البداية والنهاية/الجزء الرابع/فصل انصراف رسول الله إلى وادي القرى ومحاصرة أهله
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله ﷺ من خيبر انصرف إلى وادي القرى، فحاصر أهله ليال ثم انصرف راجعا إلى المدينة.
ثم ذكر من قصة مدعم وكيف جاءه سهم غارب فقتله، وقال الناس: هنيئا له الشهادة.
فقال رسول الله ﷺ: «كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا».
وقد تقدم في (صحيح البخاري) نحو ما ذكره ابن إسحاق والله أعلم.
وسيأتي ذكر قتاله عليه السلام بوادي القرى.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا من أشجع من أصحاب رسول الله ﷺ توفي يوم خيبر، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: «صلوا على صاحبكم».
فتغير وجوه الناس من ذلك، فقال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله».
ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود ما يساوي درهمين.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان.
ورواه أبو داود، وبشر بن المفضل، وابن ماجه، من حديث الليث بن سعد ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري به.
وقد ذكر البيهقي: أن بني فزارة أرادوا أن يقاتلوا رسول الله ﷺ مرجعه من خيبر وتجمعوا لذلك، فبعث إليهم يواعدهم موضعا معينا فلما تحققوا ذلك هربوا كل مهرب؛ وذهبوا من طريقه كل مذهب.
وتقدم أن رسول الله ﷺ لما حلت صفية من استبرائها دخل بها بمكان يقال له: سد الصهباء، في أثناء طريقه إلى المدينة؛ وأولم عليها بحيس.
وأقام ثلاثة أيام يبني عليه بها، وأسلمت فأعتقها وتزوجها وجعل عتاقها صداقها، وكانت إحدى أمهات المؤمنين كما فهمه الصحابة لما مد عليها الحجاب وهو مردفها وراءه رضي الله عنها.
وذكر محمد بن إسحاق في السيرة قال: لما أعرس رسول الله ﷺ بصفية بخيبر - أو ببعض الطريق - وكانت التي جمّلتها إلى رسول الله ﷺ ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك.
وبات بها رسول الله ﷺ في قبة له وبات أبو أيوب متوشحا بسيفه يحرس رسول الله ﷺ ويطيف بالقبة، حتى أصبح، فلما رأى رسول الله ﷺ مكانه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟».
قال: خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك.
فزعموا أن رسول الله ﷺ قال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني».
ثم قال: حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب فذكر نومهم عن صلاة الصبح مرجعهم من خيبر، وأن رسول الله ﷺ كان أولهم استيقاظا فقال: «ماذا صنعت بنا يا بلال؟».
قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك.
قال: «صدقت».
ثم اقتاد ناقته غير كثير ثم نزل، فتوضأ وصلى كما كان يصليها قبل ذلك.
وهكذا رواه مالك، عن الزهري، عن سعيد مرسلا، وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ حين قفل من غزوة خيبر، فسار ليلة حتى إذا أدركنا الكرى عرّس وقال لبلال: «اكلأ لنا الليل».
قال: فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته، فلم يستيقظ النبي ﷺ ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، كان رسول الله ﷺ أولهم استيقاظا ففزع رسول الله ﷺ وقال: «يا بلال».
قال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قال: فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله ﷺ، فأمر بلالا فأقام الصلاة وصلى لهم الصبح، فلما أن قضى الصلاة قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول: { وأقم الصلاة لذكري } ».
قال يونس: وكان ابن شهاب يقرأها كذلك.
وهكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب به وفيه أن ذلك كان مرجعهم من خيبر.
وفي حديث شعبة عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود: أن ذلك كان مرجعهم من الحديبية.
ففي رواية عنه أن بلالا هو الذي كان يكلؤهم، وفي رواية عنه أنه هو الذي كان يكلؤهم.
قال الحافظ البيهقي: فيحتمل أن ذلك كان مرتين.
قال: وفي حديث عمران بن حصين، وأبي قتادة، نومهم عن الصلاة، وفيه حديث الميضاة فيحتمل أن ذلك إحدى هاتين المرتين أو مرة ثالثة.
قال: وذكر الواقدي في حديث أبي قتادة أن ذلك كان مرجعهم من غزوة تبوك.
قال: وروى زافر بن سليمان، عن شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبد الرحمن، عن ابن مسعود أن ذلك كان مرجعهم من تبوك، فالله أعلم.
ثم أورد البيهقي ما رواه صاحب الصحيح من قصة عوف الأعرابي، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، في قصة نومهم عن الصلاة، وقصة المرأة صاحبة السطيحتين، وكيف أخذوا منهما ماء روى الجيش بكماله، ولم ينقص ذلك منهما شيئا.
ثم ذكر ما رواه مسلم من حديث ثابت البناني عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، وهو حديث طويل، وفيه نومهم عن الصلاة، وتكثير الماء من تلك الميضاة.
وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة.
وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عبد الواحد، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى الأشعري قال: لما غزا رسول الله ﷺ خيبرا، وقال لما توجه رسول الله ﷺ إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر لا إله إلا الله.
فقال رسول الله ﷺ: «اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم».
وأنا خلف دابة رسول الله ﷺ، فسمعني وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: «يا عبد الله بن قيس».
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة».
قلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي.
قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله».
وقد رواه بقية الجماعة من طرق، عن عبد الرحمن بن مل أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري، والصواب أنه كان مرجعهم من خيبر، فإن أبا موسى إنما قدم بعد فتح خيبر كما تقدم.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله ﷺ - فيما بلغني - قد أعطى ابن لقيم العبسي حين افتتح خيبر ما بها من دجاجة أو داجن، وكان فتح خيبر في صفر، فقال ابن لقيم في فتح خيبر:
رميت نطاة من الرسول بفيلقٍ * شهباء ذات مناكب وفقار
واستيقنت بالذلّ لما شيعت * ورجال أسلم وسطها وغفار
صبحت بني عمرو بن زرعة غدوة * والشق أظلم أهله بنهار
جرّت بأبطحها الذيول فلم تدع * إلا الدجاج تصيح بالأسحار
ولكل حصنٍ شاغل من خيلهم * من عبد الأشهل أو بني النجّار
ومهاجرين قد أعلموا سيماهم * فوق المغافر لم ينوا لفرار
ولقد علمت ليغلبن محمد * وليثوين بها إلى أصفار
فرّت يهود عند ذلك في الوغى * تحت العجاج غمائم الأبصار