السيرة الحلبية/سرية الرجيع
وفي الأصل: بعث الرجيع. بعث رسول الله ﷺ عشرة، وقيل ستة عيونا إلى مكة يتجسسون أخبار قريش ليأتوه بها، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري ، ويقال له ابن أبي الأفلح بالفاء، وقيل أمر عليهم مرثد الغنوي حليف عمه حمزة ، ومرثد بفتح الميم وإسكان الراء وبالمثلثة. والغنوي بغين معجمة: أي وكان مرثد هذا يحمل الأسرى ليلا من مكة حتى يأتي بهم المدينة، فوعد رجلا من الأسرى بمكة أن يحمله، قال: فجئت به حتى انتهيت به إلى الحائط من حيطان مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق وكانت من جملة البغايا بمكة، فرأت ظلي في جانب الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني قالت: مرثد؟ قلت مرثد، قالت: مرحبا وأهلا هلم تبت عندنا الليلة، فقلت: يا عناق إن الله حرم الزنا، فدلت عليّ، فخرج في أثري ثمانية رجال، فتواريت في كهف الخندمة فجاؤوا حتى وقفوا على رأسي، فأعماهم الله عني، فلما رجعوا رجعت لصاحبي، فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى محل فككت عنه قيده، ثم جعلت أحمله حتى قدمت المدينة، ثم استشرته أن أنكح عناق، فأمسك عني حتى نزلت الآية: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} فدعاني فتلاها عليّ، ثم قال لي: لا تتزوجها.
وفي قطعة التفسير للجلال المحلي أن الآية نزلت في بغايا المشركين لما همّ فقراء المهاجرين أن يتزوجوهن وهن موسرات لينفقن عليهم، فقيل التحريم خاص بهم، وقيل عام، ونسخ بقوله: {وانكحوا الأيامى منكم} الآية.
وفيه أن عند فقهائنا يحرم على المسلم نكاح من تعبد الأوثان وإن لم تكن بغيا.
ومن جملة العشرة عبد الله بن طارق وخبيب بن عدي وخبيب تصغير خب: وهو الماكر من الرجال الخدّاع، وزيد بن الدثنة بفتح الدال المهملة وكسر الثاء المثلثة وقد تسكن ثم نون مفتوحة ثم تاء تأنيث مقلوب من الندثة. والندث: استرخاء اللحم، فخرجوا : أي يسيرون الليل ويكمنون النهار، حتى إذا كانوا بالرجيع: وهو ماء لهذيل لقيهم سفيان بن خالد الهذلي الذي قتله عبد الله بن أنيس وجاء برأسه إلى رسول الله ﷺ كما تقدم وقومه ـ وهم بنو لحيان ـ فإنهم ذكروا لهم فنفروا إليهم فيما يقرب من مائة رام، أي ولا يخالف ما في الصحيح قريبا من مائة رجل، فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا نوى تمر أكلوا في منزل نزلوه، أي فإن منهم امرأة كانت ترعى غنما فرأت النوى فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أتيتم، فتبعوهم إلى أن وجدوهم في المحل المذكور، فلما أحسوا بهم لجؤوا إلى موضع من جبل هناك: أي صعدوا إليه، فأحاطوا بهم، وقالوا لهم: انزلوا ولكم العهد أن لا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل على ذمة: أي أمان وعهد كافر، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما، أي وستة منهم، وصار عاصم يرميهم بالنبل وينشد أبياتا منها:
الموت حق والحياة باطل ** وكل ما قضى الإله نازل
بالمرء والمرء إليه آيل ولا زال يرميهم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم حتى انكسرت رمحه، ثم سل سيفه. وقال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره، ونزل إليهم ثلاثة على العهد وهم: خبيب، وزيد، وعبد الله بن طارق ، فلما أمسكوهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوا خبيبا وزيدا وامتنع عبد الله، وقال: هذا أول الغدر: أي ترك الوفاء بعهد الله، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء يعني القتلى أسوة فعالجوه، فأبى أن يصحبهم أي فقتلوه كما في الصحيح، وقيل صحبهم إلى أن كانوا بمر الظهران يريدون مكة، انتزع عبد الله يده منهم، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد، أي ودخلوا بهما مكة في شهر القعدة، فباعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة، أي وقيل بيع كل بخمسين من الإبل، أي وقيل بيع خبيب بأمة سوداء، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا، قيل لأنه قتل الحارث يوم بدر كما في البخاري.
وتعقب بأن المعروف عندهم أن قاتل الحارث يوم بدر إنما هو خبيب بن إساف الخزرجي، أي وقيل القاتل له علي كرّم الله وجهه، وخبيب بن عدي هذا أوسي لم يشهد بدرا عند أحد من أرباب المغازي، أي وقيل في هذا تضعيف الحديث الصحيح.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر أنه لزم من هذا رد الحديث الصحيح، ولو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث بن عامر ما كان لاعتناء آل الحارث بشرائه وقتله به معنى، إلا أن يقال لكونه من قبيلة قاتله وهم الأنصار. وابتاع زيدا صفوان بن أمية ، فإنه أسلم بعد ذلك ليقتله بأبيه، فحبوسهما إلى أن تنقضي الأشهر الحرم، واستعار خبيب وهو محبوس موسى من بنت الحارث. وفي الصحيح من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها: أي يحلق بها عانته، فدرج لها ابن صغير وهي غافلة عنه حتى أتى إلى خبيب ، فأجلسه خبيب على فخده والموسى بيده، فلما رأت ابنها على تلك الحالة فزعت فزعة عرفها خبيب ، فقال: أتخشين أن أقتله: ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، وبكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنث.
وروي أنه أخذ بيد الغلام، وقال: هل أمكن الله منكم، فقالت المرأة ما كان هذا ظني بك، فرمى لها بالموسى، وقال: إنما كنت مازحا، ما كنت لأغدر.
وفي السيرة الشامية أن تلك المرأة قالت: قال لي: تعني خبيبا حين حضره القتل: ابعثي إليّ بحديدة أتطهر بها للقتل: أي وقد كان قال لها: إذا أرادوا قتلي فآذنيني، فلما أرادوا قتله آذنته، فطلب منها تلك الحديدة، قالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل البيت، قالت: فوالله لما دخل عليه الغلام قلت والله أصاب الرجل ثأره بقتل هذا الغلام ويكون رجل برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده، ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليّ؟ ثم خلى سبيله. ويقال إن الغلام ابنها: أي ويرشد إليه قول خبيب : ما خافت أمك.
وكانت بنت الحارث تقول: والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، قالت: والله لقد وجدته يوما أي وقد اطلعت عليه من شق الباب يأكل قطفا من عنب في يده: أي مثل رأس الرجل، وأنه لموثق بالحديد وما بمكة ثمرة. وفي رواية: لا أعلم في أرض الله عنبا يؤكل.
أي واستدل أئمتنا بقصة خبيب هذه على أنه يستحب لمن أشرف على الموت أن يتعهد نفسه بتقليم أظفاره وأخذ شعر شاربه وإبطه وعانته، ولعل ذلك كان بلغ النبي ﷺ وأقره، فلما انقضت الأشهر الحرم بانقضاء المحرم خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه في الحل، فلما قدم للقتل قال لهم: دعوني أصل ركعتين، فتركوه فركع ركعتين وقال لهم: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي من جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا: أي متفرقين واحدا بعد واحد، ولا تبق منهم أحدا: أي الكفار، وقد قتلوا في الخندق متفرقين.
قال: ذكر أنهم لما خرجوا به ليقتلوه خرج النساء والصبيان والعبيد، فلما انتهوا به إلى التنعيم أمروا بخشبة طويلة فحفروا لها، فلما انتهوا بخبيب إليها وبعد صلاته للركعتين صلبوه على تلك الخشبة، أي ليراه الوارد والصادر، فيذهب بخبره إلى الأطراف، ثم قالوا له: ارجع عن الإسلام نخلّ سبيلك، وإن لم ترجع لنقتلنك قال: إن قتلي في سبيل الله لقليل، اللهم إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت عني السلام وبلغه ما يصنع بنا.
وعن أسامة بن زيد : «أن رسول الله ﷺ كان جالسا مع أصحابه فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي فسمعناه يقول: و﵇ ورحمة الله وبركاته، فلما سري عنه قال: هذا جبريل ﵇ يقرئني من خبيب السلام، خبيب قتلته قريش».
وقد جاء: أن المشركين دعوا أربعين ولدا ممن قتل آباؤهم يوم بدر فأعطوا كل واحد رمحا، وقالوا هذا الذي قتل آباءكم، فطعنوه بتلك الرماح حتى قتلوه، ووكلوا بتلك الخشبة أربعين رجلا، فأرسل رسول الله ﷺ المقداد والزبير بن العوام في إنزال خبيب عن خشبته. وفي لفظ قال: «أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ فقال له الزبير بن العوام : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فجاءا فوجدا عندها أربعين رجلا لكنهم سكارى نيام فأنزلاه» وذلك بعد أربعين يوما من صلبه وموته.
وحمله الزبير على فرسه وهو رطب لم يتغير منه شيء فشعر بهما المشركون، أي وكانوا سبعين رجلا فتبعوهما، فلما لحقوا بهما قذفه الزبير ، فابتلعته الأرض اهـ. ومن ثم قيل له بليع الأرض، أي وكشف الزبير العمامة عن رأسه وقال لهم: أنا الزبير بن العوام وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يذبان عن شبلهما، فإن شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا عنهما.
وقدما على رسول الله ﷺ المدينة وكان عنده جبريل ﵇، فقال له جبريل: يا محمد إن الملائكة تباهي بهذين الرجلين من أصحابك، فنزل فيهما: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} الآية، وتقدم أنه قيل إنها نزلت في عليّ كرم الله وجهه لما نام على فراشه ليلة ذهابه إلى الغار.
وقيل إنها نزلت في حق صهيب لما أراد الهجرة ومنعه منها قريش، فجعل لهم ثلث ماله أو كله كما تقدم.
ورأيت بعضهم هنا قال: إنها نزلت في صهيب لما أخذه المشركون ليعذبوه، فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أو من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني ففعلوا.
وفي كلام ابن الجوزي أن عمرو بن أمية هو الذي أنزل خبيبا، فعنه قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها فحللته فوقع إلى الأرض، ثم التفت فلم أر خبيبا ابتلعته الأرض، وهذا هو الموافق لما في السيرة الهشامية، وأن ذلك كان حين أرسله والأنصار لقتل أبي سفيان بن حرب كما سيأتي إن شاء الله تعالى: أي كان خبيب تحرك على الخشبة فانقلب وجهه عن القبلة: أي الكعبة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها، فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي الله لنفسه ولنبيه وللمؤمنين، ودعا عليهم خبيب ، فقال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، قال معاوية بن أبي سفيان : فألقى أبو سفيان بنفسه إلى الأرض على جنبه خوفا من دعوة خبيب ، لأنهم كانوا يقولون إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زال عنه: أي لم تصبه تلك الدعوة.
وقد ولى عمر بن الخطاب سعد بن عامر على بعض أجناد الشام، فقيل له إنه مصاب يلحقه غشي، فاستدعاه، فلما قدم عليه وجد معه مزودا وعكازا وقدحا، فقال له عمر : ليس معك إلا ما أرى، فقال له: وما أكثر من هذا يا أمير المؤمنين؟ مزودي أضع فيه زادي، وعكازي أحمل به ذلك، وقدحي آكل فيه، فقال له عمر : أبك لمم؟ فقال: لا، فقال: فما غشية بلغني أنها تصيبك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل، وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي فزاده ذلك عند عمر خيرا، ووعظ عمر، فقال له: من يقدر على ذلك؟ فقال: أنت يا أمير المؤمنين، إنما هو أن يقال فتطاع، فقال له عمر : ارجع إلى عملك، فأبى، وناشده الإعفاء، فأعفاه.
وكان خبيب هو الذي سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة، أي لأنه بلغه ذلك عنه فاستحسنه فكان سنة، وهذا يدل على أن واقعة زيد بن حارثة متأخرة عن قصة خبيب ، لكن في النور: والمعروف أن زيد بن حارثة صلاهما قبل خبيب بزمن طويل.
وفي الينبوع أن قصة زيد بن حارثة كانت قبل الهجرة، أي وكان ابن سيرين إذا سئل عن الركعتين قبل القتل، قال: صلاهما خبيب وحجروهما فاضلان، ويعني بحجر: حجر بن عدي ، فإن زيادا والي العراق من قبل معاوية وشى به إلى معاوية، فأمر معاوية بإحضاره، فلما قدم على معاوية، قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية : أو أمير المؤمنين أنا اضربوا عنقه، فلما قدم للقتل قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلاهما خفيفتين، ثم قال : لولا أن تظنوا بي غير الذي بي لأطلتهما، ثم قتل هو وخمسة من أصحابه.
ولما حج معاوية وجاء المدينة زائرا استأذن على عائشة فأذنت له، فلما قعد، قالت له: أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: إنما قتلهم من شهد عليهم.
وقصة زيد بن حارثة رواها الليث بن سعد. قال: بلغني أن زيد بن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف، فمال به ذلك الرجل إلى خربة وقال له: انزل فنزل زيد ، فإذا في الخربة المذكورة قتلى كثيرة، فلما أراد أن يقتله، قال له: دعني أصلي ركعتين، أي لأنه رأى أن الصلاة خير ما ختم به عمل العبد، قال صلّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا، وهذا يدل على أن القتلى كلهم كانوا مسلمين، قال: فلما صليت أتاني ليقتلني، فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتا يقول: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج يطلبه، فلم ير شيئا فرجع إليّ، فناديت يا أرحم الراحمين، فعل ذلك ثلاثا، فإذا بفارس على فرس في يده حربة حديد في رأسها شعلة نار فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا. ثم قال لي لما دعوت الأولى «يا أرحم الراحمين» كنت في السماء السابعة، فلما دعوت الثانية « يا أرحم الراحمين» كنت في سماء الدنيا، فلما دعوت الثالثة أتيتك.
أقول: وقد وقع مثل ذلك لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ من الأنصار يكنى أبا معلق، وكان يتجر بمال له ولغيره يسافر به في الآفاق، وكان ناسكا ورعا فخرج مرة في بعض أسفاره، فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك، فقال: ما تريد من دمي؟ فشأنك والمال، فقال: أما المال فلي، ولست أريد إلا دمك فقال: ذرني أصلي أربع ركعات، فقال صل ما شئت، فتوضأ ثم صلى أربع ركعات، ثم دعا في آخر سجدة، فقال: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، وكرر ذلك ثلاث مرات، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة وضعها من أدنى فرسه، فلما بصر به اللص أقبل نحوه، فطعنه الفارس فقتله، ثم أقبل إلى أبي معلق، فقال: قم، فقال: من أنت بأبي أنت وأمي، فلقد أغاثني الله بك اليوم، قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة، دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث، فقيل لي دعاء مكروب، فسألت الله تعالى أن يوليني قتله، قال أنس : من فعل ذلك استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب.
أي وقد وقع نظير هذه المسألة، أي من حيث إقراره على فعل غيره، وهو أنهم كانوا يأتون الصلاة قد سبقهم النبي ﷺ ببعضها، فكان الرجل يشير إلى الرجل كم صلى؟ فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما وحده، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم، فجاء معاذ ، فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها، ثم قضيت ما سبقني، فجاء وقد سبقه النبي ﷺ ببعضها فثبت معه، فلما قضى رسول الله ﷺ صلاته قام فقضى ما عليه، فقال رسول الله ﷺ: إنه قد سن لكم معاذ، فكذا فاصنعوا، أي وكان هذا قبل قوله: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا».
وأخرج صفوان بن أمية زيدا إلى الحل مع مولى له ليقتله به، واجتمع عند قتله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فلما قدم للقتل، قال له أبو سفيان : انشدك بالله يا زيد أتحب محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك، فقال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لخالص في أهلي، فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا، ونقل مثل ذلك عن خبيب ، أي فإنهم لما وضعوا السلاح في خبيب وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله ما أحب أن يؤذى بشوكة في قدمه، ثم قتله ذلك المولى. أي طعنه برمح في صدره حتى أنفذه من ظهره، وقيل رمي بالنبل، وأرادوا فتنته عن دينه، فلم يزدد إلا إيمانا.
ولما قتل عاصم الذي هو أمير هذه السرية على ما تقدم، أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار وكلام بعضهم يقتضي أنها أسلمت بعد، فإن عاصما هذا كما تقدم قتل يوم أحد ولديها كلاهما أشعره سهما، وكل يأتي إليها بعد إصابته بالسهم ويضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا يقول حين رماني: خذها وأنا ابن أبي الأفلح فنذرت إن قدرت على رأسه لتشربن في قحفة الخمر، وجعلت لمن يجيء برأسه مائة ناقة كما تقدم، فحالت الدبر بفتح الدال المهملة وسكون الباء الموحدة: وهي الزنابير بينهم وبين عاصم ، كلما قدموا على قحفة طارت في وجوههم ولدغتهم فقالوا: دعوه حتى يمسي فنأخذه، فبعث الله الوادي: أي سال، فاحتمل السيل عاصما فذهب به حيث أراد الله فسمي حمى الدبر وبعث ناس من قريش لما بلغهم قتل عاصم في طلب جسده أو شيء منه يعرفونه: أي ليمثلوا به لأنه قتل عظيما من عظمائهم، قال الحافظ ابن حجر لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصما قتله صبرا بإذن رسول الله ﷺ بعد أن انصرفوا من بدر أي كما تقدم، قال: وكأنّ قريشا لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الزنابير لهم عن عاصم، أو شعروا بذلك ورجوا أن الزنابير تركته: أي ولم يشعروا بأن السيل أخذه اهـ أي وقد كان عاصم دعا الله أن لا يمس مشركا، ولا يمسه مشرك في حياته، وتقدم هنا أنه دعا الله أن يحمي لحمه فاستجاب الله له، فلم يحصل له ذلك لا في حياته ولا بعد موته.
أي وفي كلام بعضهم: لما نذر عاصم أن لا يمس مشركا ووفى بنذره عصمه الله عن مساس سائر المشركين إياه، فصار عاصم معصوما هذا.
وقيل إن هؤلاء العشرة لم يخرجوا ليأتوا بخبر قريش، وإنما خرجوا مع رهط من عضل والقارة، وهما بطنان من بني الهون قدموا على رسول الله ﷺ وقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام، فبعث معهم أولئك النفر، فساروا حتى إذا كانوا على الرجيع استصرخوا عليهم هذيلا، فلم يشعروا إلا والرجال بأيديهم السيوف فدعوهم فأخذوا أسيافهم ليقتلوا القوم، فقالوا لهم: والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، فأبوا الحديث، والحافظ الدمياطي اقتصر على هذا الثاني، وأن أميرهم كان مرثدا الغنوي ، فقال: سرية مرثد الغنوي إلى الرجيع، قال قدم رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما الحديث، لكنه في سياق القصة قال وأمر عليهم عاصما وقيل مرثدا ، وأخر هذه السرية عن السرية بعدها التي هي سرية القراء إلى بئر معونة.