السيرة الحلبية/باب اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف وكتابة الصحيفة
قد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله ﷺ وقالوا: قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا، وقالوا لقومه: خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحون أنفسكم، فأبى قومه، فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب، واخراجهم من مكة إلى شعب أبي طالب.
فيه تصريح بأن شعب أبي طالب كان خارجا عن مكة، والتضييق عليهم بمنع حضور الأسواق، وأن لا ينكاحوهم، وأن لا يقبلوا لهم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله ﷺ للقتل: أي وفي لفظ: لا تنكحوهم، ولا تنكحوا إليهم، ولا تبيعوهم شيئا، ولا تبتاعوا منهم شيئا، ولا تقبلوا منهم صلحا الحديث، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة: أي توكيدا على أنفسهم. وقيل كانت عند خالة أبي جهل.
وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق في الكعبة على أنه سيأتي أنه يجوز أن الصحيفة تعددت، وكان اجتماعهم وتخالفهم في خيف بني كنانة بالأبطح ويسمى محصبا، وهو بأعلى مكة عند المقابر، فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب إلا أبا لهب فإنه ظاهر عليهم قريشا، وكان سنه حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة. وفي الصحيح «أنهم في الشعب جهدوا كانوا يأكلون الخَبَطَ وورق الشجر».
وفي كلام السهيلي: كانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام يقتاته، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده شيء يعللهم به، فيغدو التجار على أبي لهب فيربحهم، هذا كلامه.
ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق إذا جاءت العير بالميرة إلى مكة، وكونهم منعوا من الأسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى.
وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة، وحينئذٍ أمر رسول الله ﷺ من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة.
أقول: وفي رواية «أن خروج بني هاشم وبني المطلب إلى الشعب لم يكن اخراج قريش لهم، وإنما خرجوا إليه لأن قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشي خائبا، وردت معه هديتهم، وفقد صاحبه الذي هو عمارة بن الوليد، وبلغهم اكرام النجاشي لجعفر ومن معه من المسلمين: أي كما سيأتي، وظهور الإسلام في القبائل، كبر ذلك عليهم، واشتد أذاهم على المسلمين، واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبي ﷺ علانية، فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بني هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم، وأمرهم أن يدخلوا برسول الله الشعب ويمنعوه ففعلوا، فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا، لم يفترقوا حتى دخلوا معهم في الشعب، انخذل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ** عقوبة شر عاجلا غير آجل
وقال في قصيدة أخرى:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ** وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
فلما علمت قريش ذلك، أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق، على أن لا يجالسوهم» الحديث.
وفيه أنه سيأتي أن خروج عمرو بن العاص إلى الحبشة إنما كان بعد الهجرة الثانية، وهي بعد دخول بني هاشم والمطلب إلى الشعب، والله أعلم.