مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل في أول من أظهر إنكار التكليم
فصل في أول من أظهر إنكار التكليم
ولهذا كان أول من أظهر إنكار التكليم والمخالة الجَعْد بن درهم، في أوائل المائة الثانية، وأمر علماء الإسلام كالحسن البصري وغيره بقتله؛ فضَحَّى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق بواسط. فقال: أيها الناس، ضَحُّوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا! تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرًا. ثم نزل فذبحه. وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان، فأنكر أن يكون الله يتكلم، ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام، وقال: كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر.
ودخل بعض أهل الكلام والجدل من المنتسبين إلى الإسلام من المعتزلة ونحوهم إلى بعض مقالة الصابئة والمشركين، متابعة للجعد والجهم. وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين: منهم من يقول: إن السموات مخلوقة بعد أن لم تكن، كما أخبرت بذلك الرسل، وكتب الله تعالى ومنهم من ابتدع فقال: بل هي قديمة أزلية، لم تزل موجودة بوجود الأول، واجب الوجود بنفسه، ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية، ولهم مقالات كثيرة الاضطراب في الخلق والبعث، والمبدأ والمعاد؛ لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبل الله تعالى فيجمعهم. والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور التي تعجز الآراء عن إدراك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى.
وهم إنما يناظر بعضهم بعضًا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية، وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء، والهواء والحيوان، والمعدن والنبات، ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله وعلم ما فوق السموات، وأول الأمر وآخره؛ وهذا غلط بين اعترف به أساطينهم بأن هذا غير ممكن، وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين، وأنهم إن يتبعون إلا الظن.
فلما كان هذا حال هذه الصابئة المبتدعة الضالة، ومن أضلوه من اليهود والنصارى، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهد بهدى الله، الذي بعث به رسله، من أهل الكلام والجدل، صاروا يريدون أن يأخذوا مأخذهم، كما أخبر النبي ﷺ بقوله: «لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع» قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: «ومن الناس إلا فارس والروم؟» فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة، وهو الكلام في الأجسام والأعراض، بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام ثم حدوثها، ثم يقال: ما لا يسبق الحوادث فهو حادث، واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم، فلما رأوا أن الأعراض التي هي الصفات تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض التزموا نفيها عن الله؛ لأن ثبوتها مستلزم حدوثه، وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا ألا دليل سواه، بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به معلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم، وبأن النبوة كمال تفيض على نفس النبي؛ لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقا، وأتبع للأدلة العقلية والسمعية لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاءت به الرسل؛ لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها أهل السنة فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم، كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات، ورأوا أن إثباته متكلما يقتضى أن يكون جسما، والجسم حادث؛ لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف، بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره؛ بل الله يفتقر من الخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره؛ ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره؛ ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم والقرآن مملوء بإثبات ذلك صاروا تارة يقولون متكلم مجازًا لا حقيقة، وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة، قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود.
ثم إنهم رأوا أن هذا شنيعٌ، فقالوا: بل هو متكلم حقيقة، وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع وليس عندهم كذلك، بل حقيقة قولهم وأصله عند من عرفه وابتدعه أن الله ليس بمتكلم، وقالوا: المتكلم من فعل الكلام ولو في محل منفصل عنه؛ ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم؛ لا حقيقة ولا مجازًا، وهذا قول من يقول: إن القرآن مخلوق، وهو أحد قولي الصابئة يوافقون الرسل في حدوث العالم، وهو وإن كان كفرًا بما جاءت به الرسل فليس هو في الكفر مثل القول الأول؛ لأن هؤلاء لا يقولون: إن الله أراد أن يبعث رسولا معينًا، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه، وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة.
ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة، وبين المؤمنين أتباع الرسل الخلاف، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم، واختلفوا في كتاب الله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم، من أن الله تكلم بالقرآن، وأنه كلم موسى تكليما، وأنه يتكلم، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كما فعل الأولون، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان، الذي علموا به مراد الرسل من إخبارهم برسالة الله وكلامه، واتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى، حتى كان ابن المبارك- إمام المسلمين يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.
وكان قد كثر ظهور هؤلاء، الذين هم فروع المشركين ومن اتبعهم من مبدلة الصابئين، ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية، وأوائل الثالثة في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون، بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين، الذين كانوا قبل النصارى، ومن أشبههم من فارس والهند، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم.
وقدم تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين، كما يقال: المعتزلة مخانيث الفلاسفة. فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام، وفي أهل السيف والإمارة، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء، والوزراء والقضاة، والفقهاء ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولم يبدلوا ولم يبتدعوا، وذلك لقصور وتفريط من أكثرهم في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول واتباعه، وإلا فلو كان ذلك كثيرًا فيهم لم يتمكن أولئك المبتدعة لما يخالف دين الإسلام من التمكن منهم.
هامش