مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/الفرق بين الآيات وبين القياس
الفرق بين الآيات وبين القياس
والفرق بين الآيات وبين القياس: أن الآية هي العلامة، وهي الدليل الذي يستلزم عين المدلول، لا يكون مدلوله أمرًا كليًا مشتركًا بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم به يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار، قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } 1، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار، وكذلك نبوة محمد ﷺ: العلم بنبوته بعينه لا يوجب أمرًا مشتركًا بينه وبين غيره.
وكذلك آيات الرب تعالى نفس العلم بها يوجب العلم بنفسه المقدسة تعالى، لا يوجب علمًا كليا مشتركًا بينه وبين غيره، والعلم بكون هذا مستلزمًا لهذا هو جهة الدليل، فكل دليل في الوجود لابد أن يكون مستلزمًا للمدلول، والعلم باستلزام المعين للمعين المطلوب أقرب إلى الفطرة من العلم بأن كل معين من معينات القضية الكلية يستلزم النتيجة، والقضايا الكلية هذا شأنها.
فإن القضايا الكلية إن لم تعلم معيناتها بغير التمثيل وإلا لم تعلم إلا بالتمثيل، فلابد من معرفة لزوم المدلول للدليل الذي هو الحد الأوسط، فإذا كان كليا فلابد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الحكم الكلي المطلوب يلزم كل فرد من أفراد الدليل، كما إذا قيل: كل أ: ب، وكل ب: ج، فكل ج: أ، فلابد أن يعرف أن كل فرد من أفراد الجيم يلزم كل فرد من أفراد الباء وكل فرد من أفراد الباء يلزم كل فرد من أفراد الألف. ومعلوم أن العلم بلزوم الجيم المعين للباء المعين، والباء المعين للألف المعين أقرب إلى الفطرة من هذا. وإذا قيل: تلك القضية الكلية تحصل في الذهن ضرورة أو بديهة من واهب العقل. قيل: حصول تلك القضية المعينة في الذهن من واهب العقل أقرب. ومعلوم أن كل ما سوى الله من الممكنات فإنه مستلزم لذات الرب تعالى. يمتنع وجوده بدون وجود ذات الرب تعالى، وتقدس، وإن كان مستلزمًا أيضا لأمور كلية مشتركة بينه وبين غيره فلأنه يلزم من وجوده وجود لوازمه.
وتلك الكليات المشتركة من لوازم المعين، أعني يلزمه ما يخصه من ذلك الكلي العام، والكلي المشترك يلزمه بشرط وجوده، ووجود العالم الذي يتصور القدر المشترك وهو سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، فيعلم نفسه المقدسة بما يخصها، ويعلم الكليات أنها كليات، فيلزم من وجود الخاص وجود العام المطلق، كما يلزم من وجود هذا الإنسان وجود الإنسانية والحيوانية، فكل ما سوى الرب مستلزم لنفسه المقدسة بعينها، يمتنع وجود شيء سواه بدون وجود نفسه المقدسة، فإن الوجود المطلق الكلي لا تحقق له في الأعيان. فضلا عن أن يكون خالقًا لها مبدعًا.
ثم يلزم من وجود المعين وجود المطلق المطابق، فإذا تحقق الموجود الواجب، تحقق الوجود المطلق المطابق، وإذا تحقق الفاعل لكل شيء، تحقق الفاعل المطلق المطابق، وإذا تحقق القديم الأزلي، تحقق القديم المطلق المطابق، وإذا تحقق الغني عن كل شيء، تحقق الغني المطلق المطابق، وإذا تحقق رب كل شيء تحقق الرب المطابق، كما ذكرنا أنه إذا تحقق هذا الإنسان وهذا الحيوان تحقق الإنسان المطلق المطابق، والحيوان المطلق المطابق، لكن المطلق لا يكون مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فإذا علم إنسان وجود إنسان مطلق وحيوان مطلق لم يكن عالما بنفس العين.
كذلك إذا علم واجبا مطلقا وفاعلا مطلقًا وغنيا مطلقا، لم يكن عالما بنفس رب العالمين وما يختص به عن غيره، وذلك هو مدلول آياته تعالى. فآياته تستلزم عينه التي يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها. وكل ما سواه دليل على عينه وآية له، فإنه ملزوم لعينه وكل ملزوم فإنه دليل على ملزوم، ويمتنع تحقق شيء من الممكنات إلا مع تحقق عينه، فكلها لازمة لنفسه دليل عليه آية له، ودلالتها بطريق قياسهم على الأمر المطلق الكلي الذي لا يتحقق إلا في الذهن فلم يعلموا ببرهانهم ما يختص بالرب تعالى.
هامش
- ↑ [الإسراء: 12]