مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات

مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات


فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات عدل

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:

قوله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } 1، خص سبحانه رَفْعَه بالأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان، وهم الذين استشهد بهم في قوله تعالى: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ } 2.

وأخبر أنهم هم الذين يرَون ما أنزل إلى الرسول، هو الحق بقوله تعالى: { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } 3، فدلَّ على أن تَعَلُّم الحجة والقيام بها يرفع درجات من يرفعها، كما قال تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء } 4.

قال زيد بن أسلم: بالعلم. فَرَفعُ الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان، فكم ممن يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم، وأرفع قدرًا في قلوب الأمة، فهذا كُرْز بن وَبرَة، وكَهْمَس، وابن طارق، يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال ابن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع.

وكذلك ترى كثيرًا ممن لبس الصوف، ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره ممن لا يدانيه في ذلك من أهل العلم والإيمان أعظم في القلوب، وأحلي عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعاملة الباطنة وصفائها، وخُلُوصَها من شهوات النفوس، وأكدار البشرية، وطهارتها من القلوب التي تكدر معاملة أولئك، وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول، وكمال تصديقه في قلوبهم، ووده ومحبته، وأن يكون الدين كله لله، فإن أرفع درجات القلوب فرحها التام بما جاء به الرسول ، وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } 5، وقال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } الآية 6. ففضل الله ورحمته: القرآن والإيمان، من فرح به فقد فرح بأعظم مَفرُوح به، ومن فرح بغيره فقد ظلم نفسه ووضع الفرح في غير موضعه.

فإذا استقر في القلب، وتمكن فيه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنده، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور أعظم من فرح كل مُحِب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيا في درجات العلو والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف.

هذا في باب معرفة الأسماء والصفات. وأما في باب فهم القرآن فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية قَبِلَه، وإلا رده، وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه، وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه.

ولا يجعل همته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط، وغير ذلك. فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق ب { أأنذرتهم }، وضم الميم من { عليهم } ووصلها بالواو، وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك. وكذلك مراعاة النغم، وتحسين الصوت.

وكذلك تتبع وجوه الإعراب، واستخراج التأويلات المستكرهة، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان.

وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس، ونتائج أفكارهم.

وكذلك تأويل القرآن على قول من قَلَّدَ دينه أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق، حتي يجعل القرآن تبعًا لمذهبه، وتقوية لقول إمامه، وكلٌّ محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه في كثير من ذلك أو أكثره.

وكذلك يظن من لم يقدر القرآن حق قدره، أنه غير كاف في معرفة التوحيد، والأسماء والصفات، وما يجب لله وينزه عنه، بل الكافي في ذلك: عقول الحيارى والمُتَهَوِّكين 7 الذين كل منهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرة. وهؤلاء أغلظ الناس حجابا عن فهم كتاب الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم.


هامش

  1. [المجادلة: 11]
  2. [آل عمران: 18]
  3. [سبأ: 6]
  4. [يوسف: 76]
  5. [الرعد: 36]
  6. [يونس: 58]
  7. [المتهوكون: المتحيرون]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس عشر
سورة الزمر | فصل في تفسير قوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه | فصل في السماع | فصل في تفسير قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع | فصل في تفسير قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله | سورة الشورى | فصل في بعض ما يتعلق بقوله تعالى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون | سورة الزخرف | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم | سورة الأحقاف | سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة | سورة ق | سئل رحمه الله عن تفسير قوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد | سورة المجادلة | فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات | سورة الطلاق | فصل في تفسير قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | فصل في تفسير قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | سورة التحريم | سئل رحمه الله عن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا | سورة الملك | تفسير قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير | سورة القلم | فصل في تفسير سورة ن | فصل في كلام جماعة من الفضلاء في تفسير قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه | سورة التكوير | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت | قول لشيخ الإسلام في تفسير قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين | سورة الأعلى | فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له | فصل في كون ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين | فصل في وصف الله نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم | فصل في الذين يصفون الله تعالى بالعلو والسفول | فصل في تفسير معنى الأعلى | فصل في الأمر بتسبيح الله يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى | فصل في قوله تعالى الذي خلق فسوى | فصل في إذا خلق الله المخلوق فسواه، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد | فصل في تفسير قوله سبحانه والذي قدر فهدى | فصل في تفسير قوله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى | فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى | فصل في تفسير قوله تعالى سيذكر من يخشى | فصل في الكلام على قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب | فصل في قوله تعالى في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى | فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب | فصل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره | فصل في قوله تعالى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى | فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور | فصل في قيام إبراهيم وموسى بأصل الدين | فصل في إثبات أهل السنة والجماعة لما أثبته المرسلون من تكليم الله | سورة الغاشية | فصل في تفسير قوله تعالى هل أتاك حديث الغاشية | سورة البلد | قول شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين | سورة الشمس | فصل في قوله والشمس وضحاها | فصل في إذا كان الضلال في القدر حصل تارة بالتكذيب بالقدر والخلق | سورة العلق | فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين | فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة | فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام | فصل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملا، وتارة مفصلا | فصل في تفسير قوله تعالى اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم | فصل في كون الرسول هدى ورحمة للعالمين | فصل في تفسير قوله تعالى الأكرم | فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق | فصل في نسيان الإنسان | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق خلق الإنسان من علق | فصل في إثبات صفات الكمال لله | فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق | فصل في أول آية نزلت من القرآن | فصل في أن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه | فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء | فصل في تبيين الرسول الأصول الموصلة إلى الحق | فصل في ما ينبغي أن يعرف | فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله | فصل في أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة | فصل في أن السور القصار في أواخر المصحف متناسبة | سورة البينة | فصل في تفسير قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة | فصل في قوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة | سورة التكاثر | فصل في تفسير سورة التكاثر | سورة الهمزة | فصل في تفسير قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة | سورة الكوثر | قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في تفسير سورة الكوثر | سورة الكافرون | فصل في تفسير سورة قل يا أيها الكافرون | فصل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد | فصل في النزاع في قوله قل يا أيها الكافرون | فصل في نظير القول في قل يا أيها الكافرون | فصل في قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون في مجيء الخطاب فيها بما | سورة تبت