مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل اسم العقل صفة
فصل اسم العقل صفة
والمقصود هنا أن اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنما هو صفة، وهو الذي يسمى عرضًا قائمًا بالعاقل، وعلى هذا دل القرآن في قوله تعالى: { لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ }. 1. وقوله: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } 2. وقوله: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } 3 ونحو ذلك مما يدل على أن العقل مصدر عقل يعقل عقلا، وإذا كان كذلك فالعقل لا يسمى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم، بل إنما يسمى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم، ولهذا قال أهل النار: { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } 4 وقال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } 5.
والعقل المشروط في التكليف لابد أن يكون علومًا يميز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره، فالمجنون الذي لا يميز بين الدراهم والفلوس، ولا بين أيام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل، أما من فهم الكلام وميز بين ما ينفعه وما يضره فهو عاقل.
ثم من الناس من يقول: العقل هو علوم ضرورية، ومنهم من يقول: العقل هو العمل بموجب تلك العلوم.
والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا، وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم ويميز ويقصد المنافع دون المضار، كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما: إن العقل غريزة، وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء، كما أن في العين قوة بها يبصر، وفي اللسان قوة بها يذوق، وفي الجلد قوة بها يلمس عند جمهور العقلاء.
ومن الناس من ينكر القوى والطبائع كما هو قول أبي الحسن ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهؤلاء المنكرون للقوي والطبائع ينكرون الأسباب أيضا ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها، فيقولون: إن الله لا يشبع بالخبز، ولا يروي بالماء، ولا ينبت الزرع بالماء، بل يفعل عنده لا به، وهؤلاء خالفوا الكتاب والسنة وإجماع السلف مع مخالفة صريح العقل والحس، فإن الله قال في كتابه: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } 6 فأخبر أنه ينزل الماء بالسحاب، ويخرج الثمر بالماء. وقال تعالى: { وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } 7 وقال: { وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } 8 وقال: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } 9 وقال: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } 10 وقال: { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } 11 ومثل هذا في القرآن كثير.
والناس يعلمون بحسهم وعقلهم أن بعض الأشياء سبب لبعض، كما يعلمون أن الشبع يحصل بالأكل لا بالعد، ويحصل بأكل الطعام لا بأكل الحصى وأن الماء سبب لحياة النبات والحيوان كما قال: { وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } 12، وأن الحيوان يروي بشرب الماء لا بالمشي، ومثل ذلك كثير، ولبسط هذه المسائل موضع آخر.
هامش
- ↑ [البقرة: 37]
- ↑ [الحج: 46]
- ↑ [آل عمران: 118]
- ↑ [الملك: 10]
- ↑ [الحج: 46]
- ↑ [الأعراف: 57]
- ↑ [البقرة: 164]
- ↑ [ق: 9]
- ↑ [التوبة: 14]
- ↑ [المائدة: 15، 16]
- ↑ [البقرة: 26]
- ↑ [الأنبياء: 30]