مجموع الفتاوى/المجلد السادس عشر/فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين

مجموع فتاوى ابن تيميةالتفسير المؤلف ابن تيمية
فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين


فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين عدل

وقَال الشيخ رحمه الله:

في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين وهي الأدلة العقلية الدالة على ثبوت الصانع وتوحيده، وصدق رسوله ، وعلى المعاد إمكانًا ووقوعًا.

وقد ذكرنا فيما تقدم هذا الأصل غير مرة، وأن الرسول بين الأدلة العقلية والسمعية التي يهتدى بها الناس إلى دينهم، وما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وأن الذين ابتدعوا أصولًا تخالف بعض ما جاء به هي أصول دينهم، لا أصول دينه. وهي باطلة عقلًا وسمعًا، كما قد بسط في غير موضع. وبين أن كثيرًا من المنتسبين إلى العلم والدين قاصرون أو مقصرون في معرفة ما جاء به من الدلائل السمعية والعقلية.

فطائفة قد ابتدعت أصولًا تخالف ما جاء به من هذا وهذا.

وطائفة رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه، وصاروا ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك. ولكن هم مع ذلك لم يتبعوا السنة على وجهها، ولا قاموا بما جاء به من الدلائل السمعية والعقلية. بل الذي يخبر به من السمعيات مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر، غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من غير تصور لما أخبر به. بل قد يقولون مع هذا إنه نفسه لم يكن يعلم معنى ما أخبر به؛ لأن ذلك عندهم هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.

وأما الأدلة العقلية فقد لا يتصورون أنه أتى بالأصول العقلية الدالة على ما يخبر به، كالأدلة الدالة على التوحيد والصفات. ومنهم من يقر بأنه جاء بهذا مجملًا، ولا يعرف أدلته. بل قد يظن أن ما يستدل به كالاستدلال بخلق الإنسان على حدوث جواهره هو دليل الرسول.

وكثير من هؤلاء يعتقدون: أن في ذلك ما لا يجوز أن يعلم بالعقل كالمعاد، وحسن التوحيد والعدل والصدق، وقبح الشرك والظلم والكذب. والقرآن يبين الأدلة العقلية الدالة على ذلك. وينكر على من لم يستدل بها. ويبين أنه بالعقل يعرف المعاد، وحسن عبادته وحده وحسن شكره. وقبح الشرك، وكفر نعمه، كما قد بسطت الكلام على ذلك في مواضع.

وكثير من الناس يكون هذا في فطرته وهو ينكر تحسين العقل وتقبيحه إذا صنف في أصول الدين على طريقة النفاة الجبرية أتباع جهم. وهذا موجود في عامة ما يقوله المبطلون يقولون بفطرتهم ما يناقض ما يقولونه في اعتقادهم البِدْعِى.

وقد ذكر أبو عبد الله ابن الجد الأعلى أنه سمع أبا الفرج ابن الجوزي ينشد في مجلس وعظه البيتين المعروفين:

هب البعثُ لم تأتنا رُسْله ** وجاحمة النار لم تُضرم

أليس من الواجب المستَحَقِ ** حياءُ العباد من المنْعِم؟

فقد صرح في هذا بأنه من الواجب المستحق حياء الخلق من الخالق المنعم.

وهذا تصريح بأن شكره واجب مستحق ولو لم يكن وعيد، ولا رسالة أخبرت بجزاء. وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب.

وهذا فيه نزاع قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح. ونتيجة فعل المنهي انخفاض المنزلة وسلب كثير من النعم التي كان فيها وإن كان لا يعاقب بالضرر.

ويبين أن الوجوب والاستحقاق يُعْلم بالبديهة. فتارك الواجد وفاعل القبيح وإن لم يُعَذَّب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه. وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها أن يسلبها. فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد. والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك يُنْقص النعمة ولا يزيد.

مع أنه لابد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار. قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } 1، وهذا مبسوط في مواضع.

والمقصود هنا أن بيان هذه الأصول وقع في أول ما أنزل من القرآن. فإن أول ما أنزل من القرآن: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } 2، عند جماهير العلماء. وقد قيل: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } 3، روى ذلك عن جابر. والأول أصح. فإن ما في حديث عائشة الذي في الصحيحين يبين أن أول ما نزل: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } نزلت عليه وهو في غار حراء، وأن المدثر نزلت بعد.

وهذا هو الذي ينبغى. فإن قوله: { اقْرَأْ } أمر بالقراءة، لا بتبليغ الرسالة، وبذلك صار نبيًا. وقوله: { قُمْ فَأَنذِرْ } 4، أمر بالإنذار، وبذلك صار رسولًا منذرًا.

ففي الصحيحين من حديث الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يأتى غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.

فجاءه الملك فقال: «اقرأ»

قال: «ما أنا بقارئ»

قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ»

فقلت: «ما أنا بقارئ»

«فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ».

فقلت: «ما أنا بقارئ»

«فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } »

فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده. فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: «زملوني. زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع.

فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي»

فقالت له خديجة: كلا، والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة. وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرى، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي.

فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة: يا بن أخى، ماذا ترى؟

فأخبره رسول الله خبر ما رأى.

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. يا ليتنى فيها جذعًا! ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك!

فقال رسول الله : «أومخرجي هم؟ »

قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى. وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفَتَر الوحي.

قال ابن شهاب الزهرى، سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن، قال: أخبرنى جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يحدث عن فَتْرَة الوحي: «فبينما أنا أمشى سمعت صوتًا فرفعت بصرى قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض، فجُئِثْت 5 حتى هويت إلى الأرض. فجئت أهلى فقلت: زملونى، زملونى، فزملونى. فأنزل الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ } إلى قوله: { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } » 6.

فهذا يبين أن المدثر نزلت بعد تلك الفَتْرَة، وأن ذلك كان بعد أن عاين الملك الذي جاءه بحراء أولا فكان قد رأى الملك مرتين.

وهذا يفسر حديث جابر الذي روى من طريق آخر كما أخرجاه من حديث يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن. قال: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } 7. قلت: يقولون: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 8. فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جوارى هبطت فنوديت، فنظرت عن يمينى فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالى فلم أر شيئًا، ونظرت أمامى فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا. فرفعت رأسى فرأيت شيئًا. فأتيت خديجة فقلت: دثرونى وصبوا علىّ ماءً باردًا، فدثروني وصبوا علي ماءً باردًا». قال: «فنزلت: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } » 9.

فهذا الحديث يوافق المتقدم، وإن المدثر نزلت بعد أن هبط من الجبل وهو يمشى، وبعد أن ناداه الملك حينئذ. وقد بين في الرواية الأخرى أن هذا الملك هو الذي جاءه بحراء، وقد بينت عائشة أن { اقْرَأْ } نزلت حينئذ في غار حراء. لكن كأنه لم يكن علم أن { اقًرأ } نزلت حينئذ، بل علم أنه رأى الملك قبل ذلك، وقد يراه ولا يسمع منه. لكن في حديث عائشة زيادة علم، وهو أمره بقراءة { اقْرَأْ }.

وفي حديث الزهري أنه سمى هذا فَتْرَة الوحي، وكذلك في حديث عائشة فَتْرَة الوحي. فقد يكون الزهري روى حديث جابر بالمعنى، وسمى ما بين الرؤيتين فترة الوحي كما بينته عائشة، وإلا فإن كان جابر سماه فترة الوحي فكيف يقول: إن الوحي لم يكن نزل؟

وبكل حال، فالزهري عنده حديث عروة، عن عائشة، وحديث أبي سلمة، عن جابر وهو أوسع علمًا وأحفظ من يحيى بن أبي كثير لو اختلفا. لكن يحيى ذكر أنه سأل أبا سلمة عن الأولى، فأخبر جابر بعلمه، ولم يكن علم ما نزل قبل ذلك، وعائشة أثبتت وبينت.

والآيات آيات اقرأ والمدثر تبين ذلك، والحديثان متصادقان مع القرآن ومع دلالة العقل على أن هذا الترتيب هو المناسب.

وإذا كان أول ما أنزل { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 10، ففي الآية الأولى إثبات الخالق تعالى، وكذلك في الثانية.

وفيها وفي الثانية الدلالة على إمكان النبوة، وعلى نبوة محمد .

أما الأولى؛ فإنه قال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ، ثم قال: { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . فذكر الخلق مطلقًا، ثم خص خلق الإنسان أنه خلقه من علق. وهذا أمر معلوم لجميع الناس، كلهم يعلمون أن الإنسان يحدث في بطن أمه، وأنه يكون من علق. وهؤلاء بنو آدم.

وقوله: { الْإِنسَانَ } هو اسم جنس يتناول جميع الناس، ولم يدخل فيه آدم الذي خلق من طين. فإن المقصود بهذه الآية بيان الدليل على الخالق تعالى، والاستدلال إنما يكون بمقدمات يعلمها المستدل. والمقصود بيان دلالة الناس وهدايتهم، وهم كلهم يعلمون أن الناس يخلقون من العلق.

فأما خلق آدم من طين، فذاك إنما علم بخبر الأنبياء، أو بدلائل أُخر. ولهذا ينكره طائفة من الكفار الدهرية وغيرهم الذين لا يقرون بالنبوات.

وهذا بخلاف ذكر خلقه في غير هذه السورة. فإن ذاك ذكره لما يثبت النبوة، وهذه السورة أول ما نزل، وبها تثبت النبوة فلم يذكر فيها ما علم بالخبر، بل ذكر فيها الدليل المعلوم بالعقل والمشاهدة، والأخبار المتواترة لمن لم ير العلق.

وذكر سبحانه خلق الإنسان من العلق وهو جمع عَلَقَة، وهي القطعة الصغيرة من الدم؛ لأن ما قبل ذلك كان نطفة، والنطفة قد تسقط في غير الرحم كما يحتلم الإنسان، وقد تسقط في الرحم ثم يرميها الرحم قبل أن تصير عَلَقَة. فقد صار مبدأ لخلق الإنسان، وعُلِم أنها صارت علقة ليخلق منها الإنسان.

وقد قال في سورة القيامة: { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } 11، فهنا ذكرهذا على إمكان النشأة الثانية التي تكون من التراب؛ ولهذا قال في موضع آخر: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } 12، ففي القيامة استدل بخلقه من نطفة، فإنه معلوم لجميع الخلق. وفي الحج ذكر خلقه من تراب، فإنه قد علم بالأدلة القطعية. وذكر أول الخلق أدل على إمكان الإعادة.

وأما هنا، فالمقصود ذكر ما يدل على الخالق تعالى ابتداء فذكر أنه خلق الإنسان من علق، وهو من العلقة الدم، يصير مضغة، وهو قطعة لحم كاللحم الذي يمضغ بالفم، ثم تخلق فتصور، كما قال تعالى { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } 13 فإن الرحم قد يقذفها غير مخلقة. فبين للناس مبدأ خلقهم، ويرون ذلك بأعينهم.

وهذا الدليل وهو خلق الإنسان من علق يشترك فيه جميع الناس. فإن الناس هم المستدلون، وهم أنفسهم الدليل والبرهان والآية. فالإنسان هوالدليل وهو المستدل، كما قال تعالى: { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } 14، وقال: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } 15. وهذا كما قال في آية أخرى: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } 16.

وهو دليل يعلمه الإنسان من نفسه، ويذكره كلما تذكر في نفسه وفيمن يراه من بنى جنسه. فيستدل به على المبدأ والمعاد، كما قال تعالى: { وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } 17، وقال تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } 18.

وكذلك قال زكريا لما تعجب من حصول ولد على الكبر فقال: { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } 19، ولم يقل: «إنه أهون عليه» كما قال في المبدأ والمعاد: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } 20.

وقال سبحانه { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } 21، بعد أن قال: { الَّذِي خَلَقَ } 22، فأطلق الخلق الذي يتناول كل مخلوق، ثم عين خلق الإنسان فكان كلما يعلم حدوثه داخلًا في قوله: { الَّذِي خَلَق }.

وذكر بعد الخلق التعليم الذي هو التعليم بالقلم، وتعليم الإنسان ما لم يعلم. فخص هذا التعليم الذي يستدل به على إمكان النبوة.

ولم يقل هنا: هدى، فيذكر الهدى العام المتناول للإنسان وسائر الحيوان، كما قال في موضع آخر: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } 23، وكما قال موسى { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } 24 ؛ لأن هذا التعليم الخاص يستلزم الهدى العام، ولا ينعكس. وهذا أقرب إلى إثبات النبوة، فإن النبوة نوع من التعليم.

وليس جعل الإنسان نبيًا بأعظم من جعله العَلَقَة إنسانًا، حيًا، عالمًا، ناطقًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا، قد علم أنواع المعارف، كما أنه ليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته. والقادر على المبدأ كيف لا يقدر على المعاد؟ والقادر على هذا التعليم كيف لا يقدر على ذاك التعليم وهو بكل شيء عليم، ولا يحيط أحد من علمه إلا بما شاء؟

وقال سبحانه أولا: { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ }، فأطلق التعليم والمعلم، فلم يخص نوعًا من المعلمين. فيتناول تعليم الملائكة وغيرهم من الإنس والجن، كما تناول الخلق لهم كلهم.

وذكر التعليم بالقلم؛ لأنه يقتضى تعليم الخط، والخط يطابق اللفظ وهو البيان والكلام. ثم اللفظ يدل على المعانى المعقولة التي في القلب فيدخل فيه كل علم في القلوب.

وكل شيء له حقيقة في نفسه ثابتة في الخارج عن الذهن، ثم يتصوره الذهن والقلب، ثم يعبر عنه اللسان، ثم يخطه القلم. فله وجود عينى، وذهنى، ولفظى، ورسمى. وجود في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان. لكن الأول هو هو، وأما الثلاث، فإنها مثال مطابق له. فالأول هو المخلوق، والثلاثة معلمة. فذكر الخلق والتعليم ليتناوب المراتب الأربع، فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 25.

وقد تنازع الناس في الماهيات هل هي مجعولة أم لا؟ وهل ماهية كل شيء زائدة على وجوده؟ كما قد بُسِطَ هذا في غير هذا الموضع وبين الصواب في ذلك، وأنه ليس إلا ما يتصور في الذهن، ويوجد في الخارج.

فإن أريد الماهية ما يتصور في الذهن. وبالوجود ما في الخارج، أو بالعكس، فالماهية غير الوجود إذا كان ما في الأعيان مغايرًا لما في الأذهان.

وإن أريد بالماهية ما في الذهن، أو الخارج، أو كلاهما، وكذلك بالوجود، فالذي في الخارج من الوجود هو الماهية الموجودة في الخارج وكذلك ما في الذهن من هذا هو هذا، ليس في الخارج شيئان:

وهو سبحانه علم ما في الأذهان وخلق ما في الأعيان، وكلاهما مجعول له. لكن الذي في الخارج جعله جعلا خلقيًا. والذي في الذهن جعله جعلا تعليميًا. فهو الذي { خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ، وهو { الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } .

وقوله: { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } يدخل فيه تعليم الملائكة الكاتبين، ويدخل فيه تعليم كتب الكتب المنزلة. فعلم بالقلم أن يكتب كلامه الذي أنزله كالتوراة والقرآن، بل هو كتب التوراة لموسى.

وكون محمد كان نبيًا أميًا هو من تمام كون ما أتى به معجزًا خارقًا للعادة، ومن تمام بيان أن تعليمه أعظم من كل تعليم، كما قال تعالى: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } 26، فغيره يعلم ما كتبه غيره، وهو علم الناس ما يكتبونه، وعلمه الله ذلك بما أوحاه إليه.

وهذا الكلام الذي أنزل عليه هو آية وبرهان على نبوته، فإنه لا يقدر عليه الإنس والجن. { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } 27، { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } 28، وفي الآية الأخرى: { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } 29.


هامش

  1. [التين: 4 - 6]
  2. [العلق: 1]
  3. [المدثر: 1]
  4. [المدثر: 2]
  5. [جُئِثْتُ: أي ذعرت]
  6. [المدثر: 1 - 5]
  7. [المدثر: 1]
  8. [العلق: 1]
  9. [المدثر: 1 - 3]
  10. [العلق: 1 5]
  11. [القيامة: 37 - 40]
  12. [الحج: 5]
  13. [الحج: 5]
  14. [الذاريات: 21]
  15. [فصلت: 53]
  16. [الطور: 35]
  17. [مريم: 66، 67]
  18. [يس: 78، 79]
  19. [مريم: 8، 9]
  20. [الروم: 27]
  21. [العلق: 2]
  22. [العلق: 1]
  23. [الأعلى: 1 3]
  24. [طه: 50]
  25. [العلق: 1 5]
  26. [العنكبوت: 48]
  27. [الإسراء: 88]
  28. [يونس: 38]
  29. [هود: 13، 14]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السادس عشر
سورة الزمر | فصل في تفسير قوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه | فصل في السماع | فصل في تفسير قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع | فصل في تفسير قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله | سورة الشورى | فصل في بعض ما يتعلق بقوله تعالى وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون | سورة الزخرف | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم | سورة الأحقاف | سئل شيخ الإسلام عن تفسير قوله تعالى ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة | سورة ق | سئل رحمه الله عن تفسير قوله تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد | سورة المجادلة | فصل في تفسير قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات | سورة الطلاق | فصل في تفسير قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | فصل في تفسير قوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب | سورة التحريم | سئل رحمه الله عن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا | سورة الملك | تفسير قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير | سورة القلم | فصل في تفسير سورة ن | فصل في كلام جماعة من الفضلاء في تفسير قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه | سورة التكوير | فصل في تفسير قوله تعالى وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت | قول لشيخ الإسلام في تفسير قوله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين | سورة الأعلى | فصل فيما قاله ابن فورك في كتابه الذي كتبه إلى أبي إسحاق الإسفرائيني يحكي ما جرى له | فصل في كون ابن فورك هو ممن يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين | فصل في وصف الله نفسه بالعلو، وهو من صفات المدح له بذلك والتعظيم | فصل في الذين يصفون الله تعالى بالعلو والسفول | فصل في تفسير معنى الأعلى | فصل في الأمر بتسبيح الله يقتضي أيضا تنزيهه عن كل عيب وسوء وإثبات صفات الكمال له | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى | فصل في قوله تعالى الذي خلق فسوى | فصل في إذا خلق الله المخلوق فسواه، فإن لم يهده إلى تمام الحكمة التي خلق لها فسد | فصل في تفسير قوله سبحانه والذي قدر فهدى | فصل في تفسير قوله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى | فصل في تفسير قوله تعالى فذكر إن نفعت الذكرى | فصل في تفسير قوله تعالى سيذكر من يخشى | فصل في الكلام على قوله تعالى من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب | فصل في قوله تعالى في قصة فرعون لعله يتذكر أو يخشى | فصل في تفسير قوله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب | فصل في كون التذكر اسم جامع لكل ما أمر الله بتذكره | فصل في قوله تعالى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى | فصل في جمع الله سبحانه بين إبراهيم وموسى صلى الله عليهما في أمور | فصل في قيام إبراهيم وموسى بأصل الدين | فصل في إثبات أهل السنة والجماعة لما أثبته المرسلون من تكليم الله | سورة الغاشية | فصل في تفسير قوله تعالى هل أتاك حديث الغاشية | سورة البلد | قول شيخ الإسلام رحمه الله في قوله تعالى ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين | سورة الشمس | فصل في قوله والشمس وضحاها | فصل في إذا كان الضلال في القدر حصل تارة بالتكذيب بالقدر والخلق | سورة العلق | فصل في بيان أن الرسول أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين | فصل في طرق الناس في إثبات الصانع والنبوة | فصل في الذين بنوا أصل دينهم على طريقة الأعراض والاستدلال بها على حدوث الأجسام | فصل في ذكر الله لخلق الإنسان تارة مجملا، وتارة مفصلا | فصل في تفسير قوله تعالى اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم | فصل في كون الرسول هدى ورحمة للعالمين | فصل في تفسير قوله تعالى الأكرم | فصل في تفسير أول ما أنزل اقرأ باسم ربك الذي خلق | فصل في نسيان الإنسان | فصل في تفسير قوله تعالى الذي خلق خلق الإنسان من علق | فصل في إثبات صفات الكمال لله | فصل في قوله تعالى باسم ربك الذي خلق | فصل في أول آية نزلت من القرآن | فصل في أن أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه | فصل في تنازع العلماء في إثبات الأفعال اللازمة لله كالاستواء والمجيء | فصل في تبيين الرسول الأصول الموصلة إلى الحق | فصل في ما ينبغي أن يعرف | فصل في أن ما جاء به الرسول هو من علم الله | فصل في أنه يجب الرجوع في أصول الدين إلى الكتاب والسنة | فصل في أن السور القصار في أواخر المصحف متناسبة | سورة البينة | فصل في تفسير قوله تعالى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة | فصل في قوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة | سورة التكاثر | فصل في تفسير سورة التكاثر | سورة الهمزة | فصل في تفسير قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة | سورة الكوثر | قول شيخ الإسلام - رحمه الله - في تفسير سورة الكوثر | سورة الكافرون | فصل في تفسير سورة قل يا أيها الكافرون | فصل في أن القرآن تنزيل من حكيم حميد | فصل في النزاع في قوله قل يا أيها الكافرون | فصل في نظير القول في قل يا أيها الكافرون | فصل في قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون في مجيء الخطاب فيها بما | سورة تبت