مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى
فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى
عدلقوله: { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } 1.
فقوله: { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ، كقوله: { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } 2.
وقوله: { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ، و"إن" هي الشرطية.
وحكى الماوردي 3 أنها بمعنى "ما". وهذه تكون "ما" المصدرية، وهي بمعنى الظرف، أي: ذكر ما نفعت، ما دامت تنفع. ومعناها قريب من معنى الشرطية.
وأما إن ظن ظان أنها نافية فهذا غلط بَيِّن. فإن الله لا ينفي نفع الذكرى مطلقًا وهو القائل: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } 4 ثم قال: { الْمُؤْمِنِينَ }....
وعن... { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } : إن قبلت الذكرى. وعن مقاتل: فذكر وقد نفعت الذكرى.
وقيل: ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. قاله طائفة، أَوْلهُم الفراء، واتبعه جماعة، منهم النحاس، والزهراوى، والواحِدى، والبَغَوى ولم يذكر غيره. قالوا: وإنما لم يذكر الحال الثانية كقوله: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } 5، وأراد الحر والبرد.
وإنما قالوا هذا؛ لأنهم قد علموا أنه يجب عليه تبليغ جميع الخلق وتذكيرهم سواء آمنوا أو كفروا. فلم يكن وجوب التذكير مختصًا بمن تنفعه الذكرى، كما قال في الآية الأخرى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } 6، وقال: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } 7، وقال: { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } 8، وقال: { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } 9.
وهذا الذي قالوه له معنى صحيح، وهو قول الفَرّاء وأمثاله، لكن لم يقله أحد من مفسرى السلف؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل ينكر على الفراء وأمثاله ما ينكره، ويقول: كنت أحْسَب الفرَّاء رجلا صالحًا حتى رأيت كتابه في معاني القرآن.
وهذا المعنى الذي قالوه، مدلول عليه بآيات أُخر. وهو معلوم بالاضطرار من أمر الرسول، فإن الله بعثه مُبَلِّغا ومُذَكِّرا لجميع الثقلين؛ الإنس والجن. لكن ليس هو معنى هذه الآية.
بل معنى هذه يشبه قوله: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } 10، وقوله: { إنَّمّا أّنتّ مٍنذٌرٍ مّن يّخًشّاهّا } 11، وقوله: { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ } 12، وقوله: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } 13.
فالقرآن جاء بالعام والخاص. وهذا كقوله: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } 14، ونحو ذلك.
وسبب ذلك أن التعليم والتذكير والإنذار والهدى ونحو ذلك له فاعل، وله قابل. فالمعلم المذكر يُعَلِّم غيره، ثم ذلك الغير قد يتعلم ويتذكر، وقد لا يتعلم ولا يتذكر. فإن تَعلَّم وتذكر فقد تم التعليم والتذكير، وإن لم يتعلم ولم يتذكر فقد وجد أحد طرفيه، وهو الفاعل، دون المحل القابل. فيقال في مثل هذا: عَلَّمّتُه فما تعلم، وَذَكَّرته فما تذكر، وأمرته فما أطاع.
وقد يقال: «ما علمته وما ذكرته»؛ لأنه لم يحصل تامًا ولم يحصل مقصوده، فينفي لانتفاء كماله وتمامه. وانتفاء فائدته بالنسبة إلى المخاطب السامع وإن كانت الفائدة حاصلة للمتكلم القائل المخاطب.
فحيث خُصَّ بالتذكير والإنذار ونحوه المؤمنون؛ فهم مخصوصون بالتام النافع الذي سعدوا به. وحيث عمم؛ فالجميع مشتركون في الإنذار الذي قامت به الحجة على الخلق سواء قبلوا أو لم يقبلوا.
وهذا هو الهدى المذكور في قوله: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } 15، فالهدى هنا هو البيان والدلالة والإرشاد العام المشترك. وهو كالإنذار العام والتذكير العام. وهنا قد هدى المتقين وغيرهم، كما قال: { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } 16.
وأما قوله: { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } 17، فالمطلوب الهدى الخاص التام الذي يحصل معه الاهتداء، كقوله: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } 18، وقوله: { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ } 19، وقوله: { فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } 20، وقوله: { يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } 21، وهذا كثير في القرآن.
وكذلك الإنذار، قد قال: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا } 22، وقال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ } 23.
وقال في الخاص: { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } 24، { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ } 25 فهذا الإنذار الخاص، وهو التام النافع الذي انتفع به المنذر. والإنذار هو الإعلام بالمخوف، فَعَلِمَ المخوِّف فخاف، فآمن وأطاع.
وكذلك التذكير عام وخاص. فالعام: هو تبليغ الرسالة إلى كل أحد، وهذا يحصل بإبلاغهم ما أرسل به من الرسالة. قال تعالى: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } 26، وقال تعالى: { وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } 27، وقال تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } 28. ثم قال: { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } 29، فذكر العام والخاص.
والتذكر هو الذكر التام الذي يذكره المذكَّر به وينتفع به.
وغير هؤلاء قال تعالى فيهم: { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } 30، وقال تعالى: { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } 31، فقد أتاهم وقامت به الحجة، ولكن لم يصغوا إليه بقلوبهم فلم يفهموه، أو فهموه فلم يعملوا به، كما قال: { وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } 32.
والخاص هو التام النافع، وهو الذي حصل معه تذكر لمدكر، فإن هذا ذكرى كما قال: { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } 33، أي يجنب الذكرى، وهو إنما جنب الذكرى الخاصة.
وأما المشترك الذي تقوم به الحجة فقد ذكر هو وغيره بذلك وقامت الحجة عليهم. وقد قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } 34، وقال: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } 35، وقال عن أهل النار: { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } 36، وقال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا } 37.
وأما تمثيلهم ذلك بقوله: { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } 38، أي: وتقيكم البرد فعنه جوابان:
أحدهما: أنه ليس هناك حرف شرط عُلِّقَ به الحكم بخلاف هذا الموضع. فإنه إذا علق الأمر بشرط وكان مأمورًا به في حال وجود الشرط كما هو مأمور به في حال عدمه، كان ذكر الشرط تطويلًا للكلام تقليلًا للفائدة وإضلالًا للسامع.
وجمهور الناس على أن مفهوم الشرط حجة، ومن نازع فيه يقول: سكت عن غير المعلق، لا يقول: إن اللفظ دل على المسكوت كما دل على المنطوق. فهذا لا يقوله أحد.
الثاني: أن قوله: { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } على بابه، وليس في الآية ذكر البرد. وإنما يقول: إن المعطوف محذوف هو الفرَّاء وأمثاله ممن أنكر عليهم الأئمة حيث يفسرون القرآن بمجرد ظنهم وفهمهم لنوع من علم العربية عندهم، وكثيرًا لا يكون ما فسروا به مطابقًا.
وليس في الكلام ما يدل على ذكر البرد، ولكن الله ذكر في هذه السورة إنعامه على عباده، وتسمى سورة النعم، فذكر في أولها أصول النعم التي لابد منها ولا تقوم الحياة إلا بها، وذكر في أثنائها تمام النعم.
وكان ما يقي البرد من أصول النعم، فذكر في أول السورة في قوله: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } 39. فالدفء ما يدفئ ويدفع البرد.
والبرد الشديد يوجب الموت بخلاف الحر. فقد مات خلق من البرد بخلاف الحر، فإن الموت منه غير معتاد؛ ولهذا قال بعض العرب: البرد بؤس، والحر أذى.
فلما ذكر في أثنائها تمام النعم ذكر الظلال وما يقى الحر، وذكر الأسلحة وما يقى القتل، فقال: { وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } 40، فذكر أنه يتم نعمته كما بَىَّن ذلك في هذه الآيات، فقال: { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } .
وفرق بين الظلال والأكنان؛ فإن الظلال يكون بالشجر ونحوه مما يظل ولا يكن، بخلاف ما في الجبال من الغيران، فإنه يظل ويكن.
فهذا في الأمكنة، ثم قال في اللباس: { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } 41، فهذا في اللباس. واللباس والمساكن كلاهما تقى الناس ما يؤذيهم من حر وبرد وعدو، وكلاهما تسترهم عن أعين الناظرين.
وفي البيوت خاصة يسكنون، كما قال: { وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } 42 فلما ذكر البيوت المسكونة امتن بكونه جعلها سكنًا يسكنون فيها من تعب الحركات. وذكر أنه جعل لهم بيوتًا أخرى يحملونها معهم ويَستَخفُّونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، فذكر البيوت الثقيلة التي لا تحمل والخفيفة التي تحمل.
فتبين أن ما مثلوا به حجة عليهم.
فقوله: { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } 43، كما قال مفسرو السلف والجمهور على بابها، قال الحسن البصرى: تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر.
وعلى هذا فقوله تعالى: { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ، لا يمنع كون الكافر يبلغ القرآن لوجوه:
أحدها: أنه لم يخص قومًا دون قوم، لكن قال: { فَذَكِّرْ }، وهذا مطلق بتذكير كل أحد. وقوله: { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } لم يقل: إن نفعت كل أحد بل أطلق النفع. فقد أمر بالتذكير إن كان ينفع.
والتذكير المطلق العام ينفع. فإن من الناس من يتذكر فينتفع به، والآخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك، فيكون عبرة لغيره، فيحصل بتذكيره نفع أيضا؛ ولأنه بتذكيره تقوم عليه الحجة، فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره، فتحصل بالذكرى منفعة.
فكل تذكير ذكر به النبي ﷺ للمشركين حصل به نفع في الجملة، وإن كان النفع للمؤمنين الذين قبلوه واعتبروا به وجاهدوا المشركين الذين قامت عليهم الحجة.
فإن قيل: فعلى هذا كل تذكير قد حصل به نفع، فأي فائدة في التقييد؟
قيل: بل منه ما لم ينفع أصلًا، وهو ما لم يُؤمر به. وذلك كمن أخبر الله أنه لا يؤمن، كأبى لهب، فإنه بعد أن أنزل الله قوله: { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } 44، فإنه لا يخص بتذكير بل يعرض عنه.
وكذلك كل من لم يصغ إليه ولم يستمع لقوله، فإنه يعرض عنه، كما قال: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } 45، ثم قال: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } 46، فهو إذا بلغ قومًا الرسالة فقامت الحجة عليهم، ثم امتنعوا من سماع كلامه أعرض عنهم. فإن الذكرى حينئذ لا تنفع أحدًا.
وكذلك من أظهر أن الحجة قامت عليه وأنه لا يهتدى فإنه لا يكرر التبليغ عليه.
الوجه الثاني: أن الأمر بالتذكير أمر بالتذكير التام النافع، كما هو أمر بالتذكير المشترك.
وهذا التام النافع يخص به المؤمنين المنتفعين. فهم إذا آمنوا ذكرهم بما أنزل، وكلما أنزل شيءٌ من القرآن ذكرهم به، ويذكرهم بمعانيه، ويذكرهم بما نزل قبل ذلك.
بخلاف الذين قال فيهم: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } 47. فإن هؤلاء لا يذكرهم كما يذكر المؤمنين إذا كانت الحجة قد قامت عليهم وهم معرضون عن التذكرة لا يسمعون.
ولهذا قال: { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهي } 48، فأمره أن يُقبل على من جاءه يطلب أن يتزكى وأن يتذكر. وقال: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } إلى قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } 49، فذكر التذكر والتزكى، كما ذكرهما هناك. وأمره أن يقبل على من أقبل عليه دون من أعرض عنه، فإن هذا ينتفع بالذكرى دون ذاك.
فيكون مأمورًا أن يذكر المنتفعين بالذكرى تذكيرًا يخصهم به غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة، كما قال: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } .
وقال: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } 50، وفي الصحيحين عن ابن عباس: قال: كان رسول الله ﷺ إذا قرأ القرآن سمعه المشركون، فسبُّوا القرآن ومن أنزل عليه ومن جاء به، فقال الله له: ولا تجهر به فيسمعه المشركون، ولا تخافت به عن أصحابك. فنهي عن أن يسمعهم إسماعًا يكون ضرره أعظم من نفعه.
وهكذا كل ما يأمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته. والمصلحة هي المنفعة، والمفسدة هي المضرة. فهو إنما يؤمر بالتذكير إذا كانت المصلحة راجحة، وهو أن تحصل به منفعة راجحة على المضرة. وهذا يدل على الوجه الأول والثاني. فحيث كان الضرر راجحًا فهو منهي عما يجلب ضررًا راجحًا.
والنفع أعم في قبول جميعهم، فقبول بعضهم نفع، وقيام الحجة على من لم يقبل نفع، وظهور كلامه حتى يبلغ البعيد نفع، وبقاؤه عند من سمعه حتى بلغه إلى من لم يسمعه نفع. فهو ﷺ ما ذكَّرَ قط إلا ذكرى نافعة، لم يذكر ذكرى قط يكون ضررها راجحًا.
وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف؛ أن ما أمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة ومنفعته راجحة. وأما ما كانت مضرته راجحة، فإن الله لا يأمر به.
وأما جَهْم ومن وافقه من الجبرية فيقولون: إن الله قد يأمر بما ليس فيه منفعة ولا مصلحة البتة، بل يكون ضررًا محضًا إذا فعله المأمور به، وقد وافقهم على ذلك طائفة من متأخرى أتباع الأئمة ممن سلك مسلك المتكلمين أبى الحسن الأشعري وغيره في مسائل القَدَر، فنصر مذهب جهم والجبرية.
الوجه الثالث: أن قوله: { الذِّكْرَى } يتناول التذكر والتذكير. فإنه قال: { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } 51. فلابد أن يتناول ذلك تذكيره.
ثم قال: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } 52. والذي يتجنبه الأشقى هو الذي فعله من يخشى، وهو التذكر. فضمير الذكرى هنا يتناول التذكر، وإلا فمجرد التذكير الذي قامت به الحجة لم يتجنبه أحد.
لكن قد يراد بتجنبها أنه لم يستمع إليها ولم يصغ، كما قال: { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } 53. والحجة قامت بوجود الرسول المبلغ وتمكنهم من الاستماع والتدبر، لا بنفس الاستماع. ففي الكفار من تجنب سماع القرآن واختار غيره، كما يتجنب كثير من المسلمين سماع أقوال أهل الكتاب وغيرهم، وإنما ينتفعون إذا ذكروا فتذكروا، كما قال: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } .
فلما قال: { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ، فقد يراد بالذكرى نفس تذكيره تذكر أو لم يتذكر وتذكيره نافع لا محالة كما تقدم، وهذا يناسب الوجه الأول.
وقد ذكر بعضهم أن هذا يراد به توبيخ من لم يتذكر من قريش، قال ابن عطية: اختلف الناس في معنى قوله: { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } : فقال الفَرَّاء، والنحَّاس، والزَّهْرَاوى: معناه: وإن لم تنفع. فاقتصر على الاسم الواحد لدلالته على الثاني.
قال: وقال بعض الحُذَّاق: قوله { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ، اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش. أي: إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة. وهذا كنحو قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادى.
وهذا كله كما تقول لرجل: «قل لفلان واعذله إن سمعك»، إنما هو توبيخ للمشار إليه.
قلت: هذا القائل هو الزمخشري، وهذا القول فيه بعض الحق. لكنه أضعف من ذاك القول من وجه آخر. فإن مضمون هذا القول أنه مأمور بتذكير من لا يقبل ولا ينتفع بالذكرى دون من يقبل، كما قال: «إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة»، وكما أنشده في البيت.
ثم البيت الذي أنشده خبر عن شخص خاطب آخر. فيقول: لقد أسمعت لو كان من تناديه حيا وهذا كقوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } 54، وقوله: { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } 55، وقوله: { قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ } 56. فهذا يناسب معنى البيت، وهو خبر خاص.
وأما الأمر بالإنذار فهو مطلق عام، وإن كان مخصوصًا، فالمؤمنون أحق بالتخصيص، كما قال: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } 57، وقال: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } 58. ليس الأمر مختصًا بمن لا يسمع.
كيف وقد قال بعد ذلك: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } ، فهذا الذي يخشى هو ممن أمره بتذكيره، وهو ينتفع بالذكرى. فكيف لا يكون لهذا الشرط فائدة إلا ذم من لم يسمع؟
وأما قول القائل: «قل لفلان واعذله إن سمعك»، فهذا وأمثاله يقوله الناس لمن يظنون أنه لا يقبل ولكن يرجون قبوله. فهم يقصدون توبيخه على تقدير الرد، لا على تقدير القبول. فيقولون: «قل له إن كان يسمع منك»، و«قل له إن كان يقبل»، و«انصحه إن كان يقبل النصيحة»، وهو كله من هذا الباب. فهو أمر بالنصيحة التامة المقبولة إن كان يقبلها، وأمر بأصل النصح وإن رده، وذم له على هذا التقدير.
وكذلك قوله: { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ، أمر بتذكير كل أحد، فإن انتفع كان تذكره تامًا نافعًا، وإلا حصل أصل التذكير الذي قامت به الحجة، ودل ذلك على ذمه واستحقاقه التوبيخ.
مع أنه سبحانه إنما قال: { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ، ولم يقل: «ذكر من تنفعه الذكرى فقط»، كما في قوله: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } 59، فهناك الأمر بالتذكير خاص.
وقد جاء عامًا وخاصًا كخطاب القرآن ب«يا أيها الناس»، وهو عام، وب { يا أيها الذين آمنوا } خاص لمن آمن بالقرآن.
فهناك قال: { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } 60، وهنا قال: { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } . ولم يقل «سينتفع من يخشى». فإن النفع الحاصل بالتذكير أعم من تذكر من يخشى.
فإنه إذا ذكر قامت الحجة على الجميع. والأشقى الذي تجنبها حصل بتذكيره قيام الحجة عليه واستحقاقه لعذاب الدنيا والآخرة.
وفي ذلك لله حِكَم ومنافع هي نعم على عباده. فكل ما يقضيه الله تعالى هو من نعمته على عباده؛ ولهذا يقول عقب تعديد ما يذكره: { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } 61.
ولما ذكر ما ذكره في سورة النجم وذكر إهلاك مكذبى الرسل قال: { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى } 62، فإهلاكهم من آلاء ربنا. وآلاؤه نعمه التي تدل على رحمته، وعلى حكمته، وعلى مشيئته، وقدرته، وربوبيته سبحانه وتعالى.
ومن نفع تذكير الذي يتجنبها أنه لما قامت عليه الحجة واستحق العذاب خف بذلك شر عن المؤمنين، فإن الله يهلكهم بعذاب من عنده أو بأيديهم. وبهلاكه ينتصر الإيمان وينتشر، ويعتبر به غيره، وذلك نفع عظيم.
وهو أيضا يتعجل موته فيكون أقل لكفره. فإن الله أرسل محمدا رحمة للعالمين، فبه تصل الرحمة إلى كل أحد بحسب الإمكان.
وأيضا، فإن الذي يتجنبها بتجنبه استحق هذا الوعيد المذكور، فصار ذلك تحذيرًا لغيره من أن يفعل مثل فعله. قال تعالى: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } 63، وقال تعالى عن فرعون: { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } 64 وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ } 65.
هامش
- ↑ [الأعلى: 9 - 12]
- ↑ [الذاريات: 55]
- ↑ [هو أبو الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردي أقضى قضاة عصره، ولد بالبصرة عام 463ه، وانتقل إلى بغداد، وولى القضاء في أيام القائم بأمر الله العباسي، وكان يميل إلى مذهب الاعتزال، ووفاته ببغداد عام 540ه، من كتبه: أدب الدنيا والدين و الأحكام السلطانية وغيرها]
- ↑ [الذاريات: 54، 55]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [الغاشية: 21، 22]
- ↑ [الزخرف: 44]
- ↑ [القلم: 51، 52]
- ↑ [الفرقان: 1]
- ↑ [ق: 45]
- ↑ [النازعات: 54]
- ↑ [يس: 11]
- ↑ [التكوير: 27، 28]
- ↑ [البقرة: 2]
- ↑ [فصلت: 17]
- ↑ [الرعد: 7]
- ↑ [الفاتحة: 6]
- ↑ [البقرة: 2]
- ↑ [الأعراف: 30]
- ↑ [النحل: 37]
- ↑ [المائدة: 16]
- ↑ [مريم: 97]
- ↑ [يونس: 2]
- ↑ [النازعات: 45]
- ↑ [يس: 11]
- ↑ [ص: 86، 87]
- ↑ [المدثر: 31]
- ↑ [التكوير: 27]
- ↑ [التكوير: 28]
- ↑ [الأنبياء: 2، 3]
- ↑ [الشعراء: 5]
- ↑ [الأنفال: 23]
- ↑ [الأعلى: 9 - 11]
- ↑ [الإسراء: 15]
- ↑ [النساء: 165]
- ↑ [الملك: 8، 9]
- ↑ [الأنعام: 130]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [النحل: 5]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [النحل: 81]
- ↑ [النحل: 80]
- ↑ [الأعلى: 9]
- ↑ [المسد: 3]
- ↑ [الذاريات: 54]
- ↑ [الذاريات: 55]
- ↑ [المدثر: 49 51]
- ↑ [عبس: 1 10]
- ↑ [الأعلى: 10 14]
- ↑ [الإسراء: 110]
- ↑ [الأعلى: 9]
- ↑ [الأعلى: 10، 11]
- ↑ [فصلت: 26]
- ↑ [البقرة: 6]
- ↑ [النمل: 80]
- ↑ [الأنبياء: 45]
- ↑ [ق: 45]
- ↑ [الذاريات: 55]
- ↑ [ق: 45]
- ↑ [الذاريات: 55]
- ↑ [الرحمن: 13]
- ↑ [النجم: 55]
- ↑ [البقرة: 66]
- ↑ [الزخرف: 56]
- ↑ [يوسف: 111]