مجموع الفتاوى/المجلد الثاني عشر/فصل في متكلمي الصفاتية
فصل في متكلمي الصفاتية
فجاء قوم من متكلمي الصفاتية، الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة، بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية، وفرقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضًا، وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضًا، لأن العَرَض ما لا يدوم ولا يبقى، أو ما يقوم بمتحيز أو جسم، فصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام.
وهؤلاء أهل الكلام القياسي من الصفاتية، فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقلي عليها، كالصفات السبع، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام، هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية؟ ولهم اختلاف في البقاء والقدم، وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات، ولهم أيضا اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية كالوجه واليد، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها، وكثير من متأخريهم لا يثبتها، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها، ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عرضها من القياس العقلي عنده، ومنهم من يفوض معناها.
وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات، وإنما المقصود القول في رسالة الله، وكلامه الذي بلغته رسله، فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية قدر مشترك بما سلكوه من الطرق الصابئة في أمر الخالق، وأسمائه وصفاته، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة تركيب، وليس بين الأثارة 1. النبوية وبين الأثارة الصابئة، لكن أولئك أشد اتباعا للأثارة النبوية، وأقرب إلى مذهب أهل السنة من المعتزلة، ونحوهم من وجوه كثيرة.
ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه، والحديث والتصوف؛ لوجوه:
أحدها: كثرة الحق الذي يقولونه، وظهور الأثارة النبوية عندهم.
الثاني: لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضها موروث عن الصابئة، وبعضها مما ابتدع في الإسلام، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم، وظنهم أنه لم يمكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم، إلا على هذا الوجه.
الثالث: ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات، والموضحة لسبيل الهدى عندهم.
الرابع: العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث؛ تارة يروون ما لا يعلمون صحته، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور.
فلما كان هذا منهاجهم، وقالوا: إن القرآن غير مخلوق لما دل على ذلك من النصوص وإجماع السلف، ولما رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية، وبين القياس العقلي لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائمًا بنفس الله تعالى كسائر الصفات، كما جعله الأولون من باب المصنوعات المخلوقات، لا قديمًا كسائر الصفات ورأوا أنه ليس إلا مخلوق أو قديم، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضى حلول الحوادث بذاته، وهو دليل على حدوث الموصوف، ومبطل لدلالة حدوث العالم.
ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معانى كثيرة، بل إما معنى واحد عند طائفة، أو معاني أربعة عند طائفة، والتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام، بل دالة عليه فتسمى باسمه؛ إما مجازا عند طائفة، أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة، وإما مجازا في كلام الله حقيقة في غيره عند طائفة.
وخالفهم الأولون وبعض من يتسنن أيضا، وقالوا: لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه، أو الإرادة ونوعها، فصار النزاع بين الطائفتين.
وأورد على هؤلاء: أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية ليست أنواعًا له وأقسامًا، وأن كلام الله معنى واحد؛ إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وبالعبرية فهو توراة، وبالسريانية فهو إنجيل، وقال لهم أكثر الناس: هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما قال الأولون: إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلمًا به، وإن المتكلم من أحدث الكلام ولو في ذات غير ذاته؛ وقال لهم أكثر الناس: إن هذا معلوم الفساد بالضرورة.
وقال الجمهور من جميع الطوائف: إن الكلام اسم للفظ والمعنى جميعًا، كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعًا، وأنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة، وأن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة، كتنوع ألفاظه، وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع، والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرق.
والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة، وإن لم يكن عندهم الذي هو كلام الله مخلوقًا، وفرقوا بين كتاب الله وكلامه، فقالوا: كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق، وكلام الله هو معناها غير مخلوق. وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون: إنه مخلوق، واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف؟ هل خلقت في الهواء؟ أو في نفس جبرائيل؟ أو أن جبرائيل هو الذي أحدثها أو محمد؟
وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل، وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم، وهم المتبعون للرسالة اتباعًا محضًا، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين، وهو أن القرآن كلام الله، لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله، والقرآن هو القرآن- الذي يعلم المسلمون أنه القرآن حروفه ومعانيه، والأمر والنهى هو اللفظ والمعنى جميعًا.
ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف؛ الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية- إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء إذا تكلموا في الأمر والنهي ذكروا ذلك، وخالفوا من قال: إن الأمر هو المعنى المجرد، ويعلم أهل الأثارة النبوية أهل السنة والحديث، عامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة أن قوله تعالى: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } 2 ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره، وكلام الله هو ما تكلم به لا ما خلقه في غيره، ولم يتكلم به.
هامش