وكذبت بصرى لأجل حلفك.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله : « تحشرون حفاة عراة غرلا » ثم قرأ: { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } 118.

فأول الخلق يكسى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال.

فأقول: أصحابي.

فيقال: إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.

فأقول كما قال العبد الصالح عيسى بن مريم: { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 119. تفرد به دون مسلم من هذا الوجه.

وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان، سمعت الزهري يقول: أخبرني عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، سمع عمر يقول على المنبر، سمعت رسول الله يقول: « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله ».

وقال البخاري: حدثنا إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي قال: « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى.

وكان في بني إسرائيل رجل يقال له: جريج يصلي إذ جاءته أمه، فدعته فقال: أجيبها أو أصلي؟

فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات.

وكان جريج في صومعة فعرضت له امرأة وكلمته، فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها، فولدت غلاما.

فقيل لها: ممن؟

قالت: من جريج.

فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟

قال: فلان الراعي، قالوا: أنبني صومعتك من ذهب؟

قال: لا إلا من طين.

وكانت امرأة ترضع ابنا لها في بني إسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب.

فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه، قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي يمص أصبعه، ثم مر بأمه فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها

فقال: اللهم اجعلني مثلها.

فقالت: لم ذلك؟

فقال الراكب: جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون سرقت وزنت ولم تفعل ».

وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أبو سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: « أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي ». تفرد به البخاري من هذا الوجه.

ورواه ابن حبان في صحيحه، من حديث أبي داود الحفري، عن الثوري، عن أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان - هو الثوري - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « أنا أولى الناس بعيسى عليه السلام، والأنبياء اخوة أولاد علات، وليس بيني وبين عيسى نبي ». وهذا إسناد صحيح على شرطهما، ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة عن النبي بنحوه. وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الرزاق نحوه.

وقال أحمد: حدثنا يحيى، عن ابن أبي عروبة، حدثنا قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة عن النبي قال: « الأنبياء أخوة لعلات ودينهم واحد، وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، بين مخصرتين، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويعطل الملل، حتى يهلك في زمانه كلها غير الإسلام. ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعا، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا، فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يتوفى فيصلى عليه المسلمون ويدفنونه ». ثم رواه أحمد، عن عفان، عن همام، عن قتادة، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة فذكر نحوه، وقال: « فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون » و رواه أبو داود، عن هدبة بن خالد، عن همام بن يحيى به نحوه.

وروى هشام بن عروة، عن صالح مولى أبي هريرة عنه، أن رسول الله قال: « فيمكث في الأرض أربعين سنة ».

وسيأتي بيان نزوله عليه السلام في آخر الزمان في (كتاب الملاحم) كما بسطنا ذلك أيضا في التفسير عند قوله تعالى في سورة النساء: { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا } 120.

وقوله: { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ... } الآية 121.

وإنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق، وقد أقيمت صلاة الصبح فيقول له إمام المسلمين: تقدم يا روح الله فصل، فيقول: لا بعضكم على بعض أمراء، مكرمة الله هذه الأمة. وفي رواية: فيقول له عيسى إنما أقيمت الصلاة لك، فيصلي خلفه، ثم يركب ومعه المسلمون في طلب المسيح الدجال، فيلحقه عند باب لد، فيقتله بيده الكريمة.

وذكرنا أنه قوي الرجاء حين بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق، التي هي من حجارة بيض، وقد بنيت أيضا من أموال النصارى، حين حرقوا التي هدمت وما حولها، فينزل عليها عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، وأنه يحج من فج الروحاء حاجا أو معتمرا أو لثنتيهما، ويقيم أربعين سنة ثم يموت، فيدفن فيما قيل في الحجرة النبوية عند رسول الله وصاحبيه.

وقد ورد في ذلك حديث ذكره ابن عساكر في آخر ترجمة المسيح عليه السلام، في كتابه عن عائشة مرفوعا، أنه يدفن مع رسول الله ، وأبي بكر، وعمر، في الحجرة النبوية ولكن لا يصح إسناده.

وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا زيد بن أخزم الطائي، حدثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة، حدثني أبو مودود المدني، حدثنا عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى بن مريم عليهم السلام يدفن معه.

قال أبو مودود: وقد بقي من البيت موضع قبر، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن، كذا قال، والصواب: الضحاك بن عثمان المدني. وقال البخاري: هذا الحديث لا يصح عندي ولا يتابع عليه.

وروى البخاري عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان قال: الفترة ما بين عيسى ومحمد ستمائة سنة، وعن قتادة: خمسمائة وستون سنة، وقيل: خمسمائة وأربعون سنة.

وعن الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة، والمشهور: ستمائة سنة، ومنهم من يقول: ستمائة وعشرون سنة بالقمرية لتكون ستمائة بالشمسية، والله أعلم.

وقال ابن حبان في (صحيحه): ذكر المدة التي بقيت فيها أمة عيسى على هديه): حدثنا أبو يعلى، حدثنا أبو همام، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : « لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا بدلوا، ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتي سنة ». وهذا حديث غريب جدا، وإن صححه ابن حبان.

وذكر ابن جرير، عن محمد بن إسحاق أن عيسى عليه السلام قبل أن يرفع، وصى الحواريين بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وعين كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الأقاليم من الشام، والمشرق، وبلاد المغرب، فذكروا أنه أصبح كل إنسان منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم.

وذكر غير واحد أن الإنجيل نقله عنه أربعة: لوقا، ومتى، ومرقس، ويوحنا، وبين هذه الأناجيل الأربعة تفاوت كثير بالنسبة إلى كل نسخة ونسخة، وزيادات كثيرة، ونقص بالنسبة إلى الأخرى، وهؤلاء الأربعة منهم اثنان ممن أدرك المسيح ورآه، وهما: متى ويوحنا، ومنهم اثنين من أصحاب أصحابه، وهما: مرقس ولوقا.

وكان ممن آمن بالمسيح وصدقه من أهل دمشق رجل يقال له: ضينا، وكان مختفيا في مغارة داخل الباب الشرقي، قريبا من الكنيسة المصلبة، خوفا من بولس اليهودي، وكان ظالما غاشما مبغضا للمسيح، ولما جاء به وكان قد حلق رأس ابن أخيه حين آمن بالمسيح، وطاف به في البلد، ثم رجمه حتى مات، رحمه الله.

ولما سمع بولس أن المسيح عليه السلام قد توجه نحو دمشق، جهز بغاله، وخرج ليقتله، فتلقاه عند كوكبا، فلما واجه أصحاب المسيح، جاء إليه ملك فضرب وجهه بطرف جناحه فأعماه، فلما رأى ذلك وقع في نفسه تصديق المسيح، فجاء إليه واعتذر مما صنع وآمن به، فقبل منه وسأله أن يمسح عينيه ليرد الله عليه بصره.

فقال: اذهب إلى ضينا عندك بدمشق، في طرف السوق المستطيل من المشرق، فهو يدعو لك، فجاء إليه فدعا، فرد عليه بصره وحسن إيمان بولس بالمسيح عليه السلام: أنه عبد الله ورسوله، وبنيت له كنيسة باسمه فهي كنيسة بولس المشهورة بدمشق من زمن فتحها الصحابة رضي الله عنهم حتى خربت.

فصل اختلاف أصحاب المسيح في رفع عيسى إلى السماء.

اختلف أصحاب المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء فيه على أقوال: كما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف، كما أوردناه عند قوله: { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } 122.

قال ابن عباس وغيره، قال قائلون منهم: كان فينا عبد الله ورسوله فرفع إلى السماء.

وقال آخرون: هو الله، وقال آخرون: هو ابن الله، فالأول هو الحق، والقولان الآخران كفر عظيم كما قال: { فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } 123.

وقد اختلفوا في نقل الأناجيل على أربعة أقاويل: ما بين زيادة، ونقصان، وتحريف، وتبديل.

ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة حدثت فيه الطامة العظمى، والبلية الكبرى، اختلف البتاركة الأربعة، وجميع الأساقفة، والقساوسة، والشمامسة، والرهابين، في المسيح على أقوال متعددة، لا تنحصر ولا تنضبط.

واجتمعوا وتحاكموا إلى الملك قسطنطين باني القسطنطينية وهم المجمع الأول، فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات فسموا الملكية.

ودحض من عداهم وأبعدهم، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن اديوس، الذي ثبت على أن عيسى عبد من عباد الله ورسول من رسله فسكنوا البراري والبوادي، وبنوا الصوامع والديارات والقلايات، وقنعوا بالعيش الزهيد، ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل، وبنت الملكية الكنائس الهائلة، عمدوا إلى ما كان من بناء اليونان، فحولوا محاريبها إلى الشرق، وقد كانت إلى الشمال إلى الجدي.

بيان بناء بيت لحم والقمامة

وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح، وبنت أمه هيلانة القمامة يعني: على قبر المصلوب، وهم يسلمون لليهود أنه المسيح.

وقد كفرت هؤلاء وهؤلاء، ووضعوا القوانين والأحكام، ومنها: مخالف للعتيقة التي هي التوراة، وأحلوا أشياء هي حرام بنص التوراة، ومن ذلك الخنزير، وصلوا إلى الشرق، ولم يكن المسيح صلى إلا إلى صخرة بيت المقدس، وكذلك جميع الأنبياء بعد موسى، ومحمد خاتم النبيين صلى إليها بعد هجرته إلى المدينة ستة عشر، أو سبعة عشر شهرا، ثم حول إلى الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل.

وصوروا الكنائس ولم تكن مصورة قبل ذلك، ووضعوا العقيدة التي يحفظها أطفالهم، ونساؤهم، ورجالهم، التي يسمونها بالأمانة، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة، وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نسطورس، أهل المجمع الثاني، واليعقوبية أصحاب يعقوب البرادعي أصحاب المجمع الثالث، يعتقدون هذه العقيدة، ويختلفون في تفسيرها.

وها أنا أحكيها وحاكي الكفر ليس بكافر، لابث على ما فيها ركة الألفاظ، وكثرة الكفر، والخبال المفضي بصاحبه إلى النار ذات الشواظ، فيقولون:

نؤمن بإله واحد، ضابط الكل، خالق السموات والأرض، كل ما يرى وكل ما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح بن الله الوحيد، المولود من الأب، قبل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي كان به.

كل شيء من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي، وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب.

وأيضا فسيأتي بجسده ليدبر الأحياء والأموات، الذي لا فناء لملكه، وروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب مع الأب، والابن مسجود له، وبمجد الناطق في الأنبياء، كنسبة واحدة جامعة مقدسة يهولية، واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وأنه حي قيامة الموتى، وحياة الدهر العتيد كونه آمين.

كتاب أخبار الماضين من بني إسرائيل وغيرهم

من بني إسرائيل وغيرهم، إلى آخر زمن الفترة سوى أيام العرب وجاهليتهم، فإنا سنورد ذلك بعد فراغنا من هذا الفصل إن شاء الله تعالى.

قال الله تعالى: { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا } 124

وقال: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } 125.

خبر ذي القرنين

قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا * فَأَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْما قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابا نُكْرا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْما لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّا } .126.

ذكر الله تعالى ذا القرنين هذا، وأثنى عليه بالعدل، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وملك الأقاليم وقهر أهلها، وسار فيهم بالمعدلة التامة، والسلطان المؤيد، المظفر، المنصور، القاهر، المقسط، والصحيح: أنه كان ملكا من الملوك العادلين، وقيل: كان نبيا، وقيل: رسولا، وأغرب من قال: ملكا من الملائكة.

وقد حكى هذا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فإنه سمع رجلا يقول لآخر: يا ذا القرنين، فقال: مه ما كفاكم أن تتسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسميتم بأسماء الملائكة. ذكره السهيلي.

وقد روى وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: كان ذو القرنين نبيا.

وروى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي محمد بن أبي نصر، عن أبي إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن أبي ذؤيب، حدثنا محمد بن حماد، أنبأنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذؤيب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « لا أدري أتبع كان لعينا أم لا، ولا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا، ولا أدري ذو القرنين كان نبيا أم لا ». وهذا غريب من هذا الوجه.

وقال إسحاق بن بشر: عن عثمان بن الساج، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان ذو القرنين ملكا صالحا، رضي الله عمله، وأثنى عليه في كتابه، وكان منصورا، وكان الخضر وزيره، وذكر أن الخضر عليه السلام كان على مقدمة جيشه، وكان عنده بمنزلة المشاور، الذي هو من الملك بمنزلة الوزير في إصلاح الناس اليوم.

وقد ذكر الأزرقي وغيره أن ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل، وطاف معه بالكعبة المكرمة هو وإسماعيل عليه السلام.

وروى عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله وغيرهما، أن ذا القرنين حج ماشيا، وأن إبراهيم لما سمع بقدومه تلقاه، ودعا له ورضاه، وأن الله سخر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد، والله اعلم.

واختلفوا في السبب الذي سمى به ذا القرنين فقيل: لأنه كان له في رأسه شبه القرنين، قال وهب بن منبه: كان له قرنان من نحاس في رأسه، وهذا ضعيف.

وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس غربا وشرقا، وملك ما بينهما من الأرض، وهذا أشبه من غيره، وهو قول الزهري. وقال الحسن البصري: كانت له غديرتان من شعر يطافهما، فسمي ذي القرنين.

وقال إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه قال: دعا ملكا جبارا إلى الله فضربه على قرنه فكسره ورضه، ثم دعاه فدق قرنه الثاني فكسره، فسمي ذي القرنين.

وروى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين، فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر، فمات فسمي ذا القرنين.

وهكذا رواه شعبة القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي به. وفي بعض الروايات عن أبي الطفيل عن علي قال: لم يكن نبيا ولا رسولا ولا ملكا، ولكن كان عبدا صالحا.

وقد اختلف في اسمه: فروى الزبير بن بكار عن ابن عباس: كان اسمه عبد الله بن الضحاك بن معد، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قنان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن قحطان.

وقد جاء في حديث: أنه كان من حمير، وأمه رومية، وأنه كان يقال له ابن الفيلسوف لعقله. وقد أنشد بعض الحميريين في ذلك شعرا يفتخر بكونه أحد أجداده، فقال:

قد كان ذو القرنين جدي مسلما * ملكا تدين له الملوك وتحشد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي * أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد

من بعده بلقيس كانت عمتي * ملكتهم حتى أتاها الهدهد

قال السهيلي: وقيل: كان اسمه مرزبان بن مرزبة. ذكره ابن هشام. وذكر في موضع آخر أن اسمه الصعب بن ذي مرائد، وهو أول التبابعة، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع.

وقيل: إنه أفريدون بن أسفيان الذي قتل الضحاك، وفي خطبة قس: يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين، ملك الخافقين، وأذل الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان كلحظة عين، ثم أنشد ابن هشام للأعشى:

والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا * بالجنو في جدث أشم مقيما

وذكر الدارقطني، وابن ماكولا أن اسمه هرمس، ويقال: هرويس بن قيطون بن رومى بن لنطى بن كشلوخين بن يونان بن يافث بن نوح، فالله اعلم.

وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال اسكندر: هو ذو القرنين، وأبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام، فأما ذو القرنين الثاني فهو: اسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن يونة بن شرخون بن رومة بن شرفط بن توفيل بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه.

المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية، الذي يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، وكان أرطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا بن دارا، وأذل ملوك الفرس، وأوطأ أرضهم.

وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن، هو الذي كان أرطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول: كان عبدا مؤمنا صالحا وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا.

وأما الثاني: فكان مشركا، وكان وزيره فيلسوفا، وقد كان بين زمانهما أزيد من ألفي سنة، فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور.

فقوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } كان سببه أن قريشا سألوا اليهود عن شيء يمتحنون به علم سول الله ، فقالوا لهم: سلوه عن رجل طوَّاف في الأرض، وعن فتية خرجوا لا يدري ما فعلوا، فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، ولهذا قال: { قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا } أي: من خبره وشأنه.

{ ذِكْرا } أي: خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره، وشرح حاله، فقال: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } أي: وسعنا مملكته في البلاد، وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة، والمقاصد الجسيمة.

قال قتيبة: عن أبي عوانة، عن سماك، عن حبيب بن حماد، قال: كنت عند علي بن أبي طالب، وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟

فقال له: سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل و النهار عليه سواء.

وقال: أزيدك، فسكت الرجل، وسكت علي رضي الله عنه.

وعن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن عبد الله الوادعي، سمعت معاوية يقول: ملك الأرض أربعة: سليمان بن داود النبي عليهما السلام، وذو القرنين، ورجل من أهل حلوان، ورجل آخر.

فقيل له الخضر؟

قال: لا.

وقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن الضحاك، عن أبيه، عن سفيان الثوري قال: بلغني أنه ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، سليمان النبي، وذو القرنين، و نمرود، وبخت نصر. وهكذا قال سعيد بن بشير سواء.

وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: كان ذو القرنين ملك بعد النمرود، وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا، أتى المشرق والمغرب، مدَّ الله له في الأجل، ونصره حتى قهر البلاد، واحتوى على الأموال، وفتح المدائن، وقتل الرجال، وجال في البلاد والقلاع، فسار حتى أتى المشرق والمغرب.

فذلك قول الله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا } أي: خبرا { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } أي: علما بطلب أسباب المنازل.

قال إسحاق: وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز، فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه وإلا قتله.

وقال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعبيد بن يعلى، والسدي، وقتادة، والضحاك: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } يعني: علما.

وقال قتادة ومطر الوراق: معالم الأرض ومنازلها وأعلامها وآثارها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني تعليم الألسنة، كان لا يغزو قوما إلا حدثهم بلغتهم.

والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها، فإنه كان يأخذ من كل إقليم من الأمتعة والمطاعم والزاد ما يكفيه، ويعينه على أهل الإقليم الآخر.

وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث ألفا وستمائة سنة، يجوب الأرض ويدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي كل هذه المدة نظر، والله أعلم.

وقد روى البيهقي، وابن عساكر حديثا متعلقا بقوله: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } مطولا جدا، وهو منكر جدا، وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي، وهو متهم، فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا، والله أعلم.

وقوله: { فَأَتْبَعَ سَبَبا } أي: طريقا { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } يعني من الأرض انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس، الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال على أحد قولي أرباب الهيئة، والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا، وعنده شاهد مغيب الشمس فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته.

{ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } والمراد بها: البحر في نظره، فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه، ولهذا قال: { وَجَدَهَا } أي: في نظره، ولم يقل: فإذا هي تغرب في عين حمئة أي: ذات حمأة.

قال كعب الأحبار: وهو الطين الأسود، وقرأه بعضهم: حامية، فقيل: يرجع إلى الأول، وقيل: من الحرارة، وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها.

وقد روى الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب: حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال: نظر رسول الله إلى الشمس حين غابت فقال: « في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض ».

فيه غرابة، وفيه رجل مبهم لم يسم، ورفعه فيه نظر، وقد يكون موقوفا من كلام عبد الله بن عمرو، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين، فكان يحدث منها، والله أعلم.

ومن زعم من القصَّاص أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس، وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة، فقد أخطأوا بعد النجعة، وقال ما يخالف العقل والنقل.

بيان طلب ذي القرنين عين الحياة

وقد ذكر ابن عساكر من طريق وكيع، عن أبيه، عن معتمر بن سليمان، عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه زين العابدين خبرا مطولا جدا فيه: أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له رناقيل، فسأله ذو القرنين هل تعلم في الأرض عينا يقال لها عين الحياة؟

فذكر له صفة مكانها، فذهب ذو القرنين في طلبها، وجعل الخضر على مقدمته، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات، فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين إليها.

وذكر اجتماع ذي القرنين ببعض الملائكة في قصر هناك، وأنه أعطاه حجرا، فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه، فوضعوه في كفة ميزان وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها، حتى سأل الخضر فوضع قباله حجرا وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به.

وقال: هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى بالتراب، فسجد له العلماء تكريما له وإعظاما، والله أعلم.

ثم ذكر تعالى أنه حكم في أهل تلك الناحية: { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابا نُكْرا } 127 أي: فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة، وبدأ بعذاب الدنيا لأنه أزجر عند الكافر.

{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرا } 128 فبدأ بالأهم وهو ثواب الآخرة، وعطف عليه الإحسان منه إليه، وهذا هو العدل والعلم والإيمان.

قال الله تعالى: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا } أي: سلك طريقا راجعا من المغرب إلى المشرق، فيقال: إنه رجع في ثنتي عشر سنة { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرا }

أي: ليس لهم بيوت ولا أكنان يستترون بها من حر الشمس، قال كثير من العلماء: ولكن كانوا يأوون إذا اشتد عليهم الحر إلى أسراب قد اتخذوها في الأرض شبه القبور.

قال الله تعالى: { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرا } أي: ونحن نعلم ما هو عليه ونحفظه ونكلؤه بحراستنا في مسيره ذلك كله من مغارب الأرض إلى مشارقها.

وقد روي عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله، وغيرهما من السلف: أن ذا القرنين حج ماشيا، فلما سمع إبراهيم الخليل بقدومه تلقاه، فلما اجتمعا دعا له الخليل ووصاه بوصايا، ويقال: إنه جيء بفرس ليركبها فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل، فسخر الله له السحاب وبشره إبراهيم بذلك، فكانت تحمله إذا أراد.

وقوله تعالى: { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْما لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } 129 يعني غشما. يقال: إنهم هم الترك أبناء عم يأجوج ومأجوج. فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم، وقطعوا السبل عليهم، وبذلوا له حملا وهو الخراج، على أن يقيم بينهم وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إليهم، فامتنع من أخذ الخراج اكتفاء بما أعطاه الله من الأموال الجزيلة.

{ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالا وآلات ليبني بينهم وبينهم سدا، وهو الردم بين الجبلين وكانوا لا يستطيعون الخروج إليهم إلا من بينهما، وبقية ذلك بحار مغرقة وجبال شاهقة، فبناه كما قال تعالى من الحديد والقطر وهو النحاس المذاب، وقيل: الرصاص. والصحيح: الأول.

فجعل بدل اللبن حديدا، وبدل الطين نحاسا، ولهذا قال تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } أي: يعلوا عليه بسلالم ولا غيرها { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } أي: بمعاول ولا فؤوس ولا غيرها. فقابل الأسهل بالأسهل والأشد بالأشد.

{ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي: قدر الله وجوده ليكون رحمة منه بعباده أن يمنع بسببه عدوان هؤلاء القوم على من جاورهم في تلك المحلة.

{ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } أي: الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي: مساويا للأرض ولا بد من كون هذا. ولهذا قال: { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّا } .

كما قال تعالى: { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ... } الآية 130.

ولهذا قال ههنا: { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } يعني: يوم فتح السد على الصحيح.

{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعا } وقد أوردنا الأحاديث المروية في خروج يأجوج ومأجوج في التفسير، وسنوردها إن شاء الله في كتاب الفتن والملاحم من كتابنا هذا إذا انتهينا إليه، بحول الله وقوته وحسن توفيقه ومعونته وهدايته.

قال أبو داود الطيالسي، عن الثوري: بلغنا أن أول من صافح ذو القرنين، وروي عن كعب الأحبار أنه قال لمعاوية: إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه إذا هو مات أن تصنع طعاما وتجمع نساء أهل المدينة، وتضعه بين أيديهن، وتأذن لهن فيه إلا من كانت ثكلى فلا تأكل منه شيئا، فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه، فقالت لهن: سبحان الله كلكن ثكلى؟ فقلن: إي والله، ما منا إلا من أثكلت، فكان ذلك تسلية لأمه.

وذكر إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد، عن بعض أهل الكتاب وصية ذي القرنين وموعظة أمه موعظة بليغة طويلة فيها حكم وأمور نافعة، وأنه مات وعمره ثلاثة آلاف سنة، وهذا غريب.

قال ابن عساكر: وبلغني من وجه آخر أنه عاش ستا وثلاثين سنة.

وقيل: كان عمره ثنتين وثلاثين سنة، وكان بعد داود بسبعمائة سنة وأربعين سنة، وكان بعد آدم بخمسة آلاف ومائة وإحدى وثمانين سنة، وكان ملكه ست عشرة سنة.

وهذا الذي ذكره إنما ينطبق على إسكندر الثاني لا الأول، وقد خلط في أول الترجمة وآخرها بينهما، والصواب التفرقة كما ذكرنا اقتداء بجماعة من الحفاظ، والله أعلم.

وممن جعلهما واحدا الإمام عبد الملك بن هشام راوي السيرة، وقد أنكر ذلك عليه الحافظ أبو القاسم السهيلي رحمه الله إنكارا بليغا، ورد قوله ردا شنيعا، وفرق بينهما تفريقا جيدا كما قدمنا قال: ولعل جماعة من الملوك المتقدمين تسموا بذي القرنين تشبها بالأول، والله أعلم.

ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم

ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم وما ورد من أخبارهم وصفة السد

هم من ذرية آدم بلا خلاف نعلمه، ثم الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله :

« يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم، فيقول لبيك وسعديك والخبر في يديك، قم فابعث بعث النار من ذريتك.

فيقول: يا رب وما بعث النار؟

فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

قال فاشتد ذلك عليهم.

قالوا: يا رسول الله: أينا ذلك الواحد؟

فقال رسول الله : أبشروا فإن منكم واحدا، ومن يأجوج ومأجوج ألفا }

وفي رواية:

« فقال ابشروا فإن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه ». أي: غلبتاه كثرة، وهذا يدل على كثرتهم، وأنهم أضعاف الناس مرارا عديدة، ثم هم من ذرية نوح، لأن الله تعالى أخبر أنه استجاب لعبده نوح في دعائه على أهل الأرض بقوله: { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارا } 131.

وقال تعالى: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } 132.

وقال: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } 133.

وتقدم في الحديث المروي في المسند والسنن: أن نوحا ولد له ثلاثة، وهم: سام، وحام، ويافث، فسام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك ؛ فيأجوج ومأجوج طائفة من الترك، وهم مغل المغول، وهم أشد بأسا وأكثر فسادا من هؤلاء، ونسبتهم إليهم كنسبة هؤلاء إلى غيرهم.

وقد قيل: إن الترك إنما سموا بذلك حين بنى ذو القرنين السد وألجأ يأجوج ومأجوج إلى ما وراءه، فبقيت منهم طائفة لم يكن عندهم كفسادهم، فتركوا من ورائه، فلهذا قيل لهم: الترك.

ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطت بتراب، فخلقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النووي في شرح مسلم وغيره وضعفوه، وهو جدير بذلك، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن.

وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدا ؛ فمنهم من هو كالنخلة السحوق، ومنهم من هو غاية في القصر، ومنهم من يفترش أذنا من أذنيه ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل، ورجم بالغيب بغير برهان، والصحيح أنهم من بني آدم وعلى أشكالهم وصفاتهم.

وقد قال النبي :

« إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا » ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن.

وهذا فيصل في هذا الباب وغيره. وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفا.

فإن صح في خبر قلنا به، وإلا فلا نرده، إذ يحتمله العقل والنقل أيضا قد يرشد إليه، والله أعلم.

بل قد ورد حديث مصرح بذلك أن صح، قال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة، عن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي قال:

« إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معائشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا، وإن من وارئهم ثلاث أمم: تاويل، وتاريس، ومنسك ».

وهو حديث غريب جدا، وإسناده ضعيف، وفيه نكارة شديدة.

وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في تاريخه أن رسول الله ذهب إليهم ليلة الإسراء، فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته، وأنه دعا تلك الأمم التي هناك (تاريس، وتاويل، ومنسك) فأجابوه، فهو حديث موضوع، اختلقه أبو نعيم عمرو بن الصبح، أحد الكذابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث، والله أعلم.

فإن قيل: فكيف دلَّ الحديث المتفق عليه أنهم فداء المؤمنين يوم القيامة، وأنهم في النار ولم يبعث إليهم رسل، وقد قال الله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } فالجواب أنهم لا يعذبون إلا بعد قيام الحجة عليهم والأعذار إليهم، كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } 134.

فإن كانوا في زمن الذي قبل بعث محمد قد أتتهم رسل منهم، فقد قامت على أولئك الحجة، وإن لم يكن قد بعث الله إليهم رسلا فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة.

وقد دل الحديث المروي من طرق عن جماعة من الصحابة، عن رسول الله :

« إن من كان كذلك، يمتحن في عرصات القيامة، فمن أجاب الداعي دخل الجنة، ومن أبى دخل النار ».

وقد أوردنا الحديث بطرق وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } .

وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعا عن أهل السنة والجماعة، وامتحانهم لا يقتضي نجاتهم، ولا ينافي الأخبار عنهم بأنهم من أهل النار، لأن الله يطلع رسوله على ما يشاء من أمر الغيب.

وقد اطلعه على أن هؤلاء من أهل الشقاء، وأن سجاياهم تأبى قبول الحق والانقياد له، فهم لا يجيبون الداعي إلى يوم القيامة، فيعلم من هذا أنهم كانوا أشد تكذيبا للحق في الدنيا لو بلغهم فيها، لأن في عرصات القيامة ينقاد خلق ممن كان مكذبا في الدنيا، فإيقاع الإيمان هناك لما يشاهد من الأهوال أولى وأحرى منه في الدنيا، والله أعلم.

كما قال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحا إِنَّا مُوقِنُونَ } 135.

وقال تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } 136.

وأما الحديث الذي فيه أن رسول الله  » « دعاهم ليلة الإسراء فلم يجيبوا ».

فإنه حديث منكر بل موضوع، وضعه عمرو بن الصبح.

وأما السد: فقد تقدم أن ذا القرنين بناه من الحديد والنحاس، وساوى به الجبال الصم الشامخات الطوال، فلا يعرف على وجه الأرض بناء أجل منه ولا أنفع للخلق منه في أمر دنياهم.

قال البخاري: وقال رجل للنبي رأيت السد.

قال: « وكيف رأيته؟ »

قال: مثل البرد المحبر.

فقال: « رأيته هكذا ».

ذكره البخاري معلقا بصيغة الجزم، وأره مسندا من وجه متصل أرتضيه، غير أن ابن جرير رواه في تفسيره مرسلا فقال: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج.

قال: « انعته لي ».

قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء.

قال: « قد رأيته ».

وقد ذكر أن الخليفة الواثق بعث رسلا من جهته، وكتب لهم كتبا إلى الملوك يوصلونهم من بلاد إلى بلاد حتى ينهوا إلى السد، فيكشفوا عن خبره، وينظروا كيف بناه ذو القرنين، على أي صفة؟ فلما رجعوا أخبروا عن صفته، وأن فيه بابا عظيما، وعليه أقفال، وأنه بناء محكم شاهق منيف جدا، وأن بقية اللبن الحديد والآلات في برج هناك.

وذكروا أنه لا يزال هناك حرس لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد، ومحلته في شرقي الأرض في جهة الشمال في زاوية الأرض الشرقية الشمالية، ويقال: إن بلادهم متسعة جدا، وإنهم يقتاتون بأصناف من المعايش من حراثة وزراعة واصطياد من البر ومن البحر، وهم أمم وخلق لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم.

فإن قيل: فما الجمع بين قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } وبين الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله من نوم محمرا وجهه وهو يقول:

« لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ».

وحلق، تسعين.

قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟

قال: « نعم إذا كثر الخبث ».

وأخرجاه في (الصحيحين): من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وعقد تسعين ».

فالجواب أما على قول من ذهب إلى أن هذا إشارة إلى فتح أبواب الشر والفتن، وأن هذا استعارة محضة، وضرب مثل فلا إشكال.

وأما على قول من جعل ذلك إخبارا عن أمر محسوس كما هو الظاهر المتبادر فلا إشكال أيضا، لأن قوله: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } .

أي: في ذلك الزمان لأن هذه صيغة خبر ماض، فلا ينفي وقوعه فيما يستقبل بإذن الله لهم في ذلك قدرا، وتسليطهم عليه بالتدريج قليلا قليلا، حتى يتم الأجل وينقضي الأمر المقدور، فيخرجون كما قال الله تعالى: { وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } 137.

ولكن الحديث الآخر أشكل من هذا، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده قائلا: حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله قال:

« إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرون غدا إن شاء الله ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئة يوم تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس، فيستقون المياه، وتتحصن الناس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم.

فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها ».

قال رسول الله :

« والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم ».

ورواه أحمد أيضا عن حسن بن موسى، عن سفيان، عن قتادة به. وهكذا رواه ابن ماجه من حديث سعيد، عن قتادة، إلا أنه قال حديث أبو رافع.

ورواه الترمذي من حديث أبي عوانة، عن قتادة به، ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

فقد أخبر في هذا الحديث أنهم كل يوم يلحسونه حتى يكادوا ينذرون شعاع الشمس من ورائه لرقته، فإن لم يكن رفع هذا الحديث محفوظا، وإنما هو مأخوذ عن كعب الأحبار، كما قاله بعضهم، فقد استرحنا من المؤنة، وإن كان محفوظا، فيكون محمولا على أن صنيعهم هذا يكون في آخر الزمان عند اقتراب خروجهم كما هو المروي عن كعب الأحبار.

أو يكون المراد بقوله: { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا } أي: نافذا منه فلا ينفي أن يلحسوه ولا ينفذوه، والله أعلم.

وعلى هذا فيمكن الجمع بين هذا وبين ما في (الصحيحين) عن أبي هريرة:

« فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد تسعين ».

أي: فتح فتحا نافذا فيه، والله أعلم.

قصة أصحاب الكهف

قال الله تعالى: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَها لَقَدْ قُلْنَا إِذا شَطَطا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْما أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذا أَبَدا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا * سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْما بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدا * وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا } 138.

كان سبب نزول قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين، ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن قريشا بعثوا إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله ويسألونه عنها ليختبروا ما يجيب به فيها، فقالوا: سلوه عن أقوام ذهبوا في الدهر فلا يدري ما صنعوا، وعن رجل طواف في الأرض، وعن الروح، فأنزل الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } 139.

{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } وقال ههنا: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبا } أي: ليسوا بعجب عظيم بالنسبة إلى ما أطلعناك عليه من الأخبار العظيمة، والآيات الباهرة، والعجائب الغريبة. والكهف: هو الغار في الجبل.

قال شعيب الجبائي: واسم كهفهم حيزم، وأما الرقيم: فعن ابن عباس أنه قال لا أدري ما المراد به. وقيل: هو الكتاب المرقوم فيه أسماؤهم، وما جرى لهم كتب من بعدهم، اختاره ابن جرير وغيره. وقيل: هو اسم الجبل الذي فيه كهفهم. قال ابن عباس وشعيب الجبائي: واسمه بناجلوس. وقيل: هو اسم واد عند كهفهم. وقيل: اسم قرية هنالك، والله أعلم.

قال شعيب الجبائي: واسم كلبهم حمران، واعتناء اليهود بأمرهم ومعرفة خبرهم، يدل على أن زمانهم متقدم على ما ذكره بعض المفسرين أنهم كانوا بعد المسيح، وأنهم كانوا نصارى.

والظاهر من السياق أن قومهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام، قال كثير من المفسرين والمؤرخين وغيرهم: كانوا في زمن ملك يقال له: دقيانوس، وكانوا من أبناء الأكابر. وقيل: من أبناء الملوك.

واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم، فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام، والتعظيم للأوثان، فنظروا بعين البصيرة، وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة، وألهمهم رشدهم، فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء، فخرجوا عن دينهم، وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

ويقال: إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه إليه من التوحيد انحاز عن الناس، واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في مكان واحد كما صح في (البخاري):

« الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف »

فكل منهم سأل الآخر عن أمره، وعن شأنه، فأخبره ما هو عليه، واتفقوا على الانحياز عن قومهم والتبري منهم، والخروج من بين أظهرهم، والفرار بدينهم منهم، وهو المشروع حال الفتن، وظهور الشرور.

قال الله تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَها لَقَدْ قُلْنَا إِذا شَطَطا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي: بدليل ظاهر على ما ذهبوا إليه، وصاروا من الأمر عليه، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبا } .

{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ } أي: وإذ فارقتموهم في دينهم، وتبرأتم مما يعبدون من دون الله، وذلك لأنهم كانوا يشركون مع الله كما قال الخليل: { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } 140.

وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم: إذ قد فارقتم قومكم في دينهم فاعتزلوهم بابدانكم، لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شرا { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقا } أي: يسبل عليكم ستره، وتكونوا تحت حفظه وكنفه، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، كما جاء في الحديث:

« اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ».

ثم ذكر تعالى صفة الغار الذي آووا إليه، وأن بابه موجه إلى نحو الشمال، وأعماقه إلى جهة القبلة، وذلك أنفع الأماكن أن يكون المكان قبليا، وبابه نحو الشمال فقال: { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ } وقرىء: تزور { عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } .

فأخبر أن الشمس يعني في زمن الصيف وأشباهه تشرق أول طلوعها في الغار في جانبه الغربي، ثم تشرع في الخروج منه قليلا قليلا، وهو ازورارها ذات اليمين، فترتفع في جو السماء وتتقلص عن باب الغار، ثم إذا تضيفت للغروب تشرع في الدخول فيه، من جهته الشرقية قليلا قليلا إلى حين الغروب، كما هو المشاهد بمثل هذا المكان. والحكمة في دخول الشمس إليه في بعض الأحيان أن لا يفسد هواؤه.

{ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } أي: بقاؤهم على هذه الصفة دهرا طويلا من السنين، لا يأكلون ولا يشربون، ولا تتغذى أجسادهم في هذه المدة الطويلة من آيات الله، وبرهان قدرته العظيمة.

{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدا } قال بعضهم: لأن أعينهم مفتوحة لئلا تفسد بطول الغمض { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قيل في كل عام يتحولون مرة من جنب إلى جنب، ويحتمل أكثر من ذلك، فالله أعلم.

{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قال شعيب الجبائي: اسم كلبهم حمران، وقال غيره: الوصيد، اسكفة الباب، والمراد أن كلبهم الذي كان معهم، وصحبهم حال انفرادهم من قومهم، لزمهم ولم يدخل معهم في الكهف، بل ربض على بابه، ووضع يديه على الوصيد، وهذا من جملة أدبه، ومن جملة ما أكرموا به، فإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب.

ولما كانت التبعية مؤثرة حتى كان في كلب هؤلاء صار باقيا معهم ببقائهم، لأن من أحب قوما سعد بهم، فإذا كان هذا في حق كلب، فما ظنك بمن تبع أهل الخير وهو أهل للإكرام.

وقد ذكر كثير من القصاص والمفسرين لهذا الكلب نبأ وخبرا طويلا أكثره متلقى من الإسرائيليات، وكثير منها كذب، ومما لا فائدة فيه، كاختلافهم في اسمه ولونه.

وأما اختلاف العلماء في محلة هذا الكهف، فقال كثيرون: هو بأرض أيلة، وقيل: بأرض نينوى، وقيل: بالبلقاء، وقيل: ببلاد الروم وهو أشبه، والله أعلم.

ولما ذكر الله تعالى ما هو الأنفع من خبرهم، والأهم من أمرهم، ووصف حالهم، حتى كأن السامع راءٍ، والمخبر مشاهد لصفة كهفهم وكيفيتهم في ذلك الكهف، وتقلبهم من جنب إلى جنب، وأن كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.

قال: { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا } أي: لما عليهم من المهابة والجلالة في أمرهم الذي صاروا إليه، ولعل الخطاب ههنا لجنس الإنسان المخاطب لا بخصوصية الرسول ، كقوله: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } 141 أي: أيها الإنسان، وذلك لأن طبيعة البشرية تفر من رؤية الأشياء المهيبة غالبا.

ولهذا قال: { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا } ودل على أن الخبر ليس كالمعاينة، كما جاء في الحديث لأن الخبر قد حصل، ولم يحصل الفرار ولا الرعب.

ثم ذكر تعالى أنه بعثهم من رقدتهم بعد نومهم بثلاثمائة سنة وتسع سنين فلما استيقظوا، قال بعضهم لبعض: { كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْما أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ } أي: بدراهمكم هذه، يعني التي معهم إلى المدينة، ويقال كان اسمها دفسوس.

{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاما } أي: أطيب مالا { فليأتكم برزق منه } أي: بطعام تأكلونه، وهذا من زهدهم وورعهم { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي: في دخوله إليها { وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذا أَبَدا } أي: إن عدتم في ملتهم بعد إذ أنقذكم الله منها، وهذا كله لظنهم أنهم رقدوا يوما أو بعض يوم أو أكثر من ذلك، ولم يحسبوا أنهم قد رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة.

وقد تبدلت الدول أطوارا عديدة وتغيرت البلاد ومن عليها، وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم، وجاء غيرهم، وذهبوا وجاء غيرهم، ولهذا لما خرج أحدهم وهو تيذوسيس فيما قيل، وجاء إلى المدينة متنكرا لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه، تنكرت له البلاد، واستنكره من يراه من أهلها، واستغربوا شكله وصفته ودراهمه.

فيقال: إنهم حملوه إلى متوليهم، وخافوا من أمره أن يكون جاسوسا، أو تكون له صولة يخشون من مضرتها، فيقال: إنه هرب منهم، ويقال: بل أخبرهم خبره ومن معه وما كان من أمرهم، فانطلقوا معه ليريهم مكانهم، فلما قربوا من الكهف دخل إلى إخوانه، فأخبرهم حقيقة أمرهم، ومقدار ما رقدوا، فعلموا أن هذا أمر قدره الله، فيقال: إنهم استمروا راقدين، ويقال: بل ماتوا بعد ذلك.

وأما أهل البلدة فيقال: إنهم لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار، وعمي الله عليهم أمرهم، ويقال: لم يستطيعوا دخوله حسا، ويقال: مهابة لهم.

واختلفوا في أمرهم فقائلون يقولون: { ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانا } أي: سدوا عليهم باب الكهف لئلا يخرجوا أو لئلا يصل إليهم ما يؤذيهم، وآخرون وهم الغالبون على أمرهم قالوا: { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدا } أي: معبدا يكون مباركا لمجاورته هؤلاء الصالحين، وهذا كان شائعا فيمن كان قبلنا.

فأما في شرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله أنه قال:

« لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » يحذر ما فعلوا.

وأما قوله: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا } فمعنى أعثرنا: أطلعنا على أمرهم الناس، قال كثير من المفسرين: ليعلم الناس أن المعاد حق، وأن الساعة لا ريب فيها، إذا علموا أن هؤلاء القوم رقدوا أزيد من ثلاثمائة سنة، ثم قاموا كما كانوا من غير تغير منهم، فإن من أبقاهم كما هم، قادر على إعادة الأبدان وإن أكلتها الديدان، وعلى إحياء الأموات وإن صارت أجسامهم وعظامهم رفاتا، وهذا مما لا يشك فيه المؤمنون { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 142.

ويحتمل عود الضمير في قوله: { لِيَعْلَمُوا } إلى أصحاب الكهف، إذ علمهم بذلك من أنفسهم أبلغ من علم غيرهم بهم، ويحتمل أن يعود على الجميع، والله أعلم.

ثم قال تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْما بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } فذكر اختلاف الناس في كميتهم، فحكى ثلاثة أقوال، وضعف الأولين، وقرر الثالث، فدل على أنه الحق، إذ لو قيل غير ذلك لحكاه، ولو لم يكن هذا الثالث هو الصحيح لوهاه، فدل على ما قلناه.

ولما كان النزاع في مثل هذا لا طائل تحته ولا جدوى عنده، أرشد نبيه إلى الأدب في مثل هذا الحال، إذا اختلف الناس فيه أن يقول الله أعلم، ولهذا قال: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } وقوله: { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ } أي: من الناس { فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرا } أي: سهلا ولا تتكلف أعمال الجدال في مثل هذا الحال ولا تستفت في أمرهم أحدا من الرجال.

ولهذا أبهم تعالى عدتهم في أول القصة فقال: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } ولو كان في تعين عدتهم كبير فائدة لذكرها عالم الغيب والشهادة، وقوله تعالى: { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا } .

أدب عظيم أرشده الله تعالى إليه وحث خلقه عليه، وهو ما إذا قال أحدهم إني سأفعل في المستقبل كذا، فيشرع له أن يقول إن شاء الله، ليكون ذلك تحقيقا لعزمه، لأن العبد لا يعلم ما في غد ولا يدري أهذا الذي عزم عليه مقدر أم لا.

وليس هذا الاستثناء تعليقا وإنما هو الحقيقي، ولهذا قال ابن عباس: يصح إلى سنة، ولكن قد يكون في بعض المحال لهذا، ولهذا كما تقدم في قصة سليمان عليه السلام حين قال:

« لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله.

فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان قال رسول الله : والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته ».

وقوله: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } وذلك لأن النسيان قد يكون من الشيطان، فذكر الله يطرده عن القلب فيذكر ما كان قد نسيه.

وقوله: { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدا } أي: إذا اشتبه أمر وأشكل حال والتبس أقوال الناس في شيء فارغب إلى الله ييسره لك ويسهله عليك. ثم قال: { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعا } لما كان في الأخبار بطول مدة لبثهم فائدة عظيمة ذكرها تعالى وهذه التسع المزيدة بالقمرية وهي لتكميل ثلاثمائة شمسية، فإن كل مائة قمرية تنقص عن الشمسية ثلاث سنين.

{ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } أي: إذا سئلت عن مثل هذا وليس عندك في ذلك نقل، فرد الأمر في ذلك إلى الله عز وجل { لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: هو العالم بالغيب فلا يطلع عليه إلا من شاء من خلقه { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } يعني أنه يضع الأشياء في محالها لعلمه التام بخلقه وبما يستحقونه.

ثم قال: { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا } أي: ربك المنفرد بالملك والمتصرف وحده لا شريك له.

قصة الرجلين المؤمن والكافر

قال الله تعالى في سورة الكهف بعد قصة أهل الكهف:

{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرا مِنْهَا مُنْقَلَبا } { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابا وَخَيْرٌ عُقْبا } 143.

قال بعض الناس: هذا مثل مضروب ولا يلزم أن يكون واقعا، والجمهور أنه أمر قد وقع. وقوله: { واضرب لهم مثلا } يعني: لكفار قريش في عدم اجتماعهم بالضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم، وافتخارهم عليهم كما قال تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ } 144.

كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة موسى عليه السلام، والمشهور أن هذين كانا رجلين مصطحبين وكان أحدهما مؤمنا والآخر كافرا، ويقال إنه كان لكل منهما مال فأنفق المؤمن ماله في طاعة الله ومرضاته ابتغاء وجهه.

وأما الكافر فإنه اتخذ له بساتين وهما الجنتان المذكورتان في الآية على الصفة والنعت المذكور، فيهما أعناب ونخيل تحف تلك الأعناب والزروع في ذلك، والأنهار سارحة ههنا وههنا للسقي والتنزه، وقد استوثقت فيهما الثمار واضطربت فيهما الأنهار، وابتهجت الزروع والثمار، وافتخر مالكهما على صاحبه المؤمن الفقير قائلا له: { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرا } أي: أوسع جنانا، ومراده أنه خير منه ومعناه ماذا أغنى عنك إنفاقك ما كنت تملكه في الوجه الذي صرفته فيه، كان الأولى بك أن تفعل كما فعلت لتكون مثلي، فافتخر على صاحبه.

{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أي: وهو على غير طريقة مرضية { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدا } وذلك لما رأى من اتساع أرضها، وكثرة مائها، وحسن نبات أشجارها، ولو قد بادت كل واحدة من هذه الأشجار لاستخلف مكانها أحسن منها وزروعها دارة لكثرة مياهها.

ثم قال: { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } فوثق بزهرة الحياة الدنيا الفانية، وكذب بوجود الآخرة الباقية الدائمة، ثم قال: { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرا مِنْهَا مُنْقَلَبا } أي: ولئن كان ثم آخرة ومعاد، فلأجدن هناك خيرا من هذا وذلك، لأنه اغتر بدنياه واعتقد أن الله لم يعطه ذلك فيها إلا لحبه له وحظوته عنده.

كما قال العاص بن وائل فيما قص الله من خبره، وخبر خباب بن الأرت في قوله: { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدا } 145.

وقال تعالى إخبارا عن الإنسان إذا أنعم الله عليه: {... لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } 146.

قال الله تعالى: { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } .

وقال قارون: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } أي: لعلم الله بي أني أستحقه.

قال الله تعالى: { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } 147 وقد قدمنا الكلام على قصته في أثناء قصة موسى.

وقال تعالى: { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } 148.

وقال تعالى: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ } 149.

ولما اغتر هذا الجاهل بما خول به في الدنيا، فجحد الآخرة وادعى أنها إن وجدت ليجدن عند ربه خيرا مما هو فيه، وسمعه صاحبه يقول ذلك قال له: { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي: يجادله { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا } أي: أجحدت المعاد وأنت تعلم أن الله خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم صورك أطوارا حتى صرت رجلا سويا سميعا بصيرا تعلم وتبطش وتفهم، فكيف أنكرت المعاد والله قادر على البداءة؟

{ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي } أي: لكن أنا أقول بخلاف ما قلت وأعتقد خلاف معتقدك.

{ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدا } أي: لا أعبد سواه، وأعتقد أنه يبعث الأجساد بعد فنائها، ويعيد الأموات، ويجمع العظام الرفات، وأعلم أن الله لا شريك له في خلقه ولا في ملكه ولا إله غيره، ثم أرشده إلى ما كان الأولى به أن يسلكه عند دخول جنته فقال: { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } ولهذا يستحب لكل من أعجبه شيء من ماله أو أهله أو حاله أن يقول كذلك.

وقد ورد فيه حديث مرفوع في صحته نظر.

قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا جراح بن مخلد، حدثنا عمرو بن يوسف، حدثنا عيسى بن عون، حدثنا عبد الملك بن زرارة، عن أنس قال: قال رسول الله : « ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله ».

فيرى فيه أنه دون الموت، وكان يتأول هذه الآية { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } .

قال الحافظ أبو الفتح الأزدي عيسى بن عون، عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس لا يصح.

ثم قال المؤمن للكافر: { فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرا مِنْ جَنَّتِكَ } أي: في الدار الآخرة ويرسل عليها حسبانا من السماء.

قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة: أي عذابا من السماء، والظاهر أنه المطر المزعج الباهر الذي يقتلع زروعها وأشجارها { فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا } وهو التراب الأملس الذي لا نبات فيه، { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرا } وهو ضد المعين السارح { فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبا } يعني: فلا تقدر على استرجاعه.

قال الله تعالى: { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أي: جاءه أمر أحاط بجميع حواصله، وخرب جنته ودمرها { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } أي: خربت بالكلية فلا عودة لها، وذلك ضد ما كان عليه أمل حيث قال: { مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدا } وندم على ما كان سلف منه من القول الذي كفر بسببه بالله العظيم فهو يقول: { يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدا } .

قال الله تعالى: { وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرا * هُنَالِكَ } أي: لم يكن أحد يتدارك ما فرط من أمره وما كان له قدرة في نفسه على شيء من ذلك كما قال تعالى: { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ } 150.

وقوله: { الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } ومنهم من يبتدئ بقوله { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } وهو حسن أيضا لقوله: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْما عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرا } 151..

فالحكم الذي لا يرد ولا يمانع ولا يغالب في تلك الحال، وفي كل حال لله الحق. ومنهم من رفع الحق جعله صفة للولاية وهما متلازمتان.

وقوله: { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابا وَخَيْرٌ عُقْبا } أي: معاملته خير لصاحبها ثوابا وهو الجزاء، { وَخَيْرٌ عُقْبا } وهو العاقبة في الدنيا والآخرة.

وهذه القصة تضمنت أنه لا ينبغي لأحد أن يركن إلى الحياة الدنيا ولا يغتر بها، ولا يثق بها، بل يجعل طاعة الله والتوكل عليه في كل حال نصب عينيه، وليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه، وفيها أن من قدم شيئا على طاعة الله والإنفاق في سبيله عذب به، وربما سلب منه معاملة له بنقيض قصده.

وفيها أن الواجب قبول نصيحة الأخ المشفق، وأن مخالفته وبال ودمار على من رد النصيحة الصحيحة. وفيها أن الندامة لا تنفع إذا حان القدر ونفذ الأمر الحتم، بالله المستعان وعليه التكلان.

قصة أصحاب الجنة

قال الله تعالى: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } 152.

وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } 153.

قال ابن عباس: هم كفار قريش، فضرب تعالى لهم مثلا بأصحاب الجنة المشتملة على أنواع الزروع والثمار التي قد انتهت، واستحقت أن تجد وهو الصرام، ولهذا قال: { إِذْ أَقْسَمُوا } فيما بينهم { لَيَصْرِمُنَّهَا } أي: ليجدنها وهو الاستغلال { مُصْبِحِينَ } أي: وقت الصبح حيث لا يراهم فقير ولا محتاج فيعطوه شيئا، فحلفوا على ذلك ولم يستثنوا في يمينهم فعجزهم الله وسلط عليها الآفة التي أحرقتها، وهي السفعة التي اجتاحتها ولم تبق بها شيئا ينتفع به.

ولهذا قال: { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } أي: كالليل الأسود المنصرم من الضياء.

وهذه معاملة بنقيض المقصود { فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ } أي: فاستيقظوا من نومهم فنادى بعضهم بعضا قائلين { اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ } أي: باكروا إلى بستانكم فاصرموه قبل أن يرتفع النهار ويكثر السؤال { فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } أي: يتحدثون فيما بينهم خفية قائلين { لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } أي: اتفقوا على هذا واشتوروا عليه.

{ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِيْن } أي: انطلقوا مجدين في ذلك قادرين عليه مضمرين على هذه النية الفاسدة.

وقال عكرمة، والشعبي: { وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي: غضب على المساكين، وأبعد السدي في قوله: أن اسم حرثهم حرد { فَلَمَّا رَأَوْهَا } أي: وصلوا إليها ونظروا ما حل بها، وما قد صارت إليه من الصفة المنكرة بعد تلك النضرة، والحسن والبهجة، فانقلبت بسبب النية الفاسدة فعند ذلك قالوا: { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي: قد نهينا عنها، وسلكنا غير طريقها.

ثم قالوا: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي: بل عوقبنا بسبب سوء قصدنا، وحرمنا بركة حرثنا.

{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ } قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: هو أعدلهم وخيرهم.

{ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } قيل: يستثنون، قاله: مجاهد، والسدي، وابن جرير، وقيل: تقولون خيرا بدل ما قلتم من الشر. { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } فندموا حيث لا ينفع الندم، واعترفوا بالذنب بعد العقوبة، وذلك حيث لا ينجع.

وقد قيل: إن هؤلاء كانوا أخوة وقد ورثوا هذه الجنة من أبيهم، وكان يتصدق منها كثيرا، فلما صار أمرها إليهم استهجنوا أمر أبيهم، وأرادوا استغلالها من غير أن يعطوا الفقراء شيئا، فعاقبهم الله أشد العقوبة، ولهذا أمر الله تعالى بالصدقة من الثمار، وحث على ذلك يوم الجداد، كما قال تعالى: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } 154.

ثم قيل: كانوا من أهل اليمن من قرية يقال لها ضروان، وقيل من أهل الحبشة، والله أعلم.

قال الله تعالى: { كَذَلِكَ الْعَذَابُ } أي: هكذا نعذب من خالف أمرنا، ولم يعطف على المحاويج من خلقنا.

{ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي: أعظم وأحكم من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } 155.

قيل: هذا مثل مضروب لأهل مكة، وقيل: هم أهل مكة أنفسهم، ضربهم مثلا لأنفسهم، ولا ينافي ذلك، والله أعلم. اهـ

قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم

قال الله تعالى في سورة الأعراف:

{ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } 156.

وقال تعالى في سورة البقرة: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } 157.

وقال تعالى في سورة النساء: { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } . 158. قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي، وغيرهم: هم أهل أيلة. زاد ابن عباس: بين مدين والطور.

قالوا وكانوا متمسكين بدين التوراة في تحريم السبت في ذلك الزمان، فكانت الحيتان قد ألفت منهم السكينة في مثل هذا اليوم، وذلك أنه كان يحرم عليهم الاصطياد فيه، وكذلك جميع الصنائع والتجارات والمكاسب، فكانت الحيتان في مثل يوم السبت يكثر غشيانها لمحلتهم من البحر، فتأتي من ههنا وههنا ظاهرة آمنة مسترسلة، فلا يهيجونها ولا يذعرونها.

{ وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ } وذلك لأنهم كانوا يصطادونها فيما عدا السبت.

قال الله تعالى: { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } أي: نختبرهم بكثرة الحيتان في يوم السبت { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي: بسبب فسقهم المتقدم، فلما رأوا ذلك احتالوا على اصطيادها في يوم السبت، بأن نصبوا الحبال والشباك والشصوص، وحفروا الحفر التي يجري معها الماء إلى مصانع قد أعدوها، إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها.

ففعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها، فغضب الله عليهم ولعنهم لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر، وهي في الباطن مخالفة محضة.

فلما فعل ذلك طائفة منهم افترق الذين لم يفعلوا فرقتين: فرقة أنكروا عليهم صنيعهم هذا، واحتيالهم على مخالفة الله وشرعه في ذلك الزمان، وفرقة أخرى لم يفعلوا ولم ينهوا بل أنكروا على الذين نهوا وقالوا: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْما اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابا شَدِيدا } يقولون: ما الفائدة في نهيكم هؤلاء وقد استحقوا العقوبة لا محالة، فأجابتهم الطائفة المنكرة بأن قالوا: { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } أي: فيما أمرنا به من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فنقوم به خوفا من عذابه.

{ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: ولعل هؤلاء يتركون ما هم عليه من هذا الصنيع، فيقيهم الله عذابه ويعفو عنهم إذا هم رجعوا واستمعوا..

قال الله تعالى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي: لم يلتفتوا إلى من نهاهم عن هذا الصنيع الشنيع الفظيع { أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ } وهم: الفرقة الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر { وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } وهم: المرتكبون الفاحشة { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } وهو: الشديد المؤلم الموجع { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }

ثم فسر العذاب الذي أصابهم بقوله: { فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } وسنذكر ما ورد من الآيات في ذلك.

والمقصود هنا أن الله أخبر أنه أهلك الظالمين، ونجى المؤمنين المنكرين، وسكت عن الساكتين، وقد اختلف فيهم العلماء على قولين: فقيل إنهم من الناجين، وقيل: إنهم من الهالكين. والصحيح الأول عند المحققين، وهو الذي رجع إليه ابن عباس إمام المفسرين، وذلك عن مناظرة مولاه عكرمة، فكساه من أجل ذلك حلة سنية تكرمة.

قلت: وإنما لم يذكروا مع الناجين لأنهم وإن كرهوا ببواطنهم تلك الفاحشة، إلا أنهم كان ينبغي لهم أن يحملوا ظواهرهم بالعمل المأمور به من الإنكار القولي، الذي هو أوسط المراتب الثلاث، التي أعلاها: الإنكار باليد ذات البنان، وبعدها الإنكار القولي باللسان، وثالثها الإنكار بالجنان. فلما لم يذكروا نجوا مع الناجين، إذ لم يفعلوا الفاحشة بل أنكروها.

وقد روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، وحكى مالك، عن ابن رومان، وشيبان عن، قتادة، وعطاء الخراساني ما مضمونه: أن الذين ارتكبوا هذا الصنع اعتزلهم بقية أهل البلد، ونهاهم من نهاهم منهم، فلم يقبلوا فكانوا يبيتون وحدهم، ويغلقون بينهم وبينهم أبوابا حاجزا، لما كانوا يترقبون من هلاكهم.

فأصبحوا ذات يوم وأبواب ناحيتهم مغلقة لم يفتحوها، وارتفع النهار واشتد الضحاء، فأمر بقية أهل البلد رجلا أن يصعد على سلالم ويشرف عليهم من فوقهم، فلما أشرف عليهم إذا هم قردة لها أذناب يتعاوون ويتعادون.

ففتحوا عليهم الأبواب فجعلت القردة تعرف قراباتهم، ولا يعرفهم قراباتهم، فجعلوا يلوذون بهم ويقول لهم الناهون: ألم ننهكم عن صنيعكم؟ فتشير القردة برؤوسها أن نعم. ثم بكى عبد الله بن عباس وقال: إنا لنرى منكرات كثيرة ولا ننكرها، ولا نقول فيها شيئا.

وقال العوفي، عن ابن عباس: صار شباب القرية قردة، وشيوخها خنازير.

وروى ابن أبي حاتم، من طريق مجاهد، عن ابن عباس: أنهم لم يعيشوا إلا فواقا، ثم هلكوا ما كان لهم نسل.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: أنه لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل هؤلاء، ولم يشربوا، ولم ينسلوا، وقد استقصينا الآثار في ذلك في تفسير سورة البقرة، والأعراف، ولله الحمد والمنة.

وقد روى ابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة وخنازير، وإنما هو مثل ضربه الله { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا } 159 وهذا صحيح إليه وغريب منه جدا، ومخالف لظاهر القرآن، ولما نص عليه غير واحد من السلف والخلف، والله أعلم.

قصة أصحاب القرية

{ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ } 160.

تقدم ذكرها قبل قصة موسى عليه السلام.

قصة سبأ

سيأتي ذكرها في أيام العرب إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

قصة قارون وقصة بلعام.

تقدمتا في قصة موسى.

وهكذا قصة الخضر، وقصة فرعون والسحرة، كلها في ضمن قصة موسى.

وقصة البقرة تقدمت في قصة موسى.

وقصة { الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } في قصة حزقيل.

وقصة { الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } في قصة شمويل 161.

وقصة { كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } في قصة عزير.

قصة لقمان

قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } 162.

هو لقمان بن عنقاء بن سدون، ويقال: لقمان بن ثاران. حكاه السهيلي، عن ابن جرير والقتيبي.

قال السهيلي: وكان نوبيا من أهل أيلة، قلت: وكان رجلا صالحا ذا عبادة، وعبارة وحكمة عظيمة.

ويقال: كان قاضيا في زمن داود عليه السلام، فالله أعلم.

وقال سفيان الثوري، عن الأشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان عبدا حبشيا نجارا.

وقال قتادة، عن عبد الله بن الزبير قلت: لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم في شأن لقمان؟ قال: كان قصيرا أفطس من النوبة.

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر، ذو مشافر أعطاه الله الحكمة، ومنعه النبوة.

وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر ولقمان الحكيم. كان أسود نوبيا ذا مشافر.

وقال الأعمش، عن مجاهد: كان لقمان عبدا أسود، عظيم الشفتين، مشقق القدمين، وفي رواية: مصفح القدمين.

وقال عمر بن قيس: كان عبدا أسود، غليظ الشفتين، مصفح القدمين، فأتاه رجل وهو في مجلس أناس يحدثهم فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. رواه ابن جرير عن ابن حميد عن الحكم عنه.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي يزيد بن جابر قال: إن الله رفع لقمان الحكيم لحكمته، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال: ألست عبد بن فلان الذي كنت ترعى غنمي بالأمس؟ قال: بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني.

وقال ابن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش الفتياني، عن عمر مولى عفرة قال: وقف رجل على لقمان الحكيم فقال: أنت لقمان أنت عبد بني النحاس؟

قال: نعم.

قال: فأنت راعي الغنم الأسود؟

قال: أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري؟

قال: وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك.

قال: يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك.

قال: ما هو؟

قال لقمان: غضي بصري، وكفي لساني، وعفة مطمعي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيرني كما ترى.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عمرو بن واقد، عن عبدة ابن رباح، عن ربيعة، عن أبي الدرداء أنه قال يوما وذكر لقمان الحكيم فقال:

ما أوتي عن أهل، ولا مال، ولا حسب، ولا خصال، ولكنه كان رجلا ضمضامة، سكيتا طويل التفكر، عميق النظر، لم ينم نهارا قط، ولم يره أحد يبزق، ولا يتنحنح، ولا يبول، ولا يتغوط، ولا يغتسل، ولا يعبث، ولا يضحك، وكان لا يعيد منطقا نطقه، إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد.

وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا، فلم يبك عليهم، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر، فبذلك أوتي ما أوتي، ومنهم من زعم أنه عرضت عليه النبوة، فخاف أن لا يقوم بأعبائها فاختار الحكمة، لأنها أسهل عليه، وفي هذا نظر، والله أعلم. وهذا مروي عن قتادة كما سنذكره.

وروى ابن أبي حاتم، وابن جرير، من طريق وكيع، عن إسرائيل، عن جابر الجعفي، عن عكرمة أنه قال: كان لقمان نبيا، وهذا ضعيف الحال الجعفي.

والمشهور عن الجمهور أنه كان حكيما وليا ولم يكن نبيا. وقد ذكره الله تعالى في القرآن فأثنى عليه، وحكى من كلامه فيما وعظ به ولده الذي هو أحب الخلق إليه، وهو أشفق الناس عليه، فكان من أول ما وعظ به أن قال: { يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فنهاه عنه، وحذره منه.

وقد قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نزلت { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } 163 شق ذلك على أصحاب رسول الله ، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله :

« إنه ليس بذاك ألم تسمع إلى قول لقمان: { يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .

رواه مسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به.

ثم اعترض تعالى بالوصية بالوالدين، وبيان حقهما على الولد وتأكده، وأمر بالإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين، ولكن لا يطاعان على الدخول في دينهما، إلى أن قال مخبرا عن لقمان فيما وعظ به ولده:

{ يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } ينهاه عن ظلم الناس ولو بحبة خردل، فإن الله يسأل عنها، ويحضرها حوزة الحساب، ويضعها في الميزان كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } .164

وقال تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } 165 وأخبره أن هذا الظلم لو كان في الحقارة كالخردلة، ولو كان في جوف صخرة صماء لا باب لها ولا كوة، أو لو كانت ساقطة في شيء من ظلمات الأرض أو السموات في اتساعهما وامتداد أرجائهما، لعلم الله مكانها.

{ إن الله لطيف خبير } أي: علمه دقيق فلا يخفى عليه الذر مما تراءى للنواظر، أو توارى، كما قال تعالى: { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } 166.

وقال: { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } 167 وقال: { عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } 168.

وقد زعم السدي في خبره عن الصحابة أن المراد بهذه الصخرة الصخرة التي تحت الأرضين السبع، وهكذا حكي عن عطية العوفي، وأبي مالك، والثوري، والمنهال بن عمر، وغيرهم، وفي صحة هذا القول من أصله نظر.

ثم إن في هذا المراد نظر آخر ؛ فإن هذه الآية نكرة غير معرفة، فلو كان المراد بها ما قالوه لقال: فتكن في الصخرة، وإنما المراد: فتكن في صخرة، أي: صخرة كانت.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله قال:

« لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما كان ».

ثم قال: { يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ } أي: أدها بجميع واجباتها من حدودها، وأوقاتها، وركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها، وما شرع فيها، واجتنب ما ينهي عنه فيها.

ثم قال: { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ } أي: بجهدك وطاقتك، أي: إن استطعت باليد فباليد، وإلا فبلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، ثم أمره بالصبر فقال: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وذلك أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في مظنة أن يعادى وينال منه، ولكن له العاقبة، ولهذا أمره بالصبر على ذلك، ومعلوم أن عاقبة الصبر الفرج.

وقوله: { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } التي لا بد منها ولا محيد عنها. وقوله: { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، ويزيد بن الأصم، وأبو الجوزاء، وغير واحد معناه: لا تتكبر على الناس، وتميل خدك حال كلامك لهم، وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم.

قال أهل اللغة: وأصل الصعر داء يأخذه الإبل في أعناقها فتلتوي رؤوسها، فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم.

قال أبو طالب في شعره:

وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

وقال عمرو بن حيي التغلبي:

وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من ميله فتقوما

وقوله: { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس، كما قال تعالى: { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } 169.

يعني لست بسرعة مشيك تقطع البلاد في مشيتك هذه، ولست بدقك الأرض برجلك تخرق الأرض بوطئك عليها، ولست بتشامخك وتعاظمك وترفعك تبلغ الجبال طولا، فاتئد على نفسك فلست تعدو قدرك.

وقد ثبت في الحديث:

« بينما رجل يمشي في برديه يتبختر فيهما، إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة ».

وفي الحديث الآخر:

« إياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة لا يحبها الله ».

كما قال في هذه الآية: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .

ولما نهاه عن الاختيال في المشي أمره بالقصد فيه، فإنه لا بد له أن يمشي فنهاه عن الشر وأمره بالخير، فقال: { واقصد في مشيك } أي: لا تبتاطأ مفرطا ولا تسرع إسراعا مفرطا، ولكن بين ذلك قواما، كما قال تعالى: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاما } 170

ثم قال: { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } يعني إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك، فإن أرفع الأصوات وأنكرها صوت الحمير.

وقد ثبت في الصحيحين الأمر بالاستعاذة عند سماع صوت الحمير بالليل، فإنها رأت شيطانا.

ولهذا نهى عن رفع الصوت حيث لا حاجة إليه، ولا سيما عند العطاس فيستحب خفض الصوت، وتخمير الوجه كما ثبت به الحديث من صنيع رسول الله .

فأما رفع الصوت بالأذان، وعند الدعاء إلى الفئة للقتال، وعند الإهلاك ونحو ذلك، فذلك مشروع، فهذا مما قصه الله تعالى عن لقمان عليه السلام في القرآن، من الحكم، والوصايا النافعة الجامعة للخير، المانعة من الشر، وقد وردت آثار كثيرة في أخباره ومواعظه، وقد كان له كتاب يؤثر عنه يسمى بحكمة لقمان، ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى.

قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا سفيان، أخبرني نهيك بن يجمع الضبي، عن قزعة، عن ابن عمر، قال: أخبرنا رسول الله قال:

« إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئا حفظه ».

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن موسى ابن سليمان، عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله قال:

« قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني إياك والتقنع فإنه مخونة بالليل مذمة بالنهار ».

وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عمارة، حدثنا ضمرة، حدثنا السري بن يحيى، قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.

وحدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبد الرحمن المسعودي، عن عون بن عبد الله قال:

قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فأدمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس بناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فحول عنهم إلى غيرهم.

وحدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا ضمرة، عن حفص بن عمر، قال: وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه، وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة، حتى نفد الخردل، فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر، قال: فتفطر ابنه.

وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، عن ابن سفيان المقدسي، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: قال رسول الله :

« اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن ».

قال الطبراني: يعني الحبشي، وهذا حديث غريب منكر. وقد ذكر له الإمام أحمد في كتاب (الزاهد) ترجمة ذكر فيها فوائد مهمة جمة، فقال: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } قال: الفقه، والإصابة في غير نبوة. وكذا روي عن وهب بن منبه.

وحدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا.

وحدثنا أسود، حدثنا حماد، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أن لقمان كان خياطا.

وحدثنا سياد، حدثنا جعفر، حدثنا مالك - يعني بن دينار - قال: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله تجارة، تأتك الأرباح من غير بضاعة.

وحدثنا يزيد، حدثنا أبو الأشهب، عن محمد بن واسع قال: كان لقمان يقول لابنه يا بني اتق الله، ولا تُري الناس أنك تخشى الله ليكرموك بذلك وقلبك فاجر.

وحدثنا يزيد بن هرون ووكيع قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا فقال له سيده: اذبح لي شاة، فذبح له شاة فقال: ائتني بأطيب مضغتين فيها فأتاه باللسان والقلب، فقال له: أما كان فيها شيء أطيب من هذين؟

قال: لا، قال: فسكت عنه ما سكت، ثم قال له: اذبح لي شاة، فذبح له شاة فقال له: وألق أخبثها مضغتين فرمى باللسان والقلب، فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب، فقال له: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.

وحدثنا داود بن رشيد، حدثنا ابن المبارك، حدثنا معمر، عن أبي عثمان - رجل من أهل البصرة يقال له الجعد أبو عثمان - قال: قال لقمان لابنه: لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تهاون بمقت الحكيم فيزهده فيك.

وحدثنا داود بن أسيد، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد الحضرمي، عن عبد الله بن زيد قال: قال لقمان ألا أن يد الله على أفواه الحكماء، لا يتكلم أحدهم إلا ما هيأ الله له.

وحدثنا عبد الرزاق، سمعت بن جريج قال: كنت أقنّع رأسي بالليل.

فقال لي عمر: أما علمت أن لقمان قال: القناع بالنهار مذلة معذرة.

أو قال: معجزة بالليل، فلم تقنع رأسك بالليل؟

قال: قلت له: إن لقمان لم يكن عليه دين.

وحدثني حسن بن الجنيد، حدثنا سفيان، قال لقمان لابنه: يا بني ما ندمت على السكوت قط، وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.

وحدثنا عبد الصمد ووكيع قالا: حدثنا أبو الأشهب، عن قتادة أن لقمان قال لابنه: يا بني اعتزل الشر يعتزلك، فإن الشر للشر خلق.

وحدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: مكتوب في الحكمة يا بني إياك والرغب، فإن الرغب كل الرغب يبعد القريب من القريب، ويزيل الحكم كما يزيل الطرب. يا بني إياك وشدة الغضب، فإن شدة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد بن عمير قال: قال لقمان لابنه وهو يعظه:

يا بني اختر المجالس على عينك، فإذا رأيت المجلس يذكر فيه الله عز وجل فاجلس معهم، فإنك إن تك عالما ينفعك علمك، وإن تك غبيا يعلموك، وإن يطلع الله عليهم برحمة تصيبك معهم، يا بني لا تجلس في المجلس الذي لا يذكر الله فيه، فإنك إن تك عالما لا ينفعك علمك، وإن تك غبيا يزيدوك غبيا، وإن يطلع الله إليهم بعد ذلك بسخط يصيبك معهم

يا بني لا تغبطوا أمراء رحب الذراعين، يسفك دماء المؤمنين، فإن له عند الله قاتلا لا يموت.

وحدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: مكتوب في الحكمة: بني لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.

وقال: مكتوب في الحكمة أو في التوراة: الرفق رأس الحكمة.

وقال: مكتوب في التوراة: كما تَرحمون تُرحمون.

وقال: مكتوب في الحكمة: كما تزرعون تحصدون.

وقال: مكتوب في الحكمة: أحب خليلك وخليل أبيك.

وحدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: قيل للقمان أي الناس أصبر؟

قال: صبر لا يتبعه أذى.

قيل: فأي الناس أعلم؟

قال: من ازداد من علم الناس إلى علمه.

قيل: فأي الناس خير؟

قال: الغني.

قيل: الغني من المال؟

قال: لا، ولكن الغني الذي إذا التمس عنده خير وجد، وإلا أغنى نفسه عن الناس.

وحدثنا سفيان - هو ابن عيينة - قال: قيل للقمان: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.

وحدثنا أبو الصمد، عن مالك بن دينار قال: وجدت في بعض الحكمة يبدد الله عظام الذين يتكلمون بأهواء الناس، ووجدت فيها لا خير لك في أن تعلم ما لم تعلم، ولما تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطبا فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها فضم إليه أخرى.

وقال عبد الله بن أحمد: حدثنا الحكم بن أبي زهير وهو - الحكم بن موسى - حدثنا الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد قال: قال لقمان لابنه: يا بني لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء.

وهذا مجموع ما ذكره الإمام أحمد في هذه المواضع، وقد قدمنا من الآثار كثيرا لم يروها، كما أنه ذكر أشياء ليست عندنا، والله أعلم

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال: خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة على النبوة، قال: فأتاه جبريل وهو نائم فذرَّ عليه الحكمة، قال: فأصبح ينطق بها.

قال سعد: سمعت قتادة يقول: قيل للقمان كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟

فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه، ولكنت أرجو أن أقوم بها، ولكن خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة، فكانت الحكمة أحب إلي.

وهذا فيه نظر، لأن سعيد بن بشير عن قتادة، قد تكلموا فيه، والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } قال: يعني الفقه والإسلام، ولم يكن نبيا ولم يوح إليه.

وهكذا نصَّ على هذا غير واحد من السلف منهم: مجاهد، وسعيد بن المسيب، وابن عباس، والله أعلم.

قصة أصحاب الأخدود

قال الله تعالى: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } 171.

قد تكلمنا على ذلك مستقصى في تفسير هذه السورة ولله الحمد.

وقد زعم محمد بن إسحاق أنهم كانوا بعد مبعث المسيح، وخالفه غيره فزعموا أنهم كانوا قبله.

وقد ذكر غير واحد أن هذا الصنيع مكرر في العالم مرارا في حق المؤمنين من الجبارين الكافرين، ولكن هؤلاء المذكورون في القرآن قد ورد فيهم حديث مرفوع، وأثر أورده ابن إسحاق، وهما متعارضان وها نحن نوردهما لتقف عليهما.

قال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله قال:

« كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما فلأعلمه السحر، فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر، وكان بين الملك وبين الساحر راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال ما حبسك؟

وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك؟

فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر.

قال: فبينا هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى الله أم أمر الراهب.

قال: فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك.

فقال: أي بني أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء، ويشفيهم الله على يديه، وكان جليس للملك فعمى فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ههنا اجمع فقال: ما أنا اشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به ودعوت الله شفاك، فآمن فدعا الله فشفاه.

ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان من ردَّ عليك بصرك

؟ فقال: ربي.

قال: أنا.

قال: لا ربي، وربك الله.

قال: ولك رب غيري؟

قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الغلام، فبعث إليه فأتي به، فقال:

أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء.

قال: ما أشفي أنا أحدا إنما يشفي الله عز وجل.

قال: أنا.

قال: لا.

قال: أولك رب غيري؟

قال: ربي وربك الله.

قال: فأخذه أيضا بالعذاب، ولم يزل به حتى دلَّ على الراهب.

فأتى الراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه.

وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه.

وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا.

وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه، وإلا فدهدهوه من فوقه.

فذهبوا به، فلما علوا الجبل قال: اللهم أكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟

فقال: كفانيهم الله.

فبعث به مع نفر في قرقرة فقال: إذا لججتم البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه في البحر، فلججوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا أجمعون.

وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟

فقال كفانيهم الله عزَّ وجلَّ.

ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي. قال: وما هو؟

قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبن على جذع، وتأخذ سهما من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد القوس، ثم رماه، وقال بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات.

فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها.

وقال: فكانوا يتعادون فيها ويتواقعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق ».

كذا رواه الإمام أحمد، ورواه مسلم والنسائي، من حديث حماد بن سلمة، زاد النسائي وحماد بن زيد كلاهما عن ثابت به.

ورواه الترمذي من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت بإسناده نحوه، وجرد إيراده كما بسطنا ذلك في التفسير.

وقد أورد محمد بن إسحاق هذه القصة على وجه آخر فقال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب، وحدثني أيضا بعض أهل نجران، عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران - ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يُعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها قيمون، ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه.

قالوا: رجل نزلها، فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيه، جعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه فكتمه إياه.

وقال له: يا ابن أخي إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، والتامر لا يظن إلا أن ابنه عبد الله يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا.

فأخذه ثم أتى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه إياه فقال: وما هو؟

قال: كذا وكذا.

قال: وكيف علمته؟

فأخبره بما صنع.

قال: أي ابن أخي قد أصبته، فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل.

فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني، وأدعو الله لك فيعافيك عما أنت فيه من البلاء، فيقول: نعم، فيوحد الله و يسلم، حتى لم يبق أحد في نجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على دينه، ودعا له فعوفي.

حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال: أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فيطرح على رأسه، فيقع إلى الأرض ما به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور، لا يلقى فيها شيء إلا هلك فيلقى به فيها، فيخرج ليس به بأس.

فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر: والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني، قال: فوحد الله ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن التامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه.

واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحزاب، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.

قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب، وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر، فالله أعلم أي ذلك كان.

قال: فسار إليهم ذو نواس بجنده من حمير فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل فخدوا الأخدود، وحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم، فقتل منهم قريبا من عشرين ألفا، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله على رسوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ... } الآيات 172.

وهذا يقتضي أن هذه القصة غير ما وقع في سياق مسلم، وقد زعم بعضهم أن الأخدود وقع في العالم كثيرا، كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، أنبأنا صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال:

كانت الأخدود في اليمن زمان تبع، وفي القسطنطينة زمان قسطنطين، حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد، واتخذ أتونا، وألقي فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد.

وفي العراق في أرض بابل في زمان بخت نصر حين صنع الصنم، وأمر الناس فسجدوا له، فامتنع دانيال وصاحباه: عزريا ومشايل، فأوقد لهم أتونا وألقى فيها الحطب والنار، ثم ألقاهما فيه، فجعلها الله عليهم بردا وسلاما وأنقذهم منها، وألقى فيها الذين بغوا عليه وهم تسعة رهط، فأكلتهم النار.

وقال أسباط عن السدي في قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ } قال: كان الأخدود ثلاثة: خد بالشام، وخد بالعراق، وخد باليمن. رواه ابن أبي حاتم.

وقد استقصيت ذكر أصحاب الأخدود، والكلام على تفسيرها في سورة البروج، ولله الحمد والمنة.

بيان الإذن في الرواية عن أخبار بني إسرائيل

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا زيد، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي قال: قال: « حدثوا عني ولا تكذبوا عليَّ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ».

وقال أيضا: حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي قال: قال: « لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ».

وقال: « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، حدثوا عني ولا تكذبوا علي، قال: ومن كذب علي - قال همام احسبه قال - متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ». وهكذا رواه مسلم، والنسائي من حديث همام، ورواه أبو عوانة الإسفراييني، عن أبي داود السجستاني، عن هدبة، عن همام عن زيد بن أسلم به. ثم قال: قال أبو داود: أخطأ فيه همام، وهو من قول أبي سعيد كذا قال. وقد رواه الترمذي عن سفيان، عن وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم ببعضه مرفوعا، فالله أعلم.

قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، أنبأنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، حدثني أبو كبشة السلولي أن عبد الله بن عمرو بن العاص حدثه، أنه سمع رسول الله يعني يقول: « بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ». ورواه أحمد أيضا عن عبد الله بن نمير، وعبد الرزاق، كلاهما عن الأوزاعي به.

وهكذا رواه البخاري عن أبي عاصم النبيل عن الأوزاعي به.

وكذا رواه الترمذي عن بندار، عن أبي عاصم، ثم رواه عن محمد بن يحيى الذهلي، عن محمد بن يوسف العرياني، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، وقال حسن صحيح.

وقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى - أبو موسى - حدثنا هشام بن معاوية، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبد الله بن عمرو قال: كان نبي الله يحدثنا عامة ليلة عن بني إسرائيل حتى نصبح، ما نقوم فيها إلا لمعظم صلاة. ورواه أبو داود عن محمد بن مثنى.

ثم قال البزار: حدثنا محمد بن مثنى، حدثنا عفان، حدثنا أبو هلال عن قتادة، عن أبي حسان، عن عمران بن حسين قال: كان رسول الله : « يحدثنا عامة ليلة عن بني إسرائيل لا يقوم إلا لمعظم صلات ».

قال البزار وهشام: احفظ من أبي هلال يعني: أن الصواب عن عبد الله بن عمرو، لا عن عمران بن حصين، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى هو - القطان - عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة، عن النبي قال: « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ». إسناد صحيح ولم يخرجوه.

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا وكيع، حدثنا ربيع بن سعد الجعفي، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: قال رسول الله : « حدثوا عن بني إسرائيل فإنه قد كان فيهم الأعاجيب ».

ثم أنشأ يحدث قال: « خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى أتوا مقبرة من مقابرهم، فقالوا لو صلينا ركعتين ودعونا الله عز وجل، فيخرج لنا رجلا قد مات نسائله، يحدثنا عن الموت ففعلوا، فبينما هم كذلك إذ أطلع رجل رأسه من قبر من تلك القبور، بين عينيه أثر السجود.

فقال: يا هؤلاء ما أردتم إلي فقد مت منذ مائة عام فما سكنت عني حرارة الموت حتى الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت ».

وهذا حديث غريب، إذا تقرر جواز الرواية عنهم، فهو محمول على ما يمكن أن يكون صحيحا، فأما ما يعلم أو يظن بطلانه لمخالفته الحق الذي بأيدينا عن المعصوم، فذاك متروك مردود لا يعرج عليه، ثم مع هذا كله لا يلزم من جواز روايته أن تعتقد صحته، لما رواه البخاري قائلا: حدثنا محمد بن يسار، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ». تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وروى الإمام أحمد من طريق الزهري عن أبي نملة الأنصاري، عن أبيه أنه كان جالسا عند رسول الله ، فقال: إذا جاء رجل من اليهود فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟

فقال رسول الله : « الله أعلم ».

فقال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم.

فقال رسول الله : « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم ». تفرد به أحمد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي قال فغضب، وقال:

« أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي به لقد جئتكم به بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي به لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني ». تفرد به أحمد، وإسناده على شرط مسلم.

فهذه الأحاديث دليل على أنهم قد بدلوا ما بأيديهم من الكتب السماوية وحرفوها، وأولوها، ووضعوها على غير مواضعها، ولا سيما ما يبدونه من المعربات التي لم يحيطوا بها علما وهي بلغتهم، فكيف يعبرون عنها بغيرها، ولأجل هذا وقع في تعريبهم خطأ كبير، ووهم كثير، مع ما لهم من المقاصد الفاسدة، والآراء الباردة.

وهذا يتحققه من نظر في كتبهم التي بأيديهم، وتأمل ما فيها من سوء التعبير، وقبيح التبديل والتغيير، وبالله المستعان، وهو نعم المولى، ونعم النصير.

وهذه التوراة التي يبدونها، ويخفون منها كثيرا فيما ذكروه، فيها تحريف، وتبديل، وتغيير، وسوء تعبير، يعلم من نظر فيها، وتأمل ما قالوه، وما أبدوه، وما أخفوه، وكيف يسوغون عبارة فاسدة البناء والتركيب، باطلة من حيث معناها وألفاظها.

وهذا كعب الأحبار من أجود من ينقل عنهم، وقد أسلم في زمن عمر، وكان ينقل شيئا عن أهل الكتاب، فكان عمر رضي الله عنه يستحسن بعض ما ينقله لما يصدقه من الحق، وتأليفا لقلبه، فتوسع كثير من الناس في أخذ ما عنده، وبالغ أيضا هو في نقل تلك الأشياء التي كثير منها ما يساوي مداده، ومنها ما هو باطل لا محالة، ومنها ما هو صحيح لما يشهد له الحق الذي بأيدينا.

وقد قال البخاري، وقال أبو اليمان: حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب، يعني من غير قصد منه.

وروى البخاري من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسوله أحدث الكتب بالله، تقرأونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله، وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم.

وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق، أو تصدقوا بباطل، والله أعلم.

قصة جريج أحد عباد بني إسرائيل

قال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي، سمعت محمد بن سيرين يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم ».

قال: وكان في بني إسرائيل رجل عابد يقال له: جريج، فابتنى صومعة وتعبد فيها، قال: فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت بغي منهم: لئن شئتم لأفتننه.

فقالوا: قد شئنا ذاك.

قال: فأتته فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راع كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج، فحملت فولدت غلاما.

فقالوا: ممن؟

قالت: من جريج، فأتوه فاستنزلوه، فشتموه، وضربوه، وهدموا صومعته، فقال: ما شأنكم؟

قالوا: إنك زنيت بهذه البغي، فولدت غلاما فقال: وأين هو؟

قالوا: هو هذا.

قال: فقام فصلى ودعا، ثم انصرف إلى الغلام فطعنه بإصبعه، فقال: بالله يا غلام من أبوك؟

فقال: أنا ابن الراعي، فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه، وقالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا حاجة لي في ذلك، ابنوها من طين كما كانت.

قال: وبينما امرأة في حجرها ابن لها ترضعه، إذ مر بها راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا.

قال: فترك ثديها، وأقبل على الراكب فقال: اللهم لا تجعلني مثله.

قال: ثم عاد إلى ثديها فمصه.

قال أبو هريرة: فكأني أنظر إلى رسول الله يحكي صنيع الصبي، ووضع إصبعه في فيه يمصها.

ثم مرت بأمة تضرب فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثلها.

قال: فترك ثديها، وأقبل على الأمة فقال: اللهم اجعلني مثلها.

قال: فذاك حين تراجعا الحديث.

فقالت: خلفي مر الراكب ذو الشارة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومررت بهذه الأمة فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، فقال: يا أمتاه إن الراكب ذو الشارة جبار من الجبابرة، وإن هذه الأمة يقولون: زنت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، وهي تقول حسبي الله.

وهكذا رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي المظالم، عن مسلم بن إبراهيم، ومسلم في كتاب الأدب، عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هرون كلاهما عن جرير بن حازم به، طريق أخرى وسياق آخر.

قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي قال: « كان جريج يتعبد في صومعته قال: فأتته أمه فقالت: يا جريج أنا أمك وكلمني.

قال: وكان أبو هريرة يصف كيف كان رسول الله وضع يده على حاجبه الأيمن.

قال: وصادفته يصلي، قال: يا رب أمي وصلاتي فاختار صلاته، فرجعت ثم أتته، فصادفته يصلي.

فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني.

فقال: يا رب أمي وصلاتي فاختار صلاته، فقالت:

اللهم هذا جريج وإنه ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى تريه المومسات.

ولو دعت عليه أن يفتتن لافتتن.

قال: وكان راع يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة فوقع عليها الراعي، فولدت غلاما فقيل: ممن هذا؟

فقالت: هو من صاحب الدير، فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم، وأقبلوا إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم، فأقبلوا يهدمون ديره، فنزل إليهم فقالوا: سل هذه المرأة - قال أراه تبسم - قال: ثم مسح رأس الصبي فقال: من أبوك؟

قال: راعي الضأن، قالوا: يا جريج نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة قال: لا ولكن أعيدوه كما كان ففعلوا. » ورواه مسلم في الاستئذان، عن شيبان بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة به.

سياق آخر قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، أنبأنا ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله قال:

« كان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج، كان يتعبد في صومعته، فأتته أمه ذات يوم فنادته، فقالت: أي جريج، أي بني، أشرف علي أكلمك، أنا أمك اشرف علي، فقال: أي ربي صلاتي وأمي، فأقبل على صلاته.

ثم عادت فنادته مرارا، فقالت: أي جريج، أي بني، أشرف علي، فقال: أي رب صلاتي وأمي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه المومسة، وكانت راعية ترعى غنما لأهلها، ثم تأوي إلى ظل صومعته، فأصابت فاحشة فحملت فأخذت. وكان من زنى منهم قتل، فقالوا: ممن؟

قالت: من جريج صاحب الصومعة، فجاؤوا بالفؤوس والمرور.

فقالوا: أي جريج، أي مرائي، انزل فأبى، وأقبل على صلاته يصلي، فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلا، فجعلوا يطوفون بهما في الناس، فوضع إصبعه على بطنها فقال: أي غلام من أبوك؟

فقال: أبي فلان راعي الضأن، فقبلوه وقالوا: إن شئت بنينا لك صومعتك من ذهب وفضة، قال أعيدوها كما كانت ».

وهذا سياق غريب، وإسناده على شرط مسلم، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه.

فهؤلاء ثلاثة تكلموا في المهد: عيسى بن مريم عليه السلام، وقد تقدم الكلام على قصته، وصاحب جريج بن البغي من الراعي كما سمعت واسمه يابوس، كما ورد مصرحا به في صحيح البخاري، والثالث ابن المرأة التي كانت ترضعه فتمنت له أن يكون كصاحب الشارة الحسنة، فتمنى أن يكون كتلك الأمة المتهومة بما هي بريئة منه، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، كما تقدم في رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا.

وقد رواه الإمام أحمد عن هوذة، عن عوف الأعرابي، عن خلاس، عن أبي هريرة، عن النبي بقصة هذا الغلام الرضيع، وهو إسناد حسن.

وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، حدثه أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله قال: « بينما امرأة ترضع ابنها إذ مر بها راكب وهي ترضعه، فقالت: اللهم لا تمت ابني حتى يكون مثل هذا.

فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم رجع في الثدي ومر بامرأة تجر ويلعب بها.

فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه.

فقال: اللهم اجعلني مثلها.

فقال: أما الراكب فإنه كافر، وأما المرأة فإنهم يقولون إنها تزني وتقول حسبي الله، ويقولون تسرق وتقول حسبي الله. »

وقد ورد في من تكلم في المهد أيضا شاهد يوسف كما تقدم، وابن ماشطة آل فرعون، والله أعلم.

قصة برصيصا

وهي عكس قضية جريج، فإن جريجا عُصم، وذلك فتن.

قال ابن جرير: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، أنبأنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، في هذه الآية: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } 173.

قال ابن مسعود: وكانت امرأة ترعى الغنم، وكان لها أخوة أربعة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب، قال: فنزل الراهب ففجر بها فحملت، فأتاه الشيطان فقال له: اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل تصدق ويسمع قولك، فقتلها ثم دفنها.

قال: فأتى الشيطان إخوتها في المنام، فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم، فلما أحبلها قتلها، ثم دفنها في مكان كذا وكذا، فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟

قالوا: لا بل قصها علينا.

قال: فقصها.

فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك.

فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك.

قالوا: فوالله ما هذا إلا لشي.

فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه، ثم انطلقوا به فأتاه الشيطان فقال: إني أنا أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه.

قال: فسجد له، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه، وأخذ فقتل.

وهكذا روي عن ابن عباس، وطاوس، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك.

وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسياق آخر ؛ فقال ابن جرير: حدثنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر بن شميل، أنبأنا شعبة عن أبي إسحاق، سمعت عبد الله بن نهيك، سمعت عليا يقول:

إن راهبا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنها ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها، قال: فجاؤوا بها إليه فداواها.

وكانت عنده فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك، فاطعني أنجك مما صنعت بك، اسجد لي سجدة فسجد له، قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } .

قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبق عليهم

فتوسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم ففرج عنهم.

قال الإمام البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله قال:

« بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون، إذا أصابهم مطر فآووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق، فليدع كل رجل منكم بما يعلم، أنه قد صدق فيه.

فقال واحدا منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أزر، فذهب وتركه، وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة.

فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عنهما ليلة، فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم من أحب الناس إلي، وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك، ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا ».

رواه مسلم عن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر به.

وقد رواه الإمام أحمد منفردا به، عن مروان بن معاوية، عن عمرو بن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن سالم، عن أبيه، عن النبي بنحوه.

ورواه الإمام أحمد من حديث وهب بن منبه، عن النعمان بن بشير، عن النبي بنحو من هذا السياق، وفيه زيادات.

ورواه البزار من طريق أبي إسحاق، عن رجل من بجيلة، عن النعمان بن بشير مرفوعا مثله.

ورواه البزار في مسنده من حديث أبي حنش، عن علي بن أبي طالب، عن النبي بنحوه.

خبر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع

روى البخاري ومسلم من غير وجه: عن همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله يقول: « إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا الله أن يبتليهم، فبعث الله إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال له: أي شيء أحب إليك؟

فقال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا.

فقال: أي المال أحب إليك؟

قال: الإبل، أو: قال البقر - هو شك في ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر - فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها.

قال: وأتى الأقرع فقال له: أي المال أحب إليك؟

قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا.

قال: فأي المال أحب إليك؟

قال: البقر، فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها.

قال: وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟

قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره.

قال: فأي المال أحب إليك؟

قال: الغنم فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.

ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال بعيرا، أتبلغ عليه في سفري.

فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله عز وجل.

فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.

وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك، شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل.

فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك » هذا لفظ البخاري في أحاديث بني إسرائيل.

حديث الذي استلف من صاحبه ألف دينار فأداها

قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا ليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة، عن رسول الله أنه ذكر: « أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيدا، قال: ائتني بكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته. ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها، وأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة معها إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بذلك، وسألني شهيدا فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركبا، وإني استودعتكما، فرمى بها في البحر، حتى ولجت فيه. ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا يجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة. ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار، وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا الذي جئت فيه، قال: فإن الله أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بألفك راشدا ». هكذا رواه الإمام أحمد مسندا

وقد علقه البخاري في غير موضع من صحيحه بصيغة الجزم عن الليث بن سعد، وأسنده في بعضها عن عبد الله بن صالح، كاتب الليث عنه.

والعجب من الحافظ أبي بكر البزار، كيف رواه في مسنده، عن الحسن بن مدرك، عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن عمر بن سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي بنحوه. ثم قال: لا يروى إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.

قصة أخرى شبيهة بهذه القصة في الصدق والأمانة

قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب.

وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل.

فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟

قال أحدهما: لي غلام.

وقال الآخر: لي جارية.

قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا ».

هكذا روى البخاري هذا الحديث في إخبار بني إسرائيل، وأخرجه مسلم، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق به.

وقد روى أن هذه القصة وقعت في زمن ذي القرنين، وقد كان قبل بني إسرائيل بدهور متطاولة، والله أعلم.

قال إسحاق بن بشر في كتابه (المبتدأ) عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن أن ذا القرنين كان يتفقد أمور ملوكه وعماله بنفسه، وكان لا يطلع على أحد منهم خيانة، إلا أنكر ذلك عليه، وكان لا يقبل ذلك حتى يطلع هو بنفسه.

قال: فبينما هو يسير متنكرا في بعض المدائن، فجلس إلى قاض من قضاتهم أياما، لا يختلف إليه أحد في خصومة، فلما أن طال ذلك بذي القرنين ولم يطلع على شيء من أمر ذلك القاضي، وهمَّ بالانصراف، إذا هو برجلين قد اختصما إليه، فادعى أحدهما فقال: أيها القاضي إني اشتريت من هذا دارا عمرتها، ووجدت فيها كنزا، وإني دعوته إلى أخذه فأبى علي.

فقال له القاضي: ما تقول؟

قال ما دفنت، وما علمت به، فليس هو لي ولا أقبضه منه.

قال المدعي: أيها القاضي مر من يقبضه، فتضعه حيث أحببت، فقال القاضي: تفر من الشر وتدخلني فيه، ما أنصفتني وما أظن هذا في قضاء الملك.

فقال القاضي: هل لكما أمرا نصف مما دعوتماني إليه؟

قالا: نعم.

قال للمدعي: ألك ابن؟

قال: نعم.

وقال للآخر: ألك ابنة؟

قال: نعم.

قال: اذهبا فزوج ابنتك من ابن هذا، وجهزهما من هذا المال، وادفعا فضل ما بقي إليهما يعيشان به فتكونا مليا بخيره وشره.

فعجب ذو القرنين حين سمع ذلك، ثم قال للقاضي: ما ظننت أن في الأرض أحدا يفعل مثل هذا، أو قاض يقضي بمثل هذا، فقال القاضي وهو لا يعرفه: وهل أحد يفعل غير هذا؟

قال ذو القرنين: نعم.

قال القاضي: فهل يمطرون في بلادهم؟

فعجب ذو القرنين من ذلك، وقال: بمثل هذا قامت السموات والأرض.

قصة توبة قاتل التسعة وتسعين نفسا

قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي قال:

« كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله فقال: هل من توبة؟

قال: لا، فقتله.

فجعل يسأل فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى إلى هذه أن تباعدي.

وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له. » هكذا رواه ههنا مختصرا.

وقد رواه مسلم عن بندار به، ومن حديث شعبة، ومن وجه آخر عن قتادة به مطولا.

حديث بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها

قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: صلاة الصبح ثم أقبل على الناس، فقال:

« بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله بقرة تكلم! فقال: فإني أؤمن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر وما هما، ثم قال:

وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا! استنقذتها مني فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري، فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم! قال: فإني أؤمن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر وما هما ».

ثم قال: وحدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي بمثله.

وقد أسنده البخاري في المزارعة عن علي بن المديني ومسلم، عن محمد بن عباد كلاهما عن سفيان بن عيينة، وأخرجاه من طريق شعبة كلاهما عن مسعر به.

وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج مسلم الطريق الأول من حديث سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي الزناد.

حديث كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون

قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم، عن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي قال:

« إنه كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب ».

لم يخرجه مسلم من هذا الوجه، وقد روي عن إبراهيم بن سعد، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها.

حديث إنما هلكت بنو إسرائيل

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج على المنبر، فتناول قصة من شعر كانت في يدي حرسي فقال: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟

سمعت رسول الله ينهى عن مثل هذه ويقول: « إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم ».

وهكذا رواه مسلم وأبو داود، من حديث مالك، وكذا رواه معمر، ويونس، وسفيان بن عيينة، عن الزهري بنحوه، وقال الترمذي: حديث صحيح.

وقال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عمرو بن مرة قال: سمعت سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة آخر قدمة قدمها فخطبنا، فأخرج من كمه كبسة شعر، وقال: ما كنت أرى أحدا يفعل هذا غير اليهود، إن النبي : « سماه الزور » - يعني الوصال في الشعر - تابعه غندر عن شعبة.

والعجب أن مسلما رواه من غير وجه، عن غندر، عن شعبة، ومن حديث قتادة عن سعيد بن المسيب به.

حديث بينما كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش

قال البخاري: حدثنا سعيد بن تليد، حدثنا ابن وهب قال: أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « بينما كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته فغفر لها به ».

ورواه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب به.

حديث عذبت امرأة في هرة

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن أسماء، حدثنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال:

« عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، فلا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ».

وكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد بن أسماء به.

حديث كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة

قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا المستمر بن الريان، حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد أن رسول الله قال:

« كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة فصنعت رجلين من خشب فكانت تمشي بين امرأتين قصيرتين، واتخذت خاتما من ذهب وحشت تحت فصه أطيب الطيب والمسك، فكانت إذا مرت بالمجلس حركته فنفح ريحه ».

رواه مسلم من حديث المستمر، وخليد بن جعفر، كلاهما عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مرفوعا قريبا منه. وقال الترمذي: حديث صحيح.

حديث إن مما أدرك الناس

قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن منصور سمعت ربعي بن حراش يحدث عن ابن مسعود، قال: قال النبي :

« إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ».

تفرد به البخاري دون مسلم.

وقد رواه بعضهم عن ربعي بن حراش، عن حذيفة مرفوعا وموقوفا أيضا، والله أعلم.

حديث بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي

قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القسم، حدثنا عبد الحميد - يعني بن بهرام - حدثنا شهر بن حوشب، قال: قال أبو هريرة قال:

قال رسول الله : « بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء، فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعا قد أصابته مسغبة شديدة، فقال: لامرأته: عندك شيء؟

قالت: نعم، أبشر أتاك رزق الله، فاستحثها.

فقال: ويحك ابتغي إن كان عندك شيء.

قالت: نعم هنيئة نرجو رحمة الله، حتى إذا طال عليه المطال. قال: ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شيء فأتيني به، فإني قد بلغت الجهد وجهدت.

فقالت: نعم الآن ينضج التنور فلا تعجل.

فلما أن سكت عنها ساعة، وتحينت أيضا أن يقول لها، قالت من عند نفسها: لو قمت فنظرت إلى تنوري، فقامت فوجدت تنورها ملآن من جنوب الغنم ورحاها تطحن، فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم ».

قال أبو هريرة: فوالذي نفس أبي القاسم بيده عن قول محمد : « لو أخذت ما في رحيبها ولم تنفضها لطحنت إلى يوم القيامة ».

وقال أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو بكر، عن هشام، عن محمد، عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله فلما رأى ملبهم من الحاجة، خرج إلى البرية فلما رأت امرأته ما لقي، قامت إلى الرحى فوضعتها، وإلى التنور فسجرته.

ثم قالت: اللهم ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت.

قال: وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا.

قال: فرجع الزوج.

قال: أصبتم بعد شيئا؟

قالت امرأته: نعم من ربنا، فرفعتها إلى الرحى، ثم قامت، فذكر ذلك للنبي قال: « أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة ».

قال: شهدت النبي وهو يقول:

« والله لأن يأتي أحدكم بحزمة حطب، ثم يحمله فيبيعه فيستعفف منه، خير له من أن يأتي رجلا فيسأله ».

قصة الملكين التائبين

قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المسعودي، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال:

بينما رجل فيمن كان قبلكم، كان في مملكته ففكر فعلم أن ذلك منقطع عنه، وأن ما هو فيه قد شغله عن عبادة ربه، فتسرب فانساب ذات ليلة من قصره، وأصبح في مملكة غيره، وأتى ساحل البحر فكان به يضرب اللبن بالآجر، فيأكل ويتصدق بالفضل، ولم يزل كذلك حتى رقي أمره و عبادته و فضله إلى ملكهم، فأرسل إليه فأبى أن يأتيه، فركب إليه الملك فلما رآه ولى هاربا فركض في أثره فلم يدركه فناداه: يا عبد الله إنه ليس عليك مني بأس، فقام حتى أدركه، فقال له: من أنت رحمك الله؟

فقال: أنا فلان بن فلان صاحب مملكة كذا وكذا، ففكرت في أمري فعلمت أنما أنا فيه منقطع، وأنه قد شغلني عن عبادة ربي عز وجل، فتركته وجئت ههنا أعبد ربي فقال له: ما أنت بأحوج لما صنعت مني قال: فنزل عن دابته فسيبها وتبعه، فكانا جميعا يعبدان الله عز وجل، فدعوا الله أن يميتهما جميعا فماتا.

قال عبد الله: فلو كنت برملية مصر لأريتكم قبورهما بالنعت الذي نعت لنا رسول الله .

حديث إن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا

قال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد، عن النبي :

« إن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا، فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنت لكم؟

قالوا: خير أب.

قال: فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في يوم عاصف ففعلوا، فجمعه الله عز وجل فقال: ما حملك؟

فقال: مخافتك فتلقاه برحمته ».

ورواه في مواضع أخر، ومسلم من طرق عن قتادة به، ثم رواه البخاري ومسلم من حديث ربعي بن حراش، عن حذيفة، عن النبي بنحوه، ومن حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي بنحوه.

حديث كان رجل يداين الناس

قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة، عن النبي قال: « كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقي الله فتجاوز عنه ».

وقد رواه في مواضع أخر، ومسلم من طريق الزهري به.

حديث الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل

قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني مالك، عن محمد بن المنكدر، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت من رسول الله في الطاعون؟

قال أسامة: قال رسول الله :

« الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارا منه ».

قال أبو النضر: لا يخرجكم إلا فرارا منه.

ورواه مسلم من حديث مالك، ومن طرق أخر عن عامر بن سعد به:

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا داود بن أبي الفرات، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن عائشة قالت: سألت رسول الله عن الطاعون أخبرني:

« أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء من عباده، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد ».

تفرد به البخاري عن مسلم، من هذا الوجه.

حديث أتشفع في حد من حدود الله؟

قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ، فكلمه أسامة فقال:

« أتشفع في حد من حدود الله؟

ثم قام فخطب، ثم قال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ».

وأخرجه بقية الجماعة من طرق، عن الليث بن سعد به.

حديث كلاكما محسن

وقال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة، سمعت النزال بن سبرة الهلالي، عن ابن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ، وسمعت رسول الله يقرأ خلافها، فجئت به إلى رسول الله فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية وقال:

« كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ».

تفرد به البخاري دون مسلم.

حديث إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم

قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم، عن صالح، عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال إن رسول الله قال:

« إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ».

تفرد به دون مسلم.

وفي سنن أبي داود: « صلوا في نعالكم، خالفوا اليهود ».

حديث لعن الله اليهود

قال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاووس، عن ابن عباس سمعت عمر يقول: قاتل الله فلانا ألم يعلم أن رسول الله قال:

« لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ».

رواه مسلم من حديث ابن عيينة، ومن حديث عمرو بن دينار به، ثم قال البخاري تابعه جابر وأبو هريرة، عن النبي ، ولهذا الحديث طرق كثيرة، وسيأتي في باب الحيل من كتاب الأحكام، إن شاء الله وبه الثقة.

حديث فأمر بلال أن يشفع الأذان

قال البخاري: حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عبد الوارث، حدثنا خالد عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: ذكروا النار والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى:

« فأمر بلال أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة ».

وأخرجه بقية الجماعة من حديث أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي به.

والمقصود من هذا مخالفة أهل الكتاب في جميع شعارهم ؛ فإن رسول الله لما قدم المدينة كان المسلمون يتحينون وقت الصلاة بغير دعوة إليها. ثم أمر من ينادي فيهم وقت الصلاة: الصلاة جامعة.

ثم أرادوا أن يدعوا إليها بشيء يعرفه الناس، فقال قائلون: نضرب بالناقوس، وقال آخر: نوري نارا، فكرهوا ذلك لمشابهة أهل الكتاب، فأُري عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه الأذان، فقصها على رسول الله ، فأمر بلالا فنادى، كما هو مبسوط في موضعه من باب الأذان في كتاب الأحكام.

حديث لعنة الله على اليهود والنصارى

قال البخاري: حدثنا بشر بن محمد، أنبأنا عبد الله، أنبأنا معمر ويونس، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عائشة وابن عباس قالا: لما نُزل برسول الله طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا أغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك:

« لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ».

يحذر ما صنعوا.

وهكذا رواه في غير موضع، ومسلم من طرق عن الزهري به.

حديث لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر

قال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، قال: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد أن النبي قال:

« لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ».

فقلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟

قال النبي : « فمن؟ ».

وهكذا رواه مسلم من حديث زيد بن أسلم به.

والمقصود من هذه الأخبار عما يقع من الأقوال والأفعال المنهي عنها شرعا، مما يشابه أهل الكتاب قبلنا أن الله ورسوله ينهيان عن مشابهتهم في أقوالهم وأفعالهم، حتى لو كان قصد المؤمن خيرا، لكنه تشبه ففعله في الظاهر فعلهم.

وكما نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لئلا تشابه المشركين الذين يسجدون للشمس حينئذ، وإن كان المؤمن لا يخطر بباله شيء من ذلك بالكلية.

وهكذا قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 174. فكان الكفار يقولون للنبي كلامهم معه: راعنا أي: انظر إلينا ببصرك، واسمع كلامنا، ويقصدون بقولهم: راعنا من الرعونة، فنهى المؤمنين أن يقولوا ذلك، وإن كان لا يخطر ببال أحد منهم هذا أبدا.

فقد روى الإمام أحمد، والترمذي، من حديث عبد الله بن عمر عن النبي أنه قال:

« بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم، فليس للمسلم أن يتشبه بهم لا في أعيادهم ولا مواسمهم ولا في عباداتهم ».

لأن الله تعالى شرَّف هذه الأمة بخاتم الأنبياء، الذي شرع له الدين العظيم القويم الشامل الكامل، الذي لو كان موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة، وعيسى بن مريم الذي أنزل عليه الإنجيل حيين، لم يكن لهما شرع متبع، بل لو كانا موجودين بل وكل الأنبياء، لما ساغ لواحد منهم أن يكون على غير هذه الشريعة المطهرة المشرفة المكرمة المعظمة.

فإذا كان الله تعالى قد منَّ علينا بأن جعلنا من أتباع محمد ، فكيف يليق بنا أن نتشبه بقوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، قد بدلوا دينهم وحرفوه وأولوه، حتى صار كأنه غير ما شرع لهم أولا.

ثم هو بعد ذلك كله منسوخ، والتمسك بالمنسوخ حرام، لا يقبل الله منه قليلا ولا كثيرا، ولا فرق بينه وبين الذي لم يشرع بالكلية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

حديث إنما أجلكم في أجل من خلا من قبلكم من الأمم

قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله قال:

« إنما أجلكم في أجل من خلا من قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟

فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟

فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط.

ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين إلا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى المغرب على قيراطين قيراطين إلا لكم الأجر مرتين فغضب اليهود والنصارى.

فقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟

فقالوا: لا.

قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء ».

وهذا الحديث فيه دليل على أن مدة هذه الأمة قصيرة بالنسبة إلى ما مضى من مدد الأمم قبلها لقوله:

« إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس »، فالماضي لا يعلمه إلا الله، كما أن الآتي لا يعلمه إلا هو، ولكنه قصير بالنسبة إلى ما سبق، ولا اطلاع لأحد على تحديد ما بقي إلا الله عز وجل، كما قال الله تعالى: { لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } 175.

وقال: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } 176.

وما تذكره بعض الناس من الحديث المشهور عند العامة، من أنه عليه السلام لا يؤلف تحت الأرض فليس له أصل في كتب الحديث، وورد فيه حديث: « أن الدنيا جمعة من جمع الآخرة » وفي صحته نظر.

والمراد من هذا التشبيه بالعمال تفاوت أجورهم، وأن ذلك ليس منوطا بكثرة العمل وقلته، بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى، وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير، هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر سواها، وهؤلاء أصحاب محمد أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه من تمر.

وهذا رسول الله بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره، وقبضه وهو ابن ثلاث وستين على المشهور، وقد برز في هذه المدة التي هي ثلاث وعشرون سنة في العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، على سائر الأنبياء قبله، حتى على نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويعمل بطاعة الله ليلا ونهارا، صباحا ومساء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين.

فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته، كما قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } 177.

فصل: بعض القصص من الإسرائيليات

وأخبار بني إسرائيل كثيرة جدا في الكتاب والسنة النبوية، ولو ذهبنا نتقصى ذلك لطال الكتاب، ولكن ذكرنا ما ذكره الإمام أبو عبد الله البخاري في هذا الكتاب، ففيه مقنع وكفاية، وهو تذكرة وأنموذج لهذا الباب، والله أعلم.

وأما الأخبار الإسرائيلية فيما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جدا، ومنها ما هو صحيح موافق لما وقع، وكثير منها بل أكثرها مما يذكره القصاص مكذوب مفترى، وضعه زنادقتهم وضلالهم، وهي ثلاثة أقسام:

منها: ما هو صحيح لموافقته ما قصه الله في كتابه أو أخبر به رسول الله .

ومنها: ما هو معلوم البطلان لمخالفته كتاب الله وسنة رسوله.

ومنها: ما يحتمل الصدق والكذب، فهذا الذي أمرنا بالتوقف فيه، فلا نصدقه ولا نكذبه، كما ثبت في (الصحيح):

« إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ».

وتجوز روايته مع هذا الحديث المتقدم: « وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ».

تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم

أما اليهود فقد أنزل الله عليهم التوراة على يدي موسى بن عمران عليه السلام، وكانت كما قال الله تعالى: { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاما عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ } 178.

وقال تعالى: { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرا } 179.

وقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرا لِلْمُتَّقِينَ } 180.

وقال تعالى: { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } 181.

وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } 182.

فكانوا يحكمون بها وهم متمسكون بها برهة من الزمان، ثم شرعوا في تحريفها، وتبديلها، وتغييرها، وتأويلها، وإبداء ما ليس منها، كما قال الله تعالى: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 183.

فأخبر تعالى أنهم يفسرونها، ويتأولونها، ويضعونها على غير مواضعها، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء، وهو أنهم يتصرفون في معانيها، ويحملونها على غير المراد، كما بدلوا حكم الرجم بالجلد، والتحميم مع بقاء لفظ الرجم فيها، وكما أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، مع أنهم مأمورون بإقامة الحد، والقطع على الشريف والوضيع.

فأما تبديل ألفاظها فقال قائلون: بأنها جميعها بدلت، وقال آخرون: لم تبدل، واحتجوا بقوله تعالى: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } 184.

وقوله: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ } الآية 185.

وبقوله: { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } 186.

وبقصة الرجم، فإنهم كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر، وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب، وجابر بن عبد الله وفي السنن عن أبي هريرة وغيره، لما تحاكوا إلى رسول الله في قصة اليهودي واليهودية الذين زنيا فقال لهم: « ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ ».

فقالوا: نفضحهم ويجلدون فأمرهم رسول الله بإحضار التوراة فلما جاؤوا بها، وجعلوا يقرؤنها ويكتمون آية الرجم التي فيها، ووضع عبد الله بن صور بأيده على آية الرجم، وقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له رسول الله : « ارفع يدك يا أعور ».

فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم فأمر رسول الله برجمهما، وقال: « اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ».

وعند أبي داود: أنهم لما جاؤوا بها نزع الوسادة من تحته فوضعها تحتها، وقال: آمنت بك وبمن أنزلك، وذكر بعضهم أنه قام لها ولم أقف على إسناده، والله أعلم.

وهذا كله يشكل على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهم، أن التوراة انقطع تواترها في زمن بخت نصر، ولم يبق من يحفظها إلا العزير، ثم العزيز إن كان نبيا فهو معصوم، والتواتر إلى المعصوم يكفي، اللهم إلا أن يقال: إنها لم تتواتر إليه، لكن بعده زكريا، ويحيى، وعيسى، وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة، فلو لم تكن صحيحة معمولا بها، لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء معصومون.

ثم قد قال الله تعالى فيما أنزل على رسوله محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء، منكرا على اليهود في قصدهم الفاسد إذ عدلوا عما يعتقدون صحته عندهم، وأنهم مأمورون به حتما إلى التحاكم إلى رسول الله ، وهم يعاندون ما جاء به لكن لما كان في زعمهم ما قد يوافقهم على ما ابتدعوه من الجلد والتحميم المصادم لما أمر الله به حتما وقالوا: إن حكم لكم بالجلد والتحميم فاقبلوه، وتكونون قد اعتذرتم بحكم نبي لكم عند الله يوم القيامة، وإن لم يحكم لكم بهذا بل بالرجم فاحذروا أن تقبلوا منه.

فأنكر الله تعالى عليهم في هذا القصد الفاسد الذي إنما حملهم عليه الغرض الفاسد، وموافقة الهوى، لا الدين الحق فقال: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ... } الآية 187.

ولهذا حكم بالرجم قال:

« اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ».

وسألهم ما حملهم على هذا ولم تركوا أمر الله الذي بأيديهم؟ فقالوا: إن الزنا قد كثر في أشرافنا ولم يمكنا أن نقيمه عليهم، وكنا نرجم من زنى من ضعفائنا.

فقلنا تعالوا إلى أمر نصف نفعله مع الشريف والوضيع فاصطلحنا على الجلد والتحميم، فهذا من جملة تحريفهم وتبديلهم وتغييرهم وتأويلهم الباطل، وهذا إنما فعلوه في المعاني مع بقاء لفظ الرجم في كتابهم، كما دل عليه الحديث المتفق عليه.

فلهذا قال من قال: هذا من الناس إنه لم يقع تبديلهم إلا في المعاني، وإن الألفاظ باقية وهي حجة عليهم، إذ لو أقاموا ما في كتابهم جميعه لقادهم ذلك إلى اتباع الحق ومتابعة الرسول محمد .

كما قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ... } الآية 188.

وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ.. } الآية 189.

وقال تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ... } الآية 190.

وهذا المذهب وهو القول بأن التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها، حكاه البخاري عن ابن عباس في آخر كتابه الصحيح، وقرر عليه ولم يرده. وحكاه العلامة فخر الدين الرازي في تفسيره عن أكثر المتكلمين.

ليس للجنب لمس التوراة

وذهب فقهاء الحنفية إلى أنه لا يجوز للجنب مس التوراة وهو محدث، وحكاه الحناطي في فتاويه عن بعض أصحاب الشافعي وهو غريب جدا، وذهب آخرون من العلماء إلى التوسط في هذين القولين منهم: شيخنا الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله فقال: أما من ذهب إلى أنها كلها مبدلة من أولها إلى آخرها ولم يبق منها حرف إلا بدلوه فهذا بعيد.

وكذا من قال لم يبدل شيء منها بالكلية بعيد أيضا، والحق أنه دخلها تبديل وتغيير، وتصرفوا في بعض ألفاظها بالزيادة والنقص كما تصرفوا في معانيها، وهذا معلوم عند التأمل ولبسطه موضع آخر، والله أعلم.

كما في قوله في قصة الذبيح: اذبح ابنك وحيدك، وفي نسخة: بكرك إسحاق، فلفظة إسحاق مقحمة مزيدة بلا مرية، لأن الوحيد وهو البكر إسماعيل لأنه ولد قبل إسحاق بأربع عشر سنة، فكيف يكون الوحيد البكر إسحاق؟ وإنما حملهم على ذلك حسد العرب أن يكون إسماعيل غير الذبيح، فأرادوا أن يذهبوا بهذه الفضيلة لهم فزادوا ذلك في كتاب الله افتراء على الله وعلى رسوله .

وقد اغتر بهذه الزيادة خلق كثير من السلف والخلف، ووافقوهم على أن الذبيح إسحاق، والصحيح الذبيح إسماعيل كما قدمنا، والله أعلم.

وهكذا في توراة السامرة في العشر الكلمات زيادة الأمر بالتوجه إلى الطور في الصلاة، وليس ذلك في سائر نسخ اليهود والنصارى.

وهكذا يوجد في الزبور المأثور عن داود عليه السلام مختلفا كثيرا وفيه أشياء مزيدة ملحقة فيه وليست منه، والله أعلم.

قلت: وأما ما بأيديهم من التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها وتحريف كثير من ألفاظها، وتغيير القصص والألفاظ، والزيادات والنقص البين الواضح، وفيها من الكذب البين والخطأ الفاحش شيء كثير جدا، فأما ما يتلونه بلسانهم ويكتبونه بأقلامهم فلا اطلاع لنا عليه، والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه.

وأما النصارى فأناجيلهم الأربعة من طريق مرقس، ولوقا، ومتى، ويوحنا أشد اختلافا وأكثر زيادة ونقصا، وأفحش تفاوتا من التوراة، وقد خالفوا أحكام التوراة والإنجيل في غير ما شيء قد شرعوه لأنفسهم، فمن ذلك صلاتهم إلى الشرق وليست منصوصا عليها ولا مأمورا بها في شيء من الأناجيل الأربعة.

وهكذا تصويرهم كنائسهم وتركهم الختان، ونقلهم صيامهم إلى زمن الربيع، وزيادته إلى خمسين يوما، وأكلهم الخنزير، ووضعهم الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، والرهبانية: وهي ترك التزويج لمن أراد التعبد وتحريمه عليه.

وكتبهم القوانين التي وضعتها لهم الأساقفة الثلاثمائة والثمانية عشر، فكل هذه الأشياء ابتدعوها ووضعوها في أيام قسطنطين بن قسطن باني القسطنطينية، وكان زمنه بعد المسيح بثلاثمائة سنة، وكان أبوه أحد ملوك الروم وتزوج أمه هيلانة في بعض أسفاره للصيد من بلاد حران، وكانت نصرانية على دين الرهابين المتقدمين.

فلما ولد لها منه قسطنطين المذكور، تعلم الفلسفة وبهر فيها وصار فيه ميل بعض الشيء إلى النصرانية التي أمه عليها، فعظم القائمين بها بعض الشيء وهو على اعتقاد الفلاسفة.

فلما مات أبوه واستقل هو في المملكة، سار في رعيته سيرة عادلة فأحبه الناس، وساد فيهم وغلب على ملك الشام بأسره مع الجزيرة وعظم شأنه، وكان أول القياصرة، ثم اتفق اختلاف في زمانه بين النصارى ومنازعة بين بترك الإسكندرية اكصندروس، وبين رجل من علمائهم يقال له: عبد الله بن أريوس.

فذهب اكصندروس إلى أن: عيسى ابن الله تعالى الله عن قوله، وذهب ابن أريوس إلى أن: عيسى عبد الله ورسوله، واتبعه على هذا طائفة من النصارى.

واتفق الأكثرون الأخسرون على قول بتركهم، ومنع ابن أريوس من دخول الكنيسة هو وأصحابه، فذهب يستعدي على اكصندروس وأصحابه إلى ملك قسطنطين، فسأله الملك عن مقالته فعرض عليه عبد الله بن أريوس ما يقول في المسيح من أنه عبد الله ورسوله، واحتج على ذلك فحال إليه وجنح إلى قوله، فقال له قائلون: فينبغي أن تبعث إلى خصمه فتسمع كلامه، فأمر الملك بإحضاره وطلب من سائر الأقاليم كل أسقف وكل من عنده في دين النصرانية.

وجمع البتاركة الأربعة من القدس، وإنطاكية، ورومية، والإسكندرية، فيقال: إنهم اجتمعوا في مدة سنة وشهرين ما يزيد على ألفي أسقف، فجمعهم في مجلس واحد وهو المجمع الأول من مجامعهم الثلاثة المشهورة، وهم مختلفون اختلافا متباينا منتشرا جدا، فمنهم الشرذمة على المقالة التي لا يوافقهم أحد من الباقين عليها، فهؤلاء خمسون على مقالة، وهؤلاء ثمانون على مقالة أخرى، وهؤلاء عشرة على مقالة، وأربعون على أخرى، ومائة على مقالة، ومائتان على مقالة، وطائفة على مقالة ابن أريوس، وجماعة على مقالة أخرى.

فلما تفاقم أمرهم، وانتشر اختلافهم حار فيهم الملك قسطنطين مع أنه سيئ الظن بما عدا دين الصابئين من أسلافه اليونانيين، فعمد إلى أكثر جماعة منهم على مقالة من مقالاتهم، فوجدهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، قد اجتمعوا على مقالة اكصندروس ولم يجد طائفة بلغت عدتهم.

فقال هؤلاء: أولى بنصر قولهم لأنهم أكثر الفرق، فاجتمع بهم خصوصا، ووضع سيفه وخاتمه إليهم وقال: إني رأيتكم أكثر الفرق قد اجتمعتم على مقالتكم هذه، فأنا أنصرها وأذهب إليها.

فسجدوا له وطلب منهم أن يضعوا له كتابا في الأحكام، وأن تكون الصلاة إلى الشرق لأنها مطلع الكواكب النيرة، وأن يصوروا في كنائسهم صورا لها جثث، فصالحوه على أن تكون في الحيطان.

فلما توافقوا على ذلك أخذ في نصرهم وإظهار كلمتهم، وإقامة مقالتهم، وإبعاد من خالفهم وتضعيف رأيه وقوله، فظهر أصحابه بجاهه على مخالفيهم، وانتصروا عليهم، وأمر ببناء الكنائس على دينهم وهم الملكية نسبة إلى دين الملك.

فبني في أيام قسطنطين بالشام وغيرها في المدائن والقرى أزيد من اثنتي عشر ألف كنيسة، واعتنى الملك ببناء بيت لحم يعني على مكان مولد المسيح، وبنت أمه هيلانة قمامة بيت المقدس على مكان المصلوب الذي زعمت اليهود والنصارى بجهلهم وقلة علمهم أنه المسيح عليه الصلاة والسلام.

ويقال: إنه قتل من أعداء أولئك، وخد لهم الأخاديد في الأرض، وأجج فيها النار وأحرقهم بها كما ذكرناه في سورة البروج، وعظم دين النصرانية، وظهر أمره جدا بسبب الملك قسطنطين، وقد أفسده عليهم فسادا لا إصلاح له ولا نجاح معه ولا فلاح عنده.

وكثرت أعيادهم بسبب عظمائهم، وكثرت كنائسهم على أسماء عبادهم، وتفاقم كفرهم، وغلظت مصيبتهم، وتخلد ضلالهم، وعظم وبالهم، ولم يهد الله قلوبهم ولا أصلح بالهم، بل صرف قلوبهم عن الحق، وأمال عن الاستقامة، ثم اجتمعوا بعد ذلك مجمعين في قضية النسطورية واليعقوبية.

وكل فرقة من هؤلاء تكفر الأخرى، وتعتقد تخليدهم في نار جهنم، ولا يرى مجامعتهم في المعابد والكنائس، وكلهم يقول بالأقانيم الثلاثة: أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة، ولكن بينهم اختلاف في الحلول والاتحاد فيما بين اللاهوت والناسوت، هل تدرعه أو حل فيه، أو اتحد به؟

واختلافهم في ذلك شديد، وكفرهم بسببه غليظ، وكلهم على الباطل إلا من قال من الأريوسية أصحاب عبد الله بن أريوس: إن المسيح عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه كما يقول المسلمون فيه سواء.

ولكن لما استقر أمر الأريوسية على هذه المقالة، تسلط عليهم الفرق الثلاثة بالإبعاد والطرد حتى قلوا، فلا يعرف اليوم منهم أحد فيما يعلم، والله أعلم.

كتاب الجامع الأخبار الأنبياء المتقدمين

قال الله تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } الآية 191.

وقال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورا * وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيما * رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزا حَكِيما } 192.

وقد روى ابن حبان في صحيحه، وابن مردويه في تفسيره وغيرهما، من طريق إبراهيم بن هشام، عن يحيى بن محمد الغساني الشامي، وقد تكلموا فيه، حدثني أبي، عن جدي، عن أبي إدريس، عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟

قال: « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ».

قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟

قال: « ثلاثمائة وثلاثة عشر، جم غفير ».

قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟

قال: « آدم ».

قلت: يا رسول الله نبي مرسل؟

قال: « نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلا ثم قال: يا أبا ذر أربعة سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، وخنوخ، وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم. وأربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر. وأول نبي من بني إسرائيل: موسى، وآخرهم: عيسى، وأول النبيين: آدم، وآخرهم نبيك ».

وقد أورد هذا الحديث أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات.

وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: « ومائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا ». وهذا أيضا من هذا الوجه ضعيف، فيه ثلاثة من الضعفاء: معان وشيخه، وشيخ شيخه.

وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : « بعث الله ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس ». 193.

وقال أبو يعلى أيضا: حدثنا أبو الربيع، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، حدثنا معبد بن خالد الأنصاري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : « كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى، ثم كنت أنا ». 194.

وقد رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي، عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسلم بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : « بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل ». 195

حديث إني خاتم ألف نبي

قال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت في كتاب أبي بخطه: حدثني عبد المتعالي ابن عبد الوهاب، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا مجالد عن أبي الوداك قال: قال أبو سعيد: هل تقر الخوارج بالدجال؟

قال: قلت: لا.

فقال: قال رسول الله : « إني خاتم ألف نبي أو أكثر، وما بعث الله نبيا يتبع إلا وحذر أمته منه، وإني قد بين لي فيه ما لم يبين لأحد منهم، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء تدخن ». 196

وقد روي عن جابر بن عبد الله فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: قال رسول الله : « إني لخاتم ألف نبي أو أكثر، وإنه ليس منهم بني إلا وقد أنذر قومه الدجال، وأنه قد تبين لي فيه ما لم يتبين لأحد منهم وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ».

وهذا إسناد حسن، وهو محمول على ذكر عدد من أنذر قومه الدجال من الأنبياء، لكن في الحديث الآخر: « ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الدجال ». فالله أعلم.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن فرات يعني القزاز قال: سمعت أبا حازم يحدث قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي قال: « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون ».

قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟

قال: « فوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ». 197

وقال البخاري: حدثنا عمرو بن حفص، حدثنا أبي حدثني الأعمش، حدثني شقيق قال: قال عبد الله - هو ابن مسعود - كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ». 198

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري قال: وضع رجل يده اليمنى على النبي فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك، فقال النبي : « إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباء فيجوبها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء ». 199

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان بن عاصم بن أبي النجود، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟

قال: « الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عليه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض وما عليه خطيئة ». 200

وتقدم في الحديث: « نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد وأمهاتنا شتى ».

والمعنى: أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع، ونسخ بعضها بعضا حتى انتهى الجميع إلى ما شرع الله لمحمد وعليهم أجمعين.

إلا أن كل نبي بعثه الله فإنما دينه الإسلام، وهو التوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له كما قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } 201.

وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } 202.

وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ... } الآية 203.

فأولاد العلات أن يكون الأب واحدا والأمهات متفرقات، فالأب بمنزلة الدين وهو التوحيد، والأمهات بمنزلة الشرائع في اختلاف أحكامها كما قال تعالى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا } 204.

وقال: { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكا هُمْ نَاسِكُوهُ } 205.

وقال: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } 206 على أحد القولين في تفسيرها.

والمقصود أن الشرائع وإن تنوعت في أوقاتها، إلا أن الجميع آمرة بعبادة الله وحده لا شريك له، وهو دين الإسلام الذي شرعه الله لجميع الأنبياء، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره يوم القيامة كما قال تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } 207.

وقال تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } 208.

وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا... } الآية 209، فدين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الإخلاص له وحده دون ما سواه، والإحسان أن يكون على الوجه المشروع في ذلك الوقت المأمور به، ولهذا لا يقبل الله من أحد عملا بعد أن بعث محمدا على ما شرعه له.

كما قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا } 210.

وقال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } 211.

وقال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } 212.

وقال رسول الله : « بعثت إلى الأحمر والأسود ».

قيل: أراد العرب والعجم، وقيل: الإنس والجن.

وقال : « والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ».

والأحاديث في هذا كثيرة جدا.

والمقصود أن إخوة العلات أن يكونوا من أب واحد وأمهاتهم شتى، مأخوذ من شرب العلل بعد النهل. وأما إخوة الأخياف فعكس هذا ؛ أن تكون أمهم واحدة من آباء شتى. وإخوة الأعيان فهم الأشقاء من أب واحد وأم واحدة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وفي الحديث الآخر: « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة ».

وهذا من خصائص الأنبياء أنهم لا يورثون، وما ذاك إلا لأن الدنيا أحقر عندهم من أن تكون مخلفة عنهم، ولأن توكلهم على الله عز وجل في ذراريهم أعظم، وأشد، وآكد من أن يحتاجوا معه إلى أن يتركوا لورثتهم من بعدهم ما لا يستأثرون به عن الناس، بل يكون جميع ما تركوه صدقة لفقراء الناس، ومحاويجهم، وذو خلتهم.

وسنذكر جميع ما يختص بالأنبياء عليهم السلام، مع خصائص نبينا وعليهم أجمعين، في أول كتاب النكاح من كتاب الأحكام الكبير، حيث ذكره الأئمة من المصنفين اقتداء بالإمام أبي عبد الله الشافعي رحمة الله عليه وعليهم أجمعين.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن أن عبد رب الكعبة قال: انتهيت إلى عبد الله بن عمرو وهو جالس في ظل الكعبة، فسمعته يقول: بينا نحن مع رسول الله في سفر إذ نزل منزلا فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جشرة، ومنا من ينتضل، إذ نادى مناديه: الصلاة جامعة، قال: فاجتمعنا، قال: فقام رسول الله فخطبنا فقال: « إنه لم يكن نبي قبلي إلا دل أمته على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم ما يعلمه شرا لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبها بلاء شديد، وأمور ينكرونها، تجيء فتن يريق بعضها بعضا، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه، ثم تنكشف، فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ».

قال: فأدخلت رأسي من بين الناس، فقلت: أنشدك بالله أنت سمعت هذا من رسول الله قال: فأشار بيده إلى أذنيه، وقال: سمعته أذناي، ووعاه قلبي، قال: فقلت: هذا ابن عمك - يعني معاوية - يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا، وقد قال الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } 213.

قال: فجمع يديه، فوضعهما على جبهته، ثم نكس هنيهة، ثم رفع رأسه فقال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله.

ورواه أحمد أيضا عن وكيع عن الأعمش به، وقال فيه: { أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذره ما يعلمه شرا لهم } وذكر تمامه بنحوه. 214

ورواه مسلم أيضا من حديث الشعبي، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمر، عن النبي بنحوه.

آخر الجزء الثامن من خط المصنف رحمه الله تعالى، يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أخبار العرب، وكان الفراغ من تتمة هذا المجلد في سابع عشر شوال، سنة سهر ربيعة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، بدمشق المحروسة.

على يد أفقر عباد الله، وأحوجهم إلى رحمته، وعفوه، وغفرانه، ولطفه، وكرمه إسماعيل الدرعي الشافعي الأنصاري غفر الله تعالى له، وختم له بخير، ولأحبابه، ولإخوانه، ولمشايخه، ولجميع المسلمين، والصلاة والسلام على محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

ذكر أخبار العرب

قيل: إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام والتحية والإكرام، والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل، وقد قدمنا أن العرب العاربة منهم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأميم، وجرهم، والعماليق، وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام وفي زمانه أيضا.

فأما العرب المستعربة: وهم عرب الحجاز فمن ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأما عرب اليمن: وهم حمير، فالمشهور أنهم من قحطان، واسمه: مهزم، قاله ابن ماكولا.

وذكروا أنهم كانوا أربعة إخوة: قحطان، وقاحط، ومقحط، وفالغ، وقحطان بن هود، وقيل: هو هود، وقيل: هود أخوه، وقيل: من ذريته، وقيل: إن قحطان من سلالة إسماعيل، حكاه ابن إسحاق، وغيره. فقال بعضهم: هو قحطان بن الهميسع بن تيمن بن قيذر بنت ابن إسماعيل، وقيل: غير ذلك في نسبه إلى إسماعيل، والله أعلم.

وقد ترجم البخاري في صحيحه على ذلك، فقال: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام:

حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن يزيد بن أبي عبيد، حدثنا سلمة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله على قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف، فقال:

« ارموا بني إسماعيل، وأنا مع بني فلان » لأحد الفريقين. فأمسكوا بأيدهم.

فقال: « ما لكم؟ ».

قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان؟

فقال: « ارموا وأنا معكم كلكم ».

انفرد به البخاري، وفي بعض ألفاظه: « ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع ابن الأدرع ». فأمسك القوم فقال: « ارموا وأنا معكم كلكم ».

قال البخاري وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم، كما سيأتي بيانه، وكانت الأوس والخزرج منهم، وقد قال لهم عليه الصلاة والسلام:

« ارموا بني إسماعيل » فدل على أنهم من سلالته، وتأوله آخرون على أن المراد بذلك جنس العرب، لكنه تأويل بعيد إذ هو خلاف الظاهر بلا دليل.

لكن الجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم، ليسوا من سلالة إسماعيل، وعندهم أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية، وعدنانية ؛ فالقحطانية: شعبان سبأ وحضرموت، والعدنانية: شعبان أيضا ربيعة ومضر، ابنا نزار بن معد بن عدنان، والشعب الخامس وهم: قضاعة مختلف فيهم. فقيل: إنهم عدنانيون.

قال ابن عبد البر وعليه الأكثرون، ويروى هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وجبير بن مطعم، وهو اختيار الزبير بن بكار، وعمه مصعب الزبيري، وابن هشام، وقد ورد في حديث قضاعة بن معد، ولكنه لا يصح، قاله ابن عبد البر وغيره، ويقال: إنهم لن يزالوا في جاهليتهم، وصدر من الإسلام، ينتسبون إلى عدنان، فلما كان في زمن خالد بن يزيد بن معاوية، وكانوا أخواله انتسبوا إلى قحطان، فقال في ذلك أعشى بن ثعلبة في قصيدة له:

أبلغ قضاعة في القرطاس إنهم * لولا خلائف آل الله ما عتقوا

قالت قضاعة إنا من ذوي يمن * والله يعلم ما بروا وما صدقوا

قد ادعوا والدا ما نال أمهم * قد يعلمون ولكن ذلك الفرق

وقد ذكر أبو عمرو السهيلي أيضا من شعر العرب ما فيه إبداع في تفسير قضاعة في انتسابهم إلى اليمن، والله أعلم.

والقول الثاني أنهم من قحطان، وهو قول ابن إسحاق، والكلبي، وطائفة من أهل النسب، قال ابن إسحاق وهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وقد قال بعض شعرائهم وهو عمرو بن مرة صحابي له حديثان:

يا أيها الداعي ادعنا وأبشر * وكن قضاعيا ولا تنزر

نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر * قضاعة بن مالك بن حمير

النسب المعروف غير المنكر * في الحجر المنقوش تحت المنبر

قال بعض أهل النسب:

هو قضاعة بن مالك بن عمر بن مرة بن زيد بن حمير، وقال ابن لهيعة عن معروف بن سويد، عن أبي عشابة محمد بن موسى عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله أما نحن من معد؟

قال: « لا ».

قلت: فمن نحن؟

قال: « أنتم قضاعة بن مالك بن حمير ».

قال أبو عمر بن عبد البر، ولا يختلفون أن جهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمران بن إلحاف بن قضاعة قبيلة عقبة بن عامر الجهني، فعلى هذا قضاعة في اليمن في حمير بن سبأ.

وقد جمع بعضهم بين هذين القولين بما ذكره الزبير بن بكار وغيره، من أن قضاعة امرأة من جرهم، تزوجها مالك بن حمير، فولدت له قضاعة، ثم خلف عليها معد بن عدنان وابنها صغير، وزعم بعضهم أنه كان حملا فنسب إلى زوج أمه، كما كانت عادة كثير منهم ينسبون الرجل إلى زوج أمه، والله أعلم.

وقال محمد بن سلام البصري النسابة: العرب ثلاثة جراثيم: العدنانية، والقحطانية، وقضاعة.

قيل له: فأيهما أكثر العدنانية أو القحطانية؟

فقال: ما شاءت قضاعة أن تيامنت ؛ فالقحطانية أكثر، وإن تعددت، فالعدنانية أكثر. وهذا يدل على أنهم يتلومون في نسبهم، فإن صح حديث ابن لهيعة المقدم، فهو دليل على أنهم من القحطانية، والله أعلم.

وقد قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } 215.

قال علماء النسب: يقال شعوب، ثم قبائل، ثم عمائر، ثم بطون، ثم أفخاذ، ثم فصائل، ثم عشائر. والعشيرة أقرب الناس إلى الرجل، وليس بعدها شيء.

ولنبدأ أولا بذكر القحطانية، ثم نذكر بعدهم عرب الحجاز، وهم العدنانية، وما كان من أمر الجاهلية ليكون ذلك متصلا بسيرة رسول الله ، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

وقال البخاري باب ذكر قحطان: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي المغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي قال:

« لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه ».

وكذا رواه مسلم عن قتيبة، عن الدراوردي، عن ثور بن زيد به.

قال السهيلي: وقحطان أول من قيل له أبيت اللعن، وأول من قيل له أنعم صباحا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، عن جرير، حدثني راشد بن سعد المقراي، عن أبي حي، عن ذي فجر أن رسول الله قال:

« كان هذا الأمر في حمير، فنزعه الله منهم، فجعله في قريش » (وس ى ع و د ا ل ى هـ م) قال عبد الله: كان هذا في كتاب أبي، وحيث حدثنا به تكلم به على الاستواء، يعني: وسيعود إليهم.

قصة سبأ

قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاما آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } 216.

قال علماء النسب منهم محمد بن إسحاق: اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان، قالوا: وكان أول من سبى من العرب فسمى سبأ لذلك. وكان يقال له: الرائش، لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه.

قال السهيلي: ويقال إنه أول من تتوج.

وذكر بعضهم أنه كان مسلما، وكان له شعر بشر فيه بوجود رسول الله ، فمن ذلك قوله:

سيملك بعدنا ملكا عظيما * نبي لا يرخص في الحرام

ويملك بعده منهم ملوك * يدينون العباد بغير ذام

ويملك بعدهم منا ما ملوك * يصير الملك فينا باقتسام

ويملك بعد قحطان نبي * تقي جبينه خير الأنام

يسمى أحمدا يا ليت أني * أعمر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري * بكل مدجج وبكل رام

متى يظهر فكونوا ناصريه* ومن يلقاه يبلغه سلامي

حكاه ابن دحية في كتابه (التنوير) في مولد البشير النذير.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن دعلة، سمعت عبد الله بن العباس يقول:

إن رجلا سأل النبي عن سبأ ما هو: أرجل أم امرأة أم أرض؟

قال: « بل هو رجل، ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة، فأما اليمانيون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير، وأما الشامية: فلخم، وجذام وعاملة، وغسان ».

وقد ذكرنا في التفسير أن فروة بن مسيك الغطيفي، هو السائل عن ذلك، كما استقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه هناك، ولله الحمد

والمقصود أن سبأ يجمع هذه القبائل كلها، وقد كان فيهم التبابعة بأرض اليمن، وأحدهم تُبَّع، وكان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم، كما كانت الأكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك.

وكانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر وحضرموت تُبَّعا، كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر، ومن ملك الفرس كسرى، ومن ملك مصر فرعون، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس.

وقد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس، وقد قدمنا قصتها مع سليمان عليه السلام، وقد كانوا في غبطة عظيمة، وأرزاق دارة، وثمار وزروع كثيرة، وكانوا مع ذلك على الاستقامة والسداد وطريق الرشاد، فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار

قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا. وزعم السدي أنه أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي، فالله أعلم. والمقصود أنهم لما عدلوا عن الهدى إلى الضلال، وسجدوا للشمس من دون الله، وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها أيضا، واستمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم، كما قال تعالى: { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } 217.

ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم، أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين، فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا، حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين، وغرسوا فيهما البساتين والأشجار المثمرة الأنيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة.

ويقال: كان أول من بناه سبأ بن يعرب، وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه، وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء، ومات ولم يكمل بناؤه، فكملته حمير بعده، وكان اتساعه فرسخا في فرسخ.

وكانوا في غبطة عظيمة، وعيش رغيد، وأيام طيبة، حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها ؛ فتمتلئ من الثمار ما يتساقط فيه من نضجه وكثرته.

وذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث، ولا الدواب المؤذية، لصحة هوائهم، وطيب فنائهم، كما قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } 218.

وكما قال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } 219.

فلما عبدوا غير الله، وبطروا نعمته، وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم، وطيب ما بينها من البساتين، وأمن الطرقات، سألوا أن يباعد بين أسفارهم، وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب، وطلبوا أن يبدلوا بالخير شرا، كما سأل بنو إسرائيل بدل المن والسلوى: البقول، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل، فسلبوا تلك النعمة العظيمة، والحسنة العميمة، بتخريب البلاد، والشتات على وجوه العباد، كما قال تعالى: { فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } .

قال غير واحد: أرسل الله على أصل السد الفار، وهو الجرذ، ويقال: الخلد، فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير، فلم تغن شيئا، إذ قد حم القدر، ولم ينفع الحذر، كلا لا وزر، فلما تحكم في أصله الفساد، سقط وانهار، فسلك الماء القرار، فقطعت تلك الجداول والأنهار، وانقطعت تلك الثمار، ومادت تلك الزروع والأشجار، وتبدلوا بعدها برديء الأشجار والأثمار، كما قال العزيز الجبار: { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ } .

قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: هو الأراك، وثمره البرير، وأثل وهو: الطرفاء، وقيل: يشبهه، وهو حطب لا ثمر له { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } وذلك لأنه لما كان يثمر النبق، كان قليلا مع أنه ذو شوك كثير، وثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل: لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى.

ولهذا قال تعالى: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } أي: إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا، وكذب رسلنا، وخالف أمرنا، وانتهك محارمنا.

وقال تعالى: { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } وذلك أنهم لما هلكت أموالهم، وخربت بلادهم، احتاجوا أن يرتجلوا منها، وينتقلوا عنها، فتفرقوا في غور البلاد ونجدها، أيدي سبأ شَذَرَ مَذَرَ.

فنزلت طوائف منهم الحجاز، ومنهم خزاعة نزلوا ظاهر مكة، وكان من أمرهم ما سنذكره، ومنهم المدينة المنورة اليوم، فكانوا أول من سكنها. ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، فخالفوا الأوس والخزرج، وأقاموا عندهم، وكان من أمرهم ما سنذكره.

ونزلت طائفة أخرى منهم الشام، وهم الذين تنصروا فيما بعد، وهم: غسان، وعاملة، وبهراء، ولخم، وجذام، وتنوخ، وتغلب، وغيرهم، وسنذكرهم عند ذكر فتوح الشام في زمن الشيخين رضي الله عنهما.

قال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة، وهو ميمون بن قيس:

وفي ذاك للمؤتسي أسوة * ومأرم عفي عليها العرم

رخام بنته لهم حمير * إذا جاء مواره لم يرم

فأروى الزرع وأعنانها * على سعة ماءهم إذ قسم

فصاروا أيادي لا يقدرو * ن على شرب طفل إذا ما فطم

وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة، أن أول من خرج من اليمن قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي، ولخم هو ابن عدي بن الحارث بن مرة بن ازد بن زيد بن مهع بن عمرو بن عريب بن يشجب ابن زيد بن كهلان بن سبأ. ويقال: لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ، قاله ابن هشام.

قال ابن إسحاق: وكان سبب خروجه من اليمن فيما حدثني أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء، فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمن، فكاد قومه، فأمر اصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه، أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به.

فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي، وعرض أمواله، فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله، وانتقل في ولده وولد ولده.

وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك، مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك، فكانت حربهم سجالا، ففي ذلك قال عباس بن مرداس:

وعك بن عدنان الذين تلعبوا * بغسان حتى طردوا كل مطرد

قال: فارتحلوا عنهم، فتفرقوا في البلاد، فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرا، ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمان.

ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه، وفي ذلك أنزل الله هذه الآيات. وقد روي عن السدي قريب من هذا.

وعن محمد بن إسحاق في روايته أن عمرو بن عامر كان كاهنا. وقال غيره: كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة، فأخبرت بقرب هلاك بلادهم، وكأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي سلط على سدهم، ففعلوا ما فعلوا، والله أعلم. وقد ذكرت قصته مطولة عن عكرمة، فيما رواه ابن أبي حاتم في التفسير.

فصل إقامة ست قبائل من سبأ في اليمن.

وليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم، بل أقام أكثرهم بها، وذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد، وهو مقتضى الحديث المتقدم عن ابن عباس: أن جميع قبائل سبأ لم يخرجوا من اليمن، بل إنما تشاءم منهم أربعة، وبقي باليمن ستة: وهم مذحج، وكندة، وأنمار، والأشعريون، وأنمار هو: أبو خثعم، وبجيلة، وحمير.

فهؤلاء ست قبائل من سبأ أقاموا باليمن، واستمر فيهم الملك والتبايعة حتى، سلبهم ذلك ملك الحبشة بالجيش الذي بعثه صحبة أميريه: أبرهة، وأرياط نحوا من سبعين سنة.

ثم استرجعه سيف ابن ذي يزن الحميري، وكان ذلك قبل مولد رسول الله بقليل، كما سنذكره مفصلا قريبا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.

ثم أرسل رسول الله إلى أهل اليمن عليا وخالد بن الوليد، ثم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل، وكانوا يدعون إلى الله تعالى، ويبينون لهم الحجج، ثم تغلب على اليمن الأسود العنسي، وأخرج نواب رسول الله منها، فلما قُتل الأسود، استقرت اليد الإسلامية عليها في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كما سنبين ذلك بعد البعثة إن شاء الله تعالى.

قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر

المتقدم ذكره اللخمي، كذا ذكره ابن إسحاق، وقال السهيلي: ونساب اليمن تقول نصر بن ربيعة ابن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم.

وقال الزبير بن بكار: ربيعة بن نصر بن مالك بن شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم، ولخم: أخو جذام، وسمي لخما لأنه لخم أخاه، أي: لطمه، فعضه الآخر في يده فجذمها، فسمي جذاما.

وكان ربيعة أحد ملوك حمير التبابعة، وخبره مع شق وسطيح الكاهنين، وإنذارهما بوجود رسول الله .

أما سطيح: فاسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان.

وأما شق: فهو ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس بن عبقر بن أنمار بن نزار، ومنهم من يقول: أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نابت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.

ويقال: إن سطيحا كان لا أعضاء له، وإنما كان مثل السطيحة، ووجهه في صدره، وكان إذا غضب انتفخ وجلس. وكان شق نصف إنسان. ويقال: إن خالد بن عبد الله بن القسري كان سلالته.

وذكر السهيلي أنهما وُلدا في يوم واحد، وكان ذلك يوم ماتت طريفة بنت الخير الحميرية. ويقال: إنها تفلت في فم كل منهما، فورث الكهانة عنها، وهي امرأة عمرو بن عامر المتقدم ذكره، والله أعلم.

قال محمد بن إسحاق: وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، فرأى رؤيا هائلة هالته، وفظع بها، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته، إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها، فقالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها.

فقال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، لأنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا، فليبعث إلى شق وسطيح، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.

فبعث إليهما فقدم إليه سطيح قبل شق، فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني، وفظعت بها، فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها.

فقال: أفعل.

رأيت حُمَمَة خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة.

فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟

قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش.

فقال له الملك: يا سطيح إن هذا لنا لغائط موجع، فمتى هو كائن: أفي زماني أم بعده؟

فقال: لا وأبيك، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين.

قال: أفيدوم ذلك من سلطانهم أم ينقطع؟

قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين.

قال: ومن بلى ذلك من قتلهم وإخراجهم؟

قال: يليهم أرم بن ذي يزن يخرج عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن.

قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟

قال: بل ينقطع.

قال: ومن يقطعه؟

قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قِبَلِ العلي.

قال: وممن هذا النبي؟

قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.

قال: وهل للدهر من آخر؟

قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.

قال: أحق ما تخبرني.

قال: نعم، والشفق والغسق والفلق إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.

قال: ثم قدم عليه شق، فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان. قال: نعم رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.

فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا، وأن قولهما واحد، إلا أن سطيحا قال: وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة. وقال شق: وقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة. فقال له الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئا، فما عندك في تأويلها؟

فقال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.

فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده؟

قال: لا بل بعده بزمان. ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان.

قال: ومن هذا العظيم الشأن؟

قال: غلام ليس بدني ولا مدن، يخرج عليهم من بيت ذي يزن فلا يترك منهم أحدا باليمن.

قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟

قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل من أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.

قال: وما يوم الفصل؟

قال: يوم يجزى فيه الولات، يدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع الناس فيه للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.

قال: أحق ما تقول؟

قال: أي ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض.

قال ابن إسحاق: فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له: سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة.

قال ابن إسحاق: فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر، يعني: الذي كان نائبا على الحيرة لملوك الأكاسرة، وكانت العرب تفد إليه وتمتدحه، وهذا الذي قاله محمد بن إسحاق من أن النعمان بن المنذر من سلالة ربيعة بن نصر قاله أكثر الناس.

وقد روى ابن إسحاق أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جيء بسيف النعمان بن المنذر سأل جبير بن مطعم عنه ممن كان؟ فقال: من أشلاء قنص بن معد بن عدنان. قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.

قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة

(وكيف أراد غزو البيت الحرام ثم شرفه وعظمه وكساه الحلل فكان أول من كساه).

قال ابن إسحاق: فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب، وتبان أسعد تبع الآخر ابن كلكيركب بن زيد، وزيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير ابن أنس بن الهميسع بن العربحج والعربحج، هو حميبر بن سبأ الأكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان.

قال عبد الملك بن هشام: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

قال ابن إسحاق: وتبان أسعد أبو كرب، هو الذي قدم المدينة، وساق الحبرين من اليهود إلى اليمن، وعمَّر البيت الحرام وكساه، وكان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر.

وكان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق على المدينة، وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها، وخلَّف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها.

فجمع له هذا الحي من الأنصار ورئيسهم عمرو بن طلحة أخو بني النجار، ثم أحد بني عمرو بن مبذول، واسم مبذول: عامر بن مالك بن النجار، واسم النجار: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.

وقال ابن هشام: عمرو بن طلحة هو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار، وطلة أمه، وهي بنت عامر بن زريق الخزرجية.

قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له: أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد عذقا له فضربه بمنجلة فقتله. وقال إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم. فاقتتلوا: فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا لكهام.

وحكى ابن إسحاق عن الأنصار: أن تبعا إنما كان حنقه على اليهود، أنهم منعوهم منه.

قال السهيلي: ويقال إنه إنما جاء لنصرة الأنصار أبناء عمه، على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها، واستطالوا عليهم، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فبينا تبع على ذلك من قتالهم، إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة: عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالوا له: أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك جل العقوبة.

فقال لهما: ولم ذلك؟

قالا: هي مهاجر نبي، يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى عن ذلك، ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة، وأتبعهما على دينهما.

قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فتوجه إلى مكة، وهي طريقه إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسفان وامج، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن بزار بن معد بن عدنان. فقالوا له: أيها الملك ألا ندلك على بيت مال داثرا غفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة، قال: بلى. قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده.

وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك، وبغى عنده. فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك. فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك، وهلاك جندك، ما نعلم بيتا لله عز وجل، اتخذه في الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه، لتهلكن وليهلكن من معك جميعا.

قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به، وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له، حتى تخرج من عنده.

قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك - أو كما قالا له - فعرف نصحهما وصدق حديثهما، وقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجهلم.

ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام - فيما يذكرون - ينحر بها للناس، ويطعم أهلها، ويسقيهم العسل.

وأُري في المنام أن يكسوا البيت، فكساء الخصف، ثم أُري في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساء المعافر، ثم أُري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساء الملاء والوصائل.

وكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه دما، ولا ميتة، ولا مئلاتا وهي المحايض، وجعل له بابا ومفتاحا، ففي ذلك قالت سبيعة بنت الأحب، تذكر ابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وتنهاه عن البغي بمكة، وتذكر له ما كان من أمر تبع فيها:

أبني لا تظلم بمكة * لا الصغير ولا الكبير

واحفظ محارمها بني * ولا يغرنك الغرور

أبني من يظلم بمكة * يلق أطراف الشرور

أبني يضرب وجهه * ويلج بخديه السعير

أبني قد جربتها * فوجدت ظالمها يبور

الله آمنها وما * بنيت بعرصتها قصور

والله آمن طيرها * والعصم تامن في ثبير

ولقد غزاها تبع * فكسا بنيتها الحبير

وأذل ربي ملكه * فيها فأوفى بالنذور

يمشي إليها حافيا * بفنائها ألفا بعير

ويظل يطعم أهلها * لحم المهارى والجزور

يسقيهم العسل المصفى * والرحيض من الشعير

والفيل أهلك جيشه * يرمون فيها بالصخور

والملك في أقصى البلاد * وفي الأعاجم والخزور

فاسمع إذا حدثت وأفهم * كيف عاقبة الأمور

قال ابن إسحاق: ثم خرج تبع متوجها إلى اليمن، بمن معه من الجنود وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخلوا فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.

قال ابن إسحاق: حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله يحدث: أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه وقال: إنه خير من دينكم. قالوا: تحاكمنا إلى النار؟ قال: نعم.

قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأخذ الظالم ولا تضر المظلوم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه.

فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فزجرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم، فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير.

وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، تعرق جباههما ولم تضرهما، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن.

قال ابن إسحاق: وقد حدثني محدث أن الحبرين، ومن خرج من حمير، إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، فدنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وهي تنقص عنهما، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، والله أعلم أي ذلك كان.

قال ابن إسحاق: وكان رئام بيتا لهم يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلمون فيه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا وبينه، قال: فشأنكما به، فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.

وقد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي : « لا تسبوا تُبعا فإنه قد كان أسلم ».

قال السهيلي: وروى معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: « لا تسبوا أسعد الحميري فإنه أول من كسى الكعبة ».

قال السهيلي: وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله شعرا:

شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم

فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم

وجاهدت بالسيف أعداءه * وفرجت عن صدره كل هم

قال: ولم يزل هذا الشعر تتوارثه الأنصار، ويحفظونه بينهم، وكان عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه.

قال السهيلي: وذكر ابن أبي الدنيا في كتب القبور أن قبرا حفر بصنعاء، فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب وفيه: هذا قبر لميس وحنى ابنتي تبع ماتتا، وهما تشهدان أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.

ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد، وهو أخو اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة جو، فسميت من يومئذ اليمامة

قال ابن إسحاق: فلما ملك ابنه حسان بن أبي كرب تبان أسعد، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الأعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم، فكلموا أخا له يقال له: عمرو وكان معه في جيشه، فقالوا له: أقتل أخاك حسان ونملكك علينا، وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم.

فاجتمعوا على ذلك إلا ذارعين الحميري، فإنه نهى عمرا عن ذلك فلم يقبل منه، فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان:

ألا من يشتري سهرا بنوم * سعيد من يبيت قرير عين

فأما حمير غدرت وخانت * فمعذرة الإله لذي رعين

ثم استودعهما عمرا. فلما قتل عمرو أخاه حسان ورجع إلى اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر، فسأل الأطباء والحذاق من الكهان والعرافين عما به، فقيل له: إنه والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيا إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر، فعند ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه.

فلما خلص إلى ذي رعين قال له: إن لي عندك براءة، قال: وما هي؟ قال: الكتاب الذي دفعته إليك فأخرجه، فإذا فيه البيتان فتركه، ورأى أنه قد نصحه، وهلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا.

وثوب لخنيعة ذي شناتر على ملك اليمن

وقد ملكها سبعا وعشرين سنة. قال ابن إسحاق: فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت الملك، يقال له: لخنيعة ينوف ذو شناتر، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، وكان مع ذلك امرءا فاسقا يعمل عمل قوم لوط، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك.

ثم يطلع من شربته تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده، قد أخذ مسواكا فجعله في فيه ليعلمهم أنه قد فرغ منه، حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان، وكان صبيا صغيرا حين قتل أخوه حسان، ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل، فلما أتاه رسوله، عرف ما يريد منه، فأخذ سكينا جديدا لطيفا فخبأه بين قدميه ونعله ثم أتاه.

فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله، ثم حزَّ رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها، ووضع مسواكه في فيه، ثم خرج على الناس، فقالوا له: ذا نواس أرطب أم يباس؟ فقال: سل نحماس استرطبان ذو نواس، استرطبان لا بأس، فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع، فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا: ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث.

فملكوه عليهم، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير وتسمى يوسف، فأقام في ملكه زمانا، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم عليه السلام على الإنجيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له: عبد الله بن الثامر.

ثم ذكر ابن إسحاق سبب دخول أهل نجران في دين النصارى، وأن ذلك كان على يدي رجل يقال له: فيميون، كان من عُبَّاد النصارى بأطراف الشام، وكان مجاب الدعوة.

وصحبه رجل يقال له صالح، فكان يتعبدان يوم الأحد، ويعمل فيميون بقية الجمعة في البناء، وكان يدعوا للمرضى والزمنى وأهل العاهات فيشفون، ثم استأسره وصاحبه بعض الأعراب فباعوهما بنجران، فكان الذي اشترى فيميون يراه إذا قام في مصلاه بالبيت الذي هو فيه في الليل، يمتلي عليه البيت نورا فأعجبه ذلك من أمره.

وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة لها عيد كل سنة، يعلقون عليها حُليّ نسائهم ويعكفون عندها، فقال فيميون لسيده: أرأيت إن دعوت الله على هذه الشجرة فهلكت أتعلمون أن الذي أنتم عليه باطل؟ قال: نعم.

فجمع له أهل نجران، وقام فيميون إلى مصلاه فدعا الله عليها، فأرسل الله عليها قاصفا فجعفها من أصلها، ورماها إلى الأرض، فاتبعه أهل نجران على دين النصرانية، وحملهم على شريعة الإنجيل، حتى حدثت فيهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران من أرض العرب.

ثم ذكر ابن إسحاق قصة عبد الله بن الثامر حين تنصر على يدي فيميون، وكيف قتله وأصحابه ذو نواس وخدَّ لهم الأُخدود.

وقال ابن هشام: وهو الحفر المستطيل في الأرض مثل الخندق، وأجج فيه النار وحرقهم بها، وقتل آخرين حتى قتل قريبا من عشرين ألفا، كما قدمنا ذلك مبسوطا في أخبار بني إسرائيل، وكما هو مستقصى في تفسير سورة { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } من كتابنا التفسير، ولله الحمد.

خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان

كما أخبر بذلك شق وسطيح الكاهنان، وذلك أنه لم ينج من أهل نجران إلا رجل واحد يقال له: دوس ذو ثعلبان على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر ملك الروم، فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، وذلك لأنه نصراني على دينهم.

فقال له: بعدت بلادك منا، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك. فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.

فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر، فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة، وأمر عليهم رجلا منهم، يقال له: أرياط، ومعه في جنده أبرهة الأشرم، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس، وسار إليه ذو نواس في حمير، ومن أطاعه من قبائل اليمن.

فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه، وجَّه فرسه في البحر، ثم ضربه فدخل فيه، فخاض به ضحضاح البحر، حتى أفضى به إلى غمرة، فأدخله فيها فكان آخر العهد به، ودخل أرياط اليمن وملكها. 220

وقد ذكر ابن إسحاق هاهنا، أشعارا للعرب فيما وقع من هذه الكائنة الغريبة، وفيها فصاحة، وحلاوة، وبلاغة، وطلاوة، ولكن تركنا إيرادها خشية الإطالة، وخوف الملالة، وبالله المستعان.

خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما

قال ابن إسحاق: فأقام أرياط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعة أبرهة الحبشي - و كان في جنده - حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر.

فلمَّا تقارب الناس، أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لن تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض، حتى تفنيها شيئا شيئا، فأبرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط: أنصفت.

فخرج إليه أبرهة وكان رجلا قصيرا لحيما حادرا، وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلا جميلا عظيما طويلا وفي يده حربة له، وخلف أبرهة غلام - يقال له عتودة - يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفته فبذلك سمى أبرهة الأشرم.

وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وودى أبرهة أرياط، فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن غضب غضبا شديدا على أبرهة، وقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه:

أيها الملك: إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة، واضبط لها وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه فيَّ.

فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه، وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن.

سبب قصر أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبابيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } 221.

قيل: أول من ذلل الفيلة إفريدون بن أثفيان، الذي قتل الضحاك، قاله: الطبري، وهو أول من اتخذ للخيل السرج.

وأما أول من سخر الخيل وركبها: فطهمورث، وهو الملك الثالث من ملوك الدنيا.

ويقال: إن أول من ركبها إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ويحتمل أنه أول من ركبها من العرب، والله تعالى أعلم.

ويقال: إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهر، وقد احتال بعض أمراء الحروب في قتال الهنود بإحضار سنانير إلى حومة الوغى، فنفرت الفيلة.

قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.

فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة، وسخرهم فيها أنواعا من السخر. وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة، وجعل ينقل إليها من قصر بلقيس رخاما، وأحجارا، وأمتعة عظيمة، وركب فيها صلبانا من ذهب وفضة، وجعل فيها منابر من عاج وأبنوس، وجعل ارتفاعها عظيما جدا، واتساعها باهرا.

فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة، كان من يتعرض لأخذ شيء من بنائها وأمتعتها، أصابته الجن بسوء، وذلك لأنها كانت مبنية على اسم صنمين: كعيب وامرأته، وكان طول كل منهما ستون ذراعا، فتركها أهل اليمن على حالها.

فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح أول خلفاء بني العباس، فبعث إليها جماعة من أهل العزم والحزم والعلم، فنقضوها حجرا حجرا، ودرست آثارها إلى يومنا هذا.

قال ابن إسحاق: فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة من كنانة، الذين ينسئون شهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم، كما قررنا ذلك عند قوله: { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ.. } الآية 222.

قال ابن إسحاق: فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها، أي أحدث حيث لا يراه أحد، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك، فقال: من صنع هذا؟

فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا. فغضب فجاء فقعد فيها، أي: أنه ليس لذلك بأهل.

فغضب أبرهة عند ذلك وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.

فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر. فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريده من هدمه وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نقر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر، فأتي به أسيرا. فلما أراد قتله قال له ذو نفر: يا أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل. فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق.

وكان أبرهة رجلا حليما، ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي، في قبيلتي خثعم، وهما شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به.

فلما همَّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فأني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم - شهران وناهس - بالسمع والطاعة، فخلى سبيله.

وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف، فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك، سامعون لك، مطيعون ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم.

قال ابن إسحاق: واللات بيت لهم بالطائف، كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة. قال: فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس. فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس.

وقد تقدم في قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلا منهم، وكان يمتنع بالحرم، فلما خرج منه، أصابه حجر فقتله، وأن رسول الله قال لأصحابه:

« وآية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب ».

فحفروا فوجدوهما.

قال: وهو أبو ثقيف.

قلت: والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن إسحاق ؛ أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى، ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا، والله أعلم. وقد قال جرير:

إذا مات الفرزدق فارجموه * كرجمكم لقبر أبي رُغال

الظاهر أنه الثاني.

قال ابن إسحاق: فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسود بن مفصود، على خيل له حتى انتهى إلى مكة. فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذ كبير قريش وسيدها - فهمَّت قريش وكنانة وهذيل، ومن كان بذلك الحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.

وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فائتني به.

فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه، فقال له حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك.

فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟

فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا؟ ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي. فسأرسل إليه، وأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، فقال: حسبي.

فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.

فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، وهو الذي يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، فائذن له عليك فليكلمك في حاجته و أحسن إليه. فأذن له أبرهة.

قال: وكان عبد المطلب أوسم الناس، وأعظمهم، وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قل له حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان.

فقال: حاجتي أن يرد على الملك مائتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ؛ أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه؟

فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، فقال: ما كان ليمتنع مني. قال: أنت وذاك. فرد على عبد المطلب إبله.

قال ابن إسحاق: ويقال إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة سيد بني بكر، وخويلد بن وائلة سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليهم ذلك، فالله أعلم أكان ذلك أم لا.

فلما انصرفوا عنه، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرز في رؤوس الجبال، خوفا عليهم من معرة الجيش.

ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لا هم إن العبد يمنع * رحله فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم * ومحالهم غدوا محالك

إن كنت تاركهم * وقبلتنا فأمر ما بدا لك

قال ابن هشام: هذا ما صح له منها. وقال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبى جيشه، وكان اسم الفيل: محمودا.

فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث أتيت، فإنك في بلد الله الحرام. وأرسل أُذنه فبرك الفيل.

قال السهيلي: أي سقط إلى الأرض، وليس من شأن الفيلة أن تبرك، وقد قيل: إن منها ما يبرك كالبعير، فالله أعلم.

وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فادخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى مكة فبرك.

وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت.

وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل في ذلك:

ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الإصباح عينا

ردينة لو رأيت فلا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا

إذا لعذرتني وحمدت أمري * ولم تاسي على ما فات بينا

حمدت الله إذ أبصرت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا

وكل القوم يسأل عن نفيل * كأن علي للحبشان دينا

قال ابن إسحاق: فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل. وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمت قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.

قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رؤى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام.

قال ابن إسحاق: فلما بعث الله محمدا كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبابيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } 223.

ثم شرع ابن إسحاق، وابن هشام يتكلمان على تفسير هذه السورة والتي بعدها، وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى، وله الحمد والمنة.

قال ابن هشام: الأبابيل الجماعات، ولم تتكلم لها العرب بواحد علمناه. قال: وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي، وأبو عبيدة أنه عند العرب: الشديد الصلب.

قال: وزعم بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وأنها سنج وجل، فالسنج الحجر، والجل الطين. يقول: الحجارة من هذين الجنسين الجر والطين. قال: والعصف ورق الزرع الذي لم يقصب.

وقال الكسائي: سمعت بعض النحويين يقول: واحد الأبابيل أبيل.

وقال كثيرون من السلف: الأبابيل الفرق من الطير التي يتبع بعضها بعضا من ههنا وههنا.

وعن ابن عباس: كان لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.

وعن عكرمة: كانت رؤوسها كرؤوس السباع خرجت عليهم من البحر وكانت خضرا.

وقال عبيد بن عمير: كانت سودا بحرية في مناقيرها وأكفها الحجارة.

وعن ابن عباس: كانت أشكالها كعنقاء مغرب.

وعن ابن عباس: كان أصغر حجر منها كرأس الإنسان، ومنها ما هو كالإبل. وهكذا ذكره يونس بن بكير، عن ابن إسحاق. وقيل: كانت صغارا والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير قال: لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في رجليه، وحجرا في منقاره.

قال: فجاءت حتى صفت على رؤوسهم. ثم صاحت وألقت ما في رجليها ومناقيرها، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره، ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر، وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا.

وقد تقدم أن ابن إسحاق قال: وليس كلهم أصابته الحجارة - يعني بل رجع منهم راجعون إلى اليمن - حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال، وذكروا أن أبرهة رجع وهو يتساقط أنملة أنملة، فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره، فمات لعنه الله.

وروى ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن سمرة، عن عائشة قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان، وتقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيسا، فأما قائده فلم يسم، والله أعلم.

وذكر النقاش في تفسيره: أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر، قال السهيلي: وكانت قصة الفيل أول المحرم من سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.

قلت: وفي عامها ولد رسول الله على المشهور، وقيل: كان قبل مولده بسنين كما سنذكر إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.

ثم ذكر ابن إسحاق ما قالته العرب من الأشعار في هذه الكائنة العظيمة التي نصر الله فيها بيته الحرام الذي يريد أن يشرفه ويعظمه، ويطهره، ويوقره ببعثة محمد وما يشرع له من الدين القويم الذي أحد أركانه الصلاة بل عماد دينه، وسيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة.

ولم يكن ما فعله بأصحاب الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة، فإن الحبشة إذ ذاك كانوا أقرب لها من مشركي قريش، وإنما كان النصر للبيت الحرام وإرهاصا وتوطئه لبعثة محمد .

فمن ذلك ما قاله عبد الله بن الزبعري السهمي:

تنكلوا عن بطن مكة إنها * كانت قديما لا يرام حريمها

لم تخلق الشعرى ليالي حرمت * إذ لا عزيز من الأنام يرومها

سائل أمير الحبش عنها ما رأى * فلسوف ينبي الجاهلين عليمها

ستون ألفا لم يؤبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الأياب سقيمها

كانت بها عاد وجرهم قبلهم * والله من فوق العباد يقيمها

ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت الأنصاري المدني:

ومن صنعه يوم فيل الحبوش * إذ كلما بعثوه رزم

محاجنهم تحت أقرابه * وقد شرموا أنفه فانخرم

وقد جعلوا سوطه مغولا * إذا يمموه قفاه كلم

فولى وأدبر أدراجه * وقد باء بالظلم من كان ثم

فأرسل من فوقهم حاصبا * فلفهم مثل لف القزم

تحض على الصبر أحبارهم * وقد ثأجوا كثؤاج الغنم

ومن ذلك قول أبي الصلت ربيعة بن أبي ربيعة وهب بن علاج الثقفي قال: ابن هشام ويروى لأمية بن أبي الصلت

إن آيات ربنا ثاقبات * ما يمارى فيهن إلا الكفور

خلق الليل والنهار فكل * مستبين حسابه مقدور

ثم يجلو النهار رب رحيم * بمهاة شعاعها منشور

حبس الفيل بالمغمس حتى * صار يحبو كأنه معقور

لازما حلقة الجران كما قد * من صخر كبكب محدور

حوله من ملوك كندة أبطال * ملاويث في الحروب صقور

خلفوه ثم ابذعروا جميعا * كلهم عظم ساقه مكسور

كل دين يوم القيامة عند الله * إلا دين الحنيفة بور

ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت أيضا:

فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا *بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاء مصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب

كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رؤس المناقب

فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين ساف وحاصب

فولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير عصائب

ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرقيات في عظمة البيت وحمايته بهلاك من أراده بسوء:

كاده الأشرم الذي جاء بالفيل * فولى وجيشه مهزوم

واستهلت عليهم الطير بالجندل * حتى كأنه مرجوم

ذاك من يغزه من الناس يرجع * وهو فل من الجيوش ذميم

قال ابن إسحاق وغيره: فلما هلك أبرهة ملك الحبشة بعده ابنه يكسوم، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة وهو آخر ملوكهم، وهو الذي انتزع سيف بن ذي يزن الحميري الملك من يده بالجيش الذين قدم بهم من عند كسرى أنوشروان كما سيأتي بيانه.

وكانت قصة الفيل في المحرم سنة ست وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين، وهو الثاني إسكندر بن فلبس المقدوني الذي يؤرخ له الروم، ولما هلك أبرهة وابناه وزال ملك الحبشة عن اليمن، هجر القليس الذي كان بناه أبرهة وأراد صرف حج العرب إليه لجهله وقلة عقله، وأصبح يبابا لا أنيس له.

وكان قد بناه على صنمين وهما كعيب وامرأته، وكانا من خشب طول كل منهما ستون ذراعا في السماء، وكانا مصحوبين من الجان، ولهذا كان لا يتعرض أحد إلى أخذ شيء من بناء القليس وأمتعته إلا أصابوه بسوء، فلم يزل كذلك إلى أيام السفاح أول خلفاء بني العباس.

فذكر له أمره وما فيه من الأمتعة والرخام الذي كان أبرهة نقله إليه من صرح بلقيس الذي كان باليمن، فبعث إليه من خربه حجرا حجرا، وأخذ جميع ما فيه من الأمتعة والحواصل، هكذا ذكره السهيلي، والله أعلم.

خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن

قال محمد بن إسحاق رحمه الله: فلما هلك أبرهة ملك الحبشة يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة، قال: فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري، وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ.

وكان سيف يكنى أبا مرة، حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكى إليه ما هو فيه وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم هو، ويخرج إليهم من شاء من الروم فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئا مما يريد.

فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان: إن لي على كسرى وفادة في كل عام، فأقم عندي حتى يكون ذلك، ففعل ثم خرج معه فأدخله على كسرى، وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه، وكان تاجه مثل القنقل العظيم فيما يزعمون، يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة، معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك.

وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر عليه بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك، ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له، فلما دخل عليه سيف طأطأ رأسه، فقال الملك: إن هذا الأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه، فقيل ذلك لسيف فقال: إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء.

ثم قال: أيها الملك غلبتنا على بلادنا الأغربة، قال كسرى: أي الأغربة الحبشة أم السند؟ قال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك.

فقال له كسرى: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسوة حسنة، فلما قبض ذلك منه سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس، فبلغ ذلك الملك فقال: إن لهذا لشأنا.

ثم بعث إليه فقال: عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس؟ قال: وما أصنع بحباك ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها مما رأى من زهادته فيها إنما جئت الملك ليمنعني من الظلم ويدفع عني الذل.

فجمع كسرى مرازبته فقال لهم: ما ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له؟ فقال قائل: أيها الملك إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم، وإن ظفروا كان ملكا أزددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه، وكانوا ثمانمائة رجل، واستعمل عليهم وهرز كان ذا سن فيهم، وأفضلهم حسبا وبيتا، فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان، ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن، فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له: رجلي ورجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا.

فقال له وهرز: أنصفت، وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنده فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم، فقتل ابن وهرز، فزاده ذلك حنقا عليهم، فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز: أروني ملكهم، فقالوا له: أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء؟ قال: نعم.

قالوا: ذلك ملكهم، فقال: اتركوه.

قال: فوقفوا طويلا ثم قال: علام هو؟

قالوا: قد تحول على الفرس.

قال: اتركوه. فتركوه طويلا، ثم قال: علام هو؟

قالوا: على البغلة.

قال وهرز: بنت الحمار ذل وذل ملكه، إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم، فإني قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا به ولاهوا فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم، ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها، وأمر بحاجبيه فعصبا له.

ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه، وتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، ونكس عن دابته، واستدارت الحبشة ولاثت به، وحملت عليهم الفرس فانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه.

وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا هذا الباب، فهدم ثم دخلها ناصبا رايته، فقال سيف بن ذي يزن الحميري:

يظن الناس بالملكين * أنهما قد التأما

ومن يسمع بلأ مهما * فإن الخطب قد فقما

قتلنا القيل مسروقا * وروينا الكثيب دما

وإن القيل قيل الناس * وهرز مقسم قسما

يذوق مشعشعا حتى * نفيء السبي والنعما

ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على سيف يهنئونه بعود الملك إليه وامتدحوه، فكان من جملة من وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم، فبشره سيف برسول الله ، وأخبره بما يعلم من أمره، وسيأتي ذلك مفصلا في باب البشارات به عليه الصلاة والسلام.

قال ابن إسحاق: وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي قال: ابن هشام، ويروى لأمية بن أبي الصلت:

ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن * ريّم في البحر للأعداء أحوالا

يمم قيصرا لما حان رحلته * فلم يجد عنده بعض الذي سالا

ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة * من السنين يهين النفس والمالا

حتى أتى ببني الأحرار يحملهم * إنك عمري لقد أسرعت قلقالا

لله درهم من عصبة خرجوا * ما إن أرى لهم في الناس أمثالا

غلبا مرازبة بيضا أساورة * أسدا تربب في الغيضات أشبالا

يرمون عن سدف كأنها غبط * بزمخر يعجل المرميَّ إعجالا

أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد * أضحى شريدهم في الأرض فُلاّلا

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا * في رأس غمدان دارا منك محلالا

واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم * وأسبل اليوم في برديك إسبالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

يقال - إن غمدان - قصر باليمن بناه يعرب بن قحطان، وملكه بعده، واحتله وائلة بن حمير بن سبأ، ويقال: كان ارتفاعه عشرين طبقة، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق: وقال عدي بن زيد الحميري، وكان أحد بني تميم:

ما بعد صنعاء كان يعمرها * ولاة ملك جزل مواهبها

رفعها من بني لذي قزع المزن * وتندى مسكا محاربها

محفوقة بالجبال دون عرى الكائد * ما يرتقى غواربها

يأنس فيها صوت النهام إذا * جاوبها بالعشى قاصبها

ساقت إليها الأسباب جند بني * الأحرار فرسانها مواكبها

وفوزت بالبغال توسق بالحتف * وتسعى بها توالبها

حتى يراها الأقوال من طرف المنقل * مخضرة كتائبها

يوم ينادون آل بربر واليكسوم * لا يفلحن هاربها

فكان يوما باقي الحديث وزالت * أمة ثابت مراتبها

وبدل الهيج بالزرافة والأيام * خون جم عجائبها

بعد بني تبع نخاورة * قد اطمأنت بها مرازبها

قال ابن هشام: وهذا الذي عنى سطيح بقوله: يليه إرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن، والذي عنى شق بقوله: غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت ذي يزن.

قال ابن إسحاق: وأقام وهرز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم.

وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة، وأخرجت الحبشة اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة.

ما آل إليه أمر الفرس باليمن

قال ابن هشام: ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن، ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان ثم مات فأمر ابن التينجان، ثم عزله عن اليمن، وأمر عليها باذان وفي زمنه بعث رسول الله .

قال ابن هشام: فبلغني عن الزهري أنه قال: كتب كسرى إلى باذان أنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله .

فكتب إليه رسول الله : إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا، فلما أتى باذان الكتاب وقف لينتظر، وقال: إن كان نبيا فسيكون ما قال، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله .

قال ابن هشام: على يدي ابنه شيرويه، قلت: وقال بعضهم: بنوه تمالؤوا على قتله. وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز بن أنو شروان بن قباز، وهو الذي غلبت الروم في قوله تعالى: { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } 224 كما سيأتي بيانه.

قال السهيلي: وكان قتله ليلة الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع من الهجرة. وكان والله أعلم لما كتب إليه رسول الله يدعوه إلى الإسلام فغضب ومزق كتابه، كتب إلى نائبه باليمن يقول له ما قال.

وفي بعض الروايات أن رسول الله قال لرسول باذان:

« إن ربي قد قتل الليلة ربك ».

فكان كما قال رسول الله قتل تلك الليلة بعينها، قتله بنوه لظلمه بعد عدله بعد ما خلعوه وولوا ابنه شيرويه، فلم يعش بعد قتله أباه إلا ستة أشهر أو دونها، وفي هذا يقول خالد بن حق الشيباني:

وكسرى إذ تقسمه بنوه * بأسياف كما اقتسم اللحام

تمخضت المنون له بيوم * ألا ولكل حاملة تمام

قال الزهري: فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله ، فقالت الرسل: إلى من نحن يا رسول الله؟ قال: أنتم منا وإلينا أهل البيت.

قال الزهري: ومن ثم قال رسول الله :

« سلمان منا أهل البيت ».

قلت: والظاهر أن هذا كان بعد ما هاجر رسول الله إلى المدينة، ولهذا بعث الأمراء إلى اليمن لتعليم الناس الخير، ودعوتهم إلى الله عز وجل، فبعث أولا خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب، ثم أتبعهما أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، ودانت اليمن وأهلها للإسلام، ومات باذان فقام بعده ولده شهر بن باذان، وهو الذي قتله الأسود العنسي حين تنبأ، وأخذ زوجته كما سيأتي بيانه.

وأجلى عن اليمن نواب رسول الله ، فلما قتل الأسود عادت اليد الإسلامية عليها.

وقال ابن هشام: وهذا هو الذي عنى به سطيح بقوله: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي، والذي عنى شق بقوله: بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.

قال ابن إسحاق: وكان في حجر باليمن فيما يزعمون كتاب بالزبور، كتب بالزمان الأول، لمن ملك ذمار؟ الحمير الأخيار، لمن ملك ذمار، للحبشة الأشرار، لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار، لمن ملك ذمار؟ لقريش التجار.

وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى فيما ذكره المسعودي:

حين شدت ذمار قيل لمن أنت * فقالت لحمير الأخيار

ثم سينت من بعد ذاك فقالت * أنا للحبش أخبث الأشرار

ثم قالوا من بعد ذاك لمن أنت * فقالت لفارس الأحرار

ثم قالوا من بعد ذاك لمن أنت * فقالت إلى قريش التجار

ويقال: إن هذا الكلام الذي ذكره محمد بن إسحاق وجد مكتوبا عند قبر هود عليه السلام، حين كشفت الريح عن قبره بأرض اليمن، وذلك قبل زمن بلقيس بيسير في أيام مالك بن ذي المنار، أخي عمرو ذي الأذعار بن ذي المنار.

ويقال: كان مكتوبا على قبر هود أيضا، وهو من كلامه عليه السلام، حكاه السهيلي، والله أعلم.

قصة الساطرون صاحب الحضر

وقد ذكر قصته هاهنا عبد الملك بن هشام لأجل ما قاله بعض علماء النسب: إن النعمان بن المنذر الذي تقدم ذكره في ورود سيف بن ذي يزن عليه، وسؤاله في مساعدته في رد ملك اليمن إليه، إنه من سلالة الساطرون صاحب الحضر، وقد قدمنا عن ابن إسحاق: إن النعمان بن المنذر من ذرية ربيعة بن نصر، وأنه روى عن جبير بن مطعم أنه من أشلاء قيصر بن معد بن عدنان.

فهذه ثلاثة أقوال في نسبه، فاستطرد ابن هشام في ذكر صاحب الحضر.

والحضر حصن عظيم بناه هذا الملك - وهو الساطرون - على حافة الفرات، وهو منيف مرتفع البناء، واسع الرحبة والفناء، دوره بقدر مدينة عظيمة، وهو في غاية الإحكام والبهاء والحسن والسناء، وإليه يجبي ما حوله من الأقطار والأرجاء.

واسم الساطرون: الضيزن بن معاوية بن عبيد بن أجرم من بني سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة، كذا نسبه ابن الكلبي.

وقال غيره: كان من الجرامقة، وكان أحد ملوك الطوائف، وكان يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم، وكان حصنه بين دجلة والفرات.

قال ابن هشام: وكان كسرى سابور ذو الأكتاف، غزا الساطرون ملك الحضر.

وقال غير ابن هشام: إنما الذي غزا صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان، أذل ملوك الطوائف، ورد الملك إلى الأكاسرة.

وأما سابور ذو الأكتاف بن هرمز فبعد ذلك بدهر طويل، والله أعلم، ذكره السهيلي.

قال ابن هشام: فحصره سنتين، وقال غيره: أربع سنين. وذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته بأرض العراق، فأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة، فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، وكان جميلا، فدست إليه أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر؟

فقال: نعم.

فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر، وكان لا يبيت إلا سكران، فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه، وبعثت بها مع مولى لها، ففتح الباب، ويقال: بل دلتهم على نهر يدخل منه الماء متسع، فولجوا منه إلى الحضر.

ويقال: بل دلتهم على طلسم كان في الحضر، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء، ثم ترسل، فإذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم، فيفتح الباب، ففعل ذلك فانفتح الباب.

فدخل سابور فقتل ساطرون، واستباح الحضر وخربه وسار بها معه فتزوجها، فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تململ لا تنام، فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس، فقال لها سابور: أهذا الذي أسهرك؟ قالت: نعم. قال: فما كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ، ويسقيني الخمر.

قال: أفكان جزاء أبيك ما صنعت به أنت إلي بذلك أسرع. فربطت قرون رأسها بذنب فرس، ثم ركض الفرس حتى قتلها، ففيه يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:

ألم ترَ للحضر إذ أهله * بنعمى وهل خالد من نعم

أقام به شاهبور الجنود * حولين تضرب فيه القدم

فلما دعا ربه دعوة * أناب إليه فلم ينتقم

فهل زاده ربه قوة * ومثل مجاوره لم يقم

وكان دعا قومه دعوة * هلموا إلى أمركم قد صرم

فموتوا كراما بأسيافكم * أرى الموت يجشمه من جشم

وقال عدي بن زيد في ذلك:

والحضر صابت عليه داهية * من فوقه أيد مناكبها

ربية لم توق والدها * لحينها إذا أضاع راقبها

إذ غبقته صهباء صافية * والخمر وهل يهيم شاربها

فأسلمت أهلها بليلتها * تظن أن الرئيس خاطبها

فكان حظ العروس إذ جشر * الصبح دماء تجري سبائبها

وخرب الحضر واستبيح وقد * أحرق في خدرها مشاجبها

وقال عدي بن زيد أيضا:

أيها الشامت المعير بالدهر * أأنت المبرا الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الأيام * بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلدن أم * من ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى كسرى الملوك أنو * شروان أم أين قبله سابور

وبنو الأصفر الكرام ملوك * الروم لم يبق منهم مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة * تجبى إليه والخابور

شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور

لم يهبه ريب المنون فبان * الملك عنه فبابه مهجور

وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوما وللهدى تفكير

سره ماله وكثرة ما * يملك والبحر معرضا والسدير

فارعوى قلبه وقال وما غبطة * حي إلى الممات يصير

ثم أضحوا كأنهم ورق جف * فألوت به الصبا والدبور

قلت: ورب الخورنق الذي ذكره في شعره رجل من الملوك المتقدمين، وعظه بعض علماء زمانه في أمره الذي كان قد أسرف فيه، وعتا وتمرد فيه، وأتبع نفسه هواها، ولم يراقب فيها مولاها، فوعظه بمن سلف قبله من الملوك والدول، وكيف بادوا ولم يبق منهم أحد.

وأنه ما صار إليه عن غيره إلا وهو منتقل عنه إلى من بعده، فأخذته موعظته وبلغت منه كل مبلغ، فارعوى لنفسه وفكر في يومه وأمسه، وخاف من ضيق رمسه، فتاب وأناب، ونزع عما كان فيه، وترك الملك ولبس ذي الفقراء، وساح في الفلوات، وحظى بالخلوات.

وخرج عما كان الناس فيه من اتباع الشهوات، وعصيان رب السموات، وقد ذكر قصته مبسوطة الشيخ الإمام موفق بن قدامة المقدسي رحمه الله في كتاب (التوابين)

وكذلك أوردها بإسناد متين الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتاب (الروض الأنف) المرتب أحسن ترتيب وأوضح تبيين.

خبر ملوك الطوائف

وأما صاحب الحضر وهو ساطرون، فقد تقدم أنه كان مقدما على سائر ملوك الطوائف.

وكان من زمن إسكندر بن فلبيس المقدوني اليوناني، وذلك لأنه لما غلب على ملك الفرس دارا بن دارا وأذل مملكته، وخرب بلاده، واستباح بيضة قومه، ونهب حواصله، ومزق شمل الفرس شذر مذر، عزم أن لا يجتمع لهم بعد ذلك شمل، ولا يلتئم لهم أمر، فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في أقليم من أقاليم الأرض ما بين عربها وأعاجمها، فاستمر كل ملك منهم يحمي حوزته، ويحفظ حصته، ويستغل محلته.

فإذا هلك قام ولده من بعده أو أحد قومه فاستمر الأمر كذلك قريبا من خمسمائة سنة، حتى كان أزدشير بن بابك من بني ساسان بن بهمن بن أسفنديار بن يشتاسب بن لهراسب، فأعاد ملكهم إلى ما كان عليه، ورجعت الممالك برمتها إليه، وأزال ممالك مملوك الطوائف، ولم يبق منهم تالد ولا طارف، وكان تأخر عليه حصار صاحب الحضر الذي كان أكبرهم، وأشدهم، وأعظمهم، إذ كان رئيسهم ومقدمهم.

فلما مات أزدشير تصدى له ولده سابور، فحاصره حتى أخذه كما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ذكر بني إسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة

تقدم ذكر إسماعيل نفسه عليه السلام مع ذكر الأنبياء، وكيف كان من أمره حين احتمله أبوه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع أمه هاجر، فأسكنها بوادي مكة بين جبال فاران حيث لا أنيس به ولا حسيس، وكان إسماعيل رضيعا، ثم ذهب وتركهما هنالك عن أمر الله له بذلك، ليس عند أمه سوى جراب فيه تمر، ووكاء فيه ماء.

فلما نفد ذلك، أنبع الله لهاجر زمزم التي هي طعام طعم وشفاء سقم، كما تقدم بيانه في حديث ابن عباس الطويل، الذي رواه البخاري رحمه الله، ثم نزلت جرهم: وهي طائفة من العرب العاربة من أمم العرب الأقدمين عند هاجر بمكة، على أن ليس لهم في الماء شيء إلا ما يشربون منه وينتفعون به، فاستأنست هاجر بهم، وجعل الخليل عليه السلام يطالع أمرهم في كل حين.

يقال: إنه كان يركب البراق من بلاد بيت المقدس في ذهابه وإيابه، ثم لما ترعرع الغلام وشب وبلغ مع أبيه السعي، كانت قصة الذبح كما تقدم بيان أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح، ثم لما كبر تزوج من جرهم امرأة، ثم فارقها وتزوج غيرها، وتزوج بالسيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي.

وجاءته بالبنين الاثني عشر، كما تقدم ذكرهم: وهم نابت، وقيذر، ومنشا، ومسمع، وماشي، ودما، وأذر، ويطور، ونيشى، وطيما، وقيذما، هكذا ذكره محمد بن إسحاق، وغيره، عن كتب أهل الكتاب.

وله ابنة واحدة اسمها نسمة، وهي التي زوجها من ابن أخيه العيصو بن إسحاق بن إبراهيم، فولد منها الروم وفارس والأشبان أيضا في أحد القولين.

ثم جميع عرب الحجاز على اختلاف قبائلهم يرجعون في أنسابهم إلى ولديه نابت وقيذر، وكان الرئيس بعده والقائم بالأمور الحاكم في مكة والناظر في أمر البيت وزمزم: نابت بن إسماعيل، وهو ابن أخت الجرهميين.

ثم تغلبت جرهم على البيت طمعا في بني أختهم، فحكموا بمكة وما والاها عوضا عن بني إسماعيل مدة طويلة، فكان أول من صار إليه أمر البيت بعد نابت مضاص بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن عيبر بن نبت بن جرهم.

وجرهم بن قحطان، ويقال: جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح الجرهمي، وكان نازلا بأعلى مكة بقعيقعان.

وكان السميدع سيد قطوراء نازلا بقومه في أسفل مكة، وكل منهما يعشر من مر به مجتازا إلى مكة، ثم وقع بين جرهم وقطوراء فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السميدع واستوثق الأمر لمضاض وهو الحاكم بمكة والبيت، لا ينازعه في ذلك ولد إسماعيل مع كثرتهم وشرفهم وانتثارهم بمكة وبغيرها، وذلك لخؤلتهم له ولعظمة البيت الحرام أن يكون به بغي أو قتال.

ثم صار الملك بعده إلى ابنه الحارث، ثم إلى عمرو بن الحارث.

ثم بغت جرهم بمكة وأكثرت فيها الفساد، وألحدوا بالمسجد الحرام، حتى ذكر أن رجلا منهم يقال له: إساف بن بغى، وامرأة يقال لها: نائلة بنت وائل اجتمعا في الكعبة، فكان منه إليها الفاحشة، فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريبا من البيت ليعتبروا بهما، فلما طال المطال بعد ذلك بمدد عبدا من دون الله في زمن خزاعة، كما سيأتي بيانه في موضعه. فكانا صنمين منصوبين يقال لهما: إساف ونائلة.

فلما أكثرت جرهم بالبغي بالبلد الحرام، تمالأت عليهم خزاعة الذين كانوا نزلوا حول الحرم، وكانوا من ذرية عمرو بن عامر، الذي خرج من اليمن لأجل ما توقع من سيل العرم، كما تقدم.

وقيل: إن خزاعة من بني إسماعيل، فالله أعلم.

والمقصود أنهم اجتمعوا لحربهم وآذنوهم بالحرب واقتتلوا، واعتزل بنو إسماعيل كلا الفريقين، فغلبت خزاعة وهم بنو بكر بن عبد مناة وغبشان وأجلوهم عن البيت، فعمد عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي - وهو سيدهم - إلى غزالي الكعبة - وهما من ذهب - وحجر الركن وهو الحجر الأسود، وإلى سيوف محلاة وأشياء أخر، فدفنها في زمزم، وعلم زمزم وارتحل بقومه فرجعوا إلى اليمن

وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن مضاض:

وقائلة والدمع سكب مبادر * وقد شرقت بالدمع منها المحاجر

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر

فقلت لها والقلب مني كأنما * يلجلجه بين الجناحين طائر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا * صروف الليالي والجدود العواثر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت * نطوف بذاك البيت والخير ظاهر

ونحن ولينا البيت من بعد نابت * بعز فما يحظى لدينا المكاثر

ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا * فليس لحي غيرنا ثم فاخر

ألم تنكحوا من خير شخص علمته * فأبناؤه منا ونحن الأصاهر

فإن تنثني الدنيا علينا بحالها * فإن لها حالا وفيها التشاجر

فأخرجنا منها المليك بقدرة * كذلك يا للناس تجري المقادر

أقول إذا نام الخلي ولم أنم * أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر

وبدلت منها أو جهالا أحبها * قبائل منها حمير ويحابر

وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة * بذلك عضتنا السنون الغوابر

فسحت دموع العين تبكي لبلدة * بها حرم أمن وفيها المشاعر

وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه * يظل به أمنا وفيه العصافر

وفيه وحوش لا ترام أنيسة * إذا خرجت منه فليس تغادر

قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن الحارث بن مضاض أيضا يذكر بني بكر وغبشان الذين خلفوا بعدهم بمكة:

يا أيها الناس سيروا إن قصاركم * أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها * قبل الممات وقضوا ما تقضونا

كنا أناسا كما كنتم فغيرنا * دهر فأنتم كما صرنا تصيرونا

قال ابن هشام: هذا ماصح له منها. وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب، وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم قائلها.

وذكر السهيلي لهذه الأبيات أخوة، وحكى عندها حكاية معجبة وإنشادات معربة. قال: وزاد أبو الوليد الأزرقي في كتابه (فضائل مكة) على هذه الأبيات المذكورة المنسوبة إلى عمرو بن الحارث بن مضاض:

قد مال دهر علينا ثم أهلكنا * بالبغي فينا وبز الناس ناسونا

واستخبروا في صنيع الناس قبلكم * كما استبان طريق عنده الهونا

كنا زمانا ملوك الناس قبلكم * بمسكن في حرام الله مسكونا

قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للأصنام

قال ابن إسحاق: ثم أن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بني بكر بن عبد مناة.

وكان الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك حلول وصرم وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة. قالوا: وإنما سميت خزاعة خزاعة لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به، قال عون بن أيوب الأنصاري ثم الخزرجي في ذلك:

فلما هبطنا بطن مر تخزعت * خزاعة منا في حلول كراكر

حمت كل واد من تهامة واحتمت * بصم القنا والمرهفات البواتر

وقال أبو المطهر إسماعيل بن رافع الأنصاري الأوسي:

فلما هبطنا بطن مكة أحمدت * خزاعة دار الآكل المتحامل

فحلت أكاريسا وشتت قنابلا * على كل حي بين نجد وساحل

نفوا جرهما عن بطن مكة واحتبوا * بعز خزاعي شديد الكواهل

فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي، الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبى، فولدت له بنيه الأربعة: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزى، وعبدا.

ثم صار أمر البيت إليه كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنة. وقيل: خمسمائة سنة، والله أعلم. وكانوا سوس في ولايتهم وذلك لأن في زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز، وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي لعنه الله، فإنه أول من دعاهم إلى ذلك وكان ذا مال جزيل جدا.

يقال: إنه فقأ أعين عشرين بعيرا وذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير، وكان من عادة العرب أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها، لأنه يدفع بذلك العين عنها.

وممن ذكر ذلك الأزرقي، وذكر السهيلي: أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة، وكسى عشرة آلاف حلة، في كل سنة يطعم العرب، ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل، ويلت لهم السويق.

قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم، ومحلته عندهم، وكرمه عليهم.

قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم: أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال: ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟

قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له: هبل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.

قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم، والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم حتى خلفت الخلوف، ونسوا ما كانوا عليه.

وفي الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من التراب، وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها.

قال ابن إسحاق: واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفات والمزدلفة، وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.

فكانت كنانة وقريش إذا هلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده. يقول الله تعالى لمحمد : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } 225 أي: ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي.

وقد ذكر السهيلي وغيره: أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي، وأن إبليس تبدى له في صورة شيخ فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه، ويقول كما يقول، واتبعه العرب في ذلك.

وثبت في الصحيح أن رسول الله كان إذا سمعهم يقولون: لبيك لا شريك لك، يقول: « قدِ قدِ ».

أي: حسب حسب.

وقد قال البخاري: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يحيى بن آدم، نا إسرائيل عن أبي حفص، عن أبي هريرة، عن النبي قال:

« إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار ».

تفرد به أحمد من هذا الوجه.

وهذا يقتضي أن عمرو بن لحي هو أبو خزاعة الذي تنسب إليه القبيلة بكمالها، كما زعمه بعضهم من أهل النسب، فيما حكاه ابن إسحاق وغيره. ولو تركنا مجرد هذا لكان ظاهرا في ذلك بل كالنص، ولكن قد جاء ما يخالفه من بعض الوجوه.

فقال البخاري، وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء.

قال: وقال أبو هريرة: قال النبي :

« رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب ».

وهكذا رواه البخاري أيضا، ومسلم من حديث صالح بن كيسان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة به.

ثم قال البخاري: ورواه ابن الهاد عن الزهري.

قال الحاكم: أراد البخاري رواه ابن الهاد، عن عبد الوهاب بن بخت، عن الزهري، كذا قال.

وقد رواه أحمد، عن عمرو بن سلمة الخزاعي، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة سمعت رسول الله يقول:

« رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب، وبحر البحيرة ».

ولم يذكر بينهما عبد الوهاب بن بخت كما قال الحاكم، فالله أعلم.

وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الرازق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب ».

وهذا منقطع من هذا الوجه.

والصحيح: الزهري عن سعيد عنه. كما تقدم.

وقوله في هذا الحديث، والذي قبله الخزاعي يدل على أنه ليس والد القبيلة، بل منتسب إليها، مع ما وقع في الرواية من قوله أبو خزاعة تصحيف من الراوي، من أخو خزاعة، أو أنه كان يكنى بابي خزاعة، ولا يكون ذلك من باب الإخبار بأنه أبو خزاعة كلهم، والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله يقول لأكثم بن الجون الخزاعي:

« يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه ».

فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟

قال: « لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي ».

ليس في الكتب من هذا الوجه.

وقد رواه ابن جرير، عن هناد بن عبدة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي بنحوه، أو مثله وليس في الكتب أيضا.

وقال البخاري: حدثني محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني، حدثنا حسان بن إبراهيم، حدثنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله :

« رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب ».

تفرد به البخاري.

وروى الطبراني من طريق صالح، عن ابن عباس مرفوعا في ذلك. والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل، فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالا بعيدا بينا فظيعا شنيعا.

وقد أنكر الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في غير ما آية منه فقال تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.. } الآية 226.

وقال تعالى: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } 227 وقد تكلمنا على هذا كله مبسوطا وبينا اختلاف السلف في تفسير ذلك، فمن أراد فليأخذه من ثم، ولله الحمد والمنة.

وقال تعالى: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } 228.

وقال تعالى: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } 229.

و قال تعالى: { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَها بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } 230.

وقال البخاري في صحيحه:

باب جهل العرب

حدثنا أبو النعمان، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَها بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } .

وقد ذكرنا تفسير هذه الآية، وما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة، التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي قبحه الله، مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم، وهو كاذب مفتر في ذلك، ومع هذا الجهل والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه، بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك وأعظم بكثير، وهو عبادة الأوثان مع الله عز وجل.

وبدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم، من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له، وتحريم الشرك، وغيروا شعائر الحج ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف، واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من الأمم المشركين، وشابهوا قوم نوح، وكانوا أول من أشرك بالله وعبد الأصنام.

ولهذا بعث الله إليهم نوحا، وكان أول رسول بعث ينهى عن عبادة الأصنام كما تقدم بيانه في قصة نوح: { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّا وَلَا سُوَاعا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا... } الآية 231.

قال ابن عباس: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم. وقد بينا كيفية ما كان من أمرهم في عبادتهم بما أغنى عن إعادته ههنا.

قال ابن إسحاق وغيره: ثم صارت هذه الأصنام في العرب بعد تبديلهم دين إسماعيل، فكان ود لبني كلب بن مرة بن غتلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وكان منصوبا بدومة الجندل.

وكان سواع لبني هذيل بن إلياس بن مدركة بن مضر، وكان منصوبا بمكان يقال له رهاط.

وكان يغوث لبني أنعم من طيء ولأهل جرش من مذحج، وكان منصوبا بجرش.

وكان يعوق منصوبا بأرض همدان من اليمن لبني خيوان بطن من همدان، وكان نسر منصوبا بأرض حمير لقبيلة يقال لهم: ذو الكلاع

قال ابن إسحاق: وكان لخولان بأرضهم صنم يقال له: عم أنس، يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله فيما يزعمون، فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي قسموه له تركوه له وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، وفيهم أنزل الله: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبا } .

قال: وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له: سعد، صخرة بفلاة من أرضهم طويلة، فأقبل رجل منهم بابل له مؤبلة ليقفها عليه، التماس بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل وكانت مرعية لا تركب، وكان الصنم يهراق عليه الدماء نفرت منه، فذهبت في كل وجه، وغضب ربها الملكان وأخذ حجرا فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك، نفرت عليَّ إبلي، ثم خرج في طلبها، فلما اجتمعت له، قال:

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا * فشتتنا سعد فلا نحن من سعد

وهل سعد إلا صخرة بتنوفة * من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد

قال ابن إسحاق: وكان في دوس صنم لعمرو بن حممة الدوسي. قال ابن إسحاق: وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له: هبل. وقد تقدم فيما ذكره ابن هشام أنه أول صنم نصبه عمرو بن لحي لعنه الله.

قال ابن إسحاق: واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما، ثم ذكر أنهما كانا رجلا وامرأة فوقع عليها في الكعبة فمسخهما الله حجرين.

ثم قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة أنها قالت: سمعت عائشة تقول: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم، أحدثا في الكعبة، فمسخهما الله عز وجل حجرين، والله أعلم.

وقد قيل: إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها، بل مسخهما قبل ذلك، فعند ذلك نصبا عند الصفا والمروة، فلما كان عمرو بن لحي نقلهما فوضعهما على زمزم وطاف الناس بهما، وفي ذلك يقول أبو طالب:

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم * بمفضي السيول من أساف ونائل

وقد ذكر الواقدي أن رسول الله لما أمر بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها، وتدعو بالويل والثبور.

وقد ذكر السهيلي أن أجا وسلمى وهما جبلان بأرض الحجاز، إنما سميا باسم رجل اسمه أجا بن عبد الحي، فجر بسلمى بنت حام فصلبا في هذين الجبلين، فعرفا بهما. قال: وكان بين أجا وسلمى صنم لطي، يقال له: قلس.

قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله.

قال: فلما بعث الله محمد بالتوحيد، قالت قريش: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَها وَاحِدا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } 232.

قال ابن إسحاق: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها، وهي مع ذلك تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ومسجده.

وكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وقد خربها خالد بن الوليد زمن الفتح، كما سيأتي.

قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكانت سدنتها وحجابها بني معتب من ثقيف، وخربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة بعد مجيء أهل الطائف كما سيأتي.

قال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج، ومن دان بدينهم من أهل المدينة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد. وقد خربها أبو سفيان أيضا. وقيل: علي بن أبي طالب كما سيأتي.

قال ابن إسحاق: وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. وكان يقال له: الكعبة اليمانية، ولبيت مكة الكعبة الشامية، وقد خربه جرير بن عبد الله البجلي كما سيأتي.

قال: وكان قلس لطي ومن يليها بجبلي طي بين أجا وسلمى، وهما جبلان مشهوران كما تقدم.

قال: وكان رآم بيتا لحمير وأهل اليمن، كما تقدم ذكره في قصة تبع أحد ملوك حمير، وقصة الحبرين حين خرباه وقتلا منه كلبا أسود.

قال: وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولها يقول المستوغر واسمه كعب بن ربيعة بن كعب حين هدمها:

ولقد شددت على رضاء شدة * فتركتها قفرا بقاع أسحما

وأعان عبد الله في مكروهها * وبمثل عبد الله أغشى المحرما

ويقال: إن المستوغر هذا عاش ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة، وكان أطول مضر كلها عمرا، وهو الذي يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها * وعمرت من عدد السنين مئينا

مائة حدتها بعدها مائتان لي * وازددت من عدد الشهور سنينا

هل ما بقي إلا كما قد فاتنا * يوم يمر وليلة تحدونا

قال ابن هشام: ويروى هذه الأبيات لزهير بن جناب بن هبل.

قال السهيلي: ومن المعمرين الذين جازوا المائتين والثلاثمائة زهير هذا، وعبيد بن شربة، ودغفل بن حنظلة النسابة، والربيع بن ضبع الفزاري، وذو الأصبع العدواني، ونصر بن دهمان بن أشجع بن ريث بن غطفان، وكان قد اسود شعره بعد ابيضاضه، وتقوم ظهره بعد اعوجاجه.

قال ابن إسحاق: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب بن وائل وإياد بسنداد، وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة:

بين الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي الشرفات من سنداد

وأول هذه القصيدة

ولقد علمت وأن تطاول بي المدى * أن السبيل سبيل ذي الأعواد

ماذا أؤمل بعد آل محرق * تركوا منازلهم وبعد إياد

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم * ماء الفرات يجيء من أطواد

أرض الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي الكعبات من سنداد

جرت الرياح على محل ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد

وأرى النعيم وكلما يلهى به * يوما يصير إلى بلى ونفاد

قال السهيلي: الخورنق قصر بناه النعمان الأكبر لسابور ليكون ولده فيه عنده، وبناه رجل يقال له: سنمار في عشرين سنة، ولم ير بناء أعجب منه، فخشي النعمان أن يبنى لغيره مثله، فألقاه من أعلاه فقتله، ففي ذلك يقول الشاعر:

جزاني جزاه الله شر جزائه * جزاء سنمار وما كان ذا ذنب

سوى رضفه البنيان عشرين حجة * يعد عليه بالقرامد والسكب

فلما انتهى البنيان يوما تمامه * وآض كمثل الطود والباذخ الصعب

رمى بسنمار على حق رأسه * وذاك لعمر الله من أقبح الخطب

قال السهيلي: أنشده الجاحظ في كتاب (الحيوان) والسنمار من أسماء القمر، والمقصود أن هذه البيوت كلها هدمت لما جاء الإسلام، جهز رسول الله إلى كل بيت من هذه سرايا تخربه، وإلى تلك الأصنام من كسرها، حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها، وعُبد الله وحده لا شريك له، كما سيأتي بيانه وتفصيله في مواضعه، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

خبر عدنان جد عرب الحجاز

لا خلاف أن عدنان من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، واختلفوا في عدة الآباء بينه وبين إسماعيل على أقوال كثيرة، فأكثر ما قيل أربعون أبا، وهو الموجود عند أهل الكتاب، أخذوه من كتاب رخيا كاتب أرميا بن حلقيا على ما سنذكره.

وقيل: بينهما ثلاثون. وقيل: عشرون. وقيل: خمسة عشر. وقيل: عشرة. وقيل: تسعة. وقيل: سبعة. وقيل: إن أقل ما قيل في ذلك أربعة، لما رواه موسى بن يعقوب عن عبد الله بن وهب بن زمعة الزمعي، عن عمته، عن أم سلمة، عن النبي أنه قال:

« معد بن عدنان بن أدد بن زند بن اليرى بن أعراق الثرى ».

قالت أم سلمة: فزند هو الهميسع، واليرى هو نابت، وأعراق الثرى هو إسماعيل، لأنه ابن إبراهيم، وإبراهيم لم تأكله النار، كما أن النار لا تأكل الثرى.

قال الدارقطني: لا نعرف زندا إلا في هذا الحديث، وزند بن الجون وهو أبو دلامة الشاعر

قال الحافظ أبو القاسم السهيلي وغيره من الأئمة: مدة ما بين عدنان إلى زمن إسماعيل أكثر من أن يكون بينهما أربعة أباء أو عشرة أو عشرون، وذلك أن معد بن عدنان كان عمره زمن بخت نصر ثنتي عشرة سنة.

وقد ذكر أبو جعفر الطبري وغيره أن الله تعالى أوحى في ذلك الزمان إلى أرمياء بن حلقيا، أن اذهب إلى بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على العرب، وأمر الله أرميا أن يحمل معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة فيهم، فإني مستخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل.

ففعل أرميا ذلك، واحتمل معدا على البراق إلى أرض الشام، فنشأ مع بني إسرائيل ممن بقي منهم بعد خراب بيت المقدس، وتزوج هناك امرأة اسمها: معانة بنت جوشن من بني دب بن جرهم، قبل أن يرجع إلى بلاده. ثم عاد بعد أن هدأت الفتن وتمحضت جزيرة العرب.

وكان رخيا كاتب أرمياء قد كتب نسبه في كتاب عنده ليكون في خزانة أرمياء، فيحفظ نسب معد كذلك والله أعلم، ولهذا كره مالك رحمه الله رفع النسب إلى ما بعد عدنان.

قال السهيلي: وإنما تكلمنا في رفع هذه الأنساب على مذهب من يرى ذلك ولم يكرهه، كابن إسحاق، والبخاري، والزبير بن بكار، والطبري، وغيرهم من العلماء.

وأما مالك رحمه الله فقد سُئل عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك وقال له: من أين له علم ذلك؟ فقيل له: فإلى إسماعيل. فأنكر ذلك أيضا. وقال: ومن يخبره به؟ وكره أيضا أن يرفع في نسب الأنبياء، مثل أن يقال: إبراهيم بن فلان بن فلان، هكذا ذكره المعيطي في كتابه.

قال: وقول مالك هذا نحو مما روي عن عروة بن الزبير أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل.

وعن ابن عباس أنه قال: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.

وروي عن ابن عباس أيضا أنه كان إذا بلغ عدنان يقول: كذب النسابون مرتين أو ثلاثا. والأصح عن ابن مسعود مثله.

وقال عمر بن الخطاب: إنما تنسب إلى عدنان.

وقال أبو عمر ابن عبد البر في كتابه الأنباه في معرفة قبائل الرواه): روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يقول: ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء عدنان، ولا ما وراء قحطان إلا تخرصا.

وقال أبو الأسود: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وكان من أعلم قريش بأشعارهم وأنسابهم يقول: ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر، ولا علم عالم.

قال أبو عمر: وكان قوم من السلف منهم عبد الله بن مسعود، وعمرو بن ميمون الأزدي، ومحمد بن كعب القرظي، إذا تلوا: { وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ } 233 قالوا: كذب النسابون.

قال أبو عمر رحمه الله: والمعنى عندنا في هذا غير ما ذهبوا، والمراد أن من ادعى إحصاء بني آدم فإنهم لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم

وأما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا، وحفظوا جماهيرها وأمهات قبائلها، واختلفوا في بعض فروع ذلك.

قال أبو عمر: والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان، قالوا: عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وهكذا ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة.

قال ابن هشام: ويقال عدنان بن أد، يعني: عدنان بن أد بن أدد. ثم ساق أبو عمر بقية النسب إلى آدم. كما قدمناه في قصة الخليل عليه السلام.

وأما الأنساب إلى عدنان من سائر قبائل العرب فمحفوظة شهيرة جدا، لا يتمارى فيها اثنان، والنسب النبوي إليه أظهر وأوضح من فلق الصبح، وقد ورد حديث مرفوع بالنص عليه، كما سنورده في موضعه بعد الكلام على قبائل العرب، وذكر أنسابها، وانتظامها في سلك النسب الشريف، والأصل المنيف، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وما أحسن ما نظم النسب النبوي الإمام أبو العباس عبد الله بن محمد الناشىء في قصيدته المشهورة المنسوبة إليه وهي قوله:

مدحت رسول الله أبغي بمدحه * وفور حظوظي من كريم المآرب

مدحت امرءا فاق المديح موحدا * بأوصافه عن مبعد ومقارب

نبيا تسامى في المشارق نوره * فلاحت هواديه لأهل المغارب

أتتنا به الأنباء قبل مجيئه * وشاعت به الأخبار في كل جانب

وأصبحت الكهان تهتف باسمه * وتنفي به رجم الظنون الكواذب

وأنطقت الأصنام نطقا تبرأت * إلى الله فيه من مقال الأكاذب

وقالت لأهل الكفر قولا مبينا * أتاكم نبي من لؤي بن غالب

ورام استراق السمع جن فزيلت * مقاعدهم منها رجوم الكواكب

هدانا إلى ما لم نكن نهتدي له * لطول العمى من واضحات المذاهب

وجاء بآيات تبين أنها * دلائل جبار مثيب معاقب

فمنها انشقاق البدر حين تعممت * شعوب الضيا منه رؤوس الأخاشب

ومنها نبوع الماء بين بنانه * وقد عدم الوراد قرب المشارب

فروى به جما غفيرا وأسهلت * بأعناقه طوعا اكف المذانب

وبئر طغت بالماء من مس سهمه * ومن قبل لم تسمح بمذقة شارب

وضرع مراه فاستدَّر ولم يكن * به درة تصغي إلى كف حالب

ونطق فصيح من ذراع مبينة * لكيد عدو للعداوة ناصب

وإخباره بالأمر من قبل كونه * وعند بواديه بما في العواقب

ومن تلكم الآيات وحي أتي به * قريب المآني مستجم العجائب

تقاصرت الأفكار عنه فلم يطع * بليغا ولم يخطر على قلب خاطب

حوى كل علم واحتوى كل حكمة * وفات مرام المستمر الموارب

أتانا به لا عن رؤية مرتىء * ولا صُحْف مُسْتَمُل ولا وصف كاتب

يواتيه طورا في إجابة سائل * وإفتاء مستفت ووعظ مخاطب

وإتيان برهان وفرض شرائع * وقص أحاديث ونص مآرب

وتصريف أمثال وتثبيت حجة * وتعريف ذي جحد وتوقيف كاذب

وفي مجمع النادي وفي حومة الوغى * وعند حدوث المعضلات الغرائب

فيأتي على ما شئت من طرقاته * قويم المعاني مستدر الضرائب

يصدق منه البعض بعضا كأنما * يلاحظ معناه بعين المراقب

وعجز الورى عن أن يجيئوا بمثل ما * وصفناه معلوم بطول التجارب

تأتى بعبد الله أكرم والد * تبلج منه عن كريم المناسب

وشيبة ذي الحمد الذي فخرت به * قريش على أهل العلى والمناصب

ومن كان يستسقي الغمام بوجهه * ويصدر عن آرائه في النوائب

وهاشم الباني مشيد افتخاره * بغر المساعي وامتنان المواهب

وعبد مناف وهو علم قومه اشتطاط * الأماني واحتكام الرغائب

وإن قصيا من كريم غراسه * لفي منهل لم يدن من كف قاضب

به جمع الله القبائل بعد ما * تقسمها نهب الأكف السوالب

وحل كلاب من ذرى المجد معقلا * تقاصر عنه كل دان وغائب

ومرة لم يحلل مريرة عزمه * سفاه سفيه أو محوبة حائب

وكعب علا عن طالب المجد كعبه * فنال بأدنى السعي أعلا المراتب

وألوى لؤي بالعداة فطوعت * له همم الشم الأنوف الأغالب

وفي غالب بأس أبي البأس دونهم * يدافع عنهم كل قرن مغالب

وكانت لفهر في قريش خطابه * يعوذ بها عند اشتجار المخاطب

وما زال منهم مالك خير مالك * وأكرم مصحوب وأكرم صاحب

وللنضر طول يقصر الطرف دونه * بحيث التقى ضوء النجوم الثواقب

لعمري لقد أبدى كنانه قبله * محاسن تأبى إن تطوع لغالب

ومن قبله أبقى خزيمة حمده * تليد تراث عن حميد الأقارب

ومدركة لم يدرك الناس مثله * أعف وأعلى عن دني المكاسب

وإلياس كان إلياس منه مقارنا * لأعدائه قبل اعتداد الكتائب

وفي مضر يستجمع الفخر كله * إذا اعتركت يوما زحوف المقانب

وحل نزار من رياسة أهله * محلا تسامى عن عيون الرواقب

وكان معد عدة لولية * إذا خاف من كيد العدو المحارب

ومازال عدنان إذا عد فضله * توحد فيه عن قرين وصاحب

وأد تأدي الفضل منه بغاية * وأرث حواه عن قروم أشايب

وفي أدد حلم تزين بالحجا * إذا الحلم أزهاه قطوب الحواجب

ومازال يستعلي هميسع بالعلى * ويتبع آمال البعيد المراغب

ونبت بنته دوحة العز وابتنى * معاقله في مشمخر الأهاضب

وحيزت لقيذار سماحة حاتم * وحكمة لقمان وهمه حاجب

هموا نسل إسماعيل صادق وعده * فما بعده في الفخر مسعى لذاهب

وكان خليل الله أكرم من عنت * له الأرض من ماش عليها وراكب

وتارح مازالت له أريجة * تبين منه عن حميد المضارب

وناحور نحار العدى حفظت له * مآثر لما يحصها عد حاسب

وأشرع في الهيجاء ضيغم غابة * يقد الطلى بالمرهفات القواضب

وأرغو ناب في الحروب محكم * ضنين على نفس المشح المغالب

وما فالغ في فضله تلو قومه * ولا عابر من دونهم في المراتب

وشالخ وأرفخشذ وسام سمت بهم * سجايا حمتهم كل ذار و عائب

و ما زال نوح عندي ذي العرش فاضلا * يعدده في المصطفين الأطايب

ولملك أبوه كان في الروع رائعا * جريئا على نفس الكمي المضارب

ومن قبل لملك لم يزل متوشلخ * يذود العدى بالذائدات الشوازب

وكانت لإدريس النبي منازل * من الله لم تقرن بهمة راغب

ويارد بحر عند آل سراته * أبى الخزايا مستدق المآرب

وكانت لمهلاييل فهم فضائل * مهذبة من فاحشات المثالب

وقينان من قبل اقتنى مجد قومه * وفاد بشأو الفضل وخد الركائب

وكان أنوش ناش للمجد نفسه * ونزهها عن مرديات المطالب

ومازال شيث بالفضائل فاضلا * شريفا بريئا من ذميم المعائب

وكلهم من نور آدم أقبسوا * وعن عوده أجنوا ثمار المناقب

وكان رسول الله أكرم منجب * جرى في ظهور الطيبين المناجب

مقابلة آباؤه أمهاته * مبرأة من فاضحات المثالب

عليه سلام الله في كل شارق * ألاح لنا ضوءا وفي كل غارب

هكذا أورد القصيدة الشيخ أبو عمر ابن عبد البر، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه من شعر الأستاذ أبي العباس عبد الله بن محمد الناشي المعروف بابن شرشير، أصله من الأنبار، ورد بغداد، ثم ارتحل إلى مصر، فأقام بها حتى مات سنة ثلاث وتسعين ومائتين. وكان متكلما معتزليا يحكي عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه (المقالات) فيما يحكي عن المعتزلة.

وكان شاعرا مطبقا حتى أن من جملة اقتداره على الشعر كان يعاكس الشعراء في المعاني، فينظم في مخالفتهم، ويبتكر ما لا يطيقونه من المعاني البديعة، والألفاظ البليغة، حتى نسبه بعضهم إلى التهوس والاختلاط.

وذكر الخطيب البغدادي أن له قصيدة على قافية واحدة قريبا من أربعة آلاف بيت، ذكرها الناجم وأرخ وفاته كما ذكرنا.

قلت: وهذه القصيدة تدل على فضيلته، وبراعته، وفصاحته، وبلاغته، وعلمه، وفهمه، وحفظه، وحسن لفظه، واطلاعه، واضطلاعه، واقتداره على نظم هذا النسب الشريف في سلك شعره، وغوصه على هذه المعاني، التي هي جواهر نفيسة من قاموس بحره، فرحمه الله وأثابه وأحسن مصيره وإيابه.

أصول أنساب عرب الحجاز إلى عدنان

وذلك لأن عدنان ولد له ولدان: معد، وعك.

قال السهيلي: ولعدنان أيضا ابن اسمه الحارث، وآخر يقال له: المذهب.

قال: وقد ذكر أيضا في بنيه الضحاك. وقيل: إن الضحاك ابن لمعد لا ابن عدنان. قال: وقيل: إن عدن الذي تعرف به مدينة عدن، وكذلك أبين، كانا ابنين لعدنان. حكاه الطبري، فتزوج عك في الأشعريين، وسكن في بلادهم من اليمن، فصارت لغتهم واحدة.

فزعم بعض أهل اليمن أنهم منهم، فيقولون: عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد بن يغوث. ويقال: عك بن عدنان بن الذيب بن عبد الله بن الأسد. ويقال: الريث بدل الذيب. والصحيح ما ذكرنا من أنهم من عدنان. قال عباس بن مرداس:

وعك بن عدنان الذين تلعبوا * بغسان حتى طردوا كل مطرد

وأما معد: فولد له أربعة: نزار، وقضاعة، وقنص، وإياد، وكان قضاعة بكره، وبه كان يكنى، وقد قدمنا الخلاف في قضاعة، ولكن هذا هو الصحيح عند ابن إسحاق وغيره، والله أعلم.

وأما قنص فيقال إنهم هلكوا ولم يبق لهم بقية إلا أن النعمان بن المنذر، الذي كان نائبا لكسرى على الحيرة، كان من سلالته على قول طائفة من السلف، وقيل: بل كان من حمير كما تقدم، والله أعلم.

وأما نزار فولد له ربيعة، ومضر، وأنمار، قال ابن هشام: وإياد بن نزار، كما قال الشاعر:

وفتو حسن أوجههم * من إياد بن نزار بن معد

قال ابن هشام: وإياد ومضر شقيقان، أمهما سودة بنت عك بن عدنان، وأم ربيعة وأنمار شقيقة بنت عك بن عدنان. ويقال: جمعة بنت عك بن عدنان.

قال ابن إسحاق: فأما أنمار فهو والد خثعم وبجيلة قبيلة جرير بن عبد الله البجلي. قال: وقد تيامنت فلحقت باليمن.

قال ابن هشام: وأهل اليمن يقولون أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. قلت: والحديث المتقدم في ذكر سبأ يدل على هذا. والله أعلم.

قالوا: وكان مضر أول من حدا، وذلك لأنه كان حسن الصوت، فسقط يوما عن بعيره فوثبت يده، فجعل يقول: وايدياه وايدياه، فأعنقت الإبل لذلك.

قال ابن إسحاق: فولد مضر بن نزار رجلين: إلياس وعيلان. وولد لإلياس مدركة، وطابخة، وقمعة، وأمهم خندف بنت عمران بن إلحاف بن قضاعة.

قال ابن إسحاق: وكان اسم مدركة عامرا، واسم طابخة عمرا، ولكن اصطاد صيدا فبيناهما يطبخانه إذ نفرت الإبل، فذهب عامر في طلبها حتى أدركها وجلس الآخر يطبخ، فلما راحا على أبيهما ذكرا له ذلك، فقال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخة.

قال: وأما قمعة فيزعم نساب مضر أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن إلياس. قلت: والأظهر أنه منهم لا والدهم، وأنهم من حمير كما تقدم، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فولد مدركة خزيمة، وهذيل، وأمهما امرأة من قضاعة، وولد خزيمة كنانة، وأسدا، وأسدة، والهون، وزاد أبو جعفر الطبري في أبناء كنانة على هؤلاء الأربعة: عامرا والحارث، والنضير، وغنما، وسعدا، وعوفا، وجرولا، والحدال، وغزوان.

قال ابن إسحاق: وولد كنانة النضر، ومالكا، وعبد مناة، وملكان.

قريش نسبا واشتقاقا وفضلا وهم بنو النضر بن كنانة

قال ابن إسحاق: وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر وسائر بنيه لامرأة أخرى.

وخالفه ابن هشام فجعل برة بنت مرام النضر ومالك وملكان، وأم عبد مناة هالة بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة.

قال ابن هشام: النضر هو قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي. وقال: ويقال فهر بن مالك هو قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي.

وهذان القولان قد حكاهما غير واحد من أئمة النسب، كالشيخ أبي عمر ابن عبد البر، والزبير بن بكار، ومصعب، وغير واحد. قال أبو عبيد، وابن عبد البر: والذي عليه الأكثرون أنه النضر بن كنانة، لحديث الأسعد بن قيس، قلت: وهو الذي نص عليه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وهو جادة مذهب الشافعي رضي الله عنه.

ثم اختار أبو عمر أنه فهر بن مالك، واحتج بأنه ليس أحد اليوم ممن ينتسب إلى قريش إلا وهو يرجع في نسبه إلى فهر بن مالك. ثم حكى اختيار هذا القول عن الزبير بن بكار، ومصعب الزبيري، وعلي بن كيسان. قال: وإليهم المرجع في هذا الشأن.

وقد قال الزبير بن بكار: وقد أجمع نساب قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت من فهر بن مالك، والذي عليه من أدركتُ من نساب قريش أن ولد فهر بن مالك قرشي، وأن من جاوز فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش، ثم نصر هذا القول نصرا عزيزا، وتحامى له بأنه ونحوه أعلم بأنساب قومهم وأحفظ لمآثرهم.

وقد روى البخاري من حديث كليب بن وائل قال: قلت لربيبة النبي - يعني: زينب بنت أبي سلمى - في حديث ذكره أخبريني عن النبي أكان من مضر؟ قالت: فممن كان إلا من مضر. من بني النضر بن كنانة.

وقال الطبراني: ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، ثنا الحسن بن صالح، عن أبيه، عن الجشيش الكندي قال: جاء قوم من كندة إلى رسول الله فقالوا: أنت منا وادعوه.

فقال: « لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا، ولا ننتفي من أبينا ».

وقال الإمام أبو عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد: ثنا أبي، ثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: جاء رجل من كندة يقال له الجشيش إلى النبي فقال: يا رسول الله إنا نزعم أن عبد مناف منا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال مثل ذلك، ثم أعرض عنه، ثم عاد فقال مثل ذلك فقال النبي :

« نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفُ أمنا ولا ننتفي من أبينا ».

فقال الأشعث: ألا كنت سكت من المرة الأولى، فأبطل ذلك قولهم على لسان نبيه ، وهذا غريب أيضا من هذا الوجه، والكلبي ضعيف، والله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: ثنا حماد بن سلمة قال: ثني عقيل بن أبي طلحة، وقال عفان: عقيل بن طلحة السلمي، عن مسلم بن الهيصم، عن الأشعث بن قيس أنه قال: أتيت رسول الله في وفد كندة، قال عفان: لا يروني أفضلهم قال فقلت يا رسول الله: إنا نزعم أنكم منا.

قال: فقال رسول الله : « نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا ».

قال: فقال الأشعث بن قيس: فوالله لا أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد. وهكذا رواه ابن ماجه من طرق عن حماد بن سلمة به. وهذا إسناد جيد قوي. وهو فيصل في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه، والله أعلم ولله الحمد والمنة.

وقد قال جرير بن عطية التميمي يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:

فما الأم التي ولدت قريشا * بمُقْرِفَة النجار ولا عقيم

وما قِرْمٌ بأنجبَ من أبيكم * ولا خالٌ بأكرم من تميم

قال ابن هشام: يعني أم النضر بن كنانة وهي برة بنت مر أخت تميم بن مر.

وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو: التجمع بعد التفرق وذلك في زمن قصي بن كلاب، فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم كما سيأتي بيانه، وقد قال حذافة بن غانم العدوي:

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فِهْر

وقال بعضهم: كان قصي يقال له قريش قيل: من التجمع.

والتقرش: التجمع، كما قال أبو خلدة اليشكري:

إخوة قرشوا الذنوب علينا * في حديث من دهرنا وقديم

وقيل: سميت قريش من التقرش، وهو: التكسب والتجارة. حكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: القرش الكسب والجمع، وقد قرش يقرش. قال الفراء: وبه سميت قريش وهي قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة، فكل من كان من ولده فهو قرشي دون ولد كنانة فما فوقه.

وقيل: من التفتيش. قال هشام بن الكلبي: كان النضر بن كنانة تسمى قريشا لأنه كان يقرش عن خلة الناس وحاجتهم فيسدها بماله. والتقريش هو: التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيرفدونهم بما يبلغهم بلادهم فسموا بذلك من فعلهم، وقرشهم قريشا، وقد قال الحارث بن حلزة في بيان أن التقرش التفتيش:

أيها الناطق المقرش عنا * عند عمرو فهل له إبقاء

حكى ذلك الزبير بن بكار.

وقيل: قريش تصغير قرش، وهو دابة في البحر قال بعض الشعراء:

وقريش هي التي تسكن البحر * بها سميت قريش قريشا

قال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني، حدثنا محمد بن الحسن بن الخليل النسوي أن أبا كريب حدثهم، حدثنا وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي ركانة العامري أن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا؟ فقال: لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه، فيقال لها: القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته. قال فأنشدني في ذلك شيئا فأنشدته شعر الجمحي إذ يقول:

وقريش هي التي تسكن البحر * بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا * تتركن لذي الجناحين ريشا

هكذا في البلاد حي قريش * يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزمان نبي * يكثر القتل فيهم والخموشا

وقيل: سموا بقريش بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة، وكان دليل بني النضر وصاحب ميرتهم، فكانت العرب تقول: قد جاءت عير قريش.

قالوا: وابن بدر بن قريش هو الذي حفر البئر المنسوبة إليه التي كانت عندها الوقعة العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والله أعلم

ويقال في النسبة إلى قريش قرشي وقريشي، قال الجوهري وهو القياس. قال الشاعر:

لكل قريشي عليه مهابة * سريع إلى داعي الندا والتكرم

قال فإذا أردت بقريش الحي صرفته وإن أردت القبيلة منعته، قال الشاعر في ترك الصرف: * وكفى قريش المعضلات وسادها

وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي قال: حدثني شداد أبو عمار، حدثني واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله :

« إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم ».

قال أبو عمر بن عبد البر: يقال بنو عبد المطلب فصيلة رسول الله ، وبنو هاشم فخذه، وبنو عبد مناف بطنه، وقريش عمارته، وبنو كنانة قبيلته، ومضر شعبه، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

ثم قال ابن إسحاق: فولد النضر بن كنانة مالكا ومخلدا، قال ابن هشام والصلت: وأمهم جميعا بنت سعد بن الظرب العدواني.

قال كثير بن عبد الرحمن وهو كثير عزة أحد بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة:

أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي * لكل هجان من بني النضر أزهرا

رأيت ثياب العصب مختلط السدي * بنا وبهم والحضرمي المخصرا

فإن لم تكونوا من بني النضر فاتركوا * أراكا بأذناب الفواتج أخضرا

قال ابن هشام: وبنو مليح بن عمرو يعزون إلى صلت بن النضر.

قال ابن إسحاق: فولد مالك بن النضر فهر بن مالك، وأمه جندلة بنت الحارث بن مضاض الأصغر، وولد فهر غالبا ومحاربا والحارث وأسدا وأمهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة.

قال ابن هشام: وأختهم لأبيهم جندلة بنت فهر.

قال ابن إسحاق: فولد غالب بن فهر لؤي بن غالب وتيم بن غالب، وهم الذين يقال لهم بنو الأدرم، وأمهما سلمى بنت عمرو الخزاعي.

قال ابن هشام: وقيس بن غالب وأمه سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي، وهي أم لؤي.

قال ابن إسحاق: فولد لؤي بن غالب أربعة نفر: كعبا وعامرا وسامة وعوفا.

قال ابن هشام ويقال: والحارث، وهم جشم بن الحارث في هزان من ربيعة، وسعد بن لؤي وهما بنانة في شيبان بن ثعلبة وبنانة حاضنة لهم، وخزيمة بن لؤي، وهم عايذة في شيبان بن ثعلبة.

ثم ذكر ابن إسحاق خبر سامة بن لؤي وأنه خرج إلى عُمان، فكان بها. وذلك لشنآن كان بينه وبين أخيه عامر فأخافه عامر فخرج عنه هاربا إلى عمان، وأنه مات بها غريبا وذلك أنه كان يرعى ناقته فعلقت حية بمشفرها فوقعت لشقها، ثم نهشت الحية سامة حتى قتلته، فيقال: إنه كتب بأصبعه على الأرض:

عين فابكي لسامة بن لؤي * علقت ما بسامة العلاَّقه

لا أرى مثل سامة بن لؤي * يوم حلوا به قتيلا لناقه

بلّغا عامرا وكعبا رسولا * أن نفسي إليهما مشتاقه

إن تكن في عمان داري فإني * غالبيّ خرجت من غير فاقه

رب كأس هرقت يا ابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه

رمتَ دفع الحتوف يا بن لؤي * ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة

وخروس السرى تركت رزيا * بعد جِد وحِدَّة ورشاقه

قال ابن هشام: وبلغني أن بعض ولده أتى رسول الله فانتسب إلى سامة بن لؤي.

فقال له رسول الله : « آلشاعر؟ ».

فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله؟

رب كأس هرقت يا ابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه

فقال: « أجل ».

وذكر السهيلي عن بعضهم أنه لم يعقب. وقال الزبير: ولد أسامة بن لؤي غالبا والنبيت والحارث قالوا: وكانت له ذرية بالعراق يبغضون عليا ومنهم: علي بن الجعد كان يشتم أباه لكونه سماه عليا، ومن بني سامة بن لؤي محمد بن عرعرة بن اليزيد شيخ البخاري

وقال ابن إسحاق: وأما عوف بن لؤي فإنه خرج - فيما يزعمون - في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، أبطئ به، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد، وهو أخوه في نسب بني ذبيان، فحبسه وزوجه والتاطه وآخاه. فشاع نسبه في ذبيان. وثعلبة - فيما يزعمون -

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين أن عمر بن الخطاب قال: لو كنت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف، إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع، يعني عوف بن لؤي.

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب قال لرجال منهم من بني مرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه.

قال ابن إسحاق: وكان القوم أشرافا في غطفان هم سادتهم وقادتهم، قوم لهم صيت في غطفان وقيس كلها، فأقاموا على نسبهم قالوا: وكانوا يقولون إذا ذكر لهم نسبهم: ما ننكره وما نجحده وإنه لأحب النسب إلينا، ثم ذكر أشعارهم في انتمائهم إلى لؤي.

قال ابن إسحاق: وفيهم كان البسل، وهو تحريم ثمانية أشهر لهم من كل سنة من بين العرب، وكانت العرب تعرف لهم ذلك ويأمنونهم فيها ويؤمنونهم أيضا، قلت: وكانت ربيعة ومضر إنما يحرمون أربعة أشهر من السنة وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، واختلفت ربيعة ومضر في الرابع وهو رجب.

فقالت مضر: هو الذي بين جمادى وشعبان. وقالت ربيعة: هو الذي بين شعبان وشوال.

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله قال في خطبة حجة الوداع:

« إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ». فنص على ترجيح قول مضر لا ربيعة.

وقد قال الله عز وجل: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } 234 فهذا رد على بني عوف بن لؤي في جعلهم الأشهر الحرم ثمانية، فزادوا على حكم الله وأدخلوا فيه ما ليس منه. وقوله في الحديث: ثلاث متواليات رد على أهل النسيء الذين كانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر. وقوله فيه: ورجب مضر رد على ربيعة.

قال ابن إسحاق: فولد كعب بن لؤي ثلاثة: مرة، وعديا، وهصيصا. وولد مرة ثلاثة أيضا: كلاب بن مرة، وتيم بن مرة، ويقظة بن مرة، من أمهات ثلاث. قال: وولد كلاب رجلين: قصي بن كلاب، وزهرة بن كلاب، وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد بني الجُدّرَة من جعثمة الأسد من اليمن، حلفاء بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وفي أبيها يقول الشاعر:

ما نرى في الناس شخصا واحدا * من علمناه كسعد بن سيل

فارسا أضبط فيه عسرة * وإذا ما واقف القِرن نزل

فارسا يستدرج الخيل كما استدرج * الحر القطامي الحجل

قال السهيلي: سيل اسمه خير بن جمالة، وهو أول من طليت له السيوف بالذهب والفضة.

قال ابن إسحاق: وإنما سمو الجدرة، لأن عامر بن عمرو بن خزيمة بن جعثمة تزوج بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، وكانت جرهم إذ ذاك ولاة البيت، فبنى للكعبة جدارا فسمى عامر بذلك الجادر، فقيل لولده الجدرة لذلك.

خبر قصي بن كلاب وارتجاعه ولاية البيت إلى قريش وانتزاعه ذلك من خزاعة

وذلك أنه لما مات أبوه كلاب تزوج أمه ربيعة بن حرام من عذرة، وخرج بها وبه إلى بلاده، ثم قدم قصي مكة وهو شاب فتزوج حبى ابنة رئيس خزاعة خليل بن حبشية. فأما خزاعة فزعم أن حليلا أوصى إلى قصي بولاية البيت لما رأى من كثرة نسله من ابنته، وقال أنت أحق بذلك مني.

قال ابن إسحاق: ولم نسمع ذلك إلا منهم، وأما غيرهم فإنهم يزعمون أنه استغاث بإخوته من أمه، وكان رئيسهم رزاح بن ربيعة، وأخوته، وبني كنانة وقضاعة، ومن حول مكة من قريش وغيرهم، فأجلاهم عن البيت، واستقل هو بولاية البيت لأن إجازة الحجيج كانت إلى صوفة وهم: بنو الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر.

فكان الناس لا يرمون الجمار حتى يرموا، ولا ينفرون من منى حتى ينفروا، فلم يزل كذلك فيهم حتى انقرضوا، فورثهم ذلك بالقُعْدَد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، فكان أولهم صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وكان ذلك في بيته حتى قام على آخرهم الإسلام وهو كرب بن صفوان.

وكانت الإجازة من المزدلفة في عدوان حتى قام الإسلام على آخرهم وهو: أبو سيارة عميلة بن الأعزل، وقيل: اسمه العاص، واسم الأعزل خالد، وكان يجيز بالناس على أتان له عوراء، مكث يدفع عليها في الموقف أربعين سنة. وهو أول من جعل الدية مائة، وأول من كان يقول أشرق ثبير كيما نغير. حكاه السهيلي.

وكان عامر بن الظرب العدواني لا يكون بين العرب نائرة إلا تحاكموا إليه، فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه مرة في ميراث خنثى، فبات ليلته ساهرا يتروى ماذا يحكم به، فرأته جارية له كانت ترعى عليه غنمه اسمها سخيلة، فقالت له: ما لك لا أبالك؟ الليلة ساهرا؟ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت: ابتع القضاء المبال، فقال: فرجتها والله يا سخيلة وحكم بذلك.

قال السهيلي: وهذا الحكم من باب الاستدلال بالإمارات والعلامات، وله أصل في الشرع، قال الله تعالى: { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } 235 حيث لا أثر لأنياب الذئب فيه.

وقال تعالى: { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } 236.

وفي الحديث: « انظروها فإن جاءت به أورق جعدا جماليا فهو الذي رميت به ».

قال ابن إسحاق: وكان النسيء في بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب، القَلمَّسْ وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي، ثم قام بعده ابنه عباد، ثم قلع بن عباد، ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم كان آخرهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن قلع بن عباد بن حذيفة وهو القلمس، فعلى أبي ثمامة قام الإسلام.

وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فخطبهم فحرم الأشهر الحرم، فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم، وجعل مكانه صفرا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيقول: اللهم إني أحللت أحد الصفرين الصفر الأول، وانسأت الآخر للعام المقبل. فتتبعه العرب في ذلك.

ففي ذلك يقول عمير بن قيس أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، ويعرف عمير بن قيس هذا بجدل الطعان:

لقد علمت معد أن قومي * كرام الناس أن لهم كراما

فأي الناس فاتونا بوتر * وأي الناس لم نعلك لجاما

ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما

وكان قصي في قومه سيدا رئيسا مطاعا معظما، والمقصود أنه جمع قريشا من متفرقات مواضعهم من جزيرة العرب، واستعان بمن أطاعه من أحياء العرب على حرب خزاعة وإجلائهم عن البيت، وتسليمه إلى قصي، فكان بينهم قتال كثيرة ودماء غزيرة.

ثم تداعوا إلى التحكيم، فتحاكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فحكم بأن قصيا أولى بالبيت من خزاعة، وإن كل دم أصابه قصي من خزاعة وبني بكر موضوع بشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابته خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصي وبين مكة والكعبة، فسمي يعمر يومئذ الشداخ.

قال ابن إسحاق: فولي قصي البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، إلا أنه أقر العرب على ما كانوا عليه، لأنه يرى ذلك دينا في نفسه لا ينبغي تغييره، فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله.

قال ابن إسحاق: فكان قصي أول بني كعب أصاب ملكا أطاع له به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة.

قلت: فرجع الحق إلى نصابه، ورد شارد العدل بعد إيابه، واستقرت بقريش الدار، وقضت من خزاعة المراد والأوطار، وتسلمت بيتهم العتيق القديم لكن بما أحدثت خزاعة من عبادة الأوثان، ونصبها إياها حول الكعبة، ونحرهم لها وتضرعهم عندها، واستنصارهم بها، وطلبهم الرزق منها، وأنزل قصي قبائل قريش أباطح مكة، وأنزل طائفة منهم ظواهرها، فكان يقال قريش البطاح، وقريش الظواهر.

فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة من حجابة البيت وسدانته واللواء، وبنى دارا لإزاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة، إذا أعضلت قضية اجتمع الرؤساء من كل قبيلة فاشتوروا فيها وفصلوها، ولا يعقد عقد لواء ولا عقد نكاح إلا بها، ولا تبلغ جارية أن تدرع فتدرع إلا بها، وكان باب هذه الدار إلى المسجد الحرام.

ثم صارت هذه الدار فيما بعد إلى حكيم بن حزام بعد بني عبد الدار، فباعها في زمن معاوية بمائة ألف درهم، فلامه على بيعها معاوية وقال: بعت شرف قومك بمائة ألف؟ فقال: إنما الشرف اليوم بالتقوى، والله لقد ابتعتها في الجاهلية بزق خمر، وها أنا قد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها صدقة في سبيل الله فأينا المغبون.

ذكره الدارقطني في أسماء رجال الموطأ، وكانت إليه سقاية الحجيج فلا يشربون إلا من ماء حياضه، وكانت زمزم إذ ذاك مطموسة من زمن جرهم، قد تناسوا أمرها من تقادم عهدها ولا يهتدون إلى موضعها.

قال الواقدي: وكان قصي أول من أحدث وقيد النار بالمزدلفة ليهتدي إليها من يأتي من عرفات. والرفادة وهي: إطعام الحجيج أيام الموسم إلى أن يخرجوا راجعين إلى بلادهم.

قال ابن إسحاق: وذلك أن قصيا فرضه عليهم فقال لهم: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وأن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم. ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك في كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى.

فجرى ذلك من أمره في الجاهلية حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا. فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج.

قلت: ثم انقطع هذا بعد ابن إسحاق، ثم أمر بإخراج طائفة من بيت المال فيصرف في حمل زاد وماء لأبناء السبيل القاصدين إلى الحج، وهذا صنيع حسن من وجوه يطول ذكرها، ولكن الواجب أن يكون ذلك من خالص بيت المال، من أحل ما فيه، والأولى أن يكون من جوالي الذمة لأنهم لا يحجون البيت العتيق، وقد جاء في الحديث:

« من استطاع الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا ».

وقال قائلهم في مدح قصي وشرفه في قومه:

قصي لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر

همو ملؤوا البطحاء مجدا وسؤددا * وهم طردوا عنا غواة بني بكر

قال ابن إسحاق: ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه وإخوته من أبيه الثلاثة: وهم حن ومحمود وجلهمة.

قال رزاح في إجابته قصيا:

ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول أجيبوا الخليلا

نهضنا إليه نقود الجياد * ونطرح عنا الملول الثقيلا

نسير بها الليل حتى الصباح * ونكمي النهار لئلا نزولا

فهن سراع كورد القصا * يجبن بنا من قصي رسولا

جمعنا من السر من اشمذين * ومن كل حي جمعنا قبيلا

فيالك حلبة ما ليلة * تزيد على الألف سيبا رسيلا

فلما مررن على عسجر * وأسهلن من مستناخ سبيلا

وجاوزن بالركن من ورقان * وجاوزن بالعرج حيا حلولا

مررن على الحلي ما ذقنه * وعالجن من مر ليلا طويلا

ندني من العوذ أفلاءها * إرادة أن يسترقن الصهيلا

فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيلا قبيلا

نعاورهم ثم حد السيوف * وفي كل أوب خلسنا العقولا

نخبّزهم بصلاب النسور * خبز القوي العزيز الذليلا

قتلنا خزاعة في دارها * وبَكرا قتلنا وجيلا فجيلا

نفيناهم من بلاد المليك * كما لا يحلون أرضا سهولا

فأصبح سيبهم في الحديد * ومن كل حي شفينا الغليلا

قال ابن إسحاق: فلما رجع رزاح إلى بلاده نشره الله ونشر حنا، فهما قبيلا عذرة إلى اليوم.

قال ابن إسحاق: وقال قصي بن كلاب في ذلك:

أنا ابن العاصمين بني لؤي * بمكة منزلي وبها ربيت

إلى البطحاء قد علمت معد * ومروتها رضيت بها رضيت

فلست لغالب أن لم تأثل * بها أولاد قيذر والنبيت

رزاح ناصري وبه أسامي * فلست أخاف ضيما ما حييت

وقد ذكر الأموي عن الأشرم عن أبي عبيدة، عن محمد بن حفص: أن رزاحا إنما قدم بعدما نفى قصي خزاعة، والله أعلم.

فصل: تفويض قصي أمر الوظائف لابنه عبد الدار

ثم لما كبر قصي فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه من رئاسات قريش وشرفها من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد الدار، وكان أكبر ولده، وإنما خصصه بها كلها لأن بقية أخوته عبد مناف، وعبد الشمس، وعبدا كانوا قد شرفوا في زمن أبيهم، وبلغوا في قوتهم شرفا كبيرا، فأحب قصي أن يلحق بهم عبد الدار في السؤدد فخصصه بذلك، فكان أخوته لا ينازعونه في ذلك.

فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا: إنما خصص قصي عبد الدار بذلك ليلحقه بإخوته، فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه. وقال بنو عبد الدار: هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق به، واختلفوا اختلافا كثيرا.

وانقسمت بطون قريش فرقتين: ففرقة بايعت عبد الدار وحالفتهم، وفرقة بايعت بني عبد مناف وحالفوهم على ذلك، ووضعوا أيديهم عند الحلف في جفنة فيها طيب، ثم لما قاموا مسحوا أيديهم بأركان الكعبة فسموا حلف المطيبين.

وكان منهم من قبائل قريش: بنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، وكان مع بني عبد الدار بنو مخزوم، وبنو سهم، وبنو جمح، وبنو عدي. واعتزلت بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر الجميع، فلم يكونوا مع واحد منهما. ثم اصطلحوا واتفقوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف، وأن تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار، فانبرم الأمر على ذلك واستمر.

وحكى الأموي، عن الأشرم، عن أبي عبيدة قال: وزعم قوم من خزاعة أن قصيا لما تزوج حبى بنت حليل، ونقل حليل عن ولاية البيت جعلها إلى ابنته حبى، واستناب عنها أبا غبشان سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي بن حارثة بن عمرو بن عامر، فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وقعود، فكان يقال أخسر من صفقة أبي غبشان.

ولما رأت خزاعة ذلك اشتدوا على قصي فاستنصر أخاه، فقدم بمن معه وكان ما كان، ثم فوض قصي هذه الجهات التي كانت إليه من السدانة، والحجابة، واللواء، والندوة، والرفادة، والسقاية إلى ابنه عبد الدار كما سيأتي تفصيله وإيضاحه، وأقر الإجازة من مزدلفة في بني عدوان، وأقر النسيء في فقيم، وأقر الإجازة وهو النفر في صوفة، كما تقدم بيان ذلك كله مما كان بأيديهم قبل ذلك.

قال ابن إسحاق: فولد قصي أربعة نفر وامرأتين: عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبدا، وتخمر، وبرة، وأمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي وهو آخر من ولي البيت من خزاعة، ومن يده أخذ البيت قصي بن كلاب.

قال ابن هشام: فولد عبد مناف بن قصي أربعة نفر: هاشما، وعبد شمس، والمطلب، وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال. ونوفل بن عبد مناف وأمه واقدة بنت عمرو المازنية.

قال ابن هشام: وولد لعبد مناف أيضا أبو عمرو، وتماضر، وقلابة، وحية، وريطة، وأم الأخثم، وأم سفيان.

قال ابن هشام: وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر، وخمس نسوة: عبد المطلب، وأسدا، وأبا صيفي، ونضلة، والشفا، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وحية، فأم عبد المطلب ورقية: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار من المدينة، وذكر أمهات الباقين.

قال: وولد عبد المطلب عشرة نفر، وست نسوة وهم: العباس، وحمزة، وعبد الله، وأبو طالب - واسمه عبد مناف - لا عمران، والزبير، والحارث، وكان بكر أبيه وبه كان يكنى، وجحل، ومنهم من يقول حجل، وكان يلقب بالغيداق لكثرة خيره، والمقوم، وضرار، وأبو لهب - واسمه عبد العزى - وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة.

وذكر أمهاتهم إلى أن قال: وأم عبد الله، وأبي طالب، والزبير، وجميع النساء إلا صفية فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

قال ابن هشام: فولد عبد الله محمدا رسول الله سيد ولد آدم وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

ثم ذكر أمهاتها فأغرق إلى أن قال: فهو أشرف ولد آدم حسبا وأفضلهم نسبا من قبل أبيه وأمه، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

وقد تقدم حديث الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله :

« إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم ».

رواه مسلم وسيأتي بيان مولده الكريم، وما ورد فيه من الأخبار والآثار وسنورد عند سرد النسب الشريف فوائد أخر ليست هاهنا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.

ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية

قد تقدم ما كان من أخذ جرهم ولاية البيت من بني إسماعيل، طمعوا فيهم لأنهم أبناء بناتهم، وما كان من توثب خزاعة على جرهم وانتزاعهم ولاية البيت منهم، ثم ما كان من رجوع ذلك إلى قصي وبنيه، واستمرار ذلك في أيديهم إلى أن بعث الله رسوله فأقر تلك الوظائف على ما كانت عليه.

ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية

خبر خالد بن سنان العبسي الذي كان في زمن الفترة وقد زعم بعضهم أنه كان نبيا، والله أعلم.

قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور الرازي، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا قيس بن الربيع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي فبسط لها ثوبه وقال:

« بنت نبي ضيعه قومه ».

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، عن يحيى بن المعلى بن منصور، عن محمد بن الصلت، عن قيس، عن سالم، عن سعيد، عن ابن عباس قال: ذكر خالد بن سنان عند رسول الله فقال:

« ذاك نبي ضيعه قومه ».

ثم قال: ولا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وكان قيس بن الربيع ثقة في نفسه، إلا أنه كان رديء الحفظ، وكان له ابن يدخل في أحاديثه ما ليس منها، والله أعلم.

قال البزار: وقد رواه الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير مرسلا ً.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا المعلى بن مهدي الموصلي قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلا من عبس يقال له خالد بن سنان قال لقومه: إني أطفئ عنكم نار الحرتين، فقال له رجل من قومه: والله يا خالد ما قلت لنا قط إلا حقا، فما شأنك وشأن نار الحرتين تزعم أنك تطفئها؟

فخرج خالد ومعه أناس من قومه فيهم عمارة بن زياد فأتوها، فإذا هي تخرج من شق جبل، فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها فقال: إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضا، فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه وهو يقول: بدا بدا بدا كل هدى زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي بيدي، حتى دخل معها الشق فأبطأ عليهم فقال لهم عمارة بن زياد: والله إن صاحبكم لو كان حيا لقد خرج إليكم بعد قالوا فادعوه باسمه.

قال فقالوا: إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه، فدعوه باسمه فخرج وهو آخذ برأسه فقال: ألم أنهكم أن تدعوني باسمي، فقد والله قتلتموني فادفنوني، فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فانبشوني فإنكم تجدوني حيا، فدفنوه فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر فقلنا انبشوه فإنه أمرنا أن ننبشه.

فقال لهم عمارة: لا تنبشوه، لا والله لا تحدث مضر أنا ننبش موتانا، وقد كان قال لهم خالد: إن في عكن امرأته لوحين فإن أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما فإنكم ستجدون ما تسألون عنه، قال: ولا يمسهما حائض، فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما إليهم وهي حائض، فذهب ما كان فيهما من علم.

قال أبو يونس: قال سماك بن حرب: سئل عنه النبي فقال:

« ذاك نبي أضاعه قومه ».

قال أبو يونس: قال سماك بن حرب: إن ابن خالد بن سنان أتى النبي فقال: « مرحبا بابن أخي ».

فهذا السياق موقوف على ابن عباس، وليس فيه أنه كان نبيا، والمرسلات التي فيها أنه نبي لا يحتج بها هاهنا، والأشبه أنه كان رجلا صالحا له أحوال وكرامات، فإنه إن كان في زمن الفترة.

فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله أنه قال:

« إن أولى الناس بعيسى بن مريم أنا لأنه ليس بيني وبينه نبي »، وإن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبيا لأن الله تعالى قال: { لِتُنْذِرَ قَوْما مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ } 237.

وقد قال غير واحد من العلماء: إن الله تعالى لم يبعث بعد إسماعيل نبيا في العرب إلا محمدا ، خاتم الأنبياء الذي دعا به إبراهيم الخليل باني الكعبة المكرمة التي جعلها الله قبلة لأهل الأرض شرعا، وبشرت به الأنبياء لقومهم حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم عليه السلام.

وبهذا المسلك بعينه يرد ما ذكره السهيلي وغيره، من إرسال نبي من العرب يقال له شعيب بن ذي مهذم بن شعيب بن صفوان صاحب مدين، وبعث إلى العرب أيضا حنظلة بن صفوان فكذبوهما، فسلط الله على العرب بخت نصر فنال منهم من القتل والسبي نحو ما نال من بني إسرائيل، وذلك في زمن معد بن عدنان.

والظاهر أن هؤلاء كانوا قوما صالحين يدعون إلى الخير، والله أعلم. وقد تقدم ذكر عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف في أخبار خزاعة بعد جرهم.

حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية

وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم بن أبي أحزم واسمه هرومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء أبو سفَّانة الطائي والد عدي بن حاتم الصحابي، كان جوادا ممدحا في الجاهلية، وكذلك كان ابنه في الإسلام، وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، وإنما كان قصده السمعة والذكر.

قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا عبيد بن واقد القيسي، حدثنا أبو نصر هو الناجي عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: ذكر حاتم عند النبي فقال: « ذاك أراد أمرا فأدركه ». 238 قال الدارقطني: تفرد به عبيد بن واقد عن أبي نصر الناجي، ويقال: إن اسمه حماد.

قال ابن عساكر: وقد فرق أبو أحمد الحاكم بين أبي نصر الناجي، وبين أبي نصر حماد ولم يسم الناجي، ووقع في بعض روايات الحافظ ابن عساكر عن أبي نصر شيبة الناجي، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن إسماعيل، حدثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن مري بن قطري، عن عدي بن حاتم قال: قلت لرسول الله : إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل ويفعل فهل له في ذلك؟ يعني من أجر. قال: « إن أباك طلب شيئا فأصابه ». وهكذا رواه أبو يعلى عن القواريري عن غندر، عن شعبة، عن سماك به.

وقال: « إن أباك أراد أمرا فأدركه ». يعني الذكر. وهكذا رواه أبو القاسم البغوي، عن علي بن الجعد، عن شعبة به سواء.

وقد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم منهم: الرجل الذي ينفق ليقال إنه كريم فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا، وكذا في العالم والمجاهد.

وفي الحديث الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله عن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقالوا له: كان يقري الضيف، ويعتق ويتصدق فهل ينفعه ذلك؟ فقال:

« إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ». هذا وقد كان من الأجواد المشهورين أيضا، المطعمين في السنين الممحلة والأوقات المرملة.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن يوسف العماني، حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، حدثنا ضرار بن صرد، حدثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي قال:

قال علي بن أبي طالب: يا سبحان الله! ما أزهد كثيرا من الناس في خير عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح.

فقام إليه رجل وقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله ؟ قال: نعم، وما هو خير منه: لما أتى بسبايا طيء وقعت جارية حمراء لعساء زلفا عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلجة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.

قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت: لأطلبن إلى رسول الله فيجعلها في فيئي، فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها، فقالت: يا محمد: إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طيء.

فقال النبي : « يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مؤمنا لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله تعالى يحب مكارم الأخلاق ».

فقام أبو بردة بن ينار فقال يا رسول الله: والله يحب مكارم الأخلاق؟

فقال رسول الله : « والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق ».

وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني عمر بن بكر، عن أبي عبد الرحمن الطائي - هو القاسم بن عدي - عن عثمان، عن عركي بن حليس الطائي، عن أبيه، عن جده، وكان أخا عدي بن حاتم لأمه قال: قيل لنوار امرأة حاتم حدثينا عن حاتم قالت:

كل أمره كان عجبا، أصابتنا سنة حصت كل شيء فاقشعرت لها الأرض واغبرت لها السماء، وضنت المراضع على أولادها، وراحت الإبل حدبا حدابير ما تبض بقطرة، وحلقت المال، وأنا لفي ليلة صنّبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغى الأصبية من الجوع: عبد الله، وعدي، وسفانة، فوالله إن وجدنا شيئا نعللهم به، فقام إلى أحد الصبيان فحمله وقمت إلى الصبية فعللتها، فوالله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل.

ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد، ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل، فأضجعنا الصبيان عليها، ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا، ثم أقبل علي يعللني لأنام وعرفت ما يريد فتناومت، فقال: مالك أنمت؟ فسكت. فقال: ما أراها إلا قد نامت، وما بي نوم.

فلما ادلهم الليل، وتهورت النجوم، وهدأت الأصوات، وسكنت الرجل، إذ جانب البيت قد رفع فقال من هذا؟ فولى حتى قلت إذا قد أسحرنا أو كدنا. عاد فقال من هذا؟ قالت: جارتك فلانة يا أبا عدي، ما وجدت على أحد معولا غيرك، أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع.

قال: أعجليهم عليّ. قالت النوار: فوثبت فقلت ماذا صنعت أضطجع والله لقد تضاغى أصبيتك فما وجدت ما تعللهم فكيف بهذه وبولدها؟ فقال: اسكتي فوالله لأشبعنك إن شاء الله.

قالت: فأقبلت تحمل اثنين، وتمشي جنبتيها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته، ثم قدح زنده وأورى ناره، ثم جاء بمدية فكشط عن جلده، ثم دفع المدية إلى المرأة، ثم قال: دونك.

ثم قال: ابعثي صبيانك فبعثتهم، ثم قال: سوءة أتأكلون شيئا دون أهل الصرم، فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه، والتفع في ثوبه ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا، والله ما ذاق مزعة وإنه لأحوجهم إليه، فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظم وحافر.

وقال الدارقطني: حدثني القاضي أبو عبد الله المحاملي، حدثنا عبد الله بن أبي سعد، وحدثنا عثيم بن ثوابة بن حاتم الطائي، عن أبيه، عن جده قال: قالت امرأة حاتم لحاتم: يا أبا سفانة أشتهي أن آكل أنا وأنت طعاما وحدنا ليس عليه أحد، فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ، وأمر بالطعام فهيأ وهي مرخاة ستورها عليه وعليها، فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه ثم قال:

فلا تطبخي قدري وسترك دونها * علي إذن ما تطبخين حرام

ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي * بجزل إذا أوقدت لا بضرام

قال: ثم كشف الستور، وقدم الطعام، ودعى الناس فأكل وأكلوا، فقالت: ما أتممت لي ما قلت فأجابها لا تطاوعني نفسي، ونفسي أكرم علي من أن يثنى علي هذا، وقد سبق لي السخاء ثم أنشأ يقول:

أمارس نفسي البخل حتى أعزها * وأترك نفس الجود ما أستثيرها

ولا تشتكيني جارتي غير أنها * إذا غاب عنها بعلها لا أزورها

سيبلغها خيري ويرجع بعلها * إليها ولم تقصر عليها ستورها

ومن شعر حاتم:

إذا ما بت أشرب فوق ري * لسكر في الشراب فلا رويت

إذا ما بت أختل عرس جاري * ليخفيني الظلام فلا خفيت

أأفضح جارتي وأخون جاري * فلا والله أفعل ما حييت

ومن شعره أيضا:

ما ضر جارا لي أجاوره * أن لا يكون لبابه ستر

أغضي إذا ما جارتي برزت * حتى يواري جارتي الخدر

ومن شعر حاتم أيضا:

وما من شيمتي شتم ابن عمي * وما أنا مخلف من يرتجيني

وكلمة حاسد من غير جرم * سمعت وقلت مري فأنقذيني

وعابوها علي فلم تَعِبْني * ولم يعرَق لها يوما جبيني

وذي وجهين يلقاني طليقا * وليس إذا تغيب يأتسيني

ظفرت بعيبه فكففت عنه * محافظة على حسبي وديني

ومن شعره:

سلي البائس المقرور يا أم مالك * إذا ما أتاني بين ناري ومجزري

أأبسط وجهي إنه أول القِرى * وأبذل معروفي له دون مُنْكَري

وقال أيضا:

وإنك إن أعطيت بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وقال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثنا أبو العباس المبرد، أخبرني الثوري، عن أبي عبيدة قال: لما بلغ حاتم طيء قول المتلمس:

قليل المال تصلحه فيبقى * ولا يبقى الكثير على الفساد

وحفظ المال خير من فناه * وعسف في البلاد بغير زاد

قال: ماله قطع الله لسانه حمل الناس على البخل فهلا قال:

فلا الجود يفني المال قبل فنائه * ولا البخل في مال الشحيح يزيد

فلا تلتمس مالا بعيش مقتر * لكل غد رزق يعود جديد

ألم ترَ أن المال غاد ورائح * وأن الذي يعطيك غير بعيد

قال القاضي أبو الفرج ولقد أحسن في قوله: وإن الذي يعطيك غير بعيد، ولو كان مسلما لرجي له الخير في معاده، وقد قال الله في كتابه: { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } 239.

وقال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } 240.

وعن الوضاح بن معبد الطائي قال: وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر فأكرمه وأدناه، ثم زوده عند انصرافه جملين ذهبا، وورقا غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل، فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيء، فقالت: يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهالينا بالفقر! فقال حاتم: هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه، فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه.

فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته فقالت له: اتق الله وأبق ِعلى نفسك، فما يدع هؤلاء دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا. فأنشأ يقول:

قالت طريفة ما تبقي دراهمنا * وما بنا سرف فيها ولا خرق

إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا * ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق

ما يألف الدرهم الكاري خِرقَتَنا * إلا يمر عليها ثم ينطلق

إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا * ظلت إلى سبل المعروف تستبق

وقال أبو بكر ابن عياش: قيل لحاتم هل في العرب أجود منك؟ فقال: كل العرب أجود مني. ثم أنشأ يحدث قال: نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مائة من الغنم، فذبح لي شاة منها وأتاني بها، فلما قرّب إليّ دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ!

قال: فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت: قد اكتفيت، فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة وبقي لا شيء له؟ فقيل: فما صنعت به؟ فقال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شيء. قال: على كل حال فقال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي.

وقال محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب (مكارم الأخلاق): حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني حماد الراوية، ومشيخة من مشيخة طيء قالوا: كانت عنترة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم طيء لا تمسك شيئا سخاءً وجودا.

وكان إخوتها يمنعونها فتأبى، وكانت امرأة موسرة فحبسوها في بيت سنة، يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع، ثم أخرجوها بعد سنة وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق، فدفعوا إليها صرمة من مالها وقالوا: استمتعي بها، فأتتها امرأة من هوازن وكانت تغشاها فسألتها فقالت: دونك هذه الصرمة، فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلا ثم أنشأت تقول:

لعمري لقِدما عضني الجوع عضة * فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا

فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني * وان أنت لم تفعل فعض الأصابعا

فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم * سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا

وماذا ترون اليوم إلا طبيعة * فكيف بتركي يا ابن أمي الطبائعا

وقال الهيثم بن عدي، عن ملحان بن عركي بن عدي بن حاتم، عن أبيه، عن جده قال: شهدت حاتما يكيد بنفسه فقال لي: أي بني إني أعهد من نفسي ثلاث خصال، والله ما خاتلت جارة لريبة قط، ولا أوتمنت على أمانة إلا أديتها، ولا أوتي أحد من قبلي بسوء.

وقال أبو بكر الخرائطي: حدثنا علي بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العدوي، حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي مسكين - يعني جعفر بن المحرر بن الوليد - عن المحرر مولى أبي هريرة قال: مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيء فنزلوا قريبا منه، فقام إليه بعضهم يقال له: أبو الخيبري فجعل يركض قبره برجله. ويقول: يا أبا جعد اقرنا. فقال له بعض أصحابه: ما تخاطب من رمة وقد بليت؟ وأجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعا يقول: يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتما أتاني في النوم وأنشدني شعرا وقد حفظته يقول:

أبا الخيبري وأنت امرؤ * ظلوم العشيرة شتّامها

أتيت بصحبك تبغي الِقرى * لدى حفرة قد صَدَت هَامَها

أتبغي لي الذنب عند المبيت * وحولك طيء وأنعامها

وإنا لنشبع أضيافنا * وتأتي المطي فنعتامها

قال: وإذا ناقة صاحب القول تكوس عقيرا فنحروها، وقاموا يشتوون ويأكلون.

وقالوا: والله لقد أضافنا حاتم حيا وميتا. قال: وأصبح القوم وأردفوا صاحبهم وساروا، فإذا رجل ينوه بهم راكبا جملا ويقود آخر. فقال: أيكم أبو الخيبري؟ قال: أنا. قال: إن حاتما أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك، وأمرني أن أحملك وهذا بعير فخذه، ودفعه إليه.

شيء من أخبار عبد الله بن جدعان

هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة سيد بني تيم، وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وكان من الكرماء الأجواد في الجاهلية، المطعمين للمسنتين، وكان في بدء أمره فقيرا مملقا، وكان شريرا يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته وأهله وقبيلته، وأبغضوه حتى أبوه، فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائرا بائرا، فرأى شقا في جبل فظن أن يكون به شيئا يؤذي، فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه.

فلما اقترب منه إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه، فجعل يحيد عنه ويثب فلا يغني شيئا، فلما دنا منه إذا هو من ذهب وله عينان هما ياقوتتان، فكسره وأخذه ودخل الغار، فإذا فيه قبور لرجال من ملوك جرهم، ومنهم الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته فلا يدرى أين ذهب، ووجد عند رؤسهم لوحا من ذهب فيه تاريخ وفاتهم، ومدد ولايتهم، وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب والفضة شيء كثير.

فأخذ منه حاجته، ثم خرج وعلم باب الغار، ثم انصرف إلى قومه، فأعطاهم حتى أحبوه، وسادهم وجعل يطعم الناس، وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ حاجته، ثم رجع. فممن ذكر هذا عبد الملك بن هشام في كتاب (التيجان) وذكره أحمد بن عمار في كتاب (ري العاطش وأنس الواحش) وكانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره، ووقع فيها صغير فغرق.

وذكر ابن قتيبة وغيره أن رسول الله قال:

« لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عُمِيٍّ ».

أي: وقت الظهيرة.

وفي حديث مقتل أبي جهل أن رسول الله قال لأصحابه:

« تطلبوه بين القتلى وتعرفوه بشجة في ركبته، فإني تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت، فأثرها باق في ركبته » فوجدوه كذلك.

وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق، ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت:

ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم * فرأيت أكرمهم بني الديان

البر يلبك بالشهاد طعامهم * لا ما يعللنا بنو جدعان

فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير وعادت تحمل البر والشهد والسمن، وجعل مناديا ينادي كل ليلة على ظهر الكعبة أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان، فقال أمية في ذلك:

له داع بمكة مشمعل * وآخر فوق كعبتها ينادي

إلى ردح من الشيزي ملاءٍ * لباب البر يلبك بالشهاد

ومع هذا كله فقد ثبت في الصحيح لمسلم أن عائشة قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟

فقال: « لا إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ».

امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات

وهي أفخرهن وأشهرهن التي أولها:

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل

قال الإمام أحمد: حدثنا هشام، حدثنا أبو الجهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار ».

وقد روى هذا الحديث عن هشام جماعة كثيرون منهم: بشر بن الحكم، والحسن بن عرفة، وعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، المأمون أخو الأمين، ويحيى بن معين.

وأخرجه ابن عدي من طريق عبد الرزاق، عن الزهري به. وهذا منقطع ورديء من وجه آخر عن أبي هريرة، ولا يصح من غير هذا الوجه.

وقال الحافظ ابن عساكر: هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة. أبو يزيد، ويقال: أبو وهب، ويقال: أبو الحارث الكندي. كان بأعمال دمشق وقد ذكر مواضع منها في شعره فمن ذلك قوله:

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها * لما نسجتها من جنوب وشمأل

قال: وهذه مواضع معروفة بحوران.

ثم روى من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي، حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده قال: بينا نحن عند رسول الله إذ أقبل وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس. قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق، فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر، ليموت كل رجل منا في ظل شجرة، فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:

ولما رأت أن الشريعة همُّها * وأن البياض من فرائضها دامي

تيممتِ العين التي عند ضارج * يفيء عليها الظل عرمضها طامي

فقال الراكب: ومن يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد؟ قال قلنا: امرؤ القيس بن حجر، قال: والله ما كذب هذا ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعا، فحبونا إليه على الركب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل، فقال رسول الله :

« ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار ».

وذكر الكلبي: أن امرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بني أسد حين قتلوا أباه، فمر بتبالة وبها ذو الخلصة - وهو صنم - وكانت العرب تستقسم عنده، فاستقسم فخرج القدح الناهي، ثم الثانية، ثم الثالثة كذلك، فكسر القداح وضرب بها وجه ذي الخلصة وقال: عضضت بأيرأبيك لو كان أبوك المقتول لما عوقتني. ثم أغار على بني أسد فقتلهم قتلا ذريعا.

قال ابن الكلبي: فلم يستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام. وذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجد في بعض الحروب ويسترفده، فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك، فيقال: إنه سقاه سما فقتله، فألجأه الموت إلى جنب قبر امرأة عند جبل يقال له عسيب، فكتب هنالك:

أجارتَنا إن المزار قريب * وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان ههنا * وكل غريبٍ للغريب نسيب

وذكروا أن المعلقات السبع كانت معلقة بالكعبة، وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش، فإن أجازوها علقوها على الكعبة تعظيما لشأنها، فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع، فالأولى لامرئ القيس بن حجر الكندي كما تقدم وأولها:

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين الدخول فحومل

والثانية للنابغة الذبياني: واسمه زياد بن معاوية، ويقال زياد بن عمرو بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وأولها:

يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الأبد

والثالثة لزهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني وأولها:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلَّم * بِحَوْمانة الدَّراج فالمُتَثَلَّم

والرابعة لطرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضُبَيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وأولها:

لخولة أطلال ببرقة ثهْمد * تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

والخامسة لعنترة بن شداد بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس العبسي وأولها:

هل غادر الشعراء من متردّم * أم هل عرفت الدار بعد توهم

والسادسة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني تميم وأولها:

طحا بك قلبٌ في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب

والسابعة - ومنهم من لا يثبتها في المعلقات وهو قول الأصمعي وغيره - وهي للبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وأولها

عفت الديار محلُّها فمقامها * بمنى تأبد غولها فرجامها

فأما القصيدة التي لا يعرف قائلها فيما ذكره أبو عبيدة والأصمعي والمبرد وغيرهم فهي قوله:

هل بالطلول لسائل رد * أم هل لها بتكلم عهد

وهي مطولة وفيها معاني حسنة كثيرة.

أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي

قال الحافظ ابن عساكر: هو أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عزة بن عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن أبو عثمان. ويقال: أبو الحكم الثقفي شاعر جاهلي قدم دمشق قبل الإسلام.

وقيل: إنه كان مستقيما، وإنه كان في أول أمره على الإيمان، ثم زاغ عنه، وأنه هو الذي أراده الله تعالى بقوله: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } 241.

قال الزبير بن بكار: فولدت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف أمية الشاعر ابن أبي الصلت، واسم أبي الصلت: ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن ثقيف، وقال غيره: كان أبوه من الشعراء المشهورين بالطائف وكان أمية أشعرهم.

وقال عبد الرزاق قال الثوري: أخبرني حبيب بن أبي ثابت أن عبد الله بن عمرو قال في قوله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } هو أمية بن أبي الصلت.

وكذا رواه أبو بكر بن مردويه، عن أبي بكر الشافعي، عن معاذ بن المثنى، عن مسدد، عن أبي عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن عاصم بن مسعود قال: إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } .

فقال: هل تدرون من هو؟

فقال بعضهم: هو صيفي بن الراهب.

وقال آخر: بل هو بلعم رجل من بني إسرائيل.

فقال: لا.

قال: فمن؟

قال: هو أمية بن أبي الصلت.

وهكذا قال أبو صالح، والكلبي، وحكاه قتادة عن بعضهم.

وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن شبيب الربعي، حدثنا محمد بن مسلمة بن هشام المخزومي، حدثنا إسماعيل بن الطريح بن إسماعيل الثقفي، حدثني أبي، عن أبيه، عن مروان بن الحكم، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أبيه قال:

خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام، فكلما نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرؤه علينا، فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فجاؤه وأكرموه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيوتهم، ثم رجع في وسط النهار، فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما، وقال لي: هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء النصارى إليه يتناهي علم الكتاب تسأله.

قلت: لا إرب لي فيه، والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به، ولئن حدثني بما أكره لأجدن منه. قال: فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل عليّ فقال: ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ؟ قلت: لست على دينه. قال: وإن فإنك تسمع منه عجبا وتراه. ثم قال لي: أثقفي أنت؟ قلت: لا، ولكن قرشي.

قال: فما يمنعك من الشيخ، فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم.

قال: فخرج من عندنا، ومكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقة على صبوحه ما يكلمنا ولا نكلمه.

ثم قال: ألا ترحل؟ قلت: وهل بك من رحيل؟ قال: نعم. فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين، ثم قال في الليلة الثالثة: ألا تحدث يا أبا سفيان؟ قلت: وهل بك من حديث، والله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك.

قال: أما إن ذلك لشيء لست فيه، إنما ذلك لشيء وجلت منه من منقلبي، قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: أي والله، لأموتن ثم لأحيين، قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي؟

قال: على ماذا؟ قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، قال: فضحك، ثم قال: بلى! والله يا أبا سفيان لنبعثن، ثم لنحاسبن، وليدخلن فريق الجنة، وفريق النار.

قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك، لا فيّ ولا في نفسه. قال: فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه، حتى قدمنا غوطة دمشق فبعنا متاعنا، وأقمنا بها شهرين، فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم، فما جاء إلا بعد منتصف النهار، فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاء بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه، ورمى بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام، وأصبح حزينا كئيبا لا يكلمنا ولا نكلمه.

ثم قال: ألا ترحل؟ قلت: بلى إن شئت، فرحلنا كذلك في بثه وحزنه ليالي. ثم قال لي: يا أبا سفيان هل لك في المسير لنتقدم أصحابنا؟ قلت: هل لك فيه؟ قال: نعم. فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال: هيا صخر. فقلت: ما تشاء؟

قال: حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المظالم والمحارم؟ قلت: إي والله، قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: إي والله.

قال: وكريم الطرفين وسط في العشيرة؟ قلت: نعم. قال: فهل تعلم قرشيا أشرف منه؟ قلت: لا والله لا أعلم. قال: أمحوج هو؟ قلت: لا، بل هو ذو مال كثير.

قال: وكم أتى عليه من السن؟ فقلت: قد زاد على المائة. قال: فالشرف والسن والمال أزرين به. قلت: ولم ذاك يزري به، لا والله بل يزيده خيرا.

قال: هو ذاك. هل لك في المبيت؟ قلت: لي فيه. قال: فاضطجعنا حتى مر الثقل، قال: فسرنا حتى نزلنا في المنزل وبتنا به، ثم ارتحلنا منه، فلما كان الليل قال لي: يا أبا سفيان قل ما تشاء، قال: هل لك في مثل البارحة؟ قلت: هل لك فيه؟ قال: نعم.

فسرنا على ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال: هيا صخر، هيه عن عتبة بن ربيعة قال: قلت: هبها فيه، قال: أيجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، قلت: إي والله إنه ليفعل. قال: وذو مال قلت: وذو مال.

قال: أتعلم قرشيا أسود منه، قلت: لا والله ما أعلم. قال: كم أتى له من السن، قلت: قد زاد على المائة. قال: فإن السن والشرف والمال أزرين به، قلت: كلا والله ما أزرى به ذلك. وأنت قائل شيئا فقله.

قال لا تذكر حديثي يأتي منه ما هو آت. ثم قال: فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء، ثم قلت: أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر. قال: هو رجل من العرب. قلت: قد علمت أنه من العرب، فمن أي العرب هو؟ قال: من أهل بيت تحجه العرب. قلت: وفينا بيت تحجه العرب؟

قال: هو من إخوانكم من قريش، فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط. وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة. وكنت أرجو أن أكون إياه. قلت: فإذا كان ما كان فصفه لي.

قال: رجل شاب حين دخل في الكهولة. بدوّ أمره يجتنب المظالم والمحارم، ويصل الرحم، ويأمر بصلتها، وهو محوج كريم الطرفين، متوسط في العشيرة، أكثر جنده من الملائكة.

قلت: وما آية ذلك؟ قال: قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه السلام ثمانين رجفة كلها فيها مصيبة، وبقيت رجفة عامة فيها مصائب.

قال أبو سفيان: فقلت: هذا والله الباطل. لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا. قال أمية: والذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان تقول إن قول النصراني حق. هل لك في المبيت؟

قلت: نعم لي فيه. قال: فبتنا حتى جاءنا الثقل، ثم خرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة مرحلتان ليلتان أدركنا راكب من خلفنا فسألناه فإذا هو يقول: أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها، وأصابتهم فيها مصائب عظيمة.

قال أبو سفيان: فأقبل على أمية فقال: كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان؟ قلت: أرى وأظن والله إن ما حدثك به صاحبك حق. قال أبو سفيان: فقدمنا مكة فقضيت ما كان معي، ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة فبينا أنا في منزلي، جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم، حتى جاءني محمد بن عبد الله وهند عندي تلاعب صبيانها، فسلم عليّ ورحب بي، وسألني عن سفري ومقامي، ولم يسألني عن بضاعته.

ثم قام. فقلت لهند: والله إن هذا ليعجبني، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته. فقالت لي هند: أو ما علمت شأنه؟ فقلت وأنا فزع: ما شأنه؟ قالت: يزعم أنه رسول الله فوقذتني، وتذكرت قول النصراني فرجفت حتى قالت لي هند: مالك؟ فانتبهت فقلت: إن هذا لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا.

قالت: بلى، والله إنه ليقولن ذلك ويدعو إليه، وإن له لصحابة على دينه، قلت: هذا هو الباطل.

قال: وخرجت فبينا أنا أطوف بالبيت إذ بي قد لقيته فقلت له: إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا، وكان فيها خير، فأرسل من يأخذها، ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي، فأبى علي وقال: إذن لا آخذها.

قلت: فأرسل فخذها، وآنا آخذ منك مثل ما آخذ من قومي، فأرسل إلي بضاعته فأخذها وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره.

قال أبو سفيان: فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن، ثم قدمت الطائف، فنزلت على أمية بن أبي الصلت، فقال لي: يا أبا سفيان ما تشاء هل تذكر قول النصراني؟ فقلت: أذكره، وقد كان. فقال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد الله.

قال: ابن عبد المطلب؟ قلت: ابن عبد المطلب. ثم قصصت عليه خبر هند. قال: فالله يعلم؟ وأخذ يتصبب عرقا ثم قال: والله يا أبا سفيان لعله. إن صفته لهي، ولئن ظهر وأنا حي لأطلبن من الله عز وجل في نصره عذرا.

قال: ومضيت إلى اليمن، فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله، وأقبلت حتى نزلت على أمية بن أبي الصلت بالطائف، فقلت: يا أبا عثمان قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك وسمعته، فقال: قد كان لعمري. قلت: فأين أنت منه يا أبا عثمان؟ فقال: والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدا.

قال أبو سفيان: وأقبلت إلى مكة، فوالله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة، فوجدت أصحابه يضربون ويحقرون. قال أبو سفيان: فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟ قال: فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة.

وقد رواه الحافظ البيهقي في كتاب (الدلائل) من حديث إسماعيل بن طريح به. ولكن سياق الطبراني الذي أوردناه أتم وأطول، والله أعلم.

وقال الطبراني: حدثنا بكر بن أحمد بن نفيل، حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا مجاشع بن عمرو الأسدي، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير، عن معاوية بن أبي سفيان، عن أبي سفيان بن حرب: أن أمية بن أبي الصلت كان بغزة أو بإيلياء، فلما قفلنا قال لي أمية: يا أبا سفيان هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث. قلت: نعم.

قال: ففعلنا. فقال لي: يا أبا سفيان: إيه عن عتبة بن ربيعة. قلت: كريم الطرفين، ويجتنب المحارم والمظالم. قلت: نعم.

قال: وشريف مسن؟ قلت: وشريف مسن. قال: السن والشرف أزريا به. فقلت له: كذبت ما ازداد سنا إلا ازداد شرفا.

قال يا أبا سفيان: إنها كلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تبصرت، فلا تعجل علي حتى أخبرك. قال: قلت: هات. قال: إني كنت أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه، فكنت أظن بل كنت لا أشك أني أنا هو، فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة. فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الأربعين ولم يوح إليه.

قال أبو سفيان: فضرب الدهر ضربه، فأوحى إلى رسول الله وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته.

قال: أما إنه حق فاتبعه. قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا الاستحياء من نساء ثقيف، إني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف.

ثم قال أمية: كأني بك يا أبا سفيان قد خالفته، ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه، فيحكم فيك بما يريد.

وقال عبد الرازق: أخبرنا معمر عن الكلبي قال: بينا أمية راقد ومعه ابنتان له إذ فزعت إحداهما فصاحت عليه، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: رأيت نسرين كشطا سقف البيت، فنزل أحدهما إليك فشق بطنك، والآخر واقف على ظهر البيت فناداه فقال: أوعى؟ قال: نعم، قال: أزكى؟ قال: لا. فقال: ذاك خير أريد بابيكما فلم يفعله.

وقد روي من وجه آخر بسياق آخر فقال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وعثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله بعد فتح مكة، وكانت ذات لب، وعقل، وجمال، وكان رسول الله بها معجبا فقال لها ذات يوم: يا فارعة هل تحفظين من شعر أخيك شيئا؟

فقالت نعم، وأعجب من ذلك ما قد رأيت قالت: كان أخي في سفر فلما انصرف بدأني فدخل عليَّ، فرقد على سريري وأنا أحلق أديما في يدي، إذ أقبل طائران أبيضان أو كالطيرين أبيضين، فوقع على الكوة أحدهما، ودخل الآخر فوقع عليه فشق الواقع عليه ما بين قصه إلى عانته، ثم أدخل يده في جوفه فأخرج قلبه فوضعه في كفه ثم شمه، فقال له الطائر الآخر: أوعى؟

قال: وعى. قال: أزكى؟ قال أبي: ثم رد القلب إلى مكانه فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين ثم ذهبا. فلما رأيت ذلك دنوت منه فحركته فقلت: هل تجد شيئا؟ قال: لا، إلا توهينا في جسدي - وقد كنت ارتعبت مما رأيت - فقال: مالي أراكي مرتاعة؟ قالت: فأخبرته الخبر، فقال: خير أريد بي، ثم صرف عني، ثم أنشأ يقول:

باتت همومي تسري طوارقها * أكفّ عيني والدمع سابقها

مما أتاني من اليقين ولم * أوت براة يقص ناطقها

أم من تلظى عليه واقدة النار * محيط بهم سرادقها

أم أسكن الجنة التي وعد * الأبرار مصفوفة نمارقها

لا يستوي المنزلان ثم ولا * الأعمال لا تستوي طرائقها

هما فريقان فرقة تدخل الجنة * حفت بهم حدائقها

وفرقة منهم قد أدخلت * النار فساءتهم مرافقها

تعاهدت هذه القلوب إذا * همت بخير عاقت عوائقها

وصدها للشقاء عن طلب الجنة * دنيا ألله ماحقها

عبد دعا نفسه فعاتبها * يعلم أن البصير رامقها

ما رغب النفس في الحياة وإن * تحيى قليلا فالموت لاحقها

يوشك من فر من منيته * يوما على غرة يوافقها

إن لم تمت غبطة تمت هرما * للموت كأس والمرء ذائقها

قال: ثم انصرف إلى رحله فلم يلبث إلا يسيرا حتى طعن في حيارته، فأتاني الخبر فانصرفت إليه، فوجدته منعوشا قد سجى عليه، فدنوت منه فشهق شهقة وشق بصره، ونظر نحو السقف ورفع صوته. وقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذر مال فيفدني، ولا ذو أهل فتحميني.

ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة فقلت: قد هلك الرجل. فشق بصره نحو السقف فرفع صوته. فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذو براءة فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر.

ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف. فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، بالنعم محفود، وبالذنب محصود.

ثم أغمى عليه، إذ شهق شهقة فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما

إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما

ثم أغمى عليه إذ شهق شهقة فقال:

كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا

قالت: ثم مات. فقال رسول الله :

« يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها » الآية.

وقد تكلم الخطابي على غريب هذا الحديث.

وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال: قال أمية بن أبي الصلت:

ألا رسول لنا منا يخبرنا * ما بعد غايتنا من رأس مجراني

قال: ثم خرج أمية بن أبي الصلت إلى البحرين، وتنبأ رسول الله ، وأقام أمية بالبحرين ثماني سنين، ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله؟ قالوا: يزعم أنه نبي هو الذي كنت تتمنى.

قال: فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه فقال: يا ابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول؟ قال: أقول إني رسول الله، وأن لا إله إلا هو. قال: إني أريد أن أكلمك فعدني غدا. قال: فموعدك غدا. قال: فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي، وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك؟

فقال رسول الله : أي ذلك شئت. قال: فإني آتيك في جماعة، فأت في جماعة. قال: فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش، قال: وغدا رسول الله معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة.

قال: فبدأ أمية فخطب، ثم سجع، ثم أنشد الشعر، حتى إذا فرغ الشعر قال: أجبني يا ابن عبد المطلب فقال رسول الله :

« بسم الله الرحمن الرحيم { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } . حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال: فتبعته قريش يقولون: ما تقول يا أمية؟

قال: أشهد أنه على الحق.

فقالوا: هل تتبعه؟

قال: حتى أنظر في أمره.

قال: ثم خرج أمية إلى الشام، وقدم رسول الله المدينة فلما قتل أهل بدر، قدم أمية من الشام حتى نزل بدرا، ثم ترحل يريد رسول الله فقال قائل: يا أبا الصلت ما تريد؟

قال: أريد محمدا.

قال: وما تصنع؟

قال: أؤمن به، وألقي إليه مقاليد هذا الأمر.

قال: أتدري من في القليب؟

قال: لا.

قال: فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك - وأمه ربيعة بنت عبد شمس - قال: فجدع أذني ناقته، وقطع ذنبها، ثم وقف على القليب يقول:

ما ذا ببدر فالعقنقل * من مرازبة جحاجح

القصيدة إلى آخرها، كما سيأتي ذكرها بتمامها في قصة بدر إن شاء الله. ثم رجع إلى مكة والطائف وترك الإسلام.

ثم ذكر قصة الطيرين، وقصة وفاته، كما تقدم، وأنشد شعره عند الوفاة:

كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا

فاجعل الموت نصب عينيك واحذر * غولة الدهر إن للدهر غولا

نائلا ظفرها القساور والصد * عان والطفل في المناور الشكيلا

وبغاث النياف واليعفر النافر * والعوهج البرام الضئيلا

فقوله: القساور، جمع قسورة، وهو الأسد. والصدعان: ثيران الوحش، واحدها صدع. والطفل: الشكل من حمرة العين. والبغاث: الرخم. والنياف: الجبال. واليعفر: الظبي. والعوهج: ولد النعامة، يعني أن الموت لا ينجو منه الوحوش في البراري، ولا الرخم الساكنة في رؤس الجبال، ولا يترك صغيرا لصغره، ولا كبيرا لكبره.

وقد تكلم الخطابي وغيره على غريب هذه الأحاديث. وقد ذكر السهيلي في كتابه (التعريف والإعلام) أن أمية بن أبي الصلت أول من قال باسمك اللهم، وذكر عند ذلك قصة غريبة وهو أنهم خرجوا في جماعة من قريش في سفر، فيهم حرب بن أمية والد أبي سفيان.

قال: فمروا في مسيرهم بحية فقتلوها، فلما أمسوا جاءتهم امرأة من الجان فعاتبتهم في قتل تلك الحية، ومعها قضيب فضربت به الأرض ضربة نفرت الإبل عن آخرها، فذهبت وشردت كل مذهب، وقاموا فلم يزالوا في طلبها حتى ردوها، فلما اجتمعوا جاءتهم أيضا فضربت الأرض بقضيبها، فنفرت الإبل فذهبوا في طلبها.

فلما أعياهم ذلك قالوا: والله هل عندك لما نحن فيه من مخرج؟ فقال: لا والله، ولكن سأنظر في ذلك. قال: فساروا في تلك المحلة لعلهم يجدو أحدا يسألونه عما قد حلَّ بهم من العناء، إذا نار تلوح على بعد، فجاؤها فإذا شيخ على باب خيمة يوقد نارا، وإذا هو من الجان في غاية الضآلة والدمامة فسلموا عليه فسألهم عما هم فيه.

فقال: إذا جاءتكم فقل: بسمك اللهم فإنها تهرب فلما اجتمعوا وجاءتهم الثالثة والرابعة، قال في وجهها أمية: بسمك اللهم، فشردت ولم يقر لها قرار، لكن عدت الجن على حرب بن أمية فقتلوه بتلك الحية، فتبره أصحابه هنالك حيث لا جار ولا دار، ففي ذلك يقول الجان:

وقبر حرب بمكان قفر * وليس قرب قبر حرب قبر

وذكر بعضهم أنه كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوانات، فكان يمر في السفر على الطير فيقول لأصحابه: إن هذا يقول كذا وكذا، فيقولون: لا نعلم صدق ما يقول.

حتى مروا على قطيع غنم قد انقطعت منه شاة ومعها ولدها، فالتفتت إليه فثغت كأنها تستحثه، فقال: أتدرون ما تقول له؟ قالوا: لا.

قال: إنها تقول أسرع بنا لا يجيء الذئب فيأكلك كما أكل الذئب أخاك عام أول. فأسرعوا حتى سألوا الراعي: هل أكل له الذئب عام أول حملا بتلك البقعة؟ فقال: نعم.

قال: ومر يوما على بعير عليه امرأة راكبة، وهو يرفع رأسه إليها ويرغو.

فقال: إنه يقول لها: إنك رحلتيني وفي الحداجة مخيط، فأنزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل، فإذا فيه مخيط كما قال.

وذكر ابن السكيت أن أمية بن أبي الصلت بينما هو يشرب يوما إذ نعب غراب. فقال له: بفيك التراب مرتين. فقيل له: ما يقول؟ فقال: إنه يقول إنك تشرب هذا الكأس الذي في يدك ثم تموت. ثم نعب الغراب فقال: إنه يقول: وآية ذلك أني أنزل على هذه المزبلة فآكل منها، فيعلق عظم في حلقي فأموت.

ثم نزل الغراب على تلك المزبلة فأكل شيئا، فعلق في حلقه عظم فمات. فقال أمية: أما هذا فقد صدق في نفسه، ولكن سأنظر هل صدق في أم لا؟ ثم شرب ذلك الكأس الذي في يده، ثم اتكأ فمات.

وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مهدي، عن الثوري، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ».

وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.

فقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا زكرياء بن إسحاق، حدثنا إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول: قال الشريد: كنت ردفا لرسول الله فقال لي: أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟

قلت: نعم.

قال: فأنشدني فأنشدته بيتا، فلم يزل يقول كلما أنشدته بيتا إيه، حتى أنشدته مائة بيت.

قال: ثم سكت النبي وسكت.

وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي تميم بن ميسرة به. ومن غير وجه عن عمرو بن الشريد، عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي، عن النبي . وفي بعض الروايات فقال رسول الله:

« أن كاد يسلم ».

وقال يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا حاتم بن أبي صفرة، عن سماك بن حرب، عن عمرو بن نافع، عن الشريد الهمداني وأخواله ثقيف قال: خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع، فبينا أنا أمشي ذات يوم، إذا وقع ناقة خلفي، فإذا رسول الله .

فقال: « الشريد؟ »

فقلت: نعم.

قال: « ألا أحملك؟ »

قلت: بلى وما من إعياء، ولكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله .

فأناخ فحملني.

فقال: « أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ ».

قلت: نعم.

قال: « هات ».

فأنشدته قال: أظنه قال مائة بيت.

فقال: « عند الله علم أمية بن أبي الصلت ».

ثم قال ابن صاعد: هذا حديث غريب.

فأما الذي يُروى أن رسول الله قال في أمية: « آمن شعره وكفر قلبه » فلا أعرفه، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة عن ابن عباس:

أن رسول الله صدق أمية في شيء من شعره قال:

زحل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للأخرى وليث مرصد

والشمس تبدو كل آخر ليلة * حمراء يصبح لونها يتورد

تأبى فما تطلع لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد

فقال رسول الله : « صدق ».

وفي رواية أبي بكر الهذلي عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: إن الشمس لا تطلع حتى ينخسها سبعون ألف ملك، يقول لها اطلعي اطلعي فتقول: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فإذا همت بالطلوع، أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع بين قرنيه وتحرقه، فإذا تضيفت للغروب عزمت لله عز وجل، فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها عن السجود فتغرب من قرنيه وتحرقه. أورده ابن عساكر مطولا.

ومن شعره في حملة العرش:

فمن حامل إحدى قوائم عرشه * ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا

قيام على الأقدام عانون تحته * فرائصهم من شدة الخوف ترعد

رواه ابن عساكر.

وروي عن الأصمعي أنه كان ينشد من شعر أمية:

مجدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق الناس * وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا ما يناله بصر العين * ترى دونه الملائك صورا

ثم يقول الأصمعي: الملائك: جمع ملك. والصور: جمع أصور، وهو المائل العنق، وهؤلاء حملة العرش.

ومن شعر أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياء

وعلمك بالحقوق وأنت فرع * لك الحسب المهذب والسناء

كريم لا يغيره صباح * عن الخلق الجميل ولا مساء

يباري الريح مكرمة وجودا * إذا ما الكلب أحجره الشتاء

وأرضك أرض مكرمة بنتها * بنو تيم وأنت لها سماء

إذا أثنى عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء

وله فيه مدائح أخر. وقد كان عبد الله بن جدعان هذا من الكرماء الأجواد الممدحين المشهورين، وكان له جفنة يأكل الراكب منها وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها، وكان يملأها لباب البر يلبك بالشهد والسمن، وكان يعتق الرقاب، ويعين على النوائب، وقد سألت عائشة النبي أينفعه ذلك؟

فقال: « إنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ».

ومن شعر أمية البديع:

لا ينكثون الأرض عند سؤالهم * كتطلب العلات بالعيدان

بل يسفرون وجوههم فترى لها * عند السؤال كأحسن الألوان

وإذا المقل أقام وسط رحالهم * ردوه رب صواهل وقيان

وإذا دعوتهم لكل ملمة * سدوا شعاع الشمس بالفرسان

آخر ترجمة أمية بن أبي الصلت.

بحيرا الراهب

الذي توسم في رسول الله النبوة وهو مع عمه أبي طالب حين قدم الشام في تجار من أهل مكة، وعمره إذ ذاك اثني عشرة سنة، فرأى الغمامة تظله من بينهم، فصنع لهم طعاما ضيافة واستدعاهم كما سيأتي بيان ذلك في السيرة.

وقد روى الترمذي في ذلك حديثا بسطنا الكلام عليه هنالك.

وقد أورد له الحافظ ابن عساكر شواهد وسائغات في ترجمة بحيرا، ولم يورد ما رواه الترمذي وهذا عجب.

وذكر ابن عساكر أن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفر، بينها وبين بصرى ستة أميال، وهي التي يقال لها دير بحيرا، قال: ويقال: إنه كان يسكن قرية يقال لها منفعة بالبلقاء وراء زيرا، والله أعلم.

ذكر قس بن ساعدة الإيادي

قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب (هواتف الجان): حدثنا داود القنطري، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو عبد الله المشرقي، عن أبي الحارث الوراق، عن ثور بن يزيد، عن مورق العجلي، عن عبادة بن الصامت قال: لما قدم وفد إياد على النبي قال: « يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الإيادي ».

قالوا: هلك يا رسول الله.

قال: « لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه ».

فقام إليه أعرابي من أقاصي القوم فقال: أنا أحفظه يا رسول الله.

قال: فسر النبي بذلك قال: فكان بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول:

يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات، وكل شيء آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، أقسم قس بالله قسما لا ريب فيه إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا، ثم أنشأ يقول:

في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يمضي الأصاغر والأكابر

لا من مضى يأتي إليك * ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

وهذا إسناد غريب من هذا الوجه.

وقد رواه الطبراني من وجه آخر فقال في كتابه (المعجم الكبير): حدثنا محمد بن السري بن مهران بن الناقد البغدادي، حدثنا محمد بن حسان السهمي، حدثنا محمد بن الحجاج، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قدم وفد عبد القيس على النبي فقال: « أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي ».

قالوا: كلنا يعرفه يا رسول الله.

قال: « فما فعل؟ ».

قالوا: هلك.

قال: « فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، وأقسم قس قسما حقا لئن كان في الأمر رضى ليكون بعده سخط، إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا ».

ثم قال رسول الله : أفيكم من يروي شعره؟ فأنشده بعضهم

في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر

ما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يسعى الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إلي * ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

وهكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) من طريق محمد بن حسان السلمي به.

وهكذا رويناه في الجزء الذي جمعه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه في أخبار قس قال: حدثنا عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقولي، عن سعيد بن شبيب، عن محمد بن الحجاج، عن إبراهيم الواسطي نزيل بغداد، ويعرف بصاحب الفريسة، وقد كذبه يحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، والدارقطني واتهمه غير واحد منهم ابن عدي بوضع الحديث.

وقد رواه البزار، وأبو نعيم من حديث محمد بن الحجاج هذا.

ورواه ابن درستويه، وأبو نعيم من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذه الطريق أمثل من التي قبلها، وفيه: إن أبا بكر هو الذي أورد القصة بكمالها نظمها ونثرها، بين يدي رسول الله .

ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث أحمد بن موسى بن إسحاق الحطمي، حدثنا علي بن الحسين بن محمد المخزومي، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا وهب بن جرير، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس قال: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله فقال لهم:

« ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الإيادي ». وذكر القصة مطولة.

وأخبرنا الشيخ المسند الرحلة أحمد بن أبي طالب الحجار إجازة إن لم يكن سماعا قال: أجاز لنا جعفر بن علي الهمداني قال: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي سماعا، وقرأت على شيخنا الحافظ أبي عبد الله الذهبي أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي بكر الخلال سماعا.

قال: أنا جعفر بن علي سماعا، قال: أنا السلفي سماعا، أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، أنا أبو الفضل محمد بن أحمد عيسى السعدي، أنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي المقرئ، حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال:

حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أحمد السعدي قاضي فارس، حدثنا أبو داود سليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائي من أهل حران، حدثنا أبو عمرو سعيد بن يربع، عن محمد بن إسحاق، حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال:

كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانيا حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها، عالما بسير الفرس وأقاويلها، بصيرا بالفلسفة والطب، ظاهر الدهاء والأدب، كامل الجمال ذا ثروة ومال، وأنه قدم على النبي وافدا في رجال من عبد القيس، ذوي أراء وأسنان وفصاحة وبيان وحجج وبرهان، فلما قدم على النبي وقف بين يديه وأشار إليه، وأنشأ يقول:

يا نبي الهدى أتتك رجال * قطعت فدفدا وآلا فآلا

وطوت نحوك الصحاصح تهوي * لا تعد الكلال فيك كلالا

كل بهماء قصر الطرف عنها * أرقلتها قلاصنا أرقالا

وطوتها العتاق يجمح فيها * بكماة كأنجم تتلالا

تبتغي دفع بأس يوم عظيم * هائل أوجع القلوب وهالا

ومزادا لمحشر الخلق طرا * وفراقا لمن تمادى ضلالا

نحو نور من الإله وبرهان * وبر ونعمة أن تنالا

خصك الله يا ابن آمنة الخير * بها إذ أتت سجالا سجالا

فاجعل الحظ منك يا حجة الله * جزيلا لا حظ خلف أحالا

قال فأدناه النبي وقرب مجلسه وقال له:

« يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك ».

فقال الجارود: فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه وتلك أعظم حوبة، وأغلظ عقوبة، وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك، واتبع سواك، وإني الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك، أفذلك مما يمحص الذنوب والمآثم والحوب، ويرضى الرب عن المربوب.

فقال له رسول الله :

« أنا ضامن لك ذلك، وأخلص الآن لله بالوحدانية، ودع عنك دين النصرانية ».

فقال الجارود: فداك أبي وأمي، مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك محمد عبده ورسوله.

قال: فأسلم وأسلم معه أناس من قومه، فسر النبي بإسلامهم، وأظهر من إكرامهم ما سروا به وابتهجوا به.

ثم أقبل عليهم رسول الله فقال:

« أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي ».

فقال الجارود: فداك أبي وأمي كلنا نعرفه، وإني من بينهم لعالم بخبره، واقف على أمره، كان قس يا رسول الله سبطا من أسباط العرب.

عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار، يضج بالتسبيح على مثال المسيح، لا يقره قرار، ولا تكنه دار، ولا يستمتع به جار، كان يلبس الأمساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام ويأنس بالهوام، ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر.

فصار لذلك واحدا تضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال، أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب، ووحد وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت، ووعظ بالموت، وسلم بالقضا على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب بالأشعار، وفكر في الأقدار.

وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء، ووصف البحار وعرف الآثار، وخطب راكبا، ووعظ دائبا، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب، ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر الأزر، وعظم الأمر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية.

وهو القائل في يوم عكاظ: شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وإناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وأشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب وأصنام.

لقد ضل الأنام، نشوّ مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن ومسيء، تبا لأرباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، رب الآخرة والأولى.

أما بعد: فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ وأين العليل والعواد؟ كل له معاد، يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، وأشرقت الأرض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط، وأبصر اللاحظ.

فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر، في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.

وهو القائل:

ذكر القلب من جواه أد كار * وليال خلالهن نهار

وسجال هواطل من غمام * ثرن ماء وفي جواهن نار

ضوءها يطمس العيون وأرعاد * شداد في الخافقين تطار

وقصور مشيدة حوت الخير * وأخرى خلت بهن قفار

وجبال شوامخ راسيات * وبحار ميهاههن غزار

ونجوم تلوح في ظلم الليل * نراها في كل يوم تدار

ثم شمس يحثها قمر الليل * وكل متابع موار

وصغير وأشمط وكبير * كلهم في الصعيد يوما مزار

وكبير مما يقصر عنه * حدسه الخاطر الذي لا يحار

فالذي قد ذكرت دل على الله * نفوسا لها هدى واعتبار

قال: فقال رسول الله : « مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ، واقفا على جمل أحمر يخطب الناس: اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا وقولوا، وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام. إن في السماء خبرا، وإن في الأرض عبرا، يحار فيهن البصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس. أقسم قس قسما لا كاذبا فيه ولا آثما، لئن كان في هذا الأمر رضي، ليكونن سخط. ثم قال: أيها الناس إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه، وهذا زمانه وأوانه. ثم قال: ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ ».

والتفت رسول الله إلى بعض أصحابه فقال: « وأيكم يروي شعره لنا؟ »

فقال أبو بكر الصديق: فداك أبي وأمي، أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول:

في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إلي * ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

قال: فقام إلى رسول الله شيخ من عبد القيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما بين المنكبين فقال: فداك أبي وأمي، وأنا رأيت من قس عجبا.

فقال له رسول الله : « ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس؟ »

فقال: خرجت في شبيبتي أربع بعيرا لي فدعني أقفو أثره في تنائف قفاف، ذات ضغابيس وعرصات جثجاث، بين صدور جذعان وغمير حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع ليهقان، فبينا أنا في تلك الفلوات أجول بسبسبها وأرنق فدفدها، إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة، وأغصانها متهدلة، كأن بريرها حب الفلفل وبواسق أقحوان، وإذا بعين خرارة، وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده قضيب.

فدنوت منه، وقلت له: أنعم صباحا.

فقال: وأنت فنعم صباحك، وقد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه، ضربه قس بالقضيب الذي بيده، وقال: اصبر حتى يشرب الذي قبلك، فذعرت من ذلك ذعرا شديدا، ونظر إليّ فقال: لا تخف.

وإذا بقبرين بينهما مسجد، فقلت: ما هذا القبران؟

قال: قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع، فأنا مقيم بين قبريهما عبد الله حتى ألحق بهما، فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم، وتباينهم على شرهم؟

فقال لي: ثكلتك أمك، أو ما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم، واتبعوا الأضداد، وعظموا الأنداد، ثم أقبل على القبرين وأنشأ يقول:

خليلي هبَّا طالما قد رقدتما * أجدكما لا تقضيان كراكما

أرى النوم بين الجلد والعظم منكما * كأن الذي يسقي العقار سقاكما

أمن طول نوم لا تجيبان داعيا * كأن الذي يسقي العقار سقاكما

ألم تعلما أني بنجران مفردا * وما لي فيه من حبيب سواكما

مقيم على قبريكما لست بارحا * إياب الليالي أو يجيب صداكما

أأبكيكما طول الحياة وما الذي * يرد على ذي لوعة أن بكاكما

فلو جعلت نفس لنفس امرئ فدى * لجدت بنفسي أن تكون فداكما

كأنكما والموت أقرب غاية * بروحي في قبريكما قد أتاكما

قال: فقال رسول الله : « رحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة واحدة ».

وهذا الحديث غريب جدا من هذا الوجه، وهو مرسل إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود، والله أعلم.

وقد رواه البيهقي، والحافظ أبو القاسم ابن عساكر من وجه آخر من حديث محمد بن عيسى بن محمد بن سعيد القرشي الأخباري: ثنا أبي، ثنا علي بن سليمان بن علي، عن علي بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم الجارود بن عبد الله فذكر مثله، أو نحوه مطولا بزيادات كثيرة في نظمه ونثره، وفيه ما ذكره عن الذي ضل بعيره فذهب في طلبه.

قال: فبت في واد لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول:

يا أيها الراقد في الليل الأجم * قد بعث الله نبيا في الحرم

من هاشم أهل الوفاء والكرم * يجلو دجيات الدياجي والبهم

قال: فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا، ولا سمعت له فحصا، قال: فأنشأت أقول:

يا أيها الهاتف في داجي الظُّلم * أهلا وسهلا بك من طيف ألم

بين هداك الله في لحن الكلم * ماذا الذي تدعو إليه يغتنم

قال: فإذا أنا بنحنحة وقائلا يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدا بالحبور، صاحب النجيب الأحمر، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر، والحاجب الأقمر، والطرف الأحور، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله، وذلك محمد المبعوث إلى الأسود والأبيض، أهل المدر والوبر، ثم أنشأ يقول:

الحمد لله الذي * لم يخلق الخلق عبث

لم يخلنا يوما سدى * من بعد عيسى واكترث

أرسل فينا أحمدا * خير نبي قد بعث

صلى عليه الله ما * حج له ركب وحث

وفيه من إنشاء قس بن ساعدة:

يا ناعي الموت والملحود في جدث * عليهم من بقايا قولهم خِرَق

دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم * فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا

حتى يعودوا بحال غير حالهم * خلقا جديدا كما من قبله خلقوا

منهم عراة ومنهم في ثيابهم * منها الجديد ومنها المنهج الخلق

ثم رواه البيهقي، عن محمد بن عبد الله بن يوسف بن أحمد الأصبهاني: حدثنا أبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الأخميمي بمكة، ثنا القاسم بن عبد الله بن مهدي، ثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

فذكر القصة، وذكر الإنشاد قال: فوجدوا عند رأسه صحيفة فيها:

يا ناعي الموت والأموات في جدث * عليهم من بقايا نومهم خرق

دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم * كما تنبه من نوماته الصعق

منهم عراة وموتى في ثيابهم * منها الجديد ومنها الأزرق الخلق

فقال رسول الله :

« والذي بعثني بالحق لقد آمن قس بالبعث ».

وأصله مشهور، وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة. وقد تكلم أبو محمد ابن درستويه على غريب ما وقع في هذا الحديث، وأكثره ظاهر إن شاء الله تعالى، وما كان فيه غرابة شديدة، نبهنا عليه في الحواشي.

وقال البيهقي: أنا أبو سعيد ابن محمد بن أحمد الشعيثي، ثنا أبو عمرو ابن أبي طاهر المحمد آباذي لفظا، ثنا أبو لبابة محمد بن المهدي الأموردي، ثنا أبي، ثنا سعيد بن هبيرة، ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس بن مالك قال: قدم وفد إياد على النبي فقال:

« ما فعل قس بن ساعدة؟ »

قالوا: هلك.

قال: « أما إني سمعت منه كلاما أرى أني أحفظه ».

فقال بعض القوم: نحن نحفظه يا رسول الله.

قال: « هاتوا ».

فقال قائلهم: إني واقف بسوق عكاظ فقال: يا أيها الناس استمعوا واسمعوا وعوا، كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟

أقسم قس قسما بالله لا آثم فيه، إن لله دينا هو أرضى مما أنتم عليه، ثم أنشأ يقول:

في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر

لما رأيت مصارعا * للقوم ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها * يمضي الأكابر والأصاغر

أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

ثم ساقه البيهقي من طرق أخر قد نبهنا عليها فيما تقدم، ثم قال بعد ذلك كله: وقد روي هذا الحديث عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس بزيادة ونقصان.

وروي من وجه آخر عن الحسن البصري منقطعا، وروي مختصرا من حديث سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة. قلت: وعبادة بن الصامت كما تقدم، وعبد الله بن مسعود كما رواه أبو نعيم في كتاب (الدلائل) عن عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي، عن أبي الوليد طريف بن عبيد الله مولى علي بن أبي طالب بالموصل، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود فذكره.

وروى أبو نعيم أيضا حديث عبادة المتقدم، وسعد بن أبي وقاص. ثم قال البيهقي: وإذا روي الحديث من أوجه أخر، وإن كان بعضها ضعيفا، دل على أن للحديث أصلا، والله أعلم.

زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه

هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي، وكان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه، وأخاه لأمه، وذلك لأن عمرو بن نفيل كان قد خلف على امرأة أبيه بعد أبيه، وكان لها من نفيل أخوه الخطاب. قاله الزبير بن بكار، ومحمد بن إسحاق.

وكان زيد بن عمرو قد ترك عبادة الأوثان وفارق دينهم، وكان لا يأكل إلا ما ذبح على اسم الله وحده.

قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحلته.

وكذا رواه أبو أسامة، عن هشام به. وزاد: وكان يصلي إلى الكعبة، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، وكان يحيي الموؤدة، ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، ادفعها إلي أكفلها، فإذا ترعرعت فإن شئت فخذها وإن شئت فادفعها. أخرجه النسائي من طريق أبي أسامة.

وعلقه البخاري فقال: وقال الليث: كتب إلى هشام بن عروة، عن أبيه به.

وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، وقد كان نفر من قريش زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وعبد الله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن برة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسعد بن أسد بن خزيمة، وأمه أميمة بنت عبد المطلب وأخته زينب بنت جحش التي تزوجها رسول الله بعد مولاه زيد بن حارثة، كما سيأتي بيانه.

حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقال قائلهم: تعلمن والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤا دين إبراهيم وخالفوه، ما وثن يعبد؟ لا يضر ولا ينفع، فابتغوا لأنفسكم، فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى، والملل كلها، الحنيفية دين إبراهيم.

فأما ورقة بن نوفل فتنصر واستحكم في النصرانية، وابتغى الكتب من أهلها، حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب، ولم يكن فيهم أعدل أمرا، وأعدل ثباتا من زيد بن عمرو بن نفيل، اعتزل الأوثان، وفارق الأديان، من اليهود والنصارى والملل كلها، إلا دين الحنيفية دين إبراهيم، يوحد الله ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه، فإذا هم بالفراق لما هم فيه قال: وكان الخطاب قد آذاه أذى كثيرا حتى خرج منه إلى أعلى مكة، ووكل به الخطاب شبابا من قريش، وسفهاء من سفهائهم.

فقال: لا تتركوه يدخل، فكان لا يدخلها إلا سرا منهم، فإذا علموا به أخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم، أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه.

وقال موسى بن عقبة: سمعت من أرضى يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل: كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء ماء، وأنبت لها من الأرض، لم تذبحوها على غير اسم الله؟ إنكارا لذلك وإعظاما له.

وقال يونس، عن ابن إسحاق: وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد عزم على الخروج من مكة، فضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم، وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده، آدنت الخطاب بن نفيل، فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول دين إبراهيم، ويسأل عنه، ولم يزل في ذلك فيما يزعمون، حتى أتى الموصل والجزيرة كلها.

ثم أقبل حتى أتى الشام، فجال فيها حتى أتى راهبا ببيعة من أرض البلقاء، كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال له الراهب: إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس من علمه وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظل خروج نبي وهذا زمانه.

وقد كان شام اليهودية والنصرانية، فلم يرض شيئا منها، فخرج سريعا حين قال له الراهب ما قال يريد مكة، حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه.

فقال ورقة يرثيه:

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا

بدينك ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وقد تدرك الإنسان رحمة ربه * ولو كان تحت الأرض ستينا واديا

وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق الوابشي، ثنا عمرو بن عطية، عن أبيه، عن ابن عمر، عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يتأله في الجاهلية، فانطلق حتى أتى رجلا من اليهود فقال له: أحب أن تدخلني معك في دينك.

فقال له اليهودي: لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من غضب الله.

فقال: من غضب الله أفر.

فانطلق حتى أتى نصرانيا فقال له: أحب أن تدخلني معك في دينك.

فقال: لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة.

فقال: من الضلالة أفر.

قال له النصراني: فإني أدلك على دين إن تبعته اهتديت.

قال: أي دين.

قال: دين إبراهيم.

قال: فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم، عليه أحيى وعليه أموت.

قال: فذكر شأنه للنبي فقال: هو أمة وحده يوم القيامة.

وقد روى موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر نحو هذا.

وقال محمد بن سعد، حدثنا علي بن محمد بن عبد الله بن سيف القرشي، عن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال:

قال زيد بن عمرو بن نفيل شاممت اليهودية والنصرانية فكرهتهما، فكنت بالشام وما والاها، حتى أتيت راهبا في صومعة فذكرت له اغترابي عن قومي، وكراهتي عبادة الأوثان، واليهودية والنصرانية، فقال له: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة، إنك لتطلب دينا ما يوجد اليوم أحد يدين به، وهو دين أبيك إبراهيم، كان حنيفا لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك، فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية، وهو أكرم الخلق على الله.

وقال يونس، عن ابن إسحاق: حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل: إن زيدا كان إذا دخل الكعبة قال: لبيك حقا حقا تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم وهو قائم إذ قال: إلهي أنفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا أنحال، ليس مهجر كمن قال.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، عن أبيه، عن جده: أن زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل فقال لزيد بن عمرو: من أين أقبلت يا صاحب البعير؟ فقال: من بنية إبراهيم. فقال: وما تلتمس؟ قال: ألتمس الدين.

قال: ارجع، فإنه يوشك أن يظهر في أرضك.

قال: فأما ورقة فتنصر، وأما أنا فعزمت على النصرانية فلم يوافقني، فرجع وهو يقول:

لبيك حقا حقا * تعبدا ورقا

البر أبغي لا أنحال * فهل مهجر كمن قال

آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول: أنفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، ثم يخر فيسجد.

قال: وجاء ابنه يعني سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إن أبي كما رأيت وكما بلغك فاستغفر له.

قال: نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة.

قال: وأتى زيد بن عمرو بن زيد على رسول الله ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما فقال زيد بن عمرو: يا ابن أخي أنا لا آكل مما ذبح على النصب.

وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمرو، حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن ابن أبي مليكة، عن حجر بن أبي أهاب قال: رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة، بعد ما رجع من الشام، وهو يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة فصلى ركعة سجدتين.

ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجرا، ولا أصلي له، ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم الأزلام، وإنما أصلي لهذا البيت حتى أموت، وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي فيقول: لبيك لا شريك لك ولا ند لك. ثم يدفع من عرفة ماشيا وهو يقول: لبيك متعبدا مرقوقا

وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك.

قلت: هلم! قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكان من أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.

قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله قول زيد بن عمرو، وأقرائه منه السلام، فرد عليه السلام وترحم عليه، وقال: « قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا ».

وقال البخاري في صحيحه ذكر زيد بن عمرو بن نفيل: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن النبي لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي الوحي، فقدمت إلى النبي سفرة فأبى أن يأكل منها.

ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم يذبحونها على غير اسم الله إنكارا لذلك وإعظاما له.

قال موسى بن عقبة: وحدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه إلا يحدث به، عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني. فقال: إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله.

قال زيد: وما أفر إلا من غضب الله تعالى، ولا أحمل من غضب الله شيئا ولا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟

قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال زيد: وما الحنيف؟

قال: دين إبراهيم عليه السلام، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله.

فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر مثله. فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من على غيره. قال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.

قال: وقال الليث كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري.

وكان يحيي الموؤدة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤنتها. انتهى ما ذكره البخاري.

وهذا الحديث الأخير قد أسنده الحافظ ابن عساكر من طريق أبي بكر بن أبي داود، عن عيسى بن حماد، عن الليث، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء فذكر نحوه.

وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء قالت: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل وهو مسند ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش إياكم والزنا، فإنه يورث الفقر.

وقد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جدا، وفي بعضها نكارة شديدة.

ثم أورد من طرق متعددة عن رسول الله أنه قال: « يبعث يوم القيامة أمة واحدة ».

فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: سُئل رسول الله عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية، ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، ويسجد.

فقال رسول الله : « يحشر ذاك أمة وحده، بيني وبين عيسى بن مريم ». إسناده جيد حسن.

وقال الواقدي: حدثني موسى بن شيبة، عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك قال: سمعت سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل فقال: توفي وقريش تبني الكعبة، قبل أن ينزل الوحي على رسول الله بخمس سنين.

ولقد نزل به وإنه ليقول: أنا على دين إبراهيم، فأسلم ابنه سعيد بن زيد واتبع رسول الله ، وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله ، فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: « غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم ».

قال: فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه واستغفر له. ثم يقول سعيد بن المسيب رحمه الله وغفر له.

وقال محمد بن سعد عن الواقدي: حدثني زكريا بن يحيى السعدي عن أبيه قال: مات زيد بن عمرو بن نفيل بمكة، ودفن بأصل حراء. وقد تقدم أنه مات بأرض البلقاء من الشام لما عدا عليه قوم من بني لخم، فقتلوه بمكان يقال له ميفعة، والله أعلم.

وقال الباغندي عن أبي سعيد الأشج، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله : « دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل دوحتين ». وهذا إسناد جيد، وليس هو في شيء من الكتب.

ومن شعر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله، ما قدمناه في بدء الخلق من تلك القصيدة:

إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا

إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا

وقد قيل: إنها لأمية بن أبي الصلت، والله أعلم.

ومن شعره في التوحيد ما حكاه محمد بن إسحاق، والزبير بن بكار وغيرهما:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلما استوت شدها * سواء وأرسى عليها الجبالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليها سجالا

وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الريح تصرف حالا فحالا

وقال محمد بن إسحاق: حدثني هشام بن عروة قال: روى أبي أن زيد بن عمرو قال:

أرب واحد أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعا * كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني عمرو أزور

ولا غنما أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي يسير

عجبت وفي الليالي معجبات * وفي الأيام يعرفها البصير

بأن الله قد أفنى رجالا * كثيرا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببر قوم * فيربل منهم الطفل الصغير

وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير

ولكن أعبد الرحمن ربي * ليغفر ذنبي الرب الغفور

فتقوى الله ربكم احفظوها * متى ما تحفظوها لا تبوروا

ترى الأبرار دارهم جنان * وللكفار حامية سعير

وخزي في الحياة وإن يموتوا * يلاقوا ما تضيق به الصدور

هذا تمام ما ذكره محمد بن إسحاق من هذه القصيدة.

وقد رواه أبو القاسم البغوي عن مصعب بن عبد الله، عن الضحاك بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: قال هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال زيد بن عمرو بن نفيل:

عزلت الجن والجنان عني * كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني طسم أدير

ولا غنما أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي صغير

أربا واحدا أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الأمور

ألم تعلم بأن الله أفنى * رجالا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببر قوم * فيربو منهم الطفل الصغير

وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير

قالت: فقال ورقة بن نوفل:

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا

لدينك ربا ليس ربا كمثله * وتركك جنان الجبال كما هيا

أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة * حنانيك لا تظهر علي الأعاديا

حنانيك أن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا

لتدركن المرء رحمة ربه * وإن كان تحت الأرض سبعين واديا

أدين لرب يستجيب ولا أرى * أدين لمن لا يسمع الدهر واعيا

أقول إذا صليت في كل بيعة * تباركت قد أكثرت باسمك داعيا

تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام، هو وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش فتنصروا، إلا زيدا، فإنه لم يدخل في شيء من الأديان، بل بقي على فطرته من عبادة الله وحده لا شريك له، متبعا ما أمكنه من دين إبراهيم على ما ذكرناه.

وأما ورقة بن نوفل فسيأتي خبره في أول المبعث.

وأما عثمان بن الحويرث فأقام بالشام حتى مات فيها عند قيصر، وله خبر عجيب ذكره الأموي، ومختصره: أنه لما قدم على قيصر فشكى إليه ما لقي من قومه، كتب له إلى ابن جفنة ملك عرب الشام ليجهز معه جيشا لحرب قريش، فعزم على ذلك فكتبت إليه الأعراب تنهاه عن ذلك، لما رأوا من عظمة مكة وكيف فعل الله بأصحاب الفيل. فكساه ابن جفنة قميصا مصبوغا مسموما فمات من سمه، فرثاه زيد بن عمرو بن نفيل بشعر ذكره الأموي تركناه اختصارا. وكانت وفاته قبل المبعث بثلاث سنين أو نحوها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شيء من الحوادث في زمن الفترة

فمن ذلك بنيان الكعبة

وقد قيل: إن أول من بناه آدم. وجاء في ذلك حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو، وفي سنده ابن لهيعة وهو ضعيف. وأقوى الأقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام، كما تقدم.

وكذلك رواه سماك بن حزب، عن خالد بن عرعرة، عن علي بن أبي طالب قال: ثم تهدم فبنته العمالقة، ثم تهدم فبنته جرهم، ثم تهدم فبنته قريش. قلت: سيأتي بناء قريش له، وذلك قبل المبعث بخمس سنين، وقيل بخمس عشرة سنة.

وقال الزهري: كان رسول الله قد بلغ الحلم. وسيأتي ذلك كله في موضعه إن شاء الله وبه الثقة.

كعب بن لؤي

روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، عن محمد بن طلحة التيمي، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة قال: كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة، وكانت قريش تسميه العروبة، فيخطبهم فيقول:

أما بعد فاسمعوا، وتعلموا، وافهموا، واعلموا، ليل ساج، ونهار ضاح، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، والأنثى والذكر والروح، وما يهيج إلى بلى، فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، فهل رأيتم من هالك رجع، أو ميت نشر، الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون، حرمكم زينوه وعظموه وتمسكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم.

ثم يقول:

نهار وليل كل يوم بحادث * سواء علينا ليلها ونهارها

يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا * وبالنعم الضافي علينا ستورها

على غفلة يأتي النبي محمد * فيخبر أخبارا صدوق خبيرها

ثم يقول: والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل، ولأرقلت بها إرقال العجل، ثم يقول:

يا ليتني شاهدا نجواء دعوته * حين العشيرة تبغي الحق خذلانا

قال: وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله خمسمائة عام وستون سنة.

تجديد حفر زمزم

على يدي عبد المطلب بن هاشم، التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه.

قال محمد بن إسحاق: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر، وكان أول ما ابتدأ به عبد المطلب من حفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رزين الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها.

قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال لي: احفر طيبة. قال: قلت وما طيبة؟ قال ثم ذهب عني. قال فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فجاءني فقال: احفر برة. قال: قلت وما برة؟ قال ثم ذهب عني.

فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت، فجاءني فقال: احفر المضنونة. قال: قلت وما المضنونة؟ قال ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني قال: احفر زمزم. قال: قلت وما زمزم؟

قال: لا تنزف أبدا ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل. قال: فلما بين لي شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ ولد غيره، فحفر، فلما بدا لعبد المطلب الطمي كبَّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته.

فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم. قال: نعم وكانت بأشراف الشام.

فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.

فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته، ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه.

فقالوا: نعما أمرت به. فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشى، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: ألقينا بأيدينا هكذا للموت، لا نضرب في الأرض، لا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى أن يرزقنا ماء ببعض البلاد.

فارتحلوا حتى إذا بعث عبد المطلب راحلته، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستسقوا حتى ملئوا أسقيتهم. ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاؤوا فشربوا واستقوا كلهم.

ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا والله ما نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم.

قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم. قال ابن إسحاق: وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم:

ثم ادع بالماء الروي غير الكدر * يسقي حجيج الله في كل مبر

ليس يخاف منه شيء ما عمر

قال: فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش، فقال: تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال: لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك.

فرجع ونام فأتى فقيل له: احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم، وهي تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تزم، تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم، وينذر فيها نادر بمنعم تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست لبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم.

قال ابن إسحاق: فزعموا أن عبد المطلب حين قيل له ذلك قال: وأين هي؟ قيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا، فالله أعلم أي ذلك كان.

قال: فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وليس له يومئذ ولد غيره. زاد الأموي: ومولاه أصرم، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين أساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما، فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش وقالت: والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما.

فقال عبد المطلب لابنه الحارث: زد عنى حتى احفر فوالله لأمضين لما أمرت به. فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطمي، فكبر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهم، ووجد فيها أسيافا قلعية وأدرعا.

فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق. قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له ومن تخلف قدحاه فلا شيء له.

قالوا: أنصفت. فجعل للكعبة قدحين أصفرين، وله أسودين، ولهم أبيضين، ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل، وهبل أكبر أصنامهم، ولهذا قال أبو سفيان يوم أحد: أعل هبل، يعني هذا الصنم. وقام عبد المطلب يدعو الله.

وذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول:

اللهم أنت الملك المحمود * ربي أنت المبدئ المعيد

وممسك الراسية الجلمود * من عندك الطارف والتليد

إن شئت ألهمت كما تريد * لموضع الحلية والحديد

فبين اليوم لما تريد * إني نذرت العاهد المعهودا

أجعله رب لي فلا أعود

قال: وضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعمون.

ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج. وذكر ابن إسحاق وغيره أن مكة كان فيها أبيار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب. ثم عددها ابن إسحاق وسماها، وذكر أماكنها من مكة وحافريها إلى أن قال: فعفت زمزم على البئار كلها.

وانصرف الناس كلهم إليها، لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب.

وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله قال في زمزم:

« إنها لطعام طعم وشفاء سقم ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله :

« ماء زمزم لما شرب منه ».

وقد رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن المؤمل، وقد تكلموا فيه ولفظه: « ماء زمزم لما شرب له ».

ورواه سويد بن سعيد عن عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي قال: « ماء زمزم لما شرب له ».

ولكن سويد بن سعيد ضعيف، والمحفوظ عن ابن المبارك، عن عبد الله بن المؤمل، كما تقدم.

وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا: « ماء زمزم لما شرب له ». وفيه نظر، والله أعلم.

وهكذا روى ابن ماجه أيضا، والحاكم عن ابن عباس أنه قال لرجل: إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثا، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله قال:

« إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم ».

وقد ذُكر عن عبد المطلب أنه قال: اللهم إني لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل. وقد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب، والصحيح أنه عن عبد المطلب نفسه، فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا، والله أعلم.

وقد قال الأموي في مغازيه: حدثنا أبو عبيد، أخبرني يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبد المطلب بن هاشم حين احتفر زمزم قال: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل. وذلك أنه جعل لها حوضين: حوضا للشرب، وحوضا للوضوء، فعند ذلك قال: لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن أن يغتسل فيه.

قال أبو عبيد: قال الأصمعي قوله: وبل اتباع، قال أبو عبيد: والإتباع لا يكون بواو العطف، وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان: أن بل بلغة حمير مباح.

ثم قال أبو عبيد: حدثنا أبو بكر ابن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، أنه سمع ردا، أنه سمع العباس يقول: لا أحلها لمغتسل، وهي لشارب حل وبل.

وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن علقمة، أنه سمع ابن عباس يقول ذلك، وهذا صحيح إليهما، وكأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ والإعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها، فلا ينافي ما تقدم، والله أعلم.

وقد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته، ثم صارت إلى ابنه أبي طالب مدة، ثم اتفق أنه أملق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر، وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فقال لأخيه العباس: أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل، أعطيك جميع مالك.

فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لي أكفكها، فقال: نعم. فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس، فترك له السقاية فصارت إليه، ثم من بعده صارت إلى عبد الله ولده، ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس، ثم إلى داود بن علي، ثم إلى سليمان بن علي، ثم إلى عيسى بن علي، ثم أخذها المنصور، واستناب عليها مولاه أبا رزين، ذكره الأموي.

نذر عبد المطلب ذبح ولده

قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب فيما يزعمون نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم، لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة، فلما تكامل بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه: وهم الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء لله عز وجل بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟

قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا، ثم يكتب فيه اسمه، ثم ائتوني ففعلوا، ثم أتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة، وهي الأزلام التي يتحاكمون إليها إذا أعضل عليهم أمر من عقل، أو نسب، أو أمر من الأمور جاؤوه فاستقسموا بها، فما أمرتهم به أو نهتهم عنه امتثلوه.

والمقصود أن عبد المطلب لما جاء يستقسم بالقداح عند هبل، خرج القدح على ابنه عبد الله وكان أصغر ولده وأحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب بيد ابنه عبد الله وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا: ما تريد يا عبد المطلب؟

قال: أذبحه. فقالت له قريش، وبنوه أخوة عبد الله: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجيء بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على هذا.

وذكر يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه، فيقال: إنه شج وجهه شجا لم يزل في وجهه إلى أن مات.

ثم أشارت قريش على عبد المطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع، فيسألها عن ذلك، ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه مخرج قبلته، فانطلقوا حتى أتوا المدينة فوجدوا العرافة - وهي سجاح - فيما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق بخيبر، فركبوا حتى جاؤها فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه.

فقالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا من عندها، فلما خرجوا قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها.

فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل، وكانت كذلك.

قالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قربوا صاحبكم، وقربوا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضي ربكم، ونجا صاحبكم، فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل.

ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا، فلم يزالوا يزيدون عشرا عشرا، ويخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت عند ذلك قريش لعبد المطلب وهو قائم عند هبل يدعو الله: قد انتهى رضي ربك يا عبد المطلب.

فعندها زعموا أنه قال: لا، حتى أضرب عليها بالقداح ثلاث مرات، فضربوا ثلاثا، ويقع القدح فيها على الإبل فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع.

قال ابن هشام: ويقال: ولا سبع.

وقد روي أنه لما بلغت الإبل مائة، خرج على عبد الله أيضا فزادوا مائة أخرى حتى بلغت مائتين، فخرج القدح على عبد الله فزادوا مائة أخرى، فصارت الإبل ثلاثمائة، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فنحرها عند ذلك عبد المطلب، والصحيح الأول والله أعلم.

وقد روى ابن جرير، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب: أن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الإبل، وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب، وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقف.

فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال: إنهما لم يصيبا الفتيا، ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير، ونهاها عن ذبح ولدها، ولم يأمرها بذبح الإبل، وأخذ الناس بقول مروان بذلك، والله أعلم.

تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية

قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله، فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قنال أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهي عند الكعبة، فنظرت إلى وجهه فقالت: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي. قالت: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن.

قال: أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة نساء قومها، فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه، فوقع عليها فحملت منه برسول الله ، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس.

قالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك حاجة، وكانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه كائن في هذه الأمة نبي فطمعت أن يكون منها، فجعله الله تعالى في أشرف عنصر، وأكرم محتد، وأطيب أصل كما قال تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } 242.

وسنذكر المولد مفصلا، ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الأمر الذي رامته، وذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق رحمه الله:

عليك بآل زهرة حيث كانوا * وآمنة التي حملت غلاما

ترى المهدي حين نزا عليها * ونورا قد تقدمه أماما

إلى أن قالت:

فكل الخلق يرجوه جميعا * يسود الناس مهتديا إماما

يراه الله من نور صفاه * فأذهب نوره عنا الظلاما

وذلك صنع ربك إذ حباه * إذا ما سار يوما أو أقاما

فيهدي أهل مكة بعد كفر * ويفرض بعد ذلكم الصياما

وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدثنا علي بن حرب، حدثنا محمد بن عمارة القرشي، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدثنا ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟

فقال عبد الله:

أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه * يحمي الكريم عرضه ودينه

ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة نبت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام عندها ثلاثا، ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت: ما صنعت بعدي فأخبرها، فقالت: والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في، وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، ثم أنشأت فاطمة تقول:

إني رأيت مخيلة لمعت * فتلألأت بحناتم القطر

فلمأتها نورا يضيء له * ما حوله كإضاءة البدر

ورجوتها فخرا أبوء به * ما كل قادح زنده يوري

لله ما زهرية سلبت * ثوبيك ما استلبت وما تدري

وقالت فاطمة أيضا:

بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتركان

كما غادر المصباح عند خموده * فتائل قد ميثت له بدهان

وما كل ما يحوي الفتى من تلاده * بحزم ولا ما فاته لتواني

فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه *سيكفيكه جدان يعتلجان

سيكفيكه إما يد مقفللة * وإما يد مبسوطة ببنان

ولما حوت منه أمينة ما حوت * حوت منه فخرا ما لذلك ثان

وروى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب (دلائل النبوة) من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر، عن ابن عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس قال: إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود، قال: فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب - يا عبد المطلب: أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك.

قال: نعم إذا لم يكن عورة.

قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكا، وفي الأخرى نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك؟

قلت: لا أدري.

قال: هل لك من شاغة؟

قلت: وما الشاغة؟

قال: زوجة.

قلت: أما اليوم فلا.

قال: فإذا رجعت فتزوج فيهم.

فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت حمزة، وصفية. ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله ، فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة: فلج أي: فاز وغلب عبد الله على أبيه عبد المطلب.

كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال الله تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ولما سأل هرقل ملك الروم لأبي سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم؟

قال: هو فينا ذو نسب.

قال: كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها - يعني في أكرمها أحسابا، وأكثرها قبيلة - صلوات الله عليهم أجمعين.

فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة أبو القاسم، وأبو إبراهيم، محمد، وأحمد، والماحي: الذي يمحى به الكفر، والعاقب: الذي ما بعده نبي، والحاشر: الذي يحشر الناس على قدميه، والمقفى، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، وخاتم النبيين، والفاتح، وطه، ويس، وعبد الله.

قال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال: سماه الله في القرآن رسولا نبيا أمينا شاهدا مبشرا نذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ورؤوفا رحيما، ومذكرا، وجعله رحمة ونعمة، وهاديا.

وسنورد الأحاديث المروية في أسمائه عليه الصلاة والسلام في باب نعقده بعد فراغ السيرة، فإنه قد وردت أحاديث كثيرة في ذلك، اعتنى بجمعها الحافظان الكبيران أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم ابن عساكر.

وأفرد الناس في ذلك مؤلفات، حتى رام بعضهم أن يجمع له عليه الصلاة والسلام ألف اسم، وأما الفقيه الكبير أبو بكر ابن العربي المالكي، شارح الترمذي بكتابه الذي سماه (الأحوذي) فإنه ذكر من ذلك أربعة وستين اسما، والله أعلم.

وهو ابن عبد الله، وكان أصغر ولد أبيه عبد المطلب، وهو الذبيح الثاني المفدى بمائة من الإبل كما تقدم.

قال الزهري: وكان أجمل رجال قريش، وهو أخو الحارث، والزبير، وحمزة، وضرار، وأبي طالب، واسمه: عبد مناف، وأبي لهب: واسمه عبد العزى، والمقوم: واسمه عبد الكعبة، وقيل: هما اثنان، وحجل: واسمه المغيرة، والغيداق: وهو كبير الجود، واسمه: نوفل، ويقال: إنه حجل. فهؤلاء أعمامه عليه الصلاة والسلام.

وعماته ست وهن: أروى، وبرة، وأميمة، وصفية، وعاتكة وأم حكيم - وهي البيضاء - وسنتكلم على كل منهم فيما بعد إن شاء الله تعالى.

كلهم أولاد عبد المطلب واسمه: شيبة. يقال: لشيبة كانت في رأسه، ويقال: له شيبة الحمد لجوده، وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشما لما مر بالمدينة في تجارته إلى الشام، نزل على عمرو بن زيد بن لبيد بن حرام بن خداش بن خندف بن عدي بن النجار الخزرجي النجاري، وكان سيد قومه فأعجبته ابنته سلمى فخطبها إلى أبيها فزوجها منه، واشترط عليه مقامها عنده.

وقيل: بل اشترط عليه أن لا تلد إلا عنده بالمدينة، فلما رجع من الشام بنى بها، وأخذها معه إلى مكة، فلما خرج في تجارة أخذها معه وهي حبلى، فتركها بالمدينة ودخل الشام، فمات بغزة ووضعت سلمى ولدها فسمته شيبة، فأقام عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين، ثم جاء عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه خفية من أمه فذهب به إلى مكة، فلما رآه الناس ورأوه على الراحلة قالوا من هذا معك؟

فقال: عبدي. ثم جاؤا فهنؤه به، وجعلوا يقولون له: عبد المطلب لذلك، فغلب عليه وساد في قريش سيادة عظيمة، وذهب بشرفهم ورآستهم، فكان جماع أمرهم عليه، وكانت إليه السقاية والرفادة بعد المطلب، وهو الذي جدد حفر زمزم بعد ما كانت مطمومة من عهد جرهم، وهو أول من طلى الكعبة بذهب في أبوابها من تينك الغزالتين اللتين من ذهب، وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القلعية.

قال ابن هشام: وعبد المطلب أخو أسد، وفضلة، وأبي صيفي، وحية، وخالدة، ورقية، والشفاء، وضعيفة، كلهم أولاد هاشم واسمه: عمرو، وإنما سمي هاشما: لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل، كما قال: مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته، وقيل: للزبعري والد عبد الله:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف

سنت إليه الرحلتان كلاهما * سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وذلك لأنه أول من سن رحلتي الشتاء والصيف، وكان أكبر ولد أبيه.

وحكى ابن جرير: أنه كان تؤام أخيه عبد شمس، وأن هاشما خرج ورجله ملتصقة برأس عبد شمس، فما تخلصت حتى سال بينهما دم، فقال الناس: بذلك يكون بين أولادهما حروب، فكانت وقعة بني العباس مع بني أمية بن عبد شمس سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة.

وشقيقهم الثالث: المطلب، وكان المطلب أصغر ولد أبيه، وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال.

ورابعهم: نوفل من أم أخرى وهي: واقدة بنت عمرو المازنية، وكانوا قد سادوا قومهم بعد أبيهم، وصارت إليهم الرياسة، وكان يقال لهم المجيرون، وذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم، فكان هاشم قد أخذ أمانا من ملوك الشام والروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس من النجاشي الأكبر ملك الحبشة، وأخذ لهم نوفل من الأكاسرة، وأخذ لهم المطلب أمانا من ملوك حمير، ولهم يقول الشاعر:

يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت بآل عبد مناف

وكان إلى هاشم السقاية والرفادة بعد أبيه، وإليه وإلى أخيه المطلب نسب ذوي القربى، وقد كانوا شيئا واحدا في حالتي الجاهلية والإسلام لم يفترقوا، ودخلوا معهم في الشعب وانخذل عنهم بنو عبد شمس ونوفل، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته:

جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل

ولا يعرف بنو أب تباينوا في الوفاة مثلهم، فإن هاشما مات بغزة من أرض الشام.

وعبد شمس مات بمكة، ونوفل مات بسلامان من أرض العراق، ومات المطلب وكان يقال له القمر لحسنه بريمان من طريق اليمن، فهؤلاء الأخوة الأربعة المشاهير وهم: هاشم، وعبد شمس، ونوفل، والمطلب، ولهم أخ خامس ليس بمشهور - وهو أبو عمرو واسمه: عبد، وأصل اسمه: عبد قصي.

فقال الناس: عبد بن قصي درج ولا عقب له، قاله الزبير بن بكار وغيره.

وأخوات ست وهن: تماضر، وحية، وريطة، وقلابة، وأم الأخثم، وأم سفيان، كل هؤلاء أولاد عبد مناف، ومناف اسم صنم، وأصل اسم عبد مناف المغيرة، وكان قد رأس في زمن والده، وذهب به الشرف كل مذهب، وهو أخو عبد الدار الذي كان أكبر ولد أبيه، وإليه أوصى بالمناصب كما تقدم.

وعبد العزى، وعبد، وبرة، وتخمر، وأمهم كلهم: حبى بنت حليل بن حبشي بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي، وأبوها آخر ملوك خزاعة، وولاة البيت منهم، وكلهم أولاد قصي واسمه: زيد. وإنما سمي بذلك لأن أمه تزوجت بعد أبيه بربيعة بن حزام بن عذرة فسافر بها إلى بلاده وابنها صغير فسمى قصيا لذلك.

ثم عاد إلى مكة وهو كبير، ولم شعث قريش وجمعها من متفرقات البلاد، وأزاح يد خزاعة عن البيت وأجلاهم عن مكة، ورجع الحق إلى نصابه، وصار رئيس قريش على الإطلاق، وكانت إليه الوفادة والسقاية، وهو سنها، والسدانة، والحجابة، واللواء، وداره دار الندوة كما تقدم بسط ذلك كله، ولهذا قال الشاعر:

قصي لعمري كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر

وهو أخو زهرة كلاهما ابنا كلاب أخي تيم، ويقظة أبي مخزوم ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي وهصيص، وهم أبناء كعب وهو الذي كان يخطب قومه كل جمعة، ويبشرهم بمبعث رسول الله وينشد في ذلك أشعارا كما قدمنا، وهو أخو عامر، وسامة، وخزيمة، وسعد، والحارث، وعوف، سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الأدرم، وهما ابنا غالب أخي الحارث، ومحارب ثلاثتهم أبناء فهر، وهو أخو الحارث، وكلاهما ابن مالك، وهو أخو الصلت ويخلد، وهم بنو النضر الذي إليه جماع قريش على الصحيح كما قدمنا الدليل عليه.

وهو أخو مالك، وملكان، وعبد مناة وغيرهم، كلهم أولاد كنانة أخي أسد، وأسدة، والهون، أولاد خزيمة - وهو أخو هذيل - وهما: ابنا مدركة، واسمه: عمرو أخو طابخة، واسمه: عامر وقمعة، ثلاثتهم أبناء إلياس.

وأخي إلياس هو غيلان والد قيس كلها، وهما ولدا مضر أخي ربيعة.

ويقال لهما: الصريحان من ولد إسماعيل وأخواهما أنمار وإياد تيامنا، أربعتهم أبناء نزار أخي قضاعة في قول طائفة ممن ذهب إلى أن قضاعة حجازية عدنانية، وقد تقدم بيانه كلاهما أبناء معد بن عدنان.

وهذا النسب بهذه الصفة لا خلاف فيه بين العلماء، فجميع قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب. ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } 243 لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله نسب يتصل بهم، وصدق ابن عباس رضي الله عنه فيما قال وأزيد مما قال.

وذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء، وكثير منهم بالأمهات أيضا، كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره في أمهاته وأمهات آبائه وأمهاتهم، ما يطول ذكره، وقد حرره ابن إسحاق رحمه الله، والحافظ ابن عساكر.

وقد ذكرنا في ترجمة عدنان نسبه، وما قيل فيه، وأنه من ولد إسماعيل لا محالة، وإن اختلف في كم بينهما أبا على أقوال قد بسطناها فيما تقدم، والله أعلم.

وقد ذكرنا بقية النسب من عدنان إلى آدم، وأوردنا قصيدة أبي العباس الناشئ المتضمنة ذلك، كل ذلك في أخبار عرب الحجاز، ولله الحمد.

وقد تلكم الإمام أبو جعفر ابن جرير رحمه الله في أول (تاريخه) على ذلك كلاما مبسوطا جيدا محررا نافعا، وقد ورد حديث في انتسابه عليه السلام إلى عدنان وهو على المنبر، ولكن الله أعلم بصحته.

كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ - ببغداد - حدثنا أبو عيسى بكار بن أحمد بن بكار، قال: حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعد - إملاء سنة ست وتسعين ومائتين - قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي قال:

حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن أنس بن مالك، وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:

بلغ النبي أن رجالا من كندة يزعمون أنهم منه وأنه منهم، فقال: « إنما كان يقول ذلك العباس وأبو سفيان ابن حرب إذا قدما المدينة فيأمنا بذلك، وإنا لن ننتفي من آبائنا، نحن بنو النضر بن كنانة ».

قال وخطب النبي فقال: « أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نذار، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرها، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا ». وهذا حديث غريب جدا من حديث مالك، تفرد به القدامى - وهو ضعيف - ولكن سنذكر له شواهد من وجوه أخر.

فمن ذلك قوله: « خرجت من نكاح لا من سفاح ».

قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي جعفر الباقر في قوله تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.

قال: وقال رسول الله : « إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ». وهذا مرسل جيد.

وهكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، عن يحيى بن أبي بكير، عن عبد الغفار بن القاسم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال رسول الله : « إن الله أخرجني من النكاح ولم يخرجني من السفاح ».

وقد رواه ابن عدي موصولا فقال: حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا محمد بن أبي عمرو العدني المكي، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: أشهد على أبي، حدثني عن أبيه عن جده، عن علي بن أبي طالب أن النبي قال: « خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء ». 244

وقال هشيم: حدثنا المديني، عن أبي الحويرث، عن ابن عباس قال: قال رسول الله : « ما ولدني من نكاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام ». وهذا أيضا غريب أورده الحافظ ابن عساكر، ثم أسنده من حديث أبي هريرة، وفي إسناده ضعف والله أعلم.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن عمه الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول الله : « ولدت من نكاح غير سفاح ».

ثم أورد ابن عساكر من حديث أبي عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } 245 قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا. ورواه عن عطاء.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا هشام بن محمد الكلبي، عن أبيه قال: كتبت للنبي خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية.

وثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه ».

وفي صحيح مسلم من حديث الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله قال: « إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال العباس بلغه بعض ما يقول الناس، فصعد المنبر فقال: « من أنا؟ »

قالوا: أنت رسول الله.

قال: « أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا ». صلوات الله وسلامه عليه دائما أبدا إلى يوم الدين.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله إن قريشا إذا التقوا لقي بعضهم بعضا بالبشاشة، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها، فغضب رسول الله عند ذلك غضبا شديدا، ثم قال: « والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ».

فقلت: يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض.

فقال رسول الله : « إن الله عز وجل يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم، ثم لما فرقهم قبائل جعلني في خيرهم قبيلة، ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا ».

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن ربيعة بن الحارث قال: بلغ النبي فذكره بنحو ما تقدم، ولم يذكر العباس.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثني يحيى بن عبد الحميد، حدثني قيس بن عبد الله، عن الأعمش، عن عليلة بن ربعي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله : « إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله تعالى: { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ.. } و { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ.. } فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله تعالى: و { أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين.

ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، فذلك قوله تعالى: { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } 246 وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر.

ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا وذلك قوله عز وجل: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا } فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب ». وهذا الحديث فيه غرابة ونكارة.

وروى الحاكم، والبيهقي من حديث محمد بن ذكوان - خال ولد حماد بن زيد - عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر قال: إنا لقعود بفناء النبي ، إذ مرت به امرأة فقال بعض القوم: هذه ابنة رسول الله .

قال أبو سفيان: مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة فأخبرت النبي .

فجاء رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال: « ما بال أقوام تبلغني عن أقوام، إن الله خلق السماوات سبعا فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم ». هذا أيضا حديث غريب.

وثبت في الصحيح أن رسول الله قال: « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ».

وروى الحاكم والبيهقي أيضا: من حديث موسى بن عبيدة: حدثنا عمرو بن عبد الله بن نوفل، عن الزهري، عن أبي أسامة، أو أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : « قال لي جبريل قلبت الأرض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ».

قال الحافظ البيهقي: وهذه الأحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به، فبعضها يؤكد بعضا، ومعنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع، والله أعلم.

قلت: وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي :

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها

فإن حصلت أشراف عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها

تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

ونحمي حماها كل يوم كريهة * ونضرب عن أجحارها من يرومها

بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها

وقال أبو السكن زكريا بن يحيى الطائي في الجزء المنسوب إليه المشهور: حدثني عمر بن أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب قال: قال جدي خريم بن أوس هاجرت إلى رسول الله فقدمت عليه منصرف من تبوك، فأسلمت فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال رسول الله : « قل لا يفضض الله فاك ».

فأنشأ يقول:

من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر أنت * ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق

حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض * وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النور * وسبل الرشاد نخترق

وقد روي هذا الشعر لحسان بن ثابت.

فروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر من طريق أبي الحسن ابن أبي الحديد، أخبرنا محمد بن أبي نصر، أنا عبد السلام بن محمد بن أحمد القرشي، حدثنا أبو حصين محمد بن إسماعيل بن محمد التميمي، حدثنا محمد بن عبد الله الزاهد الخراساني، حدثني إسحاق بن إبراهيم بن سنان، حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني، حدثنا ورقاء بن عمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس قال: سألت رسول الله فقلت: فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في الجنة؟

قال: فتبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: « كنت في صلبه، وركب بي السفينة في صلب أبي نوح، وقذف بي في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي على سفاح قط، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة، صفتي مهدي لا ينشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما.

وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي، وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض بنوري، والغمام بوجهي، وعلمني كتابه، وزادني شرفا في سمائه، وشق لي اسما من أسمائه، فذو العرش محمود، وأنا محمد، وأحمد، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ».

قال ابن عباس: فقال حسان بن ثابت في النبي :

قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع يوم يخصف الورق

ثم سكنت البلاد لا بشر أنت * ولا نطفة ولا علق

مطهر تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى طبق بدا طبق

فقال النبي : « يرحم الله حسانا ».

فقال علي بن أبي طالب: وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة.

ثم قال الحافظ ابن عساكر هذا حديث غريب جدا.

قلت: بل منكر جدا، والمحفوظ أن هذه الأبيات للعباس رضي الله عنه، ثم أوردها من حديث أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي كما تقدم.

قلت: ومن الناس من يزعم أنها للعباس بن مرداس السلمي، فالله أعلم.

(تنبيه) قال القاضي عياض في كتابه (الشفاء): وأما أحمد الذي أتى في الكتب، وبشرت به الأنبياء فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعو قبله، حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب، أو شك.

وكذلك محمد لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم، إلى أن شاع قبل وجوده وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك، رجاء أن يكون أحدهم هو { اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .

وهم: محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي، ومحمد بن سلمة الأنصاري، ومحمد بن البراء الكندي، ومحمد بن سفيان بن مجاشع، ومحمد بن حمران الجعفي، ومحمد بن خزاعى السلمي. لا سابع لهم.

ويقال: إن أول من سمي محمدا محمد بن سفيان بن مجاشع. واليمن تقول: بل محمد بن ليحمد من الأزد، ثم إن الله حمى كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها له أحد، أو يظهر عليه سبب يشكل أحدا في أمره، حتى تحققت الشيمتان له لم ينازع فيهما، هذا لفظه.

باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

ولد صلوات الله عليه وسلامه يوم الاثنين لما رواه مسلم في صحيحه من حديث غيلان بن جرير بن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة أن أعرابيا قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الاثنين؟

فقال: « ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين. تفرد به أحمد.

ورواه عمرو بن بكير، عن ابن لهيعة وزاد: نزلت سورة المائدة يوم الاثنين { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } 247. وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به. وزاد أيضا وكانت وقعة بدر يوم الاثنين. وممن قال هذا يزيد بن حبيب، وهذا منكر جدا.

قال ابن عساكر: والمحفوظ أن بدرا، ونزول { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يوم الجمعة. وصدق ابن عساكر.

وروى عبد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس: ولد رسول الله يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين.

وهكذا روي من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد يوم الاثنين، وأبعد بل أخطأ من قال: ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من ربيع الأول. نقله الحافظ ابن دحية فيما قرأه في كتاب (أعلام الروي بأعلام الهدى) لبعض الشيعة.

ثم شرع ابن دحية في تضعيفه وهو جدير بالتضعيف إذ هو خلاف النص، ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الأول، فقيل: لليلتين خلتا منه، قاله ابن عبد البر في (الاستيعاب) ورواه الواقدي، عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني.

وقيل: لثمان خلون منه، حكاه الحميدي، عن ابن حزم، ورواه مالك، وعقيل، ويونس بن يزيد، وغيرهم، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، ونقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صححوه، وقطع به الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي، ورجحه الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه (التنوير في مولد البشير النذير)

وقيل: لعشر خلون منه، نقله ابن دحية في كتابه، ورواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر، ورواه مجالد عن الشعبي كما مر.

وقيل: لثنتي عشرة خلت منه، نص عليه ابن إسحاق، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن عفان، عن سعيد بن مينا، عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله عام الفيل يوم الاثنين الثامن عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات، وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم.

وقيل: لسبعة عشر خلت منه، كما نقله ابن دحية عن بعض الشيعة.

وقيل: لثمان بقين منه، نقله ابن دحية من خط الوزير أبي رافع بن الحافظ أبي محمد بن حزم عن أبيه. والصحيح عن ابن حزم الأول أنه: لثمان مضين منه، كما نقله عنه الحميدي وهو أثبت.

والقول الثاني: أنه ولد في رمضان، نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار، وهو قول غريب جدا، وكان مستنده أنه عليه الصلاة والسلام أوحى إليه في رمضان بلا خلاف، وذلك على رأس أربعين سنة من عمره، فيكون مولده في رمضان، وهذا فيه نظر والله أعلم.

وقد روى خيثمة بن سليمان الحافظ، عن خلف بن محمد كردوس الواسطي، عن المعلى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول، وهذا غريب جدا، رواه ابن عساكر.

قال الزبير بن بكار: حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبي طالب، عند الجمرة الوسطى. وولد بمكة بالدار المعروفة بمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عثمان بن عقبة بن مكرم، عن المسيب بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: حمل برسول الله في يوم عاشوراء في المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.

وذكر غيره أن الخيزران وهي أم هارون الرشيد لما حجت أمرت ببناء هذه الدار مسجدا، فهو يعرف بها اليوم.

وذكر السهيلي أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في العشرين من نيسان، وهذا أعدل الزمان والفصول وذلك لسنة اثنتين وثمانين وثمانمائة لذي القرنين، فيما ذكر أصحاب الزيج. وزعموا أن الطالع كان لعشرين درجة من الجدي، وكان المشتري وزحل مقترنين في ثلاث درج من العقرب، وهي درجة وسط السماء، وكان موافقا من البروج الحمل، وكان ذلك عند طلوع القمر أول الليل. نقله كله ابن دحية والله أعلم.

قال ابن إسحاق: وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل، وهذا هو المشهور عن الجمهور.

قال إبراهيم بن المنذر الحزامي - وهو الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا - أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل، وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.

وقد رواه البيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ولد رسول الله عام الفيل.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله عام الفيل، كنا لدين قال: وسأل عثمان رضي الله عنه قباث بن أشيم أخا بني يعمر بن ليث أنت أكبر أم رسول الله ؟ فقال: رسول الله أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد.

ورأيت خزق الفيل أخضر محيلا.

ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق به.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله عام عكاظ ابن عشرين سنة.

وقال ابن إسحاق: كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة، وكان بناء الكعبة بعد الفجار بخمسة عشر سنة، والمبعث بعد بنائها بخمس سنين.

وقال محمد بن جبير بن مطعم: كانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين، والمبعث بعد بنائها بخمس عشرة سنة.

وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد العزيز بن أبي ثابت المديني: حدثنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله ؟ قال: رسول الله أكبر مني، وأنا أسن منه.

ولد رسول الله عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله، وتنبأ رسول الله على رأس أربعين سنة

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال، حدثنا نعيم يعني - ابن ميسرة - عن بعضهم، عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا لدة رسول الله ، ولدت عام الفيل.

قال البيهقي: وقد روي عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا أصغر من رسول الله بسنتين.

قال يعقوب: وحدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم قال: ولد رسول الله عام الفيل، وكانت بعده عكاظ بخمس عشرة سنة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل، وتنبأ رسول الله على رأس أربعين سنة من الفيل.

والمقصود أن رسول الله ولد عام الفيل على قول الجمهور، فقيل: بعده بشهر، وقيل: بأربعين يوما، وقيل: بخمسين يوما - وهو أشهر -.

وعن أبي جعفر الباقر: كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله بعده بخمس وخمسين ليلة.

وقال آخرون: بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله بعشر سنين، قاله ابن أبزى، وقيل: بثلاث وعشرين سنة.

رواه شعيب بن شعيب عن أبيه، عن جده كما تقدم.

وقيل: بعد الفيل بثلاثين سنة. قاله موسى بن عقبة عن الزهري رحمه الله، واختاره موسى بن عقبة أيضا رحمه الله.

وقال أبو زكريا العجلاني: بعد الفيل بأربعين عاما. رواه ابن عساكر، وهذا غريب جدا. وأغرب منه ما قال خليفة بن خياط: حدثني شعيب بن حبان، عن عبد الواحد بن أبي عمرو، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: ولد رسول الله قبل الفيل بخمس عشرة سنة.

وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضا، قال خليفة بن خياط والمجتمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل.

صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام

قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الإبل المائة عن ولده عبد الله حين كان نذر ذبحه، فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الأزل من ظهور النبي الأمي خاتم الرسل، وسيد ولد آدم من صلبه، فذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية. فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله .

وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلا بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد ، وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه قال بعضهم ليتزوجها وهو أظهر والله أعلم.

فامتنع عليها، فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه تندم على ما كانت عرضت عليه، فتعرض لها لتعاوده فقالت: لا حاجة لي فيك، وتأسفت على ما فاتها من ذلك، وأنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ.

وهذه الصيانة لعبد الله ليست له، وإنما هي لرسول الله ، فإنه كما قال تعالى: { اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } .

وقد تقدم الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة والسلام:

« ولدت من نكاح لا من سفاح ».

والمقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبد الله، وهو حمل في بطن أمه على المشهور.

قال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي، وحدثنا سعيد بن أبي زيد، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض.

فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضا شهرا. ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله يومئذ حمل، ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة.

قال الواقدي: هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبد الله وسنه عندنا.

قال الواقدي: وحدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمراُ فمات، قال محمد بن سعد: وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن عوانة بن الحكم قالا: توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله ثمانية وعشرين شهرا. وقيل: سبعة أشهر.

وقال محمد بن سعد: والأول أثبت، أنه توفي ورسول الله حمل.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن حسن، عن عبد السلام، عن ابن خربوذ قال: توفي عبد الله بالمدينة ورسول الله ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جده وهو ابن ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.

والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عليه الصلاة والسلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه، وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه.

وقد تقدم في الحديث: « ورؤيا أمي الذي رأت حين حمل بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ».

وقال محمد بن إسحاق: فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله ، تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي:

أعيذه بالواحد من شر كل حاسد

من كل بر عاهد وكل عبد رائد

يذود عني ذائد فإنه عند الحميد الماجد

حتى أراه قد أتى المشاهد

وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في القرآن محمد، وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ثم لما وضعته رأت عيانا تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا، والله أعلم.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري.

وقال الواقدي: حدثنا موسى بن عبدة، عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي، وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر بنت المسود، عن أبيها. وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني، وزياد بن حشرج، عن أبي وجزة. وحدثنا معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد. وحدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء عن ابن عباس:

دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن آمنة بنت وهب قالت: لقد علقت به - تعني رسول الله - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.

وقال بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى، رافعا رأسه إلى السماء.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن إسماعيل قال: أنبأنا محمد بن إسحاق، حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص قال:

حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله ليلة ولدته، قالت: فما شيء أنظره في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول ليقعن علي.

وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، أنها كانت قابلته، وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل، سمعت قائلا يقول: يرحمك الله، وإنه سطع منه نور رؤيت منه قصور الروم.

قال محمد بن إسحاق: فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها - وقد هلك أبوه وهي حبلى، ويقال: إن عبد الله هلك والنبي ابن ثمانية وعشرين شهرا، فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت: قد ولد لك غلام فانظر إليه، فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عز وجل ويقول:

الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان * أعيذه بالبيت ذي الأركان

حتى يكون بلغة الفتيان * حتى أراه بالغ البنيان

أعيذه من كل ذي شنآن * من حاسد مضطرب العنان

ذي همة ليس له عينان * حتى أراه رافع اللسان

أنت الذي سميت في القرآن * في كتب ثابتة المثاني

أحمد مكتوب على اللسان

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابودي - بمرو- قال: حدثنا أبو عبد الله البوشنجي، حدثنا أبو أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي - بمصر - حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال:

ولد رسول الله مختونا مسرورا، قال: فأعجب به جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن. وهذا الحديث في صحته نظر.

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من حديث سفيان بن محمد المصيصي، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس قال: قال رسول الله :

« من كرامتي على الله أني ولدت مختونا، ولم ير سوأتي أحد ».

ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به.

ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان - هو الباغندي - حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدثني خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر قال: ولد رسول الله مسرورا مختونا.

وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء، حدثنا الحكم بن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس قال: ولد رسول الله مختونا مسرورا، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن، فكان له شأن.

وقد ادعى بعضهم صحته، لما ورد له من الطرق، حتى زعم بعضهم أنه متواتر، وفي هذا كله نظر. ومعنى مختونا: أي مقطوع الختان، ومسرورا: أي مقطوع السرة من بطن أمه.

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي، حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد، عن أبيه، عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي حين طهر قلبه. وهذا غريب جدا.

وقد روي أن جده عبد المطلب ختنه، وعمل له دعوة جمع قريشا عليها، والله أعلم.

وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأني محمد بن كامل القاضي - شفاها - أن محمد بن إسماعيل حدثه - يعني السلمي - حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال:

كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح، يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله دفعه عبد المطلب إلى نسوة، فكفأن عليه برمة فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العينين، شاخصا ببصره إلى السماء، فأتاهن عبد المطلب فقلن له ما رأينا مولودا مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحا عينيه، شاخصا ببصره إلى السماء.

فقال: احفظنه، فإني أرجو أن يكون له شأن أو أن يصيب خيرا، فلما كان اليوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا يا عبد المطلب: أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته؟ قال: سميته محمدا. قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله تعالى في السماء، وخلقه في الأرض.

قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يسمى محمدا، كما قال بعضهم:

إليك أبيت اللعن أعملت نافتي * إلى الماجد القرم الكريم المحمد

وقال بعض العلماء: ألهمهم الله عز وجل أن سموه محمدا لما فيه من الصفات الحميدة، ليلتقي الاسم والفعل، ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى، كما قال عمه أبو طالب، ويروى لحسان:

وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد

وسنذكر أسماءه عليه الصلاة والسلام وشمائله، وهي صفاته الظاهرة، وأخلاقه الطاهرة، ودلائل نبوته، وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلى، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربي، عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال.

قال: « إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش ».

ثم قال: تفرد به الليثي، وهو مجهول.

فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام

قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الأصنام ليلتئذ لوجوهها وسقوطها عن أماكنها، وما رآه النجاشي ملك الحبشة، وظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين ولد، وما كان من سقوطه جاثيا رافعا رأسه إلى السماء، وانفلاق تلك البرمة عن وجهه الكريم، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ودنو النجوم منهم وغير ذلك.

حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ، أن إبليس رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد رسول الله ، وحين أنزلت الفاتحة.

قال محمد بن إسحاق: وكان هشام بن عروة يحدث عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟

فقال القوم: والله ما نعلمه. فقال: الله أكبر أما إذا أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم: ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع، فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه.

فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا: قد والله ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا. فالتقى القوم، فقالوا: هل سمعتم حديث اليهودي، وهل بلغكم مولد هذا الغلام؟

فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر، قال: فاذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقالوا: أخرجي إلينا ابنك فأخرجته، وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا له: مالك ويلك؟

قال: قد ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، فرحتم بها يا معشر قريش، والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب

وقال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم، عن يحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال: حدثني من شئت من رجال قومي ممن لا أتهم، عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام يفعة ابن سبع سنين - أو ثمان سنين - أعقل ما رأيت وسمعت، إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه - وأنا أسمع - فقالوا: ويلك ما لك؟ قال: قد طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة.

وروى الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) من حديث أبي بكر بن عبد الله العامري، عن سليمان بن سحيم، وذريح بن عبد الرحمن كلاهما، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم.

فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به: ما صفته؟ فقال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره.

قال: فرجعت إلى قومي بني خدرة، وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلا منا يقول، ويوشع يقول هذا وحده؟! كل يهود يثرب يقولون هذا.

قال أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بني قريظة، فأجد جمعا، فتذاكروا النبي ، فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلى لخروج نبي أو ظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره.

قال أبو سعيد: فلما قدم النبي أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله : « لو أسلم الزبير لأسلم ذووه من رؤساء اليهود إنما هم له تبع ».

وقال أبو نعيم: حدثنا عمر بن محمد، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا إسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع سمعت زيد بن ثابت يقول: كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي ، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده، واسمه أحمد، ومهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسول الله المدينة أنكروا، وحسدوا، وكفروا.

وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق أخرى ولله الحمد.

وقال أبو نعيم ومحمد بن حبان: حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: قال لي حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبي - أو هو خارج - قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه.

ذكر ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط الشرفات

ذكر ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط الشرفات، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وغير ذلك من الدلالات

قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب (هواتف الجان): حدثنا علي بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران - من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه - وأتت عليه خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام.

وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك ذلك.

فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، فقال الموبذان - وأنا أصلح الله الملك - قد رأيت في هذه الليلة رؤيا، ثم قصَّ عليه رؤياه في الإبل. فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟

قال: حدث يكون في ناحية العرب - وكان أعلمهم من أنفسهم - فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد: فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة الغساني.

فلما ورد عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ فقال: لتخبرني، أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم. فأخبره بالذي وجه به إليه فيه.

قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام، يقال له: سطيح، قال فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره.

فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيح جوابا، فأنشأ يقول:

أصم أم يسمع غطريف اليمن * أم فاد فاز لم به شأو العنن

يا فاصل الخطة أعيت من ومن * أتاك شيخ الحي من آل سنن

وأمه من آل ذئب بن حجن * أزرق نهم الناب صرار الأذن

أبيض فضفاض الرداء والبدن * رسول قيل العجم يسري للوسن

يجوب بي الأرض علنداة شزن * لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن

ترفعني وجنا وتهوي بي وجن * حتى أتى عاري الجآجي والقطن

تلفه في الريح بوغاء الدمن * كأنما حثحث من حضني ثكن

قال: فلما سمع سطيح شعره، رفع رأسه يقول: عبد المسيح على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها.

يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكلما هو آت آت، ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول:

شمر فإنك ماضي العزم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير

إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم * فإن ذا الدهر أطوار دهارير

فربما ربما أضحوا بمنزلة * يخاف صولهم الأسد المهاصير

منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وشابور وسابور

والناس أولاد علات فمن علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور

ورب قوم لهم صحبان ذي أذن * بدت تلهيهم فيه المزامير

وهم بنو الأم إما إن رأوا نشبا * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور

والخير والشر مقرونان في قرن * فالخير متبع والشر محذور

قال: فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح، فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا، كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه.

ورواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، عن علي بن حرب الموصلي بنحوه.

قلت: كان آخر ملوكهم الذي سلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وهو الذي انشق الإيوان في زمانه، وكان لأسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة، وكان أول ملوكهم خيومرت بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح.

أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه: هو الربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب ابن عدي بن مازن بن الأزد. ويقال: الربيع بن مسعود، وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث الحجوري. وذكر غير ذلك في نسبه. قال: وكان يسكن الجابية.

ثم روي عن أبي حاتم السجستاني قال: سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا: وكان من بعد لقمان بن عاد. ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس، وذلك نحو من ثلاثين قرنا، وكان مسكنه البحرين، وزعمت عبد القيس أنه منهم، وتزعم الأزد أنه منهم، وأكثر المحدثين يقولون هو من الأزد. ولا ندري ممن هو، غير أن ولده يقولون إنه من الأزد.

وروي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن شيء من بني آدم يشبه سطيحا، إنما كان لحما على وضم، ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه، وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه.

وقال غيره: إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس.

ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس، وعبد مناف أبناء قصي، فامتحنوه في أشياء، فأجابهم فيها بالصدق، فسألوه عما يكون في آخر الزمان فقال: خذوا مني ومن إلهام الله إياي: أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشو من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم، ويتبعون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم.

ثم قال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد نبي مهتد، يهدي إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ عن عبادة الضدد، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه الله بخير دار محمودا من الأرض مفقودا، وفي السماء مشهودا.

ثم يلي أمره الصديق، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، قد أضاف المضيف، وأحكم التحنيف، ثم ذكر عثمان ومقتله، وما يكون بعد ذلك من أيام بني أمية ثم بني العباس، وما بعد ذلك من الفتن والملاحم، ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله.

وقد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره برؤياه قبل أن يخبره بها، ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيير الدول، حتى يعود إلى سيف بن ذي يزن، فقال له: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟

قال: نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي. قال: وممن هذا النبي؟ قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرني؟

قال: نعم، والشفق والغسق والقمر إذا اتسق، إن ما أنبأتك عليه لحق، ووافقه على ذلك شق سواء بسواء بعبارة أخرى كما تقدم.

ومن شعر سطيح قوله:

عليكم بتقوى الله في السر والجهر * ولا تلبسوا صدق الأمانة بالغدر

وكونوا لجار الجنب حصنا وجنة * إذا ما عرته النائبات من الدهر

وروى ذلك الحافظ ابن عساكر.

ثم أورد ذلك المعافي بن زكريا الجريري فقال: وأخبار سطيح كثيرة، وقد جمعها غير واحد من أهل العلم. والمشهور أنه كان كاهنا، وقد أخبر عن النبي ، وعن نعته، ومبعثه.

وروي لنا بإسناد الله به أعلم، أن النبي سئل عن سطيح فقال: نبي ضيعه قومه.

قلت: أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة، ولم أره بإسناد أصلا.

ويروي مثله في خبر خالد بن سنان العبسي، ولا يصح أيضا، وظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح، وفيها روائح التصديق، لكنه لم يدرك الإسلام كما قال الجريري، فإنه قد ذكرنا في هذا الأثر أنه قال لابن أخته: يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.

ثم قضى سطيح مكانه، وكان ذلك بعد مولد رسول الله بشهر- أو شية - أي أقل منه، وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق، فالله أعلم بأمره وما صار إليه.

وذكر ابن طرار الحريري أنه عاش سبعمائة سنة. وقال غيره: خمسمائة سنة، وقيل: ثلاثمائة سنة، فالله أعلم.

وقد روى ابن عساكر أن ملكا سأل سطيحا عن نسب غلام اختلف فيه، فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح، فقال له الملك: يا سطيح ألا تخبرني عن علمك هذا؟ فقال: إن علمي هذا ليس مني ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء.

فقال له: أرأيت أخاك هذا الجني أهو معك لا يفارقك؟ فقال إنه ليزول حيث أزول، ولا أنطق إلا بما يقول. وتقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن عقبة الكاهن الآخر، ولدا في يوم واحد.

فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحميدية، فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة وماتت من يومها. وكان نصف إنسان. ويقال إن خالد بن عبد الله القسري من سلالته، وقد مات شق قبل سطيح بدهر.

وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن نفيلة الغساني النصراني فكان من المعمرين. وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه، وقال: هو الذي صالح خالد بن الوليد على.... وذكر له معه قصة طويلة، وأنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه سوء، لأنه لما أخذه قال: بسم الله وبالله، رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه أذى. ثم أكله فعلته غشية فضرب بيديه على صدره ثم عرق وأفاق رضي الله عنه.

وذكر لعبد المسيح أشعارا غير ما تقدم.

وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا المسيب بن شريك، حدثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى: عيصا من أهل الشام، وكان متخفرا بالعاص بن وائل.

وكان الله قد آتاه علما كثيرا، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طيب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة في كل سنة، فيلقى الناس ويقول: إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة، يدين له العرب، ويملك العجم، هذا زمانه ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته، وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن، ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف، إلا في طلبه.

وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول: ما جاء بعد. فيقال له: فصفه. فيقول: لا. ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الأذى يوما.

ولما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتي عيصا، فوقف في أصل صومعته ثم نادى: يا عيصاه، فناداه من هذا؟ فقال: أنا عبد الله فأشرف عليه فقال: كن أباه، فقد ولد المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين.

قال: فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود؟ قال: فما سميته؟ قال: محمدا. قال: والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها منها: أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد. انطلق إليه فإن الذي كنت أخبركم عنه ابنك. قال: فما يدريك أنه ابني ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره؟

قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع، فيشتكي أياما ثلاثة، فيظهر به الجوع ثلاثا ثم يعافى، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد أحد حسده قط، ولم يبغ على أحد كما يبغي عليه، إن تعش حتى يبدو مقاله، ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر، وعلى ذلك فاحفظ لسانك ودار عنه.

قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين، أو ثلاث وستين، في أعمار جل أمته.

قال: وحمل برسول الله في عاشر المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل. هكذا رواه أبو نعيم، وفيه غرابة.

حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام

كانت أم أيمن واسمها: بركة، تحضنه، وكان قد ورثها عليه الصلاة والسلام من أبيه، فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاة عمه أبي لهب ثويبة قبل حليمة السعدية.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان - ولمسلم عزة بنت أبي سفيان - فقال رسول الله : « أو تحبين ذلك ».

قلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي.

فقال النبي : « فإن ذلك لا يحل لي ».

قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة - وفي رواية درة بنت أبي سلمة -.

قال: « بنت أم سلمة ».

قلت: نعم.

قال: « إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن ». زاد البخاري: قال عروة.

وثويبة مولاة لأبي لهب، أعتقها فأرضعت رسول الله ، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة، فقال له: ماذا لقيت؟

فقال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم خيرا، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة - وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع -

وذكر السهيلي وغيره: أن الرائي له هو أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر، وفيه: أن أبا لهب قال للعباس: إنه ليخفف عليَّ في مثل يوم الاثنين.

قالوا: لأنه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك.

رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة

رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة

قال محمد بن إسحاق: فاسترضع له عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر.

قال: واسم أبي رسول الله الذي أرضعه - يعني زوج حليمة - الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن. وأخوته عليه الصلاة والسلام - يعني من الرضاعة - عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء، وذكروا أنها كانت تحضن رسول الله مع أمه إذ كان عندهم.

قال ابن إسحاق: حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب، ويقال له: مولى الحارث بن حاطب. قال: حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت:

قدمت مكة في نسوة، وذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء من بني سعد، نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء، فقدمت على أتان لي قمراء، كانت أذّمت بالركب ومعي صبي لنا، وشارف لنا والله ما تبض بقطرة.

وما ننام ليلتنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج. فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا، فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله فتأباه إذا قيل إنه يتيم تركناه، قلنا ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري، فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.

فقال: لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة. فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره، فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة.

فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه؟ فلم يزل الله عز وجل يزيدنا خيرا، ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا، فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟

فأقول: نعم والله إنها لهي، فقلن: والله إن لها لشأنا، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعا لبنا فتحلب ما شئنا، وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعا، حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم: ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن، وتروح أغنامي شباعا لبنا نحلب ما شئنا.

فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين، فكان يشب شبابا لا تشبه الغلمان، فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما جفرا، فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه قلت لها: دعينا نرجع بابننا هذه السنة الأخرى، فإنا نخشى عليه وباء مكة، فوالله ما زلنا بها حتى قالت نعم، فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة.

فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا، جاء أخوه ذلك يشتد فقال: ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائما منتقعا لونه، فأعتنقه أبوه وقال: يا بني ما شأنك؟

قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض أضجعاني وشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه، ثم رداه كما كان، فرجعنا به معنا، فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف.

قالت حليمة: فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به، فقدمنا به عليها فقالت: ما ردكما به يا ظئر، فقد كنتما عليه حريصين؟ فقالا: لا والله إلا أن الله قد أدى عنا وقضينا الذي علينا، وقلنا نحشى الإتلاف والأحداث نرده إلى أهله، فقالت: ما ذاك بكما فأصدقاني شأنكما؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره.

فقالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله إنه لكائن لابني هذا شأن، ألا أخبركما خبره، قلنا: بلى

قالت: حملت به، فما حملت حملا قط أخف علي منه، فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود، معتمدا على يديه، رافعا رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما.

وهذا الحديث قد روي من طرق أخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي.

وقال الواقدي: حدثني معاذ بن محمد بن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: خرجت حليمة تطلب النبي وقد وجدت البهم تقيل، فوجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع.

وقال ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.

واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لي في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب مملوء ثلجا، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا ألقياه رداه كما كان.

ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته، فوزنني بمائة فوزنتهم، ثم قال زنه بألف من أمته، فوزنني بألف فوزنتهم، فقال دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم. وهذا إسناد جيد قوي.

وقد روى أبو نعيم الحافظ في (الدلائل) من طريق عمر بن الصبح - وهو أبو نعيم - عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جدا، ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب، متهم بالوضع، فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به.

ثم قال: وحدثنا أبو عمر بن حمدان، حدثنا الحسن بن نفير، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية بن الوليد، عن بحير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد الله أنه حدثه أن رجلا سأل النبي فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟

قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا، فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل إلي طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فقال: نعم.

فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين. فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد فغسلا به قلبي. ثم قال: ائتني بالسكينة فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوة.

فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفا من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخر علي بعضهم، فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني وفرقت فرقا شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيرا لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام.

ورواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به. وهكذا رواه عبد الله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد به.

وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله كيف علمت أنك نبي حين علمت ذلك، واستيقنت أنك نبي؟

قال: « يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما على الأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟

قال: هو هو.

قال: زنه برجل، فوزنني برجل فرجحته... ».

وذكر تمامه، وذكر شق صدره وخياطته، وجعل الخاتم بين كتفيه، قال: فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الأمر معاينة.

ثم أورد ابن عساكر، عن أبي بن كعب بنحو ذلك. ومن حديث شداد بن أوس بابسط من ذلك.

وثبت في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج منه علقة سوداء فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.

قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.

وقد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن ثابت البناني، عن أنس: أن الصلاة فرضت بالمدينة، وأن ملكين أتيا رسول الله فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه فأخرجا حشوته في طشت من ذهب فغسلاه بماء زمزم، ثم لبسا جوفه حكمة وعلما.

ومن طريق ابن وهب أيضا، عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عامر بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس قال: أتى رسول الله ثلاث ليال قال: خذوا خيرهم وسيدهم، فأخذوا رسول الله ، فعمد به إلى زمزم، فشق جوفه ثم أتى بتور من ذهب فغسل جوفه ثم ملئ حكمة وإيمانا.

وثبت من رواية سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس وفي الصحيحين من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس، وعن الزهري، عن أنس، عن أبي ذر، وقتادة، عن أنس، وعن مالك بن صعصعة، عن النبي في حديث الإسراء.

كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ، وإنه غسل بماء زمزم، ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين: مرة وهو صغير، ومرة ليلة الإسراء، ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى ولمناجاة الرب عز وجل، والمثول بين يديه تبارك وتعالى.

وقال ابن إسحاق: وكان رسول الله يقول لأصحابه: « أنا أعربكم، أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد بن بكر ».

وذكر ابن إسحاق أن حليمة لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه، مرت به على ركب من النصارى فقاموا إليه عليه الصلاة والسلام فقلبوه، وقالوا: إنا سنذهب بهذا الغلام إلى ملكنا فإنه كائن له شأن، فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد.

وذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض، فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده، فجاءت جده عبد المطلب فخرج هو وجماعة في طلبه فوجده ورقة بن نوفل، ورجل آخر من قريش فأتيا به جده، فأخذه على عاتقه، وذهب فطاف به يعوذه، ويدعو له، ثم رده إلى أمه آمنة.

وذكر الأموي من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي - وهو ضعيف - عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قصة مولده عليه الصلاة والسلام، ورضاعه من حليمة على غير سياق محمد بن إسحاق.

وذكر أن عبد المطلب أمر ابنه عبد الله أن يأخذه فيطوف به في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة، فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه، وذكر أنه أقام عندها ست سنين، تزيره جده في كل عام، فلما كان من شق صدره عندهم ما كان، ردته إليهم فأقام عند أمه حتى كان عمره ثماني سنين ماتت، فكفله جده عبد المطلب فمات وله عليه الصلاة والسلام عشر سنين، فكفله عماه شقيقا أبيه: الزبير، وأبو طالب.

فلما كان له بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن، فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة، منها أن فحلا من الإبل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه، فلما رأى رسول الله برك حتى حك بكلكله الأرض، فركبه عليه الصلاة والسلام.

ومنها أنه خاض بهم سيلا عرما فأيبسه الله تعالى حتى جاوزوه، ثم مات عمه الزبير وله أربع عشرة سنة، فانفرد به أبو طالب.

والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير، ثم عادت على هوازن بكمالهم، فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر، فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم، وأحسن إليهم، كما سيأتي مفصلا في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال محمد بن إسحاق: في وقعة هوازن، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله بحنين، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك.

وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين ثم أنشد:

امنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وندخر

امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير

أبقت لنا الدهر هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

وقد رويت هذه القصة من طريق عبيد الله بن رماحس الكلبي الرملي، عن زياد بن طارق الجشمي، عن أبي صرد زهير بن جرول - وكان رئيس قومه - قال: لما أسرنا رسول الله يوم حنين، فبينا هو يميز بين الرجال والنساء وثبت حتى قعدت بين يديه، وأسمعته شعرا أذكّره حين شب ونشأ في هوازن حيث أرضعوه:

امنن علينا رسول الله في دعة * فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير

أبقت لنا الحرب هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملؤه من محضها الدرر

إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

فألبس العفو من قد كنت ترضعه * من أمهاتك إن العفو مشتهر

إنا نؤمل عفوا منك تلبسه * هذي البرية إذ تعفو وتنتصر

فاغفر عفا الله عما أنت راهبه * يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر

قال:

فقال رسول الله : « أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم ».

فقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله . وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاما وأناسي كثيرا.

حتى قال أبو الحسين ابن فارس: فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم، فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة؟

فصل ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة

قال ابن إسحاق: بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة، بعد رضاعة حليمة له، فكان رسول الله مع أمه آمنة بنت وهب، وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته، فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أم رسول الله آمنة توفيت وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة.

وذكر الواقدي بأسانيده: أن النبي خرجت به أمه إلى المدينة، ومعها أم أيمن وله ست سنين، فزارت أخواله. قالت أم أيمن: فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة، فقالا لي: أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه، فنظرا إليه وقلباه، فقال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم، فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به، فماتت بالأبواء وهي راجعة.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أيوب بن جابر، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله حتى إذا كنا بودَّان قال:

« مكانكم حتى آتيكم ».

فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال: « إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة - يعني لها - فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا ما بدا لكم ».

وقد رواه البيهقي: من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن يزيد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال:

انتهى النبي إلى رسم قبر، فجلس وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر فقال: ما يبكيك يا رسول الله؟

قال: « هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقتها فبكيت ».

قال فما رؤيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة. تابعه محارب بن دثار، عن بريدة، عن أبيه.

ثم روى البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب: حدثنا ابن جريج، عن أيوب بن هاني، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم ارتفع نحيب رسول الله باكيا، فبكينا لبكاء رسول الله .

ثم إن رسول الله أقبل علينا، فتلقاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ما الذي أبكاك لقد أبكانا وأفزعنا؟

فجاء فجلس إلينا فقال: « أفزعكم بكائي ».

قلنا: نعم.

قال: « إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، و، إني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه، ونزل علي: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } 248 فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني ». غريب ولم يخرجوه.

وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال:

« استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت ».

وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي؟

قال: « في النار ».

فلما قفا دعاه فقال: « إن أبي وأباك في النار ».

وقد روى البيهقي من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان فأين هو؟

قال: « في النار ».

قال: فكأن الأعرابي وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله أين أبوك؟

قال: « حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار ». قال: فأسلم الأعرابي بعد ذلك.

فقال لقد كلفني رسول الله تعبا ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار. غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد - هو ابن أبي أيوب - حدثنا ربيعة بن سيف المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله إذ بصر بامرأة لا يظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله فقال:

« ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟ ».

فقالت: أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم.

قال: « لعلك بلغت معهم الكدى ».

قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر.

قال: « لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك ».

ثم رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافري الصنمي الإسكندري.

وقد قال البخاري: عنده مناكير.

وقال النسائي: ليس به بأس.

وقال مرة: صدوق. وفي نسخة: ضعيف.

وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يخطئ كثيرا.

وقال الدارقطني: صالح.

وقال ابن يونس في (تاريخ مصر) في حديثه مناكير.

توفي قريبا من سنة عشرين ومائة، والمراد بالكدى: القبور، وقيل: النوح.

والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية، خلافا لفرقة الشيعة فيه، وفي ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي طالب.

وقد قال البيهقي بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه (دلائل النبوة) وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة، وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام، لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم، فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذا كان مثله يجوز في الإسلام، وبالله التوفيق انتهى كلامه.

قلت: وأخباره عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سندا ومتنا في تفسيرنا عند قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } 249 فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة، ولله الحمد والمنة.

وأما الحديث الذي ذكره السهيلي، وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جدا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه، والله أعلم.

فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله مع جده عبد المطلب بن هاشم - يعني بعد موت أمه آمنة بنت وهب - فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.

قال: فكان رسول الله يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع.

وقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري. وحدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله. وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن المنذر بن جهم. وحدثنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحويرث. وحدثنا ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع، عن ابن جبير - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: كان رسول الله يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب، وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني إنه يؤسس ملكا.

وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم الذي في المقام منه. فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به.

وقال عبد المطلب لأم أيمن - وكانت تحضنه - يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا يقول: علي بابني فيؤتى به إليه.

فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله وحياطته، ثم مات عبد المطلب ودفن بالحجون.

وقال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله ثمان سنين هلك جده عبد المطلب بن هاشم.

ثم ذكر جمعه بناته وأمره إياهن أن يرثينه، وهن: أروى، وأميمة، وبرة، وصفية، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وذكر أشعارهن، وما قلن في رثاء أبيهن وهو يسمع قبل موته. وهذا أبلغ النوح، وبسط القول في ذلك. وقد قال ابن هشام: ولم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر.

قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي السقاية وزمزم بعده ابنه العباس، وهو من أحدث إخوته سنا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام، وأقرها في يده رسول الله ، وكان رسول الله بعد جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب، لوصية عبد المطلب له به، ولأنه كان شقيق أبيه عبد الله، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.

قال: فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله بعد جده، وكان إليه ومعه.

وقال الواقدي: أخبرنا معمر، عن ابن نجيح، عن مجاهد. وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء، عن ابن عباس. وحدثنا محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة - دخل حديث بعضهم في حديث بعض -

قالوا: لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حبا شديدا، لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله شبعوا.

فكان إذا أراد أن يغديهم قال: كما أنتم حتى يأتي ولدي، فيأتي رسول الله فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن منهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك، وكان الصبيان يصبحون رمصا شعثا، ويصبح رسول الله دهينا كحيلا.

وقال الحسن بن عرفة: حدثنا علي بن ثابت، عن طلحة بن عمرو، سمعت عطاء بن أبي رباح، سمعت ابن عباس يقول: كان بنو أبي طالب يصبحون رمصا عمصا، ويصبح رسول الله صقيلا دهينا، وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول البكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله يده فلا ينتهب معهم، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة.

وقال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه، أن رجلا من لهب كان عائفا، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم.

قال: فأتي أبو طالب برسول الله وهو غلام مع من يأتيه، قال: فنظر إلى رسول الله ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال: الغلام عليَّ به.

فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول: ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيته آنفا، فوالله ليكونن له شأن. قال وانطلق به أبو طالب.

فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام

في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب.

قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبدا - كما قال - فخرج به، فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون، يتوارثونه كابرا عن كابر.

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته، صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم.

ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم، وصغيركم، وعبدكم، وحركم.

فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم؟

قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة.

فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده، فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي.

قالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سنا فتخلف في رحالنا.

قال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.

قال: فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.

فلما رأى بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له يا غلام: أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.

فقال له بحيرى: فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه. فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.

ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال بحيرى: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به.

قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده. فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.

قال ابن إسحاق: فزعموا فيما روى الناس أن زريرا وثماما ودريسما - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا من رسول الله مثلما رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى.

فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.

وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد. هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير إسناد منه. وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع.

فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عباس بن محمد الدوري، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا يونس عن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال:

خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب - يعني بحيرى - هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم، قال: فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي فقال: هذا سيد العالمين.

وفي رواية البيهقي زيادة: هذا رسول رب العالمين، بعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به -وكان هو في رعية الإبل - فقال: أرسلوا إليه.

فأقبل وغمامة عليه تظله، فلما دنا من القوم قال: انظروا إليه عليه غمامة، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه. فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا.

قال: فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره فبعثنا إلى طريقك هذه. قال لهم: فهل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: لا، إنما أخبرناه خبره إلى طريقك هذه. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ فقالوا: لا. قال: فبايعوه، وأقاموا معه عنده.

قال: فقال الراهب: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت.

هكذا رواه الترمذي عن أبي العباس الفضل بن سهل الأعرج عن قراد أبي نوح به. والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن عباس بن محمد الدوري به.

وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم، ويقال له: الضبي، ويعرف بقراد، سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ، ولم أر أحدا جرحه، ومع هذا في حديثه هذا غرابة.

قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال عباس الدوري: ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد أبي نوح، وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله، ويحيى بن معين لغرابته وانفراده، حكاه البيهقي وابن عساكر.

قلت: فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة، ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة، وعلى كل تقدير فهو مرسل.

فإن هذه القصة كانت ولرسول الله من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهورا مذكورا أخذه من طريق الاستفاضة.

الثاني: أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا.

الثالث: أن قوله وبعث معه أبو بكر بلالا، إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة، فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك؟ ثم أين كان بلال؟ كلاهما غريب، اللهم إلا أن يقال إن هذا كان ورسول الله كبيرا.

إما بأن يكون سفره بعد هذا، أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيدا بهذا الواقدي.

وحكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين، والله أعلم.

قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قالوا: لما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة، خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة، ونزلوا بالراهب بحيرى، فقال لأبي طالب بالسر ما قال، وأمره أن يحتفظ به، فرده معه أبو طالب إلى مكة.

وشبَّ رسول الله مع أبي طالب يكلؤه الله عز وجل، ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومعائبها، لما يريد به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، فكان أبو طالب يحفظه، ويحوطه، وينصره، ويعضده حتى مات.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن معدان، حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب - أو أبا طالب شك خالد - قال: لما مات عبد الله عطف على محمد، فكان لا يسافر سفرا إلا كان معه فيه، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزلا فأتاه فيه راهب، فقال: إن فيكم رجلا صالحا.

ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال: فقال ها أنا ذا وليه - أو قيل هذا وليه - قال: احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسَّد، وإني أخشاهم عليه. قال: ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله فرده، وقال: اللهم إني أستودعك محمدا، ثم إنه مات.

قصة بحيرا

حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبرا من أحبار اليهود.

قلت: والذي يظهر من سياق القصة أنه كان راهبا نصرانيا، والله أعلم.

وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس، وكان اسمه جرجيس. وفي كتاب (المعارف) لابن قتيبة: سمع هاتف في الجاهلية قبل الإسلام بقليل يهتف ويقول: ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة: بحيرى، ورئاب بن البراء الشني، والثالث المنتظر. وكان الثالث المنتظر هو الرسول .

قال ابن قتيبة: وكان قبر رئاب الشني وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش، وهو المطر الخفيف.

فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام

في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله له وحياطته وكيف كان يتيما فآواه وعائلا فأغناه.

قال محمد بن إسحاق: فشب رسول الله يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.

وكان رسول الله - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته، أنه قال:

« لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شدَّ عليه إزارك.

قال: فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي ».

وهذه القصة شبيهة بما في (الصحيح) عند بناء الكعبة، حين كان ينقل هو وعمه العباس، فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم.

قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله ينقل الحجارة، فقال العباس لرسول الله : اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء.

ثم قام فقال: « إزاري ».

فشد عليه إزاره.

أخرجاه في (الصحيحين) من حديث عبد الرزاق.

وأخرجاه أيضا: من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن جابر بنحوه.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، حدثنا محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، حدثني ابن عباس، عن أبيه: أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت، حين بنت قريش البيت.

قال: وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد، قال: فكنت أنا وابن أخي، وكنا نحمل على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا، فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي، قال: فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء فقلت:، ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره قال:

« إني نهيت أن أمشي عريانا ».

قال: وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون.

وروى البيهقي من حديث يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله يقول:

« ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما، قلت: ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها - فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي، حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى. قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة، سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا؟

قالوا: تزوج فلان فلانة.

فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟

فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت.

ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة ففعل، فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت: فقيل نكح فلان فلانة فجلست أنظر، وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي.

فقال: ما فعلت؟

فقلت: لا شيء، ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته ».

وهذا حديث غريب جدا، وقد يكون عن علي نفسه، ويكون قوله في آخره:

« حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته » مقحما، والله أعلم.

وشيخ ابن إسحاق هذا، ذكره ابن حبان في الثقات، وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح. قال شيخنا في تهذيبه: ولم أقف على ذلك، والله أعلم.

وقال الحافظ البيهقي: حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة قال:

كان صنم من نحاس، يقال له: أساف ونائلة، يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله وطفت معه، فلما مررت مسحت به فقال رسول الله : « لا تمسه ».

قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته.

فقال رسول الله : « ألم تنه ».

قال البيهقي: زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده، قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه، وأنزل عليه.

وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات والعزى: « لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما »

فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد ابن عدي الحافظ، حدثنا إبراهيم بن أسباط، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:

كان النبي يشهد مع المشركين مشاهدهم قال: فسمع ملكين خلفه، وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله .

قال: كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الأصنام؟

قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.

فهو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة، حتى قال الإمام أحمد فيه: لم يكن أخوه يتلفظ بشيء من هذا.

وقد حكى البيهقي عن بعضهم أن معناه: أنه شهد مع من يستلم الأصنام، وذلك قبل أن يوحى إليه، والله أعلم.

وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته. وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة، بل كان يقف مع الناس بعرفات، كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير قال:

لقد رأيت رسول الله وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه، حتى يدفع معهم توفيقا من الله عز وجل له.

قال البيهقي: معنى قوله: (على دين قومه) ما كان بقي من إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في حجهم و مناكحهم و بيوعهم دون الشرك، ولم يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما.

قلت: ويفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه. وهذا توفيق من الله له.

ورواه الإمام أحمد عن يعقوب، عن محمد بن إسحاق به، ولفظه: رأيت رسول الله قبل أن ينزل عليه، وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات، حتى يدفع معهم توفيقا من الله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أضللت بعيرا لي بعرفة، فذهبت أطلبه فإذا النبي واقف فقلت: إن هذا من الحمس ما شأنه ههنا؟ وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة به.

شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار

قال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله ابن عشرين سنة، وإنما سمي يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهم.

وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس.

وقال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله أربع عشرة سنة - أو خمس عشرة سنة - فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي، عن أبي عمرو بن العلاء: هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة، وبين قيس عيلان، وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة - أي تجارة - للنعمان بن المنذر.

فقال له البراض بن قيس - أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة -: أتجيزها على كنانة؟ قال: نعم، وعلى الخلق. فخرج فيها عروة الرحال، وخرج البراض يطلب غفلته، حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية، غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمي الفجار.

وقال البراض في ذلك:

وداهية تهم الناس قبلي * شددت لها بني بكر ضلوعي

هدمت بها بيوت بني كلاب * وأرضعت الموالي بالضروع

رفعت له بذي طلال كفي * فخر يميد كالجذع الصريع

وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب:

وأبلغ - إن عرضت - بني كلاب * وعامر والخطوب لها موالي

وأبلغ - إن عرضت - بني نمير * وأخوال القتيل بني هلال

بأن الوافد الرحال أمسى * مقيما عند تيمن ذي طلال

قال ابن هشام: فأتى آت قريشا، فقال: إن البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ، فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، فدخلوا الحرم فأمسكت هوازن عنهم، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما، والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.

قال: وشهد رسول الله بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم، وقال رسول الله : « كنت أنبل على أعمامي » أي: أرد عليهم نبل عدوهم، إذا رموهم بها.

قال ابن هشام: وحديث الفجار طويل، هو أطول مما ذكرت، وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله .

وقال السهيلي: والفجار بكسر الفاء، على وزن: قتال، وكانت الفجارات في العرب أربعة، ذكرهن المسعودي، وآخرهن فجار البرض هذا. وكان القتال فيه في أربعة أيام: يوم شمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ، ويوم الشرب - وهو أعظمها يوما - وهو الذي حضره رسول الله ، وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة: وهما حرب بن أمية، وأخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا.

وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر، فإنهم ثبتوا، ويوم الحريرة عند نخلة، ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ، فلما توافوا الموعد، ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى: يا معشر مضر علام تقاتلون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح. قالوا: وكيف؟ قال: ندي قتلاكم، ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا.

قالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال: عتبة بن ربيعة، فوقع الصلح على ذلك، وبعثوا إليهم أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام، فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم، عفوا عن دياتهم وانقضت حرب الفجار.

وقد ذكر الأموي حروب الفجار، وأيامها، واستقصاها مطولا، فيما رواه عن الأثرم - وهو المغيرة بن علي - عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك.

فصل شهود رسول الله عليه الصلاة والسلام حلف المطيبين مع عمومته

قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ، حدثنا يحيى بن علي بن هاشم الخفاف، حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي، حدثنا إسماعيل بن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال:

قال رسول الله : « شهدت مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن أنكثه - أو كلمة نحوها - وإن لي حمر النعم ».

قال: وكذلك رواه بشر بن المفضل عن عبد الرحمن.

قال: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، حدثنا أبو عمرو ابن مطر، حدثنا أبو بكر ابن أحمد بن داود السمناني، حدثنا معلى بن مهدي، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته ».

قال: والمطيبون: هاشم، وأمية، وزهرة، ومخزوم.

قال البيهقي: كذا روى هذا التفسير مدرجا في الحديث، ولا أدري قائله، وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول، فإن النبي لم يدرك حلف المطيبين.

قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشا تحالفوا بعد موت قصي، وتنازعوا في الذي كان جعله قصي لابنه عبد الدار من السقاية، والرفادة، واللواء، والندوة، والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف، وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش وتحالفوا على النصرة لحزبهم، فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت، فسموا المطيبين كما تقدم.

وكان هذا قديما، ولكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول، وكان في دار عبد الله بن جدعان، كما رواه الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله، عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله :

« لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وألا يعد ظالم مظلوما ».

قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به، وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب.

وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار، ومخزوما، وجمحا، وسهما، وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه أي: انتهروه.

فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس -وقريش في أنديتهم حول الكعبة - فنادى بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن أثت كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا متروك؟ فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدي إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وما رسى ثبير وحراء مكنهما، وعلى التأسي في المعاش.

فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك:

حلفت لنعقدن حلفا عليهم * وإن كنا جميعا أهل دار

نسميه الفضول إذا عقدنا * يعزبه الغريب لذي الجوار

ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار

وقال الزبير أيضا:

إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا * ألا يقيم ببطن مكة ظالم

أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا * فالجار والمعتر فيهم سالم

وذكر قاسم بن ثابت في - غريب الحديث - أن رجلا من خثعم قدم مكة حاجا - أو معتمرا - ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه.

فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل؟

فقيل له: عليك بحلف الفضول.

فوقف عند الكعبة ونادى: يا آل حلف الفضول، فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم، يقولون: جاءك الغوث فما لك؟

فقال: إن نبيها ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسرا، فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية ويحك فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه، فقال: أفعل ولكن متعوني بها الليلة. فقالوا: لا والله ولا شخب لقحة، فأخرجها إليهم وهو يقول:

راح صحبي ولم أحيي القتولا * لم أودعهم وداعا جميلا

إذ أجد الفضول أن يمنعوها * قد أراني ولا أخاف الفضولا

لا تخالي أني عشية راح الركب * هنتم علي أن لا يزولا

وذكر أبياتا أخر غير هذه، وقد قيل: إنما سمي هذا حلف الفضول لأنه أشبه حلفا تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه، وكان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم، اسم كل واحد منهم فضل، وهم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، هذا قول ابن قتيبة.

وقال غيره: الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة. وقد أورد السهيلي هذا رحمه الله.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار: وتداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكان حلفهم عنده بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها، وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى يرد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.

قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله :

« لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعي به في الإسلام لأجبت ».

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه: أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير المدنية أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه.

فقال له الحسين: احلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله ، ثم لأدعون بحلف الفضول.

قال: فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال - وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه، أو نموت جميعا.

قال: وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.

تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد

قال ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال على مالها مضاربة، فلما بلغها عن رسول الله ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرا إلى الشام، وتعطيه أفضل ما تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة.

فقبله رسول الله منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم.

فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم باع رسول الله سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها، واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبا.

وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه، وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها، فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها، بعثت إلى رسول الله فقالت له - فيما يزعمون - يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، وكانت أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه.

فلما قالت ذلك لرسول الله ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام.

قال ابن هشام: فأصدقها عشرين بكرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.

قال ابن إسحاق: فولدت لرسول الله ولده كلهم إلا إبراهيم: القاسم - وكان به يكنى - والطيب، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.

قال ابن هشام: أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر.

وأكبر بناته: رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة.

قال البيهقي، عن الحاكم: قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة، حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: أكبر ولده عليه الصلاة والسلام: القاسم، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وكان أول من مات من ولده القاسم مات بمكة، ثم عبد الله.

وبلغت خديجة خمسا وستين سنة، ويقال خمسين وهو أصح.

وقال غيره: بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة، ثم مات بعد النبوة، وقيل مات وهو رضيع، فقال رسول الله :

« إن له مرضعا في الجنة يستكمل رضاعه ».

والمعروف أن هذا في حق إبراهيم.

وقال يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن عثمان، عن القاسم، عن ابن عباس قال: ولدت خديجة لرسول الله غلامين وأربع نسوة: القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية.

وقال الزبير بن بكار: عبد الله هو الطيب، وهو الطاهر، سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة، فماتوا قبل البعثة.

وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الإسلام، وهاجرن معه .

قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن مارية القبطية، التي أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية من كورة أنصنا، وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك، في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

قال ابن هشام: وكان عمر رسول الله حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، فيما حدثني غير واحد من أهل العلم منهم: أبو عمرو المدني.

وقال يعقوب بن سفيان كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني غير واحد: أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله وعمره خمسا وعشرين سنة، وقريش تبني الكعبة.

وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم: أنه كان عمر رسول الله حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين، وقيل: خمسا وعشرين سنة.

باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن عبد الله، أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد القرشي، عن جده سعيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :

« ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم ».

فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟

قال: « وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط ».

رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي، عن عمرو بن يحيى به.

ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر - وهو ضعيف - عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله :

« آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص ».

وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: أن أبا خديجة زوج رسول الله وهو - أظنه - قال: سكران.

ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين ابن الفضل القطان، أنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني عبد الله بن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن مقسم بن أبي القاسم - مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل - أن عبد الله بن الحارث حدثه:

أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله خديجة وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له تربا، وكنت له إلفا وخدنا.

وإني خرجت مع رسول الله ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة، أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله فقالت: أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة.

قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته، فقال: « بل لعمري ».

فذكرت لها قول رسول الله فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته، وكلمت أخاها، فكلم أباه، وقد سقى خمرا، فذكر له رسول الله ومكانه، وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه.

ونام أبوها ثم استيقظ صاحيا فقال: ما هذه الحلة؟ وما هذه الصفرة وهذا الطعام؟

فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمارا: هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر، وخرج بنو هاشم برسول الله فجاؤه فكلموه.

فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة؟ فبرز له رسول الله فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته.

وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران، وذكر نحو ما تقدم، حكاه السهيلي.

قال المؤملي: المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه، وهذا هو الذي رجحه السهيلي، وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت:

وكان خويلد مات قبل الفجار، وهو الذي نازع تبعا حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما روعه، فنزع عن ذلك وترك الحجر الأسود مكانه.

وذكر ابن إسحاق في آخر السيرة: أن أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله فالله أعلم.

فصل ذكر خديجة لورقة بن نوفل عن النبي عليه الصلاة والسلام

قال ابن إسحاق: وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي - وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب، وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب، وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه - فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة، إن محمدا لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه - أو كما قال - فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول: حتى متى؟ وقال في ذلك:

لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لهمٍّ طالما ما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصف * فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا

بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكر أن يعوجا

بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور * يقوم به البرية أن تموجا

فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا

فيا ليتني إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا

وَلوجا في الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا

أرجي بالذي كرهوا جميعا * إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا

وهل أمر السفالة غير كفر * بمن يختار من سمك البروجا

فإن يبقوا وأبق يكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا

وإن أهلك فكل فتى سيلقى * من الأقدار متلفة خروجا

وقال ورقة أيضا فيما رواه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عنه:

أتبكر أم أنت العشية رائح * وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح

لفرقة قوم لا أحب فراقهم * كأنك عنهم بعد يومين نازح

وأخبار صدق خبرت عن محمد * يخبرها عنه إذا غاب ناصح

أتاك الذي وجهت يا خير حرة * بغور وبالنجدين حيث الصحاصح

إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت * وهن من الأحمال تعص دوالح

فيخبرنا عن كل خير بعلمه * وللحق أبواب لهن مفاتح

بأن ابن عبد الله أحمد مرسل * إلى كل من ضمت عليه الأباطح

وظني به أن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الذكر واضح

ويتبعه حيا لؤي وغالب * شبابهم والأشيبون الجحاجح

فإن أبق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الود فارح

وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح

وزاد الأموي:

فمتبع دين الذي أسس البنا *وكان له فضل على الناس راجح

وأسس بنيانا بمكة ثابتا * تلألأ فيه بالظلام المصابح

مثابا لأفناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الطلائح

حراجيج أمثال القداح من السرى * يعلق في أرساغهن السرايح

ومن شعره فيما أورده أبو القاسم السهيلي في (روضه)

لقد نصحت لأقوام وقلت لهم * أنا النذير فلا يغرركم أحد

لا تعبدن إلها غير خالقكم * فإن دعوكم فقولوا بيننا حداد

سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له * وقبلنا سبح الجودي والجمد

مسخر كل ما تحت السماء له * لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد

لا شيء مما نرى تبقى بشاشته * يبقى الإله ويودي المال والولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح به * والجن والإنس فيما بينها مرد

أين الملوك التي كانت لعزتها * من كل أوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب * لا بد من ورده يوما كما وردوا

ثم قال: هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة قال: وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت.

قلت: وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستشهد في بعض الأحيان بشيء من هذه الأبيات، والله أعلم.

فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين

ذكر البيهقي في بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة، والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين.

ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري، وذكر ما ورد من الإسرائيليات في بنائه في زمن آدم ولا يصح ذلك.

فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أول من بناه مبتدئا، وأول من أسسه، وكانت بقعته معظمة قبل ذلك، معتنى بها مشرفة في سائر الأعصار والأوقات. قال الله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } 250.

وثبت في الصحيحين عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع أول؟

قال: « المسجد الحرام ».

قلت: ثم أي؟

قال: « المسجد الأقصى ».

قلت: كم بينهما؟

قال: « أربعون سنة ».

وقد تكلمنا على هذا فيما تقدم. وإن المسجد الأقصى أسسه إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام -

وفي الصحيحين أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن مهران، حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: كان البيت قبل الأرض بألفي سنة { وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ } 251 قال: من تحته مدت.

قال: وقد تابعه منصور عن مجاهد.

قلت: وهذا غريب جدا، وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك، وكان فيهما إسرائيليات يحدث منها، وفيهما منكرات وغرائب.

ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثنا أبو صالح الجهني، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:

قال رسول الله : « بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به، وقيل له أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه ».

قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا.

قلت: وهو ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت، والله أعلم.

وقال الربيع بن سليمان: أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان، عن ابن أبي لبيد، عن محمد بن كعب القرظي - أو غيره - قال: حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا: بر نسكك يا آدم، لقد حججنا قبلك بألفي عام.

وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني بقية - أو قال ثقة - من أهل المدينة، عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح.

قلت: وقد قدمنا حجهما إليه، والمقصود الحج إلى محله وبقعته، وإن لم يكن ثم بناء، والله أعلم.

ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المتقدم في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله وتمامه، وهو في صحيح البخاري.

ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال: سأل رجل عليا عن قوله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } أهو أول بيت بني في الأرض؟

قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى ومقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا، وإن شئت نبأتك كيف بناؤه:

إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض، فضاق به ذرعا، فأرسل إليه السكينة، وهي ريح خجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت، ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم وكان يبني هو ساقا كل يوم حتى بلغ مكان الحجر قال لابنه: ابغني حجرا، فالتمس حجرا حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال لأبيه: من أين لك هذا؟

قال: جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء فأتمه، قال فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش، ورسول الله يومئذ رجل شاب، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: نحكِّم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط، ثم ترفعه جميع القبائل كلهم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، وقيس، وسلام كلهم عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي بن أبي طالب قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله من باب بني شيبة، فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله فوضعه.

قال يعقوب بن سفيان: أخبرني أصبغ بن فرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: لما بلغ رسول الله الحلم جمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن، اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه، فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا.

فطلع عليهم رسول الله وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه، فكان لا يزداد على السن الأرضي حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه، فيدعو لهم فيها.

وهذا سياق حسن وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله: فلما بلغ الحلم، والمشهور أن هذا كان ورسول الله عمره خمس وثلاثون سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله.

وقال موسى بن عقبة: كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم وغيرهم، فالله أعلم.

وقال موسى بن عقبة: كان بين الفجار، وبين بناء الكعبة خمس عشرة سنة.

قلت: وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة، إذ كان عمر رسول الله عشرون سنة، وهذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق، والله أعلم.

قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على بنائها أن السيول كانت تأتي من فوقها، من فوق الردم الذي صفوه، فخر به فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له: مليح، سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها، وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا، فأعدوا لذلك نفقة وعمالا، ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الذي أرادوا، فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئا هو الوليد بن المغيرة.

فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها فأعجبهم ذلك، فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم، فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم، فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها، فأشفقوا منها شفقة شديدة، وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة.

وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس، وشرفا لهم، فلما سقط في أيديهم والتبس عليهم أمرهم، قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان من نصحه لهم، وأمره إياهم أن لا يتشاجروا، ولا يتحاسدوا في بنائها، وأن يقتسموها أرباعا، وأن لا يدخلوا في بنائها مالا حراما.

وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء، وتغيبت عنهم، ورأوا أن ذلك من الله عز وجل. قال: ويقول بعض الناس: إنه اختطفها طائر، وألقاها نحو أجياد.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار: فلما بلغ رسول الله خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة، فقطعت قريش يده، وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.

وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها.

قال الأموي: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم، تحمل آلات البناء من الرخام والخشب والحديد، سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة، بعث الله عليها ريحا فحطمتها.

قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى إليها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها.

فبينما هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرا فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رقيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.

وحكى السهيلي عن رزين: أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها، فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه، وأخذوا منه ما كان أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي، وبطنها أبيض، وظهرها أسود، فأقامت فيها خمسمائة عام، وهي التي ذكرها محمد بن إسحاق.

قال محمد بن إسحاق: فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها، قام أبو وهب عمرو بن عابد بن عبد بن عمران بن مخزوم - وقال ابن هشام - عابد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.

ثم رجح ابن إسحاق أن قائل ذلك: أبو وهب بن عمرو، قال: وكان خال أبي النبي ، وكان شريفا ممدحا.

وقال ابن إسحاق: ثم أن قريشا تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى، ولبني عدي بن كعب - وهو الحطيم -

ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها.

فأصبح الوليد غديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة أخذ بعضها بعضا - ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان كأسنمة الإبل -

قال السهيلي: وأرى رواية السيرة كالألسنة وهما، والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس.

وقال موسى بن عقبة: وزعم عبد الله بن عباس: أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلا من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة وانتهوا إلى تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، عمد رجل منهم إلى حجر من الأساس الأول، فرفعه وهو لا يدري أنه من الأساس الأول.

فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل، ونزا الحجر من يده فوقع في موضعه، وفزع الرجل والبناة.

فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه، عادوا إلى بنيانهم وقالوا: لا تحركوا هذا الحجر، ولا شيئا بحذائه.

قال ابن إسحاق: وحُدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها - قال ابن هشام: يعني جبلاها - مبارك لأهلها في الماء واللبن.

قال ابن إسحاق: وحُدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه: مكة بيت الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.

قال: وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا في الكعبة قبل مبعث النبي بأربعين سنة - إن كان ما ذكر حقا -مكتوبا فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، يعملون السيئات ويجزون الحسنات؟! أجل، كما يجتنى من الشوك العنب.

وقال سعيد بن يحيى الأموي: حدثنا المعتمر بن سليمان الرقي، عن عبد الله بن بشر الزهري - يرفع الحديث إلى النبي - قال: وجد في المقام ثلاثة أصفح:

في الصفح الأول: إني أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لأهلها في اللحم واللبن.

وفي الصفح الثاني: إني أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته.

وفي الصفح الثالث: إني أنا الله ذو بكة، خلقت الخير والشر وقدرته، فطوبى لمن أجريت الخير على يديه، وويل لمن أجريت الشر على يديه.

قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحارروا أو تحالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما. ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم.

فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلها - قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا فكان أول داخل دخل رسول الله .

فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال رسول الله : « هلموا إلي ثوبا ».

فأُتي به، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال:

« لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا ».

ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده ، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله : (الأمين).

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت - يعني أبا يزيد - حدثنا هلال - يعني ابن حبان - عن مجاهد، عن مولاه - وهو السائب بن عبد الله - أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال: وكان لي حجر - أنا نحته أعبده من دون الله - قال: وكنت أجيء باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي، فأصبه عليه، فيجيء الكلب فيلحسه، ثم يشغر فيبول عليه.

قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر، ولا يرى الحجر أحد، فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل، يكاد يترايا منه وجه الرجل. فقال: بطن من قريش نحن نضعه. وقال آخرون: نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكما. فقالوا: أول رجل يطلع من الفج.

فجاء رسول الله فقالوا: أتاكم الأمين، فقالوا له فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه، فوضعه هو

قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي ثماني عشرة ذراعا، وكانت تكسى القباطي، ثم كسيت بعد البرور، وأول من كساها الديباج: الحجاج بن يوسف.

قلت: وقد كانوا أخرجوا منها الحجر - وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام - قصرت بهم النفقة أي: لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم.

وجعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية الشرق، وجعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا.

وقد ثبت في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال:

« ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة، ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابا شرقيا، وبابا غربيا، وأدخلت فيها الحجر ».

ولهذا لما تمكن ابن الزبير، بناها على ما أشار إليه رسول الله ، وجاءت في غاية البهاء والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل، لها بابان ملتصقان بالأرض شرقيا وغربيا، يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.

فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان - وهو الخليفة يومئذ - فيما صنعه ابن الزبير، واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه، فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه، وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة، فارتفع باباها، وسدوا الغربي، واستمر الشرقي على ما كان عليه.

فلما كان في زمن المهدي - أو ابنه المنصور - استشار مالكا في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير، فقال مالك رحمه الله: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة، فتركها على ما هي عليه فهي إلى الآن كذلك.

وأما المسجد الحرام: فأول من أخَّر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها، فلما كان عثمان اشترى دورا وزادها فيه، فلما ولي ابن الزبير أحكم بنيانه، وحسن جدرانه، وأكثر أبوابه، ولم يوسعه شيئا آخر.

فلما استبد بالأمر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه، وأمر بالكعبة فكسيت الديباج، وكان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف.

وقد ذكرنا قصة بناء البيت والأحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة، عند قوله: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } وذكرنا ذلك مطولا مستقصى، فمن شاء كتبه هاهنا، ولله الحمد والمنة.

قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من البنيان، وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:

عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب

وقد كانت تكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب

إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد نهاب

فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب

فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب

فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب

غداة يرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب

أعز به المليك بني لؤي * فليس لأصله منهم ذهاب

وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب

فبوأنا المليك بذاك عزا * وعند الله يلتمس الثواب

وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسول الله من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمه ينقلان الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهي عن خلع إزاره، فأعاده إلى سيرته الأولى.

فصل تعظيم قريش للحرم تعظيما زائدا أدى إلى الابتداع

وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة، وذلك لأنهم عظموا الحرم تعظيما زائدا، بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة.

وكانوا يقولون: نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله، فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة.

وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطا ولا سمنا، ولا يسلون شحما وهم حرم، ولا يدخلون بيتا من شعر، ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم.

وكانوا يمنعون الحجيج والعمار - ما داموا محرمين - أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة، طاف عريانا ولو كانت امرأة، ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك، وضعت يدها على فرجها وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله * وبعد هذا اليوم لا أحله

فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه، فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك، وليس له ولا لغيره أن يمسها، وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقي.

قال بعض الشعراء:

كفى حزنا كرى عليه كأنه * لقي بين أيدي الطائفين حريم

قال ابن إسحاق: فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا وأنزل عليه القرآن رداُ عليهم فيما ابتدعوه. فقال تعالى: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } أي: جمهور العرب من عرفات { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 252.

وقد قدمنا أن رسول الله كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقا من الله له، وأنزل الله عليه ردا عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ... } الآية 253

وقال زياد البكائي عن ابن إسحاق: ولا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده.

مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وذكر شيء من البشارات بذلك

قال محمد بن إسحاق رحمه الله: وكانت الأحبار من اليهود والكهان من النصارى ومن العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله قبل مبعثه، لما تقارب زمانه.

أما الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته، وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.

قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ... } الآية 254.

وقال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ... } 255.

وقال الله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعا سُجَّدا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ... } الآية 256.

وقال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } 257.

وفي (صحيح البخاري): عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه. يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشروا وأمروا باتباعه.

وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ... } الآية 258.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج بن فضالة، حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟

قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام ».

وقد روى محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله عنه مثله. ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس، واشتهار ذكره، وانتشاره، فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل كما تقدم، يدل هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضا.

أما في الملأ الأعلى فقد كان أمره مشهورا مذكورا معلوما من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال:

قال رسول الله :

« إني عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين ».

وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح وقال: إن أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام.

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا منصور بن سعد، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟

قال: « وآدم بين الروح والجسد ». تفرد بهن أحمد.

وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب (دلائل النبوة) من حديث أبي هريرة فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - يعني أبا القاسم البغوي - حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، حدثني يحيى عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله متى وجبت لك النبوة؟

قال: « بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ».

ورواه من وجه آخر عن الأوزاعي به: وقال: « وآدم منجدل في طينته ».

وروي عن البغوي أيضا: عن أحمد بن المقدام، عن بقية بن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي هريرة مرفوعا في قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } 259.

قال رسول الله : « كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ».

ومن حديث أبي مزاحم عن قيس بن الربيع، عن جابر، عن الشعبي، عن ابن عباس قيل: يا رسول الله متى كنت نبيا؟

قال: « وآدم بين الروح والجسد ».

وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره، ولا يلقي العرب لذلك فيه بالا، حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها.

فلما تقارب أمر رسول الله وحضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تعقد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عز وجل.

قال: وفي ذلك أنزل الله على رسوله : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا.... } 260 إلى آخر السورة.

وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير، وكذا قوله تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ... } 261 الآيات، ذكرنا تفسير ذلك كله هناك.

قال محمد بن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها - هذا الحي من ثقيف - وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان أدهى العرب وأمكرها، فقالوا له: يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟

قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر، ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمي بها، فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق، وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو؟

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم يقال لها الغيطلة، كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي، فانقض تحتها ثم قال: أدر ما أدر يوم عقر ونحر. قالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟

ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها، ثم قال: شعوب ما شعوب تصرع فيه كعب الجنوب، فلما بلغ ذلك قريشا قالوا: ماذا يريد إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو؟ فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب، فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته.

قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا - بطنا من اليمن - كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله ، وانتشر في العرب قالت له جنب: انظر لنا في أمر هذا الرجل، واجتمعوا له في أسفل جبله.

فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو، ثم قال: أيها الناس إن الله أكرم محمدا واصطفاه، وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل، ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء.

ثم ذكر ابن إسحاق قصة سواد بن قارب، وقد أخرناها إلى هواتف الجان.

فصل طلب اليهود من الله تعالى أن يبعث لهم نبيا يحكم بينهم وبين الناس

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام - مع رحمة الله تعالى وهداه لنا - أن كنا نسمع من رجل من يهود - وكنا أهل شرك أصحاب أوثان - وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم.

فلما بعث الله رسول الله أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: { وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } 262.

وقال ورقاء عن ابن أبي نجيح عن علي الأزدي: كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون به - أي يستنصرون به على الناس - رواه البيهقي.

ثم روي من طريق عبد الملك بن هارون بن عنبرة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت اليهود بخيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم.

قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي كفروا به، فأنزل الله عز وجل: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا... } الآية.

وروى عطية، عن ابن عباس نحوه.

وروي عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضا.

وقال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلام بن وقش - وكان من أهل بدر - قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا، علي فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار

قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا؟ أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟

قال: نعم، والذي يحلف به ويود أن له تحطة من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غدا.

قالوا له: ويحك يا فلان، فما آية ذلك؟

قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى نحو مكة واليمن.

قالوا: ومتى نراه؟

قال: - فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا - فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.

قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا رسوله ، وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا.

قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟

قال: بلى، ولكن ليس به. رواه أحمد، عن يعقوب، عن أبيه، عن ابن عباس.

ورواه البيهقي، عن الحاكم بإسناده من طريق يونس بن بكير.

وروى أبو نعيم في (الدلائل) عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن سلمة قال:

لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع، فسمعته يقول - وإني لغلام في إزار - قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى بيت الله، فمن أدركه فليصدقه، فبعث رسول الله فأسلمنا وهو بين أظهرنا لم يسلم حسدا وبغيا

وقد قدمنا حديث أبي سعيد، عن أبيه في أخبار يوشع هذا عن خروج رسول الله ، وصفته، ونعته وإخبار الزبير بن باطا عن ظهور كوكب مولد رسول الله ، ورواه الحاكم عن البيهقي بإسناده من طريق يونس بن بكير عنه.

قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد - نفر من بني هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام -

قال: قلت: لا.

قال: فإن رجلا من اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة. فنقول له: كم؟

فيقول: صاعا من تمر، أو مدين من شعير.

قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا، فيستسقي لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب، ويسقي، قد فعل ذلك غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثا.

قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع.

قال: قلنا: أنت أعلم.

قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء فيمن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه.

فلما بعث رسول الله وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية - وكانوا شبابا أحداثا - يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم، وأموالهم، وأهليهم.

قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود.

قلت: وقد قدمنا في قدوم تبع اليماني - وهو أبو كرب تبان أسعد - إلى المدينة ومحاصرته إياها، وإنه خرج إليه ذانك الحبران من اليهود فقالا له: إنه لا سبيل لك عليها، إنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فثناه ذلك عنها.

وقد روى أبو نعيم في (الدلائل) من طريق الوليد بن مسلم: حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده قال: قال عبد الله بن سلام:

إن الله لما أراد هدي زيد بن سعية قال زيد: لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.

قال: فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فذكر قصة إسلافه للنبي مالا في ثمرة. قال: فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه - وهو في جنازة مع أصحابه - ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل.

قال: فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله أتقول لرسول الله ما أسمع، وتفعل ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم.

ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزد عشرين صاعا من تمر. فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه، وشهد بقية المشاهد مع رسول الله ، وتوفي عام تبوك رحمه الله.

ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه فقال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس قال: حدثني سلمان الفارسي - من فيه - قال:

كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.

قال: وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في بنيان له يوما، فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.

قال: فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها

ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟

قالوا: بالشام.

فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن أمره كله، فلما جئت قال: أي بني أين كنت، ألم أكن أعهد إليك ما عهدته؟

قال: قلت: يا أبة مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.

قال: قلت: كلا والله، إنه لخير من ديننا.

قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيتي.

قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام فجاءني النصارى فأخبروني بهم. فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني.

قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟

قالوا: الأسقف في الكنيسة. قال: فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك فأصلي معك.

قال: ادخل. فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. قال: وأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت له النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا.

قال: فقالوا لي: وما علمك بذلك؟

قال: فقلت لهم: أنا أدلكم على كنزه. قالوا: فدلنا عليه.

قال: فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها قالوا لا ندفنه أبدا. قال: فصلبوه ورجموه بالحجارة، وجاؤا برجل آخر فوضعوه مكانه.

قال سلمان: فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، قال: فأحببته حبا لم أحب شيئا قبله مثله.

قال: فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: إني قد كنت معك، وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من توصى بي وبم تأمرني به؟

قال: أي بني، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس، وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه، فالحق به.

قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟

قال: يا بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين، وهو فلان فالحق به.

فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري وما أمرني به صاحباي.

فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟

قال: يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا، فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري فقال: أقم عندي. فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة.

قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان، فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي، وبم تأمرني؟

قال: أي بني، والله ما أعلم أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى الأرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.

قال: ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه. قالوا: نعم فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي.

فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي لها، فأقمت بها، وبعث رسول الله فأقام بمكة ما أقام، ولا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال يا فلان: قاتل الله بني قيلة، والله إنهم لمجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي.

قال سلمان: فلما سمعتها أخذتني الرعدة، حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول، ماذا تقول؟

قال: فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك.

قال: فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.

قال: وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم.

قال: فقربته إليه، فقال رسول الله لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل.

فقلت في نفسي: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحول رسول الله إلى المدينة، ثم جئته فقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها.

قال: فأكل رسول الله منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان ثنتان.

قال: ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي.

فقال لي رسول الله : « تحول ». فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله أن يسمع ذاك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله بدر وأحد.

قال سلمان: ثم قال لي رسول الله : « كاتب يا سلمان ».

فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية.

فقال رسول الله لأصحابه:

« أعينوا أخاكم ».

فأعانوني في النخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشرة، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله :

« اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي ».

قال: ففقرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، ويضعه رسول الله بيده، حتى إذا فرغنا فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل، وبقي على المال.

فأتى رسول الله بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال:

« ما فعل الفارسي المكاتب؟ »

قال: فدعيت له.

قال: « خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان ».

قال: قلت: وأين تقع هذه مما علي يا رسول الله؟

قال: « خذها فإن الله سيؤدي بها عنك ».

قال: فأخذتها فوزنت لهم منها - والذي نفس سلمان بيده - أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتق سلمان، فشهدت مع رسول الله الخندق حرا، ثم لم يفتني معه مشهد.

قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن رجل من عبد القيس، عن سلمان أنه قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله؟ أخذها رسول الله فقلبها على لسانه، ثم قال: « خذها فأوفهم منها ».

فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، حدثني من لا أتهم، عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال: حدثت عن سلمان أنه قال لرسول الله حين أخبره أن صاحب عمورية قال له: إيت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام، فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه.

قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصف لي، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه.

قال: فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إليّ، قال: قلت: يرحمك الله، أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، قال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فأته فهو يحملك عليه، ثم دخل.

فقال رسول الله لسلمان: « لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم ».

هكذا وقع في هذه الرواية، وفيها رجل مبهم - وهو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة - وقد قيل: إنه الحسن بن عمارة، ثم هو منقطع بل معضل بين عمر بن عبد العزيز، وسلمان رضي الله عنه.

قوله: لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم، غريب جدا بل منكر. فإن الفترة أقل ما قيل فيها أنها أربعمائة سنة وقيل: ستمائة سنة بالشمسية، وسلمان أكثر ما قيل إنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.

وحكى العباس بن يزيد البحراني إجماع مشايخه على أنه عاش مائتين وخمسين سنة، واختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمائة وخمسين سنة، والله أعلم.

والظاهر أنه قال: لقد لقيت وصي عيسى بن مريم فهذا ممكن بالصواب.

وقال السهيلي: الرجل المبهم هو الحسن بن عمارة، وهو ضعيف، وإن صح لم يكن فيه نكارة، لأن ابن جرير ذكر أن المسيح نزل من السماء بعد ما رفع فوجد أمه وامرأة أخرى يبكيان عند جذع المصلوب فأخبرهما أنه لم يقتل، وبعث الحواريين بعد ذلك.

قال: وإذا جاز نزوله مرة جاز نزوله مرارا، ثم يكون نزوله الظاهر حين يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويتزوج حينئذ امرأة من بني جذام، وإذا مات دفن في حجرة روضة رسول الله .

وقد روى البيهقي في كتاب (دلائل النبوة) قصة سلمان هذه من طريق يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق كما تقدم..

ورواها أيضا عن الحاكم، عن الأصم، عن يحيى بن أبي طالب: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حاتم بن أبي صفرة، عن سماك بن حرب، عن يزيد بن صوحان أنه سمع سلمان يحدث كيف كان أول إسلامه، فذكر قصة طويلة وذكر أنه كان من رامهرمز، وكان له أخ أكبر منه غني، وكان سلمان فقيرا في كنف أخيه، وأن ابن دهقانها كان صاحبا له، وكان يختلف معه إلى معلم لهم، وأنه كان يختلف ذلك الغلام إلى عباد من النصارى في كهف لهم.

فسأله سلمان أن يذهب به معه إليهم، فقال له: إنك غلام وأخشى أن تنم عليهم فيقتلهم أبي، فالتزم له أن لا يكون منه شيء يكرهه، فذهب به معه فإذا هم ستة أو سبعة، كأن الروح قد خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار، ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا، فذكر عنهم أنهم يؤمنون بالرسل المتقدمين، وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته، أيده بالمعجزات.

وقالوا له: يا غلام إن لك ربا، وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دينه.

ثم جعل يتردد مع ذلك الغلام إليهم، ثم لزمهم سلمان بالكلية، ثم أجلاهم ملك تلك البلاد، وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه، واحتبس الملك ابنه عنده، وعرض سلمان دينهم على أخيه الذي هو أكبر منه فقال: إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة، فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسة الموصل فسلم عليهم أهلها.

ثم أرادوا أن يتركوني عندهم فأبيت إلا صحبتهم، فخرجوا حتى أتوا واديا بين جبال، فتحدر إليهم رهبان تلك الناحية يسلمون عليهم، واجتمعوا إليهم، وجعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنهم، ويسألونهم عني، فيثنون علي خيرا.

وجاء رجل معظم فيهم فخطبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وذكر الرسل وما أيدوا به، وذكر عيسى بن مريم وأنه كان عبد الله ورسوله، وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان ولزمه.

قال: فكان يصوم النهار، ويقوم الليل من الأحد إلى الأحد، فيخرج إليهم ويعظهم ويأمرهم وينهاهم، فمكث على ذلك مدة طويلة، ثم أراد أن يزور بيت المقدس فصحبه سلمان إليه.

قال: فكان فيما يمشي يلتفت إلي ويقبل علي فيعظني، ويخبرني أن لي ربا، وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا، ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد. قال فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من تهامة، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب.

فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه، قلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟ قال: وإن أمرك فإن الحق فيما يجيء به ورضى الرحمن فيما قال.

ثم ذكر قدومهما إلى بيت المقدس، وأن صاحبه صلى فيه هاهنا وهاهنا، ثم نام وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظل مكان كذا أن يوقظه، فتركه سلمان حينا آخر أزيد مما قال ليستريح.

فلما استيقظ ذكر الله، ولام سلمان على ترك ما أمره من ذلك، ثم خرجا من بيت المقدس فسأله مقعد، فقال: يا عبد الله سألتك حين وصلت فلم تعطني شيئا وها أنا أسألك، فنظر فلم يجد أحدا فأخذ بيده وقال: قم بسم الله، فقام وليس به بأس ولا قلبة، كأنما نشط من عقال.

فقال لي: يا عبد الله احمل علي متاعي حتى أذهب إلى أهلي فأبشرهم، فاشتغلت به ثم أدركت الرجل فلم ألحقه، ولم أدر أين ذهب، وكلما سألت عنه قوما قالوا: أمامك، حتى لقيني ركب من العرب من بني كلب، فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني خلفه، حتى أتوا بي بلادهم، فباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار، فجعلتني في حائط لها.

وقدم رسول الله ، ثم ذكر ذهابه إليه بالصدقة والهدية ليستعلم ما قال صاحبه، ثم تطلب النظر إلى خاتم النبوة، فلما رآه آمن من ساعته، وأخبر رسول الله خبره الذي جرى له.

قال: فأمر رسول الله أبا بكر الصديق فاشتراه من سيده فأعتقه، ثم قال: سألته يوما عن دين النصارى فقال: لا خير فيهم، قال: فوقع في نفسي من أولئك الذين صحبتهم، ومن ذلك الرجل الصالح الذي كان معي ببيت المقدس، فدخلني من ذلك أمر عظيم حتى أنزل الله على رسول الله : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } 263.

فدعاني رسول الله فجئت وأنا خائف، فجلست بين يديه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.. } الآيات.

ثم قال: يا سلمان أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى كانوا مسلمين.

فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لهو أمرني باتباعك.

فقلت له: فإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه، قال: نعم فاتركه فإن الحق وما يرضي الله فيما يأمرك.

وفي هذا السياق غرابة كثيرة، وفيه بعض المخالفة لسياق محمد بن إسحاق، وطريق محمد بن إسحاق أقوى إسنادا، وأحسن اقتصاصا، وأقرب إلى ما رواه البخاري في (صحيحه) من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبيه، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب، أي: من معلم إلى معلم ومرب إلى مثله، والله أعلم.

قال السهيلي: تداوله ثلاثون سيدا من سيد إلى سيد، فالله أعلم.

وكذلك استقصى قصة إسلامه الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) وأورد لها أسانيد وألفاظا كثيرة، وفي بعضها أن اسم سيدته التي كاتبته حلبسة، فالله أعلم.

ذكر أخبار غريبة في ذلك

قال أبو نعيم في (الدلائل) حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية المنقري، حدثنا عباد بن كسيب، عن أبيه، عن أبي عتوارة الخزاعي، عن سعير بن سوادة العامري قال:

كنت عشيقا لعقيلة من عقائل الحي، أركب لها الصعب والذلول، لا أبقي من البلاد مسرحا أرجو ربحا في متجر إلا أتيته، فانصرفت من الشام بحرث وأثاث أريد به كبة الموسم ودهماء العرب، فدخلت مكة بليل مسدف، فأقمت حتى تعرى عني قميص الليل، فرفعت رأسي فإذا قباب مسامته شعف الجبال مضروبة بأنطاع الطائف، وإذا جزر تنحر، وأخرى تساق، وإذا أكلة وحثثة على الطهاة يقولون: ألا عجلوا ألا عجلوا.

وإذا رجل يجهر على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله ميلوا إلى الغداء، وأنيسان على مدرجة يقول: يا وفد الله من طعم فليرح إلى العشاء، فجهرني ما رأيت، فأقبلت أريد عميد القوم، فعرف رجل الذي بي فقال أمامك، وإذا شيخ كأن في خديه الأساريع، وكأن الشعرى توقد من جبينه، قد لاث على رأسه عمامة سوداء، قد أبرز من ملائها جمة فينانة كأنها سماسم.

قال في بعض الروايات: تحته كرسي سماسم، ومن دونها نمرقة، بيده قضيب متخصر به، حوله مشايخ، جلس نواكس الأذقان ما منهم أحد يفيض بكلمة، وقد كان نمى إلى خبر من أخبار الشام أن النبي الأمي هذا أوان نجومه، فلما رأيته ظننته ذلك.

فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: مه مه كلا، وكأن قد وليتني إياه.

فقلت: من هذا الشيخ؟ فقالوا: هذا أبو نضلة، هذا هاشم بن عبد مناف، فوليت وأنا أقول: هذا والله المجد لا مجد آل جفنة - يعني ملوك عرب الشام من غسان كان يقال لهم آل جفنة - وهذه الوظيفة التي حكاها عن هاشم هي الرفادة: يعني إطعام الحجيج زمن الموسم.

وقال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، حدثنا سعيد بن عثمان، حدثنا علي بن قتيبة الخراساني، حدثنا خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال:

بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش وعلي مطرف خز، وجمتي تضرب منكبي، فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغيير، وأنا يومئذ سيد قومي، فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون؟ هل رابه من حدثان الدهر شيء؟

فقلت لها: بلى، وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى، ثم يضع يده على أم رأسها، ثم يذكر حاجته، ولم أفعل لأني كبير قومي.

فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة تنبت قد نال رأسها السماء، وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها.

ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها، ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم، ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا، فمنعني الشاب فقلت: لمن النصيب؟ فقال: النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها، فانتبهت مذعورا فزعا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغير ثم قالت:

لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، ويدين له الناس، ثم قال: - يعني عبد المطلب - لأبي طالب: لعلك تكون هذا المولود. قال: فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد رسول الله ، وبعد ما بعث.

ثم قال: كانت الشجرة والله أعلم أبا القاسم الأمين، فيقال: لأبي طالب ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار.

وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي، حدثنا العباس بن بكار الضبي، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال العباس خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان ابن حرب، فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بابي سفيان وبالنفر، ويصنع أبو سفيان يوما ويفعل مثلى ذلك.

فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غداءك؟ فقلت: نعم. فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء، فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني، فقال: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله؟

فقلت: أي بني أخي؟ فقال أبو سفيان: إياي تكتم، وأي بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد؟

قلت: وأيهم على ذلك؟

قال: هو محمد بن عبد الله. فقلت: قد فعل؟ قال: بلى قد فعل، وأخرج كتابا باسمه من ابنه حنظلة بن أبي سفيان فيه أخبرك أن محمدا قام بالأبطح، فقال: أنا رسول أدعوكم إلى الله عز وجل.

فقال العباس: قلت أجده يا أبا حنظلة صادق، فقال: مهلا يا أبا الفضل، فوالله ما أحب أن يقول مثل هذا، إني لا أخشى أن يكون على ضير من هذا الحديث يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة، كل واحدة منهما غاية لنشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك؟

قلت: نعم قد سمعت.

قال: فهذه والله شؤمتكم، قلت: فلعلها يمنتنا.

قال: فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة بالخبر وهو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس اليمن، وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يتحدث فيه حبر من أحبار اليهود، فقال له اليهودي: ما هذا الخبر؟ بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال.

قال أبو سفيان: صدقوا وأنا عمه.

فقال اليهودي: أخو أبيه؟

قال: نعم.

قال: فحدثني عنه.

قال: لا تسألني ما أحب أن يدعى هذا الأمر أبدا، وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه، فرأى اليهودي أنه لا يغمس عليه، ولا يحب أن يعيبه.

فقال اليهودي: ليس به بأس على اليهود وتوراة موسى.

قال العباس: فناداني الحبر فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس من الغد، وفيه أبو سفيان ابن حرب والحبر، فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله وأخبرك أنه عمه، وليس بعمه، ولكن ابن عمه، وأنا عمه وأخو أبيه.

قال: أخو أبيه؟

قلت: أخو أبيه، فأقبل على أبي سفيان فقال: صدق؟

قال: نعم صدق.

فقلت: سلني، فإن كذبت فليرد علي، فأقبل علي فقال: نشدتك هل كان لابن أخيك صبوة أو سفهة. قلت: لا، وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان، وإنه كان اسمه عند قريش الأمين.

قال: فهل كتب بيده؟

قال: العباس فظننت أنه خير له أن يكتب بيده فأردت أن أقولها، ثم ذكرت مكان أبي سفيان يكذبني ويرد علي. فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر ونزل رداؤه، وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود.

قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن أخيك، قلت: قد رأيت ما رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقت، وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك.

قال: لا أؤمن به حتى أرى الخيل في كداء.

قلت: ما تقول؟

قال: كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء.

قال العباس: فلما استفتح رسول الله مكة ونظرنا إلى الخيل وقد طلعت من كداء، قلت: يا أبا سفيان تذكر الكلمة؟

قال: إي والله إني لذاكرها، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.

وهذا سياق حسن عليه البهاء والنور، وضياء الصدق، وإن كان في رجاله من هو متكلم فيه، والله أعلم.

وقد تقدم ما ذكرناه في قصة أبي سفيان مع أمية بن أبي الصلت، وهو شبيه بهذا الباب، وهو من أغرب الأخبار، وأحسن السياقات، وعليه النور، وسيأتي أيضا قصة أبي سفيان مع هرقل ملك الروم، حين سأله عن صفات رسول الله وأحواله، واستدلاله بذلك على صدقه ونبوته، ورسالته.

وقال له: كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظن أنه فيكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولئن كن ما تقول حقا ليملكن موضع قدمي هاتين وكذلك وقع، ولله الحمد والمنة.

وقد أكثر الحافظ أبو نعيم من إيراد الآثار والأخبار عن الرهبان، والأحبار، والعرب، فأكثر وأطنب وأحسن وأطيب، رحمه الله ورضي عنه.

قصة عمرو بن مرة الجهني

قال الطبراني: حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي، حدثنا عبد الله بن داود بن دلهاث بن إسماعيل بن عبد الله بن شريح بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله ، حدثنا أبي، عن أبيه دلهاث عن أبيه إسماعيل أن أباه عبد الله حدثه عن أبيه: أن أباه ياسر بن سويد حدثه عن عمرو بن مرة الجهني قال:

خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في نومي وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى وصل إلى جبل يثرب، وأشعر جهينة، فسمعت صوتا بين النور وهو يقول:

انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبعث خاتم الأنبياء. ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة، وأبيض المدائن، وسمعت صوتا من النور وهو يقول:

ظهر الإسلام، وكسرت الأصنام، ووصلت الأرحام، فانتبهت فزعا فقلت لقومي: والله ليحدثن لهذا الحي من قريش حدث - وأخبرتهم بما رأيت - فلما انتهينا إلى بلادنا جاءني الخبر أن رجلا يقال له: أحمد قد بعث، فأتيته فأخبرته بما رأيت.

فقال لي: « يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة، أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، من اثني عشر شهرا، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن يا عمرو يؤمنك الله من هول جهنم ».

فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، آمنت بما جئت من حلال وحرام، وأن رغم ذلك كثيرا من الأقوام.

ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم، وكان أبي سادنا له، فقمت إليه فكسرته، ثم لحقت بالنبي وأنا أقول

شهدت بأن الله حق وإنني * لآلهة الأحجار أول تارك

وشمرت عن ساق الإزار مهاجرا * إليك أجوب القفر بعد الدكادك

لأصحب خير الناس نفسا ووالدا * رسول مليك الناس فوق الحبائك

فقال النبي : « مرحبا بك يا عمرو بن مرة ».

فقلت: يا رسول الله ابعثني إلى قومي لعل الله يمن عليهم بي كما من علي بك.

فبعثني إليهم وقال: « عليك بالرفق والقول السديد، ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا ».

فذكر أنه أتى قومه فدعاهم إلى ما دعاه إليه رسول الله فأسلموا كلهم، إلا رجلا واحدا منهم، وأنه وفد بهم إلى رسول الله فرحب بهم وحياهم.

وكتب لهم كتابا هذه نسخته: « بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله العزيز، على لسان رسول الله بكتاب صادق، وحق ناطق، مع عمرو بن مرة الجهني، لجهينة بن زيد: إن لكم بطون الأرض وسهولها، وتلاع الأودية وظهورها، تزرعون نباته، وتشربون صافيه، على أن تقروا بالخمس، وتصلوا صلاة الخمس، وفي التبيعة والصريمة، إن اجتمعتا وإن تفرقتا شاة شاة، ليس على أهل الميرة صدقة، ليس الوردة اللبقة، وشهد على نبينا من حضر من المسلمين بكتاب قيس بن شماس ».

وذكر شعرا قاله عمرو بن مرة في ذلك، كما هو مبسوط في المسند الكبير، وبالله الثقة وعليه التكلان.

وقال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقا غَلِيظا } 264.

قال كثيرون من السلف لما: أخذ الله ميثاق بني آدم: يوم (ألست بربكم) أخذ من النبيين ميثاقا خاصا، وأكد مع هؤلاء الخمسة أولي العزم، أصحاب الشرائع الكبار، الذين أولهم نوح، وآخرهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وقد روى الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) من طرق عن الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: سُئل النبي متى وجبت لك النبوة؟

قال: « بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ». 265

وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن الزبير الحلبي، حدثنا أبو جعفر النفيلي، حدثنا عمرو بن واقد، عن عروة بن رويم، عن الصنابحي قال:

قال عمر: يا رسول الله، متى جعلت نبيا؟

قال: « وآدم منجدل في الطين ».

ثم رواه من حديث نصر بن مزاحم، عن قيس بن الربيع، عن جابر الجعفي، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟

قال: « وآدم بين الروح والجسد ».

وفي الحديث الذي أوردناه في قصة آدم حين استخرج الله من صلبه ذريته، خصَّ الأنبياء بنور بين أعينهم، والظاهر - والله أعلم - أنه كان على قدر منازلهم ورتبهم عند الله، وإذا كان الأمر كذلك فنور محمد كان أظهر وأكبر وأعظم منهم كلهم. وهذا تنويه عظيم، وتنبيه ظاهر على شرفه وعلو قدره.

وفي هذا المعنى الحديث الذي قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد الكلبي، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله :

« إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين ».

ورواه الليث وابن وهب، عن عبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح وزاد: « إن أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام ».

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثما منصور بن سعيد، عن بديل عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال:

قلت يا رسول الله متى كنت نبيا؟

قال: « وآدم بين الروح والجسد ». وإسناده جيد أيضا.

وهكذا رواه إبراهيم بن طهمان، وحماد بن زيد، وخالد الحذاء، عن بديل بن ميسرة به.

ورواه أبو نعيم عن محمد بن عمر بن أسلم، عن محمد بن بكر بن عمرو الباهلي، عن شيبان، عن الحسن بن دينار، عن عبد الله بن سفيان، عن ميسرة الفجر قال:

قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟

قال: « وآدم بين الروح والجسد ».

وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه (دلائل النبوة): حدثنا أبو عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، عن خليد بن دعلج وسعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة عن النبي في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ } قال: « كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث ».

ثم رواه من طريق هشام بن عمار، عن بقية، عن سعيد بن نسير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا مثله.

وقد رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة وشيبان، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله قال مثله، وهذا أثبت وأصح، والله أعلم.

وهذا إخبار عن التنويه بذكره في الملأ الأعلى، وأنه معروف بذلك بينهم بأنه خاتم النبيين وآدم لم ينفخ فيه الروح، لأن علم الله تعالى بذلك سابق قبل خلق السموات والأرض لا محالة، فلم يبق إلا هذا الذي ذكرناه من الأعلام به في الملأ الأعلى، والله أعلم.

وقد أورد أبو نعيم من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة الحديث المتفق عليه: « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم ».

وزاد أبو نعيم في آخره: فكان آخرهم في البعث، وبه ختمت النبوة، وهو السابق يوم القيامة لأنه أول مكتوب في النبوة والعهد.

ثم قال: ففي هذا الحديث الفضيلة لرسول الله ، لما أوجب الله له النبوة قبل تمام خلق آدم، ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم الله ملائكته ما سبق في علمه وقضاءه من بعثته له في آخر الزمان، وهذا الكلام يوافق ما ذكرناه ولله الحمد.

وروى الحاكم في (مستدركه) من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم - وفيه كلام - عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : « لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي. فقال الله: يا آدم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد؟ فقال: يا رب، لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلي اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي، وإذ قد سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك ». 266

وقد قال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } 267.

قال علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا من الأنبياء، إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه، وهذا تنويه وتنبيه على شرفه وعظمته في سائر الملل، وعلى ألسنة الأنبياء، وإعلام لهم ومنهم برسالته في آخر الزمان. وإنه أكرم المرسلين، وخاتم النبيين.

وقد أوضح أمره، وكشف خبره، وبين سره، وجلى مجده ومولده وبلده إبراهيم الخليل، في قوله عليه السلام حين فرغ من بناء البيت: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } 268.

فكان أول بيان أمره على الجلية والوضوح بين أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل، أكرم الأنبياء على الله بعد محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهما وعلى سائر الأنبياء.

ولهذا قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الفرج - يعني ابن فضالة - حدثنا لقمان بن عامر، سمعت أبا أمامة قال: قلت: يا نبي الله، ما كان بدء أمرك؟

قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام ».

تفرد به الإمام أحمد، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.

وروى الحافظ أبو بكر ابن أبي عاصم في كتاب (المولد) من طريق بقية، عن صفوان بن عمرو بن حجر، عن حجر، عن أبي مريق أن أعرابيا قال:

يا رسول الله أي شيء كان أول أمر نبوتك؟

فقال: « أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ورأت أم رسول الله في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام ».

وقال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟

قال: « دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حبلت كأنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام ».

إسناده جيد أيضا، وفيه بشارة لأهل محلتنا أرض بصرى، وإنها أول بقعة من أرض الشام، خلص إليها نور النبوة، ولله الحمد والمنة، ولهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام، وكان فتحها صلحا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، كما سيأتي بيانه.

وقد قدمها رسول الله مرتين في صحبة عمه أبي طالب، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكانت عندها قصة بحيرى الراهب كما بيناه، والثانية ومعه ميسرة مولى خديجة في تجارة لها، وبها مبرك الناقة التي يقال لها ناقة رسول الله بركت عليه، فأثر ذلك فيها فيما يذكر.

ثم نقل وبنى عليه مسجد مشهور اليوم، وهي المدينة التي أضاءت أعناق الإبل عندها من نور النار التي خرجت من أرض الحجاز سنة أربع وخمسين وستمائة، وفق ما أخبر به رسول الله في قوله: « تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ».

وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.

وقال الله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الآية 269.

قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل عن الجريري، عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله .

فلما فرغت من بيعي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجملهم.

فقال رسول الله : « أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجدني في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟ ».

فقال برأسه هكذا - أي لا - فقال ابنه: إي والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال: « أقيموا اليهودي عن أخيكم ».

ثم ولى كفنه، والصلاة عليه.

هذا إسناد جيد، وله شواهد في (الصحيح): عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا عبد الواحد بن غياث - أبو بحر - حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن الصلتان بن عاصم، وذكر أن خاله قال: كنت جالسا عند النبي ، إذ شخص بصره إلى رجل فإذا يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان، قال: فجعل النبي يكلمه، وهو يقول: يا رسول الله.

فقال رسول الله : « أتشهد أني رسول الله؟ »

قال: لا.

قال رسول الله : « أتقرأ التوراة؟ »

قال: نعم.

قال: « أتقرأ الإنجيل؟ »

قال: نعم.

قال: « والقرآن؟ »

قال: لا، ولو تشاء قرأته، فقال النبي : « فبم تقرأ التوراة والإنجيل أتجدني نبيا؟ » قال: إنا نجد نعتك ومخرجك، فلما خرجت رجونا أن تكون فينا، فلما رأيناك عرفناك أنك لست به.

قال رسول الله : « ولم يا يهودي؟ »

قال: إنا نجده مكتوبا: يدخل من أمته الجنة سبعون ألفا بغير حساب، ولا نرى معك إلا نفرا يسيرا. فقال رسول الله : « إن أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا ». 270

وقال محمد بن إسحاق: عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله يهود فقال: « أخرجوا أعلمكم ».

فقالوا: عبد الله بن صوريا.

فخلا به رسول الله فناشده بدينه، وما أنعم الله به عليهم، وأطعمهم من المن والسلوى، وظللهم به من الغمام: « أتعلمني رسول الله؟ »

قال: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وأن صفتك ونعتك لمبين في التوراة، ولكنهم حسدوك. قال: « فما يمنعك أنت؟ ».

قال: أكره خلاف قومي، وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.

وقال سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقول: كتب رسول الله إلى يهود خيبر: « بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدق بما جاء به موسى، ألا إن الله قال لكم: يا معشر يهود وأهل التوراة إنكم تجدون ذلك في كتابكم: إن محمدا: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعا سُجَّدا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرا عَظِيما } 271. وإني أنشدكم بالله وبالذي أنزل عليكم، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسلافكم وأسباطكم المن والسلوى، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاكم من فرعون وعمله، إلا أخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم، قد تبين الرشد من الغي، وأدعوكم إلى الله وإلى نبيه  ».

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب (المبتدأ) عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن كعب الأحبار.

وروى غيره عن وهب بن منبه أن بختنصر بعد أن خرب بيت المقدس، واستذل بني إسرائيل بسبع سنين، رأى في المنام رؤيا عظيمة هالته، فجمع الكهنة والحزار وسألهم عن رؤياه تلك، فقالوا: ليقصها الملك حتى نخبره بتأويلها، فقال: إني نسيتها، وإن لم تخبروني بها إلى ثلاثة أيام قتلتكم عن آخركم.

فذهبوا خائفين وجلين من وعيده، فسمع بذلك دانيال عليه السلام وهو في سجنه، فقال للسجان: اذهب إليه، فقل له إن هاهنا رجلا عنده علم رؤياك وتأويلها، فذهب إليه فأعلمه فطلبه، فلما دخل عليه لم يسجد له.

فقال له: ما منعك من السجود لي؟ فقال: إن الله آتاني علما، وعلمني وأمرني أن لا أسجد لغيره. فقال له بختنصر: إني أحب الذين يوفون لأربابهم بالعهود، فأخبرني عن رؤياي؟ قال له دانيال: رأيت صنما عظيما رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، أعلاه من ذهب، ووسطه من فضة، وأسفله من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من فخار.

فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه، وإحكام صنعته، قذفه الله بحجر من السماء، فوقع على قمة رأسه حتى طحنه، واختلط ذهبه وفضته ونحاسه وحديده وفخاره، حتى تخيل لك أنه لو اجتمع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك.

ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم وينتشر، حتى ملأ الأرض كلها، فصرت لا ترى إلا الحجر والسماء، فقال له بختنصر: صدقت هذه الرؤيا التي رأيتها، فما تأويلها؟

فقال دانيال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان، وفي وسطه، وفي آخره، وأما الحجر الذي قذف به الصنم، فدين يقذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان، فيظهره عليها، فيبعث الله نبيا أميا من العرب، فيدوخ به الأمم والأديان، كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم.

ويظهر على الأديان والأمم، كما رأيت الحجر ظهر على الأرض كلها، فيمحص الله به الحق، ويزهق به الباطل، ويهدي به أهل الضلالة، ويعلم به الأميين، ويقوي به الضعفة، ويعز به الأذلة، وينصر به المستضعفين.

وذكر تمام القصة في إطلاق بختنصر بني إسرائيل على يدي دانيال عليه السلام.

وذكر الواقدي بأسانيده عن المغيرة بن شعبة في قصة وفوده على المقوقس ملك الإسكندرية، وسؤاله له عن صفات رسول الله قريباُ من سؤال هرقل لأبي سفيان صخر بن حرب. وذكر أنه سأل أساقفة النصارى في الكنائس عن صفة رسول الله وأخبروه عن ذلك، وهي قصة طويلة ذكرها الحافظ أبو نعيم في (الدلائل).

وثبت في الصحيح أن رسول الله مر بمدارس اليهود فقال لهم: « يا معشر اليهود، أسلموا فوالذي نفسي بيده إنكم لتجدون صفتي في كتبكم » الحديث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفات رسول الله في التوراة؟

فقال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيموا الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا.

ورواه البخاري عن محمد بن سنان العوفي، عن فليح به.

ورواه أيضا عن عبد الله - قيل: ابن رجاء وقيل: ابن صالح - عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال بن علوية، ولفظه قريب من هذا، وفيه زيادة.

ورواه ابن جرير من حديث فليح، عن هلال، عن عطاء، وزاد قال عطاء: فلقيت كعبا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفا.

وقال في البيوع: وقال سعيد عن هلال، عن عطاء، عن عبد الله بن سلام.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرناه أبو الحسين بن المفضل القطان، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام أنه كان يقول:

إنا لنجد صفة رسول الله ، إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميته المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزئ السيئة بمثلها، ولكن يعفو، و يغفر، ويتجاوز، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا، وأذانا صما، وقلوبا غلفا.

وقال عطاء بن يسار: وأخبرني الليثي أنه سمع كعب الأحبار يقول مثل ما قال ابن سلام.

قلت: وهذا عن عبد الله بن سلام أشبه، ولكن الرواية عن عبد الله بن عمرو أكثر، مع أنه كان قد وجد يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، وكان يحدث عنهما كثيرا، وليعلم أن كثيرا من السلف كانوا يطلقون التوراة على كتب أهل الكتاب، فهي عندهم أعم من التي أنزلها الله على موسى. وقد ثبت شاهد ذلك من الحديث.

وقال يونس عن محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن ابن أبي أوفى، عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الأحبار كيف تجدون صفة رسول الله في التوراة؟

قال: نجده محمد رسول الله، اسمه المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، وأعطى المفاتيح، فيبصر الله به أعينا عورا، ويسمع آذانا وقرا، ويقيم به ألسنا معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله واحد لا شريك له، يعين به المظلوم ويمنعه. وقد روي عن كعب من غير هذا الوجه.

وروى البيهقي عن الحاكم، عن أبي الوليد الفقيه، عن الحسن بن سفيان، حدثنا عتبة بن مكرم، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم، حدثنا حمزة بن الزيات، عن سليمان الأعمش، عن علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة: { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } 272

قال: نودوا يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني.

وذكر وهب بن منبه أن الله تعالى أوحى إلى داود في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد، صادقا سيدا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني، ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وفرضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، إلى أن قال: يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها.

والعلم بأنه موجود في كتب أهل الكتاب معلوم من الدين ضرورة، وقد دل على ذلك آيات كثيرة في الكتاب العزيز، تكلمنا عليها في مواضعها، ولله الحمد.

فمن ذلك قوله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } 273.

وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 274.

وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } 275 أي: إن كان وعدنا ربنا بوجود محمد وإرساله لكائن لا محالة، فسبحان القدير على ما يشاء، لا يعجزه شيء.

وقال تعالى إخبارا عن القسيسين والرهبان: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } 276

وفي قصة النجاشي، وسلمان، وعبد الله بن سلام، وغيرهم، كما سيأتي شواهد كثيرة لهذا المعنى، ولله الحمد والمنة.

وذكرنا في تضاعيف قصص الأنبياء، ما تقدم الإشارة إليه من وصفهم لبعثة رسول الله ، ونعته، وبلد مولده، ودار مهاجره، ونعت أمته، في قصة موسى، وشعيا، وأرمياء، ودانيال، وغيرهم.

وقد أخبر الله تعالى عن آخر أنبياء بني إسرائيل، وخاتمهم عيسى بن مريم، أنه قام في بني إسرائيل خطيبا قائلا لهم { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } 277

وفي الإنجيل: البشارة بالفارقليط، والمراد: محمد .

وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن العيزار بن حرب، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: « مكتوب في الإنجيل لا فظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، بل يعفو ويصفح »

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا فيض البجلي، حدثنا سلام بن مسكين، عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم: جد في أمري، واسمع، وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول، أنا خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، و علي فتوكل، فبين لأهل سوران بالسريانية، بلغ من بين يديك:

إني أنا الحق القائم، الذي لا أزول، صدقوا بالنبي الأمي العربي، صاحب الجمل والمدرعة والعمامة - وهي التاج - والنعلين والهراوة - وهي القضيب - الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأنجل العينين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريح المسك ينضح منه. كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب، ليس في بطنه شعر غير شثن الكف والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما ينقلع من الصخر، ويتحدر من صبب، ذو النسل القليل - وكأنه أراد الذكور من صلبه.

هكذا رواه البيهقي في (دلائل النبوة) من طريق يعقوب بن سفيان.

وروى البيهقي عن عثمان بن الحكم بن رافع بن سنان: حدثني بعض عمومتي وآبائي، أنهم كانت عندهم ورقة يتوارثونها في الجاهلية، حتى جاء الله بالإسلام وبقيت عندهم، فلما قدم رسول الله المدينة ذكر وهاله، وأتوه بها مكتوب فيها: بسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين في تباب، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان، ليبلون أطرافهم، ويوترون على أوساطهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، وفي عاد ما أهلكوا بالريح، وفي ثمود ما أهلكوا بالصيحة:

بسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين في تباب. ثم ذكر قصة أخرى، قال: فعجب رسول الله لما قرأت عليه فيها.

وذكرنا عند قوله تعالى في سورة الأعراف: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } قصة هشام بن العاص الأموي، حين بعثه الصديق في سرية إلى هرقل يدعوه إلى الله عز وجل، فذكر أنه أخرج لهم صور الأنبياء في رقعة من آدم إلى محمد صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين، على النعت والشكل الذي كانوا عليه.

ثم ذكر أنه لما أخرج صورة رسول الله قام قائما إكراما له، ثم جلس وجعل ينظر إليها ويتأملها، قال: فقلنا له من أين لك هذه الصورة؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه جميع الأنبياء من ذلك، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين، فدفعها إلى دانيال.

ثم قال: أما والله إن نفسي قد طابت بالخروج من ملكي، وأني كنت عبدا لاشركم ملكة حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق فحدثناه بما رأينا وما أجازنا وما قال لنا، قال: فبكى، وقال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل.

ثم قال: أخبرنا رسول الله أنهم واليهود يجدون نعت محمد عندهم. رواه الحاكم بطوله فليكتب هاهنا من التفسير. ورواه البيهقي في (دلائل النبوة)

وقال الأموي: حدثنا عبد الله بن زياد، عن ابن إسحاق قال: وحدثني يعقوب بن عبد الله بن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، عن جده عمرو بن أمية قال: قدمت برقيق من عند النجاشي أعطانيهم فقالوا لي: ياعمرو لو رأينا رسول الله لعرفناه من غير أن تخبرنا، فمر أبو بكر فقلت: أهو هذا؟

قالوا: لا. فمر عمر فقلت: أهو هذا؟

قالوا: لا. فدخلنا الدار فمر رسول الله فنادوني: يا عمرو هذا رسول الله ، فنظرت فإذا هو هو، من غير أن يخبرهم به أحد، عرفوه بما كانوا يجدونه مكتوبا عندهم.

وقد تقدم إنذار سبأ لقومه، وبشارته لهم بوجود رسول الله في شعر أسلفناه في ترجمته، فأغنى عن إعادته.

وتقدم قول الحبرين من اليهود لتبع اليماني حين حاصر أهل المدينة: إنها مهاجر نبي، يكون في آخر الزمان، فرجع عنها ونظم شعرا يتضمن السلام على النبي .

قصة سيف بن ذي يزن وبشارته بالنبي

وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه (هواتف الجان): حدثنا علي بن حرب، حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم، حدثنا عمرو بن بكر - هو ابن بكار القعنبي - عن أحمد بن القاسم، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن عبد الله بن عباس قال:

لما ظهر سيف بن ذي يزن قال ابن المنذر - واسمه النعمان بن قيس - على الحبشة وذلك بعد مولد رسول الله بسنتين، أتته وفود العرب وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من حسن بلائه، وأتاه فيمن أتاه وفود قريش، فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس أبي عبد الله، وعبد الله بن جدعان، وخويلد بن أسد، في أناس من وجوه قريش.

فقدموا عليه صنعاء، فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية أبي الصلت:

واشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا * في رأس غمدان دارا منك محلالا

فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم، فأذن لهم، فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام، فقال له: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك، فقد أذنا لك. فقال له عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا، وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعذيت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه في أكرم موطن وأطيب معدن.

فأنت - أبيت اللعن - ملك العرب وربيعها الذي تخصب به البلاد، ورأس العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، وسلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يخمد من هم سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه.

ونحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجك من كشف الكرب الذي قد فدحنا، وفد التهنئة لا وفد المرزئة.

قال له الملك: وأيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم. قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. قال: ادن، فأدناه، ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا، يعطي عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم.

ثم نهضوا إلى دار الكرامة والوفود، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه، ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه، ثم قال: يا عبد المطلب إني مفض إليك من سر علمي ما لو يكون غيرك لم أبح به، ولكني رأيتك معدنه، فاطلعتك طليعه، فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره.

إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا، واجتجناه دون غيرنا، خبرا عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.

فقال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سر وبر، فما هو فداؤك أهل الوبر زمرا بعد زمر؟ قال: إذا ولد بتهامة غلام به علامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.

قال عبد المطلب - أبيت اللعن -: لقد أبت بخير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله واعظامه، لسألته من بشارته إياي، ما ازداد به سرورا.

قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد، واسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، يعزبهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم أهل الأرض، يكسر الأوثان، ويخمد النيران، يعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.

فقال عبد المطلب: أيها الملك - عز جدك، وعلا كعبك، ودام ملكك، وطال عمرك - فهذا نجاري، فهل الملك سار لي بافصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح.

فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النقب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب، فخر عبد المطلب ساجدا فقال: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟

فقال: أيها الملك كان لي ابن، وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمدا، فمات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.

قال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخل لهم النفاسة، من أن تكون لكم الرياسة، فيطلبون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، فهم فاعلون أو أبناؤهم، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مملكته.

فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب عقبه، ولكني صارف ذلك إليك، عن غير تقصير بمن معك.

قال: ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد، وعشرة إماء، وبمائة من الإبل، وحلتين من البرود، وبخمسة أرطال من الذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوء عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك.

وقال له: إذا حال الحول فأتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول. فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول يا معشر قريش: لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك و إن كثر، فإنه إلى نفاد، ولكن ليبغبطني بما يبقى لي ولعقبي ومن بعدي، ذكره، وفخره، وشرفه، فإذا قيل له متى ذلك؟ قال: سيعلم ولو بعد.

قال: وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس:

جلبنا النصح تحقبه المطايا * على أكوار أجمال ونوق

مقلفة مراتعها تعالى * إلى صنعاء من فج عميق

تؤم بنا ابن ذي يزن وتغري * بذات بطونها ذم الطريق

وترعى من مخائله بروقا * مواصلة الوميض إلى بروق

فلما واصلت صنعاء حلت * بدار الملك والحسب العريق

وهكذا رواه الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) من طريق عمرو بن بكير بن بكار القعنبي.

ثم قال أبو نعيم: أخبرت عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن عبد ربه بن محمد بن عبد العزيز بن عفير بن عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن، حدثني أبي أبو يزن إبراهيم، حدثنا عمي أحمد بن محمد أبو رجاء به، حدثنا عمي محمد بن عبد العزيز، حدثني عبد العزيز بن عفير، عن أبيه، عن زرعة بن سيف بن ذي يزن الحميري قال: لما ظهر جدي سيف بن ذي يزن على الحبشة. وذكره بطوله.

وقال أبو بكر الخرائطي: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القلوسي، حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية، أخبرني أبي، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن جده أبي سوية، عن أبيه خليفة قال: سألت محمد بن عثمان بن ربيعة بن سواة بن خثعم بن سعد فقلت: كيف سماك أبوك محمدا؟

فقال: سألت أبي عما سألتني عنه فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا منهم، وسفيان بن مجاشع بن دارم، وأسامة بن مالك بن جندب بن العقيد، ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حربوص بن مازن، ونحن نريد ابن جفنة ملك غسان، فلما شارفنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات فتحدثنا، فسمع كلامنا راهب فأشرف علينا فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة هذه البلاد!

فقلنا: نعم نحن قوم من مضر. قال: من أي المضرين؟

قلنا: من خندف. قال: أما إنه سيبعث وشيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه، وخذوا بحظكم منه ترشدوا.

فقلنا له: ما اسمه؟ قال: اسمه محمد، قال: فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل واحد منا ابن فسماه محمدا، يعني أن كل واحد منهم طمع في أن يكون هذا النبي المبشر به ولده.

وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثنا حازم بن عقال بن الزهر بن حبيب بن المنذر بن أبي الحصين بن السموأل بن عاديا، حدثني جابر بن جدان بن جميع بن عثمان بن سماك بن الحصين بن السموأل بن عاديا قال: لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا: إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى، وكنا نأمرك بالتزوج في شبابك فتأبى، وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك ولد غير مالك.

فقال: لن يهلك هالك ترك مثل مالك، إن الذي يخرج النار من الوثيمة قادر أن يجعل لمالك نسلا ورجالا بسلا وكل إلى الموت.

ثم أقبل على مالك وقال: أي بني المنية ولا الدنية، العقاب ولا العتاب، التجلد ولا التلدد، القبر خير من الفقر، إنه من قل ذل، ومن كر فر، من كرم الكريم الدفع عن الحريم، ولدهر يومان فيوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر، ليس يثبت منهما الملك المتوج، ولا اللئيم المعلهج، سلم ليومك حياك ربك، ثم أنشأ يقول:

شهدت السبايا يوم آل محرِّق * وأدرك أمري صيحة الله في الحجر

فلم أر ذا ملك من الناس واحدا * ولا سواقة إلا إلى الموت والقبر

فعل الذي أردى ثمودا وجرهما * سيعقب لي نسلا على آخر الدهر

تقربهم من آل عمرو بن عامر * عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر

فإن لم تك الأيام أبلين جِدّتي * وشيّبن رأسي والمشيب مع العمر

فإن لنا ربا علا فوق عرشه * عليما بما يأتي من الخير والشر

ألم يأت قومي أن لله دعوة * يفوز بها أهل السعادة والبر

إذا بعث المبعوث من آل غالب * بمكة فيما بين مكة والحجر

هنالك فابغوا نصره ببلادكم * بني عامر إن السعادة في النصر

قال: ثم قضى من ساعته.

باب في هواتف الجان

وقد تقدم كلام شق وسطيح لربيعة بن نصر ملك اليمن في البشارة بوجود رسول الله ، رسول ذكي يأتي إليه الوحي من قبل العلي، وسيأتي في المولد قول سطيح لعبد المسيح: إذا كثرت التلاوة، وغاضت بحيرة ساوة، وجاء صاحب الهراوة، يعني بذلك رسول الله كما سيأتي بيانه مفصلا.

وقال البخاري: حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، حدثني ابن وهب، حدثني عمرو - هو محمد بن زيد - أن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر قال: ما سمعت عمر يقول لشيء قط إني لأظنه إلا كان كما يظن. بينما عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، علي الرجل، فدعى به فقال له ذلك فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجلا مسلما.

قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا في السوق يوما جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت:

ألم تر الجن وإبلاسها * ويلسها من بعد أنكاسها؟

ولحوقها بالقلاص وأحلاسها

قال عمر: صدق، بينا أنا نائم عند آلهتهم، جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول: يا جليح أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فوثب القوم فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى يا جليح أمر نجيح، رجل فصيح يقول لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. تفرد به البخاري.

وهذا الرجل هو: سواد بن قارب الأردي، ويقال: السدوسي من أهل السراة من جبال البلقاء له صحبة ووفادة.

قال أبو حاتم، وابن منده: روى عنه سعيد بن جبير، وأبو جعفر محمد بن علي. وقال البخاري: له صحبة.

وهكذا ذكره في أسماء الصحابة أحمد بن روح البرذعي الحافظ، والدارقطني، وغيرهما.

وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري: سواد بن قارب بالتخفيف.

وقال عثمان الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي: كان من أشراف أهل اليمن، ذكره أبو نعيم في (الدلائل) وقد روى حديثه من وجوه أخر مطولة بالبسط من رواية البخاري.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان أنه حدث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول الله إذ أقبل رجل من العرب داخل المسجد، يريد عمر بن الخطاب، فلما نظر إليه عمر قال: إن الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد، أو لقد كان كاهنا في الجاهلية.

فسلم عليه الرجل ثم جلس، فقال له عمر: هل أسلمت؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فهل كنت كاهنا في الجاهلية؟

فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت، فقال عمر: اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام، ونعتنق الأوثان، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام.

قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية.

قال: فأخبرني ما جاء به صاحبك؟

قال: جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه، فقال: ألم تر إلى الجن وإبلاسها وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص وإحلاسها.

قال ابن إسحاق: هذا الكلام سجع ليس بشعر.

قال عبد الله بن كعب: فقال عمر عند ذلك يحدث الناس: والله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش قد ذبح له رجل من العرب عجلا، فنحن ننتظر قسمه أن يقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط أشد منه، وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه، يقول: يا ذريح أمر نجيح، رجل يصيح يقول: لا إله إلا الله.

قال ابن هشام: ويقال: رجل يصيح بلسان فصيح يقول: لا إله إلا الله. قال وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر:

عجبت للجن وإبلاسها * وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن كأنجاسها

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا يحيى بن حجر بن النعمان الشامي، حدثنا علي بن منصور الأنباري، عن محمد بن عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب القرظي قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالس، إذ مر به رجل فقيل: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار؟

قال: ومن هذا؟ قالوا: هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه بظهور رسول الله .

قال: فأرسل إليه عمر فقال له: أنت سواد بن قارب؟

قال: نعم، قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟

قال: فغضب، وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين! فقال عمر: يا سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، فأخبرني ما أنبأك رئيك بظهور رسول الله ؟

قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينما أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان، إذ أتاني رئي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب واسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما صادق الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم * ليس قداماها كأذنابها

قال: قلت: دعني أنام، فإني أمسيت ناعسا.

قال: فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب واسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته.

ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتحيارها * وشدها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن ككفارها

فارحل إلى الصفوة من هاشم * بين روابيها وأحجارها

قال: قلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتحساسها * وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما خير الجن كأنجاسها

فارحل إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى راسها

قال: فقمت وقلت: قد امتحن الله قلبي، فرحلت ناقتي، ثم أتيت المدينة - يعني مكة - فإذا رسول الله في أصحابه، فدنوت فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله، قال: هات. فأنشأت أقول:

أتاني نجيي بعد هدء ورقدة * ولم يك فيما قد تلوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة * أتاك رسول من لؤي بن غالب

فشمرت عن ذيلي الإزار ووسطت * بي الدعلب الوجناء غبر السباسب

فأشهد أن الله لا شيء غيره * وأنك مأمون على كل غالب

وأنك أدنى المرسلين وسيلة * إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى * وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة * سواك بمغن عن سواد بن قارب

قال: ففرح رسول الله وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤي الفرح في وجوههم، قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب فالتزمه وقال: قد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك، فهل يأتيك رئيك اليوم؟

قال: أما منذ قرأت القرآن فلا، ونعم العوض كتاب الله من الجن.

ثم قال عمر: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم: آل ذريح، وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه، إذ سمعنا صوتا من جوف العجل - ولا نرى شيئا - قال: يا آل ذريح: أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يشهد أن لاإله إلا الله. وهذا منقطع من هذا الوجه. ويشهد له رواية البخاري، وقد تساعدوا على أن السامع الصوت من العجل هو عمر بن الخطاب، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه الذي جمعه في (هواتف الجان): حدثنا أبو موسى عمران بن موسى المؤدب، حدثنا محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا سعيد بن عبيد الله الوصابي، عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: نشدتك بالله يا سواد بن قارب هل تحسن اليوم من كهانتك شيئا؟

فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين، ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به.

قال: سبحان الله يا سواد، ما كنا عليه من شركنا أعظم مما كنت عليه من كهانتك، والله يا سواد لقد بلغني عنك حديث إنه لعجيب من العجب.

قال: إي والله يا أمير المؤمنين إنه لعجب من العجب.

قال: فحدثنيه.

قال: كنت كاهنا في الجاهلية فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني نجي فضربني برجله، ثم قال: يا سواد اسمع أقل لك.

قلت: هات. قال:

عجبت للجن وأنجاسها * ورحلها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنوها مثل أرجاسها

فارحل إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى رأسها

قال: فنمت ولم أحفل بقوله شيئا، فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله، ثم قال لي: قم يا سواد بن قارب اسمع أقل لك. قلت: هات. قال:

عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما صادق الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم * ليس المقاديم كأذنابها

قال: فحرك قوله مني شيئا ونمت، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله، ثم قال: يا سواد بن قارب أتعقل أم لا تعقل؟

قلت: وما ذاك. قال: ظهر بمكة نبي يدعو إلى عبادة ربه فالحق به، اسمع أقل لك.

قلت: هات.

قال:

عجبت للجن وتنفارها * ورحلها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ما مؤمنو الجن ككفارها

فارحل إلى الصفوة من هاشم * بين روابيها وأحجارها

قال: فعلمت أن الله قد أراد بي خيرا فقمت إلى بردة لي ففتقتها ولبستها، ووضعت رجلي في غرز ركاب الناقة، وأقبلت حتى انتهيت إلى النبي ، فعرض علي الإسلام فأسلمت، وأخبرته الخبر فقال: « إذا اجتمع المسلمون فأخبرهم ».

فلما اجتمع المسلمون قمت فقلت:

أتاني نجي بعد هدء ورقدة * ولم يك فيما قد بلوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة * أتاك رسول من لؤي بن غالب

فشمرت عن ذيلي الأزار ووسطت * بي الدعلب الوجناء غبر السباسب

وأعلم أن الله لا رب غيره * وأنك مأمون على كل غائب

وأنك أدنى المرسلين وسيلة * إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل * وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

قال: فسر المسلمون بذلك، فقال عمر: هل تحس اليوم منها بشيء؟

قال: أما إذ علمني الله القرآن فلا.

وقد رواه محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن عمر بن حفص قال: لما ورد سواد بن قارب على عمر قال: يا سواد بن قارب ما بقي من كهانتك؟ فغضب وقال: ما أظنك يا أمير المؤمنين استقبلت أحدا من العرب بمثل هذا، فلما رأى ما في وجهه من الغضب قال: انظر سواد للذي كنا عليه قبل اليوم من الشرك أعظم.

ثم قال: يا سواد حدثني حديثا كنت أشتهي أسمعه منك، قال: نعم، بين أنا في إبل لي بالسراة ليلا وأنا نائم، وكان لي نجي من الجن أتاني، فضربني برجله فقال لي: قم يا سواد بن قارب فقد ظهر بتهامة نبي يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فذكر القصة كما تقدم، وزاد في آخر الشعر:

وكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة * سواك بمغن عن سواد بن قارب

فقال رسول الله : « سر في قومك وقل هذا الشعر فيهم ».

ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق سليمان بن عبد الرحمن، عن الحكم بن يعلى بن عطاء المحاربي، عن عباد بن عبد الصمد، عن سعيد بن جبير قال: أخبرني سواد بن قارب الأزدي قال: كنت نائما على جبل من جبال السراة، فأتاني آت فضربني برجله، وذكر القصة أيضا.

ورواه أيضا من طريق محمد بن البراء، عن أبي بكر ابن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: قال سواد بن قارب: كنت نازلا بالهند فجاءني رئي ذات ليلة فذكر القصة. وقال بعد إنشاد الشعر الأخير:

فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه وقال: « أفلحت يا سواد ».

وقال أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة): حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا عبد الرحمن بن الحسن علي بن حرب، حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله العماني قال:

كان منا رجل يقال له مازن بن العضوب يسدن صنما بقرية يقال لها سمايا من عمان، وكانت تعظمه بنو الصامت، وبنو حطامة، ومهرة - وهم أخوال مازن - أمه زينب بنت عبد الله بن ربيعة بن خويص أحد بني نمران.

قال مازن: فعترنا يوما عند الصنم عتيرة - وهي الذبيحة - فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن اسمع تسر ظهر خير وبطن شر، بعث نبي من مضر بدين الله الأكبر، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حر سقر.

قال: ففزعت لذلك فزعا شديدا، ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا من الصنم يقول: أقبل إلي، أقبل تسمع ما لا تجهل، هذا نبي مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كي تعدل عن حر نار تشعل، وقودها الجندل.

قال مازن: فقلت: إن هذا لعجب، وإن هذا لخير يراد بي، وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت: ما الخبر وراءك؟ فقال: ظهر رجل يقال له أحمد، يقول لمن أتاه: أجيبوا داعي الله.

فقلت: هذا نبأ ما سمعت، فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا، وركبت راحلتي حتى قدمت على رسول الله فشرح الله صدري للإسلام فأسلمت، وقلت:

كسرت باجرا أجذاذا وكان لنا * ربا نطيف به ضلا بتضلال

فالهاشمي هدانا من ضلالتنا * ولم يكن دينه مني على بال

يا راكبا بلِّغن عمرا وإخوتها * إني لمن قال ربي باجر قالي

يعني يعمرو الصامت وإخوتها حطامة. فقلت يا رسول الله: إني امرؤ مولع بالطرب، وبالهلوك من النساء وشرب الخمر، وألحت علينا السنون فأذهبن الأموال، وأهزلن السراري، وليس لي ولد، فادعُ الله أن يذهب عني ما أجد ويأتينا بالحيا، ويهب لي ولدا.

فقال النبي : « اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وبالإثم وبالعهر عفة، وآته بالحيا وهب له ولدا ».

قال: فأذهب الله عني ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر، وحفظت شطر القرآن، ووهب لي حيان بن مازن، وأنشأ يقول:

إليك رسول الله خبت مطيتي * تجوب الفيافي من عمان إلى العرج

لتشفع لي يا خير من وطىء الحصى * فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج

إلى معشر خالفت في الله دينهم * فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي

وكنت امرءا بالخمر والعهر مولعا * شبابي حتى آذن الجسم بالنهج

فبدلني بالخمر خوفا وخشية * وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي

فأصبحت همي في الجهاد ونيتي * فلله ما صومي ولله ما حجي

قال: فلما أتيت قومي أنبوني وشتموني، وأمروا شاعرا لهم فهجاني، فقلت: إن رددت عليه فإنما أهجو نفسي، فرحلت عنهم فأتتني منهم زلفة عظيمة، وكنت القيم بأمورهم.

فقالوا: يا ابن عم عبنا عليك أمرا وكرهنا ذلك، فإن أبيت ذلك فارجع، وقم بأمورنا، وشأنك وما تدين، فرجعت معهم وقلت:

لبغضكم عندنا مر مذاقته * وبغضنا عندكم يا قومنا لبن

لا يفطن الدهر إن بثت معائبكم * وكلكم حين يثني عيبنا فطن

شاعرنا مفحم عنكم وشاعركم * في حدبنا مبلغ في شتمنا لسن

ما في القلوب عليكم فاعلموا وغر * وفي قلوبكم البغضاء والإحن

قال مازن: فهداهم الله بعد إلى الاسلام جميعا.

وروى الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله : أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن، فجاء في صورة طائر أبيض، فوقع على حائط لهم. فقالت له: لم لا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك، وتخبرنا ونخبرك؟

فقال لها: إنه قد بعث نبي بمكة، حرم الزنا، ومنع منا القرار.

وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن علي بن الحسين قال: إن أول خبر قدم المدينة عن رسول الله : أن امرأة تدعى فاطمة كان لها تابع، فجاءها ذات يوم فقام على الجدار، فقالت: ألا تنزل؟

فقال: لا إنه قد بعث الرسول الذي حرم الزنا.

وأرسله بعض التابعين أيضا وسماه بابن لوذان، وذكر أنه كان قد غاب عنها مدة، ثم لما قدم عاتبته فقال: إني جئت الرسول فسمعته يحرم الزنا فعليك السلام.

وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: قال عثمان بن عفان: خرجنا في عير إلى الشام - قبل أن يبعث رسول الله - فلما كنا بأفواه الشام - وبها كاهنة - فتعرضتنا فقالت: أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت: ألا تدخل؟

فقال: لا سبيل إلى ذلك خرج أحمد، وجاء أمر لا يطاق. ثم انصرفت فرجعت إلى مكة فوجدت رسول الله قد خرج بمكة، يدعو إلى الله عز وجل.

و قال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله الزهري قال: كان الوحي يسمع، فلما كان الإسلام منعوا، وكانت امرأة من بني أسد يقال لها سعيرة لها تابع من الجن، فلما رأى الوحي لا يستطاع، أتاها فدخل في صدرها، فضج في صدرها فذهب عقلها، فجعل يقول من صدرها: وضع العناق، ومنع الرفاق، وجاء أمر لا يطاق، وأحمد حرم الزنا.

وقال الحافظ أبو بكر الخرائطي: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي - بمصر - حدثنا عمارة بن زيد، حدثنا عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان، عمن حدثه، عن مرداس بن قيس السدوسي قال: حضرت النبي - وقد ذكرت عنده الكهانة وما كان من تغييرها عند مخرجه -

فقلت: يا رسول الله قد كان عندنا في ذلك شيء، أخبرك أن جارية منا يقال لها: الخلصة لم يعلم عليها إلا خيرا، إذا جاءتنا فقالت: يا معشر دوس العجب العجب لما أصابني، هل علمتم إلا خيرا؟

قلنا: وما ذاك. قالت: إني لفي غنمي إذ غشيتني ظلمة، ووجدت كحس الرجل مع المرأة فقد خشيت أن أكون قد حبلت، حتى إذا دنت ولادتها وضعت غلاما أغضف له أذنان كأذني الكلب، فمكث فينا حتى إنه ليلعب مع الغلمان، إذ وثب وثبة وألقى إزاره وصاح بأعلى صوته، وجعل يقول: يا ويلة يا ويلة، يا عولة يا عولة، يا ويل غنم، يا ويل فهم من قابس النار، الخيل والله وراء العقبة، فيهن فتيان حسان نجبة.

قال: فركبنا وأخذنا للأداة، وقلنا: يا ويلك ما ترى؟

فقال: هل من جارية طامث، فقلنا: ومن لنا بها؟

فقال شيخ منا: هي والله عندي عفيفة الأم، فقلنا: فعجلها، فأتى بالجارية وطلع الجبل، وقال للجارية اطرحي ثوبك، واخرجي في وجوههم.

وقال للقوم: اتبعوا أثرها.

وقال لرجل منا يقال له أحمد بن حابس: يا أحمد بن حابس عليك أول فارس، فحمل أحمد فطعن أول فارس فصرعه، وانهزموا فغنمناهم.

قال: فابتنينا عليهم بيتا وسميناه ذا الخلصة، وكان لا يقول لنا شيئا إلا كان كما يقول، حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله قال لنا يوما: يا معشر دوس نزلت بنو الحارث بن كعب فركبنا، فقال لنا: اكدسوا الخيل كدسا، احشوا القوم رمسا، انفوهم غدية واشربوا الخمر عشية.

قال: فلقيناهم، فهزمونا وغلبونا، فرجعنا إليه فقلنا: ما حالك وما الذي صنعت بنا؟ فنظرنا إليه وقد احمرت عيناه، وانتصبت أذناه، وانبرم غضبانا، حتى كاد أن ينفطر وقام، فركبنا واغتفرنا هذه له، ومكثنا بعد ذلك حينا، ثم دعانا فقال: هل لكم في غزوة تهب لكم عزا، وتجعل لكم حرزا، ويكون في أيديكم كنزا؟

فقلنا: ما أحوجنا إلى ذلك. فقال: اركبوا فركبنا، فقلنا: ما نقول؟ فقال: بنو الحارث بن مسلمة. ثم قال: قفوا. فوقفنا.

ثم قال: عليكم بفهم، ثم قال: ليس لكم فيهم دم، عليكم بمضرهم أرباب خيل، ونعم. ثم قال: لا، رهط دريد بن الصمة قليل العدد، وفي الذمة ثم قال: لا. ولكن عليكم بكعب بن ربيعة وأسكنوها ضيعة عامر بن صعصعة، فليكن بهم الوقيعة.

قال: فلقيناهم فهزمونا، وفضحونا فرجعنا، وقلنا: ويلك ماذا تصنع بنا؟ قال: ما أدري كذبني الذي كان يصدقني، اسجنوني في بيتي ثلاثا، ثم ائتوني، ففعلنا به ذلك ثم أتيناه بعد ثالثة، ففتحنا عنه فإذا هو كأنه حجرة نار.

فقال: يا معشر دوس، حرست السماء وخرج خير الأنبياء. قلنا: أين؟ قال: بمكة، وأنا ميت فادفنوني في رأس جبل، فإني سوف أضطرم نارا، وإن تركتموني كنت عليكم عارا، فإذا رأيتم اضطرامي وتلهبي فاقذفوني بثلاثة أحجار، ثم قولوا مع كل حجر: بسمك اللهم فإني أهدى وأطفى.

قال: وإنه مات فاشتعل نار، ففعلنا به ما أمر، وقد قذفناه بثلاثة أحجار نقول مع كل حجر: بسمك اللهم فخمد وطفى، وأقمنا حتى قدم علينا الحاج فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله. غريب جدا.

وروى الواقدي، عن أبيه، عن ابن أبي ذئب، عن مسلم بن جندب، عن النضر بن سفيان الهذلي، عن أبيه قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقا ومعان، قد عرسنا من الليل، فإذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض: أيها النيام هبوا، فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد فطردت الجن كل مطرد، ففزعنا ونحن رفقة حزورة، كلهم قد سمع بهذا.

فرجعنا إلى أهلنا، فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش في نبي قد خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد، ذكره أبو نعيم.

وقال الخرائطي: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي - بمصر - حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبد الله بن العلاء، حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا.

كانوا يعظمونه وينحرون له الجزور، ثم يأكلون ويشربون الخمر، ويعكفون عليه فدخلوا عليه في الليل، فرأوه مكبوبا على وجهه، فأنكروا ذلك فأخذوه فردوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا، فأخذوه فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فلما رأوا ذلك اغتموا له وأعظموا ذلك.

فقال عثمان بن الحويرث: ما له قد أكثر التنكس إن هذا الأمر قد حدث، وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله فجعل عثمان يقول:

أبا صنم العيد الذي صُفَّ حوله * صناديد وفد من بعيد ومن قُرب

تنكّست مغلوبا فما ذاك قُلْ لنا * أذاك سفيه أم تنكست للعتب

فإن كان من ذنب أتينا فإننا * نبوءُ بإقرار ونلوي عن الذنب

وإن كنت مغلوبا ونُكِّست صاغرا * فما أنت في الأوثان بالسيد الرب

قال: فأخذوا الصنم فردوه إلى حاله، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير وهو يقول:

تردّى لمولود أنارتْ بنوره * جميع فجاج الأرض في الشرق والغرب

وخرت له الأوثان طرا وأرعدتْ * قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب

ونار جميع الفرس باخت وأظلمت * وقد بات شاهُ الفرس في أعظم الكرب

وصدّتْ عن الكهان بالغيب جنّها * فلا مخبرُ عنهم بحق ولا كذب

فيا لقصيِّ ارجعوا عن ضلالكم * وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب

قال: فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض، فقالوا: أجل. فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد اخطئوا الحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يضر، يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين، فإنكم و الله ما أنتم على شيء.

قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض، ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ؛ فأما ورقة بن نوفل فتنصر وقرأ الكتب حتى علم علما.

وأما عثمان بن الحويرث فسار إلى قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده.

وأما زيد بن عمرو بن نفيل فأراد الخروج فحبس، ثم إنه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض حتى بلغ الرقة من أرض الجزيرة، فلقي بها راهبا عالما فأخبره بالذي يطلب، فقال له الراهب: إنك لتطلب دينا ما تجد من يحملك عليه، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك، يبعث بدين الحنيفية، فلما قال له ذلك، رجع يريد مكة فغارت عليه لخم فقتلوه.

وأما عبد الله بن جحش فأقام بمكة حتى بعث النبي ، ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة، فلما صار بها تنصر وفارق الإسلام فكان بها حتى هلك هنالك نصرانيا. تقدم في ترجمة زيد بن عمر بن نفيل له شاهد.

وقد قال الخرائطي: حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح أبو بكر الوراق، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن عبد العزيز، حدثني محمد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أنس السلمي، عن العباس بن مرداس أنه كان يعر في لقاح له نصف النهار، إذ طلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب بياض مثل اللبن.

فقال: يا عباس بن مرداس ألم تر أن السماء قد كفت أحراسها، وأن الحرب تجرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل بالبر والتقوى، يوم الإثنين ليلة الثلاثاء، صاحب الناقة القصوى.

قال: فرجعت مرعوبا قد راعني ما رأيت وسمعت، حتى جئت وثنا لنا يدعى الضماد وكنا نعبده ونكلم من جوفه، فكنست ما حوله، ثم تمسحت به وقبلته فإذا صائح من جوفه يقول:

قلْ للقبائل من سليم كلها * هلك الضماد وفاز أهلُ المسجد

هلك الضماد وكان يُعبدُ مرة * قبل الصلاة مع النبي محمد

إن الذي ورِث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريشٍ مهتد

قال: فخرجت مرعوبا حتى أتيت قومي فقصصت عليهم القصة، وأخبرتهم الخبر، وخرجت في ثلاثمائة من قومي بني حارثة إلى رسول الله وهو بالمدينة، فدخلنا المسجد فلما رآني رسول الله قال لي:

« يا عباس، كيف كان إسلامك؟ » فقصصت عليه القصة.

قال فسر بذلك، وأسلمت أنا وقومي.

ورواه الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) من حديث أبي بكر بن أبي عاصم عن عمرو بن عثمان به.

ثم رواه أيضا من طريق الأصمعي: حدثني الوصافي عن منصور بن المعتمر، عن قبيصة بن عمرو بن إسحاق الخزاعي، عن العباس بن مرداس السلمي قال: أول إسلامي أن مرداسا أبي لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال له ضماذ، فجعلته في بيت، وجعلت آتيه كل يوم مرة، فلما ظهر النبي سمعت صوتا مرسلا في جوف الليل راعني، فوثبت إلى ضماد مستغيثا وإذا بالصوت من جوفه وهو يقول:

قل للقبيلة من سليم كلها * هلك الأنيس وعاش أهل المسجد

أودى ضماد وكان يعبد مرة * قبل الكتاب إلى النبي محمد

إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتد

قال: فكتمته الناس، فلما رجع الناس من الأحزاب، بينا أنا في إبلي بطرف العقيق من ذات عرق راقدا، سمعت صوتا وإذا برجل على جناح نعامة وهو يقول: النور الذي وقع ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء في ديار إخوان بني العنقاء، فأجابه هاتف من شماله وهو يقول:

بشر الجن وإبلاسها * إن وضعت المطي أحلاسها

وكلأَتِ السماء أحراسها

قال: فوثبت مذعورا، وعلمت أن محمدا مرسل، فركبت فرسي واحتثثت السير، حتى انتهيت إليه فبايعته ثم انصرفت إلى ضماد فأحرقته بالنار، ثم رجعت إلى رسول الله فأنشدته شعرا أقول فيه:

لعمرك إني يوم أجعل جاهلا * ضمادا لرب العالمين مشاركا

وتركي رسول الله والأوس حوله * أولئك أنصار له ما أولئكا

كتاركِ سهل الأرض والحزن يبتغي * ليسلك في وعثِ الأمور المسالكا

فآمنت بالله الذي أنا عبدهُ * وخالفت من أمسى يريد المهالكا

ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا * أبايع نبي الأكرمين المباركا

نبي أتانا بعد عيسى بناطقٍ * من الحق فيه الفصل فيه كذلكا

أمين على القرآن أولُ شافع * وأول مبعوث يجيب الملائكا

تلافى عرى الإسلام بعد انتقاضها * فأحكمها حتى أقام المناسكا

عنيتُك يا خير البرية كلها * توسطتَ في الفرعين والمجد مالكا

وأنتَ المصفى من قريش إذا سمت * على ضمرها تبقى القرون المباركا

إذا انتسب الحيان كعب ومالك * وجدناك محضا والنساء العواركا

قال الخرائطي: وحدثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر، حدثنا عمارة بن زيد، حدثنا إسحاق بن بشر وسلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، حدثني شيخ من الأنصار يقال له: عبد الله بن محمود من آل محمد بن مسلمة قال:

بلغني أن رجالا من خثعم كانوا يقولون: إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قوما نعبد الأوثان، فبينا نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل نفر يتقاضون إليه، يرجون الفرج من عنده لشيء شجر بينهم، إذ هتف بهم هاتف يقول:

يا أيها الناس ذوو الأجسام * من بين أشياخٍ إلى غلام

ما أنتم وطائش الأحلام * ومسند الحُكم إلى الأصنام

أكلكم في حيرةٍ نيام * أم لا تَرون ما الذي أمامي

من ساطع يجلو دُجى الظلام * قد لاح للناظر من تِهَام

ذاك نبي سيد الأنام * قد جاء بعد الكفر بالإسلام

أكرمه الرحمن من إمام * ومن رسولٍ صادق الكلام

أعدل ذي حكم من الأحكام * يأمرُ بالصلاة والصيام

والبر والصلات للأرحام * ويزجرُ الناس عن الآثام

والرجسِ والأوثانِ والحرام * من هاشمٍ في ذروة السنام

مستعلنا في البلد الحرام

قال: فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه، وآتينا النبي فأسلمنا.

وقال الخرائطي: حدثنا عبد الله البلوي، حدثنا عمارة، حدثني عبيد الله بن العلاء، حدثنا محمد بن عكبر، عن سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم يقال له: رافع بن عمير - وكان أهدى الناس للطريق، وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، وكانت العرب تسميه لذلك دعموص العرب، لهدايته وجراوته على السير - فذكر عن بدء إسلامه قال:

إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم، فنزلت عن راحلتي ونختها وتوسدت ذراعها ونمت، وقد تعوذت قبل نومي فقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن من أن أوذي أو أهاج، فرأيت في منامي رجلا شابا يرصد ناقتي وبيده حربة يريد أن يضعها في نحرها، فانتبهت لذلك فزعا، فنظرت يمينا وشمالا فلم أرَ شيئا فقلت: هذا حلم.

ثم عدت فغفوت فرأيت في منامي مثل رؤياي الأولى، فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أرَ شيئا، وإذا ناقتي ترعد.

ثم غفوت فرأيت مثل ذلك، فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب والتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيت في المنام بيده حربة، ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها وهو يقول:

يا مالكَ بن مهلهل بن دِثار * مهلا فدىً لك مئزري وإزاري

عن ناقةِ الأنسي لا تعرض لها * واختَرْ بها ما شئت من أثواري

ولقد بدا لي منكَ ما لم أحتسب * ألا رعيتَ قرابتي وذِماري

تسمو إليه بحربةٍ مسمومةٍ * تُبا لفعلك يا أبا الغفار

لولا الحياءُ وأن أهلك جيرة * لعلمت ما كشّفتُ من أخباري

قال: فأجابه الشاب وهو يقول:

أأردتَ أن تعلو وتخفض ذكرنا * في غير مزرية أبا العيزار

ما كان فيهم سيد فيما مضى * إن الخيارَ هُمو بنو الأخيار

فاقصِدْ لقصدك يا معكبرُ إنما * كان المجيرُ مُهلهِلَ بن دثار

قال: فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش، فقال الشيخ للفتى: قم يا ابن أخت فخذ أيها شئت فداءً لناقة جاري الأنسي، فقام الفتى فأخذ منها ثورا وانصرف. ثم التفت إلى الشيخ فقال: يا هذا إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل: أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها.

قال: فقلت له: ومن محمد هذا؟ قال: نبي عربي، لا شرقي ولا غربي، بعث يوم الإثنين.

قلت: وأين مسكنه؟ قال: يثرب ذات النخل.

قال: فركبت راحلتي حين برق لي الصبح، وجددت السير حتى تقحمت المدينة، فرآني رسول الله فحدثني بحديث قبل أن أذكر له منه شيئا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت.

قال سعيد بن جبير: وكنا نرى أنه هو الذي أنزل الله فيه { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا } 278.

وروى الخرائطي من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، عن داود بن الحسين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن علي قال: إذا كنت بوادٍ تخاف السبع فقل: أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد.

وروى البلوي عن عمارة بن زيد، عن إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، حدثني يحيى بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه، عن ابن عباس قصة قتال علي الجن بالبئر ذات العلم التي بالجحفة حين بعثه رسول الله يستقي لهم الماء، فأرادوا منعه وقطعوا الدلو فنزل إليهم، وهي قصة مطولة منكرة جدا، والله أعلم.

وقال الخرائطي: حدثني أبو الحارث: محمد بن مصعب الدمشقي وغيره، حدثنا سليمان بن بنت شرحبيل الدمشقي، حدثنا عبد القدوس بن الحجاج، حدثنا خالد بن سعيد، عن الشعبي، عن رجل قال:

كنت في مجلس عمر بن الخطاب وعنده جماعة من أصحاب النبي يتذاكرون فضائل القرآن، فقال بعضهم: خواتيم سورة النحل، وقال بعضهم: سورة يس، وقال علي: فأين أنتم عن فضيلة آية الكرسي أما إنها سبعون كلمة في كل كلمة بركة. قال وفي القوم عمرو بن معدي كرب لا يحير جوابا، فقال: أين أنتم عن بسم الله الرحمن الرحيم؟

فقال عمر: حدثنا يا أبا ثور.

قال: بينا أنا في الجاهلية إذ جهدني الجوع فأقحمت فرسي في البرية، فما أصبت إلا بيض النعام، فبينا أنا أسير إذا أنا بشيخ عربي في خيمة، وإلى جانبه جارية كأنها شمس طالعة ومعه غنيمات له، فقلت له: استأسر ثكلتك أمك، فرفع رأسه إلي وقال: يا فتى إن أردت قرى فانزل، وإن أردت معونة أعنَّاك؟

فقلت له: أستأسر.

فقال:

عرضنا عليك النّزْل منا تكرما * فلم ترعوي جهلا كفعل الأشائم

وجئتَ ببهتان وزور ودون ما * تمنّيتهُ بالبيض حزُّ الغلاصم

قال: ووثب إلي وثبة وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فكأني مثلت تحته. ثم قال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قلت: بل خلِّ عني. قال: فخلى عني. ثم إن نفسي جاذبتني بالمعاودة فقلت: استأسر ثكلتك أمك، فقال:

ببسم الله والرحمن فُزْنا * هنالك والرحيمُ به قَهَرنا

وما تغني جلادة ذي حفاظٍ * إذا يوما لمعركة برزنا

ثم وثب لي وثبة كأني مثلت تحته. فقال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قال: قلت بل خل عني، فخلى عني فانطلقت غير بعيد. ثم قلت في نفسي: يا عمرو أيقهرك هذا الشيخ، والله للموت خير لك من الحياة، فرجعت إليه فقلت له: استأسر ثكلتك أمك، فوثب إلي وثبة وهو يقول: بسم الله الرحمن الرحيم فكأني مثلت تحته.

فقال: أقتلك أم أخلي عنك؟ قلت: بل خل عني. فقال: هيهات، يا جارية إئتني بالمدية، فأتته بالمدية فجزَّ ناصيتي. وكانت العرب إذا ظفرت برجل فجزت ناصيته استعبدته، فكنت معه أخدمه مدة.

ثم إنه قال: يا عمرو أريد أن تركب معي البرية، وليس بي منك وجل، فإني ببسم الله الرحمن الرحيم لواثق.

قال: فسرنا حتى أتينا واديا أشبا مهولا مغولا، فنادى بأعلى صوته: بسم الله الرحمن الرحيم، فلم يبق طير في وكره إلا طار. ثم أعاد القول فلم يبق سبع في مربضه إلا هرب. ثم أعاد الصوت فإذا نحن بحبشي قد خرج علينا من الوادي كالنخلة السحوق.

فقال لي: ياعمرو إذ رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم.

قال: فلما رأيتهما قد اتحدا قلت: غلبه صاحبي باللات والعزى فلم يصنع الشيخ شيئا، فرجع إلي وقال: قد علمت أنك قد خالفت قولي

قلت: أجل ولست بعائد، فقال: إذا رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم، فقلت: أجل. فلما رأيتهما قد اتحدا قلت: غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم، فاتكأ عليه الشيخ، فبعجه بسيفه فاشتق بطنه فاستخرج منه شيئا كهيئة القنديل الأسود. ثم قال: يا عمرو هذا غشه وغله. ثم قال: أتدري من تلك الجارية؟ قلت: لا.

قال: تلك الفارعة بنت السليل الجرهمي من خيار الجن، وهؤلاء أهلها بنو عمها يغزونني منهم كل عام رجل ينصرني الله عليه ببسم الله الرحمن الرحيم.

ثم قال: قد رأيت ما كان مني إلى الحبشي، وقد غلب علي الجوع فائتني بشيء آكله، فأقحمت بفرسي البرية، فما أصبت الأبيض النعام، فأتيته به فوجدته نائما، وإذا تحت رأسه شيء كهيئة الحشبة، فاستللته فإذا هو سيف عرضه شبر في سبعة أشبار، فضربت ساقيه ضربة أبنت الساقين مع القدمين، فاستوى على قفا ظهره وهو يقول: قاتلك الله ما أغدرك يا غدار.

قال عمر: ثم ماذا صنعت؟ قلت: فلم أزل أضربه بسيفي حتى قطعته إربا إربا. قال: فوجم لذلك ثم أنشأ يقول:

بالغدر نلت أخا الإسلام عن كثب * ما إن سمعت كذا في سالف العرب

والعجم تأنف مما جئته كرما * تبا لما جئته في السيد الأرب

إني لأعجب أني نلت قتلته * أم كيف جازاك عند الذنب لم تنب

قرم عفا عنك مرات وقد علقت * بالجسم منك يداه موضع العطب

لو كنت آخذٍ في الإسلام ما فعلوا * في الجاهلية أهل الشرك والصلب

إذا لنالتك من عدلي مشطبة * تدعو لذائقها بالويل والحرب

قال: ثم ما كان من حال الجارية قلت: ثم إني أتيت الجارية فلما رأتني قالت: ما فعل الشيخ؟ قلت: قتله الحبشي. فقالت: كذبت بل قتلته أنت بغدرك، ثم أنشأت تقول:

يا عين جودي للفارس المغوار * ثم جودي بواكفات غزار

لا تملي البكاء إذ خانك الدهر * بواف حقيقة صبار

وتقي وذي وقار وحلم * وعديل الفخار يوم الفخار

لهف نفسي على بقائك عمرو * أسلمتك الأعمار للأقدار

ولعمري لو لم ترمه بغدر * رمت ليثا كصارم بتار

قال: فأحفظني قولها فاستللت سيفي ودخلت الخيمة لأقتلها، فلم أر في الخيمة أحدا، فاستقت الماشية وجئت إلى أهلي وهذا أثر عجيب.

والظاهر أن الشيخ كان من الجان، وكان ممن أسلم وتعلم القرآن، وفيما تعلمه بسم الله الرحمن الرحيم، وكان يتعوذ بها.

وقال الخرائطي: حدثنا عبد الله بن محمد البلوى، حدثنا عمارة بن زيد قال: حدثني عبد الله بن العلاء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: كان زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل يذكران أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع أبرهة من مكة، قالا: فلما دخلنا عليه قال لنا: أصدقاني أيها القرشيان هل ولد فيكم مولود أراد أبوه ذبحه فضرب عليه بالقداح فسلم، ونحرت عنه إبل كثيرة؟

قلنا: نعم. قال: فهل لكما علم به ما فعل؟ قلنا: تزوج امرأة يقال لها آمنة بنت وهب، تركها حاملا وخرج. قال: فهل تعلمان ولد أم لا؟ قال ورقة بن نوفل: أخبرك أيها الملك أني ليلة قد بت عند وثن لنا كنا نطيف به ونعبده إذ سمعت من جوفه هاتفا يقول:

ولد النبي فذلت الأملاك * ونأى الضلال وأدبر الإشراك

ثم انتكس الصنم على وجهه، فقال زيد بن عمرو بن نفيل: عندي كخبره أيها الملك. قال: هات. قال: أنا في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه، خرجت من عند أهلي وهم يذكرون حمل آمنة، حتى أتيت جبل أبي قبيس أريد الخلو فيه لأمر رابني، إذ رأيت رجلا نزل من السماء له جناحان أخضران، فوقف على أبي قبيس، ثم أشرف على مكة فقال: ذل الشيطان، وبطلت الأوثان، ولد الأمين.

ثم نشر ثوبا معه، وأهوى به نحو المشرق والمغرب، فرأيته قد جلل ما تحت السماء، وسطع نور كاد أن يختطف بصري، وهالني ما رأيت، وخفق الهاتف بجناحيه حتى سقط على الكعبة، فسطع له نور أشرقت له تهامة.

وقال: ذكت الأرض، وأدت ربيعها، وأومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة فسقطت كلها.

قال النجاشي: ويحكما أخبركما عما أصابني ؛ إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبة وقت خلوتي، إذ خرج علي من الأرض عنق ورأس، وهو يقول: حل الويل بأصحاب الفيل، رمتهم طير أبابيل، بحجارة من سجيل، هلك الأشرم المعتدي المجرم، وولد النبي الأمي المكي الحرمي، من أجابه سعد، ومن أباه عتد.

ثم دخل الأرض فغاب، فذهبت أصيح فلم أطق الكلام، ورمت القيام فلم أطق، القيام فصرعت القبة بيدي فسمع بذلك أهلي فجاؤني. فقلت: أحجبوا عني الحبشة فحجبوهم عني، ثم أطلق عن لساني ورجلي.

وسيأتي إن شاء الله تعالى في قصة المولد رؤيا كسرى في سقوط أربع عشرة شرافة من إيوانه، وخمود نيرانه، ورؤيا موئذانه، وتفسير سطيح لذلك على يدي عبد المسيح.

وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في (تاريخه) في ترجمة الحارث بن هانىء بن المدلج بن المقداد بن زمل بن عمرو العذري، عن أبيه، عن جده، عن أبيه، عن زمل بن عمرو العذري قال: كان لبني عذرة صنم يقال له حمام، وكانوا يعظمونه، وكان في بني هند بن حرام بن ضبة بن عبد بن كثير بن عذرة، وكان سادنه رجلا يقال له طارق، وكانوا يعترون عنده.

فلما ظهر رسول الله سمعنا صوتا يقول: يا بني هند بن حرام ظهر الحق، وأودى صمام، ودفع الشرك الإسلام. قال: ففزعنا لذلك وهالنا فمكثنا أياما، ثم سمعنا صوتا وهو يقول: يا طارق يا طارق، بعث النبي الصادق، بوحي ناطق، صدع صادع بأرض تهامة، لناصريه السلامة، ولخاذليه الندامة، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة.

قال زمل: فوقع الصنم لوجهه. قال: فابتعت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي مع نفر من قومي، وأنشدته شعرا قلته:

إليك رسول الله أعملت نصها * وكلفتها حزنا وغورا من الرمل

لأنصر خير الناس نصرا مؤزرا * وأعقد حبلا من حبالك في حبلي

وأشهد أن الله لا شيء غيره * أدين به ما أثقلت قدمي نعلي

قال: فأسلمت وبايعته، وأخبرناه بما سمعنا فقال: ذاك من كلام الجن، ثم قال: يا معشر العرب إني رسول الله إليكم وإلى الأنام كافة، أدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإني رسوله وعبده، وأن تحجوا البيت، وتصوموا شهرا من اثني عشر شهرا وهو شهر رمضان، فمن أجابني فله الجنة نزلا، ومن عصاني كانت النار له منقلبا.

قال: فأسلمنا وعقد لنا لواء، وكتب لنا كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لزمل بن عمرو ومن أسلم معه خاصة، إني بعثته إلى قومه عامدا فمن أسلم ففي حزب الله ورسوله، ومن أبى فله أمان شهرين، شهد علي بن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة الأنصاري. ثم قال ابن عساكر غريب جدا.

وقال سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في (مغازيه): حدثني محمد بن سعيد - يعني عمه - قال: قال محمد بن المنكدر: إنه ذكر لي عن ابن عباس قال: هتف هاتف من الجن على أبي قبيس فقال:

قبح الله رأيكم آل فهر * ما أدق العقول والأفهام

حين تعصى لمن يعيب عليها * دين آبائها الحماة الكرام

حالف الجن جن بصرى عليكم * ورجال النخيل والآطام

توشك الخيل أن تردها تهادى * تقتل القوم في حرام بهام

هل كريم منكم له نفس حر * ماجذ الوالدين والأعمام

ضارب ضربة تكون نكالا * ورواحا من كربة واغتمام

قال ابن عباس: فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة يتناشدونه بينهم، فقال رسول الله :

« هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له: مسعر والله مخزيه ».

فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول:

نحن قتلنا في ثلاث مسعرا * إذ سفه الجن وسن المنكرا

قنعته سيفا حساما مشهرا * بشتمه نبينا المطهرا

فقال رسول الله : « هذا عفريت من الجن اسمه سمج آمن بي سميته عبد الله أخبرني أنه في طلبه ثلاثة أيام ».

فقال علي: جزاه الله خيرا يا رسول الله.

وقد روى الحافظ أبو نعيم في (الدلائل) قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن بن جعفر، حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن بن موسى بن أبي حرب الصفار، حدثنا عباس بن الفرج الرياشي، حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت، عن أبيه، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة قال:

بعثني رسول الله إلى حضرموت في حاجة قبل الهجرة، حتى إذا كنت في بعض الطريق ساعة من الليل، فسمعت هاتفا يقول:

أبا عمرو ناوبني السهود * وراح النوم وامتنع الهجود

لذكر عصابة سلفوا وبادوا * وكل الخلق قصرهم يبيد

تولوا واردين إلى المنايا * حياضا ليس منهلها الورود

مضوا لسبيلهم وبقيت خلفا * وحيدا ليس يسعفني وحيد

سدى لا أستطيع علاج أمر * إذا ما عالج الطفل الوليد

فلأيا ما بقيت إلى أناس * وقد باتت بمهلكها ثمود

وعاد والقرون بذي شعوب * سواء كلهم إرم حصيد

قال: ثم صاح به آخر: يا خرعب ذهب بك العجب إن العجب كل العجب بين زهرة ويثرب.

قال: وما ذاك يا شاحب؟

قال: نبي السلام، بعث بخير الكلام إلى جميع الأنام، فاخرج من البلد الحرام، إلى نخيل وآطام.

قال: ما هذا النبي المرسل، والكتاب المنزل، والأمي المفضل؟

قال: رجل من ولد لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.

قال: هيهات فات عن هذا سني، وذهب عنه زمني، لقد رأيتني والنضر بن كنانة نرمي غرضا واحدا، ونشرب حلبا باردا، ولقد خرجت به من دوحة في غداة شبمة، وطلع مع الشمس، وغرب معها، يروي ما يسمع، ويثبت ما يبصر، ولئن كان هذا من ولده لقد سل السيف، وذهب الخوف، ودحض الزنا، وهلك الربا.

قال: فأخبرني ما يكون.

قال: ذهبت الضراء والبؤس، والمجاعة والشدة والشجاعة، إلا بقية في خزاعة، وذهبت الضراء والبؤس، والخلق المنفوس إلا بقية من الخزرج والأوس، وذهبت الخيلاء والفخر، والنميمة والغدر، إلا بقية في بني بكر - يعني ابن هوازن - وذهب الفعل المندم، والعمل المؤتم، إلا بقية في خثعم.

قال: أخبرني ما يكون. قال: إذا غلبت البرة، وكظمت الحرة، فاخرج من بلاد الهجرة، وإذا كف السلام، وقطعت الأرحام، فاخرج من البلد الحرام.

قال: أخبرني ما يكون. قال: لولا أذن تسمع، وعين تلمع، لأخبرتك بما تفزع. ثم قال:

لا منام هدأته بنعيم * يا ابن غوط ولا صباح أتانا

قال: ثم صرصر صرصرة كأنها صرصرة حبلى، فذهب الفجر فذهبت لأنظر فإذا عظاية وثعبان ميتان.

قال: فما علمت أن رسول الله هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث.

ثم رواه عن محمد بن جعفر، عن إبراهيم بن علي، عن النضر بن سلمة، عن حسان بن عبادة بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة قال: لما بايعنا رسول الله ليلة العقبة، خرجت إلى حضر موت لبعض الحاج، قال: فقضيت حاجتي، ثم أقبلت حتى إذا كنت ببعض الطريق نمت، ففزعت من الليل بصائح يقول:

أبا عمرو ناوبني السهود * وراح النوم وانقطع الهجود

وذكر مثله بطوله.

وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن علي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا أبو غزية محمد بن موسى، عن العطاف بن خالد الوصابي، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال: سمعت تميما الداري يقول: كنت بالشام حين بعث النبي فخرجت لبعض حاجتي فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة.

قال: فلما أخذت مضجعي إذا أنا بمناد ينادي - لا أراه - عذبا لله فإن الجن لا تجير أحدا على الله، فقلت: أيم الله تقول؟ فقال: قد خرج رسول الأميين رسول الله وصلينا خلفه بالحجون.

فأسلمنا واتبعناه وذهب كيد الجن ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد رسول رب العالمين فأسلم.

قال تميم: فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب، فسألت راهبا وأخبرته الخبر، فقال الراهب: قد صدقوك، يخرج من الحرم ومهاجره الحرم، وهو خير الأنبياء، فلا تسبق إليه.

قال تميم: فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول الله فأسلمت.

وقال حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن يزيد الهذلي، عن عبد الله بن ساعدة الهذلي، عن أبيه قال: كنا عند صنمنا سواع، وقد جلبنا إليه غنما لنا مائتي شاة قد أصابها جرب، فأدنيناها منه لنطلب بركته، فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي: قد ذهب كيد الجن ورمينا بالشهب لنبي اسمه أحمد.

قال: فقلت: غويت والله، فصدقت وجه غنمي منجدا إلى أهلي، فرأيت رجلا فخبرني بظهور النبي . ذكره أبو نعيم هكذا معلقا، ثم قال: حدثنا عمر بن محمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا محمد بن مسلمة المخزومي، حدثنا يحيى بن سليمان، عن حكيم بن عطاء الظفري من بني سليم من ولد راشد بن عبد ربه، عن أبيه، عن جده، عن راشد بن عبد ربه قال:

كان الصنم الذي يقال له: سواع بالمعلاة من رهط تدين له هذيل وبنو ظفر بن سليم، فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية من سليم إلى سواع، قال راشد: فألقيت مع الفجر إلى صنم قبل صنم سواع، فإذا صارخ يصرخ من جوفه: العجب كل العجب من خروج نبي من بني عبد المطلب، يحرم الزنا والربا والذبح للأصنام، وحرست السماء، ورمينا بالشهب، العجب كل العجب.

ثم هتف صنم آخر من جوفه ترك الضمار وكان يعبد خرج النبي أحمد يصلي الصلاة، ويأمر بالزكاة، والصيام، والبر والصلات للأرحام، ثم هتف من جوف صنم آخر هاتف يقول:

إن الذي ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتد

نبي أتى يخبر بما سبق * وبما يكون اليوم حقا أو غد

قال راشد: فألفيت سواعا مع الفجر وثعلبان يلحسان ما حوله، ويأكلان ما يهدى له، ثم يعوجان عليه ببولهما، فعند ذلك يقول راشد بن عبد ربه:

أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد ذل من بالت عليه الثعالب

وذلك عند مخرج النبي ومهاجره إلى المدينة وتسامع الناس به.

فخرج راشد حتى أتى النبي المدينة، ومعه كلب له، واسم راشد يومئذ ظالم، واسم كلبه راشد.

فقال النبي : « ما اسمك؟ »

قال: ظالم.

قال: « فما اسم كلبك؟ »

قال: راشد.

قال: « اسمك راشد، واسم كلبك ظالم » وضحك النبي .

وبايع النبي وأقام بمكة معه، ثم طلب من رسول الله قطيعة برهاط - ووصفها له - فأقطعه رسول الله بالمعلاة من رهاط شأو الفرس، ورميته ثلاث مرات بحجر، وأعطاه إداوة مملوءة من ماء وتفل فيها، وقال له: فرغها في أعلى القطيعة ولا تمنع الناس فضلها.

ففعل فجعل الماء معينا يجري إلى اليوم، فغرس عليها النخل. ويقال: إن رهاط كلها تشرب منه، فسماها الناس ماء الرسول . وأهل رهاط يغتسلون بها وبلغت رمية راشد الركب الذي يقال له ركب الحجر، وغدا راشد على سواع فكسره.

وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن داود بن دلهاث بن إسماعيل بن مسرع بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله ، حدثنا أبي، عن أبيه دلهاث، عن أبيه إسماعيل أن أباه عبد الله حدثه، عن أبيه مسرع بن ياسر، أن أباه ياسر حدثه، عن عمرو بن مرة الجهني أنه كان يحدث قال:

خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء في جبل يثرب، وأشعر جهينة، فسمعت صوتا في النور وهو يقول:

انقشعت الظلماء، وسطع الضياء، وبعث خاتم الأنبياء

ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة، وأبيض المدائن، فسمعت صوتا في النور وهو يقول:

ظهر الإسلام، وكسرت الأصنام، ووصلت الأرحام

فانتبهت فزعا فقلت لقومي: والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث، وأخبرتهم بما رأيت، فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا رجل فأخبرنا أن رجلا يقال له أحمد قد بعث، فأتيته فأخبرته بما رأيت فقال:

« يا عمرو بن مرة إني المرسل إلى العباد كافة، أدعوهم إلى الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله وحده، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر من اثني عشر شهرا وهو شهر رمضان، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من نار جهنم ».

فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، آمنت بكل ما جئت به من حلال وحرام، وإن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام.

ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم، وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته، ثم لحقت النبي وأنا أقول:

شهدت بأن الله حق وأنني * لآلهة الأحجار أول تارك

فشمرت عن ساقي إزار مهاجر * إليك أدب الغور بعد الدكادك

لأصحب خير الناس نفسا ووالدا * رسول مليك الناس فوق الحبائك

فقال النبي : « مرحبا بك يا عمرو بن مرة ».

فقلت: يا رسول الله بابي وأنت وأمي، ابعث بي إلى قومي لعل الله أن يمن بي عليهم، كما من بك علي، فبعثني إليه وقال: « عليك بالقول السديد، ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا ».

فأتيت قومي فقلت لهم: يا بني رفاعة، ثم يا بني جهينة، إني رسول من رسول الله إليكم أدعوكم إلى الجنة، وأحذركم النار، وآمركم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الله، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار.

يا معشر جهينة - إن الله وله الحمد - جعلكم خيار من أنتم منه، وبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من الرفث، لأنهم كانوا يجمعون بين الأختين، ويخلف الرجل منهم على امرأة أبيه والتراث في الشهر الحرام، فأجيبوا هذا النبي المرسل من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة، سارعوا سارعوا في ذلك يكون لكم فضيلة عند الله.

فأجابوا إلا رجلا منهم قام فقال: يا عمرو بن مرة أمر الله عليك عيشك، أتأمرنا أن نرفض آلهتنا، ونفرق جماعتنا بمخالفة دين آبائنا إلى ما يدعو هذا القرشي من أهل تهامة؟ لا ولا مرحبا ولا كرامة، ثم أنشأ الخبيث يقول:

إن ابن مرة قد أتى بمقالة * ليست مقالة من يريد صلاحا

إني لأحسب قوله وفعاله * يوما وإن طال الزمان رياحا

أتسفه الأشياخ ممن قد مضى * من رام ذلك لا أصاب فلاحا

فقال عمرو بن مرة: الكاذب مني ومنك أمر الله عيشه، وأبكم لسانه، وأكمه بصره.

قال عمرو بن مرة: والله ما مات حتى سقط فوه، وكان لا يجد طعم الطعام، وعمى وخرس.

وخرج عمرو بن مرة ومن أسلم من قومه حتى أتوا النبي فرحب بهم وحباهم، وكتب لهم كتابا هذه نسخته:

« بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله على لسان رسول الله، بكتاب صادق، وحق ناطق، مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد، إن لكم بطون الأرض وسهولها، وتلاع الأودية وظهورها، ترعون نباته، وتشربون صافيه، على أن تقروا بالخمس، وتصلوا الصلوات الخمس، وفي التبعة والصريمة شاتان إن اجتمعتا، وإن تفرقتا فشاة شاة، ليس على أهل الميرة صدقة، ليس الوردة اللبقة ».

وشهد من حضرنا من المسلمين بكتاب قيس بن شماس رضي الله عنهم، وذلك حين يقول عمرو بن مرة:

ألم تر أن الله أظهر دينه * وبين برهان القران لعامر

كتاب من الرحمن نور لجمعنا * وأحلافنا في كل باد وحاضر

إلى خير من يمشي على الأرض كلها * وأفضلها عند اعتكار الصرائر

أطعنا رسول الله لما تقطعت * بطون الأعادي بالظبي والخواطر

فنحن قبيل قد بني المجد حولنا * إذا اجتلبت في الحرب هام الأكابر

بنو الحرب نفريها بأيد طويلة * وبيض تلالا في أكف المغاور

ترى حوله الأنصار تحمي أميرهم * بسمر العوالي والصفاح البواتر

إذا الحرب دارت عند كل عظيمة * ودارت رحاها بالليوث الهواصر

تبلج منه اللون وازداد وجهه * كمثل ضياء البدر بين الزواهر

وقال أبو عثمان سعيد بن يحيى الأموي في (مغازيه): حدثنا عبد الله، حدثنا أبو عبد الله، حدثنا المجالد بن سعيد والأجلح عن الشعبي، حدثني شيخ من جهينة قال: مرض منا رجل مرضا شديدا فنقل حتى حفرنا له قبره، وهيأنا أمره، فأغمي عليه، ثم فتح عينيه وأفاق، فقال: أحفرتم لي؟

قالوا: نعم. قال: فما فعل الفصل - وهو ابن عم له -

قلنا: صالح مر آنفا يسأل عنك. قال: أما إنه يوشك أن يجعل في حفرتي إنه أتاني آت حين أغمي علي فقال: ابك هبل أما ترى حفرتك تنتثل، وأمك قد كادت تثكل، أرأيتك أن حولناها عنك بالمحول، ثم ملأناها بالجندل، وقدفنا فيها الفصل الذي مضى فأجزأك، وظن أن لن يفعل، أتشكر لربك وتصل وتدع دين من أشرك وضل؟

قال: قلت: نعم. قال: قم، قد برئت. قال: فبرىء الرجل، ومات الفصل فجعل في حفرته، قال الجهيني: فرأيت الجهيني بعد ذلك يصلي، ويسب الأوثان ويقع فيها.

وقال الأموي: حدثنا عبد الله قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلس يتحدثون عن الجن فقال خريم بن فاتك الأسدي لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين ألا أحدثك كيف كان إسلامي؟

قال: بلى. قال: إني يوما في طلب ذود لي أنا منها على أثر تنصب وتصعد، حتى إذا كنت بابرق العراق أنخت راحلتي، وقلت: أعوذ بعظيم هذه البلدة، أعوذ برئيس هذا الوادي من سفهاء قومه، فإذا بهاتف يهتف بي:

ويحك، عذ بالله ذي الجلال * والمجد والعلياء والإفضال

ثم اتل آيات من الأنفال * ووحد الله ولا تبالي

قال: فذعرت ذعرا شديدا، ثم رجعت إلى نفسي فقلت:

يا أيها الهاتف ما تقول * أرشد عندك أم تضليل

بين هداك الله ما الحويل

قال: فقال:

هذا رسول الله ذو الخيرات * بيثرب يدعو إلى النجاة

يأمر بالبر وبالصلاة * ويزع الناس عن الهنات

قال: قلت له: والله لا أبرح حتى أتيه وأومن به، فنصبت رجلي في غرز راحلتي وقلت:

أرشدني أرشدني هديتا * لا جعت ما عشت ولا عريتا

ولا برحت سيدا مقيتا * لا تؤثر الخير الذي أتيتا

على جميع الجن ما بقيتا

فقال:

صاحبك الله وأدى رحلكا * وعظم الأجر وعافا نفسكا

آمن به أفلج ربي حقكا * وانصره نصرا عزيزا نصركا

قال: قلت: من أنت عافاك الله حتى أخبره إذا قدمت عليه؟

فقال: أنا ملك بن ملك، وأنا نقيبه على جن نصيبين، وكفيت إبلك حتى أضمها إلى أهلك إن شاء الله.

قال: فخرجت حتى أتيت المدينة يوم الجمعة والناس أرسال إلى المسجد، والنبي على المنبر كأنه البدر يخطب الناس، فقلت: أنيخ على باب المسجد حتى يصلي، وأدخل عليه فأسلم وأخبره عن إسلامي، فلما أنخت خرج إلى أبو ذر فقال: مرحبا وأهلا وسهلا قد بلغنا إسلامك، فادخل فصل ففعلت.

ثم جئت إلى رسول الله فأخبرني بإسلامي.

فقلت: الحمد لله.

قال: « أما إن صاحبك قد وفى لك وهو أهل ذلك وأدى إبلك إلى أهلك ».

وقد رواه الطبراني في ترجمة خريم بن فاتك من (معجمه الكبير) قائلا: حدثنا الحسين بن إسحاق اليسيري، حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي، حدثنا عبد الله بن موسى الأسكندري، حدثنا محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال خريم بن فاتك لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين ألا أخبرك كيف كان بدء إسلامي؟

قال: بلى، فذكره غير أنه قال: فخرج إلى أبو بكر الصديق فقال: ادخل فقد بلغنا إسلامك، فقلت: لا أحسن الطهور، فعلمني فدخلت المسجد فرأيت رسول الله كأنه البدر وهو يقول:

« ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى صلاة يحفظها ويعقلها إلا دخل الجنة ».

فقال لي عمر: لتأتيني على هذا ببينة، أو لأنكلن بك، فشهد لي شيخ قريش عثمان بن عفان، فأجاز شهادته.

ثم رواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن محمد بن تيم، عن محمد بن خليفة، عن محمد بن الحسن، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب لخريم بن فاتك: حدثني بحديث يعجبني، فذكر مثل السياق الأول سواء.

وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله بن الديلمي قال: أتى رجل ابن عباس فقال: بلغنا أنك تذكر سطيحا تزعم أن الله خلقه، لم يخلق من بني آدم شيئا يشبهه؟

قال: قال: نعم، إن الله خلق سطيحا الغساني لحما على وضم، ولم يكن فيه عظم ولاعصب إلا الجمجمة والكفان، وكان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه، فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمة، فأتي به مكة فخرج إليه أربعة من قريش:

عبد شمس، وهاشم ابنا عبد مناف بن قصي، والأحوص بن فهر، وعقيل بن أبي وقاص، فانتموا إلى غير نسبهم وقالوا: نحن أناس من جمح أتيناك بلغنا قدومك، فرأينا أن إتياننا إياك حق لك واجب علينا، وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية، وصعدة ردينية، فوضعت على باب البيت الحرام، لينظروا أهل يراها سطيح أم لا.

فقال: يا عقيل ناولني يدك، فناوله يده فقال: يا عقيل والعالم الخفية، والغافر الخطية، والذمة الوفية، والكعبة المبنية، إنك للجائي بالهدية الصفيحة الهندية، والصعدة الردينية.

قالوا: صدقت يا سطيح. فقال: والآتي بالفرح، وقوس قزح، وسائر الفرح، واللطيم المنبطح، والنخل والرطب والبلح، إن الغراب حيث مر سنح، فأخبر أن القوم ليسوا من جمح، وإن نسبهم من قريش ذي البطح.

قالوا: صدقت يا سطيح نحن أهل البيت الحرام، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك، فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا، وما يكون بعده، فلعل أن يكون عندك في ذلك علم.

قال: الآن صدقتم، خذوا مني ومن إلهام الله إياي، أنتم يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشو من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم، فيكسرون الصنم، ويبلغون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم.

قالوا يا سطيح: فمن يكون أولئك؟

فقال لهم: والبيت ذي الأركان، والأمن والسكان، لينشؤن من عقبكم ولدان، يكسرون الأوثان، وينكرون عبادة الشيطان، ويوحدون الرحمن، وينشرون دين الديان، يشرفون البنيان، ويستفتون الفتيان.

قالوا: يا سطيح من نسل من يكون أولئك؟

قال: وأشرف الأشراف، والمفضي للأشراف، والمزعزع الأحقاف، والمضعف الأضعاف، لينشؤن الألاف من عبد شمس وعبد مناف، نشوءا يكون فيه اختلاف.

قالوا: يا سوءتاه يا سطيح مما تخبرنا من العلم بأمرهم، ومن أي بلد يخرج أولئك؟

فقال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد فتى يهدي إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ من عبادة الضدد، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه الله محمودا، من الأرض مفقودا، وفي السماء مشهودا.

ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق، في رد الحقوق لا خرق ولا نزق.

ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، ويترك قول العنيف، قد ضاف المضيف، وأحكم التحنيف.

ثم يلي أمره داعيا لأمره مجربا، فتجتمع له جموعا وعصبا، فيقتلونه نقمة عليه وغضبا، فيؤخذ الشيخ فيذبح أربا، فيقوم به رجال خطباء.

ثم يلي أمره الناصر يخلط الرأي برأي المناكر، يظهر في الأرض العساكر.

ثم يلي بعده ابنه، يأخذ جمعه، ويقل حمده، ويأخذ المال، ويأكل وحده، ويكثر المال بعقبه من بعده.

ثم يلي من بعده عدة ملوك، لا شك الدم فيهم مسفوك.

ثم بعدهم الصعلوك، يطويهم كطي الدرنوك، ثم يلي من بعده عظهور، يقضي الحق، ويدني مصر، يفتتح الأرض افتتاحا منكرا.

ثم يلي قصير القامة بظهره علامة يموت موتا وسلامة.

ثم يلي قليلا باكر، يترك الملك بائر، يلي أخوه بسنته سابر يختص بالأموال والمنابر.

ثم يلي من بعده أهوج صاحب دنيا، ونعيم مخلج، يتشاوره معاشر وذووه ينهوضون إليه يخلعونه، بأخذ الملك ويقتلونه.

ثم يلي أمره من بعده السابع، يترك الملك محلا ضائع بنوه في ملكه كالمشوه جامع، عند ذلك يطمع في الملك كل عريان.

ويلي أمره اللهفان يرضي نزارا جمع قحطان، إذا التقيا بدمشق جمعان بين بنيان ولبنان، يصنف اليمن يومئذ صنفان، صنف المشورة، وصنف المخذول، لا ترى الأحباء محلول، وأسيرا مغلول، بين القراب والخيول، عند ذلك تخرب المنازل، وتسلب الأرامل، وتسقط الحوامل، وتظهر الزلازل، وتطلب الخلافة وائل، فتغضب نزار، فتدنى العبيد والأشرار، وتقصي الأمثال والأخيار، وتغلو الأسعار في صفر الأصفار، يقتل كل حيا منه.

ثم يسيرون إلى خنادق وإنها ذات أشعار وأشجار، تصد له الأنهار، ويهزمهم أول النهار، تظهر الأخيار، فلا ينفعهم نوم ولا قرار، حتى يدخل مصرا من الأمصار، فيدركه القضاء والأقدار.

ثم يجيء الرماة تلف مشاة، لقتل الكماة، وأسر الحماة، وتهلك الغواة، هنالك يدرك في أعلى المياه. ثم يبور الدين، وتقلب الأمور، وتكفر الزبور، وتقطع الجسور، فلا يفلت إلا من كان في جزائر البحور، ثم تبور الحبوب، وتظهر الأعاريب، ليس فيهم معيب على أهل الفسوق والريب، في زمان عصيب، لو كان للقوم حيا وما تغني المنى.

قالوا: ثم ماذا يا سطيح؟

قال: ثم يظهر رجل من أهل اليمن كالشطن يذهب الله على رأسه الفتن. وهذا أثر غريب كتباه لغرابته وما تضمن من الفتن والملاحم. وقد تقدم قصة شق وسطيح مع ربيعة بن نصر ملك اليمن، وكيف بشر بوجود رسول الله .

وكذلك تقدم قصة سطيح مع ابن أخته عبد المسيح حين أرسله ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وذلك ليلة مولد الذي نسخ بشريعته سائر الأديان.

(تم الجزء الثاني من البداية والنهاية ويليه الجزء الثالث وأوله باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله .)


هامش

  1. [المائدة: 23]
  2. [البقرة: 243]
  3. [البقرة: 243]
  4. [الأنعام: 86]
  5. [ص: 48]
  6. [البقرة: 246-251]
  7. [آل عمران: 123]
  8. [سبأ: 10-11]
  9. [الأنبياء: 79]
  10. [ص: 17-20]
  11. [ص: 18-19]
  12. [سبأ: 10]
  13. [وهذا على شرط الشيخين، ولم يخرجاه من هذا الوجه]
  14. [الإسراء: 55]
  15. [ص: 20]
  16. [ص: 21-25]
  17. [ص: 26]
  18. [سبأ: 13]
  19. [النساء: 54]
  20. [النمل: 16]
  21. [النمل: 17-19]
  22. [النمل: 20-37]
  23. [النمل: 38-43]
  24. [ص: 30-39]
  25. [الأنبياء: 78-79]
  26. [الأنبياء: 79-80]
  27. [الأنبياء: 81-82]
  28. [36-40]
  29. [سبأ: 12-13]
  30. [سبأ: 12]
  31. [سبأ: 13]
  32. [النمل: 16]
  33. [ص: 35]
  34. [سبأ: 14]
  35. [الإسراء: 2-8]
  36. [الإسراء: 5]
  37. [البقرة: 259]
  38. [التوبة: 30]
  39. [مريم: 1-15]
  40. [آل عمران: 37-41]
  41. [89-90]
  42. [الأنعام: 85]
  43. [النمل: 16]
  44. [آل عمران: 39]
  45. [الحجر: 54]
  46. [هود: 72-73]
  47. [الأنبياء: 90]
  48. [آل عمران: 39]
  49. [آل عمران: 38]
  50. [آل عمران: 33-37]
  51. [مريم: 36]
  52. [آل عمران: 44]
  53. [آل عمران: 37]
  54. [آل عمران: 38]
  55. [آل عمران: 42-51]
  56. [الأعراف: 144]
  57. [الدخان: 32]
  58. [المائدة: 75]
  59. [التحريم: 5]
  60. [مريم: 16-37]
  61. [الأنبياء: 89-91]
  62. [التحريم: 12]
  63. [الحج: 63]
  64. [المؤمنون: 14]
  65. [النساء: 156]
  66. [مريم: 34-35]
  67. [آل عمران: 58-63]
  68. [يس: 82]
  69. [مريم: 37]
  70. [مريم: 90- 95]
  71. [الأنعام: 100-103]
  72. [الإخلاص: 1-4]
  73. [النساء: 171-173]
  74. [آل عمران: 59]
  75. [البقرة: 116-117]
  76. [التوبة: 30]
  77. [الزخرف: 19]
  78. [الصافات: 149-160]
  79. [الأنبياء: 26-29]
  80. [الكهف: 1-5]
  81. [يونس: 68-70]
  82. [النساء: 82]
  83. [المائدة: 17]
  84. [المائدة: 72-75]
  85. [المائدة: 116-118]
  86. [الأنبياء: 16-20]
  87. [الزمر: 4-5]
  88. [الزخرف: 81-82]
  89. [الإسراء: 111]
  90. [الإخلاص: 1-4]
  91. [هود: 102]
  92. [الحج: 48]
  93. [لقمان: 24]
  94. [يونس: 69-70]
  95. [الطارق: 17]
  96. [النساء: 156]
  97. [المؤمنون: 50]
  98. [البقرة: 185]
  99. [المائدة: 110]
  100. [المائدة: 110-111]
  101. [النحل: 68]
  102. [القصص: 7]
  103. [الأنفال: 62-63]
  104. [آل عمران: 48-54]
  105. [الصف: 6-8]
  106. [الصف: 14]
  107. [الأعراف: 157]
  108. [البقرة: 129]
  109. [الصف: 6]
  110. [آل عمران: 55]
  111. [المائدة: 112-115]
  112. [آل عمران: 54-55]
  113. [النساء: 155-159]
  114. [الصف: 14]
  115. [المائدة: 75]
  116. [الحديد: 27]
  117. [البقرة: 87]
  118. [الأنبياء: 104]
  119. [المائدة: 117-118]
  120. [النساء: 159]
  121. [الزخرف: 61]
  122. [الصف: 14]
  123. [مريم: 37]
  124. [طه: 99]
  125. [يوسف: 3]
  126. [الكهف: 83-98]
  127. [الكهف: 86- 87]
  128. [الكهف: 89]
  129. [الكهف: 92-93]
  130. [الأنبياء: 96-97]
  131. [نوح: 26]
  132. [العنكبوت: 15]
  133. [الصافات: 77]
  134. [الإسراء: 15]
  135. [السجدة: 12]
  136. [مريم: 38]
  137. [الأنبياء: 96]
  138. [الكهف: 9-26]
  139. [الإسراء: 85]
  140. [الزخرف: 26-27]
  141. [التين: 7]
  142. [يس: 82]
  143. [الكهف: 32-44]
  144. [يس: 13]
  145. [مريم: 77-78]
  146. [فصلت: 50]
  147. [القصص: 78]
  148. [سبأ: 37]
  149. [المؤمنون: 25]
  150. [الطارق: 10]
  151. [الفرقان: 26]
  152. [القلم: 17-33]
  153. [إبراهيم: 28-29]
  154. [الأنعام: 141]
  155. [النحل: 112-113]
  156. [الأعراف: 163-166]
  157. [البقرة: 65-66]
  158. [النساء: 47]
  159. [الجمعة: 5]
  160. [يس: 13]
  161. [البقرة: 246]
  162. [لقمان: 12-19]
  163. [الأنعام: 82]
  164. [النساء: 40]
  165. [الأنبياء: 47]
  166. [الأنعام: 59]
  167. [النمل: 75]
  168. [سبأ: 3]
  169. [الإسراء: 37]
  170. [الفرقان: 63]
  171. [البروج: 1-10]
  172. [البروج: 4-5]
  173. [الحشر: 16-17]
  174. [البقرة: 104]
  175. [الأعراف: 187]
  176. [النازعات: 41-43]
  177. [الحديد: 28-29]
  178. [الأنعام: 154]
  179. [الأنعام: 91]
  180. [الأنبياء: 48]
  181. [الصافات: 117-118]
  182. [المائدة: 44]
  183. [آل عمران: 78]
  184. [المائدة: 48]
  185. [الأعراف: 157]
  186. [آل عمران: 93]
  187. [المائدة: 43-44]
  188. [الأعراف: 157]
  189. [المائدة: 66]
  190. [المائدة: 68]
  191. [البقرة: 253]
  192. [النساء: 153-155]
  193. موسى وشيخه ضعيفان أيضا
  194. يزيد الرقاشي ضعيف
  195. وهذا إسناد لا بأس به، لكني لا أعرف حال أحمد بن طارق هذا والله أعلم.
  196. وهذا حديث غريب.
  197. وكذا رواه مسلم عن بندار ومن وجه آخر عن فرات به نحوه.
  198. رواه مسلم من حديث الأعمش به نحوه.
  199. هكذا رواه الإمام أحمد من طريق زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد. وقد رواه ابن ماجه عن دحيم، عن ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد فذكره.
  200. ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود. وقال الترمذي: حسن صحيح.
  201. [الأنبياء: 25]
  202. [الزخرف: 45]
  203. [النحل: 36]
  204. [المائدة: 48]
  205. [الحج: 67]
  206. [البقرة: 148]
  207. [آل عمران: 85]
  208. [البقرة: 130- 132]
  209. [المائدة: 44]
  210. [الأعراف: 158]
  211. [الأنعام: 19]
  212. [هود: 17]
  213. [النساء: 29]
  214. وهكذا رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من طرق عن الأعمش به.
  215. [الحجرات: 13]
  216. [سبأ: 15-19]
  217. [سبأ: 16-17]
  218. [سبأ: 15]
  219. [إبراهيم: 3]
  220. [كلها هوامش]
  221. [الفيل: 1-5]
  222. [التوبة: 37]
  223. [الفيل: 1-5]
  224. [الروم: 1-3]
  225. [يوسف: 106]
  226. [النحل: 116]
  227. [المائدة: 106]
  228. [النحل: 56]
  229. [الأنعام: 136-137]
  230. [الأنعام: 138-140]
  231. [نوح: 23-24]
  232. [ص: 5]
  233. [إبراهيم: 9]
  234. [التوبة: 36]
  235. [يوسف: 18]
  236. [يوسف: 26-27]
  237. [السجدة: 3]
  238. حديث غريب.
  239. [النساء: 32]
  240. [البقرة: 186]
  241. [الأعراف: 175]
  242. [الأنعام: 124]
  243. [الشورى: 23]
  244. هذا غريب من هذا الوجه، ولا يكاد يصح.
  245. [الشعراء: 129]
  246. [الحجرات: 13]
  247. [المائدة: 3]
  248. [التوبة: 113-114]
  249. [الإسراء: 15]
  250. [آل عمران: 96-97]
  251. [الانشقاق: 3]
  252. [البقرة: 199]
  253. [الأعراف: 31-32]
  254. [الأعراف: 157]
  255. [الصف: 6]
  256. [الفتح: 29]
  257. [آل عمران: 81]
  258. [البقرة: 129]
  259. [الأحزاب: 7]
  260. [الجن: 1-28]
  261. [الأحقاف: 29-30]
  262. [البقرة: 89]
  263. [المائدة: 82]
  264. [الأحزاب: 7]
  265. وهكذا رواه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم، وقال: حسن غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
  266. قال البيهقي: تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف، والله أعلم.
  267. [آل عمران: 81-82]
  268. [البقرة: 129]
  269. [الأعراف: 157]
  270. هذا حديث غريب من هذا الوجه، ولم يخرجوه.
  271. [الفتح: 29]
  272. [القصص: 46]
  273. [القصص: 52-53]
  274. [البقرة: 146]
  275. [الإسراء: 107-108]
  276. [المائدة: 83]
  277. [الصف: 6]
  278. [الجن: 6]
البداية والنهاية - الجزء الثاني
ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام | قصة حزقيل | قصة اليسع عليه السلام | فصل في حال بني إسرائيل | قصة شمويل عليه السلام | قصة داود وما كان في أيامه وذكر فضائله وشمائله ودلائل نبوته وإعلامه | ذكر كمية حياته وكيفية وفاته عليه السلام | قصة سليمان بن داود عليهما السلام | ذكر وفاته وكم كانت مدة ملكه وحياته | باب ذكر جماعة من أنبياء بني إسرائيل بعد داود وسليمان | ومنهم ارميا بن حلقيا من سبط لاوي بن يعقوب | ذكر خراب بيت المقدس | ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام | ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها | وهذه قصة العزير | فصل:حفظ عزيرا التوراة | قصة زكريا ويحيى عليهما السلام | بيان سبب قتل يحيى عليه السلام | قصة عيسى بن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام | ميلاد العبد الرسول عيسى بن مريم العذراء البتول | باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا | ذكر منشأ عيسى بن مريم عليهما السلام | بيان نزول الكتب الأربعة ومواقيتها | بيان شجرة طوبى ما هي؟ | ذكر خبر المائدة | فصل توجه عيسى عليه السلام نحو البحر. | ذكر رفع عيسى عليه السلام إلى السماء | ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله | فصل اختلاف أصحاب المسيح في رفع عيسى إلى السماء. | بيان بناء بيت لحم والقمامة | كتاب أخبار الماضين من بني إسرائيل وغيرهم | خبر ذي القرنين | بيان طلب ذي القرنين عين الحياة | ذكر أمتي يأجوج ومأجوج وصفاتهم | قصة أصحاب الكهف | قصة الرجلين المؤمن والكافر | قصة أصحاب الجنة | قصة أصحاب أيلة الذين اعتدوا في سبتهم | قصة أصحاب القرية | قصة لقمان | قصة أصحاب الأخدود | بيان الإذن في الرواية عن أخبار بني إسرائيل | قصة جريج أحد عباد بني إسرائيل | قصة برصيصا | قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار فانطبق عليهم | خبر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع | حديث الذي استلف من صاحبه ألف دينار فأداها | قصة أخرى شبيهة بهذه القصة في الصدق والأمانة | قصة توبة قاتل التسعة وتسعين نفسا | حديث بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها | حديث كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون | حديث إنما هلكت بنو إسرائيل | حديث بينما كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش | حديث عذبت امرأة في هرة | حديث كان في بني إسرائيل امرأة قصيرة | حديث إن مما أدرك الناس | حديث بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي | قصة الملكين التائبين | حديث إن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا | حديث كان رجل يداين الناس | حديث الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل | حديث أتشفع في حد من حدود الله؟ | حديث كلاكما محسن | حديث إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم | حديث لعن الله اليهود | حديث فأمر بلال أن يشفع الأذان | حديث لعنة الله على اليهود والنصارى | حديث لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر | حديث إنما أجلكم في أجل من خلا من قبلكم من الأمم | فصل: بعض القصص من الإسرائيليات | تحريف أهل الكتاب وتبديلهم أديانهم | ليس للجنب لمس التوراة | كتاب الجامع الأخبار الأنبياء المتقدمين | حديث إني خاتم ألف نبي | ذكر أخبار العرب | قصة سبأ | فصل إقامة ست قبائل من سبأ في اليمن. | قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر | قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة | وثوب لخنيعة ذي شناتر على ملك اليمن | خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان | خروج أبرهة الأشرم على أرياط واختلافهما | سبب قصد أبرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة | خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن | ما آل إليه أمر الفرس باليمن | قصة الساطرون صاحب الحضر | خبر ملوك الطوائف | ذكر بني إسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان البعثة | قصة خزاعة وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للأصنام | باب جهل العرب | خبر عدنان جد عرب الحجاز | أصول أنساب عرب الحجاز إلى عدنان | قريش نسبا واشتقاقا وفضلا وهم بنو النضر بن كنانة | خبر قصي بن كلاب وارتجاعه ولاية البيت إلى قريش وانتزاعه ذلك من خزاعة | فصل: تفويض قصي أمر الوظائف لابنه عبد الدار | ذكر جمل من الأحداث في الجاهلية | ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية | حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية | شيء من أخبار عبد الله بن جدعان | امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب إحدى المعلقات | أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي | بحيرا الراهب | ذكر قس بن ساعدة الإيادي | زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه | شيء من الحوادث في زمن الفترة | كعب بن لؤي | تجديد حفر زمزم | نذر عبد المطلب ذبح ولده | تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية | كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم | باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم | صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام | فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام | ذكر ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط الشرفات | حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام | رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة | فصل ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة | فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام | فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام | قصة بحيرا | فصل في منشئه ومرباه عليه الصلاة والسلام | شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار | فصل شهود رسول الله عليه الصلاة والسلام حلف المطيبين مع عمومته | تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد | باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة | فصل ذكر خديجة لورقة بن نوفل عن النبي عليه الصلاة والسلام | فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين | فصل تعظيم قريش للحرم تعظيما زائدا أدى إلى الابتداع | مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا وذكر شيء من البشارات بذلك | فصل طلب اليهود من الله تعالى أن يبعث لهم نبيا يحكم بينهم وبين الناس | ذكر أخبار غريبة في ذلك | قصة عمرو بن مرة الجهني | قصة سيف بن ذي يزن وبشارته بالنبي | باب في هواتف الجان