مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام

مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام


فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام عدل

وهؤلاء الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام اضطربوا كثيرًا، كما قد بسط في مواضع. ولابد لكل منهم مع مخالفته للشرع المنزل من السماء إلى أن يخالف أيضا صريح العقل ويكابر، فيكون ممن لا يسمع ولا يعقل.

فإن القول له لوازم، فإذا كان باطلًا فقد يستلزم أمورًا باطلة ظاهرة البطلان. وصاحبه يريد إثبات تلك اللوازم، فيظهر مخالفته للحس والعقل.

كالذين أثبتوا الجواهر المنفردة وقالوا: إن الحركات في نفسها لا تنقسم إلى سريع وبطىء، إذ كانت الحركة عندهم منقسمة كانقسام المتحرك، وكذلك الزمان وأجزاء الزمان. والحركة والمتحرك عندهم واحد لا ينقسم فإذا كان المتحركان سواء وحركة أحدهما أسرع قالوا: إنما ذاك لتخلل السكنات. وادعوا أن الرحا والدولاب وكل مستدير إذا تحرك فإن زمان حركة المحيط والطوق الصغير واحد مع كثرة أجزاء المحيط، فيجب أن تكون حركتها أكثر، فيكون زمانها أكثر، وليس هو بأكثر، فادَّعوا أنها تنفك ثم تتصل. وهذه مكابرة من جنس طفرة النَّظَّام 1.

وكذلك الذين قالوا: بأن العرض لا يبقى زمانين خالفوا الحس وما يعلمه العقلاء بضرورة عقولهم. فإن كل أحد يعلم أن لون جسده الذي كان لحظة هو هذا اللون. وكذلك لون السماء، والجبال، والخشب، والورق، وغير ذلك.

ومما ألجأهم إلى هذا، ظنهم أنهما لو كانا باقيين لم يمكن إعدامهما، فإنهم حاروا في إفناء الله الأشياء إذا أراد أن يفنيها، كما حاروا في إحداثها. وحيرتهم في الإفناء أظهر. هذا يقول: يخلق فناء لا في محل، فيكون ضدًا لها، فتفنى بضدها. وهذا يقول: يقطع عنها الأعراض مطلقًا، أو البقاء الذي لا تبقى إلا به، فيكون فناؤها لفوات شرطها.

ومن أسباب ذلك ظنهم، أو ظن من ظن منهم، أن الحوادث لا تحتاج إلى الله إلا حال إحداثها، لا حال بقائها، وقد قالوا: إنه قادر على إفنائها. فتكلفوا هذه الأقوال الباطلة.

وهؤلاء لا يحتجون على بقاء الرب بافتقار العالم إليه، بل بأنه قديم، وما وجب قدمه امتنع عدمه. وإلا فالباقى حال بقائه لا يحتاج إلى الرب عندهم.

وهؤلاء شر من الذين سألوا موسى: هل ينام ربك؟ فضرب الله لهم المثل بالقارورتين لما أرق موسى ليالى، ثم أمره بإمساك القارورتين فلما أمسكهما غلبه النوم فتكسرتا. فبين الله له لو أخذته سنة أو نوم لتدكدك العالم.

وعلى رأى هؤلاء: لو أخذته سنة أو نوم لم يعدم الباقى. لكن منهم من يقول: هو محتاج إلى إحداث الأعراض متوالية؛ لأن العرض عنده لا يبقى زمانين. فمن هذا الوجه يقول: إذ لو أخذته سنة أو نوم لم تحدث الأعراض التي تبقى بها الأجسام، لا لأن الأجسام في نفسها مفتقرة إليه في حال بقائها عنده.

وكذلك يقولون: إن الإرادة لا تتعلق بالقديم، ولا بالباقى. وكذلك القدرة عندهم لا تتعلق بالباقى، ولا العجز يصح أن يكون عجزًا عن الباقى والقديم عندهم؛ لأن العجز عندهم إنما يكون عجزًا عما تصح القدرة عليه.

وهؤلاء يقولون: علة الافتقار إلى الخالق مجرد الحدوث. وآخرون من المتفلسفة يقولون: هو مجرد الإمكان، ويدَّعون أن القديم الأزلي الذي لم يزل ولا يزال هو مفتقر إلى الصانع. فهذا يدعى أن الباقى المحدث لا يفتقر، وهذا يدعى أن الباقى القديم يفقتر وكلا القولين فاسد، كما قد بسط في مواضع.

والحق أن كل ما سوى الله حادث، وهو مفتقر إليه دائمًا. وهو يبقيه ويعدمه، كما ينشئه ويحدثه، كما يحدث الحوادث من التراب وغيره ثم يفنيها ويحيلها إلى التراب وغيره.

وهؤلاء ادعى كثير منهم أن كل ما سوى الله يعدم ثم يعاد، وبعضهم قال: هذا ممكن، لكنه موقوف على الخبر، والخبر لم يتعرض لذلك بنفي ولا إثبات. وهذا هو المعاد عندهم.

وهذا لم يأت به كتاب ولا سنة، ولا دل عليه عقل. بل الكتاب والسنة يبين أن الله يحيل العالم من حال إلى حال، كما يشق السماء، ويجعل الجبال كالعهن، ويكور الشمس، إلى غير ذلك مما أخبر الله في كتابه لم يخبر أن جميع الأشياء تعدم ثم تعاد.

ثم منهم من يقول: إنها تعدم بعد ذلك لامتناع وجود حوادث لا آخر لها، كما تقوله الجهمية. وهذا مما أنكره عليهم السلف والأئمة، كما قد ذكر في غير هذا الموضع.

وهؤلاء إنما قالوا هذا طردًا لقولهم بامتناع دوام جنس الحوادث، وقالوا: ما وجب أن يكون له ابتداء وجب أن يكون له انتهاء، كما قد بسط هذا وبين فساد هذا الأصل.


هامش

  1. [هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ البصرى النظام، من أئمة المعتزلة قال الجاحظ: الأوائل يقولون: في كل سنة رجل لا نظير له، فإن صح ذلك فأبو إسحاق من هؤلاء الضلال وصدق فيما قال رأس الفرقة النظامية قد ألفت كتب في الرد على ضلاله وكفره، وفي لسان الميزان: أنه متهم بالزندقة]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس عشر
سورة الزمر | فصل في تفسير قوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه | فصل في السماع | فصل في تفسير قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع | فصل في تفسير قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله | سورة الشورى | فصل في بعض ما يتعلق بقوله تعالى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون | سورة الزخرف | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم | سورة الأحقاف | سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة | سورة ق | سئل رحمه الله عن تفسير قوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد | سورة المجادلة | فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات | سورة الطلاق | فصل في تفسير قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | فصل في تفسير قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | سورة التحريم | سئل رحمه الله عن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا | سورة الملك | تفسير قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير | سورة القلم | فصل في تفسير سورة ن | فصل في كلام جماعة من الفضلاء في تفسير قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه | سورة التكوير | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت | قول لشيخ الإسلام في تفسير قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين | سورة الأعلى | فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له | فصل في كون ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين | فصل في وصف الله نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم | فصل في الذين يصفون الله تعالى بالعلو والسفول | فصل في تفسير معنى الأعلى | فصل في الأمر بتسبيح الله يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى | فصل في قوله تعالى الذي خلق فسوى | فصل في إذا خلق الله المخلوق فسواه، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد | فصل في تفسير قوله سبحانه والذي قدر فهدى | فصل في تفسير قوله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى | فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى | فصل في تفسير قوله تعالى سيذكر من يخشى | فصل في الكلام على قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب | فصل في قوله تعالى في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى | فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب | فصل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره | فصل في قوله تعالى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى | فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور | فصل في قيام إبراهيم وموسى بأصل الدين | فصل في إثبات أهل السنة والجماعة لما أثبته المرسلون من تكليم الله | سورة الغاشية | فصل في تفسير قوله تعالى هل أتاك حديث الغاشية | سورة البلد | قول شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين | سورة الشمس | فصل في قوله والشمس وضحاها | فصل في إذا كان الضلال في القدر حصل تارة بالتكذيب بالقدر والخلق | سورة العلق | فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين | فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة | فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام | فصل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملا، وتارة مفصلا | فصل في تفسير قوله تعالى اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم | فصل في كون الرسول هدى ورحمة للعالمين | فصل في تفسير قوله تعالى الأكرم | فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق | فصل في نسيان الإنسان | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق خلق الإنسان من علق | فصل في إثبات صفات الكمال لله | فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق | فصل في أول آية نزلت من القرآن | فصل في أن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه | فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء | فصل في تبيين الرسول الأصول الموصلة إلى الحق | فصل في ما ينبغي أن يعرف | فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله | فصل في أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة | فصل في أن السور القصار في أواخر المصحف متناسبة | سورة البينة | فصل في تفسير قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة | فصل في قوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة | سورة التكاثر | فصل في تفسير سورة التكاثر | سورة الهمزة | فصل في تفسير قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة | سورة الكوثر | قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في تفسير سورة الكوثر | سورة الكافرون | فصل في تفسير سورة قل يا أيها الكافرون | فصل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد | فصل في النزاع في قوله قل يا أيها الكافرون | فصل في نظير القول في قل يا أيها الكافرون | فصل في قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون في مجيء الخطاب فيها بما | سورة تبت