مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/الزعم بأن المنطق آلة قانونية


الزعم بأن المنطق آلة قانونية

والكلام في المنطق إنما وقع لما زعموا أنه آلة قانونية، تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، فاحتجنا أن ننظر في هذه الآلة، هل هي كما قالوا، أو ليس الأمر كذلك؟ ومن شيوخهم من إذا بين له من فساد أقوالهم، ما يتبين به ضلالهم، وعجز عن دفع ذلك، يقول: هذه علوم قد صقلتها الأذهان أكثر من ألف سنة وقبلها الفضلاء، فيقال له عن هذا أجوبة:

أحدها: أنه ليس الأمر كذلك، فما زال العقلاء الذين هم أفضل من هؤلاء ينكرون عليهم ويبينون خطأهم وضلالهم، فأما القدماء، فالنزاع بينهم كثير معروف، وفي كتب أخبارهم ومقالاتهم من ذلك ما ليس هذا موضع ذكره، فأما أيام الإسلام، فإن كلام نظار المسلمين في بيان فساد ما أفسدوه من أصولهم المنطقية والإلهية، بل والطبيعية والرياضية كثير، قد صنف فيه كل طائفة من طوائف نظار المسلمين حتى الرافضة، وأما شهادة سائر طوائف أهل الإيمان والعلماء بضلالهم، وكفرهم، فهذا البيان عام لا يدفعه إلا معاند، والمؤمنون شهداء الله في الأرض، فإذا كان أعيان الأذكياء الفضلاء من الطوائف، وسائر أهل العلم والإيمان معلنين بتخطئتهم وتضليلهم إما جملة وإما تفصيلا، امتنع أن يكون العقلاء قاطبة تلقوا كلامهم بالقبول.

الوجه الثاني: أن هذا ليس بحجة، فإن الفلسفة التي كانت قبل أرسطو وتلقاها من قبله بالقبول طعن أرسطو في كثير منها وبين خطأهم، وابن سينا وأتباعه خالفوا القدماء في طائفة من أقاويلهم وبينوا خطأهم. ورد الفلاسفة بعضهم على بعض أكثر من رد كل طائفة بعضهم على بعض، وأبو البركات وأمثاله قد ردوا على أرسطو ما شاء الله؛ لأنهم يقولون: إنما قصدنا الحق، ليس قصدنا التعصب لقائل معين ولا لقول معين.

والثالث: أن دين عباد الأصنام أقدم من فلسفتهم، وقد دخل فيه من الطوائف أعظم ممن دخل في فلسفتهم، وكذلك دين اليهود المبدل أقدم من فلسفة أرسطو، ودين النصارى المبدل قريب من زمن أرسطو، فإن أرسطو كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، فإنه كان في زمن الإسكندر بن فيلبس الذي يؤرخ به تاريخ الروم الذي يستعمله اليهود والنصارى.

الرابع: أن يقال: فهب أن الأمر كذلك، فهذه العلوم عقلية محضة ليس فيها تقليد لقائل، وإنما تعلم بمجرد العقل، فلا يجوز أن تصحح بالنقل، بل ولا يتكلم فيها إلا بالمعقول المجرد، فإذا دل المعقول الصريح على بطلان الباطل منها، لم يجز رده، فإن أهلها لم يدعوا أنها مأخوذة عن شيء يجب تصديقه، بل عن عقل محض، فيجب التحاكم فيها إلى موجب العقل الصريح.


هامش



مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع - المنطق
سئل شيخ الإسلام عن المنطق | فصل في وصف جنس كلام المناطقة | مسألة في القياس | قال شيخ الإسلام واصفا المنطق اليوناني | الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين | المقام الأول | المقام الثاني | فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس | تنازع العلماء في مسمى القياس | العلوم ثلاثة | تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات | الفرق بين الآيات وبين القياس | قياس الأولى | فصل في تقسيم جنس الدليل إلى القياس والاستقراء | فصل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين | قول المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية | ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا | التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه | قياس الشبه | الزعم بأن المنطق آلة قانونية | فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن | قولهم إن الفراسة البدنية هي عين التمثيل | تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل | قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ظني | ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل | فصل في قولهم إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات | علم الفرائض نوعان | لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع | ليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورا على مجرد الخبر | اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق | اتفاق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات | من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف | فصل في ضبط كليات المنطق | فصل اختلاف العلماء في مسمى القياس | فصل الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد | فصل ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين | سئل عن كتب المنطق | سئل شيخ الإسلام عن العقل | تسمية أرسطو وأتباعه الرب عقلا وجوهرا | فصل اسم العقل صفة | فصل عن الروح المدبرة للبدن | فصل عن معاني الروح والنفس | النفوس ثلاثة أنواع | فصل كيفية تعلم النفس | فصل عن الجوهر | سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل | فصل في حكمة خلق القلب