مجموع الفتاوى/المجلد التاسع/فصل عن الروح المدبرة للبدن


فصل عن الروح المدبرة للبدن

عدل

والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت، قال النبي لما نام عن الصلاة: «إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء» وقال له بلال: يارسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وقال تعالى } اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } 1

قال ابن عباس وأكثر المفسرين: يقبضها قبضين: قبض الموت، وقبض النوم، ثم في النوم يقبض التي تموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى حتى يأتي أجلها وقت الموت.

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه كان يقول إذا نام: «باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وارحمها. وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين»، وقد ثبت في الصحيح: أن الشهداء جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش. وثبت أيضا بأسانيد صحيحة: أن الإنسان إذا قبضت روحه فتقول الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجى راضية مرضيًا عنك، ويقال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ساخطة مسخوطًا عليك، وفي الحديث الآخر: «نسمة المؤمن طائر تعلق من ثمر الجنة ثم تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش» فسماها نسمة.

وكذلك في الحديث الصحيح حديث المعراج: أن آدم عليه السلام قبل يمينه أسودة، وقبل شماله أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، وأن جبريل قال للنبي : «هذه الأسودة نسم بنيه: عن يمينه السعداء، وعن يساره الأشقياء»، وفي حديث علي: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة»، وفي الحديث الصحيح: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر» فقد سمى المقبوض وقت الموت ووقت النوم روحًا ونفسا، وسمى المعروج به إلى السماء روحًا ونفسًا، لكن يسمى نفسًا باعتبار تدبيره للبدن ويسمى روحًا باعتبار لطفه، فإن لفظ الروح يقتضى اللطف؛ ولهذا تسمى الريح روحًا. وقال النبي : «الريح من روح الله» أي من الروح التي خلقها الله فإضافة الروح إلى الله إضافة ملك لا إضافة وصف؛ إذ كل ما يضاف إلى الله إن كان عينًا قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله.

فالأول كقوله: { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } 2 وقوله: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } وهو جبريل: { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } 3 وقال: { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } 4 وقال عن آدم: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } 5.

والثاني كقولنا: علم الله، وكلام الله، وقدرة الله، وحياة الله، وأمر الله، لكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علمًا، والمقدور قدرة والمأمور به أمرًا، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقًا. كقوله: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } 6 وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } 7، وقوله: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } 8، ومن هذا الباب قوله: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك، فرحم بها عباده»، ومنه قوله في الحديث الصحيح للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» كما قال للنار: «أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها».


هامش

  1. [الزمر: 42]
  2. [الشمس: 13]
  3. [مريم: 17 19]
  4. [التحريم: 12]
  5. [الحجر: 29]
  6. [النحل: 1]
  7. [آل عمران: 45]
  8. [النساء: 171]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد التاسع - المنطق
سئل شيخ الإسلام عن المنطق | فصل في وصف جنس كلام المناطقة | مسألة في القياس | قال شيخ الإسلام واصفا المنطق اليوناني | الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين | المقام الأول | المقام الثاني | فصل في قولهم إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس | تنازع العلماء في مسمى القياس | العلوم ثلاثة | تكلم ابن سينا في أشياء من الإلهيات والنبوات | الفرق بين الآيات وبين القياس | قياس الأولى | فصل في تقسيم جنس الدليل إلى القياس والاستقراء | فصل في قولهم الاستدلال لابد فيه من مقدمتين | قول المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية | ظن بعض الناس أن الوسط هو ما يكون متوسطا | التباس المنطق على طائفة لم يتصوروا حقائقه ولوازمه | قياس الشبه | الزعم بأن المنطق آلة قانونية | فصل في قولهم إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن | قولهم إن الفراسة البدنية هي عين التمثيل | تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل | قولهم كل ما يدل على أن ما به الاشتراك علة للحكم ظني | ما ذكروه من تضعيف قياس التمثيل | فصل في قولهم إن القياس أو البرهان يفيد العلم بالتصديقات | علم الفرائض نوعان | لفظ الدور يقال على ثلاثة أنواع | ليس تعليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقصورا على مجرد الخبر | اعتراض قوم من متكلمي أهل الإسلام على أوضاع المنطق | اتفاق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات | من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف | فصل في ضبط كليات المنطق | فصل اختلاف العلماء في مسمى القياس | فصل الفساد في المنطق في البرهان وفي الحد | فصل ملخص المنطق المعرب الذي بلغته العرب عن اليونانيين | سئل عن كتب المنطق | سئل شيخ الإسلام عن العقل | تسمية أرسطو وأتباعه الرب عقلا وجوهرا | فصل اسم العقل صفة | فصل عن الروح المدبرة للبدن | فصل عن معاني الروح والنفس | النفوس ثلاثة أنواع | فصل كيفية تعلم النفس | فصل عن الجوهر | سئل الشيخ أيهما أفضل العلم أو العقل | فصل في حكمة خلق القلب