مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة


فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة

عدل

وقد بسطنا في غير هذا الموضع طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة وأن كل طريق تتضمن ما يخالف السنة فإنها باطلة في العقل كما هي مخالفة للشرع.

والطريق المشهورة عند المتكلمين هو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام.

وقد بينا الكلام على هذه في غير موضع، وأنها مخالفة للشرع والعقل. وكثير من الناس يعلم أنها بدعة في الشرع، لكن لا يعلم فسادها في العقل. وبعضهم يظن أنها صحيحة في العقل والشرع، وأنها طريقة إبراهيم الخليل عليه السلام وقد بين فساد هذا في غير موضع.

والمقصود هنا أن طائفة من النُظَّار مثبتة الصفات أرادوا سلوك سبيل السنة ولم يكن عندهم إلا هذه الطريق.

فاستدلوا بخلق الإنسان، لكن لم يجعلوا خلقه دليلا كما في الآية، بل جعلوه مستدلا عليه. وظنوا أنه يعرف بالبديهة والحس حدوث أعراض النطفة. وأما جواهرها فاعتقدوا أن الأجسام كلها مركبة من الجواهر المنفردة، وأن خلق الإنسان وغيره إنما هو إحداث أعراض في تلك الجواهر بجمعها وتفريقها، ليس هو إحداث عين.

فصاروا يريدون أن يستدلوا على أن الإنسان مخلوق. ثم إذا ثبت أنه مخلوق قالوا: إن له خالقًا.

واستدلوا على أنه مخلوق بدليل الأعراض، وأن النطفة والعلقة والمضغة لا تنفك من أعراض حادثة، إذ كان عندهم جواهر تجمع تارة وتفرق أخرى، فلا تخلو عن اجتماع وافتراق، وهما حادثان. فلم يخل الإنسان عن الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها.

وهذه هي الطريقة التي سلكها الأشعري في: اللمع في الرد على أهل البدع، وشرحه أصحابه شروحًا كثيرة. وكذلك في رسالته إلى أهل الثغر. وذكر قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } 1، فاستدل على أن الإنسان مخلوق بأنه مركب من الجواهر التي لا تخلو من اجتماع وافتراق، فلم تخل من الحوادث، فهي حادثة.

وهذه الطريقة هي مقتضية من كون الأجسام كلها كذلك.

وتلك هي الطريقة المشهورة التي يسلكها الجهمية، والمعتزلة، ومن اتبعهم من المتأخرين المنتسبين إلى المذاهب الأربعة وغيرهم من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، كما ذكرها القاضى، وابن عقيل، وغيرهما. وذكرها أبو المعالى الجوينى، وصاحب التتمة، وغيرهما. وذكرها أبو الوليد الباجي 2، وأبو بكر بن العربي، وغيرهما. وذكرها أبو منصور الماتريدي، والصابوني 3. وغيرهما.

لكن هؤلاء الذين استدلوا بخلق الإنسان فرضوا ذلك في الإنسان ظنًا أن هذه طريقة القرآن. وطولوا في ذلك ودققوا حتى استدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوقة، لظنهم أن المعلوم بالحس وبديهة العقل إنما هو حدوث أعراض، لا حدوث جواهر. وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب، والمطر، والزرع، والثمر، والإنسان والحيوان، فإنما يحدث فيه أعراضًا، وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها.

وزعموا أن أحدًا لا يعلم حدوث غيره من الأعيان بالمشاهدة، ولا بضرورة العقل، وإنما يعلم ذلك إذا استدل كما استدلوا. فقالوا: هذه أعراض حادثة في جواهر، وتلك الجواهر لم تخل من الأعراض لامتناع خلو الجواهر من الأعراض.

ثم قالوا: وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.

وهذا بنوه على أن الأجسام المركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، وقالوا: إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض.

وجمهور العقلاء من السلف، وأنواع العلماء، وأكثر النظار، يخالفون هؤلاء فيما يثبتون من الجوهر الفرد، ويثبتون استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، ويقولون بأن الرب لا يزال يحدث الأعيان، كما دل على ذلك القرآن.

ولهذا كانت هذه الطريق باطلة عقلا وشرعًا، وهي مكابرة للعقل فإن كون الإنسان مخلوقًا محدثًا كائنًا بعد أن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس. وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن، وأن عينه حدثت كما قال تعالى: { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } 4، وقال تعالى: { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } 5.

ليس هذا مما يستدل عليه، فإنه أبين وأوضح مما يستدل به عليه لو كان صحيحًا. فكيف إذا كان باطلًا.

وقولهم: إن الحادث أعراض فقط، وإنه مركب من الجواهر الفردة، قولان باطلان لا يعلم صحتهما. بل يعلم بطلانهما.

ويعلم حدوث جوهر الإنسان وغيره من المادة التي خلق منها، وهي العلق كما قال: { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } 6.

وكونه مركبًا من جواهر فردة ليس صحيحًا. ولو كان صحيحًا لم يكن معلومًا إلا بأدلة دقيقة لا تكون هي أصل الدين الذي هو مقدمات أولية. فإن تلك المقدمات يجب أن تكون بينة أولية، معلومة بالبديهة.

فطريقهم تضمن جحد المعلوم، وهو حدوث الأعيان الحادثة، وهذا معلوم للخلق؛ وإثبات ما ليس بمعلوم، بل هو باطل، وأن الإحداث لها إنما هو جمع وتفريق للجواهر، وأنه إحداث أعراض فقط.

ولهذا كان استدلالهم بطريقة الجواهر والأعراض على هذا الوجه مما أنكره عليهم أئمة الدين، وبينوا أنهم مبتدعون في ذلك، بل بينوا ضلالهم شرعًا وعقلا، كما بسط كلام السلف والأئمة عليهم في غير هذا الموضع، إذ هو كثير.

فالقرآن استدل بما هو معلوم للخلق من أنه: { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } 7. وهؤلاء جاؤوا إلى هذا المعلوم فزعموا أنه غير معلوم، بل هو مشكوك فيه. ثم زعموا أنهم يذكرون الدليل الذي به يصير معلومًا. فذكروا دليلا باطلًا لا يدل على حدوثه، بل يظن أنه دليل وهو شبهة، ولها لوازم فاسدة.

فأنكروا المعلوم بالعقل، ثم الشرع، وادَّعوا طريقًا معلومة بالعقل وهي باطلة في العقل، والشرع. فضاهوا الذين قال الله فيهم: { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } 8.

وكذلك في إثبات النبوات وإمكانها، وفي إثبات المعاد وإمكانه، عدلوا عن الطريق الهادية التي توجب العلم اليقينى التي هدى الله بها عباده إلى طريق تورث الشك والشبهة والحيرة. ولهذا قيل: غاية المتكلمين المبتدعين الشك، وغاية الصوفية المبتدعين الشطح.

ثم لها لوازم باطلة مخالفة للعقل والشرع، فألزموا لوازمها التي أوجبت لهم السفسطة في العقليات، والقرمطة في السمعيات. وتكلموا في دلائل النبوة والمعاد، ودلائل الربوبية بأمور، وزعموا أنها أدلة وهي عند التحقيق ليست بأدلة. ولهذا يطعن بعضهم في أدلة بعض.

وإذا استدلوا بدليل صحيح فهو مطابق لما جاء به الرسول وإن تنوعت العبارات.

ولهذا قد يستدل بعضهم بدليل إما صحيح وإما غير صحيح فيطعن فيه آخر، ويزعم أنه يذكر ما هو خير منه، ويكون الذي يذكره دون ما ذكره ذاك. وهذا يصيبهم كثيرًا في الحدود، يطعن هؤلاء في حد هؤلاء، ويذكرون حدًا مثله أو دونه.

وتكون الحدود كلها من جنس واحد، وهي صحيحة إذا أريد بها التمييز بين المحدود وغيره. وأما من قال: إن الحدود تفيد تصوير ماهية المحدود، كما يقوله أهل المنطق، فهؤلاء غالطون ضالون، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع. وإنما الحد مُعرَّف للمحدود، ودليل عليه، بمنزلة الاسم، لكنه يفصل ما دل عليه الاسم بالإجمال، فهو نوع من الأدلة، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.

إذ المقصود هنا التنبيه على الفرق بين الطريق المفيد للعلم واليقين كالتي بينها القرآن وبين ما ليس كذلك من طرق أهل البدع الباطلة شرعًا وعقلًا.


هامش

  1. [الواقعة: 58، 59]
  2. [هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التُّجيبيُّ لمالكي الأندلسي الباجي، من علماء الأندلس، صنف كتبًا كثيرة منها المنتقى وهو أحد أئمة المسلمين، توفي بالمرية ليلة الخميس بين العشاءين 19 رجب سنة 474ه ودفن بالرِّباط على ضفة البحر]
  3. [هو أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل الصابوني الحافظ الواعظ المفسر، لقبه أهل السنة فيها أي في بلاد خراسان بشيخ الإسلام، ولد عام 373، ومات في نيسابور عام 449ه، يجيد الفارسية إجادته العربية، له كتاب عقيدة السلف]
  4. [مريم: 9]
  5. [مريم: 67]
  6. [العلق: 2]
  7. [العلق: 2]
  8. [الملك: 10]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس عشر
سورة الزمر | فصل في تفسير قوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه | فصل في السماع | فصل في تفسير قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع | فصل في تفسير قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله | سورة الشورى | فصل في بعض ما يتعلق بقوله تعالى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون | سورة الزخرف | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم | سورة الأحقاف | سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة | سورة ق | سئل رحمه الله عن تفسير قوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد | سورة المجادلة | فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات | سورة الطلاق | فصل في تفسير قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | فصل في تفسير قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | سورة التحريم | سئل رحمه الله عن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا | سورة الملك | تفسير قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير | سورة القلم | فصل في تفسير سورة ن | فصل في كلام جماعة من الفضلاء في تفسير قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه | سورة التكوير | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت | قول لشيخ الإسلام في تفسير قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين | سورة الأعلى | فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له | فصل في كون ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين | فصل في وصف الله نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم | فصل في الذين يصفون الله تعالى بالعلو والسفول | فصل في تفسير معنى الأعلى | فصل في الأمر بتسبيح الله يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى | فصل في قوله تعالى الذي خلق فسوى | فصل في إذا خلق الله المخلوق فسواه، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد | فصل في تفسير قوله سبحانه والذي قدر فهدى | فصل في تفسير قوله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى | فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى | فصل في تفسير قوله تعالى سيذكر من يخشى | فصل في الكلام على قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب | فصل في قوله تعالى في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى | فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب | فصل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره | فصل في قوله تعالى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى | فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور | فصل في قيام إبراهيم وموسى بأصل الدين | فصل في إثبات أهل السنة والجماعة لما أثبته المرسلون من تكليم الله | سورة الغاشية | فصل في تفسير قوله تعالى هل أتاك حديث الغاشية | سورة البلد | قول شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين | سورة الشمس | فصل في قوله والشمس وضحاها | فصل في إذا كان الضلال في القدر حصل تارة بالتكذيب بالقدر والخلق | سورة العلق | فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين | فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة | فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام | فصل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملا، وتارة مفصلا | فصل في تفسير قوله تعالى اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم | فصل في كون الرسول هدى ورحمة للعالمين | فصل في تفسير قوله تعالى الأكرم | فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق | فصل في نسيان الإنسان | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق خلق الإنسان من علق | فصل في إثبات صفات الكمال لله | فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق | فصل في أول آية نزلت من القرآن | فصل في أن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه | فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء | فصل في تبيين الرسول الأصول الموصلة إلى الحق | فصل في ما ينبغي أن يعرف | فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله | فصل في أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة | فصل في أن السور القصار في أواخر المصحف متناسبة | سورة البينة | فصل في تفسير قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة | فصل في قوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة | سورة التكاثر | فصل في تفسير سورة التكاثر | سورة الهمزة | فصل في تفسير قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة | سورة الكوثر | قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في تفسير سورة الكوثر | سورة الكافرون | فصل في تفسير سورة قل يا أيها الكافرون | فصل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد | فصل في النزاع في قوله قل يا أيها الكافرون | فصل في نظير القول في قل يا أيها الكافرون | فصل في قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون في مجيء الخطاب فيها بما | سورة تبت