مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/مسألة في القياس
مسألة في القياس
وأما مسألة القياس فالكلام عليه في مقامين:
أحدهما: في القياس المطلق الذي جعلوه ميزان العلوم، وحرروه في المنطق.
والثاني: في جنس الأقيسة التي يستعملونها في العلوم.
أما الأول: فنقول: لا نزاع أن المقدمتين إذا كانتا معلومتين وألفتا على الوجه المعتدل، أنه يفيد العلم بالنتيجة، وقد جاء في صحيح مسلم مرفوعًا: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام»، لكن هذا لم يذكره النبي ﷺ ليستدل به على منازع ينازعه، بل التركيب في هذا كما قال أيضا في الصحيح: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» أراد أن يبين لهم أن جميع المسكرات داخلة في مسمى الخمر الذي حرمه الله، فهو بيان لمعنى الخمر، وهم قد علموا أن الله حرم الخمر وكانوا يسألونه عن أشربة من عصير العنب، كما في الصحيحين عن أبى موسى أنه ﷺ سئل عن شراب يصنع من الذرة يسمى المزْر، وشراب يصنع من العسل يسمى البِتْع، وكان قد أوتي جوامع الكلم، فقال: «كل مسكر حرام». فأراد أن يبين لهم بالكلمة الجامعة وهي القضية الكلية أن «كل مسكر خمر»، ثم جاء بما كانوا يعلمونه من أن "كل خمر حرام" حتى يثبت تحريم المسكر في قلوبهم، كما صرح به في قوله: «كل مسكر حرام»، ولو اقتصر على قوله: «كل مسكر حرام»، لتأوله متأول على أنه أراد القدح الأخير كما تأوله بعضهم.
ولهذا قال أحمد: قوله: «كل مسكر خمر» أبلغ ؛ فإنهم لا يسمون القدح الأخير خمرًا، ولو قال: «كل مسكر خمر» فقط لتأوله بعضهم على أنه يشبه الخمر في التحريم، فلما زاد: «وكل خمر حرام» علم أنه أراد دخوله في اسم الخمر التي حرمها الله.
والغرض هنا أن صورة القياس المذكورة فطرية لا تحتاج إلى تعلم، بل هي عند الناس بمنزلة الحساب، ولكن هؤلاء يطولون العبارات ويغربونها.
وكذلك انقسام المقدمة التي تسمى القضية وهي الجملة الخبرية إلى خاص وعام، ومنفى ومثبت ونحو ذلك، وأن القضية الصادقة يصدق عكسها وعكس نقيضها، ويكذب نقيضها، وإن جملتها تختلف ونحو ذلك.
وكذلك تقسيم القياس إلى الحملي الإفرادي، والاستثنائي التلازمي والتعاندي وغير ذلك، غالبه وإن كان صحيحًا ففيه ما هو باطل. والحق الذي هو فيه، فيه من تطويل الكلام وتكثيره بلا فائدة، ومن سوء التعبير والعي في البيان، ومن العدول عن الصراط المستقيم القريب إلى الطريق المستدير البعيد، ما ليس هذا موضع بيانه.
فحقه النافع فطري لا يحتاج إليه، وما يحتاج إليه ليس فيه منفعة إلا معرفة اصطلاحهم وطريقهم أو خطئهم.
وهذا شأن كل ذي مقالة من المقالات الباطلة، فإنه لابد منه في معرفة لغته وضلاله، فاحتيج إليه لبيان ضلاله الذي يعرف به الموقنون حاله، ويستبين لهم ما بين الله من حكمه جزاءً وأمرًا؛ وأن هؤلاء داخلون فيما يذم به من تكلف القول الذي لا يفيد، وكثرة الكلام الذي لا ينفع.
والمقصود هنا ذكر وجوه:
الوجه الأول:
أن القياس المذكور لا يفيد علمًا إلا بواسطة قضية كلية موجبة. فلابد من كلية جامعة ثابتة في كل قياس. وهذا متفق عليه معلوم أيضا؛ ولهذا قالوا: لا قياس عن سالبتين، ولا عن جزئيتين. وإذا كان كذلك وجب أن تكون العلوم الكلية الكلمات الجامعة هي أصول الأقيسة والأدلة، وقواعدها التي تبني عليها وتحتاج إليها.
ثم قالوا: إن مبادئ القياس البرهاني هي العلوم اليقينية التي هي الحسيات الباطنة والظاهرة، والعقليات والبديهيات والمتواترات والمجربات، وزاد بعضهم: الحدسيات. وليس في شيء من الحسيات الباطنة والظاهرة قضايا كلية؛ إذ الحس الباطن والظاهر لا يدرك إلا أمورًا معينة لا تكون إلا إذا كان المخبر أدرك ما أخبر به بالحس، فهي تبع للحسيات. وكذلك التجربة إنما تقع على أمور معينة محسوسة. وإنما يحكم العقل على النظائر بالتشبيه، وهو قياس التمثيل، والحدسيات عند من يثبتها منهم من جنس التجريبيات.
لكن الفرق: أن التجربة تتعلق بفعل المجرب كالأطعمة والأشربة والأدوية، والحدس يتعلق بغير فعل، كاختلاف أشكال القمر عند اختلاف مقابلته للشمس، وهو في الحقيقة تجربة علمية بلا عمل، فالمستفاد به أيضا أمور معينة جزئية، لا تصير عامة إلا بواسطة قياس التمثيل.
وأما البديهيات وهي العلوم الأولية التي يجعلها الله في النفوس ابتداء بلا واسطة، مثل الحساب، وهي كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين فإنها لا تفيد العلم بشيء معين موجود في الخارج، مثل الحكم على العدد المطلق والمقدار المطلق، وكالعلم بأن الأشياء المساوية لشيء واحد هي متساوية في أنفسها، فإنك إذا حكمت على موجود في الخارج لم يكن إلا بواسطة الحس مثل العقل، فإن العقل؛ إنما هو عقل ما علمته بالإحساس الباطن أو الظاهر بعقل المعاني العامة أو الخاصة.
فأما أن العقل الذي هو عقل الأمور العامة التي أفرادها موجودة في الخارج يحصل بغير حس، فهذا لا يتصور. وإذا رجع الإنسان إلى نفسه وجد أنه لا يعقل ذلك مستغنيًا عن الحس الباطن والظاهر لكليات مقدرة في نفسه، مثل الواحد، والاثنين، والمستقيم والمنحنى، والمثلث والمربع، والواجب والممكن والممتنع، ونحو ذلك مما يفرضه هو ويقدره. فأما العلم بمطابقة ذلك المقدر للموجود في الخارج والعلم بالحقائق الخارجية، فلابد فيه من الحس الباطن أو الظاهر. فإذا اجتمع الحس والعقل كاجتماع البصر والعقل أمكن أن يدرك الحقائق الموجودة المعينة ويعقل حكمها العام الذي يندرج فيه أمثالها لا أضدادها، ويعلم الجمع والفرق. وهذا هو اعتبار العقل وقياسه.
وإذا انفرد الإحساس الباطن أو الظاهر، أدرك وجود الموجود المعين. وإذا انفرد المعقول المجرد، علم الكليات المقدرة فيه التي قد يكون لها وجود في الخارج وقد لا يكون، ولا يعلم وجود أعيانها وعدم وجود أعيانها إلا بإحساس باطن أو ظاهر.
فإنك إذا قلت: موجود أن المائة عُشْر الألف لم تحكم على شيء في الخارج، بل لو لم يكن في العالم ما يعد بالمائة والألف لكنت عالما بأن المائة المقدرة في عقلك عشر الألف. ولكن إذا أحسست بالرجال والدواب والذهب والفضة، وأحسست بحسك أو بخبر من أحس أن هناك مائة رجل أو درهم، وهناك ألف ونحو ذلك، حكمت على أحد المعدودين بأنه عُشْر الآخر. فأما المعدودات فلا تدرك إلا بالحس، والعدد المجرد يعقل بالقلب، وبعقل القلب والحس، يعلم العدد والمعدود جميعًا، وكذلك المقادير الهندسية هي من هذا الباب.
فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة، ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار، لا في الأمور الخارجية الموجودة.
فإذا كانت مواد القياس البرهاني لا يدرك بعامتها إلا أمور معينة ليست كلية، وهي الحس الباطن والظاهر، والتواتر والتجربة والحدس والذي يدرك الكليات البديهية الأولية، إنما يدرك أمورًا مقدرة ذهنية، لم يكن في مبادئ البرهان ومقدماته المذكورة ما يعلم به قضية كلية عامة للأمور الموجودة في الخارج، والقياس لا يفيد العلم إلا بواسطة قضية كلية، فامتنع حينئذ أن يكون فيما ذكروه من صورة القياس ومادته حصول علم يقيني.
وهذا بين لمن تأمله، وبتحريره وجودة تصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف، وسنبين إن شاء الله من أي وجه وقع عليهم اللبس.
فتدبر هذا، فإنه من أسرار عظائم العلوم التي يظهر لك به ما يجل عن الوصف من الفرق بين الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية، وبين الطريقة القياسية المنطقية الكلامية.
وقد تبين لك بإجماعهم وبالعقل أن القياس المنطقي لا يفيد إلا بواسطة قضية، وتبين لك أن القضايا التي هي عندهم مواد البرهان وأصوله ليس فيها قضية كلية للأمور الموجودة، وليس فيها ما تعلم به القضية الكلية إلا العقل المجرد الذي يعقل المقدرات الذهنية، وإذا لم يكن في أصول برهانهم علم بقضية عامة للأمور الموجودة لم يكن في ذلك علم.
وليس فيما ذكرناه ما يمكن النزاع فيه إلا القضايا البديهية، فإن فيها عمومًا، وقد يظن أنه به تعلم الأمور الخارجة، فيفرض أنها تفيد العلوم الكلية، لكن بقية المبادئ ليس فيها علم كلي.
فكان الواجب ألا يجعل مقدمة البرهان إلا القضايا العقلية البديهية المحضة؛ إذ هي الكلية. وأما بقية القضايا فهي جزئية، فكيف يصلح أن تجعل من مقدمات البرهان؟ إلا أن يقال: تعلم بها أمور جزئية وبالعقل أمور كلية، فبمجموعهما يتم البرهان، كما يعلم بالحس أن مع هذا ألف درهم ومع هذا ألفان، ويعلم بالعقل أن الاثنين أكثر من الواحد، فيعلم أن مال هذا أكثر.
فيقال: هذا صحيح، لكن هذا إنما يفيد قضية جزئية معينة، وهو كون مال هذا أكثر من مال هذا. والأمور الجزئية المعينة لا تحتاج في معرفتها إلى قياس، بل قد تعلم بلا قياس، وتعلم بقياس التمثيل، وتعلم بالقياس عن جزئيتين، فإنك تعلم بالحس أن هذا مثل هذا، وتعلم أن هذا من نعته كيت وكيت، فتعلم أن الآخر مثله، وتعلم أن حكم الشيء حكم مثله. وكذلك قد يعلم أن زيدًا أكبر من عمرو، وعمرًا أكبر من خالد، وأمثال هذه الأمور المعينة التي تعلم بدون قياس الشمول الذي اشترطوا فيه ما اشترطوا.
فقد تبين أن هذا القياس العقلي المنطقي الذي وضعوه وحددوه لا يعلم بمجرده شيء من العلوم الكلية الثابتة في الخارج، فبطل قولهم: إنه ميزان العلوم الكلية البرهانية، ولكن يعلم به أمور معينة شخصية جزئية، وتلك تعلم بغيره أجود مما تعلم به. وهذا هو:
الوجه الثاني:
فنقول: أما الأمور الموجودة المحققة فتعلم بالحس الباطن والظاهر، وتعلم بالقياس التمثيلي، وتعلم بالقياس الذي ليس فيه قضية كلية ولا شمول ولا عموم بل تكون الحدود الثلاثة فيه الأصغر والأوسط والأكبر أعيانًا جزئية، والمقدمتان والنتيجة قضايا جزئية. وعلم هذه الأمور المعينة بهذه الطرق أصح وأوضح وأكمل؛ فإن من رأى بعينه زيدًا في مكان وعمرًا في مكان آخر، استغنى عن أن يستدل على ذلك بكون الجسم الواحد لا يكون في مكانين، وكذلك من وزن دراهم كل منها ألف درهم، استغنى عن أن يستدل على ألف درهم منها بأنها مساوية للصنجة، وهي شيء واحد، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية، وأمثال ذلك كثير؛ ولهذا يسمى هؤلاء أهل كلام أي لم يفيدوا علمًا لم يكن معروفًا، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما ضربوه من القياس؛ لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس، كما سنذكره إن شاء الله.
وكذلك إذا علم الإنسان أن هذا الدينار مثل هذا، وهذا الدرهم مثل هذا، وأن هذه الحنطة والشعير مثل هذا، ثم علم شيئًا من صفات أحدهما وأحكامه الطبيعية، مثل الاغتذاء والانتفاع، أو العادية مثل القيمة والسعر، أو الشرعية مثل الحل والحرمة علم أن حكم الآخر مثله.
فأقيسة التمثيل تفيد اليقين بلا ريب، أعظم من أقيسة الشمول، ولا يحتاج مع العلم بالتماثل إلى أن يضرب لهما قياس شمول، بل يكون من زيادة الفضول.
وبهذا الطريق عرفت القضايا الجزئية بقياس التمثيل.
ومن قال: إن ذلك بواسطة قياس شمول ينعقد في النفس، وهو أن هذا لو كان اتفاقيًا لما كان أكثريًا، فقد قال الباطل؛ فإن الناس العالمين بما جربوه لا يخطر بقلوبهم هذا، ولكن بمجرد علمهم بالتماثل يبادرون إلى التسوية في الحكم؛ لأن نفس العلم بالتماثل يوجب ذلك بالبديهة العقلية، فكما علم بالبديهة العقلية أن الواحد نصف الاثنين، علم بها أن حكم الشيء حكم مثله، وأن الواحد مثل الواحد، كما علم أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.
فالتماثل والاختلاف في الصفة أو القدر قد يعلم بالإحساس الباطن والظاهر، والعلم بأن المثلين سواء، وأن الأكثر والأكبر أعظم وأرجح، يعلم ببديهة العقل.
وكذلك القياس المؤلف من قضايا معينة، مثل العلم بأن زيدًا أخو عمرو، وعمرو أخو بكر، فزيد أخو بكر. ومثل العلم بأن أبا بكر أفضل من عمر، وعمر أفضل من عثمان وعلي، فأبو بكر أفضل من عثمان وعلي. وأن المدينة أفضل من بيت المقدس والمدينة لا يجب أن يحج إليها، فبيت المقدس لا يحج إليه. وقبر الرسول ﷺ أفضل القبور، ولا يشرع استلامه ولا تقبيله، فقبر فلان وفلان وفلان لا يشرع استلامه ولا تقبيله، وأمثال هذه الأقيسة ملء العالم. وهذا أبلغ في إفادة حكم المعين من ذكر العام. فدلالة الاسم الخاص على المعين أبلغ من الدلالة عليه بالاسم العام، وإن كان في العام أمور أخرى ليست في الخاص.
فتبين أن المعلوم من الأمور المعينة يعلم بالحس وبقياس التمثيل والأقيسة المعينة أعظم مما يعلم أعيانها بقياس الشمول، فإذا كان قياس الشمول الذي حرروه لا يفيد الأمور الكلية، كما تقدم، ولا تحتاج إليه الأمور المعينة، كما تبين، لم يبق فيه فائدة أصلًا، ولم يحتج إليه في علم كلي، ولا علم معين، بل صار كلامهم في القياس الذي حرروه كالكلام في الحدود، وهذا هذا، فتدبره فإنه عظيم القدر.
الوجه الثالث:
أن يقال: إذا كان لابد في القياس من قضية كلية والحس لا يدرك الكليات، وإنما تدرك بالعقل. ولا يجوز أن تكون معلومة بقياس آخر، لما يلزم من الدور أو التسلسل، فلابد من قضايا كلية تعقل بلا قياس، كالبديهيات التي جعلوها.
فنقول: إذ وجب الاعترف بأن من العلوم الكلية العقلية ما يبتدئ في النفوس ويبدهها بلا قياس، وجب الجزم بأن العلوم الكلية العقلية قد تستغني عن القياس، وهذا مما اعترفوا به هم وجميع بني آدم؛ أن من التصور والتصديق ما هو بديهي لا يحتاج إلى كسب بالحد والقياس، وإلا لزم الدور أو التسلسل.
وإذا كان كذلك، فنقول: إذا جاز هذا في علم كلي، جاز في آخر؛ إذ ليس بين ما يمكن أن يعلم ابتداء من العلوم البديهية وما لا يجوز أن يعلم فصل يطرد، بل هذا يختلف باختلاف قوة العقل وصفائه، وكثرة إدراك الجزئيات التي تعلم بواسطتها الأمور الكلية، فما من علم من الكليات إلا وعلمه يمكن بدون القياس المنطقي، فلا يجوز الحكم بتوقف شيء من العلوم الكلية عليه، وهذا يتبين ب:
الوجه الرابع:
وهو أن نقول: هب أن صورة القياس المنطقي ومادته تفيد علومًا كلية، لكن من أين يعلم أن العلم الكلي لا ينال حتى يقول هؤلاء المتكلفون القافون ما ليس لهم به علم، هم ومن قلدهم من أهل الملل وعلمائهم: إن ما ليس ببديهي من التصورات والتصديقات لا يعلم إلا بالحد والقياس، وعدم العلم ليس علما بالعدم. فالقائل لذلك لم يمتحن أحوال نفسه، ولو امتحن أحوال نفسه لوجد له علومًا كلية بدون القياس المنطقي، وتصورات كثيرة بدون الحد. وإن علم ذلك من نفسه أو بني جنسه، فمن أين له أن جميع بني آدم- مع تفاوت فطرهم وعلومهم ومواهب الحق لهم - هم بمنزلته، وأن الله لا يمنح أحدًا علمًا إلا بقياس منطقي ينعقد في نفسه، حتى يزعم هؤلاء أن الأنبياء كانوا كذلك، بل صعدوا إلى رب العالمين، وزعموا أن علمه بأمور خلقه إنما هو بواسطة القياس المنطقي. وليس معهم بهذا النفي الذي لم يحيطوا بعلمه من حجة إلا عدم العلم، فيدعون العلم، وقد تكلموا بهذه القضية الكلية السالبة التي تعم ما لا يحصى عدده إلا الله بلا علم لهم بها أصلا. ويزيد هذا بيانا:
الوجه الخامس:
وهو أن المبادئ المذكورة التي جعلوها مفيدة لليقين وهي الحسيات الباطنة والظاهرة، والبديهيات والتجريبيات والحدسيات لا ريب أنها تفيد اليقين الحسي، فمن أين لهم أن اليقين لا يحصل بغيرها؟ لابد من دليل على النفي، حتى يصح قولهم: لا يحصل اليقين بدونها.
فهذا صحيح، لكنه ليس هو قول رؤوسهم.
ولا ريب أن من له عقل وإيمان، يجب أن يخالفهم في تكذيبهم بالحق الخارج عن هذا الطريق.
ومن هذا الموضع صار منافقًا وتزندق من نافق منهم، وصار عند عقلاء الناس من أهل الملل وغيرهم أن المنطق مظنة التكذيب بالحق والعناد والزندقة والنفاق، حتى حكى لنا بعض الناس: أن شخصًا من الأعاجم جاء ليقرأ على بعض شيوخهم منطقًا، فقرأ منه قطعة، ثم قال: حواجًا، أي باب ترك الصلاة؟ فضحكوا منه.
وهذا موجود بالاستقراء أن من حسن الظن بالمنطق وأهله إن لم يكن له مادة من دين وعقل يستفيد بها الحق الذي ينتفع به، وإلا فسد عقله ودينه.
ولهذا يوجد فيهم من الكفر والنفاق والجهل والضلال وفساد الأقوال والأفعال ما هو ظاهر لكل ناظر من الرجال؛ ولهذا كان أول من خلطه بأصول الفقه ونحوه من العلوم الإسلامية كثير الاضطراب.
فإنه كان كثير من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون: المنطق كالحساب ونحوه، مما لا يعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه.
فهذا كلام من رأى ظاهره وما فيه من الكلام على الأمور المفردة لفظًا ومعنى، ثم على تأليف المفردات، وهو القضايا ونقيضها وعكسها المستوي وعكس النقيض، ثم على تأليفها بالحد والقياس، وعلى مواد القياس، وإلا فالتحقيق: أنه مشتمل على أمور فاسدة، ودعاوي باطلة كثيرة، لا يتسع هذا الموضع لاستقصائها والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله محمد، الداعي إلى الهدى والرشاد، وعلى آله ومن اتبع هداه.
هامش