مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في تفسير سورة التكاثر

مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
فصل في تفسير سورة التكاثر


فصل في تفسير سورة التكاثر

عدل

قال شيخ الإسلام رحمه الله:

سورة التكاثر، قيل فيها: { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } ، تنبيها على أن الزائر لابد أن ينتقل عن مزاره، فهو تنبيه على البعث.

ثم قال: { كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، فهذا خبر عن علمهم في المستقبل؛ ولهذا روي عن على أنه في عذاب القبر، ثم قال: { كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } ، فهذا إشارة إلى علمهم في الحال، والخبر محذوف، أي: لكان الأمر فوق الوصف، ولعلمتم أمرًا عظيمًا، ولألهاكم عما ألهاكم، فإن الالتهاء بالتكاثر، إنما وقع من الغفلة وعدم اليقين، كما قال: { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } 1، ومثل قول النبي : « لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا». وحَذْفُ جواب لو كثير في القرآن، تعظيمًا له وتفخيمًا، فإنه أعظم من أن يوصف أو يتصور بسماع لفظ، إذ المخبر ليس كالمعاين؛ ولهذا اتبع ذلك بالقسم على الرؤية التي هي عين اليقين، التي هي فوق الخبر الذي هو علم اليقين، فقال: { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } ، وهذا الكلام جواب قسم محذوف مستقبل، مع كون جواب لو محذوفًا كما تقدم، في أحد القولين. وفي الآخر: هو متعلق بلو، لكن يقال: جواب لو إنما يكون ماضيًا، فيقال: لرأيتم الجحيم. كقول النبي : «لو تكونون على الحال التي تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة في طرقكم وعلى فرشكم»، ولو كان ماضيًا فليس مما يؤكد بل يقال: لو يجيء، لأجيء. وجواب هذا أنه جواب قسم محذوف سد مسد جواب لو. كقوله: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } 2، وله نظائر في القرآن وكلام العرب، فإن الكلام إذا اشتمل على قسم وشرط، وكل منهما يقتضي جوابه، أجيب الأول منهما، وهو - هنا - القسم، وهو المقصود.

وعلى هذا القول، يكون المعنى: والله لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم بقلوبكم، والأول هو المشهور، ومن المفسرين من لم يذكر سواه، وهو الذي أثروه عن متقدميهم، ويدل على صحته وأنه الحق أن قوله: { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا }، { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ }، معطوف على ما قبله، فيكون داخلًا في حيزه، فلو كان الأول معلقًا بالشرط، لكان المعطوف عليه كذلك، وهو باطل؛ لأن رؤيتها عين اليقين، والمسألة عن النعيم ليس معلقًا بأن يعلموها في الدنيا علم اليقين.

وأيضا، فتفسير الرؤية المطلقة برؤية القلب ليس هو المعروف من كلام العرب.

وأيضا، فيكون الشرط هو الجواب، فإن المعنى -حينئذ- لو علمتم علم اليقين، لرأيتم بقلوبكم، وذلك هو العلم، فالمعنى: لو علمتم لعلمتم، وهذا لا يفيد. ولو أريد بمشاهدة القلب قدر زائد على مجرد العلم، فهذا معلوم أن من علم الشيء أمكنه أن يجعل مشاهدًا له بقلبه.

وأيضا، فهذا المعنى لو كان مفيدًا، لم يكن مما يستحق القسم عليه، فإنه ليس بطائل.

وأيضا، فقوله: { لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } ، لم يذكر المعلوم، حتى يستلزم العلم به العلم بالجحيم، فإن أريد معلوم خاص، فلا دليل في الشرط عليه، حتى يصح الارتباط. وإن أريد المعلوم العام وهو ما بعد الموت فذاك يستلزم العلم بالجحيم وغيرها، وهذا فيه نظر. فقد يسأل ويقال: قوله: { سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، لم يذكر فيه المعلوم بل أطلق، ومعلوم أن كل أحد سوف يعلم شيئًا لم يكن علمه، وجوابه: أن سياق الكلام يقتضي الوعيد والتهديد، حيث افتتحه بقوله: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ }.

وأيضا، فمثل هذا الكلام قد صار في العرف يستعمل في الوعيد غالبًا أو في الوعد. وإذا كان العلم مقيدًا بالسياق اللفظي، وبالوضع العرفي، فقوله: { لَوْ تَعْلَمُونَ } هو ذاك العلم، أخبر بوقوعه مستقبلا، ثم علق بوقوعه حاضرًا، وقيد المعلق به بعلم اليقين، فإنهم قد يعلمون ما بعد الموت، لكن ليس علمًا هو يقين.


هامش

  1. [الأعراف: 136]
  2. [الأنعام: 121]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس عشر
سورة الزمر | فصل في تفسير قوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه | فصل في السماع | فصل في تفسير قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع | فصل في تفسير قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله | سورة الشورى | فصل في بعض ما يتعلق بقوله تعالى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون | سورة الزخرف | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم | سورة الأحقاف | سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة | سورة ق | سئل رحمه الله عن تفسير قوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد | سورة المجادلة | فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات | سورة الطلاق | فصل في تفسير قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | فصل في تفسير قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | سورة التحريم | سئل رحمه الله عن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا | سورة الملك | تفسير قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير | سورة القلم | فصل في تفسير سورة ن | فصل في كلام جماعة من الفضلاء في تفسير قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه | سورة التكوير | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت | قول لشيخ الإسلام في تفسير قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين | سورة الأعلى | فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له | فصل في كون ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين | فصل في وصف الله نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم | فصل في الذين يصفون الله تعالى بالعلو والسفول | فصل في تفسير معنى الأعلى | فصل في الأمر بتسبيح الله يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى | فصل في قوله تعالى الذي خلق فسوى | فصل في إذا خلق الله المخلوق فسواه، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد | فصل في تفسير قوله سبحانه والذي قدر فهدى | فصل في تفسير قوله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى | فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى | فصل في تفسير قوله تعالى سيذكر من يخشى | فصل في الكلام على قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب | فصل في قوله تعالى في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى | فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب | فصل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره | فصل في قوله تعالى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى | فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور | فصل في قيام إبراهيم وموسى بأصل الدين | فصل في إثبات أهل السنة والجماعة لما أثبته المرسلون من تكليم الله | سورة الغاشية | فصل في تفسير قوله تعالى هل أتاك حديث الغاشية | سورة البلد | قول شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين | سورة الشمس | فصل في قوله والشمس وضحاها | فصل في إذا كان الضلال في القدر حصل تارة بالتكذيب بالقدر والخلق | سورة العلق | فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين | فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة | فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام | فصل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملا، وتارة مفصلا | فصل في تفسير قوله تعالى اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم | فصل في كون الرسول هدى ورحمة للعالمين | فصل في تفسير قوله تعالى الأكرم | فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق | فصل في نسيان الإنسان | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق خلق الإنسان من علق | فصل في إثبات صفات الكمال لله | فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق | فصل في أول آية نزلت من القرآن | فصل في أن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه | فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء | فصل في تبيين الرسول الأصول الموصلة إلى الحق | فصل في ما ينبغي أن يعرف | فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله | فصل في أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة | فصل في أن السور القصار في أواخر المصحف متناسبة | سورة البينة | فصل في تفسير قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة | فصل في قوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة | سورة التكاثر | فصل في تفسير سورة التكاثر | سورة الهمزة | فصل في تفسير قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة | سورة الكوثر | قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في تفسير سورة الكوثر | سورة الكافرون | فصل في تفسير سورة قل يا أيها الكافرون | فصل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد | فصل في النزاع في قوله قل يا أيها الكافرون | فصل في نظير القول في قل يا أيها الكافرون | فصل في قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون في مجيء الخطاب فيها بما | سورة تبت