السيرة الحلبية/الجزء الأول



(مقدمة المؤلف)

بسم الله الرحمن الرحيم

حمد لمن نضر وجوه أهل الحديث وصلاة وسلاما على من نزل عليه أحسن الحديث وعلى آله وأصحابه أهل التقدم في القديم والحديث صلاة وسلاما دائمين ما سارت الأئمة في جمع سير المصطفى السر الحثيث

وبعد فيقول أفقر المحتاجين وأحوج المفتقرين لعفو ذي الفضل والطول المتين على بن برهان الدين الحلبي الشافعي إن سيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام من أهم ما اهتم به العلماء الأعلام وحفاظ ملة الإسلام كيف لا وهو الموصل لعلم الحلال والحرام والحامل على التخلق بالأخلاق العظام وقد قال الزهري   في علم المغازي خير الدنيا والآخرة وهو أول من ألف في السير

قال بعضهم أول سيرة ألفت في الإسلام سيرة الزهري، وعن سعد بن أبي وقاص   أنه قال كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله وسراياه فيقول يا بني هذه شرف آبائكم فلا تنسوا ذكرها. وأحسن ما ألف في ذلك وتداولته الأكياس سيرة الحافظ أبي الفتح ابن سيد الناس لما جمعت من تلك الدراري والدرر ومن ثم سماها عيون الأثر غير أنه أطال بذكر الإسناد الذي كان للمحدثين به مزيد الاعتداد وعليه لهم كثير الاعتماد إذ هو من خصائص هذه الأمة ومفتخر الأئمة لكنه صار الآن لقصور الهمم لا تقبله الطباع ولا تمتد إليه الأطماع وأما سيرة الشمس الشامي فهو وإن أتى بما فيما يعد في صفائح وجوه الصحائف حسنات لكنه أتى فيها بما هو في أسماع ذوى الأفهام كالمعادات

ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف والبلاغ والمرسل والمنقطع والمعضل دون الموضوع، ومن ثم قال الزين العراقي  :

وليعلم الطالب أن السيرا ** تجمع ما صح وما قد أنكرا

وقد قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة: إذا روينا في الحلال والحرام شددنا وإذا روبنا في الفضائل ونحوها تساهلنا. وفي الأصل والذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق وما لا حكم فيه من أخبار المغازي وما يجرى مجرى ذلك وأنه يقبل منها ما لا يقبل في الحلال والحرام لعدم تعلق الأحكام بها. فلما رأيت السيرتين المذكورتين على الوجه الذي لا يكاد ينظر إليه لما اشتملتا عليه عن لي أن ألخص من تينك السيرتين أنموذجا لطيفا يروق الأحداق ويحلو للأذواق يقرأ مع ما أضمه إليه بين يدي المشايخ على غاية الانسجام ونهاية الانتظام ولا زلت في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى لكوني لست من أهل هذا الشان ولا ممن يسابق في ميدانه على خيل الرهان حتى أشار علي بذلك وبسلوك تلك المسالك من إشارته واجبة الاتباع ومخالفة أمره لا تستطاع ذو البديهة المطاوعة والفضائل البارعة والفواضل الكثيرة النافعة من إذا سئل عن أي معضلة أشكلت على ذوي المعرفة والوقوف لا تراه يتوقف ولا يخرج عن صوب الصواب ولا يتعسف ولا أخبر في كثير من الأوقاف عن شيء من المغيبات وكاد أن يتخلف وهو الأستاذ الأعظم والملاذ الأكرم مولانا الشيخ أبو عبدالله وأبو المواهب محمد فخر الإسلام البكري الصديقي كيف لا وهو محل نظر والده من نشر ذكره ملأ المشارق والمغارب وسرى سره في سائر المسارى والمسارب ولي الله والقائم بخدمته في الإسرار والإعلان والعارف به الذي لم يتمار في أنه القطب الفرد الجامع ثنان مولانا الأستاذ أبو عبدالله وأبو بكر محمد البكري الصديقي ولا بدع فإنه نتيجة صدر العلماء العاملين وأستاذ جميع الأستاذين والمعدود من المجتهدين صاحب التصانيف المفيدة في العلوم العديدة مولانا الأستاذ محمد أبو الحسن تاج العارفين البكري الصديقي أعاد الله تعالى على وعلى أحبابي من بركاتهم وجعلنا في الآخرة من جملة أتباعهم فلما أشار على ذلك الأستاذ بتلك الإشارة ورأيتها منه أعظم بشارة شرعت معتمدا في ذلك على من يبلغ كل مؤمل أمله ولم يخيب من قصده وأمله وقد يسر الله تعالى ذلك على أسلوب لطيف ومسلك شريف لا تمله الأسماع ولا تنفر منه الطباع والزيادة التي أخذتها من سيرة الشمس الشامي على سيرة أبي الفتح ابن سيد الناس الموسومة بعيون الأثر إن كثرت ميزتها بقولى في أولها قال وفي آخرها انتهى . وإن قلت أتيت بلفظه أي وجعلت في آخر القولة دائرة هكذا بالحمرة وربما أقول وفي السيرة الشامية وربما عبرت عن الزيادة القليلة بقال وعن الكثيرة بأي، وما ليس بعده تلك الدائرة فهو من الأصل أعني عيون الأثر غالبا وقد يكون من زيادتي على الأصل والشامي كما يعلم بالوقوف عليهما وربما ميزت تلك الزيادة بقولي في أولها أقول وفي آخرها والله أعلم. وقد يكون من الزيادة ما أقول وفي السيرة الهشامية بتقديم الهاء على الشين وحيث أقول قال في الأصل أو ذكر في الأصل أو نحو ذلك فالمراد به عيون الأثر ثم عن لي أن أذكر من أبيات القصيدة الهمزية المنسوبة لعالم الشعراء وأشعر العلماء وهو الشيخ شرف الدين البوصيري ناظم القصيدة المعروفة بالبردة وما تضمنته تلك الأبيات وأشارت إليه من ذلك السياق فإنه أحلى في الأذواق وربما أحل ذلك النظم بما يوضح معناه ويظهر تركيب مبناه وربما أذكر أيضا من أبيات تائية الإمام السبكي ما يناسب المقام وربما أذكر أيضا بعض أبيات من كلام صاحب الأصل من قصائده النبوية المجموعة بديوانه المسمى ببشرى اللبيب بذكرى الحبيب وقد سميت مجموع ذلك

إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون

وأسأل من لا مسئول إلا إياه أن يجعل ذلك وسيلة لرضاه آمين

باب نسبه الشريف

هو محمد (ابن عبد الله) ومعنى عبد الله: الخاضع الذليل له تعالى. وقد جاء «أحب أسمائكم» وفي رواية: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» وجاء «أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به» وقد سمي بعبد الله في القرآن، قال الله تعالى: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} وعبد الله هذا هو (ابن عبد المطلب) ويدعى شيبة الحمد لكثرة حمد الناس له: أي لأنه كان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور، فكان شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا من غير مدافع. وقيل: قيل له شيبة الحمد لأنه ولد وفي رأسه شيبة: أي وفي لفظ كان وسط رأسه أبيض، أو سمي بذلك تفاؤلا بأنه سيبلغ سن الشيب ( ) قيل اسمه عامر، وعاش مائة وأربعين سنة: أي وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية ( ) وكان مجاب الدعوة، وكان يقال له الفياض لجوده، ومطعم طير السماء لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال. قال: وكان من حلماء قريش وحكمائها، وكان نديمه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان، وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة، فأغرى عليه حرب من قتله، فلما علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب، ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي حفظا لجواره، ثم نادم عبد الله بن جدعان انتهى ملخصا.

وقيل له عبد المطلب، لأن عمه المطلب لما جاء به صغيرا من المدينة أردفه خلفه: أي وكان بهيئة رثة: أي ثياب خلقة، فصار كل من يسأل عنه ويقول من هذا؟ يقول عبدي أي حياء أن يقول ابن أخي، فلما دخل مكة أحسن من حاله وأظهر أنه ابن أخيه وصار يقول لمن يقول له عبد المطلب: ويحكم إنما هو شيبة ابن أخي هاشم ( ) لكن غلب عليه الوصف المذكور فقيل له عبد المطلب: أي وقيل لأنه تربى في حجر عمه المطلب، وكان عادة العرب أن تقول لليتيم الذي يتربى في حجر أحد هو عبده وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور.

وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبهم عقوبة إلى أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك، ففكر وقال: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته: أي فالمظلوم شأنه في الدنيا ذلك، حتى إذا خرج من الدنيا ولم تصبه العقوبة فهي معدة له في الآخرة، ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله سبحانه وتعالى. وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها: منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، كذا في كلام سبط ابن الجوزي. (ابن هاشم) وهاشم: هو عمرو العلا أي لعلو مرتبته، وهو أخو عبد شمس وكانا توأمين، وكانت رجل هاشم أي أصبعها ملصقة بجبهة عبد شمس، ولم يكن نزعها إلا بسيلان دم، فكانوا يقولون سيكون بينهما دم، فكان بين ولديهما أي بين بني العباس وبين بني أمية سنة ثلاث وثلاثين ومائة من الهجرة، ووقعت العداوة بين هاشم وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس، لأن هاشما لما ساد قومه بعد أبيه عبد مناف حسده أمية ابن أخيه، فتكلف أن يصنع كما يصنع هاشم فعجز، فعيرته قريش وقالوا له أتتشبه بهاشم، ثم دعا هاشما للمنافرة فأبى هاشم ذلك لسنه وعلو قدره، فلم تدعه قريش، فقال هاشم لأمية: أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة، والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية بذلك، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وكان بعسفان، فخرج كل منهما في نفر، فنزلوا على الكاهن، فقال قبل أن يخبروه خبرهم «والقمر الباهر» والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر، فنصر هاشم على أمية، فعاد هاشم إلى مكة ونحر الإبل، وأطعم الناس، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية، وتوارث ذلك بنوهما، وكان يقال لهاشم وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل أقداح النضار: أي الذهب، ويقال لهم المجيرون لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على سائر العرب.

قال بعضهم: ولا يعرف بنو أب تباينوا في محالّ موتهم مثلهم، فإن هاشما مات بغزة: أي كما سيأتي، وعبد شمس مات بمكة، وقبره بأجياد، ونوفلا مات بالعراق، والمطلب مات ببرعاء من أرض اليمن: أي وقيل له هاشم، لأنه أول من هشم الثريد بعد جده إبراهيم، فإن ابراهيم أول من فعل ذلك: أي ثرد الثريد وأطعمه المساكين () وفيه أن أول من ثرد الثريد، وأطعمه بمكة بعد إبراهيم جد هاشم قصي. ففي الإمتاع: وقصي أول من ثرد الثريد وأطعمه بمكة. وفيه أيضا هاشم عمرو العلا، أول من أطعم الثريد بمكة، وسيأتي أن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي، فليتأمل.

وقد يقال: لا منافاة لأن الأولية في ذلك إضافية، فأولية قصي لكونه من قريش وأولية عمرو بن لحي لكونه من خزاعة، وأولية هاشم باعتبار شدة مجاعة حصلت لقريش وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله:

وأطعم في المحل عمرو العلا ** فللمسنتين به خصب عام

وقال أيضا:

عمرو العلا ذو الندى من لا يسابقه ** مر السحاب ولا ريح تجاريه

جفانه كالجوابي للوفود إذا ** لبوا بمكة ناداهم مناديه

أو أمحلوا أخصبوا منها وقد ملئت ** قوتا لحاضره منهم وباديه

وقد قيل فيه:

قل للذي طلب السماحة والندى ** هلا مررت بآل عبد مناف

الرائشون وليس يوجد رائش ** والقائلون هلمّ للأضياف

وعن بعض الصحابة قال: رأيت رسول الله وأبا بكر   على باب بني شيبة فمر رجل وهو يقول:

يا أيها الرجل المحوّل رحله ** ألا نزلت بآل عبد الدار

هبلتك أمك، لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن إقتار

فالتفت رسول الله إلى أبي بكر   فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، ولكنه قال:

يا أيها الرجل المحول رحله ** ألا نزلت بآل عبد مناف

هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ** منعوك من عدم ومن اقراف

الخالطين غنيهم بفقيرهم ** حتى يعود فقيرهم كالكافي

فتبسم رسول الله وقال: هكذا سمعت الرواة ينشدونه، وكان هاشم بعد أبيه عبد مناف على السقاية والرفادة، فكان يعمل الطعام للحجاج، يأكل منه من لم يكن له سعة ولا زاد، ويقال لذلك الرفادة.

واتفق أنه أصاب الناس سنة جدب شديد فخرج هاشم إلى الشام، وقيل بلغه ذلك وهو بغزة من الشام، فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم، فهشم الخبز والكعك ونحر الجزر وجعله ثريدا، وأطعم الناس حتى أشبعهم، فسمي بذلك هاشما. وكان يقال له أبو البطحاء وسيد البطحاء.

قال بعضهم: لم تزل مائدته منصوبة لا ترفع في السراء والضراء.

قال ابن الصلاح: روينا عن الإمام سهل الصعلوكي   أنه قال في قوله: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» أراد فضل ثريد عمرو العلا، الذي عظم نفعه وقدره، وعم خيره وبره، وبقي له ولعقبه ذكره. وقد أبعد سهل في تأويل الحديث. والذي أراه أن معناه تفضيل الثريد من الطعام على باقي الطعام، لأن سائر بمعنى باقي أي فالمراد أي ثريد لا خصوص ثريد عمرو العلا حتى يكون أفضل من ثريد غيره. وكان هاشم يحمل ابن السبيل، ويؤمن الخائف.

قال: وقد ذكر أنه كان إذا هل هلال ذي الحجة قام صبيحته وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها ويخطب يقول في خطبته: يا معشر قريش إنكم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما أي عقولا، وأوسط العرب: أي أشرفها أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما. يا معشر قريش إنكم جيران بيت الله تعالى، أكرمكم الله تعالى بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من أكرم أضياف الله أنتم فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فورب هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلاله ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام؟ فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا، لم يؤخذ ظلما، ولم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا، فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجونه من أموالهم فيضعونه في دار الندوة انتهى.

وقيل في تسمية شيبة الحمد عبد المطلب غير ما تقدم. فقد قيل: إنما سمي شيبة الحمد عبد المطلب، لأن أباه هاشما قال للمطلب الذي هو أخو هاشم وهو بمكة حين حضرته الوفاة أدرك عبدك يعني شيبة الحمد بيثرب، فمن ثم سمي عبد المطلب كذا في المواهب وقدمه على ما تقدم.

وفيه أنه حكى غير واحد أن هاشما خرج تاجرا إلى الشام، فنزل على شخص من بني النجار بالمدينة وتزوج بنته على شرط أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها: أي ثم مضى لوجهه قبل أن يدخل بها ثم انصرف راجعا فبنى بها في أهلها ثم ارتحل بها إلى مكة، فلما أثقلت بالحمل خرج بها فوضعها عند أهلها بالمدينة ومضى إلى الشام فمات بغزة، قيل وعمره حينئذ عشرون سنة، وقيل أربع، وقيل خمس وعشرون. وولدت شيبة الحمد فمكث بالمدينة سبع سنين وقيل ثمان، فمر رجل على غلمان يلعبون أي ينتضلون بالسهام وإذا غلام فيهم إذا أصاب قال أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الرجل: ممن أنت يا غلام؟ فقال أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، فلما قدم الرجل مكة وجد المطلب جالسا بالحجر فقص عليه ما رأى، فذهب إلى المدينة، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه ففاضت عيناه وضمه إليه خفية من أمه.

وفي لفظ أنه عرفه بالشبه وقال لمن كان يلعب معه: أهذا ابن هاشم؟ قالوا نعم، فعرفهم أنه عمه، فقالوا له: إن كنت تريد أخذه فالساعة قبل أن تعلم به أمه، فإنها إن علمت بك لم تدعك وحالت بينك وبينه، فدعاه المطلب وقال يا ابن أخي أنا عمك وقد أردت الذهاب بك إلى قومك، وأناخ ناقته فجلس على عجز الناقة، فانطلق به ولم تعلم به أمه حتى كان الليل فقامت تدعوه، فأخبرت أن عمه قد ذهب به وكساه حلة يمانية، ثم قدم به مكة، فقالت قريش: هذا عبد المطلب: أي فإن هذا السياق يدل على أن عبد المطلب إنما ولد بعد موت أبيه هاشم بغزة، وكون عمه المطلب كساه حلة لا ينافي ما سبق أنه دخل به مكة وثيابه رثة خلقة، لأنه يجوز أن تكون هذه الحلة ألبست له عند أخذه ثم نزعت عنه في السفر: أي أو أن هذه الحلة اشتراها بمكة كما يصرح به كلام بعضهم. وما وقع هنا من تصرف الراوي على أنه يجوز أن يكون اشترى له حلتين واحدة ألبسها له بالمدينة وأخرى اشتراها بمكة وألبسها له( ).

وفي السيرة الهشامية أن أم عبد المطلب كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلا فارقته: أي وإنها لا تلد ولدا إلا في أهلها كما تقدم، وأن عمه المطلب لما جاءه لأخذه قالت له لست بمرسلته معك، فقال لها المطلب: إني غير منصرف حتى أخرج به معي، إن ابن أخي قد بلغ وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف في قومنا، وقومه وعشيرته وبلده خير من الإقامة في غيرهم، فقال شيبة لعمه: إني لست بمفارقها إلا أن تأذن لي، فأذنت له ودفعته إليه، فأردفه خلفه على بعيره. ويحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله، فقالت قريش عبد المطلب ابتاعه: أي ظنا منهم أنه اشتراه من المدينة فإن الشمس أثرت فيه وعليه ثياب أخلاق، فقال لهم: ويحكم إنما هو ابن أخي هاشم. ولا يخالف هذا ما سبق، من أنه صار يقول لمن يسأله عنه من هذا؟ فيقول عبدي، لأنه يجوز أن يكون بعض الناس قال من عند نفسه هذا عبد المطلب ظنا منه، وبعضهم سأله فأجابه بقوله هذا عبدي كما تقدم، ولما دخل مكة قال لهم ويحكم إلى آخره. وهاشم (بن عبد مناف) وعبد مناف اسمه المغيرة. أي وكان يقال له قمر البطحاء لحسنه وجماله، وهذا هو الجد الثالث لرسول الله، وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان، والجد التاسع لإمامنا الشافعي  .

ووجد كتاب في حجر: أنا المغيرة بن قصي، أوصي قريشا بتقوى الله جل وعلا، وصلة الرحم. ومناف أصله مناة اسم صنم كان أعظم أصنامهم، وكانت أمه جعلته خادما لذلك الصنم. وقيل وهبته له لأنه كان أول ولد لقصي على ما قيل، لأن عبد مناف بن قصي أي ويسمى قصي زيدا.

وعن إمامنا الشافعي   أن اسمه يزيد، ويدعى مجمعا أيضا. وقيل له قصي لأنه قصي: أي بعد عن عشيرته إلى أخواله بني كلب في ناديهم. وقيل بعد إلى قضاعة مع أمه لأنها كانت منهم.

أقول: لا منافاة، لجواز أن تكون أم قصي من بني كلب وأبوها من قضاعة، وأنها رحلت بعد موت عبد مناف إلى بني كلب، ثم لما تزوجت من قضاعة رحلت إليها، ولعل قضاعة كانت جهة الشام، فلا يخالف ما قيل.

وقيل له قصي لأنه بعد مع أمه إلى الشام، لأن أمه تزوجت بعد موت أبيه وهو فطيم بشخص يقال له ربيعة بن حزام. وقيل حزام بن ربيعة العذري، فرحل بها إلى الشام وكان قصي لا يعرف له أبا إلا زوج أمه المذكور، فلما كبر وقع بينه وبين آل زوج أمه شر: أي فإنه ناضل رجلا منهم فنضله قصي أي غلبه، فغضب ذلك الرجل وعير قصيا بالغربة وقال له: ألا تلحق بقومك وببلادك فإنك لست منا.

وفي لفظ: لما قيل له ذلك، قال ممن أنا؟ قيل له سل أمك فشكا ذلك إلى أمه، فقالت له: بلادك خير من بلادهم، وقومك خير من قومهم، أنت أكرم أبا منهم، أنت ابن كلاب بن مرة، وقومك بمكة عند البيت الحرام تفد إليه العرب، وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا إنك تلي أمرا جليلا، فلما أراد الخروج إلى مكة قالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل الشهر الحرام فتخرج مع حجاج قضاعة، فإني أخاف عليك، فشخص مع الحجاج، فقدم قصي مكة على قومه مع حجاج قضاعة، فعرفوا له فضله وشرفه، فأكرموه وقدموه عليهم، فساد فيهم ثم تزوج بنت حليل بالحاء المهملة المضمومة الخزاعي وكان أمر مكة والبيت إليه، وهو آخر من ولي أمر البيت والحكم بمكة من خزاعة، فجاء منها بأولاده الآتي ذكرهم، فلما انتشر ولده وكثر ماله وعلم شرفه مات حليل، فرأى قصي أنه أولى بأمر مكة من خزاعة، لأن قريشا أقرب إلى إسماعيل من خزاعة، فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة من مكة فأجابوه إلى ذلك وانضم له قضاعة، جاء بهم أخو قصي لأمه فأزاح قصي يد خزاعة وولي أمر مكة.

وقيل إن حليلا جعل أمر البيت لقصي. ولا منافاة لجواز أن تكون خزاعة لم ترض بما فعله حليل من أن يكون أمر البيت لقصي فحاربهم وأخرجهم من مكة.

وقيل إن حليلا أوصى بذلك لأبي غبشان بضم الغين المعجمة بعد أن أوصى بذلك لابنته زوج قصي وقالت له لا قدرة لي على فتح البيت وإغلاقه، وأن قصيا أخذ ذلك منه بزق خمر، فقالت العرب: أخسر صفقة من أبي غبشان.

وقيل إن أبا غبشان أعطى ذلك لبنت حليل زوج قصي، وأعطاه قصي أثوابا وأبعرة، فكان أبو غبشان آخر من ملك أمر مكة والبيت من خزاعة.

ولا يخالف ذلك ما تقدم من أن حليلا آخر من ولي أمر البيت والحكم بمكة، لجواز أن يكون المراد آخر من ولي ذلك، واستمر كذلك إلى أن مات. قال بعضهم: وكان أبو غبشان خالا لقصي، وكان في عقله شيء، فخدعه قصي فاشترى منه أمر مكة والبيت بأذواد من الإبل.

والجمع بين هذه الروايات من أن قصيا أخذه من أبي غبشان بزق خمر، وبين أنه أخذ ذلك بأثواب وأبعرة، وبين أنه أخذ ذلك بأذواد من الإبل ممكن، لجواز أن يكون جمع بين الخمر والأثواب والإبل فوقع الاقتصار على بعضها من بعض الرواة تأمل. ثم جمع قصي قريشا بعد تفرقها في البلاد وجعلها اثنتي عشرة قبيلة كما سيأتي، ومن ثم قيل له مجمع. وفي كلام بعضهم: ولذلك سماه النبي مجمعا، وإلى ذلك يشير قول الشاعر:

قصي لعمري كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر

وهذا البيت من قصيدة مدح بها عبد المطلب مدحه بها حذافة بن غانم، فإن ركبا من جذام فقدوا رجلا منهم غالته بيوت مكة، فلقوا حذافة فأخذوه فربطوه ثم انطلقوا به، فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف معه ابنه أبو لهب يقوده وقد ذهب بصره، فلما نظر إليه حذافة هتف به، فقال عبد المطلب لأبي لهب: ويلك ما هذا؟ قال: هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب، قال الحقهم واسألهم ما شأنهم، فلحقهم فأخبروه الخبر، فرجع إلى عبد المطلب، فقال ما معك؟ قال: والله ما معي شيء، قال: الحقهم لا أم لك وأعطهم ما بيدك وأطلق الرجل، فلحقهم أبو لهب فقال: قد عرفتم تجارتي ومالي، وأنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا وعشرا من الإبل وفرسا، وهذا ردائي رهنا بذلك، فقبلوه منه وأطلقوا حذافة فأقبل به، فلما سمع عبد المطلب صوت أبي لهب قال: وأبي إنك لعاص؟ ارجع لا أم لك، قال: يا أبتاه هذا الرجل معي، فناداه يا حذافة أسمعني صوتك فقال: ها أنا ذا بأبي أنت يا ساقي الحجيج أردفني، فأردفه خلفه حتى دخل مكة، فقال حذافة هذه القصيدة ومطلعها:

بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ** يضيء ظلام الليل كالقمر البدر

وهي قصيدة جيدة.

فإن قيل: كيف قبل القوم من أبي لهب رهن ردائه على ما ذكره لهم في أن يخلوا عن الرجل مع أن رداءه لا يقع موقعا من ذلك؟

أجيب: بأن سنة العرب وطريقتهم أن الواحد منهم إذا رهن غيره ولو شيئا حقيرا على أمر جليل لا يغدر، بل يحرص على وفاء ما رهن عليه، ومن ثم لما أجدبت أرض تميم بدعاء النبي عليهم ذهب سيدهم حاجب بن زرارة والد عطارد   إلى كسرى ليأخذ منه أمانا لقومه لينزلوا ريف العراق لأجل المرعى، فقال له كسرى: أنتم قوم غدر، وأخاف على الرعايا منكم، فقال له حاجب: أنا ضامن أن لا تفعل قومي شيئا من ذلك، فقال له كسرى: ومن لي بوفائك؟ قال: هذه قوسي رهينة، فحمقه كسرى وجلساؤه وضحكوا منه، فقيل له: العرب لو رهن أحدهم شيئا لا بد أن يفي به، فلما أخصبت أرض تميم بدعاء النبي لهم لما وفد إليه جماعة منهم وأسلموا ومات حاجب، أمر عطارد   قومه بالذهاب إلى بلادهم، وجاء عطارد   إلى كسرى فطلب قوس أبيه، فقال: إنك لم تسلم إليّ شيئا فقال: أيها الملك، أنا وارث أبي وقد وفينا بالضمان، فإن لم تدفع إلي قوس أبي صار عارا علينا وسبة، فدفعها له وكساه حلة، فلما وفد عطارد على النبي وأسلم دفعها للنبي، فلم يقبلها وقال «إنما يلبس هذه الحلة من لا خلاق له» فكانت بنو تميم تعد ذلك القوس من مفاخرهم، وإلى هذا أشار بعض الشعراء وقد أحسن وأجاد وتلطف بقوله:

تزهو علينا بقوس حاجبها ** تيه تميم بقوس حاجبها

وصار قصي رئيسا لقريش على الإطلاق حين أزاح يد خزاعة عن البيت، وأجلاهم عن مكة بعد أن لم يسلموا لقصي في ولاية أمر البيت، ولم يجيزوا ما فعل حليل وأبو غبشان على ما تقدم، وذلك بعد أن اقتتلوا آخر أيام منى بعد أن حذرتهم قريش الظلم والبغي، وذكرتهم ما صارت إليه جرهم حين ألحدوا في الحرم بالظلم، فأبت خزاعة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكثر القتل والجراح في الفريقين إلا أنه في خزاعة أكثر، ثم تداعوا للصلح واتفقوا على أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف وكان رجلا شريفا، فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدا، فلما اجتمعوا قام يعمر، فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدميّ هاتين، فلا تباعة لأحد على أحد في دم. وقيل قضى بأن كل دم أصابته قريش من خزاعة موضوع، وأن ما أصابته خزاعة من قريش فيه الدية، وقضى لقصيّ بأنه أولى بولاية مكة، فتولاها. قيل: وكان يعشر من دخل مكة من غير أهلها، أي بتجارة، وكانت خزاعة قد أزالت يد جرهم عن ولاية البيت، فإن مضاض بن عمرو الجرهمي الأكبر ولي أمر البيت بعد ثابت بن إسماعيل  ، فإنه كان جدا لثابت وغيره من أولاد إسماعيل لأمهم، واستمرت جرهم ولاة البيت والحكام بمكة لا ينازعهم ولد إسماعيل في ذلك لخؤولهم، وإعظاما لأن يكون بمكة بغي.

ثم إن جرهما بغوا بمكة، وظلموا من يدخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، حتى إن الرجل منهم كان إذا أراد أن يزني ولم يجد مكانا دخل البيت فزنى فيه، فأجمعت ـ أي عزمت ـ خزاعة لحربهم وإخراجهم من مكة، ففعلوا ذلك بعد أن سلط الله تعالى على جرهم دواب تشبه النغف بالغين المعجمة والفاء: وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم، فهلك منهم ثمانون كهلا في ليلة واحدة سوى الشباب. وقيل سلط الله عليهم الرعاف فأفنى غالبهم: أي وجاز أن يكون ذلك الدم ناشئا عن ذلك الدود فلا مخالفة، وذهب من بقي إلى اليمن مع عمرو بن الحرث الجرهمي آخر من ملك أمر مكة من جرهم، وحزنت جرهم على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا وقال عمرو أبياتا منها:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت ** نطوف بذاك البيت والخير ظاهر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ** صروف الليالي والدهور البواتر

ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أكتب بين يدي الوزير يحيى بن خالد البرمكي أيام الرشيد فأخذه النوم، فنام برهة ثم انتبه مذعورا فقال: الأمر كما كان، والله ذهب ملكنا، وذل عزنا، وانقضت أيام دولتنا. قلت: وما ذاك أصلح الله الوزير؟ قال: سمعت منشدا أنشدني: كأن لم يكن بين الحجون البيت، وأجبته من غير روية: بلى نحن كنا أهلها البيت، فلما كان اليوم الثالث وأنا بين يديه على عادتي إذ جاءه إنسان وأكب عليه، وأخبره أن الرشيد قتل جعفرا الساعة قال: أو قد فعل؟ قال نعم، فما زاد أن رمى القلم من يده وقال: هكذا تقوم الساعة بغتة.

ومما يؤثر عن يحيى هذا: ينبغي للإنسان أن يكتب أحسن ما يسمع، ويحفظ أحسن ما يكتب، ويحدث بأحسن ما يحفظ. وقال: من لم يبت على سرور الوعد لم يجد للصنيعة طعما.

وصارت خزاعة بعد جرهم ولاة البيت والحكام بمكة كما تقدم، وكان كبير خزاعة عمرو بن لحي، وهو ابن بنت عمرو بن الحارث الجرهمي آخر ملوك جرهم المتقدم ذكره. وقد بلغ عمرو بن لحي في العرب من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده في الجاهلية.

وهو أول من أطعم الحج بمكة سدائف الإبل ولحمانها على الثريد. والسدائف: جمع سديف، وهو شحم السنام، وذهب شرفه في العرب كل مذهب حتى صار قوله دينا متبعا لا يخالف.

وفي كلام بعضهم: صار عمرو للعرب ربا، لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسوهم في الموسم، وربما نحر لهم في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة.

وهو أول من غير دين إبراهيم: أي فقد قال بعضهم: تضافرت نصوص العلماء على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه: أي من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي، فهو أول من غير دين إبراهيم، وشرع للعرب الضلالات، فعبد الأصنام وسيب السائبة وبحر البحيرة.

وقيل أول من بحر البحيرة رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما، فقال رسول الله: «رأيته في النار يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما».

وعمرو أول من وصل الوصيلة، وحمى الحامي، ونصب الأصنام حول الكعبة وأتى بهبل من أرض الجزيرة ونصبه في بطن الكعبة فكانت العرب تستقسم عنده بالأزلام على ما سيأتي. وأول من أدخل الشرك في التلبية، فإنه كان يلبى بتلبية إبراهيم الخليل  ، وهي «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك» فعند ذلك تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فلما قال عمرو لبيك لا شريك لك، قال له ذلك الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر عمرو ذلك، فقال له ذلك الشيخ: تملكه وما ملك، وهذا لا بأس به، فقال ذلك عمرو، فتبعته العرب على ذلك: أي فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده، قال تعالى توبيخا لهم {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وهو أول من أحل أيضا أكل الميتة، فإن كل القبائل من ولد إسماعيل لم تزل تحرم أكل الميتة حتى جاء عمرو بن لحي فزعم أن الله تعالى لا يرضى تحريم أكل الميتة، قال: كيف لا تأكلون ما قتل الله وتأكلون ما قتلتم؟

وروى البخاري أن رسول الله قال: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قُصبه في النار» وفي رواية «أمعاءه» أي وهي المراد بالقصب بضم القاف. وفي رواية «رأيته يؤذي أهل النار بريح قصبه» ويقال للأمعاء الأقتاب واحدها قتب بكسر القاف وسكون المثناة الفوقية آخره ياء موحدة، ومن ذلك قوله «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار» والاندلاق: الخروج بسرعة. وقال لأكثم بن الجون الخزاعي واسمه عبد العزى و أكثم بالثاء المثلثة: وهو في اللغة واسع البطن «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه من رجل منك به ولا بك منه، فقال أكثم: فعسى أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان» أي ودين إسماعيل هو دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فإن العرب من عهد إبراهيم   استمرت على دينه لم يغيره أحد إلى عهد عمرو المذكور كما تقدم. وفي كلام بعضهم أن أكثم هذا هو أبو معبد زوج أم معبد التي مرّ بها رسول الله عند الهجرة، وأكثم هذا هو الذي قال له رسول الله «رأيت الدجال، فإذا أشبه الناس به أكثم بن عبد العزى، فقام أكثم فقال: أيضرني شبهي إياه؟ فقال: لا، أنت مؤمن وهو كافر» ورده ابن عبد البر حيث قال: الحديث الذي فيه ذكر الدجال لا يصح إنما يصح ما قاله في ذكر عمرو بن لحي.

وإنما كان عمرو بن لحي أول من نصب الأوثان، لأنه خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فرأى بأرض البلقاء العماليق ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، ورآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم، ما هذه؟ قالوا هذه أصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب؟ فأعطوه صنما يقال له هبل، فقدم به مكة فنصبه في بطن الكعبة على بئرها، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه فكان الرجل إذا قدم من سفره بدأ به قبل أهله بعد طوافه بالبيت وحلق رأسه عنده، وكان عند هبل سبع قداح: قدح فيه مكتوب الغفل إذا اختلفوا فيمن يحمله منهم ضربوا به فعلى من خرج حمله. وقدح مكتوب فيه نعم. وقدح مكتوب فيه لا وذلك للأمر الذي يريدونه، وقدح فيه منكم. وقدح فيه ملصق من غيركم إذا اختلفوا في ولد هل هو منهم أو لا. وقدح فيه بها. وقدح فيه ما بها إذا أرادوا أرضا يحفرونها للماء وكان هبل من العقيق على صورة إنسان.

وعاش عمرو بن لحي هذا ثلثمائة سنة وأربعين سنة، ورأى من ولده وولد ولده ألف مقاتل: أي ومكث هو وولده من بعده في ولاية البيت خمسمائة سنة، وكان آخرهم حليل الذي تزوج قصيّ ابنته كما تقدم.

وقيل: وكان لعمرو تابع من الجن، فقال له: اذهب إلى جدة وائت منها بالآلهة التي كانت تعبد في زمن نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام، وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فذهب وأتى بها إلى مكة ودعا إلى عبادتها، فانتشرت عبادة الأصنام في العرب، فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، وقيل لهذيل، ويغوث لمذحج بالذال المعجمة على وزن مسجد أبو قبيلة من اليمن، ويعوق لمراد. وقيل لهمدان، ونسر لحمير أي وكانوا هؤلاء على صور عباد ماتوا، فحزن أهل عصرهم عليهم فصوّر لهم إبليس اللعين أمثالهم من صفر ونحاس ليستأنسوا بهم، فجعلوها في مؤخر المسجد، فلما هلك أهل ذلك العصر قال اللعين لأولادهم: هذه آلهة آبائكم تعبدونها، ثم إن الطوفان دفنها في ساحل جدة فأخرجها اللعين.

وفي كلام بعضهم أن آدم كان له خمسة أولاد صلحاء، وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فمات ودّ فحزن الناس عليه حزنا شديدا، واجتمعوا حول قبره لا يكادون يفارقونه، وذلك بأرض بابل، فلما رأى إبليس ذلك من فعلهم جاء إليهم في صورة إنسان وقال لهم: هل لكم أن أصور لكم صورته إذا نظرتم إليها ذكرتموه؟ قالوا نعم، فصوّر لهم صورته، ثم صار كلما مات واحد منهم صور صورته وسموا تلك الصور بأسمائهم، ثم لما تقادم الزمان وماتت الآباء والأبناء وأبناء الأبناء قال لمن حدث بعدهم إن الذين كانوا قبلكم يعبدون هذه الصور فعبدوها، فأرسل الله لهم نوحا، فنهاهم عن عبادتها فلم يجيبوه لذلك، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق. فأول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح، فأرسله الله تعالى إليهم فنهاهم عن ذلك.

ويقال إن عمرو بن لحي هو الذي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، وكانت الأزد يحجون إليه ويعظمونه، وكذلك الأوس والخزرج وغسان.

وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره لبعض الآيات القرآنية عند قوله تعالى {ولله يسجد من في السموات والأرض} أن أصل وضع الأصنام إنما هو من قوة التنزيه من العلماء الأقدمين، فإنهم نزهوا الله تعالى عن كل شيء وأمروا بذلك عامتهم، فلما رأوا أن بعض عامتهم صرح بالتعطيل وضعوا لهم الأصنام وكسوها الديباج والحلي والجواهر، وعظموها بالسجود وغيره ليتذكروا بها الحق الذي غاب عن عقولهم، وغاب عن أولئك العلماء أن ذلك لا يجوز إلا بإذن من الله تعالى، هذا كلامه.

وكان في زمان جرهم رجل فاجر يقال له إساف فجر بامرأة يقال لها نائلة في جوف الكعبة أي قبلها فيها كما في تاريخ الأزرقي.

وقيل زنى بها فمسخا حجرين، فأخرجا منها ونصبا على الصفا والمروة ليكونا عبرة، فلما كان زمن عمرو بن لحي أخذهما ونصبهما حول الكعبة أي على زمزم وجعلا في وجهها وصار من يطوف يتمسح بهما يبدأ بإساف ويختم بنائلة، وذلك قبل أن يقدم عمرو بهبل وبتلك الأصنام، وكانت قريش تذبح ذبائحها عندهما.

وذكر أنه لما كسر نائلة عند فتح مكة خرجت منها امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها وهي تنادي بالويل والثبور، وكان عمرو يخبر قومه بأن الرب يشتي بالطائف عند اللات ويصيف عند العزى، فكانوا يعظمونهما وكانوا يهدون إلى العزى كما يهدون إلى الكعبة.

وقصي هو الذي أمر قريشا أن يبنوا بيوتهم داخل الحرم حول البيت وقال لهم إن فعلتم ذلك هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم، فبنوا حول البيت من جهاته الأربع وجعلوا أبواب بيوتهم جهته لكل بطن منهم باب ينسب الآن إليه، كباب بني شيبة، وباب بني سهم، وباب بني مخزوم، وباب بني جمع، وتركوا قدر الطواف بالبيت، فبنى قصي دار الندوة وهي أول دار بنيت بمكة، واستمر الأمر على أنه ليس حول الكعبة إلا قدر المطاف، وليس حوله جدار زمنه وزمن ولاية الصديق   فلما كان زمن ولاية عمر بن الخطاب   اشترى تلك الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم لما كان زمن ولاية عثمان   اشترى دورا أخر وغالى في ثمنها وهدمها وزاد في سعة المسجد، ثم إن ابن الزبير   زاد في المسجد زيادة كثيرة، ثم إن عبد الملك بن مروان رفع جداره وسقفه بالساج وعمره عمارة حسنة ولم يزد فيه شيئا، ثم إن الوليد بن عبد الملك وسع المسجد وحمل إليه أعمدة الرخام، ثم زاد فيه المهدي والد الرشيد مرتين، واستقر بناؤه على ذلك إلى الآن.

وكانت قريش قبل ذلك: أي قبل بناء منازلهم في الحرم يحترمون الحرم ولا يبيتون فيه ليلا، وإذا أراد أحدهم قضاء حاجة الإنسان خرج إلى الحل.

وقد جاء أنه لما كان بمكة إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس بكسر الميم أفصح من فتحها، وهو على ثلثي فرسخ من مكة، وهابت قريش قطع شجر الحرم التي في منازلهم التي بنوها، فقد كان بمكة شجر كثير من العضاه والسلم، وشكوا في ذلك إلى قصي فأمرهم بقطعها، فهابوا ذلك، فقالوا نكره أن ترى العرب أنا استخففنا بحرمنا، فقال قصي: إنما تقطعونه لمنازلكم وما تريدون به فسادا، بهلة الله: أي لعنته على من أراد فسادا، فقطعها قصي بيده وبيد أعوانه.

وفي كلام السهيلي عن الواقدي: الأصح أن قريشا حين أرادوا البنيان قالوا لقصي كيف نصنع في شجر الحرم، فحذرهم قطعها وخوفهم العقوبة في ذلك، فكان أحدهم يحدق بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله.

قال: وأول من ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان عبد الله بن الزبير حين ابتنى دورا بقعيقعان، لكنه جعل فداء كل شجرة بقرة فليتأمل الجمع.

وأنزل قصي القبائل من قريش: أي فإنه جعلها اثنتي عشرة قبيلة كما تقدم في نواحي مكة بطاحها و ظواهرها، ومن ثم قيل لمن سكن البطاح قريش البطاح، ولمن سكن الظواهر قريش الظواهر، والأولى أشرف من الثانية، ومن الأولى بنو هاشم، وإلى ذلك يشير صاحب الأصل في وصفه بقوله:

من بني هاشم بن عبد مناف ** وبنو هاشم بحار الحياء

من قريش البطاح من عرف النا ** س لهم فضلهم بغير امتراء

قال بعضهم: كان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكا ولما حضر الحج قال لقريش: قد حضر الحج وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كل إنسان منكم من ماله خرجا ففعلوا، فجمع من ذلك شيئا كثيرا، فلما جاء أوائل الحج نحر على كل طريق من طرق مكة جزورا ونحر بمكة وجعل الثريد واللحم، وسقى الماء المحلى بالزبيب وسقي اللبن. وهو أول من أوقد النار بمزدلفة ليراها الناس من عرفة ليلة النفر.

ومما يؤثر عن قصي: من أكرم لئيما أشركه في لؤمه. ومن استحسن قبيحا نزل إلى قبحه. ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان. ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان. والحسود العدو الخفي.

ولما احتضر قال لأولاده: اجتنبوا الخمرة، فإنها تصلح الأبدان وتفسد الأذهان.

وحاز قصي شرف مكة كله، فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة.

وكان عبد الدار أكبر أولاد قصي وعبد مناف أشرفهم: أي لأنه شرف في زمان أبيه قصي، وذهب شرفه كل مذهب، وكان يليه في الشرف أخوه المطلب، كان يقال لهما البدران، وكانت قريش تسمي عبد مناف الفياض لكثرة جوده، فأعطى قصي ولده عبد الدار جميع تلك الوظائف التي هي السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء والقيادة: أي فإنه قال له: أما والله يا بني لألحقنك بالقوم يعني أخويه عبد مناف والمطلب وإن كانوا قد شرفوا عليك، لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له: أي بسبب الحجابة للبيت، ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك: أي وهذا هو المراد باللواء، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، وهذا هو المراد بالسقاية، ولا يأكل أحد من أهل الموسم إلا من طعامك: أي وهذا هو المراد بالرفادة ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا في دارك يعني دار الندوة: أي ولا يكون أحد قائد القوم إلا أنت وذلك بسبب القيادة.

فلما مات عبد الدار وأخوه عبد مناف أراد بنو عبد مناف وهم هاشم وعبد شمس والمطلب، وهؤلاء إخوة لأب وأم، أمهم عاتكة بنت مرة، ونوفل أخوهم لأبيهم، أمه واقدة بنت حرمل أن يأخذوا تلك الوظائف من بني عمهم عبد الدار، وأجمعوا على المحاربة: أي وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند باب الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين: أي أخرجتها لهم أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي توأمة أبيه، ووضعتها في الحجر وقالت: من تطيب بهذا فهو منا، فتطيب منها مع بني عبد مناف بنو زهرة وبنو أسد بن عبد العزى وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر، فالمطيبون من قريش خمس قبائل. وتعاقد بنو عبد الدار وأحلافهم، وهم: بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي بن كعب، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف لتحالفهم بعد أن أخرجوا جفنة مملوءة دما من دم جزور نحروها ثم قالوا: من أدخل يده في دمها فلعق منه فهو منا وصاروا يضعون أيديهم فيها ويلعقونها فسموا لعقة الدم.

وقيل الذين لعقوا الدم فسموا لعقة الدم بنو عدي خاصة، ثم اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، ودار الندوة بينهم بالاشتراك، وتحالفوا على ذلك هذا.

والذي رأيته (في المشرق فيم يحاضر به من آداب المشرق): ولما شرف عبد مناف بن قصي في حياة أبيه، وذهب شرفه كل مذهب، وكان قصي يحب ابنه عبد الدار أراد أن يبقي له ذكرا فأعطاه الحجابة ودار الندوة واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة، وجعل عبد الدار الحجابة لولده عثمان، وجعل دار الندوة لولده عبد مناف بن عبد الدار، ثم وليها عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده من بعده.

والسقاية كانت حياضا من أدم توضع بفناء الكعبة، وينقل إليها الماء العذب من الآبار على الإبل في المزاود والقرب قبل حفر زمزم، وربما قذف فيها التمر والزبيب في غالب الأحوال لسقي الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا، وهذه السقاية قام بها وبالرفادة بعد عبد مناف ولده هاشم، وبعده ولده عبد المطلب، وكان شريفا مطاعا جوادا، وكانت قريش تسميه الفياض لكثرة جوده، فلما كبر عبد المطلب فوّض إليه أمر السقاية والرفادة، فلما مات المطلب وثب عليه عمه نوفل بن عبد مناف وغصبه أركاحا: أي أفنية ودورا، فسأل عبد المطلب رجالا من قومه النصرة على عمه نوفل فأبوا وقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك فكتب إلى أخواله بني النجار بالمدينة بما فعله معه عمه نوفل، فلما وقف خاله أبو سعد بن عدي بن النجار على كتابه بكى، وسار من المدينة في ثمانين راكبا حتى قدم مكة فنزل الأبطح، فتلقاه عبد المطلب وقال له المنزل يا خال، فقال: لا والله حتى ألقى نوفلا، فقال: تركته في الحجر جالسا في مشايخ قريش، فأقبل أبو سعد حتى وقف عليهم، فقام نوفل قائما وقال: يا أبا سعد، أنعم صباحا فقال له أبو سعد: لا أنعم الله لك صباحا، وسل سيفه وقال: ورب هذه البنية لئن لم تردّ على ابن أختي أركاحه لأملأن منك هذا السيف، فقال: قد رددتها عليه، فأشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عنده ثلاثا ثم اعتمر ورجع إلى المدينة.

ولما جرى ذلك حالف نوفل وبنوه بني أخيه عبد شمس على بني هاشم، وحالفت بنو هاشم خزاعة على بني نوفل وبني عبد شمس: أي فإن خزاعة قالت: نحن أولى بنصرة عبد المطلب، لأن عبد مناف جد عبد المطلب أمه حي بنت حليل سيد خزاعة كما تقدم، فقالوا لعبد المطلب: هلم فلنحالفك، فدخلوا دار الندوة وتحالفوا وتعاقدوا وكتبوا بينهم كتابا: باسمك اللهم، هذا ما تحالف عليه بنو هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة على النصرة والمواساة ما بلّ بحر صوفة، وما أشرقت الشمس على ثبير، وهبّ بفلاة بعير، وما أقام الأخشبان، واعتمر بمكة إنسان، والمراد من ذلك الأبد.

وعبد المطلب لما حفر زمزم صار ينقل الماء منها لتلك الأحواض ويقذف فيها التمر والزبيب، ثم بعده قام بها ولده أبو طالب، ثم اتفق أن أبا طالب أملق: أي افتقر في بعض السنين، فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف درهم إلى الموسم الآخر، فصرفها أبو طالب في الحجيج عامه ذلك فيما يتعلق بالسقاية، فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء، فقال لأخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل لأعطيك جميع مالك، فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لأكفلها؟ فقال نعم، فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطيه لأخيه العباس فترك له السقاية، فصارت للعباس، ثم لولده عبد الله بن عباس، واستمر ذلك في بني العباس إلى زمن السفاح، ثم ترك بنو العباس ذلك.

والرفادة: إطعام الحاج أيام الموسم حتى يتفرقوا، فإن قريشا كانت على زمن قصي تخرجه من أموالها في كل موسم فتدفعه إلى قصي، فيصنع به طعاما للحاج يأكل منه من لم يكن معه سعة ولا زاد كما تقدم حتى قام بها بعده ولده عبد مناف ثم بعد عبد مناف ولده هاشم ثم بعد هاشم ولده عبد المطلب، ثم ولده أبو طالب وقيل ولده العباس، ثم استمر ذلك إلى زمنه وزمن الخلفاء بعده ثم استمر ذلك في الخلفاء إلى أن انقرضت الخلافة من بغداد ثم من مصر.

وأما القيادة: وهي إمارة الركب، فقام بها بعد عبد مناف ولده عبد شمس ثم كانت بعد عبد شمس لابنه أمية ثم لابنه حرب، ثم لابنه أبي سفيان، فكان يقود الناس في غزواتهم، قاد الناس يوم أحد ويوم الأحزاب، ومن ثم لما قال الوليد بن عبد الملك لخالد بن يزيد بن معاوية: لست في العير ولا في النفير، قال: له ويحك، العير والنفير عيبتي: أي وعائي، لأن العيبة ما يجعل فيه الثياب، جدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير.

ودار الندوة كانت قريش تجتمع فيها للمشاورة في أمورها، ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين، وكانت الجارية إذا حاضت تدخل دار الندوة ثم يشق عليها بعض ولد عبد الدار درعها ثم يدرعها إياه وانقلب بها فتحجب، وهذه كانت سنة قصي، فكان لا ينكح رجل امرأة من قريش إلا في دار قصي التي هي دار الندوة، ولا يعقد لواء حرب إلا فيها، ولا تدرع جارية من قريش إلا في تلك الدار فيشق عنها درعها ويدرعها بيده، فكانت قريش بعد موت قصي يتبعون ما كان عليه في حياته كالدين المتبع، ولا زالت هذه الدار في يد بني عبد الدار إلى أن صارت إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم، فلامه عبد الله بن الزبير   وقال أتبيع مكرمة آبائك وشرفهم؟ فقال حكيم  : ذهبت المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله تعالى فأينا المغبون؟

قيل وقصي: هو جماع قريش، فلا يقال لأحد من أولاد من فوقه قرشي، ونسب هذا القول لبعض الرافضة، وهو قول باطل، لأنه توصل به إلى أن لا يكون سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر   من قريش فلا حق لهما في الامامة العظمى التي هي الخلافة، لقوله «الأئمة من قريش» ولقوله لقريش: «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه» لأنهما لم يلتقيا مع النبي إلا فيما بعد قصي، لأن أبا بكر   يجتمع معه في مرة كما سيأتي، لأن تيم بن مرة بينه وبين أبي بكر   خمسة آباء، وعمر   يجتمع معه في كعب كما سيأتي، وبين عمر   وكعب سبعة آباء ( ) وقصي (بن كلاب) أي واسمه حكيم، وقيل عروة، ولقب بكلاب لأنه كان يحب الصيد وأكثر صيده كان بالكلاب، وهو الجد الثالث لأمنة أمه، ففي كلاب يجتمع نسب أبيه وأمه (ابن مرة) وهو الجد السادس لأبي بكر  ، والإمام مالك   يجتمع معه في هذا الجد الذي هو مرة أيضا (ابن كعب) أي وهو الجد الثامن لعمر  ، وكان كعب يجمع قومه يوم العروبة: أي يوم الرحمة الذي هو يوم الجمعة، ويقال إنه أول من سماه يوم الجمعة لاجتماع قريش فيه إليه، لكن في الحديث كان أهل الجاهلية يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، واسمه عند الله تعالى يوم الجمعة. قال ابن دحية: ولم تسم العروبة الجمعة إلا منذ جاء الاسلام، وسيأتي في ذلك كلام فكانت قريش تجتمع إلى كعب ثم يعظهم ويذكرهم بمبعث النبي، ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه، ويقول: سيأتي لحرمكم نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، وينشد أبياتا آخرها:

على غفلة يأتي النبي محمد ** فيخبر أخبارا صدوق خبيرها

وينشد أيضا:

يا ليتني شاهد فحواء دعوته ** حين العشيرة تبغي الحق خذلانا

وكان بينه وبين مبعثه خمسمائة سنة وستون سنة. وفي الإمتاع: وعشرون سنة، لأن الحق أن الخمسمائة والستين إنما هي بين موت كعب والفيل الذي هو مولده كما ذكره أبو نعيم في الدلائل النبوية.

وقيل إن كعبا أول من قال «أما بعد» فكان يقول: أما بعد فاسمعوا وافهموا، وتعلموا واعملوا، ليل داج. وفي رواية: ليل ساج، ونهار صاح، والأرض مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والأولون كالآخرين، فصلوا أرحامكم واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم، الدار أمامكم، والظن غير ما تقولون: أي وقيل له كعب لعلوه وارتفاعه، لأن كل شيء علا وارتفع فهو كعب، ومن ثم قيل للكعبة كعبة ولعلوه وارتفاع شأنه أرّخوا بموته حتى كان عام الفيل أرخوا به ثم أرخوا بعد عام الفيل بموت عبد المطلب وكعب (بن لؤدي) أي بالهمزة أكثر من عدمها. أي وفي سبب تصغيره خلاف (ابن غالب بن فهر) سماه أبوه فهرا، وقيل هو لقب واسمه قريش، والمناسب أن يكون لقبا لقولهم: إنما سمي قريشا لأنه كان يقرش: أي يفتش على خلة حاجة المحتاج فيسدها بماله، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن حوائجهم فيرفدونهم، فسموا بذلك قريشا. قال بعضهم: وهو جماع قريش عند الأكثر، قال الزبير بن بكار: أجمع النسابون من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر، وفهر هذا هو الجد السادس لأبي عبيدة بن الجراح. ولما جاء حسان بن عبد كلال من اليمن في حمير وغيرهم لأخذ أحجار الكعبة إلى اليمن ليبني بها بيتا، ويجعل حج الناس إليه ونزل بنخلة، خرج فهر إلى مقاتلته بعد أن جمع قبائل العرب، فقاتله وأسره، وانهزمت حمير ومن انضم إليهم واستمر حسان في الأسر ثلاث سنين ثم افتدى نفسه بمال كثير، وخرج فمات بين مكة واليمن، فهابت العرب فهرا وعظموه وعلا أمره.

ومما يؤثر عن فهر قوله لولده غالب: قليل ما في يديك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك ( ) (وفهر هو ابن مالك) قيل له ذلك لأنه ملك العرب (ابن النضر) أي ولقب به لنضارته وحسنه وجماله، واسمه قيس، وهو جماع قريش عند الفقهاء، فلا يقال لأحد من أولاد من فوقه قرشي ( ) ويقال لكل من أولاده الذين منهم مالك وأولاده قرشي، فقد سئل رسول الله «من قريش؟ فقال من ولد النضر» أي وعلى أن جماع قريش فهر كما تقدم، فمالك وأولاده والنضر جده وأولاده ليسوا من قريش ( ) (النضر بن كنانة) قيل له كنانة، لأنه لم يزل في كنّ من قومه. وقيل لستره على قومه وحفظه لأسرارهم، وكان شيخا حسنا عظيم القدر تحج إليه العرب لعلمه وفضله. وكان يقول: قد آن خروج نبي من مكة يدعى أحمد يدعو إلى الله وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفا وعزا إلى عزكم، ولا تعتدوا أي تكذبوا ما جاء به فهو الحق. قال ابن دحية  : كان كنانة يأنف أن يأكل وحده، فإذا لم يجد أحدا أكل لقمة ورمى لقمة إلى صخرة ينصبها بين يديه أنفة من أن يأكل وحده.

ومما يؤثر عنه: رب صورة تخالف المخبرة، قد غرت بجمالها، واختبر قبح فعالها فاحذر الصور واطلب الخبر (وكنانة بن خزيمة بن مدركة) ومدركة اسمه عمرو، وقيل له مدركة لأنه أدرك كل عز وفخر كان في آبائه، وكان فيه نور رسول الله : أي ولعل المراد ظهوره فيه (ومدركة بن إلياس) بهمزة قطع مكسورة، وقيل مفتوحة أيضا، وقيل همزة وصل. ونسب للجمهور، قيل سمي بذلك، لأن أباه مضر كان قد كبر سنه ولم يولد له ولد فولد له هذا الولد فسماه إلياس، وعظم أمره عند العرب حتى كانت تدعوه بكبير قومه وسيد عشيرته، وكانت لا تقضي أمرا دونه.

وهو أول من أهدى البدن إلى البيت، وأول من ظفر بمقام إبراهيم لما غرق البيت في زمن نوح فوضعه في زاوية البيت كذا في حياة الحيوان فليتأمل، وجاء في حديث «لا تسبوا إلياس فإنه كان مؤمنا» وقيل إنه جماع قريش: أي فلا يقال لأولاد من فوقه قرشي. وكان إلياس يسمع من صلبه تلبية النبي المعروفة في الحج. قيل وكان في العرب مثل لقمان الحكيم في قومه. وهو أول من مات بعلة السل، ولما مات حزنت عليه زوجته خندف حزنا شديدا، لم يظلها سقف بعد موته حتى ماتت. ومن ثم قيل: أحزن من خندف (وإلياس بن مضر) قيل هو جماع قريش فلا يقال لأولاد من فوق مضر قرشي. ففي جماع قريش خمسة أقوال: قيل قصي، وقيل فهر، وقيل النضر، وقيل إلياس، وقيل مضر، ويقال له مضر الحمراء، قيل لأنه لما اقتسم هو وأخوه ربيعة مال والدهما أعني نزارا أخذ مضر الذهب فقيل له مضر الحمراء، وأخذ ربيعة الخيل ومن ثم قيل له ربيعة الفرس. وجاء في حديث «لا تسبوا ربيعة ولا مضر فإنهما كان مؤمنين» أي وفي رواية «لا تسبوا مضر فإنه كان على ملة إبراهيم» وفي حديث غريب «لا تسبوا مضر فإنه كان على دين إسماعيل». ومما حفظ عنه: من يزرع شرا يحصد ندامة.

أقول: سيأتي في بنيان قريش الكعبة أنهم وجدوا فيها كتبا بالسريانية من جملتها كتاب فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، إلى آخر ما يأتي. وعن أبي عبيدة البكري أن قبر مضر بالروحاء يزار، والروحاء على ليلتين من المدينة والله أعلم.

وكان مضر من أحسن الناس صوتا، وهو أول من حدا للإبل، فإنه وقع فانكسرت يده فصار يقول يا يداه يا يداه فجاءت إليه الإبل من المرعى، فلما صح وركب حدا. وقيل أول من سن الحداء للإبل عبد له ضرب مضر يده ضربا وجيعا فصار يقول يا يداه يا يداه فجاءت إليه الإبل من مرعاها: أي لأن الحداء مما ينشط الإبل لا سيما إن كان بصوت حسن، فإنها عند سماعه تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي وتسرع في سيرها وتستخف الأحمال الثقيلة، فربما قطعت المسافة البعيدة في زمن قصير، وربما أخذت ثلاثة أيام في يوم واحد، وفي ذلك حكاية مشهورة، ولأجل ما ذكر ذكر أئمتنا أنه مستحب.

وفي الأذكار للإمام النووي  : باب استحباب الحداء، للسرعة في السير، وتنشيط النفوس وترويحها، وتسهيل السير عليها فيه أحاديث كثيرة مشهورة (ومضر بن نزار) بكسر النون كان يرى نور النبي بين عينيه. وهو أول من كتب الكتاب العربي على الصحيح، والإمام أحمد بن حنبل   يجتمع معه في هذا الجد الذي هو نزار بن (معد بن عدنان) هذا هو النسب المجمع عليه في نسبه عند العلماء بالأنساب، ومن ثم لما قال فقهاؤنا: شرط الإمام الأعظم أن يكون قرشيا، فإن لم يوجد قرشي جامعا للشروط التي ذكروها فكناني. قال بعضهم: وقياس ذلك أن يقال: فإن لم يوجد كناني فخزيمي فإن لم يوجد خزيمي فمدركي، فإن لم يوجد مدركي فإلياسي، فإن لم يوجد إلياسي فمضري. فإن لم يوجد مضري فنزاري، فإن لم يوجد نزاري فمعدي، فإن لم يوجد معدي فعدناني، فإن لم يوجد عدناني فمن ولد إسماعيل، لأن من فوق عدنان لا يصح فيه شيء، ولا يمكن حفظ النسب فيه منه إلى إسماعيل.

وقيل له معد لأنه كان صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل، ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر والظفر. قال بعضهم: ولا يخرج عربي في الأنساب عن عدنان وقحطان.

وقيل وولد عدنان يقال لهم قيس، وولد قحطان يقال لهم يمن. ولما سلط الله بختنصر على العرب أمر الله تعالى أرمياء أن يحمل معه معدّ بن عدنان على البراق كيلا تصيبه النقمة، وقال: فإني سأخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل، ففعل أرمياء ذلك، واحتمله معه إلى أرض الشام، فنشأ مع بني إسرائيل، ثم عاد بعد أن هدأت الفتن: أي بموت بختنصر. وكان عدنان في زمن عيسى ، وقيل في زمن موسى . قال الحافظ ابن حجر، وهو أولى: أي ومما يضعف الأول ما في الطبراني عن أبي أمامة الباهلي   قال: سمعت رسول الله يقول: «لما بلغ ولد معد بن عدنان أربعين رجلا وقعوا في عسكر موسى   فانتهبوه فدعا عليهم موسى  ، فأوحى الله تعالى إليه: لا تدع عليهم فإن منهم النبي الأمي البشير النذير» الحديث، إذ يبعد بقاء معد إلى زمن عيسى  ، ومعلوم أنه لا خلاف في أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله تعالى: أي أرسله الله تعالى إلى جرهم وإلى العماليق وإلى قبائل اليمن في زمن أبيه إبراهيم، وكذا بعث أخوه إسحق إلى أهل الشام، وبعث ولده يعقوب إلى الكنعانيين في حياة إبراهيم، فكانوا أنبياء على عهد إبراهيم  .

وذكر بعضهم أن من العماليق فرعون موسى  ، ومنهم الريان بن الوليد فرعون يوسف  .

وكان إسماعيل بكر أبيه جاء له وقد بلغ أبوه من العمر سبعين سنة، وقيل ستا وثمانين سنة. ولد بين الرملة وإيليا، وكان بين عدنان وإسماعيل أربعون أبا. وقيل سبعة وثلاثون.

وفي النهر لأبي حيان   أن إبراهيم هو الجد الحادي والثلاثون لنبينا، هذا كلامه.

ولا يخفى أن إسماعيل أول من تسمى بهذا الاسم من بني آدم، ومعناه بالعبرانية مطيع الله. وأول من تكلم بالعربية أي البينة الفصيحة، وإلا فقد تعلم أصل العربية من جرهم، ثم ألهمه الله العربية الفصيحة البينة فنطق بها. وفي الحديث «أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة ».

وفي كلام بعضهم: «لما خرج إبراهيم بهاجر وولدها إسماعيل إلى مكة على البراق واحتمل معه قربة ماء ومزودا فيه تمر، فلما أنزلهما بها وولى راجعا تبعته هاجر وهي تقول: الله أمرك أن تدعني وهذا الصبي في هذا المحل الموحش الذي ليس به أنيس؟ قال نعم، فقالت: إذن لا يضيعنا، ولا زالت تأكل من التمر وتشرب من الماء إلى أن نفد الماء» الحديث. وكان إنزاله لهما بموضع الحجر، وذلك لمضي مائة سنة من عمر إبراهيم.

وكون إسماعيل أول من تكلم بالعربية البينة لا ينافي ما قيل: أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان، وقحطان أول من قيل له: أبيت اللعن. وأول من قيل له: أنعم صباحا. ويعرب هذا قيل له أيمن، لأن هودا نبي الله   قال له أنت أيمن ولدي، وسمي اليمن يمنا بنزوله فيه. وهو أول من قال القريض والرجز، وقيل سمي اليمن يمنا لأنه على يمين الكعبة. وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي إسماعيل والصحيح أن أول من كتب ذلك نزار بن معد كما تقدم، وكذا كون إسماعيل أول من تكلم بالعربية البينة لا ينافي ما قيل: أول من تكلم بالعربية آدم في الجنة فلما أهبط إلى الأرض تكلم بالسريانية. قيل وسميت سريانية، لأن الله تعالى علمها آدم سرا من الملائكة وأنطقه بها.

وقيل إن أول من كتب الكتاب العربي والفارسي والسرياني والعبراني وغيرها من بقية الاثني عشر كتابا، وهي الحميري، واليوناني، والرومي، والقبطي والبربري، والأندلسي، والهندي، والصيني آدم  ، كتبها في طين وطبخه، فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه، فأصاب إسماعيل الكتاب العربي: أي وأما ما جاء: أول من خط بالقلم إدريس فالمراد به خط الرمل.

وفي كلام بعضهم: أول من تكلم بالعربية المحضة، وهي عربية قريش التي نزل بها القرآن إسماعيل. وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل، ويقال لمن يتكلم بلغة هؤلاء العرب العاربة، ويقال لمن يتكلم بلغة إسماعيل العرب المستعربة وهي لغة الحجاز وما والاها.

وجاء «من أحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق».

وقد ذكر بعضهم أن أهل الكهف كلهم أعجام، ولا يتكلمون إلا بالعربية، وأنهم يكونون وزراء المهدي. واشتهر على ألسنة الناس أنه قال: «أنا أفصح من نطق بالضاد» قال جمع: لا أصل له، ومعناه صحيح لأن المعنى أنا أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بالضاد ولا توجد في غير لغتهم.

وإسماعيل   أول من ركب الخيل وكانت وحوشا: أي ومن ثم قيل لها العراب، أو لما سيأتي. وقد قال «اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل  ».

وفي رواية «أوحى الله تعالى إلى إسماعيل: أن اخرج أجياد» الموضع المعروف، سمي بذلك لأنه قتل فيه مائة رجل من العمالقة من جياد الرجال «فادع يأتك الكنز، فخرج إلى أجياد فألهمه الله تعالى دعاء فدعا به فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من نواصيها، وذللها الله تعالى له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسمعيل».

وذكر الحافظ السيوطي   أن له كتابا في الخيل سماه (جر الذيل في علم الخيل) وفي العرائس «أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخيل قال لريح الجنوب: إني خالق منك خلقا، فأجعله عزا لأوليائي، ومذلة على أعدائي، وجمالا لأهل طاعتي، فقالت: افعل ما تشاء، فقبض قبضة فخلق فرسا فقال لها: خلقتك عربيا، وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطيري بلا جناح، فأنت للطلب وأنت للهرب».

وعن وهب أنه قيل لسليمان صلوات الله وسلامه عليه: إن خيلا بلقا لها أجنحة تطير بها وترد ماء كذا، فقال للشياطين عليّ بها فصبوا في العين التي تردها خمرا، فشربت فسكرت فربطوها وساسوها حتى تأنست.

وقيل ويجوز أن يكون المراد من تلك الخيل الفرس الذي قال فيه «أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق جاءني به جبريل  ».

وجاء «إن الله تعالى لما عرض على آدم   كل شيء مما خلق قال له اختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزك وعز ولدك، خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا أبد الآبدين ودهر الداهرين» وهذا صريح في أن الخيل خلقت قبل آدم.

وقد سئل الإمام السبكي: هل خلقت الخيل قبل آدم أو بعده؟ وهل خلقت الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور؟ فأجاب بأنا نختار أن خلق الخيل قبل آدم  ، لأن الدواب خلقت يوم الخميس، وآدم خلق يوم الجمعة بعد العصر وأن الذكور خلقت قبل الإناث لأمرين: أحدهما أن الذكر أشرف من الأنثى. والثاني حرارة الذكر أقوى من الأنثى، ولذلك كان خلق آدم قبل خلق حواء فليتأمل.

وقد ذكر الإمام السهيلي أن في الفرس عشرين عضوا كل عضو منها يسمى باسم طائر، ذكرها وبينها الأصمعي. فمنها النسر، والنعامة، والقطاة، والذباب، والعصفور والغراب، والصرد، والصقر. قالوا: وفي الحيوان أعضاء باردة يابسة كالعظام نظير السوداء، وأعضاء باردة رطبة كالدماغ نظير البلغم. وأعضاء حارة يابسة كالقلب نظير الصفراء. وأعضاء حارة رطبة كالكبد نظير الدم.

وعن أنس   «أن النبي لم يكن شيء أحب إليه بعد النساء من الخيل» وجاء «ما من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ويقول: رب إنك سخرتني لابن آدم، وجعلت رزقي في يده اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده» وقيل لبعض الحكماء: أي المال أشرف؟ قال فرس يتبعها فرس، وفي بطنها فرس. ومن ثم قيل: ظهر الخيل حرز، وبطنها كنز.

وفي الحديث «لما أراد ذو القرنين أن يسلك في الظلمة إلى عين الحياة سأل أي الدواب في الليل أبصر؟ فقالوا الخيل، فقال: أي الخيل أبصر؟ فقالوا الإناث، قال: فأي الإناث أبصر؟ قالوا البكارة، فجمع من عسكره ستة آلاف فرس كذلك».

وأعطى الله إسماعيل القوس العربية، وكان لا يرمي شيئا إلا أصابه. «وفي الحديث ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا» أي قال ذلك لجماعة مر عليهم وهم ينتضلون، فقال «حسن هذا اللهو مرتين أو ثلاثا» زاد في بعض الروايات «ارموا وأنا مع بني فلان فأمسك الفريق الآخر، فقال لهم، ما بالكم لا ترمون؟ فقالوا يا رسول الله كيف نرمي وأنت معهم؟ إذن ينضلونا قال: ارموا وأنا معكم كلكم» أخرجه البخاري في صحيحه. زاد البيهقي في دلائل النبوة «فرموا عامة يومهم ذلك، ثم تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضا». وقد جاء «أحب اللهو إليّ إجراء الخيل والرمي، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا» وقد جاء «أحب اللهو إلى الله تعالى إجراء الخيل والرمي» وجاء «كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا رمي الرجل بقوسه، أو تأديبه فرسه، أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق» وجاء «علموا أولادكم السباحة والرمي» وفي رواية «الرماية » وفي رواية «علموا بنيكم الرمي، فإنه نكاية العدو» وقد جاء «تعلموا الرمي؟ فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة » وروي مرفوعا «حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي» وجاء «من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا» وفي رواية «فهو نعمة جحدها».

قال الحافظ السيوطي   والأحاديث المتعلقة بالرمي كثيرة. قال: وقد ألفت كتابا في الرمي سميته(غرس الأنشاب في الرمي بالنشاب) وفي العرائس: كان إسماعيل مولعا بالصيد، مخصوصا بالقنص والفروسية والرمي والصراع، والرمي سنة إذا نوى به التأهب للجهاد، لقوله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } وقوله «القوة الرمي» على حد قوله«الحج عرفة » وإلا فقد قال ابن عباس   في الآية {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } قال: الرمي والسيوف والسلاح. وسئل الحافظ السيوطي   هل ما ذكره الطبري والمسعودي في تاريخيهما أن أول من رمى بالقوس العربية آدم  ، وذلك لما أمره الله تعالى بالزراعة حين أهبط من الجنة وزرع، أرسل الله تعالى له طائرين يخرجان ما بذره ويأكلانه، فشكا الله تعالى ذلك، فهبط عليه جبريل وبيده قوس ووتر وسهمان، فقال آدم: ما هذا يا جبريل؟ فأعطاه القوس وقال: هذه قوة الله تعالى، وأعطاه الوتر وقال: هذه شدة الله تعالى، وأعطاه السهمين وقال: هذه نكاية الله تعالى، وعلمه الرمي بهما فرمى الطائرين فقتلهما، وجعلهما، يعني السهمين، عدة في غربته، وأنسا عند وحشته ثم صار القوس العربية إلى إبراهيم الخليل  ، ثم إلى ولده إسماعيل، وهو يدل على أن قوس إبراهيم هي القوس التي هبطت على آدم   من الجنة، وأنه ادخرها لإبراهيم، وهو خلاف قول بعضهم إنها غيرها أهبطت إلى إبراهيم   من الجنة. فأجاب الحافظ السيوطي   بقوله: راجعت تاريخ الطبري في تاريخ آدم وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام فلم أجده فيه، ولا تبعد صحته فإن الله تعالى علم آدم علم كل شيء.

وذكر أن ابن أبي الدنيا ذكر في كتاب الرمي من طريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس   قال «أول من عمل القسي إبراهيم، عمل لإسماعيل ولإسحاق قوسين فكانا يرميان بها» وتقدم أن إسحاق جاء لإبراهيم بعد إسماعيل بثلاث عشرة، وقيل بأربع عشرة سنة: أي حملت به أمه سارة في الليلة التي خسف الله تعالى بقوم لوط فيها. ولها من العمر تسعون سنة.

وفي جامع ابن شداد يرفعه «كان اللواط في قوم لوط في النساء قبل الرجال بأربعين سنة، ثم استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال، فخسف الله تعالى بهم» قيل ولا يعمل عمل قوم لوط من الحيوان إلا الحمار والخنزير. وكان أول من اتخذ القسي الفارسية نمروذ فليتأمل الجمع.

وقد يقال: لا منافاة، لجواز أن يكون إبراهيم   أول من عمل القسي بعد ذهاب تلك القوس، فالأولية إضافية. ومعلوم أن إسماعيل بن إبراهيم خليل الله تعالى عليهما الصلاة والسلام: أي ولم يبعث بشريعة مستقلة من العرب بعد إسماعيل إلا محمد. وأما خالد بن سنان وإن كان من ولد إسماعيل على ما قيل، فقال بعضهم: لم يكن في بني إسماعيل نبي غيره قبل محمد، إلا أنه لم يبعث بشريعة مستقلة، بل بتقرير شريعة عيسى  : أي وكان بينه وبين عيسى ثلاثمائة سنة، وخالد هذا هو الذي أطفأ النار التي خرجت بالبادية بين مكة والمدينة، كادت العرب أن تعبدها كالمجوس، كان يرى ضوؤها من مسافة ثمان ليال، وربما كان يخرج منها العنق فيذهب في الأرض فلا يجد شيئا إلا أكله، فأمر الله تعالى خالد بن سنان بإطفائها، وكانت تخرج من بئر ثم تنتشر، فلما خرجت وانتشرت أخذ خالد بن سنان يضربها ويقول: بدا بدا بدا كل هدى وهي تتأخر حتى نزلت إلى البئر، فنزل إلى البئر خلفها فوجد كلابا تحتها فضربها وضرب النار حتى أطفأها، ويذكر أنه كان هو السبب في خروجها فإنه لما دعا قومه وكذبوه وقالوا له إنما تخوفنا بالنار، فإن تسل علينا هذه الحرة نارا اتبعناك، فتوضأ ثم قال: اللهم إن قومي كذبوني ولم يؤمنوا بي إلا أن تسيل عليهم هذه الحرة نارا فأسلها عليهم نارا، فخرجت، فقالوا: يا خالد أرددها فإنا مؤمنون بك، فردها.

قيل وكان خالد بن سنان إذا استسقى يدخل رأسه في جيبه فيجيء المطر ولا يقلع إلا إن رفع رأسه. قيل «وقدمت ابنته وهي عجوز على النبي، فتلقاها بخير وأكرمها، وبسط لها رداءه وقال لها: مرحبا بابنة أخي، مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه فأسلمت» وهذا الحديث مرسل رجاله ثقات. وفي البخاري «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، وليس بيني وبينه نبي» قال بعضهم: وبه يرد على من قال كان بينهما خالد بن سنان. وقد يقال مراده بالنبي الرسول الذي يأتي بشريعة مستقلة. وحينئذ لا يشكل هذا لما علمت أنه لم يأت بشريعة مستقلة، ولا ما جاء في رواية أخرى «ليس بيني وبينه نبيّ ولا رسول» ولا ما في كلام البيضاوي تبعا للكشاف من أن بين عيسى ومحمد أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان، وبعده حنظلة بن صفوان عليهما الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى لأصحاب الرس بعد خالد بمائة سنة لأنه يجوز أن يكون كل من هؤلاء الثلاثة لم يبعث بشريعة مستقلة، بل كان مقررا لشريعة عيسى   أيضا كخالد بن سنان.

والرس: البئر الغير المطوية: أي الغير المبنية، كذا في الكشاف، والذي في القاموس كالصحاح المطوية بإسقاط غير، فإنهم قتلوا حنظلة ودسوه فيها: أي وحين دسوه فيها، غار ماؤها، وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم، وانقطعت ثمارهم بعد أن كان ماؤها يرويهم ويكفي أرضهم جميعا، وتبدلوا بعد الأنس الوحشة، وبعد الاجتماع الفرقة لأنهم كانوا ممن يعبد الأصنام: أي وكان ابتلاهم الله تعالى بطير عظيم ذي عنق طويل كان فيه من كل لون، فكان ينقضّ على صبيانهم يخطفهم إذا أعوذه الصيد، وكان إذا خطف أحدا منهم أغرب به: أي ذهب به إلى جهة المغرب، فقيل له لطول عنقه ولذهابه إلى جهة المغرب عنقاء مغرب، فشكوا ذلك إلى حنظلة  ، فدعا على تلك العنقاء، فأرسل الله تعالى عليها صاعقة فأهلكتها ولم تعقب، وكان جزاؤه منهم أن قتلوه وفعلوا به ما تقدم.

وذكر بعضهم أن حنظلة هذا كان من العرب من ولد إسماعيل أيضا  : ثم رأيت ابن كثير ذكر أن حنظلة هذا كان قبل موسى  ، وأنه لما ذكر أن في زمن عمر بن الخطاب   فتحت تستر المدينة المعروفة وجدوا تابوتا، وفي لفظ: سريرا عليه دانيال  ، ووجدوا طول أنفه شبرا، وقيل ذراعا، ووجدوا عند رأسه مصحفا فيه ما يحدث إلى يوم القيامة، وأن من وفاته إلى ذلك اليوم ثلاثمائة سنة، وقال: إن كان تاريخ وفاته القدر المذكور فليس بنبي بل هو رجل صالح، لأن عيسى ابن مريم   ليس بينه وبين رسول الله نبي بنص الحديث في البخاري.

أقول: قد علمت الجواب عن ذلك، بأن المراد بالنبي الرسول. وفيه أن هذا يبعده عطف الرسول على النبي المتقدم في بعض الروايات، إلا أن يجعل من عطف التفسير والله أعلم.

والفترة التي كانت بينهما أربعمائة سنة، وقيل ستمائة، وقيل بزيادة عشرين سنة. قالت عائشة  : ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا أي كذبا لأن الخراص الكذاب كذا قيل.

أقول: لعل المراد بالكذب الغير المقطوع بصحته، لأن الخرص حقيقته الحزر والتخمين، وكل من تكلم كلاما بناه على ذلك قيل له خراص، ثم قيل للكذاب خراص توسعا، وحينئذ كان القياس أن يقال إلا خرصا: أي حزرا وتخمينا. وعلى هذا كأن الصّدِّيقية   أرادت المبالغة للتنفير عن الخوض في ذلك. والله أعلم.

وعن عمرو بن العاص   «أن النبي انتسب حتى بلغ النضر بن كنانة ثم قال: فمن قال غير ذلك» أي مما زاد على ذلك «فقد كذب».

أقول: إطلاق الكذب على من زاد على كنانة إلى عدنان يخالف ما سبق من أن المجمع عليه إلى عدنان إلا أن يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون عمرو بن العاص لم يسمع ما زاد على النضر بن كنانة إلى عدنان مع ذكره له الذي سمعه غيره. وفي إطلاقه الكذب على ذلك التأويل السابق. وأخرج الجلال السيوطي في الجامع الصغير عن البيهقي أنه انتسب فقال «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إلى أن قال: ابن مضر بن نزار» وهذا هو الترتيب المألوف، وهو الابتداء بالأب ثم بالجد ثم بأب الجد وهكذا. وقد جاء في القرآن على خلافه في قوله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف   {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} قال بعضهم: والحكمة في ذلك أنه لم يرد مجرد ذكر الآباء، وإنما ذكرهم ليذكر ملتهم التي اتبعها، فبدأ بصاحب الملة ثم بمن أخذها عنه أولا فأولا على الترتيب، والله أعلم.

وعن ابن عباس   «أن النبي كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: كذب النسابون مرتين أو ثلاثا».

قال البيهقي: والأصح أن ذلك: أي قوله «كذب النسابون» من قول ابن مسعود  : أي لا من قوله.

أقول: والدليل على ذلك ما جاء: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} قال: كذب النسابون، يعني الذين يدعون علم الأنساب، ونفي الله تعالى علمها عن العباد. ولا مانع أن يكون هذا القول صدر منه أولا ثم تابعه ابن مسعود عليه.

وقد يقال: هذه الرواية تقتضي إما الزيادة على المجمع عليه، وإما النقص عنه: أي زيادة أدد أو نقص عدنان، فهي مخالفة لما قبلها.

وفي كلام بعضهم أن بين عدنان وأدد أد، فيقال عدنان بن أد بن أدد قيل له أدد لأنه كان مديد الصوت، وكان طويل العز والشرف.

قيل وهو أول من تعلم الكتابة: أي العربية من ولد إسماعيل، وتقدم أن الصحيح أن أول من كتب نزار.

وانظر هل يشكل على ذلك ما رواه الهيثم بن عدي أن الناقل لهذه الكتابة يعني العربية من الحيرة إلى الحجاز حرب بن أمية بن عبد شمس. وقد يقال: الأولية إضافية: أي من قريش وعدنان، سمي بذلك، قيل لأن أعين الإنس والجن كانت إليه ناظرة.

قال بعضهم: اختلف الناس فيما بين عدنان وإسماعيل من الآباء، فقيل سبعة، وقيل تسعة، وقيل خمسة عشر، وقيل أربعون، والله أعلم، قال الله   {وقرونا بين ذلك كثيرا} أي لا يكاد يحاط بها، فقد جاء «كان ما بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون، وبين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة قرون».

وعن ابن عباس   أن مدة الدنيا: أي من آدم سبعة آلاف سنة: أي وقد مضى منها قبل وجود النبي خمسة آلاف وسبعمائة وأربعون سنة. وعن أبي خيثمة وثمانمائة سنة.

قلت: وفي كلام بعضهم من خلق آدم إلى بعثة نبينا محمد خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة وثلاثون سنة.

وقد جاء عن ابن عباس   من طرق صحاح أنه قال «الدنيا سبعة أيام كل يوم ألف سنة، وبعث رسول الله في آخر يوم منها».

وفي كلام الحافظ السيوطي: دلت الأحاديث والآثار على أن مدة هذه الأمة تزيد على الألف سنة، ولا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة أصلا، وإنما تزيد بنحو أربعمائة سنة تقريبا وما اشتهر على ألسنة الناس أن النبي لا يمكث في قبره أكثر من ألف سنة باطل لا أصل له، هذا كلامه. وقوله لا تبلغ الزيادة خمسمائة سنة، هل يخالفه ما أخرجه أبو داود «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم يعني خمسمائة سنة ».

وفي كلام بعضهم قد أكثر المنجمون في تقدير مدة الدنيا. فقال بعضهم عمرها سبعة آلاف سنة بعدد النجوم السيارة أي وهي سبعة. وبعضهم اثنا عشر ألف سنة بعدد البروج. وبعضهم بثلثمائة ألف وستون ألفا بعدد درجات الفلك، وكلها تحكمات عقلية لا دليل عليها.

وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: أكمل الله خلق الموجودات من الجمادات والنباتات والحيوان بعد انتهاء خلق العالم الطبيعي بإحدى وسبعين ألف سنة، ثم خلق الله الدنيا بعد أن انقضى من مدة خلق العالم الطبيعي أربع وخمسون ألف سنة. ثم خلق الله تعالى الآخرة يعني الجنة والنار بعد الدنيا بتسعة آلاف سنة، ولم يجعل الله تعالى للجنة والنار أمدا ينتهي إليه بقاؤهما فلهما الدوام. قال: وخلق الله تعالى طينة آدم بعد أن مضى من عمر الدنيا سبع عشرة ألف سنة، ومن عمر الآخرة التي لا نهاية لها في الدوام ثمانية آلاف سنة وخلق الله تعالى الجان في الأرض قبل آدم بستين ألف سنة: أي ولعل هذا هو المعنى بقول بعضهم: خلق الله قبل آدم خلقا في صورة البهائم، ثم أماتهم قبل، وهم الجن والبن والطم والرم و الحس والبس فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء كما سيأتي.

قال الشيخ محيي الدين: وقد طفت بالكعبة مع قوم لا أعرفهم، فقال لي واحد منهم: أما تعرفني؟ فقلت لا، قال: أنا من أجدادك الأول، فقلت له: كم لك منذ مت؟ قال لي بضع وأربعون ألف سنة فقلت: ليس لآدم هذا القدر من السنين، فقال لي: عن أي آدم تقول عن هذا الأقرب إليك، أم عن غيره؟ فتذكرت حديثا روي عن النبي «إن الله خلق مائة ألف آدم» فقلت: قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك، والتاريخ في ذلك مجهول مع حدوث العالم بلا شك هذا كلامه.

وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني: وكان وهب بن منبه   يقول: سأل بنو إسرائيل المسيح   أن يحيي لهم سام بن نوح عليهما الصلاة والسلام، فقال: أروني قبره، فوقف على قبره وقال: يا سام قم بإذن الله تعالى، فقام وإذا رأسه ولحيته بيضاء، فقال إنك مت وشعرك أسود، فقال: لما سمعت النداء ظننت أنها القيامة فشاب رأسي ولحيتي الآن، فقال له عيسى : كم لك من السنين ميت؟ قال خمسة آلاف سنة، إلى الآن لم تذهب عني حرارة طلوع روحي.

وسبب الاختلاف فيما بين عدنان وآدم أن قدماء العرب لم يكونوا أصحاب كتب يرجعون إليها، وإنما كانوا يرجعون إلى حفظ بعضهم من بعض، ولعله لا يخالفه ما تقدم من أن أول من كتب معد أو نزار.

وفي كلام سبط ابن الجوزي أن سبب الاختلاف المذكور اختلاف اليهود، فإنهم اختلفوا اختلافا متفاوتا فيما بين آدم ونوح وفيما بين الأنبياء من السنين. قال ابن عباس  : لو شاء رسول الله أن يعلمه لعلمه: أي لو أراد أن يعلم ذلك للناس لعلمه لهم، وهذا أولى من يعلمه بفتح الياء وسكون العين.

وذكر ابن الجوزي أن بين آدم ونوح شيئا وإدريس، وبين نوح وإبراهيم هود وصالح، وبين إبراهيم وموسى بن عمران إسماعيل وإسحاق ولوط وهو ابن أخت إبراهيم وكان كاتبا لإبراهيم، وشعيب وكان يقال له خطيب الأنبياء ويعقوب ويوسف، ولد يوسف ليعقوب، وله من العمر إحدى وتسعون سنة، وكان فراقه له وليوسف من العمر ثماني عشرة سنة وبقيا مفترقين إحدى وعشرين سنة، وبقيا مجتمعين بعد ذلك سبع عشرة سنة هذا.

وفي الإتقان: ألقي يوسف في الجب وهو ابن ثنتي عشرة سنة، ولقي أباه بعد الثمانين، وعاش مائة وعشرين سنة، وكان كاتبا للعزيز.

قيل وسبب الفرقة بين سيدنا يعقوب وسيدنا يوسف عليهما السلام أن سيدنا يعقوب ذبح جديا بين يدي أمه فلم يرض الله تعالى له ذلك، فأراه دما بدم، وفرقة بفرقة، وحرقة بحرقة، وموسى بن عمران بن منشاء. وبين موسى بن عمران وهو أول أنبياء بني إسرائيل وداود يوشع، وكان يوشع كهراون يكتب لموسى. ويذكر أن مما أوصى به داود ولده سليمان عليهما السلام لما استخلفه: يا بني إياك والهزل فإن نفعه قليل، ويهيج العداوة بين الإخوان، أي ومن ثم قيل: لا تمازح الصبيان فتهون عليهم، ولا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الدنيء فيجترىء عليك، ولكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح.

وقد قيل المزاح يذهب بالمهابة ويورث الضغينة. وقيل آكد أسباب القطيعة المزاح.

وقد قيل: من كثر مزاحه لم يخل من استخفاف به أو حقد عليه، واقطع طمعك من الناس فإن ذلك هو الغنى. وإياك وما تعتذر فيه من القول أو الفعل، وعود لسانك الصدق، والزم الإحسان ولا تجالس السفهاء، وإذا غضبت فالصق نفسك بالأرض: أي وقد جاء في الحديث «إذا جهل على أحدكم جاهل، فإن كان قائما جلس، وإن كان جالسا فليضطجع».

وممن مات من الأنبياء فجأة داود وولده سليمان وإبراهيم الخليل عليهم أفضل الصلاة والسلام، ثم بعد يوشع كالب بن يوفنا، وهو خليفة يوشع، ثم حزقيل وهو خليفة كالب، ويقال له ابن العجوز لأن أمه سألت الله تعالى أن يرزقها ولدا بعد ما كبرت وعقمت فجاءت به، وهو ذو الكفل لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل.

وإلياس ثم طاولت الملك: أي فإن شمويل لما حضرته الوفاة سأله بنو إسرائيل أن يقيم فيهم ملكا فأقام فيهم طالوت ملكا، ولم يكن من أعيانهم بل كان راعيا، وقيل سقاء، وقيل غير ذلك. وبين داود وعيسى عليهما السلام وهو آخر أنبياء بني إسرائيل: أيوب ثم يونس ثم شعياء ثم أحصياء ثم زكرياء ويحيى عليهم السلام.

وفي النهر لأبي حيان في تفسير قوله تعالى {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} كان بينه وبين عيسى من الرسل يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير: أي وهو من أولاد هرون بن عمران، وحزقيل وإلياس ويونس وزكرياء ويحيى. وكان بين موسى وعيسى ألف نبي، هذا كلامه، وكان يحيى يكتب لعيسى، وتقدم الكلام على من بين عيسى ومحمد.

ومما يدل على شرف هذا النسب وارتفاع شأنه وفخامته وعلو مكانه ما جاء عن سعد بن أبي وقاص   قال «قيل يا رسول الله قتل فلان لرجل من ثقيف، فقال أبعده الله، إنه كان يبغض قريشا».

وفي الجامع الصغير «قريش صلاح الناس، ولا يصلح الناس إلا بهم، كما أن الطعام لا يصلح إلا بالملح، قريش خالصة لله تعالى، فمن نصب لها حربا سلب، ومن أرادها بسوء خزي في الدنيا والآخرة ».

قال: وعن سعد بن أبي وقاص أيضا أن رسول الله قال: «من يرد هوان قريش أهانه الله تعالى» اهـ أي وأشد الإهانة ما كان في الآخرة، وحينئذ إما أن يراد بالإرادة العزم والتصميم، أو المراد المبالغة، أو يكون ذلك من خصائص قريش، فلا ينافي أن حكم الله المطرد في عدله أن لا يعاقب على مجرد الإرادات، إنما يعاقب ويجازي على الأفعال والأقوال الواقعة، أو ما هو منزل منزلة الواقعة كالتصميم، فإن من خصائص هذه الأمة عدم مؤاخذتها بما تحدث به نفسها.

وعن أم هانىء بنت أبي طالب   «أن رسول الله فضل قريشا» أي ذكر تفضيلهم «بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم، ولا يعطاها أحد بعدهم: النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل» أي على أصحابه «وعبدوا الله سبع سنين» وفي لفظ عشر سنين «لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش» وتسمية لإيلاف قريش سورة يرد ما قيل إن سورة الفيل ولإيلاف قريش سورة واحدة، ولينظر ما معنى عبادتهم الله تعالى دون غيرهم في تلك المدة.

وعن أنس   «حب قريش إيمان وبغضهم كفر».

وعن أبي هريرة   «الناس تبع لقريش، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم» وقال «العلم في قريش» أي وقال «الأئمة من قريش» وقد جمع الحافظ ابن حجر طرق هذا الحديث في كتاب سماه (لذة العيش في طرق حديث «الأئمة من قريش»).

وفي الحديث «عالم قريش يملأ طباق الأرض علما» وفي رواية «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» وفي رواية «اللهم اهد قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما» قال جماعة من الأئمة منهم الإمام أحمد: هذا العالم هو الشافعي  ، لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم عالم قريشي من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعي.

وفي كلام بعضهم: ليس في الأئمة المتبوعين في الفروع قرشي غيره. وفيه أن الإمام مالك بن أنس من قريش. ويجاب بأنه إنما يكون قرشيا على القول الباطل من أن جماع قريش قصي.

وقد ذكر السبكي أنهم ذكروا أن من خواص الشافعي   من بين الأئمة أن من تعرض إليه أو إلى مذهبه بسوء أو نقص هلك قريبا، وأخذوا ذلك من قوله «من أهان قريشا أهانه الله تعالى» هذا كلامه. قال الحافظ العراقي: إسناد هذا الحديث يعني «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» لا يخلو عن ضعف، وبه يرد ما زعمه الصغائي من أنه موضوع، وحاشا الإمام أحمد أن يحتج بحديث موضوع أو يستأنس به على فضل الشافعي.

وقال ابن حجر الهيتمي: هو حديث معمول به في مثل ذلك أي في المناقب، وزعم وضعه حسد أو غلط فاحش: أي وعن الربيع قال: رأيت في المنام كأن آدم مات، فسألت عن ذلك؟ فقيل لي هذا موت أعلم أهل الأرض، لأن الله علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسير حتى مات الشافعي   ورضي عنا به.

ومما يؤثر عن إمامنا الشافعي  : من أطراك في وجهك بما ليس فيك فقد شتمك، ومن نقل إليك نقل عنك، ومن نمّ عندك نم عليك، ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك إذا أسخطته قال فيك ما ليس فيك. وقال «قدموا قريشا ولا تقدموها» أي لا تتقدموها. وفي رواية «ولا تعالموها: أي لا تغالبوها بالعلم ولا تكاثروها فيه». وفي رواية «ولا تعلموها» أي لا تجعلوها في المقام الأدنى الذي هو مقام المتعلم بالنسبة للمعلم. وقال «أحبوا قريشا، فإنه من أحبهم أحبه الله تعالى» وقال «لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله  ».

وفي السنن المأثورة عن إمامنا الشافعي   رواية المزني عنه. قال الطحاوي: حدثنا المزني قال: حدثنا الشافعي   «أن قتادة بن النعمان وقع بقريش وكأنه نال منهم، فقال رسول الله : مهلا يا قتادة لا تشتم قريشا فإنك لعلك ترى منهم رجالا إذا رأيتهم عجبت بهم، لولا أن تطغى قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله تعالى» أي لولا أنها إذا علمت ما لها عند الله من الخير المدخر لها تركت العمل، بل ربما ارتكبت ما لا يحل اتكالا على ذلك لأعلمتها به، لكن في رواية «لأخبرتها بما لمحسنها عند الله من الثواب». وهذا دليل على علو منزلتها وارتفاع قدرها عند الله تعالى. وقال يوما «يا أيها الناس إن قريشا أهل أمانة، من بغاها العواثر» أي من طلب لها المكايد «أكبه الله تعالى لمنخريه» أي أكبه الله على وجهه «قال ذلك ثلاث مرات» وعن سيدنا عمر   أنه كان بالمسجد فمر عليه سعيد بن العاص فسلم عليه، فقال له: والله يا ابن أخي ما قتلت أباك يوم بدر، وما لي أن أكون أعتذر من قتل مشرك، فقال له سعيد بن العاص: لو قتلته كنت على الحق وكان على الباطل، فعجب عمر من قوله وقال: قريش أفضل الناس أحلاما، وأعظم الناس أمانة، ومن يرد بقريش سوءا يكبه الله لفيه. هذا كلامه.

والذي قتل العاص والد سعيد علي بن أبي طالب  ، وقيل سعد بن أبي وقاص  ، فعن سعد بن أبي وقاص   قال: قتلت يوم بدر العاص وأخذت سيفه ذا الكثيفة وقال «شرار قريش خير شرار الناس» وفي رواية «خيار قريش خيار الناس، وشرار قريش شرار الناس» أي ولعله سقط من هذه الرواية قبل شرار الثانية لفظ خيار لتوافق الرواية قبلها المقتضي لذلك المقام. ويحتمل إبقاء ذلك على ظاهره لأنه ممن يقتدى به. فكانوا أشر الأشرار، ويكون هذا هو المراد بوصفهم بأنهم خيار شرار الناس.

ثم رأيت في كتاب السنن المأثورة عن إمامنا الشافعي   ما رواه المزني عنه «خيار قريش خيار الناس، وشرار قريش خيار شرار الناس» وفي الحديث «ولاة هذا الأمر، فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم» ومن ثم قال الطحاوي: قريش أهل أمانة، هكذا قرأه علينا المزني أهل أمانة أي بالنون، وإنما هو أهل إمامة أي بالميم. وفي كلام فقهائنا «قريش قطب العرب وفيهم الفتوة ».

ومما يدل على شرف هذا النسب أيضا ما جاء عن عمرو بن العاص   «إن الله اختار العرب على الناس، واختارني على من أنا منه من أولئك العرب» وما جاء عن وائلة بن الأسقع   قال: سمعت رسول الله يقول: «إن الله اصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

أقول: وجاء بلفظ آخر عن وائلة بن الأسقع وهو «إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم عليهما السلام. واتخذه خليلا، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، ثم اصطفى من ولد إسماعيل نزارا، ثم اصطفى من ولد نزار مضر، ثم اصطفى من ولد مضر كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشا، ثم اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطلب ثم اصطفاني من بني عبد المطلب» والله أعلم. قال وفي رواية «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

وما جاء عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله «أتاني جبريل فقال لي: يا محمد إن الله بعثني فطفت شرق الأرض ومغربها وسهلها وجبلها، فلم أجد حيا خيرا من مضر، ثم أمرني فطفت في مضر فلم أجد حيا خيرا من كنانة، ثم أمرني فطفت في كنانة فلم أجد حيا خيرا من قريش، ثم أمرني فطفت في قريش فلم أجد حيا خيرا من بني هاشم. ثم أمرني أن أختار في أنفسهم» أي أختار نفسا من أنفسهم «فلم أجد نفسا خيرا من نفسك» انتهى.

وفي الوفاء عن ابن عباس   في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: ليس من العرب قبيلة إلا ولدت النبي مضرها وربيعتها ويمانيها. وعن ابن عمر   قال: قال رسول الله «إن الله خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار إلى خيار» انتهى. وقوله واختار من مضر قريشا يدل على أن مضر ليس جماع قريش وإلا كانت أولاده كلها قريشا.

وعن أبي هريرة يرفعه بسند حسنه الحافظ العراقي «إن الله حين خلق الخلق بعث جبريل فقسم الناس قسمين: قسم العرب قسما، وقسم العجم قسما، وكانت خيرة الله في العرب. ثم قسم العرب إلى قسمين، فقسم اليمن قسما وقسم مضر قسما وكانت خيرة الله في مضر، وقسم مضر قسمين فكانت قريش قسما وكانت خيرة الله في قريش، ثم أخرجني من خيار من أنا فيه».

قال بعضهم: وما جاء في فضل قريش فهو ثابت لبني هاشم والمطلب، لأنهم أخص وما ثبت للأعم يثبت للأخص ولا عكس.

وفي الشفاء عن ابن عباس   قال: قال رسول الله «إن الله سبحانه وتعالى قسم الخلق قسمين فجعلني من خيرهم قسما فذلك قوله تعالى: {أصحاب اليمين وأصحاب الشمال} فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله تعالى {فأصحاب الميمنة ـ وأصحاب المشأمة ـ والسابقون السابقون} فأنا خير السابقين ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني من خيرها قبيلة، وذلك قوله تعالى: {وجعلناكم شعوبا وقبائل} الآية فأنا أبر ولد آدم وأكرمهم على الله تعالى ولا فخر، وجعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا ولا فخر، فذلك قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} الآية » هذا كلام الشفاء، فليتأمل. وإلى شرف هذا النسب يشير صاحب الهمزية   بقوله:

وبدا للوجود منك كريم ** من كريم آباؤه كرماء

نسب تحسب العلا بحلاه ** قلدتها نجومها الجوزاء

حبذا عقد سودد وفخار ** أنت فيه اليتيمة العصماء

أي ظهر لهذا العالم منك كريم: أي جامع لكل صفة كمال، وهذا على حد قولهم: لي من فلان صديق حميم، وذلك الكريم الذي ظهر وجد من أب كريم سالم من نقص الجاهلية آباؤه الشامل للأمهات جميعهم كرماء: أي سالمون من نقائص الجاهلية: أي ما يعد في الإسلام نقصا من أوصاف الجاهلية، وهذا نسب لا أجل منه، ولجلالته إذا تأملته تظن بسبب ما تحلى به من الكمالات: أي معاليها جعلت الجوزاء نجومها التي يقال لها نطاق الجوزاء قلادة لتلك المعالي، وهذه القلادة نعم هي قلادة سيادة وتمدح موصوفة بأنك في تلك القلادة الدرة اليتيمة التي لا مشابه لها المحفوظة عن الأعين لجلالتها.

لا يقال: شمول الآباء للأمهات لا يناسب قوله نسب، لأن النسب الشرعي في الآباء خاصة. لأنا نقول: المراد بالنسب ما يعم اللغوي أو قد يقال سلامة آبائه من النقائص إنما هو من حيث أبيه: أي كونه متفرعا عنه، وذلك يستلزم أن تكون أمهاته كذلك، وسيأتي «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى.

وقال الماوردي في كتاب (أعلام النبوة): وإذا اختبرت حال نسبه وعرفت طهارة مولده علمت أنه سلالة آباء كرام ليس فيهم مستزل، بل كلهم سادة قادة، وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة، هذا كلامه ومن كلام عمه أبي طالب:

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ** فعبد مناف سرها وصميمها

وإن حصلت أنساب عبد منافها ** ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوما فإن محمدا ** هو المصطفى من سرها وكريمُها

بالرفع عطفا على المصطفى، وسر القوم: وسطهم، فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فخذه.

وعن ابن عمر   قال: قال رسول الله: «من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم».

وعن سلمان الفارسي   قال قال لي رسول الله: «يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله تعالى؟ قال: تبغض العرب فتبغضني».

وعن علي   قال: قال لي رسول الله: «لا يبغض العرب إلا منافق».

وفي الترمذي عن عثمان بن عفان   أن رسول الله قال: «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي» قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقال «ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» وقال: «أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي» وقال: «إن لواء الحمد يوم القيامة بيدي وإن أقرب الخلق من لوائي يومئذ العرب» وقال: «إذا ذلت العرب ذل الإسلام» وفي كلام فقهائنا: العرب أولى الأمم، لأنهم المخاطبون أولا والدين عربي.

وعن ابن عباس   «خير العرب مضر، وخير مضر عبد مناف، وخير بني عبد مناف بنو هاشم، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب، والله ما افترق فرقتان منذ خلق الله تعالى آدم إلا كنت في خيرهما».

أقول: وفي لفظ آخر عن ابن عباس   قال: قال رسول الله: «إن الله حين خلقني جعلني من خير خلقه، ثم حين خلق القبائل جعلني من خيرهم قبيلة، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم بيتا وأنا خيرهم نسبا» وفي لفظ آخر عنه قال: قال رسول الله «إن الله قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهم قسما، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، ثم جعل الثلث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا» وتقدم عن الشفاء مثل ذلك مع زيادة الاستدلال بالآيات، وتقدم الأمر بالتأمل في ذلك، والله أعلم. وفيه أنه ورد النهي في الأحاديث الكثيرة عن الانتساب إلى الآباء في الجاهلية على سيبل الافتخار، من ذلك «لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية، فوالذي نفسي بيده ما يدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية » أي والذي يدحرجه الجعل وهو النتن. وجاء في الحديث «ليدعن الناس فخرهم في الجاهلية. أو ليكونن أبغض إلى الله تعالى من الخنافس» وجاء «آفة الحسب الفخر» أي عاهة الشرف بالآباء التعاظم بذلك.

وأجاب الإمام الحليمي بأنه لم يرد بذلك الفخر، إنما أراد تعريف منازل أولئك ومراتبهم: أي ومن ثم جاء في بعض الروايات قوله ولا فخر: أي فهو من التعريف بما يجب اعتقاده وإن لزم منه الفخر، وهو أشار إلى نعمة الله تعالى عليه، فهو من التحدث بالنعمة وإن لزم من ذلك الفخر أيضا. وعن ابن عباس   «في قوله تعالى: {وتقلبك في الساجدين} قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا» أي وجدت الأنبياء في آبائه فسيأتي «أنه قذف بي في صلب آدم، ثم في صلب نوح، ثم في صلب إبراهيم عليهما الصلاة والسلام» بدليل ما يأتي فيه. وفي لفظ آخر عنه «ما زال النبي يتقلب في أصلاب الأنبياء» أي المذكورين أو غيرهم «حتى ولدته أمه» أي وهذا كما لا يخفى لا ينافي وقوع من ليس نبيا في آبائه، فالمراد وقوع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في نسبه   كما علمت، ضرورة أن آباءه كلهم ليسوا أنبياء، لكن قال غيره: لا زال نوره ينقل من ساجد إلى ساجد. قال أبو حيان: واستدل بذلك، أي بما ذكر من الآية المذكورة: أي المفسرة بما ذكر الرافضة على أن آباء النبي كانوا مؤمنين: أي لأن الساجد لا يكون إلا مؤمنا، فقد عبر عن الإيمان بالسجود، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك، وهو استدلال ظاهري، وإلا فالآية قيل معناها وتصفحك أحوال المتهجدين من أصحابك لأنه لما نسخ فرض قيام الليل عليه وعليهم بناء على أنه كان واجبا عليه وعلى أمته وهو الأصح.

وعن ابن عباس   أنه كان واجبا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله «طاف تلك الليلة على بيوت أصحابه لينظر حالهم» أي هل تركوا قيام الليل لكونه نسخ وجوبه بالصلوات الخمس ليلة المعراج حرصا على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت الزنابير: أي لأن الله   افترض عليه: أي وعلى أمته قيام الليل أو نصفه أو أقل أو أكثر في أول سورة المزمل، ثم نسخ ذلك في آخر السورة بما تيسر: أي وكان نزول ذلك بعد سنة، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس ليلة المعراج كما سيأتي. وجعل بعضهم ذلك من نسخ الناسخ فيصير منسوخات، لما علمت أن آخر هذه السورة ناسخ لأولها ومنسوخ بفرض الصلوات الخمس.

واعترض بأن الأخبار دالة على أن قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} إنما نزل بالمدينة يدل على ذلك قوله تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} لأن القتال في سبيل الله إنما كان بالمدينة، فقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر} اختيار لا إيجاب.

وقيل معنى {وتقلبك في الساجدين} وتقلبك في أركان الصلاة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا في الساجدين: أي في المصلين، ففي الساجدين ليس متعلقا بتقلبك بل بساجد المحذوف.

لا يقال: يعارض جعل الساجدين عبارة عن المؤمنين أن من جملة آبائه آزر والد إبراهيم الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم وكان كافرا.

لأنا نقول: أجمع أهل الكتاب على أن آزر كان عمه، والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما فقد حكى الله عن يعقوب أنه قال: «آبائي إبراهيم وإسماعيل» ومعلوم أن إسماعيل إنما هو عمه. أي ويدل لذلك أن أبا إبراهيم كان اسمه تارخ بالمثناة فوق والمعجمة كما عليه جمهور أهل النسب، وقيل بالمهملة وعليه اقتصر الحافظ في الفتح لا آزر، لكن ادعى بعضهم أنه لقب له، لأن آزر اسم صنم كان يعبده فصار له اسمان: آزر وتارخ كيعقوب وإسرائيل.

قال بعضهم: وقد تساهل من أخذ بظاهر الآية كالقاضي البيضاوي وغيره فقال: إن أبا إبراهيم مات على الكفر وما قيل إنه عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل.

ويوافقه ما في النهر نقلا عن ابن عباس   أن آزر كان اسم ابيه، ويرد ذلك قول الحافظ السيوطي  : يستنبط من قول إبراهيم   {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم الحساب} وكان ذلك بعد موت عمه بمدة طويلة، أن المذكور في القرآن بالكفر والتبري من الاستغفار له: أي في قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} هو عمه لا أبوه الحقيقي. قال: فللّه الحمد على ما ألهم: أي ولا يخفى أن هذا لايتم إلا إذا كان أبوه الحقيقي حيا وقت التبري منه، وأن التبري سببه الموت: أي موت عمه على الكفر لا الوحي بأنه يموت كافرا فليتأمل، وحينئذ يكون أبوه الحقيقي هو المعني بقول أبي هريرة: أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم. أن قال لما رأى ولده وقد ألقي في النار أي على تلك الحالة أي في روضة خضراء وحوله النار: لم تحرق منه إلا كتافه نعم الرب ربك يا إبراهيم، وكان سنه حين ألقي في النار ست عشرة سنة كما في الكشاف. وفي كلام غيره كان سنه ثلاثين سنة بعد ما سجن ثلاث عشرة سنة.

وعن ابن عباس   قال: «إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم   بألفي عام يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه فلما خلق الله تعالى آدم   ألقى ذلك النور في صلبه، قال: فأهبطني الله تعالى إلى الأرض في صلب آدم، وجعلني في صلب نوح، وقذفني في صلب إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام الطاهرة حتى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط».

أقول: قوله: «فأهبطني» ينبغي أن لا يكون معطوفا على ما قبله من قوله: «إن قريشا كانت نورا بين يدي الله تعالى الخ» فيكون نوره من جملة نور قريش، وإنه انفرد عن نور قريش وأودع في صلب نوح   الخ، بل على ما يأتي من قوله: «كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام» اللازم لذلك أن يكون نوره سابقا على نور قريش، ويكون نور قريش من نوره.

وحكمة اقتصاره على من ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تخفى. وهي أنهم آباء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ذرية نوح هود وصالح عليهما الصلاة والسلام، ومن ذرية إبراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وشعيب وموسى وهارون بناء على أنه شقيق موسى أو لأبيه وإلا فسيأتي أن نوره انتقل إلى شيث، وتقدم أنه من ذرية إسماعيل.

وعن علي بن الحسين   عن أبيه عن جده أن النبي قال: «كنت نورا بين يدي ربي قبل خلق آدم   بأربعة عشر ألف عام» ورأيت في كتاب التشريفات في الخصائص والمعجزات لم أقف على اسم مؤلفه، عن أبي هريرة   «أن رسول الله سأل جبريل   فقال يا جبريل كم عمرت من السنين؟ فقال يا رسول الله لست أعلم، غير أن في الحجاب الرابع نجما يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة، رأيته اثنين وسبعين ألف مرة فقال: «يا جبريل وعزة ربي جل جلاله أنا ذلك الكوكب» رواه البخاري، هذا كلامه، فلما خلق الله آدم   جعل ذلك النور في ظهره: أي فهو حالة كونه نورا سابق على قريش حالة كونها نورا، بل سيأتي ما يدل على أن نوره سابق على سائر المخلوقات، بل وتلك المخلوقات خلقت من ذلك النور آدم وذريته وحينئذ يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره، وجعل نوره في ظهر آدم  ، فقد تقدم في الخبر «لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور في ظهره» أي فكان يلمع في جبينه فيغلب على سائر نوره الخ ما يأتي، ثم انتقل إلى ولده شيث الذي هو وصيه، وكان من جملة ما أوصاه به أنه يوصي من انتقل إليه ذلك النور من ولده أنه لا يضع ذلك النور الذي انتقل إليه إلا في المطهرة من النساء، ولم تزل هذه الوصية معمولا بها في القرون الماضية إلى أن وصل ذلك النور إلى عبد المطلب: أي وهذا السياق يدل على أن ذلك النور كان ظاهرا فيمن ينتقل إليه من آبائه، وهو قد يخالف ما تقدم من تخصيص بعض آبائه بذلك، ولم تلد حواء ولدا مفردا إلا شيئا كرامة لهذا النور، قيل مكث في بطنها حتى نبتت أسنانه وكان ينظر إلى وجهه من صفاء بطنها وهو الثالث من ولد آدم  ، وكانت تلد ذكرا وأنثى معا: أي فقد قيل إنها ولدت لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا، وقيل ولدت مائة وعشرين ولدا، وقيل مائة وثمانين ولدا، وقيل خمسمائة. ويقال إن آدم   لما مات بكى عليه من ولده وولد ولده أربعون ألفا، ولم يحفظ من نسل آدم إلا ما كان من صلب شيث دون إخوته: أي فإنهم لم يعقبوا أصلا فهو أبو البشر.

وعن جابر بن عبد الله رضي تعالى عنهما قال: «قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره» الحديث، وفيه أنه أصل لكل موجود، والله سبحانه وتعالى أعلم.

واختلف الناس في عد طبقات أنساب العرب وترتيبها، والذي في الأصل عن الزبير بن بكار أنها ست طبقات، وأن أولها شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة بكسر العين المهملة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة قال: وقد نظمها الزين العراقي في قوله:

للعرب العربا طباق عدة ** فصلها الزبير وهي ستة

أعم ذاك الشعب فالقبيلة ** عمارة بطن فخذ فصيلة

أي فالشعب أصل القبائل، والقبيلة أصل العمارة، والعمارة أصل البطون، والبطن أصل الفخذ، والفخذ أصل الفصيلة، فيقال: مضر شعب رسول الله : أي وقيل شعبه خزيمة، وكنانة قبيلته، وقريش عمارته، وقصي بطنه، وهاشم فخذه، وبنو العباس فصيلته. وقيل بعد الفصيلة العشيرة، وليس بعد العشيرة شيء. وقيل بعدها الفصيلة قال: ثم الرهط. وزاد بعضهم الذرية والعترة والأسرة، ولم يرتب بينها. وقد ذكرها محمد بن سعد اثني عشر فقال: الجذم، ثم الجمهور، ثم الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط، ثم الأسرة، ثم الذرية، وسكت عن العترة.

وفي كلام بعضهم: الأسباط بطون بني إسرائيل، والشعب في لسان العرب: الشجرة الملتفة الكثيرة الأغصان والأوراق، والقبائل بطون العرب والشعوب بطون العجم، فيتأمل.

باب تزويج عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم آمنة أمه وحفر زمزم وما يتعلق بذلك

قيل خرج عبد المطلب ومعه ولده عبد الله، وكان أحسن رجل في قريش خُلقا، وخلْقا، وكان نور النبي بينا في وجهه. وفي رواية أنه كان أحسن رجل رئاء بكسر الراء وبضمها ثم همزة مفتوحة: منظرا في قريش. وفي رواية أنه كان أكمل بني أبيه، وأحسنهم وأعفهم، وأحبهم إلى قريش، وقد هدى الله تعالى والده فسماه بأحب الأسماء إلى الله تعالى. ففي الحديث «أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن» وهو الذبيح.

وذلك لأن أباه عبد المطلب حين أمر في النوم بحفر زمزم بئر إسماعيل : أي لأن الله تعالى أخرج زمزم لإسماعيل بواسطة جبريل كما يأتي إن شاء الله تعالى في بناء الكعبة، أخرج زمزم مرتين: مرة لآدم، ومرة لإسماعيل عليهما الصلاة السلام، وكانت جرهم قد دفنتها: أي فإن جرهما لما استخفت بأمر البيت الحرام، وارتكبوا الأمور العظام، قام فيهم رئيسهم مضاض بكسر الميم وحكى ضمها، ابن عمرو خطيبا: ووعظهم فلم يرعووا فلما رأى ذلك منهم عمد إلى غزالتين من ذهب كانتا في الكعبة وما وجد فيها من الأموال: أي السيوف والدروع على ما سيأتي التي كانت تهدى إلى الكعبة ودفنها في بئر زمزم.

وفي مرآة الزمان أن هاتين الغزالتين أهداهما للكعبة وكذا السيوف ساسان أول ملوك الفرس الثانية. ورد بأن الفرس لم يحكموا على البيت ولا حجوه، هذا كلامه. وفيه أن هذا لا ينافي ذلك، فيتأمل. وكانت بئر زمزم نضب ماؤها: أي ذهب فحفرها مضاض بالليل وأعمق الحفر ودفن فيها ذلك: أي ودفن الحجر الأسود أيضا كما قيل، وطم البئر، واعتزل قومه فسلط الله تعالى عليهم خزاعة، فأخرجتهم من الحرم، وتفرقوا وهلكوا كما تقدم، ثم لا زالت زمزم مطمومة لا يعرف محلها مدة خزاعة ومدة قصي، ومن بعده إلى زمن عبد المطلب. ورؤياه التي أمر فيها بحفرها. قيل وتلك المدة خمسمائة سنة: أي وكان قصي احتفر بئرا في الدار التي سكنتها أم هانىء أخت علي  ، وهي أول سقاية احتفرت بمكة.

فعن علي بن أبي طالب   قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال احفر طيبة، فقلت: وما طيبة؟ فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال احفر برة، فقلت: وما برة فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني وقال احفر المضنونة، فقلت: وما المضنونة؟ فذهب وتركني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال احفر زمزم، فقلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف، ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل. وقوله لا تنزف: أي لا يفرغ ماؤها، ولا يلحق قعرها.

وفيه أنه ذكر أنه وقع فيها عبد حبشي فمات بها وانتفخ فنزحت من أجله، ووجدوا قعرها فوجدوا ماءها يفور من ثلاثة أعين، أقواها وأكثرها التي من ناحية الحجر الأسود.

وقوله ولا تذم بالذال المعجمة: أي لا توجد قليلة الماء، من قولهم: بئر ذمة أي قليلة الماء قيل وليس المراد أنه لا يذمها أحد، لأن خالد بن عبد الله القسري أمير العراق من جهة الوليد بن عبد الملك ذمها وسماها أم جعلان، واحتفر بئرا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك، وجعل يفضلها على زمزم ويحمل الناس على التبرك بها.

وفيه أن هذا جراءة منه على الله تعالى وقلة حياء منه، وهو الذي كان يعلن ويفصح بلعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على المنبر، فلا عبرة بذمه.

وقيل لزمزم طيبة لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم، وقيل لها برة لأنها فاضت للأبرار، وقيل لها المضنونة لأنها ضن بها على غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق، وقد جاء في رواية «يقول الله تعالى ضننت بها على الناس إلا عليك» ولعل المراد إلا على أتباعك، فيكون بمعنى ما قبله. وفي رواية أنه قيل لعبد المطلب احفر زمزم، ولم يذكر له علامتها فجاء إلى قومه وقال لهم: إني قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا: فهل بين لك أين هي؟ قال لا، قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن يكن حقا من الله تعالى بين لك، وإن يكن من الشيطان فلن يعود إليك، فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتاه فقال احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم، وهي ميراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، فقال عبد المطلب: أين هي؟ فقال: هي بين الفرث والدم، عند قرية النمل حيث ينقر الغراب الأعصم غدا: أي والأعصم، قيل أحمر المنقار والرجلين، وقيل أبيض البطن، وعلى هذا اقتصر الإمام الغزالي حيث قال في قوله «مثل المرأة الصالحة في النساء مثل الغراب الأعصم بين مائة غراب» يعني الأبيض البطن، هذا كلامه. وقيل الأعصم أبيض الجناحين، وقيل أبيض إحدى الرجلين، فلما كان الغد ذهب عبد المطلب وولده الحارث ليس له ولد غيره، فوجد قرية النمل، ووجد الغراب ينقرعندها بين الفرث والدم: أي في محلهما وذلك بين إساف ونائلة: الصنمين اللذين تقدم ذكرهما، وتقدم أن قريشا كانت تذبح عندهما ذبائحها: أي التي كانت تتقرب بها، وهذا يبعد ما جاء في رواية أنه لما قام بحفرها رأى ما رسم له من قرية النمل ونقرة الغراب، ولم ير الفرث والدم فبينما هو كذلك ندت بقرة من ذابحها فلم يدركها حتى دخلت المسجد فنحرها في الموضع الذي رسم له.

وقد يقال لا يبعد لأنه يجوز أن يكون فهم أن يكون الفرث والدم موجودين بالفعل فلا يلزم من كون المحل المذكور محلهما وجودهما فيه في ذلك الوقت، فلم يكتف بنقرة الغراب في محلهما، فأرسل الله له تلك البقرة ليرى الأمر عيانا.

وذكر السهيلي   لذكر هذه العلامات الثلاث حكمة لا بأس بها، ولعل إسافا ونائلة نقلا بعد ذلك إلى الصفا والمروة بعد أن نقلهما عمرو بن لحي من جوف الكعبة إلى المحل المذكور، فلا يخالف ما ذكره القاضي البيضاوي وغيره أن إسافا كان على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما: أي ومن ثم لما جاء الاسلام وكسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف أي السعي بينهما، وقالوا يا رسول الله هذا كان شعارنا في الجاهلية لأجل التمسح بالصنمين، فأنزل الله تعالى ـ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ـ الآية: ويقال إن بقرة نحرت بالحزورة بوزن قسورة فانفلتت ودخلت المسجد في موضع زمزم فوقعت مكانها، فاحتمل لحمها، فأقبل غراب أعصم فوقع في الفرث فليتأمل الجمع.

وقد يقال: لا منافاة، لأن قوله في الرواية الأولى: فندت بقرة من ذابحها: أي ممن شرع في ذبحها ولم يتمه حتى دخلت المسجد فنحرها: أي تمم ذبحها، فقد نحرت بالحزورة وبالمسجد أو يراد بنحرها في الحزورة ذبحها، وبنحرها في المسجد سلخها وتقطيع لحمها فقد رأينا الحيوان بعد ذبحه يذهب إلى موضع آخر ثم يقع به، وعند ذلك جاء عبد المطلب بالمعول وقام ليحفر، فقامت إليه قريش، فقالوا له: والله لا نتركك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبد المطلب لولده الحرث ذد عني: أي امنع عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به، فلما رأوه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطي: أي البناء، فكبر وقال هذا طي إسماعيل : أي بناؤه، فعرفت قريش أنه أصاب حاجته، فقاموا إليه وقالوا والله يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك، فقال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، فقالوا نخاصمك فيها، فقال: اجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم وكانت بأعالي الشام: أي ولعلها التي لما حضرتها الوفاة طلبت شقا وسطيحا وتفلت في فمهما، وذكرت أن سطيحا يخلفها في كهانتها ثم ماتت في يومها ذلك، وسطيح ستأتي ترجمته. وأما شق فقيل له ذلك، لأنه كان شق إنسان، يدا واحدة، ورجلا واحدة، وعينا واحدة، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، وكان إذ ذاك ما بين الحجاز والشام مفازات لا ماء بها، فلما كان عبد المطلب ببعض تلك المفاوز فني ماؤه وماء أصحابه، فظمئوا ظمأ شديدا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستقوا ممن معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فقال عبد المطلب لأصحابه ما ترون؟ قالوا، ما رأينا إلا تبع لرأيك، فقال: إني أرى أن يحفر كل أحد منكم حفيرة يكون فيها إلى أن يموت فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد: أي يترك بلا مواراة أيسر من ضيعة ركب جميعا، فقالوا نعم ما أمرت به فحفر كل حفيرة لنفسه ثم قعدوا ينتظرون الموت، ثم قال عبد المطلب لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا إلى الموت لعجز، فلنضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا، فانطلقوا، كل ذلك وقومهم ينظرون إليهم ما هم فاعلون فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه وملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا، فجاؤوا فشربوا واستقوا، ثم قالوا لعبد المطلب قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، فلما جاء وأخذ في الحفر وجد فيها الغزالتين من الذهب اللت. ين دفنتهما جرهم، ووجد فيها أسيافا وأدراعا، فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك، فقال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم. والنصف: بكسر النون وسكون الصاد المهملة وبفتحها النصفة بفتحات نضرب عليها بالقداح قالوا: كيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولي قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له، قالوا أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة وقدحين أسودين لعبد المطلب وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوها لصاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل: أي وجعلوا الغزالتين قسما والأسياف والأدراع قسما آخر، وقام عبد المطلب يدعو ربه بشعر مذكور في الأمتاع، فضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على الغزالتين، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع، وتخلف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا الكعبة، وضرب في الباب الغزالتين، فكان أول ذهب حليت

به الكعبة ذلك. ومن ثم جاء عن ابن عباس  : والله إن أول من جعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب.

وفي شفاء الغرام أن عبد المطلب علق الغزالتين في الكعبة، فكان أول من علق المعاليق بالكعبة، وسيأتي الجمع بين كونهما علقا بالكعبة وبين جعلهما حليا لباب الكعبة وقد كان بالكعبة بعد ذلك معاليق، فإن عمر   لما فتحت مدائن كسرى كان مما بعث إليه منها هلالان فعلقا بالكعبة، وعلق بها عبد الملك بن مروان شمستين وقدحين من قوارير، وعلق بها الوليد بن يزيد سريرا وعلق بها السفاح صحفة خضراء، وعلق بها المنصور القارورة الفرعونية، وبعث المأمون ياقوتة كانت تعلق كل سنة في وجه الكعبة في زمن الموسم في سلسلة من ذهب.

ولما أسلم بعض الملوك في زمنه أرسل إليها بصنمه الذي كان يعبده، وكان من ذهب متوجا ومكللا بالجواهر والياقوت الأحمر والأخضر والزبرجد، فجعل في خزانة الكعبة.

ثم إن الغزالتين سرقتا وأبيعتا من قوم تجار قدموا مكة بخمر وغيرها، فاشتروا بثمنها خمرا.

وقد ذكر أن أبا لهب مع جماعة نفدت خمرهم في بعض الأيام، وأقبلت قافلة من الشام معها خمر، فسرقوا غزالة واشتروا بها خمرا، وطلبتها قريش، وكان أشدهم طلبا لها عبد الله بن جدعان، فعلموا بهم فقطعوا بعضهم وهرب بعضهم، وكان فيمن هرب أبو لهب: هرب إلى أخواله من خزاعة فمنعوا عنه قريشا، ومن ثم كان يقال لأبي لهب سارق غزالة الكعبة.

وقد قيل منافع الخمر المذكورة فيها أنهم كانوا يتغالون فيها إذا جلبوها من النواحي لكثرة ما يربحون فيها لأنه كان المشتري إذا ترك المماكسة في شرائها عدوه فضيلة له ومكرمة فكانت أرباحهم تتكثر بسبب ذلك.

وما قيل في منافعها أنها تقوي الضعيف، وتهضم الطعام، وتعين على الباه، وتسلي المحزون، وتشجع الجبان، وتصفي اللون، وتنعش الحرارة الغريزية، وتزيد في الهمة والاستعلاء، فذلك كان قبل تحريمها، ثم لما حرمت سلبت جميع هذه المنافع، وصارت ضررا صرفا، ينشأ عنها الصداع والرعشة في الدنيا لشاربها، وفي الآخرة يسقي عصارة أهل النار.

وفي كلام بعضهم: من لازم شربها حصل له خلل في جوهر العقل، وفساد الدماغ والبخر في الفم، وضعف البصر والعصب، وموت الفجاءة ومميتة للقلب، ومسخطة للرب، ومن ثم جاء أنها أي الخمرة ليست بدواء ولكنها داء. وجاء «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر» أي كان مغلقا. وجاء «الخمر أم الفواحش» وفي رواية «أم الخبائث» وجاء في الخمر «لا طيب الله من تطيب بها، ولا شفى الله من استشفى بها».

وقد قيل لا منافاة بين كون الغزالتين علقتا في الكعبة وسرقتا أو سرقت إحداهما، وبين كون عبد المطلب جعلهما حليا للباب، لأنه يجوز أن يكون عبد المطلب استخلص الغزالتين أو الغزالة من التجار، ثم جعلهما حليا للباب بعد أن كان علقهما.

وفي الإمتاع: وكان الناس قبل ظهور زمزم تشرب من آبار حفرت بمكة، وأول من حفر بها بئرا قصي كما تقدم، وكان الماء العذب بمكة قليلا. ولما حفر عبد المطلب زمزم بني عليها حوضا وصار هو وولده يملآنه فيكسره قوم من قريش ليلا حسدا فيصلحه نهارا حين يصبح، فلما أكثروا من ذلك وجاء شخص واغتسل به غضب عبد المطلب غضبا شديدا فأري في المنام أن قل: اللهم إن لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل: أي حلال مباح ثم كفيتهم، فقام عبد المطلب حين اختلفت قريش في المسجد ونادى بذلك، فلم يكن يفسد حوضه أحد، أو اغتسل إلا رمى في جسده بداء.

ثم إن عبد المطلب لما قال لولده الحرث ذد عني: أي امنع عني حتى أحفر، وعلم أنه لا قدرة له على ذلك نذر إن رزق عشرة من الولد الذكور يمنعونه ممن يتعالى عليه ليذبحن أحدهم عند الكعبة.

أي وقيل إن سبب ذلك أن عدي بن نوفل بن عبد مناف أبا المطعم قال له: يا عبد المطلب تستطيل علينا وأنت فذّ لا ولد لك: أي متعدد، بل لك ولدا واحدا ولا مال لك، وما أنت إلا واحد من قومك، فقال له عبد المطلب: أتقول هذا، وإنما كان نوفل أبوك في حجر هاشم: أي لأن هاشما كان خلف على أم نوفل وهو صغير، فقال له عدي: وأنت أيضا قد كنت في يثرب عند غير أبيك كنت عند أخوالك من بني النجار، حتى ردك عمك المطلب، فقال له عبد المطلب: أو بالقلة تعيرني، فللّه علي النذر لئن آتاني الله عشرة من الأولاد الذكور لأنحرن أحدهم عند الكعبة. وفي لفظ: أن أجعل أحدهم لله نحيرة.

قيل إن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم، فعن معاوية   أن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر الله إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده، فلما صاروا عشرة: أي وحفر زمزم أمر في اليوم بالوفاء بنذره: أي قيل له قرّب أحد أولادك: أي بعد أن نسي ذلك وقد قيل له قبل ذلك: أوف بنذرك، فذبح كبشا أطعمه الفقراء ثم قيل له في النوم: قرب ما هو أكبر من ذلك فذبح ثورا، ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك فذبح جملا، ثم قيل له في النوم قرب ما هو أكبر من ذلك فقال: وما هو أكبر من ذلك؟ فقيل له قرب أحد أولادك الذي نذرت ذبحه، فضرب القداح على أولاده بعد أن جمعهم وأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء وأطاعوه.

ويقال إن أول من أطاعه عبد الله وكتب اسم كل واحد على قدح، ودفعت تلك القداح للسادن والقائم بخدمة هبل، وضرب تلك القداح، فخرجت على عبد الله: أي وكان أصغر ولده، وأحبهم إليه مع ما تقدم من أوصافه، فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به على إساف ونائلة وألقاه على الأرض، ووضع رجله على عنقه، فجذب العباس عبد الله من تحت رجل أبيه حتى أثر في وجهه شجة لم تزل في وجه عبد الله إلى أن مات، كذا قيل.

وفيه أن العباس لما ولد كان عمره ثلاث سنين ونحوها، فعنه  : أذكر مولد رسول الله وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها فجيء به حتى نظرت إليه وجعلت النسوة يقلن لي قبل أخاك فقبلته، وقيل منعه أخواله بنو مخزوم وقالوا له: والله ما أحسنت عشرة أمه، وقالوا له أرض ربك وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، وفي رواية «وأعظمت قريش ذلك» أي وقامت سادة قريش من أنديتها إليه ومنعوه من ذلك وقالوا له: والله لا نفعل حتى تستفتي فيه فلانة الكاهنة أي لعلك تعذر فيه إلى ربك لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه أي ويكون سنة، ولعل المراد إذا وقع له مثل ما وقع لك من النذر وقال له بعض عظماء قريش لا تفعل إن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وتلك الكاهنة قيل اسمها قطبة وقيل غير ذلك كانت بخيبر فأتها فاسألها فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته، فأتاها أي مع بعض قومه وفيهم جماعة من أخوال عبد الله بن مخزوم، فسألها وقص عليها القصة فقالت: ارجعوا عني اليوم حتى يأتي تابعي فأسأله، فرجعوا من عندها ثم غدوا عليها، فقالت لهم: قد جاءني الخبر كم الدية فيكم؟ فقالوا عشرة من الإبل، فقالت تخرج عشرة من الإبل وتقدح، وكلما وقعت عليه يزاد الإبل حتى تخرج القداح عليها، فضرب على عشرة فخرجت عليه فما زال يزيد عشرة عشرة حتى بلغت مائة، فخرجت القداح عليها، فقالت قريش ومن حضره قد انتهى رضا ربك، فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات: أي ففعل ذلك وذبح الإبل عند الكعبة لا يصدّ عنها أحد، أي من آدمي ووحش وطير. قال الزهري: فكان عبد المطلب أول من سن دية النفس مائة من الإبل: أي بعد أن كانت عشرة كما تقدم.

وقيل أول من سن ذلك أبو يسار العدواني. وقيل عامر بن الظرب، فجرت في قريش: أي وعلى ذلك فأولية عبد المطلب إضافية ثم فشت في العرب، وأقرها رسول الله.

وأول من ودي بالإبل عن العرب زيد بن بكر من هوازن قتله أخوه: أي وأما ما قيل إن القدح بعد المائة خرج على عبد الله أيضا، ولا زال يخرج عليه حتى جعلوا الإبل ثلثمائة، فخرج على الإبل فنحرها عبد المطلب فضعيف جدا.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن ابن عباس   سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الإبل أخذا من هذه القصة ثم سألت عبد الله بن عمر   عن ذلك فلم يفتها بشيء فبلغ مروان بن الحكم وكان أميرا على المدينة، فأمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير بدل ذبح ولدها وقال: إن ابن عباس وابن عمر   لم يصيبا الفتيا، ولا يخفى أن هذا نذر باطل عندنا معاشر الشافعية فلا يلزمها به شيء.

وعند أبي حنيفة ومحمد يلزمها ذبح شاة في أيام النحر في الحرم أخذا من قصة إبراهيم الخليل   قال القاضي البيضاوي: وليس فيه ما يدل عليه.

وفي الكشاف أنه قال: «أنا ابن الذبيحين» أي عبد الله وإسماعيل وعن بعضهم قال: كنا عند معاوية   فتذاكر القوم الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق، فقال معاوية على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله فأتاه أعرابي: أي يشكو جدب أرضه، فقال: يا رسول الله خلفت البلاد يابسة هلك المال وضاع العيال، فعد عليّ مما أفاء الله عليك يابن الذبيحين، فتبسم رسول الله ولم ينكر عليه، فقال القوم من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ قال عبد الله وإسماعيل. قال الحافظ السيوطي: هذا حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف حاله.

قال بعضهم: لما أحب إبراهيم ولده إسماعيل بطبع البشرية أي لا سيما وهو بكره ووحيده إذ ذاك، وقد أجرى الله العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالد: أي وخصوصا إذا كان لا ولد له غيره، أمره الله بذبحه ليخلص سره من حب غيره بأبلغ الأسباب الذي هو الذبح للولد، فلما امتثل وخلص سره له ورجع عن عادة الطبع فداه بذبح عظيم، لأن مقام الخلة يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، فلما خلصت الخلة من شائبة المشاركة لم يبق في الذبح مصلحة فنسخ الأمر وفدى هذا.

وجاء مما يدل على أن الذبيح إسحق حديث «سئل رسول الله أي النسب أشرف» وفي رواية «من أكرم الناس؟ فقال: يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله عليهم الصلاة والسلام» كذا روي.

قال بعضهم والثابت: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وما زاد على ذلك من الراوي.

وما ذكر أن يعقوب لما بلغه أن ولده بنيامين أخذ بسبب السرقة كتب إلى العزيز وهو يومئذ ولده يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم، من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر. أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فربطت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليذبح، ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إليّ فذهب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به، وإنك حبسته، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام لم يثبت.

ففي كلام القاضي البيضاوي، وما روي أن يعقوب كتب ليوسف من يعقوب بن إسحاق ذبيح الله لم يثبت: أي ولعله لم يثبت أيضا ما في (أنس الجليل) أن موسى لما أراد مفارقة شعيب وذهابه إلى وطنه بمملكة فرعون بسط شعيب يديه وقال: يا رب إبراهيم الخليل، وإسماعيل الصفي، وإسحاق الذبيح، ويعقوب الكظيم، ويوسف الصديق رد على قوتي وبصري فأمّن موسى على دعائه، فرد الله عليه بصره وقوّته.

وذكر أن يعقوب رأى ملك الموت في منامه، فقال له: هل قبضت روح يوسف؟ فقال لا والله هو حي وعلمه ما يدعو به وهو: يا ذا المعروف الدائم الذي لا ينقطع معروفه أبدا، ولا يحصيه غيره فرج عني.

وذكر أن سبب ذبح إسحاق أي على القول بأنه الذبيح أن الخليل قال لسارة إن جاءني منك ولد فهو لله ذبيح، فجاءت سارة بإسحاق، وكان بينه وبين ولادة هاجر لإسماعيل ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة، وإسحاق اسمه بالعبرانية الضحاك. وجاء في حديث راويه ضعيف «الذبيح إسحق» وأن داود سأل ربه فقال أي ربي اجعلني مثل آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر، وابتليت إسحاق بالذبح فصبر، وابتليت يعقوب: أي بفقد ولده يوسف فصبر الحديث.

وعن ابن عباس   في قوله تعالى {وبشرناه بإسحاق نبيا} قال بشر به نبيا حين فداه الله تعالى من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده: أي لما صبر الأب على ما أمر به وسلم الولد لأمر الله تعالى جعلت المجازاة على ذلك بإعطاء النبوة. قال الحافظ السيوطي: وجزم بهذا القول عياض في الشفاء، والبيهقي في التعريف والإعلام، وكنت ملت إليه في علم التفسير، وأنا الآن متوقف عن ذلك أي كون إسحاق هو الذبيح، هذا كلامه. وقد تنبأ كل من إسمعيل وإسحاق ويعقوب في حياة إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فبعث الله إسماعيل لجرهم، وإسحق إلى أرض الشام، ويعقوب إلى أرض كنعان. ولا ينافي ذلك أي كون إسحاق هو الذبيح تبسمه من قول القائل له يا ابن الذبيحين ولم ينكر عليه، لأن العرب كما تقدم تسمي العمّ أبا.

وفي الهدي: إسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما القول بأنه إسحاق فمردود بأكثر من عشرين وجها. ونقل عن الإمام ابن تيمية أن هذا القول متلقى من أهل الكتاب مع أنه باطل بنص كتابهم الذي هو التوراة، فإن فيه أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره. وفي لفظ وحيده، وقد حرفوا ذلك في التوراة التي بأيديهم اذبح أبنك إسحاق، أي ومن ثم ذكر المعافى بن زكريا أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا أسلم من علماء اليهود أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين إن اليهود يعلمون أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون أباكم للفضل الذي ذكره الله تعالى عنه، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أطبوهم، ولي رسالة في ذلك سميتها (القول المليح في تعيين الذبيح) رجحت فيها القول بأن الذبيح إسماعيل جوابا عن سؤال رفعه إليّ بعض الفضلاء.

وعلى أن الذبيح إسماعيل فمحل الذبح بمنى. وعلى أنه إسحاق فمحله معروف بالأرض المقدسة على ميلين من بيت المقدس.

وفي كلام ابن القيم تأييد كون الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ولو كان الذبيح بالشام كما يزعم أهل الكتاب لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة. واستشكل كون أولاد عبد المطلب عند إرادة ذبح عبد الله كانوا عشرة بأن حمزة ثم العباس إنما ولدا بعد ذلك، وإنما كانوا عشرة بهما، وحينئذ يشكل قول بعضهم: فلما تكامل بنوه عشرة وهم الحرث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله، هذا كلامه.

وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون له حينئذ أي عند إرادة الذبح ولدا ولد: أي فقد ذكر أن لولده الحرث ولدين أبو سفيان ونوفل، وولد الولد يقال له ولد حقيقة، هذا.

وذكر بعضهم أن أعمامه كانوا اثني عشر، بل قيل ثلاثة عشر، وأن عبد الله ثالث عشرهم، وعليه فلا إشكال، ولا يشكل كون حمزة أصغر من عبد الله والعباس أصغر من حمزة، وكلاهما أصغر من عبد الله، على ما تقدم من أن عبد الله كان أصغر بني أبيه وقت الذبح، لأنه يجوز أن يكون المراد أنه كان أصغرهم حين أراد ذبحه: أي لا بقيد كونهم عشرة أو بذلك القيد. ولا ينافيه كونه ثالث عشرهم، لأن المراد به واحد من الثلاثة عشر. وكان عبد الله كما تقدم أحسن فتى يرى في قريش وأجملهم، وكان نور النبي يرى في وجهه كالكوكب الدري: أي المضيء المنسوب إلى الدر، حتى شغفت به نساء قريش، ولقي منهن عناء، ولينظر ما هذا العناء الذي لقيه منهن.

قيل إنه لما تزوج آمنة لم تبق امرأة من قريش من بني مخزوم وعبد شمس وعبد مناف إلا مرضت: أي أسفا على عدم تزوجها به، فخرج مع أبيه ليزوجه آمنة بنت وهب ابن عبد مناف بن زهرة، بضم الزاي وفتح الهاء. والزهرة في الأصل هي البياض: أي وأم وهب اسمها قيلة بنت أبي كبشة: أي وكان عمر عبد الله حينئذ نحو ثمان عشرة سنة () فمر على امرأة من بني أسد ابن عبد العزي أي يقال لها قتيلة، وقيل رقية، وهي أخت ورقة بن نوفل وهي عند الكعبة، وكانت تسمع من أخيها ورقة أنه كائن في هذه الأمة نبي أي وأن من دلائله أن يكون نورا في وجه أبيه، أو أنها أنعمت ذلك، فقالت لعبد الله: أي وقد رأت نور النبوة في غرته () أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي، قالت: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع على الآن، قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، وأنشد:

أما الحرام فالممات دونه ** والحل لا حل فأستبينه

يحمي الكريم عرضه ودينه ** فكيف الأمر الذي تبغينه

قال: ومن شعر عبد الله والده كما في تذكرة الصلاح الصفدي:

لقد حكم البادون في كل بلدة ** بأن لنا فضلا على سادة الأرض

وأن أبي ذو المجد والسؤدد الذي ** يشار به ما بين نشز إلى خفض

أي ارتفاع وانخفاض.

وعن أبي يزيد المديني أن عبد المطلب لما خرج بابنه عبد الله ليزوجه، فمر به على امرأة كاهنة من أهل تبالة: بضم التاء المثناة فوق بلدة باليمن قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت له: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال عبد الله ما تقدم اهـ.

أقول: قال الكلبي: كانت أي تلك الكاهنة من أجمل النساء وأعفهن، فدعته إلى نكاحها فأبى. ولا منافاة، لأنه جاز أن تكون أرادت بقولها قم علي الآن أي بعد النكاح وفهم عبد الله أنها تريد الأمر من غير سبق نكاح، فأنشد الشعر المتقدم الدال على طهارته وعفته، وهذا بناء على اتحاد الواقعة، وأن المرأة في هاتين الواقعتين واحدة، وأنه اختلف في اسمها، وأنه مر على تلك المرأة في ذهابه مع أبيه ليزوجه آمنة، ويدل لذلك «فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت».

وظاهر سياق المواهب يقتضي أنهما قضيتان، وأن الأولى عند انصرافه مع أبيه ليزوجه آمنة.

وقوله قد قرأت الكتب: أي فجاز أنها رأت في تلك الكتب أن النبي المنتظر يكون نورا في وجه أبيه، وأنه يكون من أولاد عبد المطلب، أو أنها ألهمت ذلك فطمعت أن يكون ذلك النبي منها، ويؤيد الثاني ما سيأتي عنها، والله أعلم.

فأتى عبد المطلب عم آمنة وهو وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبا وشرفا، وكانت في حجره لموت أبيها وهب بن عبد مناف.

وقيل أتى عبد المطلب إلى وهب بن عبد مناف فزوجه ابنته آمنة، وقدم هذا في الإستيعاب، فزوجها لعبد الله وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، فدخل بها عبد الله حين أملك عليها مكانه، فوقع عليها، فحملت برسول الله وانتقل ذلك النور إليها.

قيل وقع عليها يوم الاثنين في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى.

أقول فيه: أنه سيأتي في فتح مكة أنه نزل بالحجون، بفتح الحاء المهملة عند شعب أبي طالب بالمكان الذي حصرت فيه بنو هاشم وبنو المطلب.

ويمكن أن يقال: ذلك الشعب الذي كان في الحجون كان محلا لسكن أبي طالب في غير أيام مني، وهذا الشعب الذي عند الجمرة الوسطى كان ينزل فيه أبو طالب أيام منى فلا مخالفة، والله أعلم.

ثم أقام عندها ثلاثة أيام، وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته أي عند أهلها أي فهي وأهلها كانوا بشعب أبي طالب، ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت بالأمس؟ فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي اليوم بك حاجة.

قال: وفي رواية أنه لما مر عليها بعد أن وقع على آمنة قال لها: مالك لا تعرضين علي ما عرضت بالأمس؟ قالت: من أنت؟ قال: أنا فلان، قالت له: ما أنت هو، لقد رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن، ما صنعت بعدي؟ فأخبرها، فقالت: والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكن رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في، وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، إذهب فأخبرها أنها حملت بخير أهل الأرض اهـ.

أقول: وفي رواية أن المرأة التي عرضت نفسها عليه هي ليلة العدوية، وأن عبد الله كان في بناء له وعليه الطين والغبار، وأنه قال: حتى أغسل ما علي وأرجع إليك، وأنه رجع إليها بعد أن وقع على آمنة وانتقل منه النور إليها، وقال لها: هل لك فيما قلت، قالت: لا، قال: ولم؟ قالت: لقد دخلت بنور وما خرجت به.

أي وفي سيرة ابن هشام مررت بي وبين عينيك غرة فدعوتك فأبيت ودخلت على آمنة فذهبت بها، ولئن كنت أي وحيث كنت ألممت بآمنة لتلدن ملكا.

ولا يخفى أن تعدد الواقعة ممكن، وأن هذا السياق يدل على أنه هذه المرأة كان عندها علم بأن عبد الله تزوج آمنة، وأنه يريد الدخول بها، وأنها علمت أنه كائن نبي يكون له الملك والسلطان. وغير خاف أن عرض عبد الله نفسه على المرأة لم يكن لريبة، بل ليستبين الأمر الذي دعاها إلى بذل القدر الكثير من الإبل في مقابلة هذا الشيء على خلاف عادة النساء مع الرجال، ولا يخالف ذلك، بل يؤكده ما في الوفاء من قوله: ثم تذكر الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه، فأقبل إليها الحديث، والله أعلم.

وعن الكلبي أنه قال: كتبت للنبي خمسمائة أم: أي من قبل أمه وأبيه، فما وجدت فيهن سفاحا، والمراد بالسفاح الزنا: أي فإن المرأة كانت تسافح الرجل مدة ثم يتزوجها إن أراد () ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية أي من نكاح الأم: أي زوجة الأب، لأنه كان في الجاهلية يباح إذا مات الرجل أن يخلفه على زوجته أكبر أولاده من غيرها. وفي كلام بعضهم: كان أقبح ما يصنعه أهل الجاهلية الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوج بامرأة الأب ويسمونه الضيزن. والضيزن: الذي يزاحم أباه في امرأته. ويقال له نكاح المقت: وهو العقد على الرابة، وهي امرأة الأب، والراب: زوج الأم.

وما قيل إن هذا أي نكاح امرأة الأب وقع في نسبه لأن خزيمة أحد آبائه لما مات خلف على زوجته أكبر أولاده وهو كنانة فجاء منها بالنضر فهو قول ساقط غلط، لأن الذي خلف عليها كنانة بعد موت أبيه ماتت ولم تلد منه، ومنشأ الغلط أنه تزوج بعدها بنت أخيها، وكان اسمها موافقا لاسمها فجاء منها بالنضر.

وبهذا يعلم أن قول الإمام السهيلي نكاح زوجة الأب كان مباحا في الجاهلية بشرع متقدم ولم يكن من المحرمات التي انتهكوها ولا من العظائم التي ابتدعوها، لأنه أمر كان في عمود نسبه، فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت مرة فولدت له النضر بن كنانة.

وهاشم أيضا قد تزوج امرأة أبيه واقدة فولدت له ضعيفة، ولكن هذا خارج من عمود نسب رسول الله، لأنها أي واقدة لم تلد جدا له، وقد قال «أنا من نكاح لا من سفاح» ولذلك قال الله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} أي إلا ما قد سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام.

وفائدة هذا الاستثناء أن لا يعاب نسب رسول الله، وليعلم أنه لم يكن في أجداده من كان من بغية ولا من سفاح. ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه القرآن: أي مما لم يبح لهم إلا ما قد سلف نحو قوله تعالى {ولا تقربوا الزنا} ولم يقل إلا ما قد سلف {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} ولم يقل إلا ما قد سلف، ولا في شيء من المعاصي التي نهى عنها إلا في هذه. وفي الجمع بين الأختين، لأن الجمع بين الأختين قد كان مباحا أيضا في شرع من كان قبلنا.

وقد جمع يعقوب بين راحيل وأختها ليا، فقوله «إلا ما قد سلف» التفات هذا المعنى، هذا كلامه، فلا التفات إليه ولا معول عليه. على أن قوله إن يعقوب جمع بين الأختين ينازعه قول القاضي البيضاوي: إن يعقوب إنما تزوج ليا بعد موت أختها راحيل.

وفي أسباب النزول للواحدي أن في البخاري عن أسباط. قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها فألقى ثوبه على تلك المرأة وصار أحق بها من نفسها ومن غيرها، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها من غير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها وضارّها لتفتدي منه، فمات بعض الأنصار فجاء ولد من غيرها وطرح ثوبه عليها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها ليضارها لتفتدي منه، فأتت تلك المرأة وشكت حالها للنبي، فأنزل الله تعالى الآية {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} الآية.

وقيل توفي أبو قيس فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدك ولدا، ولكني آتي رسول الله فأستأمره، فأتته فأخبرته، فأنزل الله تعالى الآية.

وعن البراء بن عازب   قال: لقيت خالي يعني أبا الدرداء   ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟ قال «أرسلني رسول الله إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أضرب عنقه» زاد في رواية أحمد «وآخذ ماله».

وذكر بعضهم أن الجاهلية كان إذا أراد الشخص أن يتزوج يقول خطب، ويقول أهل الزوجة نكح، ويكون ذلك قائما مقام الإيجاب والقبول.

ومن نكاح الجاهلية الجمع بين الأختين، فإنه كان مباحا عندهم: أي مع استقباحهم له كما تقدم.

وذكر بعضهم أن قبل نزول التوراة كان يجوز الجمع بين الأختين: أي ثم حرم ذلك نزولها. قال: وقد افتخر رسول الله بجداته أي تحدث بنعمة ربه قاصدا به التنبيه على شرف هؤلاء النسوة وفضلهن على غيرهن، فقال «أنا ابن العواتك والفواطم».

فعن قتادة «أن رسول الله أجرى فرسه مع أبي أيوب الأنصاري فسبقته فرس المصطفى، فقال: أنا ابن العواتك، إنه لهو الجواد البحر يعني فرسه».

وقال في بعض غزواته أي في غزوة حنين وفي غزوة أحد «أنا النبي لا كذب، أنا بن عبد المطلب، أنا ابن العواتك». وجاء «أنا ابن العواتك من سليم» والعاتكة في الأصل المتلطخة بالطيب أو الطاهرة.

وعن بعض الطالبين أن رسول الله قال في يوم أحد «أنا ابن الفواطم» أي ولا ينافيه ما سبق أنه قال في ذلك اليوم «أنا ابن العواتك» لأنه يجوز أن يكون قال كلا من الكلمتين في ذلك اليوم.

واختلف الناس في عدد العواتك من جداته، فمن مكثر ومن مقلّ.

وقد نقل الحافظ ابن عساكر أن العواتك من جداته أربع عشرة وقيل إحدى عشرة: أي وأولهن أم لؤي بن غالب واللواتي من بني سليم. منهن عاتكة بنت هلال أم عبد مناف، وعاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم هاشم، وعاتكة بنت مرة بن هلال أم أبي أمه وهب: أي وقيل أراد بالعواتك من سليم ثلاثة من بني سليم أبكارا أرضعنه كما سيأتي في قصة الرضاع، وكل واحدة منهن تسمى عاتكة. قال وعن سعد أن الفواطم من جداته عشرة اهـ.

أقول: وقيل خمس، وقيل ست، وقيل ثمان، ولم أقف على من اسمه فاطمة من جداته من جهة أبيه إلا على إثنين: فاطمة أم عبد الله، وفاطمة أم قصي، إلا أن يكون لم يرد الأمهات التي في عمود نسبه، بل أراد الأعم حتى يشمل فاطمة أم أسد بن هاشم، وفاطمة بنت أسد التي هي أم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وفاطمة أمها. وهؤلاء الفواطم غير الثلاث الفواطم اللاتي قال فيهن لعلي وقد دفع إليه ثوبا حريرا وقال له: «اقسم هذا بين الفواطم الثلاث» فإن هؤلاء فاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت أسد.

ثم رأيت بعضهم عدّ فيهن أم عمرو بن عائذ، وفاطمة بنت عبد الله بن رزام وأمها فاطمة بنت الحارث، وفاطمة بنت نصر بن عوف أمّ أم عبد مناف، والله أعلم.

وعن عائشة وابن عباس   عن النبي أنه قال: «خرجت من نكاح غير سفاح» أي زنا، فقد تقدم أن المرأة كانت تسافح الرجل مدة ثم يتزوجها إن أراد، فكانت العرب تستحل الزنا إلا أن الشريف منهم كان يتورع عنه علانية وإلا بعض أفراد منهم حرمه على نفسه في الجاهلية: أي وفي حديث غريب/ «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح الإسلام».

قال: وعن أبي هريرة   قال: قال رسول الله: «ما ولدني بغي قط منذ خرجت من صلب آدم ولم تزل تتنازعني الأمم كابرا عن كابر حتى خرجت من أفضل حيين من العرب هاشم وزهرة » اهـ.

أقول: والبغايا كنّ في الجاهلية ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون به شبه، فالتاط: أي تعلق والتحق به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك، والله أعلم.

قال: وعن أنس   قال: «قرأ رسول الله {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} بفتح الفاء وقال: أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح كلها نكاح» وفي رواية عن ابن عباس   «كنكاح الإسلام» أي يخطب الرجل إلى الرجل موليته فيصدقها ثم يعقد عليها اهـ.

وعن الإمام السبكي: الأنكحة التي نسبه منه إلى آدم كلها مستجمعة شروط الصحة كأنكحة الإسلام، ولم يقع في نسبه منه إلى آدم إلا نكاح صحيح مستجمع لشرائط الصحة كنكاح الإسلام الموجود اليوم. قال: فاعتقد هذا بقلبك وتمسك به، ولا تزل عنه فتخسر الدنيا والآخرة.

قال بعضهم: وهذا من أعظم العناية به، أن أجرى الله سبحانه وتعالى نكاح آبائه من آدم إلى أن أخرجه من بين أبويه على نمط واحد من وفق شريعته ولم يكن كما كان يقع في الجاهلية إذا أراد الرجل أن يتزوج قال خطب وتقول أهل الزوجة نكح كما تقدم، ويكون ذلك قائما مقام الإيجاب والقبول.

والمراد بنكاح الإسلام ما يفيد الحل حتى يشمل التسرّي، بناء على أن أم إسماعيل كانت مملوكة لإبراهيم حين حملت بإسماعيل، ولم يعتقها ولم يعقد عليها قبل ذلك.

وعن عائشة   كما في البخاري: «إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: نكاح كنكاح الناس اليوم» أي بإيجاب وقبول شرعيين دون أن يقول الزوج خطب ويقول أهل الزوجة نكح، وحينئذ يزيد على ذلك النكاح الذي كان يقال فيه ذلك «ونكاح البغايا. ونكاح الاستيضاع. ونكاح الجمع» أي ومن أنكحة الجاهلية نكاح زوجة الأب لأكبر أولاده والجمع بين الأختين، على ما تقدم، وحينئذ يكون المراد ليس في نسبه نكاح زوجة الأب، خلافا لم تقدم عن السهيلي، ولا الجمع بين الأختين، ولا نكاح البغايا، وهو أن يطأ البغيّ جماعة متفرقين واحدا بعد واحد، فإذا حملت وولدت ألحق الولد بمن غلب عليه شبه منهم، ولا الاستبضاع، وذلك أن المرأة كانت في الجاهلية إذا طهرت من حيضها يقول لها زوجها أرسلي إلى فلان استبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وليس فيه نكاح الجمع، وهو أن تجتمع جماعة دون العشرة ويدخلون على امرأة من البغايا ذوات الرايات كلهم يطؤها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت منهم، فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل إن لم يغلب شبهه عليه.

فنكاح البغايا، وحينئذ يحتمل أن تكون أم عمرو بن العاص   من القسم الثاني من نكاح البغايا، فإنه يقال إنه وطئها أربعة: وهم العاص، وأبو لهب، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، وادعى كلهم عمرا فألحقته بالعاص. وقيل لها لما اخترت العاص؟ قالت: لأنه كان ينفق على بناتي. ويحتمل أن يكون من القسم الأول ويدل عليه ما قيل إنه ألحق بالعاص لغلبة شبهه عليه، وكان عمرو يعير بذلك، عيره بذلك عليّ وعثمان والحسن وعمار بن ياسر وغيرهم من الصحابة رضي تعالى عنهم، وسيأتي ذلك في قصة قتل عثمان عند الكلام على بناء مسجد المدينة.

قال: وجاء، أنه قال «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» أي وفي رواية «لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة ».

وروى البخاري «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت في القرن الذي كنت فيه» وقد تقدم في قوله تعالى {وتقلبك في الساجدين} قيل من ساجد إلى ساجد، وتقدم ما فيه، ومن جملته قول أبي حيان إن ذلك استدل به بعض الرافضة على أن آباء النبي كانوا مؤمنين أي متمسكين بشرائع أنبيائهم.

ثم رأيت الحافظ السيوطي قال: الذي تلخص أن أجداده من آدم إلى مرة بن كعب مصرح بإيمانهم: أي في الأحاديث وأقوال السلف، وبقي بين مرة وعبد المطلب أربعة أجداد لم أظفر فيهم بنقل، وعبد المطلب سيأتي الكلام فيه.

وقد ذكر في عبد المطلب ثلاثة أقوال:

أحدها وهو الأشبه أنه لم تبلغه الدعوة: أي لأنه سيأتي أنه مات وسنه ثمان سنين.

والثاني أنه كان على ملة إبراهيم  : أي لم يعبد الأصنام.

والثالث أن الله تعالى أحياه له بعد البعثة حتى آمن به ثم مات، وهذا أضعف الأقوال وأوهاها، لم يرد قط في حديث ضعيف ولا غيره، ولم يقل به أحد من أئمة السنة وإنما حكى عن بعض الشيعة.

قال بعضهم: وقوله «من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» دليل على أن آباء النبي وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر، لأن الكافر لا يوصف بأنه طاهر. وفيه أن الطاهرية فيه يجوز أن يكون المراد بها ما قابل أنكحة الجاهلية المتقدمة. وقد أشار إلى إسلام آبائه وأمهاته صاحب الهمزية بقوله:

لم تزل في ضمائر الكون تختا ** ر لك الأمهات والآباء

أي لأن الكافر لا يقال إنه مختار لله.

والسبب الذي دعا عبد المطلب لاختيار بني زهرة ما حدّث به ولده العباس   قال: قال عبد المطلب: قدمنا اليمن في رحلة الشتاء، فنزلنا على حبر من اليهود يقرأ الزبور: أي الكتاب، ولعل المراد به التوراة فقال: من الرجل؟ قلت: من قريش، قال من أيهم؟ قلت من بني هاشم قال: أتأذن لي أن أنظر بعضك؟ قلت نعم ما لم يكن عورة، قال: ففتح إحدى منخريّ فنظر فيه ثم نظر في الأخرى فقال: أنا أشهد أن في إحدى يديك وهو مراد الأصل بقوله في منخريك ملكا وفي الأخرى نبوة، وإنما نجد ذلك: أي كلا من الملك والنبوة في بني زهرة، فكيف ذاك؟ قلت: لا أدري، قال: هل لك من شاعة؟ قلت: وما الشاعة؟ قال: الزوجة، أي لأنها تشايع أي تتابع وتناصر زوجها، قلت: أما اليوم فلا: أي ليست لي زوجة من بني زهرة إن كان معه غيرها، أو مطلقا إن لم يكن معه غيرها، فقال: إذا تزوجت فتزوج منهم: أي وهذا الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه، فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة يقال له حزاء بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة.

وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني عن شيخه سيدي علي الخواص نفعنا الله تعالى ببركاتهما أنه كان إذا نظر لأنف إنسان يعرف جميع زلاته السابقة واللاحقة إلى أن يموت على التعيين من صحة فراسته هذا كلامه.

أي ومن ذلك أن معاوية بن أبي سفيان   تزوج امرأة ولم يدخل بها، فقال لزوجته ميسون أم ابنه يزيد اذهبي فانظري إليها، فأتتها فنظرت إليها ثم رجعت إليه فقالت: هي بديعة الحسن والجمال ما رأيت مثلها، لكن رأيت خالا أسود تحت سرتها، وذلك يدل على أن رأس زوجها يقطع ويوضع في حجرها، فطلقها معاوية   ثم تزوجها النعمان بن بشير   وكان واليا على حمص، فدعا لابن الزبير وترك مروان ثم خاف من أهل حمص لما تبعوا مروان ففر هاربا فتبعه جماعة منها فقطعوا رأسه ووضعوها في حجر تلك المرأة، ثم بعثوا بتلك الرأس إلى مروان، وقتل النعمان هذا من أعلام نبوته لأن أمه لما ولدته وكان أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة على ما سيأتي حملته إلى رسول الله فدعا بتمرة فمضغها ثم وضعها في فيه فحنكه بها، فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يكثر ماله وولده، فقال: «أما ترضين أن يعيش حميدا ويقتل شهيدا ويدخل الجنة » وهو الذي أشار على يزيد بن معاوية بإكرام آل البيت لما قتل الحسين ممن كان مع الحسين من أولاده وأولاد أخيه وأقاربه، وقال له: عاملهم بما كان يعاملهم به رسول الله لو رآهم على هذه الحالة، فرقّ لهم يزيد وأكرمهم، ورده معهم، وأمره بإكرامهم على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

ومما يروى عنه أنه قال: سمعت رسول الله يقول: «إن للشيطان مصالي وفخوخا، وإن مصاليه وفخوخه البطر بنعم الله، والفخر بعطاء الله، والتكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله».

وقد ذكر أن حمص نزل بها تسعمائة من أصحاب النبي فيهم سبعون بدريا.

وفي حياة الحيوان أن حمص لا تعيش بها العقارب، وإذا طرحت فيها عقرب غريبة ماتت لوقتها، قيل لطلسم بها.

وفي حديث ضعيف أن حمص من مدن الجنة، وقيل الحزاء هو الكاهن، وقيل هو الذي يحزر الأشياء ويقدرها بظنه، ويقال للذي ينظر في النجوم فإنه ينظر فيها بظنه فربما أخطأ: أي لأن من علوم العرب الكهانة والعيافة والقيافة والزجر والخط: أي الرمل والطب، ومعرفة الأنواء ومهابّ الرياح.

فلما رجع عبد المطلب إلى مكة تزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف فولدت له حمزة وصفية وزوّج ابنه عبد الله آمنة بنت و هب أخي وهيب فولدت له رسول الله كما تقدم، فكات قريش تقول فلج عبد الله على أبيه: أي فاز وظفر لأن الفلج بالفاء واللام المفتوحتين والجيم الفوز والظفر، أي فاز وظفر بما لم ينله أبوه من وجود هذا المولود العظيم الذي وجد عند ولادته ما لم يوجد عند ولادة غيره.

أي وفي كلام ابن المحدّث أن عبد المطلب خطب هالة بنت وهيب عم آمنة في مجلس خطبة عبد الله لآمنة وتزوّجا وأولما ثم ابتنيا بهما. ثم رأيت في أسد الغابة ما يوافقه، وهو أن عبد المطلب تزوج هو وعبد الله في مجلس واحد، قيل: وفيه تصريح بأن عبد الله كان موجودا حين قال الحبر لعبد المطلب إن النبوة موجودة فيه، وكيف تكون موجودة فيه مع انتقالها لعبد الله؟ وقد يقال، من أين أن عبد المطلب تزوج هالة عقب مجئيه من عند الحبر حتى يكون قول الحبر لعبد المطلب صادرا بعد وجود عبد الله؟ جاز أن يكون ذلك صدر من الحبر لعبد المطلب قبل ولادة عبد الله. وفيه أن هذا لا يحسن إلا لو كانت أم عبد الله من بني زهرة، إلا أن يقال يجوز أن يكون عبد الله وجد من بني زهرة لجواز أن يكون عبد المطلب تزوج من بني زهرة غير هالة فأولدها عبد الله.

ثم إن قول الحبر لعبد المطلب: إنه يجد في إحدى يديه الملك وإنه ي كون في بني زهرة مشكل أيضا، لأن الملك لم يكن إلا في أولاد ولده العباس، ولا يستقيم إلا لو كانت أم العباس من بني زهرة. أما هالة التي هي أم حمزة أو غيرها وأم العباس ليست من بني زهرة، خلافا لما وقع في كلام بعضهم أن العباس ولدته هالة فهو شقيق حمزة لأنه خلاف ما اشتهر عن الحافظ، إلا أن يقال جاز أن يكون الملك والنبوة اللذان عناهما الحبر هما نبوته وملكه، لأنه أعطيهما: أي كلا من الملك والنبوة المنتقلين إليه من أبيه عبد الله، بناء على أن أم عبد الله من بني زهرة، ولعله لا ينافيه قول بعضهم: تزوج عبد المطلب فاطمة بنت عمرو وجعل مهرها مائة ناقة ومائة رطل من الذهب، فولدت له أبا طالب وعبد الله والد النبي، لأنه يجوز أن تكون فاطمة هذه من بني زهرة، وحينئذ لا يشكل قول الحبر: إذا تزوجت فتزوج منهم: أي من بني زهرة بعد قوله: ألك شاعة.

وقيل الذي دعا عبد المطلب لاختيار آمنة من بني زهرة لولده عبد الله أن سودة بنت زهرة الكاهنة وهي عمة وهب والد آمنة أمه كان من أمرها أنها لما ولدت رآها أبوها زرقاء شيماء أي سوداء وكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، أي يدفنونها حية، ويمسكون من لم يكن على هذه الصفة مع ذل وكآبة: أي لأنه سيأتي أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهنّ أحياء خصوصا كندة قبيلة من العرب خوف العار أو خوف الفقر والإملاق.

وكان عمرو بن نفيل يحيي الموؤودة لأجل الإملاق يقول للرجل إذا أراد أن يفعل ذلك لا تفعل أنا أكفيك مئونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مئونتها.

وكان صعصعة جد الفرزدق يفعل مثل ذلك فأمر أبوها بوأدها وأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك، فلما حفر لها الحافر وأراد دفنها سمع هاتفا يقول: لا تئد الصبية وخلها في البرية فالتفت فلم ير شيئا، فعاد لدفنها فسمع الهاتف يسجع بسجع آخر في المعنى فرجع إلى أبيها وأخبره بما سمع، فقال: إن لها لشأنا وتركها، فكانت كاهنة قريش فقالت يوما لبني زهرة: فيكم نذيرة أو تلد نذيرا، فاعرضوا عليّ بناتكنّ فعرضن عليها، فقالت في كل واحدة منهن قولا ظهر بعد حين حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب، فقالت: هذه النذيرة أو تلد نذيرا له شأن وبرهان منير: أي فاختيار عبد المطلب لآمنة من بني زهرة عبد الله واضح من سياق قصة هذه الكاهنة.

وأما اختياره لتزوجه بعض نساء بني زهرة، فسببه ما تقدم عن الخبر، بناء على أن أم عبد الله كانت من بني زهرة. وأما جعل الشمس الشامي ما تقدم عن الحبر سببا لتزويج عبد المطلب ابنه عبد الله امرأة من بني زهرة ففيه نظر ظاهر، إذ كيف يتأتى ذلك مع قوله إذا تزوجت فتزوج منهم بعد قوله: ألك شاعة، أي زوجة.

ثم رأيت ابن دحية   ذكر في التنوير عن البرقي: أن سبب تزويج عبد الله آمنة أن عبد المطلب كان يأتي اليمن، وكان ينزل فيها على عظيم من عظمائهم فنزل عنده مرة فإذا عنده رجل ممن قرأ الكتب، فقال له ائذن لي أن أفتش منخرك، فقال دونك فانظر، فقال: أرى نبوّة وملكا، وأراهما في المنافين عبد مناف بن قصي وعبد مناف بن زهرة، فلما انصرف عبد المطلب انطلق بابنه عبد الله فتزوج عبد المطلب هالة بنت وهيب فولدت له حمزة، وزوج ابنه عبد الله آمنة فولدت له رسول الله، وهذا واضح لأنه أسقط قول الحبر لعبد المطلب هل لك من شاعة إلى آخره، فاحتاط عبد المطلب فتزوج من بني زهرة وزوّج ولده عبد الله منهم، وحينئذ كان المناسب للبر في رحمة الله تعالى أن يزيد بعد قوله إن سبب تزويج عبد الله آمنة قوله وتزوج عبد المطلب هالة.

باب ذكر حمل أمه به صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الانبياء المرسلين

عن الزهري   قال: قالت آمنة: لقد علقت به فما وجدت له مشقة حتى وضعته. وعنها أنها كانت تقول: ما شعرت بفتح أوله وثانيه: أي ما علمت بأني حملت به، ولا وجدت له ثقلا بفتح القاف كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي بكسر الحاء: الهيئة التي تلزمها الحائض من التجنب. وأما بالفتح فالمرة الواحدة من دفعات الحيض: أي والذي ينبغي أن يكون الثاني هو المراد أن بعضهم نقل أن الحيضة بالكسر اسم الحيض، قالت: وربما ترفعني وتعود: أي فلم يكن رفعها دليلا على الحمل: أي وهذا ربما يفيد أن حيضها تكرر قبل حملها به ولم أقف على مقدار تكرره.

وقد ذكر أن مريم عليها السلام حاضت قبل حملها بعيسى   حيضتين، قالت آمنة: وأتاني آت أي من الملائكة وأنا بين النائمة واليقظانة، وفي رواية بين النائم: أي الشخص النائم واليقظان، فقال: هل شعرت بأنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها؟ أي وفي رواية بسيد الأنام: أي اعلمي ذلك، وأمهلني حتى دنت ولادتي أتاني فقال قولي أي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد.

أي ثم سميه محمدا فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، وفي القرآن محمد أي والقرآن كتابه، وسيأتي عن محمد الباقر   أن تسميه أحمد. قال بعضهم: ويذكر بعد هذا البيت أبيات لا أصل لها. وإذا ثبت أنها قالت له ذلك بعد ولادته كان دليلا لما يقوله بعض الناس أن آمنة رقت النبي من العين.

أقول: ظاهر هذا السياق أنها لم تعلم بحملها إلا من قول الملك لأنها لم تجد ما تستدل به على ذلك لأنها لم تجد ثقلا، وعادتها أن حيضها ربما عاد بعد عدم وجوده في زمنه المعتاد لها: أي ولم تعوّل على مفارقة النور لعبد الله وانتقال النور إلى وجهها على ما ذكر بعضهم. ففي كلام هذا البعض: لما فارق النور وجه عبد الله انتقل إلى وجه آمنة، ولا على خروج النور منها مناما أو يقظة بناء على أنه غير الحمل على ما يأتي لخفاء دلالة ما ذكر على ذلك، ولعل أباه عبد الله لم يبلغها قول المرأة التي عرضت نفسها عليه اذهب فأخبرها أنها حملت بخير أهل الأرض، والثقل في ابتداء الحمل الذي حمل عليه بعض الروايات كما سيأتي يجوز أن يكون بعد إخبار الملك لها. لكن في المواهب في رواية عن كعب   أن مجيء الملك لها كان بعد أن مضى من حملها ستة أشهر فليتأمل، فإن الستة أشهر لا يقال إنها ابتداء الحمل.

ونص الرواية: كانت آمنة تحدث وتقول: أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام وقال لي: يا آمنة إنك حملت بخير العالمين، فإذا ولدتيه فسميه محمدا واكتمي شأنك، إلا أن يقال يجوز تعدد الملك أو تكرر مجيء الملك لها فليتأمل والله أعلم.

وعن ابن عباس  : كان من دلالة حمل آمنة برسول الله أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة أي التي حمل فيها: أي في اليوم قبلها برسول الله أي بناء على ما هو الظاهر ممات قدم أنه حين وقع عليها انتقل إليها ذلك النور وقالت: حمل برسول الله ورب الكعبة، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا: أي ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي.

أقول: دلالة الأول على مطلق الحمل به لا على خصوص حمل آمنة به حينئذ واضحة.

وأما دلالة الثاني عليه فقد يتوقف فيها إلا أن يقال إن ذلك كان من علامة الحمل به في الكتب القديمة مع أن المدعي في كلام ابن عباس   إنما هو خصوص حمل آمنة به. على أن السياق يدل على أن المراد علم أمه بحملها به، والله أعلم.

وعن كعب الأحبار   أن في صبيحة تلك الليلة أصبحت أصنام الدنيا منكوسة: أي ولعل ذلك كان من علامة حمل أمه في الكتب القديمة، وقول الصادق لا يتخلف، وسيأتي أن عند ولادته أيضا تنكست الأصنام، ولا مانع من التعدد.

قال: وروى الحاكم وصححه «أن أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، فقال: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور» وفي لفظ «سراج» وفي لفظ «شهاب أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» قال الحافظ العراقي: وسيأتي أنها رأت النور خرج منها عند الولادة، وهو أولى لكون طرقه متصلة. ويجوز أن يكون خرج منها النور مرتين: مرة حين حملت به، ومرة حين وضعته: أي وكلاهما يقظة، ولا مانع من ذلك، أو هذه أي رؤية النور حين حملت به كانت مناما كما تصرح به الرواية الآتية وتلك يقظة، فلا تعارض بين الحديثين اهـ.

أقول: الرواية الآتية هي رواية شداد بن أوس، ولفظها أنها رأت في المنام أن الذي في بطنها خرج نورا: أي وهي تفيد أن ذلك النور هو نفس حملها، فهو بعد تحقق الحمل ووجوده، والرواية التي هنا تفيد أن النور غيره، وأنه كان وقت ابتداء وجود الحمل، فلا يصح حمل إحداهما على الأخرى، إلا أن يقال المراد بحين حملت زمن حملها، وأن النور كان هو ذلك الحمل، لكن الذي ينبغي أن تكون رواية شداد التي حملت عليها الرواية الأولى حاصلة قبيل الولادة، فتكون رأت النور عند الولادة مناما ويقظة تأنيسا لها.

على أنه يجوز إبقاء الروايات الثلاث على ظاهرها وأنها رأت مناما أنها خرج منها نور عند ابتداء الحمل، ثم رأت كذلك عند قرب ولادتها أن الذي في بطنها خرج نورا، ثم رأت يقظة عند وضعه خروج النور. وسيأتي في رواية عن أمه أنها قالت لما وضعته: خرج معه نور، وهي لا تخالف هذه الرواية الثالثة حتى تكون الرابعة، فبصرى أول بقعة من الشام خلص إليها نور النبوة.

وعلى أنه مرتين ناسب قدومه لها مرتين مرة مع عمه أبي طالب ومرة مع ميسرة غلام خديجة   كما سيأتي، وبها مبرك الناقة التي يقال إن ناقته بركت فيه، فأثر ذلك فيه، وبنى على ذلك المحل مسجد، ولهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام في الإسلام، وكان فتحها صلحا في خلافة أبي بكر الصديق   على يد خالد بن الوليد  ، وبها قبر سعد بن عبادة، وهي من أرض حوران، والله أعلم.

ووقع الاختلاف في مدة حمله، فعن ابن عايذ أي بالياء المثناة تحت والذال المعجمة «أنه بقي في بطن أمه تسعة أشهر كملا لا تشكو وجعا ولا مغصا ولا ريحا ولا ما يعارض لذوات الحمل من النساء» أي وقد ولد عند وجود المشتري وهو كوكب نير سعيد، فقد كانت ولادته عند وجود السعد الأكبر، والنجم الأنور، وكانت أمه تقول: ما رأيت من حمل هو أخفّ منه ولا أعظم بركة منه.

وروى ابن حبان   عن حليمة   عن آمنة أم النبي أنها قالت «إن لابني هذا شأنا، إني حملت به فلم أجد حملا قط كان أخف عليّ ولا أعظم منه بركة » وقيل بقي عشرة أشهر، وقيل ستة أشهر، وقيل سبعة أشهر، وقيل ثمانية أشهر: أي ويكون ذلك آية، كما أن عيسى ولد في الشهر الثامن كما قيل به مع نص الحكماء والمنجمين على أن من يولد في الشهر الثامن لا يعيش، بخلاف التاسع والسابع والسادس الذي هو أقل مدة الحمل: أي فقد قال الحكماء في بيان سبب ذلك إن الولد عند استكماله سبعة أشهر يتحرك للخروج حركة عنيفة أقوى من حركته في الشهر السادس، فإن خرج عاش، وإن لم يخرج استراح في البطن عقب تلك الحركة المضعفة له، فلا يتحرك في الشهر الثامن ولذلك تقل حركته في البطن في ذلك الشهر، فإذا تحرك للخروج وخرج فقد ضعف غاية الضعف فلا يعيش لاستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضعفه.

وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي  : لم أر للثمانية صورة في نجوم المنازل، ولهذا كان المولود إذا ولد في الشهر الثامن يموت ولا يعيش. وعلى فرض أن يعيش يكون معلولا لا ينتفع بنفسه، وذلك لأن الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس وهو طبع الموت: أي وقيل بل كان حمله ووضعه في ساعة واحدة، وقيل في ثلاث ساعات: أي وقيل بذلك في عيسى : أي وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله يقال لها سنة الفتح والابتهاج، فإن قريشا كانت قبل ذلك في جدب وضيق عظيم، فاخضرت الأرض، وحملت الأشجار، وأتاهم الرغد من كل جانب في تلك السنة وفي حديث مطعون فيه «قد أذن الله تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورا كرامة لرسول الله » أي ولم أقف على ما يجري على ألسنة المداح من أنه كان يذكر الله في بطن أمه، كما نقل عن عيسى أنه كان يكلم أمه إذا خلت عن الناس ويسبح الله ويذكره إذا كانت مع الناس وهي تسمع، وعن شداد بن أوس   قال «بينا نحن جلوس مع رسول الله إذ أقبل شيخ كبير من بني عامر هو مدرة قومه» أي المقدم فيهم «يتوكأ على عصا فمثل بين يدي النبي ونسبه إلى جده، فقال: يا ابن عبد المطلب إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء إلا أنك فهت بعظيم، وإنما كانت الأنبياء والخلفاء» أي معظمهم «في بيتين من بني إسرائيل وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فما لك وللنبوة، ولكن لكل حق حقيقة فأنبئني بحقيقة قولك وبدء شأنك؟ قال: فأعجب النبي بمسألته ثم قال: يا أخا بني عامر إن لهذا الحديث الذي سألتني عنه نبأ ومجلسا فاجلس فثنى رجليه ثم برك كما يبرك البعير، فاستقبله النبي بالحديث فقال: يا أخا بني عامر إن حقيقة قولي وبدء شأني أني دعوة أبي إبراهيم : أي حيث قال أي (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) رأي أي وعند ذلك قيل له قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان» كذا في تفسير ابن جرير.

قال في ينبوع الحياة: أجمعوا على أن الرسول المذكور ههنا هو محمد.

أقول: وفيه أن جبريل أعلم إبراهيم قبل ذلك بأنه يوجد نبي من العرب من ذرية ولده إسماعيل. فقد جاء أن إبراهيم لما أمر بإخراج هاجر أمّ ولده إسماعيل حمل هو وهي وولدها على البراق، فلما أتى مكة قال له جبريل: انزل فقال: حيث لا زرع ولا ضرع قال: نعم ههنا يخرج النبي الأمي من ذرية ولدك يعني إسماعيل الذي تتم به الكلمة العليا، إلا أن يقال الغرض من دعائه بذلك تحقيق حصوله، وتقدم أن أم إسماعيل قالت لإبراهيم ما قاله لجبريل، والله أعلم، ثم قال «وبشرى أخي عيسى» وفي رواية «إن آخر من بشر بي عيسى » أي آخر نبي بشر بي من الأنبياء عيسى، بدليل الرواية الأخرى «وكان آخر من بشر بي عيسى» لأن الأنبياء بشرت به قومها، وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله:

ما مضت فترة من الرسل إلا ** بشرت قومها بك الأنبياء

وبشرى عيسى في قوله تعالى: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} أي والمبشر بهم من الأنبياء قبل وجودهم أيضا أربعة: إسحاق ويعقوب ويحيى وعيسى، قال الله تعالى في حق سارة {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} قيل بشرت بأن تبقى إلى أن يولد يعقوب لولدها إسحاق، وقال في حق زكريا {إن الله يبشرك بيحيى} وقال: في حق مريم {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح} ثم قال «وإني كنت بكر أبي وأمي وإنها حملتني كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشكو إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إنها رأت في المنام أن الذي في بطنها خرج نورا، قالت فجعلت أتبع بصري النور والنور يسبق بصري حتى أضاءت له مشارق الأرض ومغاربها» الحديث، وستأتي تتمته في الرضاع: أي وقال ابن الجوزي: ممن روى عن أمه هو لما قيل له يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال «دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، قالت خرج مني نور أضاءت له قصور الشام».

قال الحافظ أبو نعيم: الثقل الذي وقع في هذه الرواية كان ابتداء الحمل، والخفة التي جاءت فيما سبق من الروايات كانت عند استمرار الحمل ليكون ذلك خارجا عن المعتاد كذا قال.

أقول: قد قدمنا أنه يجوز أن يكون هذا الثقل الواقع في ابتداء الحمل كان بعد إخبار الملك لها بالحمل، فلا يخالف ما سبق. وفيه ما سبق والجواب عنه لكن تقدم عن الزهري قال: قالت آمنة لقد علقت به فما وجدت له مشقة حتى وضعته.

ويمكن أن يكون المراد بالمشقة ما تقدم في بعض الروايات «لم تشك وجعا ولا مغصا ولا ريحا، ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء» أي فمع وجود الثقل لم يحصل لها المشقة المذكورة وحينئذ لا ينافي ذلك شكواها ما تجده من ثقله، والله تعالى أعلم.

باب وفاة والده

عن ابن إسحاق: لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب أن توفي وأم رسول الله حامل به: أي كما عليه أكثر العلماء () وصححه الحافظ الدمياطي، وسيأتي في بعض الروايات ما يدل على أن ذلك من علامات نبوته في الكتب القديمة قيل وإن موت والده كان بعد أن تم لها من حملها شهران، وقيل قبل ولادته بشهرين، وقيل كان في المهد حين توفي أبوه ابن شهرين. وذكر السهيلي أن عليه أكثر العلماء، فليتأمل مع ما قبله، وقيل كان ابن سبعة أشهر. أي وقيل ابن تسعة أشهر، وقيل وعليه الأكثرون. والحق أنه قول كثيرين لا الأكثرين () وقيل ابن ثمانية عشر شهرا وقيل: ابن ثمانية وعشرين شهرا: أي وما يأتي في الرضاع من أن المراضع أبته ليتمه يخالفه لتمام زمن الرضاع وكذا يخالف القول الذي قبله، لأنه لم يبق من زمن الرضاع إلا شهران، وكانت وفاته بالمدينة خرج إليها ليمتار تمرا أو لزيارة أخواله بها: أي أخوال أبيه عبد المطلب () بني عدي بن النجار: أي ولا مانع من قصد الأمرين معا، وقيل خرج إلى غزة في عير من عيرات قريش، والعيرات بكسر العين وفتح المثناة تحت جمع عير: وهي التي تحمل الميرة، خرجوا للتجارة ففرغوا من تجارتهم وانصرفوا فمروا بالمدينة وعبد الله مريض، فقال أنا أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، والنجار هذا اسمه تميم وقيل له النجار لأنه اختتن بقدوم: أي وهو آلة النجار، وقيل لأنه نجر وجه رجل بقدوم فأقام عندهم مريضا شهرا: أي وهذا أثبت من الأول() ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم أبوه عبد المطلب عنه، فقالوا خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه أخاه الحارث وهو من أكبر أولاد عبد المطلب كما تقدم: أي ومن ثم كان يكنى به، ولم يدرك الإسلام فوجده قد توفي.

أي وفي أسد الغابة أن عبد المطلب أرسل إليه ابنه الزبير شقيق عبد الله فشهد وفاته، ودفن في دار التابعة بالتاء المثناة فوق والباء الموحدة والعين المهملة: أي وهو رجل من بني عدي بن النجار: أي فقد جاء أنه لما هاجر إلى المدينة ونظر إلى تلك الدار عرفها وقال: «ها هنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار».

ومن هذا ومما جاء عن عكرمة عن ابن عباس   «أنه كان هو وأصحابه يسبحون في غدير أي في الحجفة، فقال النبي   لأصحابه: ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه، فسبح كل رجل إلى صاحبه وبقي النبي   وأبو بكر فسبح النبي   إلى أبي بكر   حتى اعتنقه وقال أنا وصاحبي أنا وصاحبي» وفي رواية «أنا إلى صاحبي أنا إلى صاحبي» يعلم رد قول بعضهم وقد سئل هل عام؟ الظاهر لا، لأنه لم يثبت أنه سافر في بحر ولا بالحرمين بحر، قال: و قيل قد توفي ودفن أبوه بالأبواء: محل بين مكة والمدينة اهـ.

أقول سيأتي أن الذي بالأبواء قبر أمه على الأصح، فلعل قائل ذلك اشتبه عليه الأمر، لأنه يجوز أن يكون سمعه يقول وهو بالأبواء «هذا قبر أحد أبوي».

وقد ذكر بعضهم في حكمة تربيته يتيما ما لا نطيل به، وقد جاء «ارحموا اليتامى وأكرموا الغرباء، فإني كنت في الصغر يتيما، وفي الكبر غريبا» وقد جاء «إن الله لينظر كل يوم إلى الغريب ألف نظرة » والله أعلم.

وأورد الخطيب عن عائشة   أن الله أحيا له أباه وآمن به وفي المواهب «أحيا الله له أبويه حتى آمنا به» قال السهيلي: وفي إسناده مجاهيل. وقال الحافظ ابن كثير: إنه حديث منكر جدا وسنده مجهول. وقال ابن دحية: هو حديث موضوع. قال: ويرده القرآن والإجماع وعلى ثبوته يكون ناسخا أي معارضا لقوله وقد سأله رجل «أين أبي؟ فقال في النار، فلما قفا أي ولى دعاه وقال له إن أبي وأباك في النار» وفيه أن هذا رواه مسلم فلا يكون ذلك الحديث ناسخا أي معارضا له.

أقول: هو على تقدير ثبوته يكون معارضا على أن حديث مسلم هذا لم تتفق الرواة على قوله فيه إن أبي وأباك في النار، وهذه اللفظة إنما رواها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وخالفه معمر عن ثابت عن أنس، فروى بدل ذلك إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار، وقد نصوا على أن معمرا أثبت من حماد، فإن حمادا تكلم في حفظه، ووقع في أحاديثه مناكير. ذكروا أن ربيعة دسها في كتبه، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها. وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا استنكر شيء من حديثه. وأيضا ما رواه معمر ورد من حديث سعد بن أبي وقاص  ، فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عائذ بن سعد عن أبيه «أن أعرابيا قال لرسول الله أين أبي؟ فقال، في النار، قال: فأين أبوك؟ قال حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» وهذا الاسناد على شرط الشيخين، فاللفظ الأول من تصرف الراوي رواه بالمعنى بحسب ما فهم فأخطأ.

وذكر الحافظ السيوطي أن مثل هذا وقع في الصحيحين في روايات كثيرة، من ذلك حديث مسلم عن أنس في نفي قراءة البسملة، والثابت من طريق آخر نفي سماعها ففهم منه الراوي نفي قراءتها، فرواها بالمعنى على ما فهمه فأخطأ، كذا أجاب إمامنا الشافعي   عن حديث نفي قراءة البسملة. والذي ينبغي أن يقال: يجوز أن يكون هذا أي ما في الصحيح كان قبل أن يسأل الله تعالى أن يحييه له فأحياه وآمن به كما أشار إليه الأصل، أو أنه قال ذلك لمصلحة إيمان ذلك السائل، بدليل أنه لم يتدارك إلا بعد ما قفا، فظهر له من حاله أنه تعرض له فتنة: أي يرتد عن الإسلام، فأتى له بما هو شبيه بالمشاكلة مريدا بأبيه عمه أبا طالب لا عبد الله، لأنه كان يقال لأبي طالب: قل لابنك يرجع عن شتم آلهتنا، وقالوا له: أعطنا ابنك وخذ هذا مكانه، فقال أعطيكم ابني تقتلونه، إلى غير ذلك مما يأتي. على أنه تقدم أن العرب تسمي العم أبا.

لا يقال على ثبوت هذا الحديث وصحته التي صرح بها غير واحد من الحفاظ ولم يلتفتوا لمن طعن فيه: كيف ينفع الإيمان بعد الموت.

لأنا نقول: هذا من جملة خصوصياته، لكن قال بعضهم: من ادعى الخصوصية فعليه الدليل: أي لأن الخصوصية لا تثبت بمجرد الاحتمال، ولا تثبت بحديث صحيح. وفي كلام القرطبي: قد أحيا الله سبحانه وتعالى على يديه جماعة من الموتى.

وإذا ثبت ذلك فما يمنع إيمان أبويه بعد إحيائهما، ويكون ذلك زيادة في كرامته وفضيلته، ولو لم يكن إحياء أبويه نافعا لإيمانهما وتصديقهما لما أحييا كما أن رد الشمس لو لم يكن نافعا في بقاء الوقت لم ترد، والله أعلم.

قال الواقدي: المعروف عندنا وعند أهل العلم أن آمنة وعبد الله لم يلدا غير رسول الله. ونقل سبط ابن الجوزي أن عبد الله لم يتزوج قط غير آمنة، ولم تتزوج آمنة قط غيره. ونقل إجماع علماء النقل على أن آمنة لم تحمل بغير النبي، ومعنى قولها: لم أحمل حملا أخف منه المفيد أنها حملت بغيره أنه خرج على وجه المبالغة اهـ.

أقول: هذه الرواية لم أقف عليها، والذي تقدم ما رأيت من حمل هو أخف منه. وفي رواية أخرى: حملت به فلم أجد حملا قط أخف منه علي وحمل الرؤية والوجدان على العلم الحاصل بإخبار غيرها من ذوات الحمل لها عن حالهن ممكن، فلا يقتضي ذلك أنها حملت بغيره. ولا ينافيه قولها أخف عليّ لأن المراد عليّ فيما علمت، والله أعلم.

قال: والحافظ ابن حجر نسب سبط ابن الجوزي في نقل الإجماع إلى المجازفة فقال: وجازف سبط ابن الجوزي كعادته في نقل الإجماع، ولا يمتنع أن تكون آمنة أسقطت من عبد الله سقطا فأشارت بقولها المذكور إليه اهـ.

أقول: وحينئذ تكون حملت بذلك السقط بعد ولادته، بناء على أن والده لم يمت وهو حمل، بل بعد وضعه، وأنها وجدت المشقة في حمل ذلك السقط، وأن إخبارها بذلك تأخر عن حملها بذلك السقط، وأنها رأت في حملها بذلك السقط من الشدة ما لم تجده في حمله.

وأما حملها بذلك السقط قبل حملها به فلا يتأتى، لمخالفته لما تقدم من أن عبد الله دخل بها حين أملك عليها، وانتقل إليها النور عند ذلك، ولأنه يخرج بذلك عن كونه بكر أبيه وأمه.

وأما رواية حملت الأولاد فما وجدت حملا، فقال فيها الواقدي: لانعرف عند أهل العلم كما بينا ذلك في الكوكب المنير. على أن إمكان حملها بسقط لا يقدح في نقل الإجماع على أنها لم تحمل بغيره، لإمكان أن مراده حملا تاما.

وفي الخصائص الصغرى للجلال السيوطي: ولم يلد أبواه غيره والله أعلم.

قال: وترك عبد الله جاريته أم أيمن بركة الحبشية، أسلمت قديما هي وولدها أيمن وكان من عبد حبشي يقال له عبيد اهـ.

أقول: في كلام ابن الجوزي أنه أعتقها حين تزوج خديجة، وزوّجها عبيدا الحبشي بن زيد من بني الحرث فولدت أيمن. ولا ينافيه ما في الإصابة: كانت أم أيمن تزوجت في الجاهلية بمكة عبيدا الحبشي ابن زيد، وكان قدم مكة وأقام بها، ثم نقل أم أيمن إلى يثرب فولدت له أيمن، ثم مات عنها، فرجعت إلى مكة، فتزوجها زيد بن حارثة قاله البلاذري، والله أعلم.

قال: وقد زوجها أي بعد النبوة مولاه زيد بن حارثة: أي وإنما رغب زيد فيها لما سمعه يقول: «من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج بأم أيمن» فجاءت منه أسامة فكان يقال له الحب ابن الحب.

وقيل أعتقها عبد الله قبل موته. وقيل كانت لأمه، وترك: أي عبد الله خمسة أجمال وقطعة من غنم، فورث ذلك رسول الله من أبيه اهـ أي فهو يرث ولا يورث. قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة ».

ودعوى بعضهم أنه لم يرث بناته اللاتي متن في حياته، فعلى تقدير صحته جاز أن يكون ترك أخذ ميراثه تعففا وسيأتي. وقال ابن الجوزي وأصاب أم أيمن هذه عطش في طريقها لما هاجرت: أي إلى المدينة على قدميها وليس معها أحد وذلك في حر شديد، فسمعت شيئا فوق رأسها، فتدلى عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض فشربت منه حتى رويت، وكانت تقول: ما أصابني عطش بعد ذلك ولو تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر ما عطشت: أي وفي مزيل الخفاء قال الواقدي: كانت أم أيمن عسرة اللسان، فكانت إذا دخلت على قوم قالت سلام لا عليكم: أي بدل سلام الله عليكم، فرخص لها رسول الله أن تقول: سلام عليكم أو السلام عليكم، هذا كلامه فليتأمل، فإن هذا يقتضي أن الصيغة الأصلية في السلام سلام الله عليكم، مع أن الصيغة في السلام إما السلام عليكم أو سلام عليكم، وكذا عليكم السلام، ولم تذكر أئمتنا تلك الصيغة.

وعن عائشة  : «شرب رسول الله يوما وأم أيمن عنده، فقالت: يا رسول الله اسقني، فقلت لها ألرسول الله تقولين هذا؟ فقالت: ما خدمته أكثر، فقال النبي صدقت، فسقاها».

وذكر بعض المؤرخين أن بركة هذه من سبي الحبشة أصحاب الفيل وكانت سوداء: أي لونها أسود، ولهذا خرج ابنها أسامة في السواد: أي وكان أبوه زيد أبيض، ومن ثم كان المنافقون يطعنون في نسب أسامة، ويقولون: هذا ليس هو ابن زيد، وكان رسول الله يتشوش من ذلك.

وقد روى الشيخان عن عائشة   قالت: «دخل عليّ النبي مسرورا، فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي قد دخل علي فرأى أسامة وزيدا عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وقد بدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» وقد جعل أئمتنا ذلك أصلا لوجوب الأخذ بقول القائف في إلحاق النسب.

قال الأبي  : والمعروف أن الحبشية إنما هي بركة أخرى جارية أم حبيبة، قدمت معها من الحبشة، وكانت تكنى أم يوسف، كانت تخدم النبي أي وهي التي شربت بوله كما سيأتي.

قيل وورث من أبيه مولاه شقران، وكان عبدا حبشيا فأعتقه بعد بدر. وقيل اشتراه من عبد الرحمن بن عوف وأعتقه. وقيل بل وهبه عبد الرحمن بن عوف له.

باب ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم

عن ابن عباس  : ولد رسول الله مسرورا أي مقطوع السرة. وجاء «أن إبراهيم   حين ولد نزل جبريل وقطع سرته، وأذن في أذنه، وكساه ثوبا أبيض» وولد نبينا مختونا أي على صورة المختون: أي ومكحولا ونظيفا ما به قذر.

أقول: أي لم يصاحبه قذر وبلل، فلا ينافي جواز وجود البلل والقذر بعده: أي في زمن إمكان النفاس، فلا يستدل بذلك على أن أمه لم تر نفاسا، فإن النفاس عندنا معاشر الشافعية هو البلل الحاصل بعد الولادة في زمن إمكانه، وهو قبل مضي خمسة عشر يوما لا الحاصل مع الولد، والله أعلم.

قال: وعن أنس بن مالك   قال قال رسول الله «من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا، ولم ير أحد سوأتي» أي لئلا يرى أحد سوأتي عند الختان. قال الحاكم: تواترت الأخبار أنه ولد مختونا. وتعقبه الذهبي فقال: ما أعلم صحة ذلك، فكيف يكون متواترا: أي وأجيب بأنه أراد بالتواتر الاشتهار، فقد جاءت أحاديث كثيرة في ذلك. قال الحافظ ابن كثير: فمن الحفاظ من صححها، ومنهم من ضعفها، ومنهم من رآها من الحسان: أي وقد يدعى أنه لا مخالفة بين هذه الأقوال الثلاثة، لأنه يجوز أن يكون من قال صحيحة أراد صحيحة لغيرها، والصحيحة لغيرها قد تكون حسنة لغيرها، ومن قال ضعيفة أراد في حد ذاتها.

وفي الهدي أن الشيخ جمال الدين بن طلحة صنف في أنه ولد مختونا مصنفا أجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام. ورد عليه في ذلك الشيخ جمال الدين بن العديم وذكر أنه ختن على عادة العرب.

وولد من الأنبياء على صورة المختون أيضا غير نبينا ستة عشر نبيا، وقد نظم الجميع بعضهم فقال:

وفي الرسل مختون لعمرك خلقة ** ثمان وتسع طيبون أكارم

وهم زكريا شيث إدريس يوسف ** وحنظلة عيسى وموسى وآدم

ونوح شعيب سام لوط وصالح ** سليمان يحيى هود يس خاتم

وليس هذا من خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل غيرهم من الناس يولد كذلك.

ومن خرافات العامة أن يقولوا لمن يولد كذلك: ختنه القمر: أي لأن العرب تزعم أن المولود في القمر تنفسخ قلفته فيصير كالمختون، وربما قالت العامة ختنته الملائكة وبهذا يرد على ذكره الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أن من خصائصه ولادته مختونا.

وقيل ختن: أي ختنه الملك الذي هو جبريل كما صرح به بعضهم يوم شق قلبه عند ظئره: أي مرضعته حليمة. قال الذهبي: إنه خبر منكر. وقيل ختنه جده يوم سابع ولادته. قال العراقي، وسنده غير صحيح اهـ: أي لما عق عنه بكبش كما سيأتي.

أقول: وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ولد مختونا غير تام الختان كما هو الغالب في ذلك، فتمم جده ختانه، لكن ينازع فيه ما تقدم من قوله «من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي» أي لأجل الختان كما هو الظاهر إن صح كما قدمنا.

وفي كلام بعضهم أن عيسى   ختن بآلة. وعلى صحته يجمع بنحو ما تقدم. والظاهر أن المراد بالآلة التي ختن بها عيسى والتي ختن بها بناء على أن جده ختنه كانت بالآلة المعروفة التي هي الموسى وإلا لنقلت، لأن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله.

لا يقال عدم وجود القلفة نقص من أصل الخلقة الإنسانية، فقد قالوا في حكمة وجود العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان فيه ولم يخلق بدونها، بل خلق بها تكملة للخلق الإنساني. لأنا نقول: إنما لم يخلق بتلك القلفة ليحصل كمال الخلقة الإنسانية، لأن هذه القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة، كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال، بخلاف العلقة السوداء.

وكره الحسن أن يختن الولد يوم السابع، لأن فيه تشبيها باليهود، أي لأن إبراهيم   لما ختن ولده إسحاق   يوم سابع ولادته، اتخذه بنو إسرائيل في ذلك اليوم سنة، وختن ولده إسماعيل   لثلاث عشرة سنة. قال أبو العباس بن تيمية: فصار ختان إسماعيل  ، أي في ذلك الوقت سنة في ولده يعني العرب، ويؤيده قول ابن عباس  : كانوا لا يختنون الغلام حتى يدرك: أي لأن الثلاثة عشر هي مظنة الإدراك، ومن ثم لما سئل ابن عباس عن سنه حين قبض رسول الله قال: وأنا يومئذ مختون، أي في أوائل زمن الختان، والله أعلم.

ولما ولد رسول الله وقع على الأرض مقبوضة أصابع يده يشير بالسبابة كالمسبح بها.

أقول: وفي رواية عن أمه أنها قالت «لما خرج من بطني نظرت إليه، فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه كالمتضرع المبتهل» ولامخالفة، لجواز أن يراد بأصبعيه السبابتان من اليدين، والله أعلم. وفي سجوده إشارة إلى أن مبدأ أمره على القرب من الحضرة الإلهية قال وروى ابن سعد «أنه لما ولد وقع على يديه رافعا رأسه إلى السماء» وفي رواية «وقع على كفيه وركبتيه شاخصا ببصره إلى السماء» اهـ.

أقول: وفي رواية: «وقع جاثيا على ركبتيه» ولا يخالف هذا ما سبق من أنها نظرت إليه، فإذا هو ساجد، لجواز أن يكون سجوده بعد رفع رأسه وشخوص بصره إلى السماء. ولا مخالفة بين كونه وقع على الأرض مقبوضة أصابع يده ووقوعه على كفه، لجواز أن يكون قبض أصابعه ما عدا السبابة بعد ذلك. ولا ينافيه قوله مقبوضة المنصوب على الحال لقرب زمنها من الوقوع على الأرض، والاقتصار على الركبتين لا ينافي الجمع بينهما وبين الكفين.

ورأيت في كلام بعضهم أنه ولد واضعا إحدى يديه على عينيه والأخرى على سوءتيه فليتأمل، والله أعلم.

وإلى رفع رأسه وشخوص بصره إلى السماء يشير صاحب الهمزية بقوله:

رافعا رأسه وفي ذلك الرفـ ** ـع إلى كل سودد إيماء

رامقا طرفه السماء ومرمى ** عين من شأنه العلو العلاء

أي وضعته حال كونه رافعا رأسه إلى السماء، وفي ذلك الرفع الذي هو أول فعل وقع منه بعد بروزه إلى هذا العالم إشارة إلى حصول كل رفعة وسيادة ووضعته حالة كونه رامقا ببصره إلى السماء، وسر ذلك الإشارة إلى علو مرماه، إذ مرمى عين الذي قصده ارتفاع مكانه الرفعة والشرف. قال: وقد روى «أنه قبض قبضة من تراب، وأهوى ساجدا، فبلغ ذلك رجلا من بني لهب، فقال لصاحبه: لئن صدق هذا الفأل ليغلبن هذا المولود أهل الأرض»: أي لأنه قبض عليها وصارت في يده. والفأل بالهمز وبدونه، يقال فيما يسر والتطير فيما يسوء فالفأل ضد الطير بكسر الطاء. وقد جاء «إني أتفاءل ولا أتطير» وقيل له «ما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» وقال: «لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة » وفي رواية «وأحب الفأل الصالح».

وفرق بعضهم بين الفأل والتفاؤل بأن الأول يكون في سماع الآدميين. والثاني يكون في الطير بأسمائها وأصواتها وممرها. وقوله: لا عدوى معارض لما جاء أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي «إنا قد بايعناك فارجع فرجع ولم يصافحه» وجاء «لا تديموا النظر للمجذومين» وسيأتي الجواب عنه بما يحصل به الجمع بينه وبين ما جاء «أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال: كل بسم الله   وتوكلا عليه» وبنو لهب بكسر اللام وسكون الهاء: حي من الأزد أعلم الناس بالزجر: أي زجر الطير والتفاؤل بها وبغيرها.

فقد كان في الجاهلية إذا أراد الشخص أن يخرج لحاجة جاء إلى الطير وأزعجها عن أوكارها، فإن مر الطائر على اليمين سمي سانحا واستبشر مريد الحاجة بقضائها، وإن مر على اليسار سمي بارحا بالموحدة والراء والحاء المهملة، وقعد مريد الحاجة عنها تفاؤلا بعدم قضائها: أي وهذا ما فسر به إمامنا الشافعي الحديث الآتي: «أقروا الطير في مكامنها» فعن سفيان بن عينية قال: قلت للشافعي  : يا أبا عبد الله ما معنى هذا الحديث؟ فقال: علم العرب كان في زجر الطير، كان الرجل منهم إذ أراد سفرا جاء إلى الطير في مكامنها فطيرها الحديث.

ويحكى عن وائل بن حجر وكان زاجرا حسن الزجر أنه خرج يوما من عند زياد بالكوفة، وهو الذي ألحقه معاوية بأبيه أبي سفيان، وهو والد عبيد الله بن زياد الذي قاتل الحسين، وكان أميرها المغيرة بن شعبة فرأى غرابا ينغق بالغين العجمة: أي يصيح فرجع إلى زياد وقال له هذا غراب يرحلك من ههنا إلى خير، فقدم رسول معاوية إلى زياد من يومه بولاية البصرة.

وقد ذكر أن أبا ذؤيب الهذلي الشاعر كان مسلما على عهد رسول الله، ولم يجتمع به قال: بلغنا أن رسول الله عليل، ولما كان وقت السحر هتف بي هاتف وأنا نائم وهو يقول:

قبض النبي محمد فعيوننا ** تذري الدموع عليه بالتسجام

قال: فقمت من نومي فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به وعلمت أن النبي قد قبض، فركبت ناقتي وحثتها حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطير فأخبرني بوفاته، فلما قدمت المدينة فإذا فيها ضجيج بالبكاء كضجيج الحاج فسألت، فقيل لي: قبض رسول الله وهو مسجى وقد خلا به أهله، وأبو هذيل هذا هو القائل:

أمن المنون وريبه تتوجع ** والدهر ليس بمعتب من يجزع

وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمة لا تنفع

وتجلدي للشامتين أريهم ** أني لريب الدهر لا أتضعضع

والنفس راغبة إذا رغبتها ** وإذا ترد إلى قليل تقنع

ومن زجر الطير ما حكاه بعضهم قال: جاء أعرابي إلى دار القاضي أبي الحسين الأزدي المالكي، فجاء غراب فقعد على نخلة في تلك الدار وصاح ثم طار، فقال الأعرابي هذا الغراب يقول إن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام، فصاح الناس عليه وزجروه فقام وانصرف، ففي سابع يوم مات هذا القاضي.

وقد جاء النهي عن ذلك: أي عن الزجر والطيرة في قوله «أقروا الطير على مكامنها» أي لا تزجروها. وجاء «الطير شرك» وجاء «من أرجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» أي حيث اعتقد أنها تؤثر. وجاء «إذا رأى أحدكم من الطيرة ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» وفي رواية «اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك ثم يمضي لحاجته» وقد جاء «لا عدوى ولا طيرة ولا هام» وفي لفظ «ولا هامة » بالتخفيف زاد في رواية «ولا صفر» والهامة هو أنه كان أهل الجاهلية يزعمون أنه إذا قتل القتيل ولم يؤخذ بثأره يخرج له طائر يقول عند قبره اسقوني من دم قاتلي، اسقوني من دم قاتلي، ولا يزال يقول ذلك حتى يؤخذ بثأر القتيل، كانت العرب تسميه الهامة بالتخفيف. وأما الهامة بالتشديد فواحدة الهوام، وهي الحيات والعقارب وما شاكلها، ومن ثم كان رسول الله يقول في تعويذه للحسن والحسين «أعيذبكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ثم يقول: هكذا إبراهيم   كان يعوذ إسماعيل وإسحاق»، وقوله «ولا صفر» ذكر الإمام النووي أن المراد به حية صفراء تكون في جوف الإنسان إذا جاع تؤذيه، كذا كانت العرب تزعم ذلك قال: وهذا التفسير هو الصحيح الذي عليه عامة العلماء، وقد ذكره مسلم عن جابر راوي الحديث، فتعين اعتماده.

وروى ابن سعد أن رسول الله قال: «رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاءت له قصور بصرى» وفي رواية «أنها قالت لما وضعته خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، فأضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى».

وفي الخصائص الصغرى «ورأت أمه عند ولادته نورا خرج منها أضاء له قصور الشام» وكذلك أمهات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرين اهـ، ولعل المراد يرين مطلق النور لا الذي تضيء منه قصور الشام. وقوله «قصور الشام» الخ ظاهر في أن امل راد جميع الإقليم لا خصوص بصرى، ولعل الاقتصار على بصرى في الروايات لكون النور كان بها أتمّ، ومن ثم قالت «حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى» أو رأت مرة وصول النور إلى بصرى خاصة ومرة جاوزها تأمل، وإلى هذا النور يشير عمه العباس   بقوله في قصيدته التي امتدح بها رسول الله عند رجوعه من غزوة تبوك، وقد قال له في مرجعه من تلك الغزوة «يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال له رسول الله: قل، لا يفضض الله فاك، فقال قصيدة منها:

وأنت لما ولدت أشرقت الأر ** ض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النـ ** ـور سبل الرشاد نخترق»

وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية   بقوله:

وتراءت قصور قيصر بالرو ** م يراها من داره البطحاء

أي رؤيت قصوره ملك الروم في بلاد الروم يبصرها الذي داره بمكة قال: وهذا ظاهر في أنها رأت ذلك النور يقظة، وتقدم في حديث شداد أنها رأته مناما، وقد تقدم الجمع اهـ: أي وتقدم ما في ذلك الجمع.

وذكر أن أم إمامنا الشافعي   رأت وهي حامل به أن النجم المسمى بالمشتري خرج من فرجها فوقع في مصر ثم وقع في كل بلدة منه شظية، فتأول ذلك أصحاب تأويل الرؤيا بأنها تلد عالما يكون علمه بمصر أولا ثم ينتشر إلى سائر البلدان.

وروى السهيلي على الواقدي «أنه لما ولد تكلم، فقال: جلال ربي الرفيع» وروي «أن أول ما تكلم به لما ولدته أمه حين خروجه من بطنها الله أكبر كبيرا والحمدلله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا» ولا مانع من أنه تكلم بكل ذلك والأولوية في الرواية الثانية إضافية لما لا يخفى.

وقد وقع الاختلاف في وقت ولادته: أي هل كان ليلا أو نهارا وعلى الثاني في أي وقت من ذلك النهار وفي شهره وفي عامه وفي محله؟ فقيل ولد يوم الاثنين، قال بعضهم: لا خلاف فيه والله، بل أخطأ من قال ولد يوم الجمعة: أي فعن قتادة   «أن رسول الله سئل عن يوم الإثنين، فقال ذلك يوم ولدت فيه» وذكر الزبير بن بكار والحافظ ابن عساكر أن ذلك كان حين طلوع الفجر ويدل له قول جده عبد المطلب: ولد لي الليلة مع الصبح مولود. وعن سعيد بن المسيب «ولد رسول الله عند إبهار النهار» أي وسطه «وكان ذلك اليوم لمضي اثني عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول» أي وكان ذلك في فصل الربيع، وقد أشار إلى ذلك بعضهم بقوله:

يقول لنا لسان الحال منه ** وقول الحق يعذب للسميع

فوجهي والزمان وشهر وضعي ** ربيع في ربيع في ربيع

قال: وحكى الإجماع عليه وعليه العمل الآن، أي في الأمصار خصوصا أهل مكة في زيارتهم موضع ملوده، وقيل لعشر ليال مضت من ربيع وصحح اهـ أي صححه الحافظ الدمياطي: أي لأن الأول قال فيه ابن دحية: ذكره ابن إسحاق مقطوعا دون إسناد، وذلك لا يصح أصلا، ولو أسنده ابن إسحاق لم يقبل منه لتجريح أهل العلم له فقد قال كل من ابن المديني وابن معين أن ابن إسحاق ليس بحجة ووصفه مالك   بالكذب. قيل وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه عنه أنه قال: هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله، فعند ذلك قال مالك: وما ابن إسحاق إنما هو رجل من الدجاجلة أخرجناه من المدينة. قال بعضهم: وابن إسحاق من جملة من يروي عنه شيخ مالك يحيى بن سعيد. وقال بعضهم: ابن إسحاق فقيه ثقة لكنه مدلس وقيل ولد لسبع عشرة ليلة خلت منه. وقيل لثمان مضت منه. قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره وعليه أجمع أهل التاريخ.

وقال القطب القسطلاني: وهو اختيار أكثر أهل الحديث: أي كالحميدي وشيخه ابن حزم. وقيل لليلتين خلتا منه، وبه جزم ابن عبد البر. وقيل لثمان عشرة ليلة خلت منه، رواه ابن أبي شيبة، وهو حديث معلول. وقيل لاثنتي عشرة بقين منه. وقيل لاثني عشرة. وقيل لثمان ليال خلت من رمضان وصححه كثير من العلماء، وهذا هو الموافق لما تقدم من أن أمه حملت به في أيام التشريق أو في يوم عاشوراء وأنه مكث في بطنها تسعة أشهر كوامل، لكن قال بعضهم، إن هذا القول غريب جدا ومستند قائله أنه أوحى إليه في رمضان فيكون مولده في رمضان، وعلى أنها حملت به في أيام التشريق الذي لم يذكروا غيره يعلم ما في بقية الأقوال قال، وقيل ولد في صفر. وقيل في ربيع الآخر، وقيل في محرم، وقيل في عاشوراء أي كما ولد عيسى ، وقيل لخمس بقين منه اهـ. أي وذكر الذهبي أن القول بأنه ولد في عاشوراء من الإفك: أي الكذب، وفيه إن كان ذلك لأنه لا يجامع أنها حملت به في أيام التشريق، وأنه مكث في بطنها تسعة أشهر كوامل لا يختص الإفك بهذا القول، بل يأتي فيما عدا القول بأنه ولد في رمضان، ثم رأيت بعضهم حكى أنه حمل في شهر رجب، وحينئذ يصح القول المشهور ولادته في ربيع الأول.

وعن ابن عباس  : ولد يوم الإثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في ربيع الأول، وهاجر إلى المدينة يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين في ربيع الأول. قال بعضهم: وهذا غريب جدا.

وقيل لم يولد نهارا، بل ولد ليلا. فعن عثمان بن أبي العاص عن أمه   أنها شهدت ولادة النبي ليلا، قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نورا، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي. قال ابن دحية وهو حديث مقطوع. قال بعضهم: ولا يصح عندي بوجه أنه ولد ليلا، لقوله الثابت عنه بنقل العدل عن العدل «أنه سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: فيه ولدت» واليوم إنما هو النهار بنص القرآن. وأيضا الصوم لا يكون إلا نهارا.

وأفاد البدر الزركشي أن هذا الحديث: أي المتقدم عن أم عثمان بن أبي العاص على تقدير صحته لا دلالة فيه على أنه ولد ليلا، قال: فإن زمان النبوة صالح للخوارق. ويجوز أن تسقط النجوم نهارا: أي فضلا عن أن تكاد تسقط سيما إن قلنا ولد عند الفجر لأن ذلك ملحق بالليل، وإلى التردد في وقت ولادته هل هو في الليل أو النهار أشار صاحب الهمزية بقوله:

ليلة المولد الذي كان للد ** ين سرور بيومه وازدهاء

فهنيئا به لآمنة الفـ ** ـضل الذي شرفت به حواء

من لحواء أنها حملت أحـ ** ـمد أو أنها به نفساء

يوم نالت بوضعه ابنة وهب ** من فخار ما لم تنله النساء

أي ليلة المولد الذي وجد فيه الفرح والافتخار للدين بيومه، وقد أضاف كلا من الليل واليوم للولادة مراعاة للخلاف في ذلك، فهنيئا لآمنة الفضل الذي حصل لها بسبب ولادتها له: أي لا يشوب ذلك الفضل كدر ولا مشقة الذي شرفت بذلك الفضل حواء التي هي أم البشر، ومن يشفع لحواء في أنها حملت به وأنه أصابها نفاس به يوم أعطيت آمنة بنت وهب بسبب وضعه من الفخار، وهو ما يتمدح به من الخصال العلية، والشيم المرضية، ما لم يعطها غيرها من النساء.

أي وقد أقسم الله بليلة مولده قوله تعالى {والضحى والليل} وقيل أراد بالليل ليلة الإسرى، ولا مانع أن يكون الإقسام وقع بهما، أي استعمل الليل فيهما. ويدل لكون ولادته كانت ليلا قول بعض اليهود ممن عنده علم الكتاب لقريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلم قال: ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، إلى آخر ما يأتي، وسيأتي ما يدل على ذلك، وهو وضعه تحت الجفنة.

وولادته قيل كانت في عام الفيل، قيل في يومه. فعن ابن عباس   قال: ولد رسول الله يوم الفيل. وعن قيس ابن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله يوم الفيل ضحا فنحن لدتان، قال الحافظ ابن حجر المحفوظ لفظ العام: أي بدل لفظ اليوم، وقد يراد باليوم مطلق الوقت فيصدق بالعام، كما يقال يوم الفتح ويوم بدر، وعليه فلدان معناه متقاربان في السن بالموحدة، وعلى أن المراد باليوم حقيقته يكون بالنون.

وفي تاريخ ابن حبان: ولد عام الفيل في اليوم الذي بعث الله تعالى الطير الأبابيل فيه على أصحاب الفيل.

وعند ابن سعد: ولد يوم الفيل يعني عام الفيل اهـ: أي لما تقدم عن ابن حجر، وعليه فيكون قول ابن حبان في اليوم تفسيرا للعام. على أن المراد باليوم مطلق الوقت الصادق بالعام.

وقيل ولد بعد الفيل بخمسين يوما، كما ذهب إليه جمع منهم السهيلي. قال بعضهم: وهو المشهور. قال: وقيل بخمسة وخمسين يوما. وقيل بأربعين يوما، وقيل بشهر، وقيل بعشر سنين، وقيل بثلاث وعشرين سنة، وقيل بثلاثين سنة، وقيل بأربعين سنة، وقيل بسبعين سنة اهـ: أي وعلى أنه بعد الفيل بخمسة وخمسين يوما اقتصر الحافظ الدمياطي  . وعبارة المواهب: حكاه الدمياطي في آخرين، وكونه في عام الفيل قال الحافظ ابن كثير: هو المشهور عند الجمهور. وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري   لا يشك فيه أحد من العلماء، ونقل غير واحد فيه الإجماع. وقال: كل قول يخالفه وهم: أي وقيل قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة. قال بعضهم: وهذا غريب منكر وضعيف أيضا.

أقول: والقول بأنه ولد قبل عام الفيل أو فيه أو بعده بعشر سنين يقتضي تضعيف ما ذكره الحافظ أبو سعيد النيسابوري أن نور النبي كان يضيء في غرة جده عبد المطلب، وكانت قريش إذا أصابها قحط أخذت بيد عبد المطلب إلى جبل ثبير يستسقون به، فيسقيهم الله تعالى ببركة ذلك النور، وأنه لما قدم صاحب الفيل لهدم الكعبة لتكون كنيسته التي بناها. ويقال إنها القليس كجميز لارتفاع بنائها وعلوها ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس مكان الكعبة في الحج إليها.

وقد اجتهد أبرهة في زخرفتها، فجعل فيها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، كان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان ، وجعل فيها صلبانا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس، وشدد على عمالها بحيث إذا طلعت الشمس قبل أن يأخذ العامل في عمله قطع يده، فنام رجل منهم ذات يوم حتى طلعت الشمس، فجاءت معه أمه وهي امرأة عجوز، فتضرعت إليه في أن لا يقطع يد ولدها فأبى إلا قطع يده، فقالت له اضرب بمعولك اليوم، فاليوم لك وغدا لغيرك، فقال لها: ويحك ما قلت؟ فقالت نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك فكذلك يصير منك إلى غيرك، فأخذته موعظتها فعفا عنه، ورجع عن هذا الأمر، فعند ذلك ركب عبد المطلب في قريش إلى جبل ثبير فاستدار ذلك النور، في وجه عبد المطلب كالهلال، وألقى شعاعه على البيت الحرام مثل السراج، فلما نظر عبد المطلب لذلك قال: يا معشر قريش ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر فوالله ما استدار هذا النور مني إلا أن يكون الظفر لنا فرجعوا فلما دخل رسول صاحب الفيل إلى مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيا عليه فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجدا لعبد المطلب: أي فإن صاحب الفيل أمره أن يقول لقريش: إن الملك إنما جاء لهدم البيت، فإن لم تحولوا بينه وبينه لم يزد على هدمه، وإن أحلتم بينه وبينه أتى عليكم، فقال له عبد المطلب؟ ما عندنا منعة ولا ندفع عن هذا البيت، وله رب إن شاء منعه: أي وفي لفظ قال عبد المطلب، والله ما نريد حربه وما لنا منه بذلك طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليل الله، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن لم يحل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه وأمر أبرهة رسوله أيضا أن يأتي له بسيد القوم، فقال لعبد المطلب: قد أمرني أن آتيه بك، فقال عبد المطلب أفعل، فجاءه راعي إبله وخيله، وأخبره أن الحبشة أخذت الإبل والخيل التي كانت ترعى بذي المجاز.

وفي سيرة ابن هشام بل وفي غالب السير الاقتصار على الإبل، وأنها كانت مائتي بعير، وقيل أربعمائة ناقة. فركتب عبد المطلب صحبة رسول صاحب الفيل وركب معه ولده الحارث فاستؤذن له على أبرهة أي قيل له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة يعني زمزم، وهو يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له. فلما دخل ورآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه على سرير ملكه، فنزل عن سريره وأجلسه معه على البساط وقال لترجمانه اسأله عن حاجته، فذكر إبله وخيله، فذكر الترجمان له ذلك، فقال للترجمان بلسان الحبشة قل له كنت أعجبتني إذ رأيتك ثم قد زهدت فيك إذ سألتني إبلا وخيلا، وتركت أن تسأل عن البيت الذي هو عزك، فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب أنا رب الإبل والخيل التي سألتها الملك، وأما البيت فله رب إن شاء أن يمنعه من الملك، فقال أبرهة ما كان ليمنعه مني، فرد عليه ما كان أخذ له وانصرف. وأبرهة بلسان الحبشة: الأبيض الوجه.

ثم إن الفيل لما نظر إلى وجه عبد المطلب برك كما يبرك البعير وخر ساجدا، وأنطق الله سبحانه وتعالى الفيل، فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب.

وفي كلام بعضهم أن أبرهة لما بلغه مجيء عبد المطلب إليه أمر أن عبد المطلب قبل دخوله عليه أن يذهب به إلى الفيلة ليراها ويرى الفيل العظيم وكان أبيض اللون.

أقول: رأيت أن ملك الصين كان في مربطه ألف فيل أبيض، وكان مع الفرس في قتال أبي عبيد بن مسعود الثقفي أمير الجيش في خلافة الصديق أفيلة كثيرة عليها الجلاجل، وقدّموا بين أيديهم فيلا عظيما أبيض، وصارت خيول المسلمين كلما حملت وسمعت حس الجلاجل نفرت، فأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة فقتلوها عن آخرها، وتقدم أبو عبيد لهذا الفيل العظيم الأبيض فضربه بالسيف فقطع زلومه، فصاح الفيل صيحة هائلة، وحمل على أبي عبيد فتخبطه برجله ووقف فوقه فقتله، فحمل على الفيل شخص كان أبو عبيد أوصى أن يكون أميراف بعده فقتله، ثم آخر حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحدا بعد واحد، وهذا من أغرب الاتفاقيات والله أعلم. وإنما أرى عبد المطلب الفيلة إرهابا لها وتخويفا فإن العرب لم تكن تعرف الأفيال، وكانت الأفيال كلها ما عدا الفيل الأعظم تسجد لأبرهة.

وأما الفيل الأعظم فلم يسجد إلا للنجاشي، فلما رأت الفيلة عبد المطلب سجدت حتى الفيل الأعظم. وقيل إن أبرهة لم يخرج إلا بالفيل الأعظم، ولما بلغ أبرهة سجود الفيلة لعبد المطلب تطير ثم أمر بإدخال عبد المطلب عليه، فلما رآه ألقيت له الهيبة في قلبه، فنزل عن سريره تعظيما لعبد المطلب. ثم رأيت العلامة ابن حجر في شرح الهمزية حاول الجواب عن هذا الذي تقدم عن الحافظ النيسابوري، من أن النور استدار في وجه عبد المطلب إلى آخره: أي وقول الفيل: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب مع أن ولادته في ذلك الوقت، يلزمها أن يكون النور انتقل من عبد المطلب إلى عبد الله، ثم انتقل من عبد الله إلى آمنة، بأن النور وإن انتقل من عبد المطلب، لكن الله سبحانه وتعالى أكرم عبد المطلب فأحدث ذلك النور في ظهره، وفي وجهه وأطلع الفيل عليه هذا كلامه فليتأمل.

وذكر بعضهم أن الفيل مع عظم خلقته صوته ضئيل أي ضعيف، ويفرق أي يخاف من السنور الذي هو القط ويفزع منه.

وفي المواهب: والمشهور أنه ولد بعد الفيل، لأن قصة الفيل كانت توطئة لنبوته ومقدمة لظهوره وبعثته، هذا كلامه. وفيه أنه قد يقال الإرهاصات إنما تكون بعد وجوده وقبل مبعثه الذي هو دعواه الرسالة، لا قبل وجوده بالكلية الذي هو المراد بظهوره. وحينئذ فقول القاضي البيضاوي: إنها من الإرهاصات، إذ روي أنها وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله : أي بعد وجوده. ومن ثم قال ابن القيم في الهدي: إن مما جرت به عادة الله تعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل لها، فمن ذلك قصة مبعثه تقدمها قصة الفيل، هذا كلامه.

قال: فلما شرع أبرهة في الذهاب إلى مكة وصل الفيل إلى أول الحرم، والمواهب أسقط هذا، وهو يوهم أنهم دخلوا مكة، وأن الفيل برك دون البيت فليتأمل، وعند وصوله إلى أول الحرم برك، فصاروا يضربون رأسه ويدخلون الكلاليب في مراق بطنه فلا يقوم، فوجهوا وجهه إلى جهة اليمين، فقام يهرول، وكذا إلى جهة الشام فعل ذلك مرارا فأمر أبرهة أن يسقي الفيل الخمر ليذهب تمييزه فسقوه فثبت على أمره.

ويقال إنما برك لأن نفيل بن حبيب الخثعمي قام إلى جنب الفيل فعرك أذنه وقال: ابرك محمودا وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك.

قال السهيلي  : الفيل لا يبرك، فيحتمل أن يكون بروكه سقوطه على الأرض لما جاءه من أمر الله سبحانه. ويحتمل أن يكون فعل البرك وهو الذي يلزم موضعه ولا يبرح فعبر بالبروك عن ذلك.

قال: وقد سمعت من يقول إن في الفيلة صنفا منها يبرك كما يبرك الجمل، وعند ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم الطير الأبابيل، خرجت من البحر أمثال الخطاطيف. ويقال إن حمام الحرم من نسل تلك الطير فأهلكتهم.

وقد يقال إن هذا اشتباه، لأن الذي قيل إنه من نسل الأبابيل إنما هو شيء يشبه الزرازير يكون بباب إبراهيم من الحرم. وإلا فسيأتي أن حمام الحرم من نسل الحمام الذي عشش على فم الغار على ما سيأتي فيه. وفي حياة الحيوان أن الطير الأبابيل تعشش وتفرخ بين السماء والأرض.

ولما هلك صاحب الفيل وقومه عزت قريش وهابتهم الناس كلهم، وقالوا: أهل الله لأن الله معهم. وفي لفظ: لأن الله سبحانه وتعالى قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم الذي لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة، وغنموا أموال أصحاب الفيل: أي ومن حينئذ مزقت الحبشة كل ممزق، وخرب ما حول تلك الكنيسة التي بناها أبرهة، فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات ومردة الجن، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن، واستمرت كذلك إلى زمن السفاح الذي هو أول خلفاء بني العباس، فذكر له أمرها، فبعث إليها عامله على اليمن فخرّ بها وأخذ خشبها المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من الذهب، فحصل له منها مال عظيم، وحينئذ عفا رسمها وانقطع خبرها، واندرست آثارها.

وقد كان عبد المطلب أمر قريشا أن تخرج من مكة وتكون في رؤوس الجبال خوفا عليهم من المعرة، وخرج هو وإياهم إلى ذلك بعد أن أخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش، يدعون الله سبحانه وتعالى، ويستنصرونه على أبرهة وجنده، وقال:

لا هم إن العبد يحـ ** مى رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم ** ومحالهم غدوا محالك

أي فإنهم كانوا نصارى. ولا هم: أصله اللهم، فإن العرب تحذف الألف واللام، وتكتفي بما يبقى، وكذلك تقول: لاه أبوك، تريد لله أبوك، والحلال بكسر الحاء المهملة: جمع حلة، وهي البيوت المجتمعة. والمحال بكسر الميم: القوة والشدة، والغدو بالغين المعجمة أصله الغد: وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك الذي أنت فيه. ويقال إن عبد المطلب جمع قومه وعقد راية وعسكر بمنى.

وجمع ابن ظفر بينه وبين ما تقدم من أنه خرج مع قومه إلى رؤوس الجبال، بأنه يحتمل أنه أمر أن تكون الذرية في رؤوس الجبال: أي وخرج معه تأنيسا لهم ثم رجع وجمع إليه المقاتلة: أي ويؤيد ذلك قول المواهب: ثم إن أبرهة أمر رجلا من قومه يهزم الجيش، فلما وصل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع إلى آخر ما تقدم. فإسقاط المواهب كون قريش جيشت جيشا مع قومه، ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش لا يحسن. ثم ركب عبد المطلب لما استبطأ مجيء القوم إلى مكة ينظر ما الخبر فوجدهم قد هلكوا: أي غالبهم، وذهب غالب من بقي، فاحتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم آذن: أي أعلم أهل مكة بهلاك القوم فخرجوا فانتهبوا.

وفي كلام سبط ابن الجوزي: وسبب غنى عثمان بن عفان أن أباه عفان وعبد المطلب وأبا مسعود الثقفي لما هلك أبرهة وقومه كانوا أول من نزل مخيم الحبشة، فأخذوا من أموال أبرهة وأصحابه شيئا كثيرا ودفنوه عن قريش، فكانوا أغنى قريش وأكثرهم مالا. ولما مات عفان ورثه عثمان  .

أي ومن جملة من سلم من قوم أبرهة ولم يذهب بل بقي بمكة سائس الفيل وقائده.

فعن عائشة  : أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس.

وأورد على هذا أن الحجاج خرّب الكعبة بضرب المنجنيق ولم يصبه شيء.

ويجاب بأن الحجاج لم يجيء لهدم الكعبة ولا لتخربها ولم يقصد ذلك، وإنما قصد التضييق على عبد الله بن الزبير   ليسلم نفسه، وهذا أولى من جواب المواهب كما لا يخفى، والله أعلم.

وكان بمكة في الدار التي صارت تدعى لمحمد بن يوسف أخي الحجاج: أي وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب، ولم تزل بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار قاله الفاكهي: أي فأدخلها في داره وسماها البيضاء: أي لأنها بنيت بالجص ثم طليت به، فكانت كلها بيضاء، وصارت تعرف بدار ابن يوسف، لكن سيأتي في فتح مكة أنه قيل له «يا رسول الله تنزل في الدور؟ قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» فإن هذا السياق يدل على أن عقيلا باع تلك الدار فلم يبق بيده ولا بيد أولاده بعده. إلا أن يقال المراد باع ما عدا هذه الدار التي هي مولده: أي لأنه كما سيأتي في الفتح باع دار أبيه أبي طالب، لأنه وطالبا أخاه ورثا أبا طالب، لأنهما كانا كافرين عند موت أبي طالب، دون جعفر وعلي   فإنهما كانا مسلمين، وعقيل أسلم بعد دون طالب، فإن طالبا اختطفته الجن ولم يعلم به، وإن عقيلا باع دار رسول الله التي هي دار خديجة: أي التي يقال لها مولد فاطمة  ، وهي الآن مسجد يصلى فيه، بناه معاوية   أيام خلافته. قيل وهو أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام: أي واشتهر بمولد فاطمة   لشرفها، وإلا فهو مولد بقية إخوتها من خديجة، ولعل معاوية   اشترى تلك الدار ممن اشتراها من عقيل.

ويدل لما قلناه قول بعضهم: لم يتعرض عند فتح مكة لتلك الدار التي أبقاها في يد عقيل: أي التي هي دار خديجة، فإنه لم يزل بها حتى هاجر فأخذها عقيل.

وفي كلام بعضهم: لما فتح النبي مكة ضرب مخيمه بالحجون، فقيل له: ألا تنزل منزلك من الشعب فقال «وهل ترك لنا عقيل منزلا» وكان عقيل قد باع منزل رسول الله ومنازل إخوته حين هاجروا من مكة، ومنزل كل من هاجر من بني هاشم.

وفي كلام بعضهم: كان عقيل تخلف عنهم في الإسلام والهجرة، فإنه أسلم عام الحديبية التي هي السنة السادسة وباع دورهم، فلم يرجع النبي في شيء منها، وهي أي تلك الدار التي ولد بها عند الصفا، قد بنتها زبيدة زوجة الرشيد أم الأمين مسجدا لما حجّت.

وفي كلام ابن دحية أن الخيزران أم هارون الرشيد لما حجت أخرجت تلك الدار من دار ابن يوسف وجعلتها مسجدا. ويجوز أن تكون زبيدة جددت ذلك المسجد الذي بنته الخيزران فنسب لكل منهما، وسيأتي أن الخيزران بنت دار الأرقم مسجدا، وهي عند الصفا أيضا، ولعل الأمر التبس على بعض الرواة لأن كلا منهما عند الصفا. وقيل ولد في شعب بني هاشم.

أقول: قد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون تلك الدار من شعب بني هاشم، ثم رأيت التصريح بذلك. ولا ينافيه ما تقدم في الكلام على الحمل من أن شعب أبي طالب وهو من جملة بني هاشم كان عند الحجون، لأنه يجوز أن يكون أبو طالب انفرد عنهم بذلك الشعب، والله أعلم.

قال: وقيل ولد في الردم: أي ردم بني جمح، وهم بطن من قريش، ونسب لبني جمح لأنه ردم على من قتلوا في الجاهلية من بني الحارث، فقد وقع بين بني جمح وبين بني الحارث في الجاهلية مقتلة، وكان الظفر فيها لبني جمح على بني الحارث فقتلوا منهم جمعا كثيرا، وردم على تلك القتلى بذلك المحل. وقيل ولد بعسفان انتهى.

أقول: مما يردّ القول بكونه ولد بعسفان ما ذكره بعض فقهائنا، أن من جملة ما يجب على الولي أن يعلم موليه إذا ميز أنه ولد بمكة ودفن بالمدينة، إلا أن يقال ذاك بناء على ما هو الأصح عندهم. والردم: هو المحل الذي كانت ترى منه الكعبة قبل الآن، ويقال له الآن المدعي، لأنه يؤتى فيه بالدعاء الذي يقال عند رؤية الكعبة، ولم أقف على أنه وقف به، ولعله لم يكن مرتفعا في زمنه، لأنه إنما رفعه وبناه سيدنا عمر   في خلافته، لما جاء السيل العظيم الذي يقال له سيل أم نهشل، وهي بنت عبيدة بن سعيد بن العاص، فإنه أخذها وألقاها أسفل مكة فوجدت هناك ميتة، ونقل المقام إلى أن ألقاه بأسفل مكة أيضا فجيء به وجعل عند الكعبة، وكوتب عمر   بذلك فحضر وهو فزع مرعوب، ودخل مكة معتمرا فوجد محل المقام دثر، وصار لا يعرف، فهاله ذلك ثم قال: أنشد الله عبدا عنده علم من محل هذا المقام، فقال المطلب بن رفاعة  : أنا يا أمير المؤمنين عندي علم بذلك، فقد كنت أخشى عليه مثل ذلك، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بحفاظ، فقال له اجلس عندي وأرسل، فأرسل فجيء بذلك الحفاظ فقيس به ووضع المقام بمحله الآن، وأحكم ذلك واستمر إلى الآن. فعند ذلك بني هذا المحل الذي يقال له الردم بالصخرات العظيمة ورفعه فصار لا يعلوه السيل، وصارت الكعبة تشاهد منه، والآن قد حالت الأبنية فصارت لا ترى، ومع ذلك لا بأس بالوقوف عنده والدعاء فيه تبركا بمن سلف، ولعل هذا محمل قول من قال: أول من نقل المقام إلى محله ـ وكان ملصقا بالكعبة ـ عمر بن الخطاب  ، فلا ينافي أن الناقل له هو كما سيأتي، لكن رأيت ابن كثير قال: وقد كان هذا الحجر أي الذي هو المقام ملصقا بباب الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب   فأخره عنه لئلا يشغل المصلين عنده الطائفون بالبيت، هذا كلامه.

وقوله من قديم الزمان ظاهره من عهد إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فليتأمل.

وعن كعب الأحبار: إني أجد في التوراة: عبدي أحمد المختار، مولده بمكة: أي وهو ظاهر في أن كعب الأحبار كان قبل الإسلام على دين اليهودية.

قال وعن عبد الرحمن بن عوف   عن أمه الشفاء: أي بكسر الشين المعجمة وتخفيف الفاء، وقيل بفتحها وتشديد الفاء مقصورا قالت: لما ولدت آمنة رسول الله وقع على يدي: أي فهي دايته. ووقع في كلام ابن دحية أن أم أيمن دايته.

وقد يقال إطلاق الداية على أم أيمن، لأنها قامت بخدمته، ومن ثم قيل لها حاضنته، وللشفاء قابلته.

وقد قيل: في اسم الوالدة والقابلة الأمن والشفاء، وفي اسم الحاضنة البركة والنماء، وفي اسم مرضعته أولا التي هي ثويبة الثواب، وفي اسم مرضعته المستقلة برضاعه التي هي حليمة السعدية الحلم والسعد. قالت أم عبد الرحمن: فاستهل، فسمعت قائلا يقول: يرحمك الله تعالى، أو رحمك ربك: أي أو يرحمك ربك، ولهذا القول الذي لا يقال إلا عند العطاس: أي الذي هو التشميت بالشين المعجمة والمهملة، حمل بعضهم الاستهلال الذي هو في المشهور صياح المولود أول ما يولد: يقال استهل المولود: إذا رفع صوته على العطاس مع الاعتراف بأنه لم يجيء في شيء من الأحاديث تصريح بأنه لما ولد عطس انتهى: أي فقد قال الحافظ السيوطي: لم أقف في شيء من الأحاديث يدل على أنه لما ولد عطس بعد مراجعة أحاديث المولد من مظانها: أي وعطس بفتح الطاء يعطس بالكسر والضم وحكي بالفتح، ولعله من تداخل اللغتين، لكن في الجامع الصغير «استهلال الصبي العطاس» وحينئذ يكون استهلال المولود له معنيان: هما مجرد رفع الصوت والعطاس، وحمل هنا على العطاس بقرينة الجواب الذي لا يقال إلا عند العطاس، وقد أشار إلى التشميت صاحب الهمزية   بقوله:

شمتته الأملاك إذ وضعته ** وشفتنا بقولها الشفاء

أي قالت له الأملاك: رحمك الله، أو رحمك ربك وقت وضع أمه له، وفرحتنا بقولها المذكور الشفاء التي هي أم عبد الرحمن بن عوف.

أقول: قال بعضهم: ولعله حمد الله بعد عطاسه لما استقر من شرعه الشريف أنه لا يسن التشميت: إلا لمن حمد الله تعالى، هذا كلامه. ويدل لما ترجاه ما تقدم أنه حين خروجه من بطن أمه قال «الحمد لله كثيرا».

وفي كلام بعض شراح الهمزية: ويجوز أن يكون شمت من غير حمد، تعظيما لقدره. وقد جاء «العاطس إن حمد الله تعالى فشمتوه، وإن لم يحمد فلا تشمتوه» وجاء «إذا عطس فحمد الله تعالى فحق على كل من سمعه أن يشمته» وفي الصحيح «أن رجلا عطس عند النبي وحمد الله فشمته. وعطس آخر فلم يحمد الله فلم يشمته» وفي حديث حسن «إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه، فإذا زاد على ثلاث فهو مزكوم فلا يشمت بعد ثلاث» وتمسك بذلك: أي بالأمر بالتشميت بصيغة افعل التي الأصل فيها الوجوب، وبقوله حتى أهل الظاهر على وجوب التشميت على كل من سمع.

وذهب بعض الأئمة إلى وجوبه على الكفاية، وهو منقول عن مشهور مذهب مالك  : أي وعن ابن عباس  : ليس على إبليس أشد من تشميت العاطس.

وعن سالم بن عبيد الله الأشجعي وكان من أهل الصفة قال: قال رسول الله: «إذا عطس أحدكم فليحمد الله  ، وليقل من عنده يرحمك الله، وليردّ عليه بقوله: يغفر الله لي ولكم».

ومن لطيف ما اتفق أن الخليفة المنصور وشي عنده ببعض عماله، فلما حضر عنده عطس المنصور فلم يشمته ذلك العامل، فقال له المنصور: ما منعك من التشميت؟ فقال إنك لم تحمد الله، فقال حمدت في نفسي، فقال قد شمتك في نفسي، فقال له ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لا تحابي غيري.

قال بعضهم: والحكمة في قول العاطس ما ذكر أنه ربما كان العطاس سببا لالتواء عنقه فيحمد الله على معافاته من ذلك. وقال غيره: لأن الأذى وهي الأبخرة المحتقنة تندفع به عن الدماغ الذي فيه قوة التذكر والتفكر: أي فهو بحران الرأس، كما أن العرق بحران بدن المريض، وذلك نعمة جليلة، وفائدة عظيمة، ينبغي أن يحمد الله تعالى عليها: أي ولأن الأطباء كما زعمه بعضهم نصوا على أن العطاس من أنواع الصرع، أعاذنا الله تعالى من الصرع. وقد ينازع فيه ما تقدم، وما ذكره بعض الأطباء أن العطاس للدماغ كالسعال للرئة.

قال: والعطاس أنفع الأشياء لتخفيف الرأس، وهو مما يعين على نقص المواد المحتبسة ويسكن ثقل الرأس فيحصل منه النشاط والخفة.

وفي نوادر الأصول للترمذي قال «هذا جبريل يخبركم عن الله تعالى: ما من مؤمن يعطس ثلاث عطسات متواليات إلا كان الإيمان في قلبه ثابتا».

وفي الجامع الصغير «إن الله تعالى يحب العطاس، ويكره التثاؤب» والعطسة الشديدة من الشيطان. وفي الحديث «العطاس شاهد عدل» وفي حديث حسن «أصدق الحديث ما عطس عنده».

وقد جاء أن روح آدم لما نزلت إلى خياشيمه عطس، فلما نزلت إلى فمه ولسانه قال الله تعالى له قل {الحمد لله رب العالمين} فقالها آدم ، فقال الحق يرحمك الله يا آدم، ولذلك خلقتك» وفي رواية «وللرحمة خلقتك» أي للموت.

وقد روى الترمذي مرفوعا بسند ضعيف «العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان» وروى ابن أبي شيبة موقوفا بسند ضعيف أيضا «إن الله يكره التثاؤب، ويحب العطاس في الصلاة » أي فمع كون كل واحد من العطاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان العطاس فيها أحب إلى الله تعالى من التثاؤب فيها، والتثاؤب فيها أكره إلى الله تعالى من العطاس فيها، لأن الكراهة مقولة بالتشكيك.

ويمكن حمل كون العطاس من الشيطان على شدته ورفع الصوت به كما تقدم التقييد بذلك في الرواية السابقة، ومن ثم جاء «إذا عطس أحدكم» أي هم بالعطاس «فليضع كفيه على وجهه، وليخفض صوته» أي ولا ينافي وجود الشفاء ووجود أم عثمان بن العاص عند أمه عند ولادته ما روي عنها أنها قالت «لما أخذني ما يأخذ النساء» أي عند الولادة «وإني لوحيدة في المنزل رأيت نسوة كالنخل طولا كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي» وفي كلام ابن المحدّث «ودخل عليّ نساء طوال كأنهن من بنات عبد المطلب ما رأيت أضوأ منهن وجوها، وكأنّ واحدة من النساء تقدمت إليّ فاستندت إليها، وأخذني المخاض، واشتد عليّ الطلق، وكأنّ واحدة منهن تقدمت إليّ وناولتني شربة من الماء أشد بياضا من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من الشهد، فقالت لي اشربي فشربت، ثم قالت الثالثة: ازدادي فازددت، ثم مسحت بيدها على بطني وقالت: بسم الله اخرج باذن الله تعالى، فقلن لي: أي تلك النسوة: ونحن آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وهؤلاء من الحور العين» لجواز وجود الشفاء وأم عثمان عندها بعد ذلك، وتأخر خروجه عن القول المذكور حتى نزل على يد الشفاء، لما تقدم من قولها «وقع على يديّ» ولعل حكمة شهود آسية ومريم لولادته كونهما تصيران زوجتين له في الجنة مع كلثم أخت موسى.

ففي الجامع الصغير: «إن الله تعالى زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وامرأة فرعون وأخت موسى» وسيأتي عند موت خديجة أنه قال لها: «أشعرت أن الله تعالى قد أعلمني أنه سيزوجني» وفي رواية «أما علمت أن الله تعالى قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى. وآسية امرأة فرعون؟ فقالت: ألله أعلمك بهذا؟ قال نعم. قالت بالرفاء والبنين» وقد حمى الله هؤلاء النسوة عن أن يطأهن أحد.

فقد ذكر أن آسية لما ذكرت لفرعون أحب أن يتزوجها فتزوجها على كره منها ومن أبيها مع بذله لها الأموال الجليلة، فلما زفت له وهم بها أخذه الله عنها وكان ذلك حاله معها، وكان قد رضي منها بالنظر إليها.

وأما مريم فقيل إنها تزوجت بابن عمها يوسف النجار ولم يقربها، وإنما تزوجها ليرفقها إلى مصر لما أرادت الذهاب إلى مصر بولدها عيسى ، وأقاموا بها اثنتي عشرة سنة، ثم عادت مريم وولدها إلى الشام ونزلا الناصرة.

وأخت موسى   لم يذكر أنها تزوجت، وهذا يفيد أن بنات عبد مناف أو بنات عبد المطلب على ما تقدم كنّ متميزات عن غيرهن من النساء في إفراط الطول.

وقد رأيت أن علي بن عبد الله بن عباس وهو جد الخليفتين السفاح والمنصور أول خلفاء بني العباس أبو أبيهما محمد كان مفرطا في الطول، كان إذا طاف كأن الناس حوله وهو راكب، وكان مع هذا الطول إلى منكب أبيه عبد الله بن عباس، وكان عبد الله بن عباس إلى منكب أبيه العباس، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب.

لكن ابن الجوزي اقتصر في ذكر الطوال على عمر بن الخطاب، والزبير بن العوام، وقيس بن سعد، وحبيب بن سلمة، وعلي بن عبد الله بن العباس. وسكت عن عبد الله بن عباس، وعن أبيه العباس، وعن أبيه عبد المطلب.

وفي المواهب أن العباس كان معتدلا، وقيل كان طوالا. ورأيت أن عليا هذا جد الخلفاء العباسيين كان على غاية من العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل، حتى قيل: إنه كان أجمل شريف على وجه الأرض، وكان يصلي في كل ليلة ألف ركعة ولذلك كان يدعى السجاد، وأن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو الذي سماه عليا وكناه أبا الحسن.

فقد روي أن عليا رضى الله تعالى عنه افتقد عبد الله بن عباس   في وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه ما بال أبي العباس يعني عبد الله لم يحضر؟ فقالوا ولد له مولود، فلما صلى عليّ كرم الله وجهه قال امضوا بنا إليه، فأتاه فهنأه، فقال: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب. زاد بعضهم. ورزقت بره، وبلغ أشده، ما سميته؟ قال: أو يجوز لي أن أسميه حتى تسميه؟ فأمر به فأخرج إليه فأخذه فحنكه، ودعا له ثم رده إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك، قد سميته عليا، وكنيته أبا الحسن، فلما ولى معاوية الخلافة قال لابن عباس: ليس لكم اسمه ولا كنيته يعني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كراهة في ذلك، وقد كنيته أبا محمد فجرت عليه.

وقد يخالف ذلك ما ذكر بعضهم أن عليا المذكور لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له غير اسمك وكنيتك، فلا صبر لي على اسمك وهو عليّ وكنيتك وهي أبو الحسن، قال: أما الاسم فلا أغيره. وأما الكنية فأكتني بأبي محمد، وإنما قال عبد الملك ذلك كراهة في اسم علي بن أبي طالب وكنيته.

وعليّ هذا دخل هو وولدا ولده محمد وهما السفاح والمنصور وهما صغيران يوما على هشام بن عبد الملك بن مروان وهو خليفة، فأكرمه هشام، فصار يوصيه عليهما ويقول له: سيليان هذا الأمر يعني الخلافة، فصار هشام يتعجب من سلامة باطنه وينسبه في ذلك إلى الحمق. ويقال إن الوليد بن عبد الملك: أي لما ولي الخلافة وبلغه عنه أنه يقول ذلك ضربه بالسياط على قوله المذكور، وأركبه بعيرا، وجعل وجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح عليه: هذا علي بن عبد الله بن عباس الكذاب، قال بعضهم: فأتيته وقلت له ما هذا الذي يسنده إليك من الكذب؟ قال: بلغهم عني أني أقول إن هذا الأمر يعني الخلافة ستكون في ولدي، والله لتكوننّ فيهم، فكان الأمر على ما ذكر فقد ولي السفاح الخلافة ثم المنصور.

وفي دلائل النبوة للبيهقي أن عبد الله بن عباس   قدم على معاوية  ، فأجازه وأحسن جائزته، ثم قال: يا أبا العباس هل تكون لكم دولة؟ قال اعفني يا أمير المؤمنين، قال لتخبرني، قال نعم، قال فمن أنصاركم؟ قال: أهل خراسان: أي وهو أبو مسلم الخراساني، يجيء بجيشه معه رايات سود يسلب دولة بني أمية، ويجعل الدولة لبني العباس. ويقال إن أبا مسلم هذا قتل ستمائة ألف رجل صبرا غير الذي قتله في الحروب، وهذه الرايات السود غير التي عناها بقوله: «إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأتوها، فإن فيها خليفة الله المهدي» فإن تلك الرايات تأتي قبيل قيام الساعة. ثم صارت الخلافة في أولاد المنصور. وقول عليّ في ولدي واضح، لأن ولد الولد ولد.

وقد حكي في مرآة الزمان عن المأمون، أنه قال: حدثني أبي يعني هارون الرشيد، عن أبيه المهدي، عن أبيه المنصور، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه عليّ، عن أبيه عبد الله بن عباس  ، عن النبي أنه قال: «سيد القوم خادمهم» وذكر أنه مما يؤثر عن المأمون أنه كان يقول: استخدام الرجل ضيفه لؤم.

وكان يقول: لو عرف الناس حبي للعفو لتقربوا إليّ بالجرائم، وإني أخاف إني لا أوجر على العفو، أي لأنه صار لي طبيعة وسجية.

قالت أمه: ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات: علما بالمشرق، وعلما بالمغرب، وعلما على ظهر الكعبة، والله أعلم.

ولما ولد رسول الله وضعت عليه جفنة بفتح الجيم، فانفلقت عنه فلقتين قال: وهذا مما يؤيد أنه ولد ليلا. فعن ابن عباس   قال: كان في عهد الجاهلية إذا ولد لهم مولود من تحت الليل وضعوه تحت الإناء لا ينظرون إليه حتى يصبحوا، فلما ولد رسول الله وضعوه تحت برمة. زاد في لفظ ضخمة. والبرمة: القدر، فلما أصبحوا أتوا البرمة، فإذا هي قد انفلقت ثنتين وعيناه إلى السماء، فتعجبوا من ذلك.

وعن أمه أنها قالت: فوضعت عليه الإناء فوجدته قد تفلق الإناء عنه وهو يمص إبهامه يشخب أي يسيل لبنا اهـ.

أي وفي العرائس أن فرعون لما أمر بذبح أبناء بني إسرائيل جعلت المرأة: أي بعض النساء كما لا يخفى إذا ولدت الغلام انطلقت به سرا إلى واد أو غار فأخفته فيه، فيقيض الله سبحانه وتعالى له ملكا من الملائكة يطعمه ويسقيه حتى يختلط بالناس، وكان الذي أتى السامري لما جعلته أمه في غار من الملائكة جبريل  ، فكان أي السامري يمص من إحدى إبهاميه سمنا ومن الأخرى عسلا، ومن ثم إذا جاع المرضع يمص إبهامه فيروى من المص، قد جعل الله له فيه رزقا. والسامري هذا كان منافقا يظهر الإسلام لموسى   ويخفي الكفر.

وفي رواية أن عبد المطلب هو الذي دفعه للنسوة ليضعوه تحت الإناء.

أقول: هذا هو الموافق لما سيأتي عن ابن إسحاق من أن أمه لما ولدته أرسلت إلى جده: أي وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها: أي فقالت له يا أبا الحارث ولد لك مولود له أمر عجيب، فذعر عبد المطلب وقال: أليس بشرا سويا؟ فقالت نعم، ولكن سقط ساجدا، ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء، فأخرجته له ونظر إليه. وأخذه ودخل به الكعبة ثم خرج فدفعه إليها، وبه يظهر التوقف في قول ابن دريد: أكفئت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده، فجاء جده والجفنة قد انفلقت عنه، إلا أن يقال يجوز أن يكون جده أخذه بعد انفلاق الجفنة ثم دخل به الكعبة، ثم بعد خروجه به من الكعبة دفعه لها وللنسوة ليضعوه تحت جفنة أخرى إلى أن يصبح، فانفلقت تلك الجفنة الأخرى حتى لا ينافي ذلك ما تقدم عن أمه: فوجدت الإناء قد تفلق وهو يمص إبهامه.

وعن إياس الذي يضرب به المثل في الذكاء قال: أذكر الليلة التي وضعت فيها وضعت أمي على رأسي جفنة وقال لأمه ما شيء سمعته لما ولدت؟ قالت يا بني طست سقط من فوق الدار إلى أسفل ففزعت فولدتك تلك الساعة.

وقال بعضهم: يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل، وإن إياسا منهم ولعل هذا هو المراد بما جاء في الحديث «يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» والمراد برأسها آخرها بأن يدرك أوائل المائة التي تليها بأن تنقضي تلك المائة وهو حي، إلا أني لم أقف على أن إياسا هذا كان من المجددين والله أعلم.

وفي تفسير ابن مخلد الذي قال في حقه ابن حزم. ما صنف مثله أصلا: أن إبليس رن أي صوّت بحزن وكآبة أربع رنات: رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله : أي وهو المراد بقول بعضهم يوم بعثه، ورنة حين أنزلت عليه فاتحة الكتاب، وإلى رنته حين ولادته أشار صاحب الأصل بقوله.

لمولده قد رنّ إبليس رنة ** فسحقا له ماذا يفيد رنينه

وعن عطاء الخراساني لما نزل قوله تعالى: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} صرخ إبليس صرخة عظيمة اجتمع إليه فيها جنوده من أقطار الأرض قائلين: ما هذه الصرخة التي أفزعتنا؟ قال: أمر نزل بي لمن ينزل قط أعظم منه، قالوا: وما هو؟ فتلا عليهم الآية وقال لهم: فهل عندكم من حيلة؟ قالوا ما عندنا من حيلة، فقال: اطلبوا فإني سأطلب، قال: فلبثوا ما شاء الله، ثم صرخ أخرى فاجتمعوا إليه وقالوا: ما هذه الصرخة التي لم نسمع منك مثلها إلا التي قبلها؟ قال: هل وجدتم شيئا؟ قالوا: لا، قال: لكني قد وجدت؛ قالوا: وما الذي وجدت؟ قال أزين لهم البدع التي يتخذونها دينا ثم لا يستغفرون: أي لأن صاحب البدعة يراها بجهله حقا وصوابا ولا يراها ذنبا حتى يستغفر الله منها.

وقد جاء في الحديث «أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته» أي لا يثيبه على عمله ما دام متلبسا بتلك البدعة.

وعن الحسن قال: بلغني أن إبليس قال: سوّلت لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالاستغفار، فسولت لهم ذنوبا لا يستغفرون الله منها وهي الأهواء أي البدع.

وقد جاء في الحديث «أخاف على أمتي بعدي ثلاثا: ضلالة الأهواء» الحديث، وأهل الأهواء هم أهل البدع.

وعن عكرمة أن إبليس لما ولد رسول الله ورأى تساقط النجوم قال أي لجنوده؟ لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا، وهذا يدل على أن تساقط النجوم كان عند إبليس علامة على وجود نبينا، فقال له جنوده: لو ذهبت إليه فخبلته، فلما دنا من رسول الله بعث الله جبريل   فركضه برجله ركضة وقع بعدن. وكوت تساقط النجوم كان عند إبليس علامة على وجود نبينا، مشكل مع قول بعضهم، لما رجمت الشياطين ومنعت من مقاعدها في السماء لاستراق السمع شكوا ذلك لإبليس، فقال لهم: هذا أمر حدث في الأرض، وأمرهم أن يأتوه بتربة من كل أرض، فصار يشمها إلى أن أتى بتربة من أرض تهامة، فلما شمها قال: من ههنا الحدث، هكذا ساقه بعضهم عند ولادته. إلا أن يقال: لا إشكال لأن تساقط النجوم وإن كان علامة وجود نبينا لكن في أي أرض! على أن بعضهم أنكر كون ما ذكر كان عند الولادة. وقد تقدم أن المذكور في كلام غيره إنما هو عند مبعثه كما سيأتي، ولعله من خلط بعض الرواة.

وعبارة بعضهم: روي أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء ثم تجاوز سماء الدنيا إلى غيرها، فلما ولد عيسى  ، منعوا من مجاوزة سماء الدنيا وصاروا يسترقون السمع في سماء الدنيا حتى ولد نبينا محمد، فمنعوا من التردد إلى السماء إلا قليلا: أي فصاروا يسترقون السمع في سماء الدنيا في بعض الأحايين، وفي أكثر الأحايين يسترقون دونها حتى بعث النبي فمنعوا أصلا فصاروا لا يسترقون السمع إلا دون سماء الدنيا، ثم رأيتني نقلت في (الكوكب المنير في مولد البشير النذير) عن ابن عباس   أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها مما سيقع في الأرض فيلقونها على الكهنة، فلما ولد عيسى   حجبوا عن ثلاث سموات. وعن وهب عن أربع سموات، ولما ولد رسول الله حجبوا عن الكل، وحرست بالشهب فما يريد أحد منهم استراق السمع إلا رمي بشهاب، وسيأتي عند المبعث إيضاح هذا المحل.

وقد أخبرت الأحبار والرهبان بليلة ولادته. فعن حسان بن ثابت   قال: إني لغلام يفعة، أي غلام مرتفع ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذ بيهودي بيثرب يصيح ذات يوم غداة على أطمة: أي محل مرتفع: يا معشر يهود فاجتمعوا إليه وأنا أسمع وقالوا ويلك، ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة: أي الذي طلوعه علامة على ولادته في تلك الليلة في بعض الكتب القديمة، وحسان هذا سيأتي أنه ممن عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام مثلها، وكذا عاش هذا القدر وهو مائة وعشرون سنة أبوه وجده ووالد جده. قال بعضهم: ولا يعرف أربعة تناسلوا وتساوت أعمارهم سواهم. وكان حسان   يضرب بلسانه أرنبة أنفه وكذا ابنه وأبوه وجده.

وعن كعب الأحبار  : رأيت في التوراة أن الله تعالى أخبر موسى عن وقت خروج محمد أي من بطن أمه، وموسى   أخبر قومه أن الكوكب المعروف عندكم اسمه كذا إذا تحرك وسار عن موضعه فهو وقت خروج محمد: أي وصار ذلك مما يتوارثه العلماء من بني إسرائيل.

وعن عائشة   قالت: كان يهودي يسكن مكة، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله قال في مجلس من مجالس قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود؟ ، فقال القوم: والله ما نعلمه، قال: احفظوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة: أي وهو منكم معاشر قريش، على كتفه أي عند كتفه علامة: أي شامة فيها شعرات متواترات، أي متتابعات كأنهن عرف فرس: أي وتلك العلامة هي خاتم النبوة أي علامتها، والدليل عليها لا يرضع لليلتين، وذلك في الكتب القديمة من دلائل نبوته، أي وعدم رضاعه لعله لتوعك يصيبه. وفي كلام الحافظ ابن حجر وأقره تعليلا لعدم رضاعه: لأن عفريتا من الجن وضع يده على فيه.

وعند قول اليهودي ما ذكر تفرق القوم من مجالسهم وهم متعجبون من قوله، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم آله وفي لفظ أهله، فقالوا: لقد ولد الليلة، لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا، فالتقى القوم حتى جاؤوا لليهودي وأخبروه الخبر: أي قالوا له أعلمت، ولد فينا مولود؟ قال: اذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا حتى أدخلوه على أمه، فقال أخرجي إلينا ابنك، فأخرجته وكشفوا على ظهره فرأى تلك الشامة فخر مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا ويلك ما لك؟ قال: والله ذهبت النبوة من بني إسرائيل أفرحتم به يا معشر قريش؟ أما والله ليسطونّ عليكم سطوة يخرج خبرها من المشرق إلى المغرب.

أي وعن الواقدي   أنه كان بمكة يهودي يقال له يوسف، لما كان اليوم أي الوقت الذي ولد فيه رسول الله قبل أن يعلم به أحد من قريش قال: يا معشر قريش قد ولد نبي هذه الأمة الليلة في بحرتكم، أي ناحيتكم هذه، وجعل يطوف في أنديتهم فلا يجد خبرا، حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل، فقيل له: قد ولد لابن عبد المطلب: أي لعبد الله غلام، فقال، هو نبيّ والتوراة.

وكان بمرّ الظهران راهب من أهل الشام يدعى عيصا، وقد كان آتاه الله علما كثيرا وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة فيلقى الناس ويقول: يوشك أي يقرب أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة تدين له العرب، أي تذل وتخضع، ويملك العجم: أي أرضها وبلادها هذا زمانه، فمن أدركه أي أدرك بعثته واتبعه أصاب حاجته: أي ما يؤمله من الخير، ومن أدركه وخالفه أخطأ حاجته، فكان لا يولد بمكة مولود إلا ويسأل عنه ويقول ما جاء بعد أي الآن، فلما كان صبيحة اليوم أي الوقت الذي ولد فيه رسول الله خرج عبد المطلب حتى أتى عيصا فوقف على أصل صومعته فناداه، فقال: من هذا؟ فقال: أنا عبد المطلب: أي وقيل الجائي له عبد الله والد النبي بناء على أنه لم يمت وأمه حامل به: أي ولعل قائله أخذ ذلك من قول الراهب لما قيل له ما ترى عليه، أي على ذلك المولود، فقال: كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه وأن نجمه أي الذي طلوعه علامة على وجوده طلع البارحة، وعلامة ذلك أي أيضا أنه الآن وجع فيشتكي ثلاثا ثم يعافى.

أقول: أي ولا يرضع في تلك الثلاث ليلتين، فلا يخالف ما سبق من قول الآخر لا يرضع ليلتين، ولا دلالة في قوله كن أباه على أن الجائي للراهب عبد الله، لأن عبد المطلب كان يقال له أبو النبي، ويقال للنبي ابن عبد المطلب، وقال النبي: «أنا ابن عبد المطلب» كما تقدم والله أعلم ثم قال له فاحفظ لسانك: أي لا تذكر ما قلته لك لأحد من قومك، فإنه لم يحسد حسده أحد، ولم يبغ على أحد كما يبغي عليه. قال فما عمره؟ قال: إن طال عمره لم يبلغ السبعين يموت في وتر دونها في إحدى وستين أو ثلاث وستين، زاد في رواية وذلك جلّ أعمار أمته.

وعند ولادته تنكست الأصنام أي أصنام الدنيا، وتقدم أيضا أنها تنكست عند الحمل به، وتقدم أنه لا مانع من تعدد ذلك.

وجاء أن عيسى لما وضعته أمه خر كل شيء يعبد من دون الله في مشارق الأرض ومغاربها ساجدا لوجهه وفزع إبليس.

فعن وهب بن منبه: لما كانت الليلة التي ولد فيها عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم أصبحت الأصنام في جميع الأرض منكسة على رؤوسهم، وكلما ردوها على قوائمها، انقلبت، فحارت الشياطين لذلك ولم تعلم السبب فشكت إلى إبليس، فطاف إبليس في الأرض ثم عاد إليهم، فقال: رأيت مولودا والملائكة قد حفت به فلم أستطع أن أدنوا إليه، وما كان نبي قبله أشد علي وعليكم منه، وإني لأرجو أن أضل به أكثر ممن يهتدي به.

أقول: قد علمت أن تنكيس الأصنام تكرر لنبينا محمد عند الحمل وعند الولادة، فالخاص به ما كان عند الحمل لا ما كان عند الولادة، لمشاركة عيسى في ذلك، وبهذا يعلم ما في قول الجلال السيوطي في خصائصه الصغرى إن من خصائصه تنكيس الأصنام لمولده.

وعن عبد المطلب قال: كنت في الكعبة فرأيت الأصنام سقطت من أماكنها وخرت سجدا، وسمعت صوتا من جدار الكعبة يقول: ولد المصطفى المختار الذي تهلك بيده الكفار، ويطهر من عبادة الأصنام، ويأمر بعبادة الملك العلام.

ولا يقال: قال إبليس في حق عيسى لا أستطيع أن أدنو إليه، وتقدم في حق نبينا أن إبليس دنا منه فركضه جبريل . لأنا نقول يجوز أن يكون الدنو في حق نبينا دنوا إلى محله الذي هو فيه لا إلى جسده، والدنو المنفي في حق عيسى دنو إلى جسده.

فإن قيل: جاء في الحديث «ما من مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا إلا مريم وابنها» رواه الشيخان: أي لقول أم مريم {إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} وفي رواية «كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن الحجاب» وهي المشيمة التي يكون فيها الولد، ولعل المراد بجنبه جنبه الأيسر.

وعن قتادة: «كل مولود يمسه الشيطان بأصبعه في جنبه فيستهل صارخا إلا عيسى ابن مريم وأمه مريم ضرب الله عليهما حجابا، فأصابت الطعنة الحجاب فلم ينفذ إليهما من شيء» ولعل هذا الحجاب هو المشيمة. ويحتمل أن يكون غيرها.

قلت: وجاء عن مجاهد: «أن مثل عيسى في عدم طعن الشيطان في جسده حين يولد سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وذلك لا يقال من قبل الرأي. وعلى تقدير صحة ذلك يكون تخصيص عيسى وأمه بالذكر كان قبل أن يعلم بأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كعيسى وأمه.

وهذا الكلام يرد بيان القاضي عياض للضرر المنفي في قوله: «من قال إذا أراد أن يأتي أهله بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن قدر بينهما في ذلك الوقت ولد من ذلك الجماع لم يضره الشيطان أبدا» بأن المراد أنه لا يطعن فيه عند ولادته، بخلاف غيره، وهذا: أي عدم قربه من نبينا يجوز أن يكون في حق خصوص إبليس، فلا ينافي ما تقدم عن الحافظ ابن حجر أن عدم ارتضاعه في ليلتين بوضع عفريت من الجن يده في فيه على تسليم صحته.

وصاحب الكشاف أخرج المس ومثله الطعن عن حقيقته وقال: المراد به طمع الشيطان إغوائه، وتبعه القاضي على ذلك، وسيأتي في شق صدره كلام يتعلق بذلك.

وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: اعلم أنه لا بد لجميع بني آدم من العقوبة والألم شيئا بعد شيء إلى دخولهم الجنة، لأنه إذا نقل إلى البرزخ فلا بد له من الألم، أدناه سؤال منكر ونكير، فإذا بعث فلا بد له من ألم الخوف على نفسه أو غيره، وأول الألم في الدنيا استهلال المولود حين ولادته صارخا، لما يجده من مفارقة الرحم وسخونته، فيضربه الهواء عند خروجه من الرحم، فيحس بألم البرد فيبكي، فإن مات فقد أخذ حظه من البلاء. وقال بعد ذلك في قوله تعالى حكاية عن عيسى   (والسلام علي يوم ولدت): معناه السلامة من إبليس الموكل بطعن الأطفال عند الولادة حين يصرخ الولد إذا خرج من طعنته، فلم يصرخ عيسى بل وقع ساجدا لله حين خرج، فليتأمل هذا مع قوله إن استهلال المولود وصراخه حين يولد لحسه ألم البرد الذي يجده بعد مفارقة سخونة الرحم. وقوله: بل وقع ساجدا يدل على أن سجود نبينا حين ولد ليس من خصائصه والله أعلم.

وذكر أن نفرا من قريش منهم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وعبد الله بن جحش كانوا يجتمعون إلى صنم، فدخلوا عليه ليلة ولد رسول الله فرأوه منكسا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردوه إلى حاله فانقلب انقلابا عنيفا فردوه فانقلب كذلك الثالثة، فقالوا: إن هذا الأمر حدث، ثم أنشد بعضهم أبياتا يخاطب بها الصنم ويتعجب من أمره: ويسأله فيها عن سبب تنكسه، فسمع هاتفا من جوف الصنم بصوت جهير أي مرتفع يقول:

تردى لمولود أضاءت بنوره ** جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب

الأبيات.

وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:

وتوالت بشرى الهواتف أن قد ** ولد المصطفى وحق الهناء

أي تتابعت بشارة الهواتف جمع هاتف، وهو ما يسمع صوته، ولا يرى شخصه، بأن قد ولد المصطفى المختار على الخلق كلهم، وثبت لهم الفرح والسرور.

وليلة ولادته تزلزلت الكعبة، ولم تسكن ثلاثة أيام ولياليهن وكان ذلك أول علامة رأت قريش من مولد النبي، وارتجس: أي اضطرب وانشق إيوان كسرى أنو شروان. ومعنى أنو شروان: مجدد الملك: أي وكان بناء محكما مبنيا بالحجارة الكبار والجص بحيث لا تعمل فيه الفؤوس؟ مكث في بنائه نيفا وعشرين سنة: أي وسمع لشقه صوت هائل، وسقط من ذلك الإيوان أربع عشرة شرفة بضم الشين المعجمة وسكون الراء، أي وليس ذلك لخلل في بنائه، وإنما أراد الله تعالى أن يكون ذلك آية لنبيه باقية على وجه الأرض.

أي وقد ذكر أن الرشيد أمر وزيره يحيى بن خالد البرمكي: أي والد جعفر والفضل بهدم إيوان كسرى، فقال له يحيى: لا تهدم بناء دل على فخامة شأن بانيه، قال: بلى يا مجوسي، ثم أمر بنقضه، فقدر له نفقة على هدمه، فاستكثرها الرشيد، فقال له يحيى ليس يحسن بك أن تعجز عن هدم شيء بناه غيرك.

هذا والذي رأيته في بعض المجاميع أن المنصور لما بنى بغداد أحب أن ينقض إيوان كسرى. فإن بينه وبينها مرحلة ويبني به، فاستشار خالد بن برمك، فنهاه وقال: هو آية الإسلام ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزول أمره، وهو مصلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والمئونة في نقضه أكثر من الإنفاق عليه، ولا مانع من تكرر طلب نقضه من المنصور ومن ولد ولده الرشيد.

وإنما قال الرشيد ليحيى بن خالد يا مجوسي، لأن جده والد خالد البرمكي وهو برمك كان من خراسان، وكان أولا مجوسيا ثم أسلم، وكان كاتبا عارفا محصلا لعلوم كثيرة، جاء إلى الشام في دولة بني أمية، فاتصل بعبد الملك بن مروان، فحسن موقعه عنده وعلا قدره. ثم لما أن زالت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس صار وزيرا للسفاح، ثم لأخيه المنصور من بني العباس، ورأيت عن برمك هذا حكاية عجيبة، وهي أنه سار إلى زيارة ملك الهند، فأكرمه وأنس به وأحضر له طعاما وقال كل، فأكلت حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت لا أقدر والله أيها الملك، فأمر بإحضار قضيب فأخذه الملك وأمرّ به على صدري فكأني لم آكل شيئا قط، ثم أكلت أكلا كثيرا حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت لا والله لا أقدر أيها الملك، فأمرّ بالقضيب على صدري فكأني لم آكل شيئا قط، فأكلت حتى انتهيت، فقال لي كل، فقلت والله ما أقدر على ذلك، فأراد أن يمر بالقضيب على صدري، فقلت أيها الملك إن الذي دخل يحتاج إلى أن يخرج، فقال: صدقت، وأمسك عني، فسألته عن القضيب، فقال: تحفة من تحف الملوك.

ومما يحفظ عن يحيى بن خالد هذا زيادة على ما تقدم عنه: إذا أحببت إنسانا من غير سبب فارج خيره، وإذا أبغضت إنسانا من غير سبب فتوق شره.

ومما يحفظ عنه أيضا وقد قال له ولده وأظنه الفضل، وقد كان معه مقيدا في حبس الرشيد بعد قتله لولده جعفر وصلبه ونهبه أموال البرامكة ومن يلوذ بهم: يا أبت بعد العز ونفوذ الكلمة صرنا إلى هذه الحالة، فقال: يا ولدي دعوة مظلوم سرت ليلا غفلنا عنها وما غفل الله عنها: أي فقد قال أبو الدرداء: إياكم ودمعة اليتيم ودعوة المظلوم، فإنها تسري بالليل والناس نيام.

أي ولأن الله تعالى يقول: «أنا أظلم الظالمين إن غفلت عن ظلم الظالم» وقد قال: «اتق دعوة المظلوم فإنما يسأل الله حقه، وإن الله تعالى لن يمنع ذا حق حقه» وجاء «اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب» وجاء «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» والمراد بالغمام: الغمام الأبيض الذي فوق السماء السابعة، المعنيّ بقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} أي لا تقوى على حمله إذا سقط. ونصر دعوة المظلوم: استجابتها ولو بعد زمن طويل، فهو سبحانه وتعالى وإن أمهل الظالم لا يهمله، وجاء «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة » أي تصعد إلى السماء السابعة فما فوقها وجاء «اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب».

وقد قال القائل:

تنام عيناك والمظلوم منتبه ** يدعو عليك وعين الله لم تنم

ومما قيل في يحيى بن خالد هذا من المدح البليغ:

سألت الندى هل أنت حر فقال لا ** ولكنني عبد ليحيى بن خالد

فقلت شراء؟ قال لا بل وراثة ** توارثني من والد بعد والد

ومما يحفظ عن والده خالد: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمولود. ومما يحفظ عن جعفر ولد يحيى قوله: شر المال ما لزمك الإثم في كسبه، وحرمت الأجر في إنفاقه، وقوله: المسىء لا يظن في الناس إلا سوءا لأنه يراهم بعين طبعه. ومما قيل في جعفر من المدح قول الشاعر:

تروم الملوك ندى جعفر ** ولا يصنعون كما يصنع

وليس بأوسعهم في الغني ** ولكن معروفه أوسع

وخمدت نار فارس أي مع إيقاد خدامها لها: أي كتب له صاحب فارس: إن بيوت النار خمدت تلك الليلة ولم تخمد قبل ذلك بألف عام. وغاضت أي غارت بحيرة ساوة أي بحيث صارت يابسة كأن لم يكن بها شيء من الماء مع شدة اتساعها: أي كتب له بذلك عامله باليمن، وإلى هذا يشير صاحب الأصل بقوله:

لمولده إيوان كسرى تشققت ** مبانيه وانحطت عليه شؤونه

لمولده خرت على شرفاته ** فلا شرف للفرس يبقى حصينه

لمولده نيران فارس أخمدت ** فنورهم إخماده كان حينه

لمولده غاضت بحيرة ساوة ** وأعقب ذاك المدّ جور يشينه

كأن لم يكن بالأمس ريا لناهل ** ووردا لعين المستهام معينه

وإلى ذلك أيضا يشير صاحب الهمزية   بقوله:

وتداعى إيوان كسرى ولولا ** آية منك ما تداعى البناء

وغدا كل بيت نار وفيه ** كربة من خمودها وبلاء

وعيون للفرس غارت فهل كا ** ن لنيرانهم بها إطفاء

أي ومن العجائب التي ظهرت ليلة ولادته انهدام إيوان كسرى أنو شروان الذي كان يجلس به مع أرباب مملكته، وكان من أعاجيب الدنيا سعة وبناء وإحكاما، ولولا وجود علامة صادرة عنك إلى الوجود ما تهدّم هذا البناء العجيب الإحكام.

ومن ذلك أيضا أنه صار تلك الليلة كل واحد من بيوت نار فارس التي كانوا يعبدونها خامدة نيرانه والحال أن في ذلك البيت غما وبلاء عظيما من أجل سكون لهب تلك النيران التي كانوا يعبدونها في وقت واحد.

ومن ذلك أيضا غور ماء عيون الفرس في الأرض حتى لم يبق منها قطرة. وحينئذ يستفهم توبيخا وتقريعا لهم، فيقال: هل تلك المياه التي غارت كان بها إطفاء لتلك النيران؟ ويقال في جوابه، لا بل إطفاؤها إنما هو لوجود هذا النبي العظيم وظهوره.

ورأى الموبذان: أي القاضي الكبير. وفي كلام ابن المحدث، هو خادم النار الكبير ورئيس حكامهم، وعنه يأخذون مسائل شرائعهم، ورأى في نومه إبلا صعابا تقود خيلا عرابا: أي وهي خلاف البراذين، قد قطعت دجلة، أي وهي نهر بغداد، وانتشرت في بلادها، أي والإبل كناية عن الناس، ورأى كسرى ما هاله وأفزعه أي الذي هو ارتجاس الإيوان وسقوط شرافاته، فلما أصبح تصبر: أي لم يظهر الانزعاج لهذا الأمر الذي رآه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك: أي هذا الأمر الذي هاله وأفزعه عن مرازبته بضم الزاي: أي فرسانه وشجعانه، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيما بعثت إليكم؟ قالوا لا إلا أن يخبرنا الملك، فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النيران، أي وورد عليه كتاب من صاحب إيليا يخيره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة. وورد عليه كتاب صاحب الشام يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة. وورد عليه كتاب صاحب طبرية يخبره أن الماء لم يجر في بحيرة طبرية، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله: أي وهو ارتجاس الإيوان وسقوط شرافاته، فقال الموبذان، فأنا ـ أصلح الله الملك ـ قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل، فقال أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب، فابعث إلى عاملك بالحيرة يوجه إليك رجلا من علمائهم، فإنهم أصحاب علم بالحدثان.

فكتب كسرى عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد: فوجه إليّ برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح الغساني: أي وهو معدود من المعمرين، عاش مائة وخمسين سنة فلما ورد عليه قال: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه، قال ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي علم منه، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بالذي وجه إليه فيه، قال علم ذلك عند خالي يسكن مشارف الشام بالفاء: أي أعاليها: أي وهي الجابية المدينة المعروفة، يقال له سطيح، قال فأته فاسأله عما سألتك عنه، ثم ائتني بتفسيره، فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى أي أشرف على الضريح. أي الموت: أي احتضر، وعمره إذ ذاك ثلثمائة سنة، وقيل سبعمائة سنة: أي ولم يذكره ابن الجوزي في المعمرين، وكان جسدا ملقى لا جوارح له، وكان لا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب فإنه ينتفخ فيجلس، وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق. وفي كلام غير واحد: لم يكن له عظم سوى عظم رأسه وفي لفظ لم يكن له عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفين، ولم يتحرك منه إلا اللسان، قيل لكونه مخلوقا من ماء امرأة لأن ماء الرجل يكون منه العظم والعصب: أي كما سيأتي عنه من قوله: «نطفة الرجل يخلق منها العظم والعصب، ونطفة المرأة يخلق منها اللحم والدم». قال ذلك لما سأله اليهود فقالوا له: مم يخلق الولد؟ فلما قال لهم ما ذكر، قالوا له: هكذا كان يقول من قبلك: أي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وفيه أن عيسى   على تسليم أنه خلق من نطفة وهي نطفة أمه كان فيه العظم والعصب.

فقد قيل: تمثل لها الملك في صفة شاب أمرد حتى انحدرت شهوتها إلى أقصى رحمها، وقيل لم يخلق من نطفة أصلا. وقد صرح بالأول الشيخ محيي الدين بن العربي   حيث قال: أنكر الطبيعيون وجود ولد من ماء أحد الزوجين دون الآخر، وذلك مردود عليهم بعيسى فإنه خلق من ماء أمه فقط، وذلك أن الملك لما تمثل لها بشرا سويا لشدة اللذة بالنظر إليه، فنزل الماء منها إلى الرحم، فتكون عيسى من ذلك الماء المتولد عن النفخ الموجب للذة منها، فهو من ماء أمه فقط هذا كلامه.

أي وكون سطيح كان وجهه في صدره لم يختص سطيح بهذا الوصف. فقد رأيت أن عمرا ذا الأذعار إنما قيل له ذلك لأنه سبى أمة وجوهها في صدورها فذعرت الناس منهم وعمرو هذا كان في زمن سليمان بن داود عليهما السلام، وقيل قبله بقليل، وملكت بعده بلقيس بعد قتلها له.

وكان لسطيح سرير من الجريد والخوص إذا أريد نقله إلى مكان يطوي من رجليه إلى ترقوته. وفي لفظ إلى جمجمته كما يطوى الثوب، فيوضع على ذلك السرير فيذهب إلى حيث يشاء، وإذا أريد استخباره ليخبر عن المغيبات يحرك كما يحرك وطب المخيض: أي سقاء اللبن الذي يخض ليخرج زبده، فينتفخ ويمتلىء ويعلوه النفس، فيسأل فيخبر عما يسأل عنه، وكانت جمجمته إذا لمست أثر اللمس فيها للينها.

قيل وهو أول كاهن كان في العرب، وهذا يدل على أنه سابق على شق. وقد تقدم في حفر زمزم أن الكاهنة التي ذهب إليها عبد المطلب وقريش ليتحاكموا عندها تفلت في فم سطيح وفم شق، وذكرت أن سطيحا يخلفها، ومن ثم قال بعضهم: لم يكن أحد أشرف في الكهانة، ولا أعلم بها ولا أبعد فيها صيتا من سطيح وكان في غسان.

وذكر بعضهم أن سطيحا كان في زمن نزار بن معد بن عدنان، وهو الذي قسم الميراث بين بني نزار وهم مضر وإخوته، وهو يؤيد ما تقدم من أنه عمر سبعمائة سنة، ثم شق وعبد المسيح، وهؤلاء كانوا رؤوس الكهنة وأهل العلم الغامض منهم بالكهانة: أي وإلا فمنهم أي من أهل العلم الغامض: مسيلمة الكذاب في بني حنيفة، وسجاح كانت في بني تميم، وسجاح أخرى كانت في بني سعد. والكهانة: هي الإخبار عن الغيب، والكهانة من خواص النفس الإنسانية، لأن لها استعدادا للانسلاخ من البشرية إلى الروحانية التي فوقها.

فسلم عبد المسيح على سطيح وكلمه، فلم يرد عليه سطيح جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول: أصم أم يسمع غطريف اليمن: أي سيدهم إلى آخر أبيات ذكرها، فلما سمع سطيح شعر عبد المسيح رفع رأسه.

أقول: قد يقال لا منافاة بين إثبات الرأس هنا، ونفيه في قوله: ولم يكن له رأس، لأنه يجوز أن يكون المراد بالرأس المثبت الوجه، لكن قد تقدم أنه لم يكن له عظم سوى ما في رأسه أو الجمجمة، ففي ذلك إثبات الرأس.

وقد يقال: لما كان رأسه وتلك الجمجمة يؤثر فيها اللمس للينهما لمخالفتهما لرأس غيره ساغ إثبات الرأس له ونفيه عنه والله أعلم. وعند رفع رأسه قال: عبد المسيح، على جمل مشيح: أي سريع إلى سطيح، وقد وافى على الضريح: أي القبر، والمراد به الموت كما تقدم. بعثك ملك ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، أي تلاوة القرآن، وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاما، ولا الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه: أي مات من ساعته.

والهراوة بكسر الهاء: وهي العصا الضخمة: أي وهو النبي، لأنه كان يمسك العصا كثيراعند مشيه. وكان يمشي بالعصا بين يديه وتغرز له فيصلي إليها التي هي العنزة. وفي الحديث «حمل العصا علامة المؤمن، وسنة الأنبياء» وفي الحديث «من بلغ أربعين سنة ولم يأخذ العصا عدله» أي عدم أخذ العصا «من الكبر والعجب».

وقد يقال: مراد سطيح بالعصا العنزة التي تغرز ويصلي إليها في غير المسجد، لأنه لم يحفظ أن ذلك كان لمن قبله من الأنبياء.

وذكر الطبري أن أبرويز بن هرمز جاء له جاء في المنام فقيل له: سلم ما في يدك إلى صاحب الهراوة، فلم يزل مذعورا من ذلك حتى كتب إليه النعمان بظهور النبي بتهامة، فعلم أن الأمر سيصير إليه.

وعند موت سطيح نهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول شعرا منه:

شمر فإنك ماضي العزم شمير ** ولا يغرنك تفريق وتغيير

والناس أولاد علات فمن علموا ** أن قد أقل فمحقور ومهجور

وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ** فذاك بالغيب محفوظ ومنصور

والخير والشر مقرونان في قرن ** فالخير متبع والشر محذور

فلما قدم عبد المسيح على كسرى وأخبره بما قاله سطيح، قال له كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان  : أي فقد ذكر أن آخر من هلك منهم كان في أول خلافة عثمان   ( ).

أي وكانت مدة ملكهم ثلاثة آلاف سنة ومائة سنة وأربعا وستين سنة.

ومن ملوك بني ساسان سابورد والأكتاف، قيل له ذلك، لأنه كان يخلع أكتاف من ظفر به من العرب. ولما جاء لمنازل بني تميم وجدهم فروا منه ومن جيشه، ووجد بها عمير بن تميم وهو ابن ثلثمائة سنة، وكان معلقا في قفة لعدم قدرته على الجلوس، فأخذ وجيء به إليه، فاستنطقه فوجد عنده أدبا ومعرفة، فقال للملك: أيها الملك لم تفعل فعلك هذا بالعرب؟ فقال: يزعمون أن ملكنا يصير إليهم على يد نبي يبعث في آخر الزمان فقال له عمير: فأين حلم الملوك وعقلهم؟ إن يكن هذا الأمر باطلا فلن يضرك، وإن يكن حقا ألفوك ولم تتخذ عندهم يدا يكافئونك عليها ويعظمونك بها في دولتك، فانصرف سابور وترك تعرضه للعرب، وأحسن إليهم بعد ذلك.

وقول سطيح يملك منهم ملوك وملكات، لم أقف على أنه ملك منهم من النساء إلا واحدة وهي بوران ولما بلغه ذلك قال: «لا يفلح قوم ملكتهم امرأة » فملكت سنة ثم هلكت.

وذكر ابن إسحاق   أن أمه لما ولدته أرسلت خلف جده عبد المطلب إنه قد ولد لك غلام فانظر إليه، فأتاه ونظر إليه وحدثته بما رأته، فأخذه عبد المطلب ودخل به الكعبة: أي وقام يدعو الله: أي وأهله يؤمنون ويشكر له ما أعطاه. ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وقد تقدم الوعد بذلك وتقدم ما فيه.

قال وتكلم في المهد في أوائل ولادته. وأول كلام تكلم به أن قال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا اهـ.

أقول: وتقدم أنه قال حين ولد: جلال ربي الرفيع، كما أورده السهيلي عن الواقدي وروي أنه تكلم حين خروجه من بطن أمه، فقال: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

ولا مانع من تكرر ذلك حين خروجه وحين وضعه في المهد وأنه زاد في المرة الثالثة وسبحان الله بكرة وأصيلا، وحينئذ يكون تكلمه حين خروجه من بطن أمه لم يشاركه فيه غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا الخليل وإلا نوح كما سيأتي، بخلاف تكلمه في المهد.

على أنه سيأتي أنه يجوز أن يكون المراد بالتكلم في المهد التكلم في غير أوان الكلام ويقال: إنه قال ذلك عند فطامه، وتقدم أنه قال: الحمد لله لما عطس على الاحتمال الذي أبداه بعضهم كما تقدم بما فيه.

ولا مانع من وجود هذه الأمور الثلاثة التي هي: جلال ربي الرفيع، والله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا حين ولادته، وعلم ترتيبها يتوقف على نقل، وحينئذ تكون الأولية في الواقعة في بعض ذلك إما حقيقية أو إضافية.

وقدمنا أن الأولية في قوله جلال ربي الرفيع بالنسبة لقوله: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا إضافية.

قال وقد تكلم جماعة في المهد نظمهم الجلال السيوطي   في قوله:

تكلم في المهد النبي محمد ** ويحيى وعيسى والخليل ومريم

ومبري جريج ثم شاهد يوسف ** وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم

وطفل عليه مر بالأمة التي ** يقال لها تزني ولا تتكلم

وماشطة في عهد فرعون طفلها ** وفي زمن الهادي المبارك يختم

ا هـ.

قال بعضهم لكن هو حصر من تكلم في المهد في ثلاثة ولم يذكر نفسه، أي فقد رُوي عن أبي هريرة مرفوعا «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى وصاحب جريج، وابن المرأة التي مر عليها بامرأة يقال لها إنها زنت» وقد يقال: هذا الحصر إضافي أي ثلاثة من بني إسرائيل، أو أن ذلك كان قبل أن يعلم مما زاد.

وذكر أن عيسى   تكلم في المهد وهو ابن ليلة. وقيل وهو ابن أربعين يوما أشار بسبابته وقال بصوت رفيع إني عبد الله لما مر بنو إسرائيل على مريم عليها السلام وهي حاملة له وأنكروا عليها ذلك، وأشارت إليهم أن كلموه وضربوا بأيديهم على وجوههم تعجبا و{قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} قال لهم ما قصة الله سبحانه وتعالى، ثم رأيتني في الكلام على قصة الإسراء والمعراج ذكرت ذلك، وأن عيسى تكلم يوم ولادته، قال لابن خال أمه يوسف النجار وقد خرج في طلب أمه وقد خرجت لما أخذها ما يأخذ النساء من الطلق عند الولادة خارج بيت المقدس، وجلست تحت نخلة يابسة، فاخضرت النخلة من ساعتها وتدلت عراجينها وجرت من تحتها عين ماء ووضعته تحتها: أبشر يا يوسف وطب نفسا وقر عينا، فقد أخرجني ربي من ظلمة الأرحام إلى ضوء الدنيا، وسآتي بني إسرائيل وأدعوهم إلى طاعة الله، فانصرف يوسف إلى زكريا   وأخبره بولادة مريم وقول ولدها ما ذكر.

وفي النطق المفهوم أن عيسى   كلم يوسف المذكور وهو في بطن أمه.

فقد قيل: إنه أول من علم بحمل مريم عليها السلام، فقال لها مقرعا لها: يا مريم هل تنبت الأرض زرعها من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير فحل؟ فقال له عيسى   وهو في بطن أمه: قم فانطلق إلى صلاتك، واستغفر الله مما وقع في قلبك.

وعن أبي هريرة   أن عيسى   تكلم في المهد ثلاث مرات ثم لم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان عادة: أي ولعل المرة الثالثة هي التي حمد الله فيها بحمد لم تسمع الأذان مثله، فقال: اللهم أنت القريب في علوك المتعالي في دنوك، الرفيع على كل شيء من خلقك، حارت الأبصار دون النظر إليك.

ومبري جريج تكلم كذلك أي في بطن أمه، قيل له: من أبوك، فقال الراعي عبد بني فلان، وتكلم بعد خروجه من بطن أمه، فقد تكلم مرتين مرة في بطن أمه ومرة وهو طفل كذا في (النطق المفهوم) ولم أقف على وقت كلامه، ولا على ما تكلم به حينئذ.

وأما يحيى   فتكلم وهو ابن ثلاث سنين، قال لعيسى: أشهد أنك عبد الله ورسوله.

والخليل تكلم وقت ولادته، وسيأتي ما تكلم به، وفي كون ابن ثلاث سنين وفي كون من تكلم وقت ولادته يكون في المهد نظر، إلا أن يكون المراد بالتكلم في المهد التكلم في غير أوان الكلام.

ولم أقف على سن من تكلم في المهد حين تكلم غير من ذكر وغير الطفل الذي لذي الأخدود، فإنه لما جيء بأمه لتلقي في نار الأخدود لتكفر وهو معها مرضع: فتقاعست قال لها: يا أماه اصبري فإنك على الحق: قال ابن قتيبة: كان سنه سبعة أشهر. وفي (النطق المفهومّ) أن شاهد يوسف الصديق   كان عمره شهرين وكان ابن داية زليخا.

وفي الخصائص الصغرى: وخص بكلام الصبيان في المراضع، وشهادتهم له بالنبوة، ذكر ذلك البدر الدماميني  ، هذا كلامه، وفيه نظر، لأنه لم يشهد له بالنبوة من هؤلاء إلا مبارك اليمامة حسبما وقفت عليه.

ورأيت في الأجوبة المسكتة لابن عون   «أن اليهود قالوا للنبي: ألست لم تزل نبيا؟ قال نعم، قالوا: فلم لم تنطق في المهد كما نطق عيسى؟ قال: إن الله خلق عيسى من غير فحل، فلولا أنه نطق في المهد لما كان لمريم عذر وأخذت بما يؤخذ به مثلها، وأنا ولدت بين أبوين» هذا كلامه، وهو يخالف ما تقدم من أنه تكلم في المهد إلا أن يقال مرادهم لِمَ لَمْ تنطق في المهد بمثل الذي نطق به عيسى، أو أن ذلك منه إرخاء للعنان فليتأمل.

ثم رأيت أن إبراهيم الخليل   لما سقط على الأرض استوى قائما على قدميه وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، الحمد لله الذي هدانا لهذا.

قال في (النطق المفهوم) ولد بالغار الذي ولد به نوح وإدريس عليهما الصلاة والسلام ويقال لهذا الغار في التوراة غار النور، ويضم لهؤلاء ما ذكره الشيخ محيي الدين بن العربي   قال: قلت لبنتي زينب مرة وهي في سن الرضاعة قريبا عمرها من سنة ما تقولين في الرجل بجامع حليلته ولم ينزل؟ فقالت يجب عليه الغسل فتعجب الحاضرون من ذلك، ثم إني فارقت تلك البنت وغبت عنها سنة في مكة وكنت أذنت لوالدتها في الحج، فجاءت مع الحج الشامي، فلما خرجت لملاقاتها رأتني من فوق الجمل وهي ترضع، فقالت بصوت فصيح قبل أن تراني أمها هذا أبي، وضحكت وأرمت نفسها إلي.

قال: وقد رأيت أي علمت من أجاب أمه بالتشميت وهو في بطنها حين عطست وسمع الحاضرون كلهم صوته من جوفها شهد عندي الثقات بذلك، قال: وهذا واحد يخصه الله بعلمه وهو في بطن أمه ولا يحجبك قوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} لأنه لا يلزم من العالم حضوره مع علمه دائما.

و(في النطق المفهوم) أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه تكلم في بطن أمه فقال: أنا المفقود والمغيب عن وجه أبي زمنا طويلا، فأخبرت أمه والده بذلك، فقال لها: اكتمي أمرك.

وفيه أن نوحا   تكلم عقب ولادته، فإن أمه ولدته في غار خوفا على نفسها وعليه فلما وضعته وأرادت الانصراف قالت وانوحاه، فقال لها لا تخافي أحدا علي يا أماه، فإن الذي خلقني يحفظني.

وفيه أن أم موسى   لما وضعت موسى استوى قاعدا وقال: يا أماه لا تخافي، أي من فرعون، إن الله معنا.

ومبارك اليمامة قال بعض الصحابة، دخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله وسمعت فيها عجبا: جاءه رجل بصبي يوم ولد وقد لفه في خرقة فقال له النبي، يا غلام من أنا؟ قال الغلام بلسان طلق: أنت رسول الله، قال صدقت بارك الله فيك. ثم إن الغلام لم يتكلم بشيء فكنا نسميه مبارك اليمامة. وكانت هذه القصة في حجة الوداع، وكان يناغي القمر وهو في مهده: أي يحدثه يقال ناغت المرأة الصبي إذا كلمته بما يسره ويعجبه، وعد ذلك من خصائصه. ففي حديث فيه مجهول، وقيل فيه إنه غريب المتن والإسناد، عن عمه العباس   أنه قال يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك إشارة أي علامة نبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر: أي تحدثه، فتشير إليه بأصبعك، فحيثما أشرت إليه مال قال: كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته: أي سقطته حين يسجد تحت العرش أي ولم أقف على سنه حين ذلك، وكان مهده يتحرك بتحريك الملائكة، وعده ابن سميع   من خصائصه.

باب تسميته محمدا وأحمد

لا يخفى أن جميع أسمائه مشتقة من صفات قامت به توجب له المدح والكمال، فله من كل وصف اسم. قال: وكما أن لله عزّ وجل ألف اسم للنبي ألف اسم. عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب   وهو الباقر، من بقر العلم، أتقنه قال: أمرت آمنة أي في المنام وهي حامل برسول الله أن تسميه أحمد وعن ابن إسحاق   أن تسميه محمدا وقد تقدم قال: والثاني هو المشهور في الروايات أي وعلى الأول اقتصر الحافظ الدمياطي  .

والمسمي له بمحمد جده عبد المطلب. فعن ابن عباس   قال: «لما ولد رسول الله عقّ عنه: أي يوم سابع ولادته جده بكبش وسماه محمدا؟ فقيل له: يا أبا الحرث ما حملك على أن تسميه محمدا ولم تسمه باسم آبائه. وفي لفظ: وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وتحمده الناس في الأرض» اهـ.

أقول: وهذا هو الموافق لما اشتهر أن جده سماه محمدا بإلهام من الله تعالى تفاؤلا بأن يكثر حمد الخلق له، لكثرة خصاله الحميدة التي يحمد عليها، ولذلك كان أبلغ من محمود وإلى ذلك يشير حسان   بقول:

فشق له من اسمه ليجلّه ** فذو العرش محمود وهذا محمد

وهذا الإلهام لا ينافي أن تكون أمه قالت له إنها أمرت أن تسميه بذلك، وقد حقق الله رجاءه بأنه تكاملت فيه الخصال المحمودة والخلال المحبوبة فتكاملت له المحبة من الخالق والخليقة، فظهر معنى اسمه على الحقيقة.

وفي الخصائص الصغرى: وخص باشتقاق اسمه من اسم الله تعالى وبأنه سمي أحمد ولم يسم به أحد قبله، ولإفادته الكثرة في معناه، لأنه لا يقال إلا لمن حمد المرة بعد المرة، لما يوجد فيه من المحاسن والمناقب.

ادّعى بعضهم أنه من صيغ المبالغة: أي الصيغ المفيدة للمبالغة بالمعنى المذكور استعمالا لا وضعا لأن الصيغ الموضوعة لإفادة المبالغة منحصرة في الصيغ الخمسة وليس هذا منها.

وهذا السياق يدل على أن تسميته بذلك كانت في يوم العقيقة، وأن العقيقة كانت في اليوم السابع من ولادته، وتقدم: ولد الليلة لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا، وهو يدل على أن تسميته بذلك كانت في ليلة ولادته أو يومها.

وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون قوله هنا: وسماه محمدا، معناه أظهر تسميته بذلك لعموم الناس، وهذا التعليل للتسمية بهذا الاسم يرشد إلى ما قيل: اقتضت الحكمة أن يكون بين الاسم والمسمى تناسب في الحسن والقبح واللطافة والكثافة، ومن ثم غير الاسم القبيح بالحسن وهو كثير، وربما غير الاسم الحسن بالقبيح للمعنى المذكور كتسميته لأبي الحكم بأبي جهل، وتسميته لأبي عامر الراهب بالفاسق.

وجاء «أنه قال لبعض أصحابه ادع لي إنسانا يحلب ناقتي، فجاءه بإنسان، فقال له ما اسمك؟ فقال له حرب، فقال اذهب. فجاءه بآخر فقال: ما اسمك؟ فقال يعيش، فقال احلبها».

ويروى «أنه طلب شخصا يحفر له بئرا، فجاءه رجل، فقال له ما اسمك؟ قال مرة، فال اذهب» وليس هذا من الطيرة التي كرهها ونهى عنها، وإنما هو من كراهة الاسم القبيح، ومن ثم كان يكتب لأمرائه «إذا أبردتم لي بريدا فأبردوه» أي إذا أرسلتم لي رسولا فأرسلوه «حسن الاسم حسن الوجه» ومن ثم لما قال له سيدنا عمر   لما قال لمن أراد أن يحلب له ناقته أو يحفر له البئر ما تقدم «لا أدري أقول أم أسكت، فقال له رسول الله قل، قال: قد كنت نهيتنا عن التطير، فقال له: ما تطيرت ولكن آثرت الاسم الحسن» وللجلال السيوطي كتاب فيمن غير رسول الله اسمه، ولم أقف عليه.

ورأيت في كلام بعضهم «أن حزن بن أبي وهب أسلم يوم الفتح وهو جد سعيد بن المسيب أراد النبي تغيير اسمه وتسميته سهلا فامتنع وقال لا أغير اسما سمانيه أبواي، قال سعيد: فلم تزل الحزونة فينا» والله أعلم.

أي وفي حديث «أنه عقّ عن نفسه بعد ما جاءته النبوة » قال الإمام أحمد، هذا منكر: أي حديث منكر، والحديث المنكر من أقسام الضعيف لا أنه باطل كما قد يتوهم، والحافظ السيوطي لم يتعرض لذلك وجعله أصلا لعمل المولد، قال لأن العقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن هذا الذي فعله النبي إظهارا للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين، وتشريعا لأمته، كما كان يصلي على نفسه لذلك. قال: فيستحب لنا إظهار الشكر بمولده هذا كلامه.

ويروى أن عبد المطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها: أي في منامه، رأى كأن سلسلة خرجت من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق وأهل المغرب يتعلقون بها فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه، يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه محمدا: أي مع ما حدثته به أمه بما رأته على ما تقدم.

وعن أبي نعيم عن عبد المطلب قال: بينما أنا نائم في الحجر، إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش، فلما نظرت إليّ عرفت في وجهي التغير فقالت: ما بال سيدهم قد أتى متغير اللون؟ هل رابه من حدثان الدهر شيء؟ فقلت لها بلى، فقلت لها، إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم، ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا فلم أنله، فانتبهت مذعورا فزعا، فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك، ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب، وتدين له الناس، وعند ذلك قال عبد المطلب لابنه أبي طالب: لعلك أن تكون هذا المولود، فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد ويقول: كانت الشجرة هي محمد.

وفي الإمتاع: لما مات قثم بن عبد المطلب قبل مولد رسول الله بثلاث سنين وهو ابن تسع سنين وجد عليه وجدا شديدا، فلما ولد رسول الله سماه قثم حتى أخبرته أمه آمنة أنها أمرت في منامها أن تسميه محمدا، فسماه محمدا: أي ولا مخالفة بين هذه الروايات على تقدير صحتها كما لا يخفى، لأنه يجوز أن يكون نسي تلك الرؤية ثم تذكرها، ويكون معنى سؤاله: ما حملك على أن تسميه محمدا وليس من أسماء قومك؟ أي لم استقر أمرك على أن تسميه محمدا؟

وذكر بعضهم أنه لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم: يعني محمدا قبله إلا ثلاثة طمع آباؤهم حين وفدوا على بعض الملوك وكان عنده علم من الكتاب الأول، وأخبرهم بمبعث النبي : أي بالحجاز وبقرب زمنه وباسمه المذكور الذي هو محمد، وهو يدل على أن اسمه في بعض الكتب القديمة محمد، وكان كل واحد منهم قد خلف زوجته حاملا فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا، ففعلوا ذلك.

وفي الشفاء أن في هذين الاسمين محمدا وأحمد من بدائع آياته: أي المصطفى وعجائب خصائصه أن الله تعالى حماهما عن أن يسمى بهما أحد قبل زمانه: أي قبل شيوع وجوده. أما أحمد الذي أتى في الكتب القديمة وبشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمنع الله تعالى بحكمته أن يتسمى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعو قبله منذ خلقت الدنيا وفي حياته. زاد الزين العراقي: ولا في زمن أصحابه   حتى لا يدخل لبس أو شك على ضعيف القلب: أي فالتسمية به من خصائصه على جميع الناس ممن تقدمه، خلافا لما يوهمه كلام الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أنه من خصائصه على الأنبياء فقط.

ومن ثم ذهب بعضهم إلى أفضليته على محمد. وقال الصلاح الصفدي: إنَّ أحمد أبلغ من محمد، كما أن أحمر وأصفر أبلغ من محمر ومصفر، ولعله لكونه منقولا عن أفعل التفضيل، لأنه أحمد الحامدين لرب العالمين، لأنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم تفتح على أحد قبله.

وفي الهدى: لو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه لكان الأولى أن يسمى الحماد كما سميت بذلك أمته، وأما هذا فهو الذي يحمده أهل السماء والأرض وأهل الدنيا والآخرة، لكثرة خصاله المحمودة التي تزيد على عد العادين وإحصاء المحصين: أي أحق الناس وأولاهم بأن يحمد، فهو كمحمد في المعنى، فهو مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول لا الواقع من الفاعل. وحينئذ فالفرق بين محمد وأحمد أن محمدا من كثر حمد الناس له، وأحمد من يكون حمد الناس له أفضل من حمد غيره، وسيأتي عن الشفاء أنه أحمد المحمودين، وأحمد الحامدين، فيجوز أن يكون أحمد مأخوذا من الفعل الواقع عن المفعول، كما يجوز أن يكون مأخوذا من الفعل الواقع من الفاعل.

وفي كلام السهيلي: ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان قبل أحمد، فبأحمد ذُكِر قبل أن يذكر بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، وأطال في بيان ذلك.

وفي كلام بعض فقهائنا معاشر الشافعية: أنه ليس في أحمد من التعظيم ما في محمد، لأنه أشهر أسمائه الشريفة وأفضلها فلذلك لا يكفي الإتيان به في التشهد بدل محمد. وقد جاء «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» قال بعضهم: وعبد الله أحب من عبد الرحمن لإضافة العبد إلى الله المختص به تعالى اتفاقا والرحمن مختص به على الأصح ومن ثم سمى نبينا في القرآن بعبد الله في قوله تعالى: {وإنه لما قام عبد الله يدعوه} وعلى ما ذكر هنا يكون بعد عبد الرحمن المذكور في القرآن في قوله تعالى: {وعباد الرحمن} أحمد ثم محمد: أي وبعدهما إبراهيم خلافا لمن جعله بعد عبد الرحمن.

وذكر بعضهم أن أول من تسمى بأحمد بعد نبينا ولد لجعفر بن أبي طالب، وعليه يشكل ما تقدم عن الزين العراقي. وقيل والد الخليل: أي ولعل المراد به الخليل بن أحمد صاحب العروض. ثم رأيت الزين العراقي صرح بذلك حيث قال: وأول من تسمى في الإسلام أحمد والد الخليل بن أحمد العروضي.

ويشكل على ذلك وعلى قوله لم يسمّ به أحد في زمن الصحابة تسمية ولد جعفر بن أبي طالب بذلك، إلا أن يقال لم يصح ذلك عند العراقي، أو يقال مراد العراقي أصحابه الذين تخلفوا عنه بعد وفاته، فلا يرد جعفر لأنه مات في حياته وهو خامس خمسة كل يسمي الخليل بن أحمد، وزاد بعضهم سادسا، وكذلك محمد أيضا لم يتسم به أحد قبل وجوده وميلاده إلا بعد أن شاع أن نبيا يبعث اسمه محمد بالحجاز وقرب زمنه، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك، وحمى الله تعالى هؤلاء أن يدَّعي أحد منهم النبوة أو يدعيها أحد له، أو يظهر عليه شيء من سماتها، أي علاماتها حتى تحققت له.

وفي دعوى أن الذي في الكتب القديمة إنما هو أحمد مخالفة لما سبق، وما يأتي عن التوراة والإنجيل: أي فالمراد بالكتب القديمة غالبها، فلا ينافي أن في بعضها اسمه محمد، وفي بعضها اسمه أحمد، وفي بعضها الجمع بين محمد وأحمد.

قال بعضهم: سمعت محمد بن عدي وقد قيل له: كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا؟ قال: سألت أبي، أي عما سألتني عنه، قال: خرجت رابع أربعة من تميم نريد الشام، فنزلنا عند غدير عند دير، فأشرف علينا الديراني وقال: إن هذه للغة قوم ما هي لغة أهل هذه البلد، فقلنا له: نحن قوم من مضر، فقال: من أيّ المضاير؟ فقلنا: من خندف، فقال لنا: إن الله سيبعث فيكم نبيا وشيكا: أي سريعا فسارعوا إليه، وخذوا حظكم ترشدوا، فإنه خاتم النبيين، فقلنا له: ما اسمه؟ قال محمد، ثم دخل ديره، فوالله ما بقي أحد منا إلا زرع قوله في قلبه، فأضمر كل واحد منا إن رزقه الله غلاما سماه محمدا، رغبة فيما قاله: أي فنذر كل واحد منا ذلك، فلا يخالف ما سق. قال: فلما انصرفنا ولد لكل واحد منا غلام فسماه محمدا رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.

أقول: يجوز أن يكون هؤلاء الأربعة منهم الثلاثة الذين وفدوا على بعض الملوك. وحينئذ تكرر لهم هذا القول من الملك ومن صاحب الدير، وإضمار ذلك لا ينافي نذره المتقدم، فالمراد باضماره نذره كما قدمناه. ويجوز أن يكونوا غيرهم فيكونوا سبعة.

وذكر ابن ظفر أن سفيان بن مجاشع نزل على حيّ من تميم فوجدهم مجتمعين على كاهنتهم وهي تقول: العزيز من والاه، والذليل من خالاه، فقال لها سفيان: من تذكرين لله أبوك؟ فقالت: صاحب هدى وعلم وحرب وسلم، فقال سفيان: من هو لله أبوك؟ فقالت نبي مؤيد، قد آن حين يوجد، ودنا أوان يولد، يبعث للأحمر والأسود اسمه محمد، فقال سفيان: أعربي أم عجمي؟ فقالت: أما والسماء ذات العنان والشجر ذوات الأفنان، إنه لمن معدّ بن عدنان، حسبك فقد أكثرت يا سفيان، فأمسك عن سؤالها ومضى إلى أهله وكانت امرأته حاملا فولدت له ولدا فسماه محمدا، رجاء منه أن يكون هو النبي الموصوف، والله أعلم.

وقد عدّ بعضهم ممن سمي بمحمد ستة عشر، ونظمهم في قوله:

إن الذين سموا باسم محمد ** من قبل خير الخلق ضعف ثمانِ

ابن البراء مجاشع بن ربيعة ** ثم ابن مسلم يحمدي حرماني

ليثي السليمي وابن أسامة ** سعدي وابن سواءة همداني

وابن الجلاح مع الأسيدي يا فتى ** ثم الفقيمي هكذا الحمراني

قال بعضهم: وفاته آخران لم يذكرهما، وهما: محمد بن الحارث، ومحمد بن عمر بن مغفل بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام. ووقع النزاع الكثير والخلاف الشهير في أوّل من سمى بذلك الاسم منهم.

أقول: وفي شرح الكفاية لابن الهائم. ويمكن أن يكون من زاد على أولئك الأربعة أو السبعة سمع ذلك من بعضهم فاقتدى به في ذلك، طمعا فيما طمع فيه.

ومثل ذلك وقع لبني إسرائيل، فإن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما حضرته الوفاة أعلم بني إسرائيل بحضور أجله، وكان أول أنبيائهم، فقالوا له: يا نبي الله إنا نحب أن تعلمنا بما يؤمل إليه أمرنا بعد خروجك من بين أظهرنا في أمر ديننا فقال لهم: إن أموركم لم تزل مستقيمة حتى يظهر فيكم رجل جبار من القبط يدعي الربوبية، يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم، ثم يخرج من بني إسرائيل رجل اسمه موسى بن عمران فينجيكم الله به من أيدي القبط، فجعل كل واحد من بني إسرائيل إذا جاء له ولد يسميه عمران رجاء أن يكون ذلك النبي منه. ولا يخفى أن بين عمران أبي موسى وعمران أبي مريم أم عيسى ـ وهو آخر أنبياء بني إسرائيل ـ ألف وثمانمائة سنة، والله أعلم.

والذي أدرك الإسلام ممن تسمى باسمه   محمد بن ربيعة ومحمد بن الحارث، ومحمد بن مسلمة. وادعى بعضهم أن محمد بن مسلمة ولد بعد مولد النبي بأكثر من خمسة عشر سنة.

أي وقد ذكر ابن الجوزي أن أول من تسمى في الإسلام بمحمد محمد بن حاطب. وعن ابن عباس «اسمي في القرآن أي كالتوراة محمد، وفي الإنجيل أحمد».

وأما فضل التسمية بهذا الاسم: أعني محمدا، فقد جاء في أحاديث كثيرة، وأخبار شهيرة: أي منها أنه قال: قال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أعذب أحدا تسمى باسمك في النار» أي باسمك المشهور وهو محمد أو أحمد. ومنها «ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد» أي وفي رواية: «فيها اسمي إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين» ومنها قال: «يوقف عبدان أي اسم أحدهما أحمد والآخر محمد بين يدي الله تعالى فيؤمر بهما إلى الجنة، فيقولان ربنا بما استأهلنا الجنة ولم نعمل عملا تجازينا به الجنة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة، فإني آليت على نفسي أن لا يدخل النار من اسمه أحمد أو محمد» لكن قال بعضهم: ولم يصح في فضل التسمية بمحمد حديث، وكل ما ورد فيه فهو موضوع، قال بعض الحفاظ: وأصحها أي أقر بهما للصحة «من ولد له مولود فسماه محمدا حبا لي وتبركا باسمي كان هو ومولوده في الجنة ».

وعن أبي رافع عن أبيه قال: سمعت رسول الله يقول: «إذا سميتموه محمدا فلا تضربوه ولا تحرموه» وفي رواية طعن فيها بأن بعض رواتها متهم بالوضع «فلا تسبوه، ولا تجبهوه، ولا تعنفوه، وشرّفوه، وعظموه، وأكرموه، وبروا قسمه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجها، بورك في محمد، وفي بيت فيه محمد، وفي مجلس فيه محمد» وفي رواية «تسمونه محمدا ثم تسبونه» وفي رواية طعن فيها «أما يستحيي أحدكم أن يقول يا محمد ثم يضربه» وعن ابن عباس   «من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمدا فقد جهل» أي وفي رواية «فهو من الجفاء» وفي أخرى «فقد جفاني».

وذكر بعضهم وإن لم يرد في المرفوع «من أراد أن يكون حمل زوجته ذكرا فليضع يده على بطنها وليقل إن كان هذا الحمل ذكرا فقد سميته محمدا فإنه يكون ذكرا».

وجاء عن عطاء قال: «ما سمي مولود في بطن أمه محمدا إلا كان ذكرا» قال ابن الجوزي في الموضوعات: وقد رفع هذا بعضهم: أي وروي «ما اجتمع قوم قط في مشورة فيهم رجل اسمه محمد لم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك فيه» أي في الأمر الذي اجتمعوا له، وفي رواية: «فيهم رجل اسمه محمد أو أحمد فشاوروه إلا خير لهم: أي إلا حصل لهم الخير فيما تشاوروا فيه: «وما كان اسم محمد في بيت إلا جعل الله في ذلك البيت بركة » واتهم راوي ذلك بأنه مجروح.

ورُوي «ما قعد قوم قط على طعام حلال فيهم رجل اسمه اسمي إلا تضاعفت فيهم البركة » أي اسمه المشهور وهو أحمد أو محمد كما تقدم.

وفي الشفاء: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض عبادتهم» أي بالباء الموحدة «كل دار فيها اسم محمد» أي حراسة أهل كل دار فيها اسم محمد. وقد ذكر الحافظ السيوطي أن هذا الحديث غير ثابت.

وعن الحسين بن علي بن أبي طالب   قال: «من كان له حمل فنوى أن يسميه محمدا حوّله الله تعالى ذكرا وإن كان أنثى» قال بعض رواة الحديث فنويت سبعة كلهم سميتهم محمدا. وعنه «من كان له ذو بطن فأجمع أن يسميه محمدا رزقه الله تعالى غلاما».

وشكت إليه امرأة بأنها لا يعيش لها ولد، فقال لها: «اجعلي لله عليك أن تسميه ـ أي الولد الذي ترزقينه ـ محمدا، ففعلت فعاش ولدها».

وعن علي   مرفوعا «ليس أحد من أهل الجنة إلا يدعى باسمه ـ أي ولا يكنى ـ إلا آدم فإنه يدعى أبا محمد تعظيما له وتوقيرا للنبي » أي لأن العرب إذا عظمت إنسانا كنته، ويكنى الإنسان بأجلّ ولده قاله الحافظ الدمياطي. وفي رواية «ليس أحد ـ أي من أهل الجنة ـ يكنى إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد» أي وفي حديث معضل «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يا محمد قم فادخل الجنة بغير حساب، فيقوم كل من اسمه محمد يتوهم أن النداء له، فلكرامة محمد لا يمنعون».

وفي الحلية لأبي نعيم عن وهب بن منبه قال: كان رجل عصى الله مائة سنة ـ أي في بني إسرائيل ـ ثم مات فأخذوه وألقوه في مزبلة، فأوحى الله تعالى إلى موسى   أن أخرجه فصل عليه، قال: يا رب إن بني إسرائيل شهدوا أنه عصاك مائة سنة، فأوحى الله إليه: هكذا، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم محمد قبله ووضعه على عينيه، فشكرت له ذلك وغفرت له وزوجته سعبين حوراء».

ومن الفوائد أنه جرت عادة كثير من الناس إذا سمعوا بذكر وضعه أن يقوموا تعظيما له، وهذا القيام بدعة لا أصل لها: أي لكن هي بدعة حسنة، لأنه ليس كل بدعة مذمومة. وقد قال سيدنا عمر   في اجتماع الناس لصلاة التراويح: نعمت البدعة. وقد قال العز بن عبد السلام: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة، وذكر من أمثلة كل ما يطول ذكره.

ولا ينافي ذلك قوله: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة » وقوله: «من أحدث في أمرنا ـ أي شرعنا ـ ما ليس منه فهو رد عليه» لأن هذا عام أريد به خاص. فقد قال: إمامنا الشافعي قدس الله سره: ما أحدث وخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهو البدعة الضلالة، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئا من ذلك فهو البدعة المحمودة. وقد وجد القيام عند ذكر اسمه من عالم الأمة ومقتدي الأئمة دينا وورعا الإمام تقي الدين السبكي، وتابعه على ذلك مشايخ الإسلام في عصره، فقد حكى بعضهم أن الإمام السبكي اجتمع عنده جمع كثير من علماء عصره فأنشد منشد قول الصرصري في مدحه:

قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب ** على ورق من خط أحسن من كتب

وأن تنهض الأشراف عند سماعه ** قياما صفوفا أو جثيا على الركب

فعند ذلك قام الإمام السبكي   وجميع من في المجلس، فحصل أنس كبير بذلك المجلس، ويكفي مثل ذلك في الاقتداء.

وقد قال ابن حجر الهيتمي: والحاصل أن البدعة الحسنة متفق على ندبها، وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة، ومن ثم قال الإمام أبو شامة شيخ الإمام النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مشعر بمحبته وتعظيمه في قلب فاعل ذلك، وشكر الله على ما منّ به من إيجاد رسوله الله الذي أرسله رحمة للعالمين، هذا كلامه.

قال السخاوي: لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. قال ابن الجوزي: من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام.

وأول من أحدثه من الملوك صاحب أربل وصنف له ابن دحية كتابا في المولد سماه (التنوير بمولد البشير النذير) فأجازه بألف دينار، وقد استخرج له الحافظ ابن حجر أصلا من السنة، وكذا الحافظ السيوطي، وردا على الفاكهاني المالكي في قوله إن عمل المولود بدعة مذمومة.

باب ذكر رضاعه وما اتصل به

يقال إنه ارتضع من ثمانية من النساء، وقيل من عشرة بزيادة: خولة بنت المنذر، وأم أيمن عزيزة قالت: أول من أرضع رسول الله ثويبة: أي بعد إرضاع أمه له كما سيأتي، قال: وثويبة هي جارية عمه أبي لهب، وقد أعتقها حين بشرته بولادته: أي فإنها قالت له: أما شعرت أن آمنة ولدت ولدا. وفي لفظ غلاما لأخيك عبد الله، فقال لها: أنت حرة، فجوزي بتخفيف العذاب عنه يوم الاثنين، بأن يسقى ماء في جهنم في تلك الليلة: أي ليلة الاثنين، في مثل النقرة التي بين السبابة والإبهام اهـ: أي أن سبب تخفيف العذاب عنه يوم الاثنين ما يسقاه تلك الليلة في تلك النقرة.

ويذكر أن بعض أهل أبي لهب: أي وهو أخوه العباس   رآه في النوم في حالة سيئة، فعن العباس   قال: مكثت حولا بعد موت أبي لهب لا أراه في نوم، ثم رأيته في شرّ حال: فقلت له: ماذا لقيت. فقال له أبو لهب: لم أذق بعدكم رخاء. وفي لفظ: فقال له بشر خيبة، بفتح الخاء المعجمة، وقيل بكسر الخاء: وهي سوء الحال، غير أني سقيت في هذه وأشار إلى النقرة المذكور بعتاقتي ثويبة، ذكره الحافظ الدمياطي.

والذي في المواهب: وقد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم: فقيل له: ما حالك؟ فقال في النار، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمصّ من بين أصبعيّ هاتين ماء، وأشار برأس أصبعيه، وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عند ما بشرتني بولادة النبي وبإرضاعها له فليتأمل.

وقيل إنه إنما أعتقها لما هاجر إلى المدينة: أي فإن خديجة   كانت تكرمها وطلبت من أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله إلى المدينة أعتقها أبو لهب.

أقول: قد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون لما أعتقها لم يظهر عتقها وإباؤه بيعها لكونها كانت معتوقة ثم أظهر عتقها بعد الهجرة والله أعلم. وإرضاعها له كان أياما قلائل قبل أن تقدم حليمة، وكان بلبن ابن لها يقال له مسروح، وهو بضم الميم وسين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة ثم حاء مهملة، كذا في النور. وفي السيرة الشامية بفتح الميم، وكانت قد أرضعت قبله أبا سفيان ابن عمه الحارث.

وفي كلام بعضهم كان تربا له، وكان يشبهه، وكان يألفه إلفا شديدا قبل النبوة فلما بعث عاداه وهجره وهجا أصحابه  ، فإنه كان شاعرا مجيدا وسيأتي إسلامه   عند توجهه لفتح مكة وأرضعت ثويبة   قبلهما عمه حمزة بن عبد المطلب، وكان أسنّ منه بسنتين، وقيل بأربع سنين.

أقول: هذا يخالف ما تقدم من أن عبد المطلب تزوج من بني زهرة هالة وأتى منها بحمزة، وأن عبد الله تزوج من بني زهرة آمنة وذلك في مجلس واحد، وأن آمنة حملت برسول عند دخول عبد الله بها، وأنه دخل بها حين أملك عليها فكيف يكون حمزة أسنّ منه بسنتين، إلا أن يقال ليس فيما تقدم تصريح بأن عبد المطلب وعبد الله دخلا على زوجتيهما في وقت واحد.

وعبارة السهيلي: هالة بنت وهيب عبد بن مناف بن زهرة عم آمنة بنت وهب أم النبي تزوجها عبد المطلب، وتزوج ابنه عبد الله آمنة في ساعة واحدة، فولدت هالة لعبد المطلب حمزة، وولدت آمنة لعبد الله رسول الله، ثم أرضعتهما ثويبة، هذا كلامه، وليس فيه كقول (أسد الغابة) المتقدم أن عبد المطلب تزوج هو وعبد الله في مجلس واحد تصريح بأنهما دخلا بزوجتيهما في وقت واحد، لإمكان حمل التزوج على الخطبة المصرح بها فيما تقدم عن ابن المحدث: أن عبد المطلب خطب هالة في مجلس خطبة عبد الله لآمنة، والله أعلم.

ثم رأيت في الاستيعاب قال: كان أي حمزة أسنّ من رسول الله بأربع سنين، وهذا لا يصح عندي لأن الحديث الثابت أن حمزة أرضعته ثويبة مع رسول الله، إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين، هذا لفظه، وفيه ما علمت، وفيه أيضا على تسليم أنها أرضعتهما في زمانين، لكن بلبن ابنها مسروح كما سيأتي.

ويبعد بقاء لبن ابنها مسروح أربع سنين ثم أرضعت به رسول الله، وسيأتي الجواب عنه.

وأرضعت ثويبة   بعده أبا سلمة بن عبد الأسد أي ابن عمته الذي كان زوجا لأم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين  . فقد أرضعت ثويبة حمزة ثم أبا سفيان ابن عمه الحارث ثم رسول الله، ثم أبا سلمة، وهو مخالف بظاهره لقول المحب الطبري. وأرضعته ثويبة جارية أبي لهب وأرضعت معه حمزة بن عبد المطلب وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بلبن ابنها مسروح، هذا كلامه، وفيه ما علمت.

وقد يجاب بأنه ممكن بأن تكون لم تحمل على ولدها مسروح في المدة المذكورة فاستمر لبنها.

وأيضا هي أرضعت بين حمزة ورسول الله ابن عمه أبا سفيان الحارث كما علمت.

وذكر بعضهم أن أبا سلمة أول من يدعى للحساب اليسير، وقد روي عن النبي حديثا واحدا، فعن أم سلمة   قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله، فقال: فقد سمعت من رسول الله قولا سررت به قال: «لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف عليّ خيرا منها إلا فعل به» قال الترمذي حسن غريب. ويدل لكون أبي سلمة أخاه من الرضاعة ما جاء عن أم حبيبة قالت: «دخل عليّ رسول الله، فقلت له: هل لك في أختي بنت أبي سفيان» أي وهي عزة بعين مهملة ثم زاي: أي وفي رواية «هل لك في أختي حمنة بنت أبي سفيان» والذي في مسلم «انكح أختي عزة » أي وفي البخاري «أنكح أختي بنت أبي سفيان، قال: أو تحبين ذلك؟ قالت نعم، لست لك بمخلية » بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام وبالتحتية: أي لست لك بتاركة عدم أخذها، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي : فإن ذلك لا يحل لي، قالت: فوالله إني أنبئت» أي وفي لفظ «إنا لنتحدث أنك تخطب درة » أي وفي لفظ «تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة » أي بضم الدال المهملة، وأما ضبطه بفتح الذال المعجمة قال بعضهم: هو تصحيف لا شك فيه، تعني بدرة بنتها من أبي سلمة «قال: ابنة أبي سلمة؟ قلت نعم، فقال: والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة: أرضعتني وإياه ثويبة » أي وفي رواية «لولا أني لم أنكح أم سلمة يعني أم حبيبة التي هي أمها لم تحل لي، إن أباها أخي من الرضاعة » أي وأختك على فرض أن لا تكون بنت أخي من الرضاعة لا يحل لي أن أجمعها معك «فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن» قيل وفي هذا: أي وفي قوله «لو لم تكن ربيبتي في حجري» وفي قوله: تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} حجة لداود الظاهري أن الربيبة لا تحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها، فإن لم تكن في حجره فهي حلال له: أي وقيل لها ربيبة لأنها مأخوذة من الرب وهو الإصلاح، لأن زوج أمها يقوم بإصلاح أحوالها. قال: ولك أن تقول: كان الظاهر الاقتصار على الأخوات، لأن أم حبيبة هي التي عرضت أختها ولم تعرض بنتها التي هي درة.

وقد يجاب بأنه جعل خطاب أم حبيبة خطابا لجميع زوجاته، لأن هذا الحكم لا يختص بواحدة دون أخرى اهـ.

أقول: فيه أن هذا واضح لو كان في زوجاته من عرض عليه بنته، إلا أن يقال المراد فلا تعرضن لا ينبغي لكن أن تعرضن، وذلك لا يستلزم وقوع العرض بالفعل.

ثم رأيت الإمام النووي   ذكر أن هذا من أم حبيبة: أي من عرض أختها محمول على أنها لم تكن تعلم تحريم الجمع بين الأختين عليه. قال: وكذا لم تعلم من عرض بنت أم سلمة تحريم الربيبة، هذا كلامه، وهو يقتضي أن بعض الناس عرض عليه بنت أم سلمة. وإذا كان من عرضها عليه إحدى نسائه اتجه قوله: «فلا تعرضن عليّ بناتكن» تأمل.

وبهذا الحديث استدل من قال: إنه لا يجوز له أن يجمع بين المرأة وأختها، وهو الراجح من وجهين.

ومقابله يقول: خص بجواز ذلك له، ولا يجمع بين المرأة وبنتها، خلافا لوجه حكاه الرافعي، وهذا الحديث وهو قوله: « لو لم أنكح أم سلمة لم تحل لي» يردّ هذا الوجه.

وعبارة الخصائص الصغرى: وله الجمع بين المرأة وأختها وعمتها وخالتها في أحد الوجهين، وبين المرأة وابنتها في وجه حكاه الرافعي وتبعه في الروضة. وجزموا بأنه غلط، والله أعلم.

ومما يدل أيضا على أن عمه حمزة أخوه من الرضاعة ما جاء عن علي   قال: «قلت: يا رسول الله ما لك لا تتوَّق في قريش» أي بمثناتين فوق مفتوحتين ثم واو مشددة ثم قاف: أي لا تتشوق إليهم، مأخوذ من التوق الذي هو الشوق. وفي رواية بالتاء والنون: أي لا تختار ولا تتزوج منهم. قال: أو عندك؟ قلت نعم ابنة حمزة: أي عمه، وهي أمامة وهي أحسن فتاة في قريش، قال: «تلك ابنة أخي من الرضاعة » أي وهذا، من عليّ   محمول على أنه لم يكن يعلم بتحريم بنت الأخ من الرضاعة عليه، أو أنه لم يكن يعلم أن عمه حمزة أخ له من الرضاعة.

وفيه أنه جاء رواية «أليس قد علمت أنه أخي من الرضاعة، وأن الله قد حرم من الرضاعة ما حرم من النسب» إلا أن يراد بقوله: «قد علمت» أي أعلم. قال: ولعله لم يقل أرضعتني وإياه ثويبة كما قال ذلك في أبي سلمة، لأن ثويبة أرضعت حمزة، ثم رسول الله، ثم أبا سلمة لأن حمزة رضيعه أيضا من امرأة من بني سعد غير حليمة، كان حمزة   مسترضعا عندها في بني سعد، أرضعته يوما وهي عند حليمة: أي فهو رضيعه من جهة ثويبة، ومن جهة تلك المرأة السعدية، ولم أقف على اسم تلك المرأة اهـ: أي ولو اقتصر على ثويبة لأوهم أنه لم يرتضع معه على غيرها. وذكر في الأصل أن بعضهم ذكر من مراضعه خولة بنت المنذر.

أقول: وتقدم ذلك، ونسب هذا البعض في ذلك للوهم، وأن خولة بنت المنذر التي هي أم بردة إنما كانت مرضعة لولده إبراهيم.

وقد يجاب عنه بأنه يجوز أن تكون خولة بنت المنذر اثنتان: واحدة أرضعته، وواحدة أرضعت ولده إبراهيم، وأن خولة التي أرضعته هي السعدية التي كانت ترضع حمزة التي قال فيها الشمس الشامي: لم أقف على اسم تلك المرأة، والله أعلم، ولم يذكر إسلام ثويبة إلا ابن منده.

قال الحافظ ابن حجر: وفي طبقات ابن سعد ما تدل على أنها لم تسلم، ولكن لا يدفع نقل ابن منده به. وفي الخصائص الصغرى: لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت ولم أقف على إسلام ابنها مسروح.

أقول: ومما يدل على عدم إسلامه ما جاء بسند ضعيف «إذا كان يوم القيامة أشفع لأخ لي في الجاهلية » قال الحافظ السيوطي: يعني أخاه من الرضاعة لأنه لم يدرك الإسلام.

لا يقال: من أين أنه مسروح جاز أن يكون ابن حليمة، وهو عبد الله الذي كان يرضع معه، بناء على أنه لم تدرك الإسلام، لأنه لم يعرف له إسلام.

لأنا نقول: سيأتي عن شرح الهمزية لابن حجر أن عبد الله ولد حليمة أسلم، والله أعلم.

أي وقد يدل على عدم إسلام ثويبة وابنها المذكور الذي هو مسروح ما جاء «أنه كان يبعث لها بصلة وكسوة وهي بمكة، حتى جاءه خبر وفاتها مرجعه من خيبر سنة سبع، فقال: ما فعل ابنها مسروح، فقيل مات قبلها» أي ولو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة.

أقول: وهذا بظاهره يدل على أن مسروحا أدرك الإسلام. وقد ينافي علم وفاتهما مرجعه من خيبر ما ذكر السهيلي أنه   كان يصلها من المدينة، فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح، فأخبر أنهما ماتا.

وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون سؤاله الثاني للتثبت لوصوله محل إقامتهما.

والقول بأنهما لو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة. يقال عليه: يجوز أن تكون الهجرة تعذرت عليهما لعارض عرض لهما، والله أعلم. قال: وجاء أن أمه أرضعته تسعة أيام.

أقول: وعن عيون المعارف للقضاعي سبعة أيام. وفي الإمتاع أنها أرضعته سبعة أشهر، ثم أرضعته ثويبة أياما قلائل، هذا كلامه، وقوله ثم أرضعته ثويبة يخالف ما تقدم، من أن أول من أرضعه ثويبة، إلا أن يقال المراد أول من أرضعه غير أمه ثويبة فلا مخالفة.

وبهذا يرد نقل ابن المحدث عن الأصل أن أول لبن نزل جوفه لبن ثويبة، فإنه فهم ذلك من قول الأصل: أول من أرضعه ثويبة، لما علمت أن الأولية إضافية لا حقيقة، إلا أن يدعى ذلك في نقل ابن المحدّث أيضا: أي أول لبن نزل جوفه بعد لبن أمه والله أعلم.

قال: وأرضعه ثلاث نسوة: أي أبكار من بني سليم، أخرجن ثديهن فوضعنها في فمه فدرت في فيه فرضع منهن، وأرضعته أم فروة اهـ. أي وهؤلاء النسوة الأبكار كل واحدة منهن تسمى عاتكة، وهن اللاتي عناهن بقوله: «أنا ابن العواتك من سليم» على ما تقدم.

وما تقدم من أن أم أيمن أرضعته ذكره في الخصائص الصغرى، ردّ بأنها حاضنته لا مرضعته.

وعلى تقدير صحته ينظر بلبن أي ولد لها كان، فإنه لا يعرف لها ولد إلا أيمن وأسامة، إلا أن يقال جاز أن لبنها در له من غير وجود ولد كما تقدم في النسوة الأبكار.

وأرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب، وتكنى أم كبشة: أي باسم بنت لها اسمها كبشة، ويكنى بها أيضا والدها الذي هو زوج حليمة: أي وكانت من هوازن أي من بني سعد بن بكر بن هوازن، وسيأتي الكلام على إسلامها.

وعنها أنها كانت تحدّث أنها خرجت من بلدها معها ابن لها ترضعه اسمه عبد الله، ومعها زوجها. قال: وهو الحارث بن عبد العزى، ويكنى أبا ذؤيب: أي كما يكنى أبا كبشة أدرك الإسلام وأسلم.

فقد روى أبو داود بسند صحيح عن عمرو بن السائب أنه بلغه «أن رسول الله كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة، فقام رسول الله وأجلسه بين يديه».

وعن ابن إسحاق: بلغني أن الحارث إنما أسلم بعد وفاة النبي، وهو يؤيد قول بعضهم: لم يذكر الحارث كثير ممن ألف في الصحابة اهـ.

أقول: يدل للأول ظاهر ما روي «أن الحارث هذا قدم على رسول الله بمكة بعد نزول القرآن عليه » فقالت له قريش: أو تسمع يا حارث ما يقول ابنك؟ فقال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يبعث من في القبور، وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه، ويكرم فيهما من أطاعه: أي يعذب في إحداهما من عصاه وهي النار، ويكرم في الأخرى من أطاعه وهي الجنة، فقد شتت أمرنا، وفرق جماعتنا، فأتاه فقال: أي بني، ما لك ولقومك، يشكونك ويزعمون أنك تقول كذا: أي أن الناس يبعثون، بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة ونار «فقال له رسول الله، نعم أنا أقول ذلك» وفي لفظ «أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت فلآخذنّ بيدك حتى أعرّفك حديثك اليوم» فأسلم الحارث بعد ذلك وحسن إسلامه: أي وقد كان يقول حين أسلم: لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني حتى يدخلني الجنة، وإنما قلنا ظاهر، لأنه قد يقال قوله بعد ذلك يصدق بما بعد وفاته، فلا دلالة في ذلك على أنه أسلم في حياته.

وفي شرح الهمزية لابن حجر: ومن سعادتها يعني حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها، وهم: عبد الله، والشيما، وأنيسة، هذا كلامه.

وفي الإصابة أن رسول الله كان جالسا ـ أي على ثوب ـ فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام رسول الله فجلس بين يديه» ورجاله ثقات، ولعل المراد بجلوسه بين يديه جلوسه مقابله، وحينئذ ففاعل جلس النبي، وضمير يديه راجع لأخيه: أي قام عن محل جلوسه على الثوب، وأجلس أخاه على الثوب مكانه وجلس قبالة أخيه، فعل ذلك ليكون أخوه هو وأبواه جميعا على الثوب، والله أعلم.

قالت: وخرجت في نسوة من بني سعد: أي ابن بكر بن هوازن عشرة يطلبن الرضعاء في سنة شهباء: أي ذات جدب وقحط لم تبق شيئا، على أتان قمراء بفتح القاف والمد: أي شديد البياض، ومعنى شارف أي ناقة مسنة، ما تبض بالضاد المعجمة، وربما روي بالمهملة: أي ما ترشح بقطرة لبن، قالت: وما كنا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثديي. وفي رواية ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه بمعجمتين، وقيل بمعجمة ثم مهملة، وقيل بإسكان العين المهملة وكسر الذال المعجمة وضم الباء الموحدة: أي ما يكفيه بحيث يرفع رأسه وينقطع عن الرضاعة. قالت حليمة: ولكنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فلقد أدمت بالدال المهملة وتشديد الميم بالركب: أي حبسته بتأخرها عنه لشدة عنائها وتعبها لضعفها وهزالها، حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكة نلتمس: أي نطلب الرضعاء جمع رضيع، وأدمّ مأخوذ من الماء الدائم، يقال أدم بالركب: إذا أبطأ حتى حبسهم، ويروى بالمعجمة: أي جاء بما يذم عليه وهو هنا الإبطاء.

أقول: لأنه كان من شيم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم ولد يلتمسون له مرضعة في غير قبيلتهم، ليكون أنجب للولد، وأفصح له. وقيل لأنهم كانوا يرون أنه عار على المرأة أن ترضع ولدها انتهى: أي تستقل برضاعه.

ويدل للأول ما جاء أنه كان يقول لأصحابه «أنا أعربكم» أي أفصحكم عربية «أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد» وجاء «أن أبا بكر   لما قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله، فقال له: ما يمنعني وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد؟ » فهذا كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات.

ومن ثم نقل عن عبد الملك بن مروان أنه كان يقول: أضر بناحب الوليد، يعني ولده، لأنه لمحبته له أبقاه مع أمه في المصر ولم يسترضعه في البادية مع الأعراب، فصار لحانا لا عربية له. وأخوه سليمان استرضع في البادية مع الأعراب فصار عربيا غير لحان.

قالت حليمة: فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله فتأباه إذا قيل لها يتيم، وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الإنطلاق: أي عزمنا عليه، قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك الرضيع فلآخذنه، قال: لا عليك: أي لا بأس عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته.

أقول: وهذا السياق قد يخالف قول بعضهم: إن عبد المطلب خرج يلتمس له المراضع فجاءت له حليمة ابنة أبي ذؤيب، إلا أن يقال: جاز أن يكون التماسه للمراضع غير حليمة كان عند قدومهن، وأبين أن يقبلن، ثم طلب من حليمة ذلك بعد أن لم يجد رضيعا. ويدل لذلك قول صاحب (شفاء الصدور) إن حليمة قالت: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد قال: ما اسمك؟ قلت حليمة، فتبسم عبد المطلب وقال: بخ بخ، سعد وحلم، خصلتان فيهما خير الدهر وعز الأبد، يا حليمة إن عندي غلاما يتيما، وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلن وقلن: ما عند اليتيم من الخير، إنما نلتمس الكرامة من الآباء، فهل لك أن ترضعيه، فعسى أن تسعدي به؟ فقلت: ألا تذرني حتى أشاور صاحبي، فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته، فكأن الله قذف في قلبه فرحا وسرورا، فقال لي: يا حليمة خذيه، فرجعت إلى عبد المطلب فوجدته قاعدا ينتظرني، فقلت: هلمّ الصبي، فاستهل وجهه فرحا، فأخذني وأدخلني بيت آمنة، فقالت لي أهلا وسهلا، وأدخلتني في البيت الذي فيه محمد، فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن، وتحته حريرة خضراء، راقد على قفاه يغط، يفوح منه رائحة المسك، فأشفقت: أي خفت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكا وفتح عينيه إليّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه وأخذته، وما حملني على أخذه: أي أكد أخذه إلا أني لم أجد غيره، وإلا فما ذكرته من أوصافه مقتض لأخذه: أي وهذه الرواية ربما تدل على أنها لم تره قبل ذلك، وأن إباءها كان قبل رؤيتها له، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل ثدياي بما شاء الله من لبن فشرب حتى روي: أي من الثدي الأيمن، وعرضت عليه الأيسر فأباه. قالت حليمة: وكانت تلك حالته بعد: أي بعد ذلك: لا يقبل إلا ثديا واحدا وهو الأيمن.

وفي السبعيات للهمداني: أن أحد ثديي حليمة كان لا يدر اللبن منه، فلما وضعته في فم رسول الله در اللبن منه. قالت: وشرب معه أخوه حتى روي ثم نام، وما كنا ننام معه قبل ذلك: أي فعدم نومه من الجوع، فقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا هي حافل: أي ممتلئة الضرع من اللبن، فجلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، قلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته معي عليها فوالله لقطعت بالركب: أي صيرته خلفها ما يقدر عليها: أي على مرافقتها ومصاحبتها شيء من حمرهن، حتى أن صواحبي يقلن لي: يا بنت أبي ذؤيب، ويحك، اربعي: أي اعطفي علينا بالرفق وعدم الشدة في السير، أليس هذا أتانك التي كنت خرجت عليها تخفضك طورا وترفعك أخرى؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأنا: أي وقالت حليمة فكنت أسمع أتاني تنطق وتقول: والله إن لي لشأنا ثم شأنا، شأني بعثني الله بعد موتي، ورد لي سمني بعد هزالي، ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة، وهل تدرين من على ظهري؟ على ظهري خير النبيين، وسيد المرسلين، وخير الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين، ذكره في النطق المفهوم.

وذكرت أنها لما أرادت فراق مكة رأت تلك الأتان سجدت: أي خفضت رأسها نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت. قالت: ثم قدمنا منازل بني سعد ولا أعلم أرضا من أراضي الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا: أي غزيرات اللبن، فنحلب ونشرب. ولفظ: فنحلب، ما شئنا والله ما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضر: أي المقيم في المنازل من قومنا يقول لرعاتهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب يعنونني، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبا لا يشبه الغلمان، فلم يقطع سنتيه حتى كان غلاما جفرا: أي غليظا شديدا.

وعن حليمة   أنه لما بلغ شهرين كان يجيء إلى كل جانب: أي وهذا يضعف ما تقدم عن الامتناع من أن أمه أرضعته سبعة أشهر. قالت حليمة: فلما بلغ ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه، ولما بلغ تسعة أشهر كان يتكلم الكلام الفصيح، ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان.

وعنها   أنها قالت، إنه لفي حجري ذات يوم إذ مرت به غنيماتي، فأقبلت واحدة منهن حتى سجدت له وقبلت رأسه ثم ذهبت إلى صواحبها.

أقول: وقد سجدت له الغنم، وكذا الجمل بعد بعثته والهجرة، فعن أنس بن مالك   «أن رسول الله دخل حائطا: أي بستانا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجال من الأنصار وفي الحائط غنم، فسجدت له، فقال أبو بكر  : يا رسول الله كنا أحق بالسجود لك من هذه الغنم؟ فقال: إنه لا ينبغي في أمتي أن يسجد أحد لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» زاد في رواية «ولو أن رجلا أمر زوجته أن تنقل من جبل إلى جبل لكان نولها: أي حقها أن تفعل» «وحرب جمل بكسر الراء: أي اشتد غضبه، فصار لا يقدر أحد يدخل عليه، فذكر ذلك لرسول الله فقال لأصحابه: افتحوا عنه، فقالوا: إنا نخشى عليك يا رسول الله، فقالوا: افتحوا عنه ففتحوا عنه فلما رآه الجمل خرّ ساجدا: أي فأخذ بناصيته ثم دفعه لصاحبه وقال استعمله وأحسن علفه، فقال القوم: يا رسول الله كنا أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة، فقال كلا» الحديث. وفي هذا دلالة على عظيم حق الزوج على زوجته.

وجاء مما يدل على ذلك أيضا ما روي «أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت رسول الله فقالت: يا رسول الله إن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، ونحن معاشر النساء، مقصورات مخدرات، قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا بالجماعات، وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا لهم أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله بوجهه إلى أصحابه وقال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: انصرفي يا أسماء، واعلمي بأنك من النساء، إنّ حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال» أي من حضور الجماعات وشهود الجنائز والجهاد، فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارا بما قال لها رسول الله. والتبعل: ملاعبة المرأة لزوجها، والله أعلم.

قالت حليمة: وكان ينزل عليه كل يوم نور كنور الشمس ثم ينجلي عنه، وإلى قصة رضاعه يشير صاحب الهمزية بقوله:

وبدت في رضاعه معجزات ** ليس فيها عن العيون خفاء

إذ أتته ليتمه مرضعات ** قلن ما في اليتيم عنا غناء

فأتته من آل سعد فتاة ** قد أبتها لفقرها الرضعاء

أرضعته لبانها فسقتها ** وبنيها ألبانهن الشاء

أصبحت شوّلا عجافا وأمست ** ما بها شائل ولا عجفاء

أخصب العيش عندها بعد محل ** إذ غدا للنبي منها غذاء

يا لها منة لقد ضوعف الأجر ** عليها من جنسها والجزاء

وإذا سخر الإله أناسا ** لسعيد فإنهم سعداء

أي وظهرت في رضاعه؟ وفي زمن رضاعه أمور خارقة للعادة لوضوحها لا تخفى على العيون.

فمن ذلك أن المراضع أبين أن يأخذنه لأجل يتمه، فبعد أن تركته أتت فتاة من آل سعد قد أبتها أهل الرضعاء لفقرها فسقته لبنها فسقتها وبنيها الشاء ألبانها، وكانت تلك الشياه لا لبن بها بل هزيلات، فصارت ذات ألبان وسمن.

ومن ذلك أن العيش كثر عندها بعد شدة المحل لأجل حصول غذاء النبي : يا لها أي لتلك الخصلة الصادرة من حليمة وهي سقيها له لبنها نعمة منها عليه، لقد كرر الثواب والجزاء على تلك النعمة من جنس تلك النعمة، لأن الجزاء من جنس العمل فلما سقت اللبن سُقِيته، ولا بدع فإن الله تعالى إذا سخر أناسا لمحبة سعيد والقيام بخدمته فإنهم بسبب ذلك سعداء.

أقول: لم أقف على رواية فيها أن حليمة أبتها أهل الرضعاء لفقرها وكأن الناظم أخذ ذلك من قولها: فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره ولا دلالة في ذلك.

واستفتي الحافظ ابن حجر عن بعض الوعاظ يذكر عند اجتماع الناس للمولد حادثات أي وقائع تتعلق به جاءت بها الأخبار هي مخلة بالتعظيم حتى يظهر من السامعين لها حزن، فيبقى في حيز من يرحم لا في حيز من يعظم. من ذلك أنهم يقولون إن المراضع حضرن ولم يأخذنه لعدم ماله ونحو ذلك، فما قولكم في ذلك؟

فأجاب بما نصه: ينبغي لمن يكون فطنا أن يحذف من الخبر: أي الحديث ما يوهم في المخبر عنه نقصا ولا يضره ذلك، بل يجب كما وقع لإمامنا الشافعي   حيث قال في بعض نصوصه «وقطع رسول الله امرأة لها شرف فكلم فيه، فقال: لو سرقت فلانة لامرأة شريفة لقطعتها، يعني فاطمة بنت النبي » فلم يصرح باسمها تأدبا معها أن تذكر في هذا المعرض ـ وإن كان ذكرها ـ لأن ذلك منه حسن دلّ على أن الخلق عنده في الشرع سواء، فهذا من كمال أدب الإمام   وأرضاه، ونفعنا ببركاته: أي فإذا جاز حذف بعض الحديث الموهم نقصا في بعض أهل بيته، فما بالك بما يوهم النقص فيه، وهذا من الحافظ يدل على أن إباء المراضع له وارد حيث أقره ولم ينكره، والله أعلم.

قال: وعن ابن عباس   «كان أول كلام تكلم به حين فطمته حليمة  ، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا» أي وقد تقدم أنه تكلم بهذا عند خروجه من بطن أمه. وفي رواية «أوّل كلام تكلم به في بعض الليالي: أي وهو عند حليمة: لا إله إلا الله قدوسا قدوسا نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم» وكان لا يمس شيئا إلا قال بسم الله.

وعن حليمة   «لما دخلت به إلى منزلي لم يبق منزل من منازل بني سعد إلا شممنا منه ريح المسك، وألقيت محبته: أي واعتقاد بركته في قلوب الناس، حتى إنّ أحدهم كان إذا نزل به أذى في جسده أخذ كفه فيضعها على موضع الأذى فيبرأ بإذن الله تعالى سريعا. وكذلك إذا اعتل لهم بعير أو شاة انتهى.

قالت حليمة: فقدمنا مكة على أمه: أي بعد أن بلغ سنتين ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلت لها: لو تركتي بنيّ عندي حتى يغلظ.

وفي كلام ابن الأثير: قلنا لها دعينا نرجع به هذه السنة الأخرى فإني أخشى عليه وباء مكة: أي مرضها ووخمها فلم نزل بها حتى ردّته معنا.

وقيل إن أمه آمنة قالت لحليمة: ارجعي بابني، فإني أخاف عليه وباء مكة، فوالله ليكونن له شأن أي ولا مخالفة بينهما لجواز أن حليمة لما قالت لها ما تقدم قالت لحليمة ارجعي بابني على الفور فإني أخاف عليه وباء مكة: أي كما تخافين عليه ذلك. قالت حليمة: فرجعنا به فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر. عبارة ابن الأثير: بعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه يعني من الرضاعة، لفي بهم لنا، ولعل هذا لا ينافيه قول المحب الطبري: فلما شب وبلغ سنتين لأنه ألغي أي ذلك الكسر، فبينما هو وأخوه في بهم لنا خلف بيوتنا. والبهم: أولاد الضأن، إذ أتى أخوه يشتد. أي يعدو، فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه، فشقا بطنه فهما يسوطانه: أي يدخلان يديهما في بطنه، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه. وفي لفظ لونه أي متغير أي صار لونه كلون النقع الذي هو الغبار وهو صفة ألوان الموتى، وذلك لما ناله من الفزع أي من رؤية الملائكة، لا من مشقة نشأت عن ذلك الشق، لما يأتي في بعض الروايات: فلم أجد لذلك حسا ولا ألما، ومن ثم قال ابن الجوزي: فشقة وما شق عليه، وإطلاقه شامل لهذه المرة التي هي الأولى، وقد قال بعضهم: إنه لم ينتقع لونه إلا وهو صغير في بني سعد.

قالت: فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له: ما لك يا بني؟ فقال: جاءني رجلان عليها ثياب بيض أي وهما جبريل وميكائيل: أي وهما المراد بقوله في رواية: فأقبل إليّ طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا أي طلباه، فوجداه فأخذاه وطرحاه ولا أدري ما هو: أي وسيأتي أن هذا الذي قال فيه وما أدري ما هو أنه علقة سوداء استخرجاها من قلبه بعد شق بطنه، ففي هذه الرواية طي ذكر القلب وشقه، وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات.

وفي رواية غريبة: نزل عليه كركيان، فشق أحدهما بمنقاره جوفه، ومجّ الآخر فيه بمنقاره ثلجا أو بردا. وقد يقال إن الطيرين تارة شبها بالنسرين وتارة شبها بالكركيين. وفي كون مجيء جبريل وميكائيل على صورة النسر لطيفة لأن النسر سيد الطيور. فقد جاء في الحديث «هبط عليّ جبريل فقال: يا محمد إن لكل شيء سيد، فسيد البشر آدم وأنت سيد ولد آدم وسيد الروم صهيب، وسيد فارس سلمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الشجر السدر، وسيد الطير النسر» وفي بحر العلوم «وسيد الملائكة إسرافيل، وسيد الشهداء هابيل، وسيد الجبال جبل موسى، وسيد الأنعام الثور، وسيد الوحوش الفيل، وسيد السباع الأسد» زاد بعضهم وسيد الشهور رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القرآن، وسيد القرآن سورة البقرة ».

قالت حليمة: فرجعنا به إلى خبائنا: أي محل الإقامة وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك. وفي رواية: قال الناس يا حليمة رديه على جده واخرجي من أمانتك. وفي رواية وقال: زوجي أرى أن ترديه على أمه لتعالجه، والله إن أصابه ما أصابه إلا حسد من آل فلان لما يرون من عظيم بركته. قالت: فحملناه فقدمنا به مكة على أمه. قال الواقدي وكان ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين أي وزاد في الاستيعاب ويومين من مولده، وكان غيره أي غير ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن أربع سنين. وذكر الأموي أنه رجع إلى أمه وهو ابن ست سنين انتهى.

أقول سياق ما قبله يدل على أن قدوم حليمة به على أمه كان عقب الواقعة المذكورة، وتقدم أن سنه حينئذ كان سنتين وأشهر، وسيأتي ما فيه والله أعلم.

وعن ابن عباس أن حليمة كانت تحدث أنه لما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم، فقال لي يوما: يا أماه ما لي لا أرى إخوتي بالنهار يعني إخوته من الرضاعة وهم أخوه عبد الله وأختاه أنيسة والشيماء بفتح المعجمة وسكون التحتية أولاد الحارث، قلت فدتك نفسي، إنهم يرعون غنما لنا فيروحون من ليل إلى ليل، قال ابعثيني معهم، فكان   يخرج مسرورا ويعود مسرورا: أي وهذا لا يخالف قولها السابق كان مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا، ولا قوله الآتي «فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا» ولا قوله «فبينما أنا ذات يوم منتبذا من أهلي في بطن وادٍ مع أتراب لي من الفتيان» كما لا يخفى.

قالت حليمة: فلما كان يوما من ذلك خرجوا، فلما انتصف إليها أتاني أخوه، أي وفي رواية إذ أتي ابني ضمرة يعدو فزعا وجبينه يرشح باكيا ينادي يا أبت ويا أمه الحقا أخي محمدا فما تلحقانه إلا ميتا. قلت: وما قضيته، قال: بينا نحن قيام إذ أتاه رجل فاختطفه من وسطنا وعلا به ذروة الجبل ونحن ننظر إليه حتى شق صدره إلى عانته ولا أدري ما فعل به.

أقول: ولعل ضمرة هذا هو أخوه عبد الله المتقدم ذكره، لقب بذلك لخفة جسمه، ولا يخالف ذلك قوله الآتي إن أترابه الذين كانوا معه انطلقوا هربا مسرعين إلى الحي يؤذونهم ويستصرخونهم ولأنه يجوز أن يكون ضمرة سبقهم، والله أعلم.

قالت حليمة: فانطلقت أنا وأبوه نسعى سعيا فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل شاخصا ببصره إلى السماء يتبسم ويضحك فأكببت عليه وقبلته بين عينيه، وقلت له: فدتك نفسي، ما الذي دهاك؟ قال خيرا كذا بالنصب يا أماه، بينا أنا الساعة قائم إذ أتاني رهط ثلاثة بيد أحدهم إبريق فضة، وفي يد الآخر طست من زمردة خضراء والزمردة بالضم والزاي المعجمة. الزبرجد، وهو معرب، فأخذوني وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فأضجعوني على الجبل إضجاعا لطيفا، وفيه أن هذا يخالف قوله الآتي: «فأخذوني حتى أتوا شفير الوادي، فعمد أحدهم فأضجعني إلى الأرض ثم شق من صدري إلى عانتي» وسيأتي الجمع بينهما. وقوله: «ثم شق من صدري إلى عانتي» هو المراد ببطنه ففيما تقدم وما يأتي. قال: «وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ولا ألما» الحديث وفي هذه الرواية طيّ ذكر القلب وشقه أيضا.

أقول: ولا منافاة في تلك الرواية بين قولها فوجدناه قائما وبين قولها في هذه الرواية:

فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل، لجواز أن تكون أرادت بقولها قائما كونه حيا وبكونه قاعدا كونه ماكثا، كما لا منافاة بين قولها في تلك الرواية منتقعا وجهه، وبين قولها في هذه الرواية يتبسم ويضحك، لأن ذلك لا ينافي الفزع: أو لجواز أن يكون تبسمه وضحكه تعجبا لما رأى من الحالة التي عليها أمه من التعب والشدة والله أعلم.

قال: وذكر ابن إسحاق أن حليمة لما قدمت به مكة لترده على أمه أي بعد شق صدره وقد بلغ أربع سنين أو خمسا أو ستا على ما تقدم أضلته في أعالي مكة فأتت جده عبد المطلب، فقالت: إني قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعالي مكة أضلني، فوالله ما أدري، أين هو؟ فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده عليه. وفي مرآة الزمان أنه أنشد:

يا رب رد لي ولدي محمدا ** اردده ربي واصطنع عندي يدا

وسيأتي أن هذا البيت أنشده عبد المطلب حين بعث النبي ليرد إبلا له ضلت.

وقد يقال: لا مانع من تكرر ذلك منه فسمع هاتفا من السماء يقول: أيها الناس لا تضجوا إن لمحمد ربا لن يخذله ولا يضيعه، فقال عبد المطلب: من لنا به، فقال: إنه بوادي تهامة عند الشجرة اليمنى، فركب عبد المطلب نحوه، وتبعه ورقة بن نوفل، وسيأتي بعض ترجمة ورقة، فوجداه قائما تحت شجرة يجذب غصنا من أغصانها، فقال له جده: من أنت يا غلام؟ فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال وأنا عبد المطلب جدك فدتك نفسي، واحتمله وعانقه وهو يبكي، ثم رجع إلى مكة وهو قدامه على قربوس فرسه، ونحر الشياه والبقر، وأطعم أهل مكة.

أقول: وقول جده له من أنت يا غلام؟ لعله لكونه وجده على حالة لا توجد لمن يكون في سنه عادة كما تقدم عن حليمة من قولها: كان يشب شبابا لا يشبه الغلمان.

وفي السيرة الهاشمية أن الذي وجده هو ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب: أي ويقال إن عمرو بن نفيل رآه وهو لا يعرفه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى أتى به عبد المطلب.

وفي كلام بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} روي عن النبي أنه قال: «ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي وصار ينشد وهو متعلق بأستار الكعبة

يا رب رد ولدي محمداالبيت، فجاء أبو جهل بين يديه على ناقة وقال لجدي ألا تدري ما وقع من ابنك؟ فسأله فقال: أنخت الناقة وأركبته من خلفي، فأبت أن تقوم، فأركبته من أمامي فقامت» ويحتاج إلى جمع على تقدير صحة كل مما ذكر.

وقد يقال: لا مانع من تعدد ذلك، ويدل لذلك أن بعض المفسرين قال في تفسير قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} قيل ضل عن حليمة مرضعته. وقيل ضل عن جده عبد المطلب وهو صغير.

قالت حليمة: فقالت أمه: ما أقدمك به يا ظئر، أي يا مرضعة؟ ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك. قلت: قد بلغ والله، وقضيت الذي عليّ وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين، فقالت: ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك؟ قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإن لابني شأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به فوالله ما رأيت: أي ما علمت من حمل قط كان أخف علي ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته إنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة.

قال: وعن حليمة أنه مر عليها جماعة من اليهود فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا، حملته كذا ووضعته كذا، ورأيت كذا كما وصفت لها أمه: أي فإنها ذكرت لها ذلك مرتين عند دفعه لها وعند أخذه منها انتهى.

أقول: ولا ينافي ذلك قول آمنة لحليمة: أولا أخبرك خبره، وقول حليمة لها بلى، لجواز أن تكون أمه لم تكن متذكرة أنها أخبرتها بذلك قبل ذلك، وأن حليمة كذلك، أو جوّزت حليمة أنها تخبرها بزيادة عما أخبرتها به أولا، بناء على اتحاد ما أخبرتها به أولا وثانيا، والله أعلم.

قالت: ولما أخبرت أولئك اليهود بذلك قال بعضهم لبعض اقتلوه، فقالوا: أيتيم هو؟ فقالت لا، هذا أبوه وأنا أمه، فقالوا لو كان يتيما قتلناه.

أقول: وهذا يدل على أن ما ذكرته أمه لحليمة من أنها حين حملت به خرج منها نور إلى آخر ما تقدم، وأن يكون لا أب له مذكورا في بعض الكتب القديمة أنه من علامة نبوة النبي المنتظر، والله أعلم.

قال: وعنها أنها نزلت به سوق عكاظ: أي وكان سوقا للجاهلية بين الطائف ونخلة المحل المعروف، كانت العرب إذا حجت أقامت بهذا السوق شهر شوال، فكانوا يتفاخرون فيه، وللمفاخرة فيه سمي عكاظ، يقال: عكظ الرجل صاحبه إذا فاخره وغلبه في المفاخرة.

وفي كلام بعضهم كان سوق عكاظ لثقيف وقيس غيلان، فرآه كاهن من الكهان فقال يا أهل سوق عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له ملكا، فزاغت: أي مالت به وحادت عن الطريق، فأنجاه الله تعالى: أي وفي الوفاء: لما قامت سوق عكاظ انطلقت حليمة برسول الله إلى عرّاف من هذيل يريه الناس صبيانهم، فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل، يا معشر العرب، فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم، فقال اقتلوا هذا الصبي، فانسلت حليمة به، فجعل الناس يقولون: أي صبي، فيقول هذا الصبي، فلا يرون شيئا، فيقال له ما هو؟ فيقول: رأيت غلاما والآلهة ليقتلنّ أهل دينكم، وليكسرن آلهتكم، وليظهرن أمره عليكم فطلب فلم يوجد.

وعنها   أنها لما رجعت به مرت بذي المجاز: وهو سوق للجاهلية على فرسخ من عرفة: أي وهذا السوق قبله سوق يقال له سوق مجنة، كانت العرب تنتقل إليه بعد انفضاضهم من سوق عكاظ فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى هذا السوق الذي هو سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج، وكان بهذا السوق عراف: أي منجم يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم، فلما نظر إلى رسول الله أي نظر إلى خاتم النبوة وإلى الحمرة في عينيه صاح: يا معشر العرب اقتلوا هذا الصبي، فليقتلن أهل دينكم، وليكسرن أصنامكم، وليظهرن أمره عليكم، إن هذا لينظر أمرا من السماء، وجعل يغري بالنبي، فلم يلبث أن وله فذهب عقله حتى مات اهـ.

أي وفي السيرة الهاشمية أن نفرا نصاري من الحبشة رأوه مع أمه السعدية حين رجعت به إلى أمه بعد فطامه، فنظروا إليه وقلبوه: أي رأوا خاتم النبوة بين كتفيه وحمرة في عينيه، وقالوا لها هل يشتكي عينيه؟ قالت، لا ولكن هذه الحمرة لا تفارقه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا الغلام كائن لنا وله شأن، نحن نعرف أمره، فلم تكد تنفلت به منهم وأتت به إلى أمه.

وعنه «واسترضعت في بني سعد، فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بيد أحدهما طست من ذهب مملوءة ثلجا فأخذاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، أي وقيل هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله» وفي رواية «فاستخرجا منه علقتين سوداوين» أي ولا مخالفة، لجواز أن تكون تلك العلقة انفلقت نصفين. وفي رواية «فاستخرجا منه مغمز الشيطان» أي وهو المعبر عنه في الرواية قبلها بحظ الشيطان.

ولا ينافي ذلك قوله في الرواية السابقة «ولا أدري ما هو» لجواز أن يكون إخباره بهذا بعد أن علمه، والمراد بمغمز الشيطان محل غمزه: أي محل ما يلقيه من الأمور التي لا تنبغي، لأن تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه فلم يبق فيه مكان لأن يلقى الشيطان فيه شيئا فلم يكن للشيطان فيه حظ، وليست هي محل غمزه عند ولادته كما يوهمه كلام غير واحد.

وفيه أن هذا يقتضي أن يكون قبل إزالة ذلك كان للشيطان عليه سبيل. أجاب السبكي بأنه لا يلزم من وجود القابل لما يلقيه الشيطان حصول الإلقاء، أي بالفعل فليتأمل.

وسئل السبكي  : فلم خلق الله ذلك القابل في الذات الشريفة وكان من الممكن أن لا يخلقه الله فيها؟ وأجاب بأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقت تكملة للخلق الإنساني، ثم نزعت تكرمة له: أي وليظهر للخلق بذلك التكرمة ليتحققوا كمال باطنه كما تحققوا كمال ظاهره: أي لأنه لو خلق خاليا عنها لم تظهر تلك الكرامة.

وفيه أنه يرد على ذلك ولادته من غير قلفة. وأجيب بالفرق بينهما بأن القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال، وقد تقدم كل ذلك.

وذكر السهيلي   ما يفيد أن هذه العلقة هي محل مغمز الشيطان عند الولادة حيث قال: إن عيسى   لما لم يخلق من منيّ الرجال وإنما خلق من نفخة روح القدس أعيذ من مغمز الشيطان.

قال: ولا يدل هذا على فضل عيسى   على محمد، لأن محمدا قد نزع منه ذلك الغمز هذا كلامه، وقد علمت أنه إنما هو محل ما يلقيه الشيطان من الأمور التي لا تنبغي، وأن ذلك مخلوق في كل واحد من الأنبياء عيسى   وغيره، ولم تنزع إلا من نبينا محمد. قال: «ثم غسلا قلبي بذلك الثلج» أي الذي في ذلك الطست «حتى أنقياه أي وملآه حكمة وإيمانا» كما في بعض الروايات: أي وفي رواية «ثم قال أحدهما لصاحبه ائتني بالسكينة، فأتى بها فذراها في قلبي» وهذه السكينة يحتمل أن تكون هي الحكمة والإيمان. ويحتمل أن تكون غيرهما وهذه الرواية فيها أن الطست كان من ذهب، وكذا في الرواية الآتية. وفي الرواية قبل هذه «كانت من زمردة خضراء» ويحتاج إلى الجمع وسنذكره في هذه الرواية وكذا الرواية الآتية أن الثلج كان في الطست. وفي الرواية قبل هذه «كان في يد أحدهما إبريق فضة » ويحتاج إلى الجمع لأن الواقعة لم تتعدد، وهو عند حليمة، وفي غسله بالثلج إشعار بثلج اليقين وبرده على الفؤاد، ذكره السهيلي  .

وذكر في حكمة كون الطست من ذهب كلاما طويلا قال: «وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن» وفي الروايات السابقة طيّ ذكر الخاتم.

وتتمة الجواب الذي أجاب به أخا بني عامر التي وعدنا بذكرها هنا هو قوله: «وكنت مسترضعا في بني سعد، فبينا أنا ذات يوم منتبذا أي منفردا «من أهلي في بطن واد مع أتراب لي» أي المقاربين بالموحدة أو النون «لي في السن من الصبيان، إذ أتى رهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملآن ثلجا فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هرابا حتى أتوا على شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا، ما أربكم؟ أي ما حاجتكم إلى هذا الغلام؟ فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش، وهو مرتضع فينا، يتيم ليس له أب، فما يرد عليكم أن يفيدكم قتله، وماذا تصيبون من ذلك؟ فإن كنتم لا بد قاتلوه أي إن كان لا بدّ لكم من قتل واحد فاختاروا منا من شئتم فليأتكم مكانه، فاقتلوه ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم، فلما رأى الصبيان أن القوم لا يجيبون جوابا انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحيّ يؤذنونهم» أي يعلمونهم «ويستصرخونهم على القوم، فعمد أحدهم إليّ فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شق بطني ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك مسا» أي أدنى مشقة «واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها» أي بالغ في غسلها «ثم أعادها مكانها» أي وقد طوى ذكر استخراج الأحشاء وغسلها في الروايات السابقة. ولا يخفى أن من جملة الأحشاء ظاهر القلب «ثم قال الثاني منهم لصاحبه تنح عنه، فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي، فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء» تقدم التعبير عنها بالعلقة السوداء «ثم رمى بها، ثم قال بيده يمنة منه كأنه يتناول شيئا، وإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه فختم به قلبي» أي بعد التئام شقه «فامتلأ نورا وذلك نور النبوة والحكمة » وقد تقدم «وملآه حكمة وإيمانا» وإن السكينة ذرت فيه ثم أعاده مكانه فوجدت برد الخاتم في قلبي دهرا، وفي رواية «فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي».

أقول: نقل شيخ بعض مشايخنا الشيخ نجم الدين الغيطي عن مغازي بن عائذ في حديثه لأخي بني عامر «وأقبل أي الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه» فليتأمل، وقوله «فصدعه» يدل بظاهره على أن صدعه كان بيد الملك، فلم يشقه بآلة، وحينئذ يكون المراد بالشق الصدع بلا آلة. وقد طوى في هذه الرواية ذكر ملء قلبه حكمة وإيمانا، وأنه ذرّ فيه السكينة. وذكر في هذه الرواية أن الختم كان لقلبه، وفي الرواية قبلها «أنه كان بين كتفيه» وفي رواية ابن عائذ «وبين ثدييه» ويحتاج إلى الجمع. والظاهر أن متعاطي الختم جبريل، ويدل عليه قول صاحب الهمزية   في هذه القصة * ختمته يمنى الأمين. وسيأتي التصريح بذلك لكن في غير هذه القصة والله أعلم. قال: «ثم قال الثالث لصاحبه تنحّ عنه فنحاه عني فأمرّ يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، وختم عليه» وفي رواية «قال أحدهما للآخر خطه فخاطه وختم عليه».

أقول: وقد يقال معنى خطه ألحمه، فخاطه «أي لحمه» أي مرّ بيده عليه فالتحم أي فلا يخالف ما سبق، ولا ينافيه ما في الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره، لجواز أن يكون المراد يرون أثرا كأثر المخيط في صدره وهو أثر مرور يد جبريل  ، وهذا طوى ذكره في الروايات السابقة، وقوله ختم عليه يقتضي أن الختم كان في صدره وهو الموافق لما تقدم عن ابن عائذ أنه بين ثدييه لكنه زاد بين كتفيه، وتقدم أن الختم كان بقلبه.

وقد يقال في الجمع، لا مانع من تعدد الختم في المحال المذكورة أي في قلبه وصدره وبين كتفيه، فختم القلب لحفظ ما فيه، وختم الصدر وبين الكتفين مبالغة في حفظ ذلك لأن الصدر وعاؤه القريب، وجسده وعاؤه البعيد، وخص بين الكتفين لأنه أقرب إلى القلب من بقية الجسد، ولعله أولى من جواب القاضي عياض   بأن الذي بين كتفيه هو أثر ذلك الختم الذي كان في صدره، إذ هو خلاف الظاهر من قوله: «وجعل الخاتم بين كتفيّ» وفيه السكوت عن ختم قلبه، ولا يحسن أن يراد بالصدر القلب من باب تسمية الحالّ باسم محله، لأنه يصير ساكتا عن ختم الصدر.

وأولى من جواب الحافظ ابن حجر   أيضا بأنه يجوز أن يكون الختم لقلبه ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر، لأن القلب في ذلك الجانب لما علمت، وفيهما أن الذي عند الأيسر خاتم النبوة: أي الذي هو علامة على النبوة الذي ولد به على ما هو الصحيح.

وفي الخصائص الصغرى: وخص بجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره وسائر الأنبياء كلهم كان الخاتم في يمينهم.

أي فقد أخرج الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه قال: «لم يبعث الله نبيا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنى إلا نبينا فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه» هذا كلامه، ولم أقف على بيان تلك الشامات التي كانت للأنبياء ما هي.

وكتب الشهاب القسطلاني على هامش الخصائص قوله: «وجعل خاتم النبوة بظهره الخ» مشكل إذ مفهومه أن موضع الدخول لقلوب الأنبياء غير نبينا لم يختم، ولا يخفى ما فيه من المحظور، فما أشنعها من عبارة وأخطأها من إشارة، هذا كلامه.

ولك أن تقول: المراد بغيره في قوله حيث يدخل الشيطان لغيره من غير الأنبياء، لما علم وتقرر في النفوس من عصمة الأنبياء من الشيطان واختص نبينا من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالختم في المحل المذكور مبالغة في حفظه من الشيطان وقطع أطماعه فليتأمل.

لا يقال: كل من جواب القاضي والحافظ ابن حجر يجوز أن يكون مبنيا على أن خاتم النبوة هو أثر هذا الختم، وهو موافق لما تمسك به القائل بأن خاتم النبوة لم يولد به، وإنما حدث بعد الولادة.

لأَنا نقول: على تسليم أنه حدث بعد الولادة فقد وجد عقبها، فعن أبي نعيم في الدلائل أنه لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج صرة من حرير أبيض فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، وبذلك يعلم أن خاتم النبوة ليس أثرا لهذا الخاتم.

وكلام السهيلي يقتضي أنه هو حيث قال: إن هذا الحديث الذي في شق صدره في الرضاعة فيه فائدة من تبيين العلم، وذلك أن خاتم النبوة لم يدر أنه خلق به أو وضع فيه بعد ما ولد، أو حين نبىء، فبين في هذا الحديث متى وضع وكيف وضع ومن وضعه زادنا الله تعالى علما، وأوزعنا شكر ما علم هذا كلامه.

ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر ما يوافقه حيث قال: ومقتضى الأحاديث التي فيها شق الصدر ووضع الخاتم أنه لم يكن موجودا حين ولادته، وإنما كان أول وضعه لما شق صدره عند حليمة، خلافا لمن قال ولد به أو حين وضع هذا كلامه.

ولا يخفى أن ما قلناه من أن هذا الخاتم غير خاتم النبوة أولى، لأن به يجتمع القولان، وتندفع المخالفة. والجمع أولى من التضعيف، لما صح من أنه ولد به، وعلى أنه هو يلزم أن يكون خاتم النبوة تعدد محله، فوجد بين كتفيه وفي صدره وفي قلبه.

لا يقال: قد أشير إلى الجواب عن ذلك بأن الموجود بين كتفيه إنما هو أثر ما في صدره وقلبه.

لأنا نقول يبطله ما تقدم عن الدلائل لأبي نعيم، وما تقدم عن بعض الروايات «فأقبل الملك وفي يده خاتم فوضعه بين كتفيه وثدييه» وأيضا يلزم عليه أن يكون خاتم النبوّة تكرر الإتيان به ثانيا في قصة المبعث، وثالثا في قصة الإسراء. ففي قصة المبعث «فأكفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري» وفي قصة الإسراء «ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة » وكل منهما يبطل كون ما في ظهره أو بين كتفيه أثرا لذلك الختم الذي وجد في صدره أو قلبه.

إلا أن يقال ما في قصة المبعث وقصة الإسراء غير خاتم النبوّة وإن خاتم النبوة إنما هو الأثر الحاصل من ختم صدره وقلبه وفي قصة الرضاعة، وإنه تكرر الختم على ذلك الأثر في المبعث وفي قصة الإسراء، وفيه أنه لا معنى لتكرر الختم في محل واحد.

ولا يقال: الغرض منه المبالغة في الحفظ، لأن ذلك إنما يكون عند تعدد محل الختم لا عند إعادته ثانيا وثالثا في محل واحد. وأيضا هو خلاف ظاهر كلامهم من أنه في المحالّ الثلاثة خاتم النبوة، ويؤيده أن المتبادر من القول في قصة الإسراء «ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوّة » أنه جعل خاتم النبوة بين كتفيه، وإلا فما معنى كون الخاتم بمعنى الطابع: أي خاتم النبوّة.

فإن قلت: على دعوى الغيرية يحتاج إلى الجواب عن قوله بخاتم النبوّة. قلت: قد يقال هذا ليس برواية عن الشارع، وإنما وقعت تلك العبارة عن بعضهم. ويجوز أن يكون الباء في كلامهم بمعنى مع: أي مع خاتم النبوّة فتأمل، والله أعلم.

قال: «ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا، ثم قال الأول للذي شق صدري زنه بعشرين من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال دعه فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم كلهم، ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا يا حبيب الله لم ترع، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك».

أقول في بعض الروايات «زنه بعشرة ثم قال زنه بمائة » ففي هذه الرواية طي ذكر وزنه بعشرين، وفي تلك الرواية طي ذكر وزنه بعشرة والله أعلم.

قال: قال رسول الله: «وبينا نحن كذلك إذا بالحي قد أقبلوا بحذافيرهم ـ أي بأجمعهم ـ وإذا بظئري ـ أي مرضعتي ـ أمام الحي تهتف ـ أي تصيح بأعلى صوتها ـ وتقول: واضعيفاه، فأكبوا عليّ ـ يعني الملائكة الذين هم أولئك الرهط الثلاثة ـ وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عينيّ، وقالوا حبذا أنت من ضعيف، ثم قالت ظئري يا وحيداه، فأكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد، إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض، ثم قالت ظئري يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك، فأكبوا عليّ وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما أريد بك من الخير لقرّت عينك، فوصلوا يعني الحي إلى شفير الوادي: فلما أبصرتني أمي وهي ظئري قالت: لا أراك إلا حيا بعد، فجاءت حتى أكبت عليّ ثم ضمتني إلى صدرها فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها ويدي في أيديهم يعني الملائكة، وجعل القوم لا يعرفونهم ـ أي لا يبصرونهم ـ فأقبل بعض القوم يقول إن هذا الغلام قد أصابه لمم: أي طرف من الجنون أو طائف من الجن أي وهي اللمة فانطلقوا به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه، فقلت يا هذا ما بي مما تذكر، إن آرابي أي أعضائي سليمة وفؤادي صحيح ليس بي قلبة أي علة يقلب بها إلى من ينظر فيها، فقال أبي وهو زوج ظئري: ألا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو أن لا يكون بابني بأس، واتفقوا على أن يذهبوا بي إليه: أي إلى الكاهن، فلما انصرفوا بي إليه فقصوا عليه قصتي، فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم، فسألني فقصصت عليه أمري من أوّله إلى آخره فوثب قائما إلي وضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب يا للعرب من شرّ قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه فأدرك مدرك الرجال ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله» وفي رواية «ليسفهن أحلامكم أي عقولكم وليكذبن أوثانكم وليدعونكم إلى رب لم تعرفونه ودين تنكرونه فعمدت ظئري وانتزعتني من حجره وقالت لأنت أعته وأجن ولو علمت أن هذا قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك فأنا غير قاتلي هذا الغلام ثم احتملوني إلى أهلهم وأصبحت مفزعا مما فعلوا، يعني الملائكة بي» أي من حملي من بين أترابي وإلقائي إلى الأرض، لا من خصوص الشق لما تقدم «وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي أي» أثر التئام الشق الناشىء عن إمرار يد الملك كأنه الشراك اهـ.

أقول: الشراك أحد سيور النعل الذي هو المداس الذي يكون على وجههنا، ولعل حكمة بقائه ليدل على وجود الشق.

واعلم أنه حيث كانت قصة شق صدره الشريف في زمن الرضاع عند حليمة واحدة يكون هذه الروايات المراد منها واحد، وأن بعضها وقع فيها الاختصار عما وقعت به الإطالة في بعضها، وأن إخباره بأن الملائكة كانوا ثلاثة لا ينافي إخباره بأنهم كانوا اثنين، ونسبة الأخذ والإضجاع والشق للبطن أو الصدر إلى الثلاثة أو إلى الاثنين، لا ينافي أن متعاطي ذلك واحد منهم كما أخبر به أخوه، وجاء التصريح به في بعض الروايات، وأن التعبير في بعضها بشق البطن هو المراد بشق الصدر إلى منتهى العانة في بعضها، وأنه ليس المراد بشق البطن أو شق الصدر شق القلب، لما تقدم في الرواية «واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها ثم أعادها مكانها، ثم قال لصاحبه تنح عنه، فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي فصدعه الحديث» وأنه يجوز أن يكون الطست كان متعددا واحدا من زمردة خضراء وواحدا من ذهب، وأن الأول كان فارغا معدا لأن يلقى فيه ماء يغسل به باطنه أي مع أحشائه ومنها أي من جملة الأحشاء ظاهر قلبه من الإبريق الفضة وأن الثاني كان مملوءا ثلجا معدا لأن يغسل به قلبه: أي داخل قلبه.

وحينئذ يكون في بعض الروايات اقتصر على القلب، وفي بعضها جمع بينه وبين الأحشاء في ذلك ويحتاج إلى الجمع بين كون الشق في ذروة الجبل وكونه في شفير الوادي، وكون المخرج علقة وكونه مضغة.

وقد يقال جاز أن تكون ذروة الجبل قريبة من شفير الوادي، وأنه عبر عن الذي أخرجه وألقاه تارة بالعلقة وتارة بالمضغة، ولعل تلك المضغة كانت قريبة من العلقة ولا يخفى أن هذه العلقة يحتمل أنها غير حبة القلب التي أخذت منها المحبة وهي علقة سوداء في صميمه المسماة بسويداء القلب.

ويحتمل أنها هي والله أعلم، وقد أشار إلى هذه القصة صاحب الهمزية بقوله:

وأتت جده وقد فصلته ** وبها من فصاله البرحاء

إذ أحاطت به ملائكة الله ** فظنت بأنهم قرناء

ورأى وجدها به ومن الوجـ ** ـد لهيب تصلى به الأحشاء

فارقته كرها وكان لديها ** ثاويا لا يمل منه الثواء

شق عن قلبه وأخرج منه ** مضغة عند غسله سوداء

ختمته يمنى الأمين وقد أو ** دع ما لم يذع له أنباء

صان أسراره الختام فلا الفـ ** ـض ملمّ به ولا الإفضاء

أي وأتت حليمة به جده والحال أنها فطمته والحال أنه لحق بها من أجل فطامه، ورده التألم الزائد، وردها له لأجل أنه أحدقت به ملائكة الله فظنتهم شياطين، ورأى شدة محبتها له وتعلقها به، وقد حصل لها من الوجد الذي بها لهب تحترق الأحشاء به، وهي ما تحويه الضلوع، وفارقته بعد رد هاله كارهة لفراقه والحال أنه كان مقيما عندها لا تملّ ذلك منه، وقد شق عن قلبه وأخرج من ذلك القلب عند غسله مضغة سوداء ختمت على ذلك القلب يمين الأمين جبريل بخاتم، والحال أن ذلك القلب الشريف قد أودع من الأسرار الإلهية ما لم تنشره أخبار، لأن تلك الأسرار لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، حفظ ذلك الختام أسراره التي أودعت فيه، فلا الكسر واقع بذلك الختم ولا الإشاعة واقعة لتلك الأسرار.

أقول: قد علمت أن صدره الشريف شق مرّتين غير هذه المرة: مرّة عند مجيء الوحي، ومرّة عند المعراج: وزاد بعضهم أنه شق عند بلوغه عشر سنين كما في مسلم.

ولما بلغ عمره عشرين سنة: أي ولعلها هي المعنية بقول صاحب المواهب وروي خامسة ولم تثبت وستأتي تلك الخامسة عن الدرّ المنثور، وسيأتي ما فيها والله أعلم.

قال: وفي المرة التي كان ابن عشر سنين: أي وأشهر قال: «جاءني رجلان، فقال أحدهما لصاحبه أضجعه فأضجعني لحلاوة القفا، ثم شقا بطني فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب، والآخر يغسل جوفي، ثم شق قلبي فقال أخرج الغل والحسد منه، فأخرج منه العلقة ».

والمتبادر أن أل في العلقة للعهد، وهي العلقة السوداء، التي تقدم أنها حظ الشيطان وأنها مغمزة فهي محل الغلّ والحسد.

وفيه أنه تقدم أيضا أن تلك العلقة أخرجت وألقيت قبل هذه المرة وتكرر نبذها مستحيل إلا أن تحمل العلقة على جزء بقي من أجزائها بناء على جواز أنها تجزأت أكثر من جزئين، المعبر عنهما فيما تقدم عن بعض الروايات علقتين سوداوين، إلا أن يقال المراد بقوله فأخرج منه العلقة أي أخرج ما هو كالعلقة: أي شيئا يشبه العلقة كما سيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات «فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذره عليه أي على شق القلب ليلتحم به ثم نقر إبهامي ثم قال اغد واسلم».

أقول: لم يذكر في هذه المرة الختم. وظاهر هذه الرواية أن الصدر التحم بمجرد ذر الذرور. وتقدم في قصة الرضاع أن ذلك كان من إمرار يد الملك واستمر أثر التئام الشق يشاهد كالشراك.

وفي الدر المنثور عن زوائد مسند الإمام أحمد عن أبي بن كعب، عن أبي هريرة قال: «يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوّة؟ فاستوى رسول الله جالسا وقال: لقد سألت يا أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر، إذا بكلام فوق رأسي، وإذا برجل يقول لرجل أهو هو، فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إليّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأخذهما مسا فقال أحدهما لصاحبه أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر» أي من غير إتعاب «فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغلّ والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج» أي ليدخله شبه الفضة «ثم نقر إبهام رجلي اليمنى وقال اغد واسلم فرجعت أغدو بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير» ولم يذكر في هذه المرة الغسل فضلا عما يغسل به، ولم يذكر الختم، ولكن قول الرجل للآخر أهو هو يدل على أن الرجلين ليسا جبريل وميكائيل لأنهما يعرفانه، وقد فعلا به ذلك في قصة الرضاع. وقد يدعي أن هذه الرواية هي عين الرواية قبلها، وذكر عشرين سنة غلط من الراوي، وإنما هي عشر سنين.

ثم رأيت ما يصرح بذلك وهو كان سنه عشر حجج، وقد تحمل هذه المرة أي كونه ابن عشرين سنة، على أن ذلك كان في المنام وإن كان خلاف ظاهر السياق.

وقال في المرة التي هي عند ابتداء الوحي: «جاءني جبريل وميكائيل فأخذني جبريل وألقاني لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي فاستخرجه، ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج» ولم يبين ذلك ما هو «ثم غسله في طست من ماء زمزم ثم أعاده مكانه ثم لأمه: أي بذلك الذرور: أي بإمرار يده أو بهما جميعا ثم أكفأني كما يكفى الإناء ثم ختم في ظهري».

يحتمل أن يكون المراد في غير المحل الذي ختمه في قصة الرضاع وهو بين كتفيه. ويحتمل أن المراد بظهره المحل الذي ختمه في قصة الرضاع.

وفيه أنه لا معنى لوضع الختم على الختم كما تقدم ويمكن أن تكون الحكمة في الجمع بين جبريل وميكائيل أن ميكائيل ملك الرزق الذي به حياة الأجساد والأشباح، وجبريل ملك الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، والمرة التي هي عند المعراج سيأتي الكلام عليها. وفيها أن الختم وقع بين كتفيه وفيه ما علمت.

وقد علمت أن شق الصدر والبطن غير شق القلب، وأن شق القلب وإخراج العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان ومغمزه مما اختص به عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وما في بعض الآثار أن التابوت أي تابوت بني إسرائيل كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء المراد ظاهر قلوبهم، لأن القلب من جملة الأحشاء التي غسلت بغسل الصدر أو البطن كما تقدم على أن ابن دحية ذكر أنه أثر باطل.

وقد يطلق الصدر على القلب من باب تسمية الحال باسم محل. ومنه ما وقع في قصة المعراج «ثم أتى بطست ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغ في صدره» ومنه قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: إن شق صدره الشريف من خصائصه على الأصح من القولين: أي شق قلبه. وسيأتي الكلام على ذلك في الكلام على المعراج بما هو أبسط مما هنا.

وعن حليمة  : أنها كانت بعد رجوعها به من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا: أي عنها، فغفلت عنه يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه فوجدته مع أخته أي من الرضاعة وهي الشيماء، وكانت تحضنه مع أمها أي ولذلك تدعى أمّ النبي أيضا ( ) أي وكانت ترقصه بقولها:

هذا أخ لي لم تلده أمي ** وليس من نسل أبي وعمي

أنمه اللهم فيما تنمي فقالت في هذا الحر: أي لا ينبغي أن يكون في هذا الحر، فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظلّ عليه، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع، فجعلت تقول: أحقا يا بنية؟ قالت: إي والله، فجعلت تقول: أعوذ بالله من شرّ ما يحذر على ابني: أي وفي كلام بعضهم: ورأت يعني حليمة الغمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت.

وقد يقال الرؤية في حق حليمة علمية، وفي حق أخته بصرية فلا مخالفة، أو أنها أبصرتها بعد الإخبار بها كما يدل على ذلك القول بأنه أفزعها ذلك من أمره أي وفي كونها فزعت من ذلك بعد إخبار أخته لها بذلك شيء، فقدمت به على أمه.

أقول: عن الواقدي أن حليمة لما قدمت به إلى مكة لترده لأمه رأت غمامة تظله في الطريق، إن سار سارت، وإن وقف وقفت. وسياق هذه الرواية يقتضي أنها ردته إلى أمه عقب مجيئها به من مكة، وأن ذلك كان قبل شقّ صدره عندها.

وحينئذ تكون هذه قدمة ثانية لحليمة إلى مكة كانت قبل شق صدره، ففي القدمة الأولى كان سنه سنتين، وفي هذه القدمة كان سنه سنتين وأشهرا وتكون هذه المرة الثانية محمل قول حليمة: فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر. وقول ابن الأثير بشهرين أو ثلاثة.

وأما في القدمة الثالثة وهي التي بعد شق صدره وتركها له عند أمه كان سنه أربع سنين، وفيها كانت وفاتها على ما يأتي، وقيل خمس سنين قاله ابن عباس، وقيل ست سنين، ويكون بعض الرواة اشتبه عليه الأمر، وظن أن هذه القدمة الثانية التي قبل شق صدره هي الثالثة التي بعد شق صدره فلزم الإشكال، فتأمل ذلك تأملا حميدا، ولا تكن ممن يفهم تقليدا، والله أعلم.

ووفدت عليه حليمة بعد تزوجه خديجة تشكو إليه ضيق العيش، فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات، جمع بكرة: وهي الثنية من الإبل: أي وفي رواية أربعين شاة وبعيرا اهـ.

ووفدت عليه يوم حنين فبسط لها رداءه فجلست عليه، أي فقد قال بعضهم: لم تره بعد أن ردته إلا مرتين: إحداهما بعد تزوّجه خديجة: أي وعليه تكون هذه المرة هي التي قدمت فيها مع زوجها وولدها وأجلسهم على ردائه أي ثوبه الذي كان جالسا عليه كما تقدم، والمرة الثانية يوم حنين.

وفي كلام القاضي عياض: ثم جاءت أبا بكر ففعل ذلك: أي بسط لها رداءه، ثم جاءت عمر ففعل كذلك ().

وفي كلام ابن كثير أن حديث مجيء أمه إليه في حنين غريب وإن كان محفوظا، فقد عمرت دهرا طويلا لأن من وقت أرضعت رسول الله إلى وقت الجعرانة: أي بعد رجوعه من حنين أزيد من ستين سنة. وأقل ما كان عمرها حين أرضعته   ثلاثين سنة وكونها وفدت على أبي بكر وعمر   تزيد المدة على المائة.

وعن أبي الطفيل قال: «رأيت رسول الله يقسم لحما بالجعرانة: أي بعد رجوعه من حنين، كما تقدم، والطائف وأنا غلام شاب فأقبلت امرأة، فلما رآها رسول الله بسط لها رداءه، فقيل: من هذه؟ قيل: أمه التي أرضعته » وفي رواية «استأذنت امرأة على النبي قد كانت ترضعه، فلما دخلت عليه قال: أمي أمي وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه» اهـ. وتقدم عن شرح الهمزية لابن حجر أن من سعادة حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها.

وفي الأصل ومن الناس من ينكر إسلامها، وأشار بذلك إلى شيخه الحافظ الدمياطي فإنه من جملة المنكرين حيث قال: أي في سيرته: حليمة لا يعرف لها صحبة ولا إسلام، وقد وهم غير واحد فذكروها في الصحابة وليس بشيء، وكان الأنسب أن يقول ذكروا إسلامها وليس بشيء ويوافقه قول الحافظ ابن كثير الظاهر أن حليمة لم تدرك البعثة. ورده بعضهم فقال: إسلامها لا شك فيه عند جماهير العلماء، ولا يعول على قول بعض المتأخرين إنه لم يثبت. فقد روى ابن حبان حديثا صحيحا دل على إسلامها، وأنكر الحافظ الدمياطي وفودها عليها في حنين وقال: الوافدة عليه في ذلك إنما هي أخته من الرضاعة وهي الشيماء.

أقول: وعلى صحة ما قاله الحافظ الدمياطي لا ينافيه قوله: «أمي أمي» لأنه كان يقال لأخته الشيماء أم النبي، لأنها كانت تحضنه مع أمها كما تقدم، ولا قول بعض الصحابة أمه التي أرضعته، لأنه يجوز أنه لما قيل أمه حملها على المرضعة له لتيقن موت أمه من النسب. وعلى كون الوافدة عليه في حنين أخته اقتصر في الهدى والله أعلم.

أقول: قال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد عدة آثار في مجيء أمه من الرضاعة إليه في حنين، وفي تعدد هذه الطرق ما يقتضي أن لها أصلا أصيلا، وفي اتفاق الطرق على أنها أمه رد على من زعم أن التي قدمت عليه أخته اهـ.

أقول: لا رد في ذلك، لأنه علم أن أخته المذكورة كان يقال لها أم النبي، ووصف بعض الصحابة لها بأنها أمه من الرضاعة تقدم أنه يجوز أن يكون بحسب ما فهم.

ومما يعين أنها أخته ما سيأتي أنها لما أخذت في حنين من جملة سبي هوازن قالت للمسلمين: أنا أخت صاحبكم، فلما قدموا على رسول الله قالت له: يا رسول الله أنا أختك، قال: وما علامة ذلك، قالت عضة عضيتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف رسول الله العلامة، فقام لها قائما وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت عيناه إلى آخر ما يأتي.

وكلام المواهب يقتضي أنهما قضيتان: واحدة كانت فيها أخته، والأخرى كانت فيها أمه من الرضاعة حيث قال: «وقد روي أن خيلا له أغارت على هوازن، فأخذوها يعني أخته من الرضاعة التي هي الشيماء، فقالت أنا أخت صاحبكم إلى أن قال فبسط لها رداءه وأجلسها عليه فأسلمت» ثم قال: وجاءته يعني أمه من الرضاعة التي هي حليمة يوم حنين فقام إليها وبسط رداءه لها وجلست عليه.

وهذا كما ترى يوهم أن الخيل التي أغارت على هوازن التي كانت فيها أخته لم تكن في حنين، وأن أمه لم تكن يوم حنين في سبي هوازن مع أن القصة واحدة، وأن سبي هوازن كان يوم حنين. فيلزم أن يكون جاء إليه يوم حنين كل من أمه وأخته من الرضاعة الأولى في غير السبي والثانية في السبي. وأنه فرش لكل رداءه، وهو تابع في ذلك لابن عبد البر حيث قال في الاستيعاب: حليمة السعدية أم النبي من الرضاعة جاءت إليه يوم حنين، فقام لها وبسط لها رداءه فجلست عليه وروت عنه: وروى عنها عبد الله بن جعفر، ثم قال حذافة أخت النبي من الرضاعة يقال لها الشيماء، أغارت خيل رسول الله على هوازن، فأخذوها فيما أخذوا من السبي الحديث، وكون عبد الله بن جعفر روى عن حليمة.

قال الحافظ ابن حجر: لا يتهيأ له السماع منها إلا بعد الهجرة بسبع سنين فأكثر، لأنه قدم من الحبشة مع أبيه الذي هو جعفر بن أبي طالب في خيبر سنة سبع، وتبعد حياتها وبقاؤها إلى ذلك الزمن.

وفيه أن حنينا بعد خيبر، وأبعد من ذلك وقوفها على أبي بكر وعمر، وقد تقدم ما يشعر باستبعاد ذلك عن ابن كثير.

والذي يتجه أن الوافدة عليه في حنين أخته لا أمه كما يقول الحافظ الدمياطي، والله أعلم. قال: قال أبو الفرج بن الجوزي: ثم قدمت، أي حليمة، عليه بعد النبوة فأسلمت وبايعت أي فلا يقال: سلمنا أن حليمة هي القادمة عليه: أي بعد النبوة، فما الدليل على إسلامها اهـ.

أقول: كان من حقه أن يقول بدل هذه العبارة التي ذكرها وإنما قال يعني ابن الجوزي فأسلمت بعد قوله قدمت عليه بعد النبوة لأنه لا يلزم من قدومها عليه بعد النبوة إسلامها. وفي كون قول ابن الجوزي فأسلمت دليلا على إسلامها نظر، بل هي دعوى تحتاج إلى دليل، إلا أن يقال: قول ابن الجوزي فأسلمت دليل لنا على إسلامها: والله أعلم.

وذكر الذهبي أن التي وفدت عليه في الجعرانة يجوز أن تكون ثويبة، ونظر فيه بأن ثويبة توفت سنة سبع: أي من الهجرة أي مرجعه من خيبر على ما تقدم.

أقول ذكر في النور أن الحافظ مغلطاي له مؤلف في إسلام حليمة سماه: التحفة الجسيمة في إسلام حليمة.

وذكر بعضهم أنه لم ترضعه مرضعة إلا وأسلمت، لكن هذا البعض قال: ومرضعاته أربع: أمه وحليمة السعدية وثويبة وأم أيمن أيضا.

وهو يؤيد ما تقدم عن ابن منده من إسلام ثويبة: وأما إسلام أمنة فسنذكره، وكون أم أيمن أرضعته تقدم ما فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب وفاة أمه وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب إياه

أي اختصاصه بذلك.

ذكر ابن إسحاق أن رسول الله ماتت أمه لما بلغ ست سنين. وقيل كان سنه أربع سنين، وبه صدر في المواهب: أي وهو يرد القول بأن حليمة لما ردته إلى أمه كان عمره خمس أو ست سنين: قال: وقيل كان سنه سبع سنين، وقيل ثمان، وقيل تسع، وقيل اثنتي عشرة وشهرا وعشرة أيام اهـ.

ووفاتها كانت بالأبواء، وهو محل بين مكة والمدينة: أي وهو إلى المدينة أقرب. وسمي بذلك لأن السيول تتبوّأه: أي تحل فيه ودفنت به. فقد جاء أنه لما مر بالأبواء في عمرة الحديبية قال: إن الله أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فأتاه وأصلحه، وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه وقيل له في ذلك، فقال: أدركتني رحمتها فبكيت وكان موتها وهي راجعة به من المدينة من زيارة أخواله: أي أخوال جده عبد المطلب، لأن أم عبد المطلب من بني عدي بن النجار كما تقدم، بعد أن مكثت عندهم شهرا ومرضت في الطريق ومعها أم أيمن بركة الحبشية التي ورثها من أبيه عبد الله على ما تقدم، فحضنته وجاءت به إلى جده عبد المطلب: أي بعد خمسة أيام من موت أمه، فضمه إليه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده.

هذا وفي كلام بعضهم: وبقي النبي بعد موت أمه بالأبواء حتى أتاه الخبر إلى مكة: وجاءت أم أيمن مولاة أبيه عبد الله فاحتملته، وذلك لخامسة من موت أمه فليتأمل.

وكون موت أمه كان في حياة عبد المطلب هو المشهور الذي لا يكاد يعرف غيره، وبه يرد قول من قال إن موت عبد المطلب كان قبل موت أمه بسنتين.

أي وكان يقول لأم أيمن: «أنت أمي بعد أمي» ويقول: «أم أيمن أمي بعد أمي» وفي القاموس: دار رابغة ـ بالغين المعجمة ـ بمكة فيها مدفن أمه، ولم أقف على محل تلك الدار من مكة قال: وقيل توفيت: أي دفنت بالحجون بشعب أبي ذؤيب، وغلط قائله.

وعن عائشة   قالت: «حج بنا رسول الله حجة الوداع، فمر على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم إنه طفق» أي شرع يقول: «يا حميراء استمسكي، فاستندت إلى جنب البعير، فمكث عني طويلا ثم عاد إليّ وهو فرح متبسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك، ثم إنك عدت إليّ وأنت فرح متبسم فمم ذاك؟ قال ذهبت لقبر أمي فسألت ربي أن يحييها، فأحياها فآمنت وردها الله تعالى».

وهذا الحديث قد حكم بضعفه جماعة، منهم الحافظ أبو الفضل بن ناصر الدين، والجوزقاني وابن الجوزي، والذهبي في الميزان، وأقره على ذلك الحافظ ابن حجر في لسان الميزان جعله ابن شاهين ومن تبعه ناسخا لأحاديث النهي عن الاستغفار: أي لها.

منها ما جاء «أنه لما قدم مكة » أي ولعله في عمرة القضاء، لأنه لم يقدم مكة نهارا «مع أصحابه قبل حجة الوداع إلا في ذلك أتى رسم قبر أمه فجلس إليه فناجاه طويلا ثم بكى، قال ابن مسعود فبكينا لبكائه، ثم قام ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ قلنا بكينا لبكائك، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة » الحديث.

وفي رواية «أتى قبر أمه فجلس إليه، فجعل يخاطبه، ثم قام مستعبرا، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله قد رأينا ما صنعت، قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي» وفي رواية «إن جبريل   ضرب في صدره وقال: لا تستغفر لمن مات مشركا، فما رئي باكيا أكثر منه يومئذ» وفي رواية «استأذنته في الدعاء لها: أي بالاستغفار، فلم يأذن لي وأنزل علي {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} فأخذني ما يأخذ الولد للوالد» قال القاضي عياض: بكاؤه على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به أي النافع إجماعا، وكونه ناسخا لذلك غير جيد، لأن أحاديث النهي عن الاستغفار بعض طرقها صحيح رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما. ونص مسلم «استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة » وفي لفظ «تذكركم الموت» وهذا الحديث: أي حديث عائشة   على تسليم ضعفه أي دون وضعه لا يكون ناسخا للأحاديث الصحيحة.

أقول: ذكر الواحدي في أسباب النزول أن آيتي {ما كان للنبي والذين آمنوا} ـ {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه} نزلتا لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذي قرابتنا؟ هذا رسول الله يستغفر لعمه، وقد استغفر إبراهيم لأبيه: أي فنزولهما كان عقب موت أبي طالب.

لا يقال جاز أن تكون آية {ما كان للنبي} تكرر نزولها لما استغفر لعمه ولما استغفر لأمه، لأنا نقول كونه يعود للاستغفار بعد أن نهى عنه فيه ما فيه، أو المراد بالنسخ المعارضة، يعني قول ابن شاهين إنه ناسخ أحاديث النهي عن الاستغفار: أي معارض لها، إذ لا معنى للنسخ هنا، على أنه لا معارضة، لأن النهي عن الاستغفار لها كان قبل أن تؤمن.

وإذا ثبت ما تقدم عن عائشة   وما بعده كان دليلا لمن يقول قبر أمه بمكة. وعلى كونها دفنت بالأبواء اقتصر الحافظ الدمياطي في سيرته، وكذا ابن هشام في سيرته. وفي الوفاء عن ابن سعد: أن كون قبرها بمكة غلط وإنما قبرها بالأبواء.

وقد يقال: على تقدير صحة الحديثين: أي أنها دفنت بالأبواء وأنها دفنت بمكة يجوز أنها تكون دفنت أولا بالأبواء ثم نقلت من ذلك المحل إلى مكة، فعلم أن بكاءه كان قبل أن يحييها الله له وتؤمن به. ومن ثم قال الحافظ السيوطي إن هذا الحديث: أي حديث عائشة قيل إنه موضوع، لكن الصواب ضعفه لا وضعه هذا كلامه.

ويجوز أن يكون قوله لشخصين: «أمي وأمكما في النار» على تقدير صحته التي ادعاها الحاكم في المستدرك كان قبل إحيائها وإيمانها به كما تقدم نظير ذلك في أبيه.

وقولنا على تقدير صحة الحديث إشارة لما تقرر في علوم الحديث أنه لا يقبل تفرد الحاكم بالتصحيح في المستدرك، لما عرف من تساهله فيه في التصحيح. وقد بين الذهبي ضعف هذا الحديث، وحلف على عدم صحته يمينا. وتقدم الجواب عما يقال كيف ينفع الإيمان بعد الموت، وتقدم ما فيه. على أن هذا: أي منع الاستغفار لها إنما يأتي على القول أن من بدّل أو غيّر أو عبد الأصنام من أهل الفترة معذب، وهو قول ضعيف مبني على وجوب الإيمان والتوحيد بالعقل.

والذي عليه أكثر أهل السنة والجماعة أنه لا يجب ذلك إلا بإرسال الرسل. ومن المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل، وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته كبقية الرسل، لأن ثبوت الرسالة بعد الموت من خصائص نبينا محمد، فعليه أهل الفترة من العرب لا تعذيب عليم وإن غيروا أو بدلوا أو عبدوا الأصنام، والأحاديث الواردة بتعذيب من ذكر أي من غيّر أو بدّل أو عبد الأصنام مؤولة، أو خرجت مخرج الزجر للحمل على الإسلام.

ثم رأيت بعضهم رجح أن التكليف بوجوب الإيمان بالله تعالى وتوحيده: أي بعدم عبادة الأصنام يكفي فيه وجود رسول دعا إلى ذلك وإن لم يكن ذلك الرسول مرسلا لذلك الشخص بأن لم يدرك زمنه حيث بلغه أنه دعا إلى ذلك أو أمكنه علم ذلك، وأن التكليف بغير ذلك من الفروع لا بد فيه من أن يكون ذلك الرسول مرسلا لذلك الشخص وقد بلغته دعوته.

وعلى هذا فمن لم يدرك زمن نبينا ولا زمن من قبله من الرسل معذب على الاشراك بالله بعبادة الأصنام لأنه على فرض أن لا تبلغه دعوة أحد من الرسل السابقين إلى الإيمان بالله وتوحيده، لكنه كان متمكنا من علم ذلك فهو تعذيب بعد بعث الرسل لا قبله.

وحينئذ لا يشكل ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس   قال: سمعت رسول الله يقول: «ما بعث الله نبيا إلى قوم ثم قبضه إلا جعل بعده فترة يملأ من تلك الفترة جهنم» ولعل المراد المبالغة في الكثرة، وإلا فقد أخرج الشيخان عن أنس عن النبي قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول (هل من مزيد) حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيرتد بعضها إلى بعض وتقول قط قط» أي حسبي بعزتك وكرمك، وأما بالنسبة لغير الإيمان والتوحيد من الفروع فلا تعذيب على تلك الفروع، لعدم بعثة رسول إليهم فأهل الفترة وإن كانوا مقرين بالله إلا أنهم أشركوا بعبادة الأصنام.

فقد حكى الله تعالى عنهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقد جاء النهي عن ذلك على ألسنة الرسل السابقين.

ووجه التفرقة بين الإيمان والتوحيد وغير ذلك: أن الشرائع بالنسبة للإيمان بالله وتوحيده كالشريعة الواحدة لاتفاق جميع الشرائع عليه.

قيل وهو المراد من قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} فقد قال بعضهم: المراد من الآية استواء الشرائع كلها في أصل التوحيد: أي ومن ثم قال في تمام الآية {ولا تفرقوا فيه} وقال: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} وقال {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} ومن ثم قاتل بعض الأنبياء غير قومه على الشرك بعبادة الأصنام، ولو لم يكن الإيمان والتوحيد لازما لهم لم يقاتلهم، بخلاف غيره من الفروع فإن الشرائع فيها مختلفة.

قال بعضهم: سبب اختلاف الشرائع اختلاف الأمم في الاستعداد والقابلية. والدليل على أن الأنبياء متفقون على الإيمان والتوحيد ما جاء أنه قال: «الأنبياء أولاد علات» أي أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع شرائعهم، لأن العلات الضرائر، فأولادهم أخوة من الأب وأماتهم مختلفة. وقد جاء هذا التفسير في نفس الحديث. ففي بعض الروايات «الأنبياء إخوة من علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» وبه يعلم ما في كلام العلامة ابن حجر الهيتمي حيث ذكر أن الحق الواضح الذي لا غبار عليه أن أهل الفترة جميعهم ناجون، وهم من لم يرسل لهم رسول يكلفهم بالإيمان بالله  ، فالعرب حتى في زمن أنبياء بني إسرائيل أهل فترة لأن تلك الرسل لم يؤمروا بدعايتهم إلى الله تعالى وتعليمهم الإيمان قال: نعم، من ورد فيه حديث صحيح من أهل الفترة بأنه من أهل النار، فإن أمكن تأويله فذاك، وإلا لزمنا أن نؤمن بهذا الفرد بخصوصه.

قال: وأما قول الفخر الرازي: لم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد معلومة، فجوابه أن كل رسول إنما أرسل إلى قوم مخصوصين، فمن لم يرسل إليه لا يعذب. وجواب ما صح من تعذيب أهل الفترة أنها أخبار آحاد، فلا تعارض القطع، أو يقصر التعذيب على ذلك الفرد بخصوصه: أي حيث لا يقبل التأويل، كما تقدم، هذا كلامه.

هذا وقد جاء أنهم: أي أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة. فقد أخرج البزار عن ثوبان أن النبي قال: «إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم فيقولون: ربنا لم ترسل لنا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأن تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا: ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها، فيقول: ادخلوها داخرين، فقال النبي : لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما».

قال الحافظ ابن حجر: فالظن بآله، يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الامتحان إكراما له لتقرّ عينه ويرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة في جماعة من يدخلها طائعا إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن به أي بعد أن طلب منه الإيمان.

ومما استدل به الحافظ السيوطي على أن أبويه ليسا في النار قال: لأنهما لو كانا في النار لكانا أهون عذابا من أبي طالب، لأنهما أقرب منه وأبسط عذرا لأنهما لم يدركا البعثة، ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا بخلاف أبي طالب. وقد أخبر الصادق أنه أهون أهل النار عذابا، فليسا أبواه من أهلها. قال: وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة.

وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد من أهل بيته: أي ولا أحد من أشراف قريش إجلالا له، فكان بنوه وسادات قريش يحدقون به، فكان رسول الله يأتي وهو غلام جفر: أي شديد قوي حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب: إذا رأى: أي علم ذلك منهم دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه عليه معه، ويمسح ظهره ويسرّه ما يراه يصنع.

قال: وعن ابن عباس  : دعوا ابني يجلس، فإنه يحس من نفسه بشيء: أي بشرف، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه به عربي قبله ولا بعده. وفي رواية: دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا: أي يعلم من نفسه أن له ملكا. وفي لفظ: ردوا ابني إلى مجلسي، فإنه تحدثه نفسه بملك عظيم وسيكون له شأن.

وعن ابن عباس   قال: سمعت، أبي يقول: كان لعبد المطلب مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره، وكان حرب بن أمية فمن دونه من عظماء قريش يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول الله يوما وهو غلام لم يبلغ الحلم فجلس على المفرش، فجذبه رجل فبكى رسول الله فقال عبد المطلب وذلك بعد ما كف بصره ما لابني يبكي، قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه، فقال عبد المطلب: دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحس من نفسه بشرف: أي يتيقن في نفسه شرفا، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده: أي فكانوا بعد ذلك لا يردونه عنه حضر عبد المطلب أو غاب: أي ولعل هذا كان في آخر الأمر، فلا ينافي ما تقدم الدّال ظاهرا على تكرر ذلك منه، من اختلاف قول عبد المطلب، وإلا فيحتمل أن اختلاف قول عبد المطلب جاء من اختلاف الرواة.

وقال لعبد المطلب قوم من بني مدلج: أي وهم القافة العارفون بالآثار والعلامات: احتفظ به، فإنا لم نر قط ما أشبه بالقدم التي في المقام منه: أي وهي قدم إبراهيم  .

أقول: أي فإن إبراهيم  ، أثرت قدماه في المقام: وهو الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت كما سيأتي، وهو الذي يزار الآن بالمكان الذي يقال له مقام إبراهيم: أي وقد أشار إلى ذلك عمه أبو طالب في قصيدته بقوله مقسما:

وبالحجر المسود إذ يلثمونه ** إذا اكتنفوه في الضحى والأصائل

وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة ** على قدميه حافيا غير ناعل

قال الحافظ ابن كثير: يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة.

وعن أنس  : رأيت في القام أثر أصابع إبراهيم وعقبيه وأخمص قدميه غير أن مسح الناس بأيديهم أذهب ذلك: أي ومشابهة قدمه لقدم سيدنا إبراهيم تدل على أن تلك الأقدام بعضها من بعض كما تقدم في قول مجزز المدلجي في زيد بن أسامة   وقد ناما وغطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسرّ بذلك لأن في ذلك رد على من كان يطعن في نسب أسامة بن زيد كما تقدم.

وذكر بعضهم أن نبينا أثر قدمه في الحجر أيضا، فقد أثر في صخرة بيت المقدس ليلة الإسراء، وإن ذلك الأثر موجود إلى الآن.

وذكر الجلال السيوطي أنه لم يقف لذلك: أي لتأثير قدمه في الحجر على أصل ولا سند. قال: ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث. وقال مثل ذلك فيما اشتهر على الألسنه من أن مرفقه الشريف لما ألصقه بالحائط غاص في الحجر وأثر فيه وبه يسمى ذلك المحل بمكة بزقاق المرفق.

ومن العجب أن الجلال السيوطي مع قوله المذكور قال في الخصائص الصغرى: ولا وطىء على صخر إلا وأثر فيه هذا كلامه، ولعله ظهر له صحة ذلك بعد إنكاره. ودعوى أنه ما وطىء على صخر إلا وأثر فيه قد يتوقف فيه. ثم رأيت الإمام السبكي ذكر تأثير قدمه الشريف في الأحجار حيث قال في تائيته:

وأثر في الأحجار مشيك ثم لم ** يؤثر برمل أو ببطحاء رطبة

قال شارحها: ولعل عدم تأثير قدمه الشريف في الرمل كان ليلة ذهابه إلى الغار: أي فليس كان هذا شأنه في كل رمل مشى عليه «وكان إذا رفع قدمه عن الرمل يقول لأبي بكر ضع قدمك موضع قدمي فإن الرمل لا ينمّ» أراد به إخفاء أثر سيره ليتحير المشركون في طلبه.

وفيه أن هذا التعليل مقتض لتأثير قدمه الشريف في الرمل لا لعدم تأثيره في ذلك. ويؤيد ذلك أنه سيأتي أنهم قصوا أثره إلى أن انقطع الأثر عند الغار: أي وقال لهم القاص هذا أثر قدم ابن أبي قحافة، وأما القدم الآخر فلا أعرفه إلا أنه يشبه القدم الذي في المقام يعني مقام إبراهيم، فقالت قريش: ما وراء هذا شيء أي محل كما سيأتي.

وفيه أن هذا أي تميز قدمه الشريف من قدم سيدنا أبي بكر ربما ينافيه قوله لأبي بكر: «ضع قدمك موضع قدمي فإن الرمل لا ينم».

وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون قدم أبي بكر لم يكن مساويا لقدمه ولا يضر في ذلك قوله: «فإن الرمل لا ينم» لجواز أن يكون المراد لا يظهر فيه قدمي ظهور أبينا فصح قول القائل هذا أثر قدم ابن أبي قحافة، وأما القدم الآخر إلى آخره، ولم يعترض هذا الشارح على تأثير قدمه في الحجارة بل أبدى لذلك حكما لا بأس بها فلتراجع.

وقوله في الأحجار يدل على أنه تكرر تأثير قدمه الشريف في الأحجار ولكن لم يكن ذلك شأنه في كل حجر مشى عليه كما دلت عليه عبارة الجلال السيوطي، والله أعلم.

قال: وبينا عبد المطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران. والأسقف: رئيس النصارى في دينهم اشتق من السقف بالتحريك وهو طول الانحناء لأنه يتخاشع: أي يظهر الخشوع وذلك الأسقف يحادثه ويقول له إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسماعيل وهذا البلد مولده، ومن صفته كذا وكذا، وأتى برسول فنظر إليه الأسقف إلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدمه، وقال: هو هذا ما هذا منك قال: هذا ابني، قال: ما نجد أباه حيا، قال: هو ابن ابني، وقد مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت، فقال عبد المطلب لبنيه تحفظوا بابن أخيكم، ألا تسمعون ما يقال فيه؟ انتهى.

وعن أم أيمن «كنت أحضن النبي أي أقوم بتربيته فغفلت، عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول يا بركة. قلت لبيك، قال: أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت لا أدري، قال: وجدته مغ غلمان قريبا من السدرة لا تغفلي عن ابني فإن أهل الكتاب أي ومنهم سيف بن ذي يزن كما سيأتي يزعمون أنه نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم، وكان لا يأكل يعني عبد المطلب طعاما إلا يقول عليّ بابني أي أحضروه، قال: وكان عبد المطلب إذا أتي بطعام أجلس رسول الله إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيؤثره بأطيب طعامه انتهى.

وعن بعضهم أي وهو حيدة بن معاوية العامري كان من المعمرين، وفد على رسول الله وأسلم. قال بعضهم: مات وهو عم ألف رجل وامرأة، قال: حججت في الجاهلية، فبينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل. وفي رواية: إذا شيخ طويل يطوف بالبيت وهو يقول: رد إلى راكبي محمدا، وفي رواية:

يا رب رد راكبي محمدا ** اردده ربي واصطنع عندي يدا

فقلت من هذا؟ قالوا: عبد المطلب بن هاشم، بعث ابن ابنه في طلب إبل له ضلت وما بعثه في شيء إلا جاء به، قال وفي رواية هذا سيد قريش عبد المطلب له إبل كثيرة فإذا ضل منها شيء بعث فيه بنيه يطلبونها، فإذا غابوا بعث ابن ابنه ولم يبعثه في حاجة إلا أنجح فيها، وقد بعثه في حاجة أعيا عنها بنوه وقد أبطأ عليه انتهى، فما برحت: أي ما زلت عن مكاني حتى جاء بالإبل معه، فقال له: يا بني حزنت عليك حزنا لا يفارقني بعده أبدا، وتقدم عن بعض المفسرين ما لا يحتاج إلى إعادته هنا.

وعن رقيقة بنت أبي صيفي: أي ابن هاشم بن عبد مناف زوجة عبد المطلب، ذكرها ابن سعد في المسلمات المهاجرات أقول: وقال أبو نعيم: لا أراها أدركت الإسلام. وقال ابن حبان: يقال إن لها صحبة والله أعلم. قالت تتابعت على قريش سنون: أي أزمنة قحط وجدب ذهبت بالأموال، وأشفين: أي أشرفن على الأنفس، قالت فسمعت قائلا يقول في المنام: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم هذا إبان أي وقت خروجه وبه يأتيكم الحيا أي بالقصر المطر العام والخصب، فانظروا رجلا من أوساطكم: أي أشرافكم نسبا طولا عظاما أي طويلا عظيما أبيض مقرون الحاجبين أهدب الأشفار أي طويل شعر الأجفان، أسيل الخدين: أي لا نتوّ بها رقيق العرنين أي الأنف. وقيل أوله فليخرج هو وجميع ولده وليخرج منكم من كل بطن رجل فيتطهروا ويتطيبوا، ثم استلموا الركن، ثم ارقوا إلى رأس أبي قبيس، ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي وتؤمنون، فإنكم تسقون، فأصبحت وقصت رؤياها عليهم، فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب فاجتمعوا عليه، وأخرجوا من كل بطن رجلا ففعلوا ما أمرتهم به، ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي وهو غلام، فتقدم عبد المطلب فقال: لاهم هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنو إمائك، وقد نزل بنا ما ترى، وتتابعت علينا هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر: أي الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، فأشفت على الأنفس: أي أشرفت على ذهابها فأذهب عنا الجدب، وائتنا بالحيا والخصب فما برحوا حتى سالت الأودية.

قال: وفي رواية أخرى عن رقيقة قالت: تتابعت على قريش سنون جدبة أقحلت، أي أيبست الجلد، وأدقت العظم، فبينا أنا نائمة أو مهوّمة أي بين اليقظانة والنائمة إذ هاتف هو الذي يسمع صوته ولا يرى شخصه كما تقدم يصرخ بصوت صحل: أي فيه بحوحة وهي خشونة الصوت وغلظه يقول: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه: أي قربت منكم، وهذا إبان مخرجه فحيعلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم وسطا عظاما أبيض بضا أي شديد البياض، أوطف الأهداب أي كثير شعر العينين أسهل الخدين، أشم العرنين أي مرتفع الأنف، له فخر يكظم عليه أي يسكت عليه ولا يظهره وسنن يهتدى إليها أي يرشد إليها، فليخلص هو وولده وولد ولده وليدلف أي يتقدم إليه من كل بطن رجل فليسنوا من الماء: أي يفرغوه على أجسادهم أي يغتسلوا به، وليمسوا من الطيب، ثم يلتمسوا الركن وليطوفوا بالبيت العتيق سبعا، ثم ليرقوا أبا قبيس فليستسق الرجل وليؤمن القوم ألا وفيهم الطيب الطاهر فغثتم إذا ما شئتم أي جاءكم الغيث على ما تريدون. قالت: فأصبحت مذعورة قد اقشعر جلدي ووله أي ذهب عقلي، واقتصيت رؤياي أي ذكرتها على وجهها فنمت أي فشت وكثرت في شعاب مكة، فما بقي أبطحي إلا قال هذا شيبة الحمد يعني عبد المطلب وقامت عنده قريش وانفض إليه من كل بطن رجل فسنوا من الماء، ومسوا من الطيب واستلموا وطافوا.

ثم ارتقوا أبا قبيس، فطفق القوم يدنون حوله ما إن يدركه بعضهم مهلة وهي التؤدة والتأني ومعه رسول الله قد أيفع أي ارتفع أو كرب أي قرب من ذلك، فقام عبد المطلب فقال اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة أنت عالم غير معلم مسؤول غير مبخل، وهذه عبيدك وإماؤك بغدرات حرمك أي أفنيته يشكون إليك سنتهم التي أقحلت أي أيبست الظلف والخف: أي الإبل والبقر فأمطرن، اللهم غيثا سريعا مغدقا فما برحوا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي: أي ضاق بثجيجه أي بسيله فلسمعت شيخان قريش وهي تقول لعبد المطلب: هنيئا لك يا أبا البطحاء، بك عاش أهل البطحاء انتهى: أي والظاهر أن القصة واحدة فليتأمل الجمع. وقد يدعى أن الاختلاف من الرواة منهم من عبر بالمعنى.

وفي سقيا الناس بعبد المطلب وأن ذلك ببركته تقول رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ** وقد عدمنا الحيا واجلوذ المطر *(أي امتد زمن تأخره. )

فجاد بالماء جوني له سبل دان *( أي أمطرها طل كثير الهطل قريب) ** فعاشت به الأنعام والشجر

منا من الله بالميمون طائره * (أي المبارك حظه) ** وخير من بشرت يوما به مضر

مبارك الاسم يستسقى الغمام به ** ما في الأنام له عدل ولا خطر *(أي لا معادل ولا مماثل له. )

ولما سقوا لم يصل المطر إلى بلاد قيس ومضر فاجتمع عظماؤهم وقالوا قد أصبحنا في جهد وجدب وقد سقى الله الناس بعبد المطلب، فاقصدوه لعله يسأل الله تعالى فيكم فقدموا مكة ودخلوا على عبد المطلب فحيوه بالسلام. فقال لهم: أفلحت الوجوه وقام خطيبهم، فقال: قد أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك، وصح عندنا خبرك، فاشفع لنا عند من شفعك وأجرى الغمام لك، فقال عبد المطلب: سمعا وطاعة، موعدكم غدا عرفات، ثم أصبح غاديا إليها وخرج معه الناس وولده ومعه رسول الله، فنصب لعبد المطلب كرسي فجلس عليه وأخذ رسول الله فوضعه في حجره ثم قام عبد المطلب ورفع يديه، ثم قال: اللهم رب البرق الخاطف، والرعد القاصف، رب الأرباب، وملين الصعاب، هذه قيس ومضر، من خير البشر، قد شعثت رؤوسها، وحدبت ظهورها تشكو إليك شدة الهزال وذهاب النفوس والأموال. اللهم فأتح لهم سحابا خوارة وسماء خرارة لتضحك أرضهم ويزول ضرهم، فما استتم كلامه حتى نشأت سحابة دكناء لها دويّ وقصدت نحو عبد المطلب، ثم قصدت نحو بلادهم، فقال عبد المطلب: يا معشر قيس ومضر انصرفوا فقد سقيتم فرجعوا وقد سقوا.

وذكر بعضهم أنهم كانوا في الجاهلية يستسقون إذا أجدبوا فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار، وهي سلع وعشر وشبرق، من كل شجرة شيئا من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة وربطوا بها على ظهر ثور صعب وأضرموا فيها النار ويرسلون ذلك الثور، فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط، وقد يهلك ذلك الثور فيسقون.

وفي حياة الحيوان كانت العرب إذا أرادت الاستسقاء جعلت النيران في أذناب البقر وأطلقوها فتمطر السماء، فإن الله يرحمها بسبب ذلك. قال: وذكر ابن الجوزي أنه في سنة سبع من مولده أصابه رمد شديد، فعولج بمكة فلم يغن، فقيل لعبد المطلب إن في ناحية عكاظ راهبا يعالج الأعين فركب إليه ومعه رسول الله، فناداه وديره مغلق فلم يجبه، فتزلزل ديره حتى خاف أن يسقط عليه، فخرج مبادرا. فقال: يا عبد المطلب إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج إليك لخر علي ديري، فارجع به واحفظه لا يقتله بعض أهل الكتاب، ثم عالجه وأعطاه ما يعالجه به.

هذا ورأيت في كتاب سماه مؤلفه (كريم الندماء ونديم الكرماء) أن رسول الله رمد وهو صغير، فمكث أياما يشكو، فقال قائل لجده عبد المطلب: إن بين مكة والمدينة راهبا يرقي من الرمد، وقد شفى على يديه خلق كثير، فأخذه جده وذهب به إلى ذلك الراهب، فلما رآه الراهب دخل إلى صومعته فاغتسل ولبس ثيابه ثم أخرج صحيفة فجعل ينظر إلى الصحيفة وإليه، ثم قال: هو والله خاتم النبيين، ثم قال: يا عبد المطلب هو أرمد؟ قال نعم، قال: إن داوءه معه، يا عبد المطلب خذ من ريقه وضعه على عينيه فأخذ عبد المطلب من ريقه ووضعه على عينيه فبَرِىء لوقته ثم قال الراهب يا عبد المطلب وتالله هذا هو الذي أقسم على الله به فأبرأ المرضى وأشفى الأعين من الرمد فليتأمل، فإن تعدد الواقعة لا يخلو عن بعد، والله أعلم.

باب وفاة عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب له

ثم لما كان سنه ثمان سنين: أي بناء على الراجح من الأقوال المتكاثرة، ويرجحه ما يأتي: توفي عبد المطلب وله من العمر خمس وتسعون سنة، وقيل مائة وعشرون، وقيل وأربعون: أي ولعل ضعف هذا القول اقتضى عدم ذكر ابن الجوزي لعبد المطلب في المعمرين. قال: وقيل اثنان وثمانون: أي وعليه اقتصر الحافظ الدمياطي، قال: وقيل مائة وأربعة وأربعون اهـ. وقد قيل له: «يا رسول الله أتذكر موت عبد المطلب؟ قال نعم وأنا يومئذ ابن ثمان سنين».

وعن أم أيمن أنها كانت تحدث أن رسول الله كان يبكي خلف سرير عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين. ودفن بالحجون عند جده قصيّ.

وجاء عن ابن عباس   قال: قال رسول الله: «يبعث جدي عبد المطلب في زي الملوك، وأبهة الأشراف».

ولما حضرته الوفاة أوصى به إلى عمه شقيق أبيه أبي طالب: أي وكان أبو طالب ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية كأبيه عبد المطلب كما تقدم، واسمه على الصحيح عبد مناف. وزعمت الروافض أن اسمه عمران، وأنه المراد من قوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} قال الحافظ ابن كثير وقد أخطؤوا في ذلك خطأ كبيرا، ولم يتأملوا القرآن قبل أن يقولوا هذا البهتان، فقد ذكر بعد هذه قوله تعالى: {إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا} وحين أوصى به جده لأبي طالب أحبه حبا شديدا لا يحبه لأحد من ولده، فكان لا ينام إلا إلى جنبه، وكان يخصه بأحسن الطعام: أي وقيل اقترع أبو طالب هو والزبير شقيقه فيمن يكفله منهما، فخرجت القرعة لأبي طالب، وقيل بل هو اختار أبا طالب لما كان يراه من شفقته عليه وموالاته له قبل موت عبد المطلب، فسيأتي أنه كان مشاركا له في كفالته.

وقيل كفله الزبير حين مات عبد المطلب، ثم كفله أبو طالب: أي بعد موت الزبير، وغلط قائله بأن الزبير شهد حلف الفضول ولرسول الله من العمر نيف وعشرون سنة كذا في (أسد الغابة) مقدما للاقتراع على ما قبله.

وفي كون عمره في حلف الفضول كان نيفا وعشرين سنة نظر، لما سيأتي أن عمره إذا ذاك كان أربع عشرة سنة.

وفي كلام بعضهم: فلما مات عبد المطلب كفله عماه شقيقا أبيه الزبير وأبو طالب، ثم مات عمه الزبير وله من العمر أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب، وكفالة جده وعمه له بعد موت أبيه وأمه مذكورة في الكتب القديمة من علامات نبوته.

ففي خبر سيف بن ذي يزن: يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه: أي وفي سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق أن عبد المطلب لما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ست نسوة: صفية، وهي أم الزبير بن العوام وبرة وعاتكة، وأم حكيم البيضاء: أي وهي جدة عثمان بن عفان لأمه، وأميمة وأروى، فقال لهن: ابكين عليّ حتى أسمع ما تقلن فيّ قبل أن أموت، فقالت كل واحدة منهن شعرا في وصفه مذكور في تلك السيرة، ولما سمع جميع ذلك أشار برأسه أن هكذا فابكينني. ويقال إنه إنما أشار بذلك لما سمع قول أميمة وقد أمسك لسانه وكان من قولها:

أعينيّ جودا بدمع درر ** على ماجد الخيم والمعتصر

على ماجد الجد واري الزناد ** جميل المحيا عظيم الخطر

على شيبة الحمد ذي المكرمات ** وذي المجد والعز والمفتخر

وذي الحلم والفضل في النائبات ** كثير المفاخر جمّ الفخر

له فضل مجد على قومه ** متين يلوح كضوء القمر

قال ابن هشام  : لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر إلا أنه: أي ابن إسحاق لما رآه عن ابن المسيب كتبه. قال بعضهم: ولم يبك أحد بعد موته ما بكي عبد المطلب بعد موته، ولم يقم لموته بمكة سوق أياما كثيرة.

وروى أبو نعيم والبيهقي: أن سيف بن ذي يزن الحميري لما ولي على الحبشة، وذلك بعد مولد رسول بسنتين أتاه وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئه: أي بهلاك ملوك الحبشة وبولايته عليهم: أي لأن ملك اليمن كان لحمير، فانتزعته الحبشة منهم، واستمر في يد الحبشة سبعين سنة ثم إن سيف بن ذي يزن الحميري استنقذ ملك اليمن من الحبشة، واستقر فيه على عادة آبائه، وجاءت العرب تهنئه من كل جانب، وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب وأمية بن عبد شمس، وغالب وجهائهم أي كعبد الله بن جدعان بضم الجيم وإسكان الدال المهملة وبالعين المهملة التيمي، وهو ابن عم عائشة  ، وكأسد بن عبد العزى، ووهب بن عبد مناف، وقصي ابن عبد الدار، فأخبر بمكانهم: أي وكان في قصره بصنعاء وهو مضمخ بالمسك، وعليه بردان، والتاج على رأسه وسيفه بين يديه، وملوك حمير عن يمينه وشماله، فأذن لهم فدخلوا عليه، ودنا منه عبد المطلب.

وفي الوفاء وجدوه جالسا على سرير من الذهب، وحوله أشراف اليمن على كراسي من الذهب، فوضعت لهم كراسي من الذهب فجلسوا عليها إلا عبد المطلب فإنه قام بين يديه واستأذنه في الكلام، فقال: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك، فقال: إن الله   أحلك أيها الملك محلا رفيعا شامخا: أي مرتفعا باذخا: أي عاليا منيعا، وأنبتك نباتا طالت أرومته، وعظمت جرثومته: أي والأرومة والجرثومة هما الأصل، وثبت أصله وبسق: أي طال فرعه في أطيب موضع وأكرم معدن، وأنت أبيت اللعن أي أبيت أن تأتي من الأمور ما يعلن عليه، ملك العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، وكهفها الذي تلجأ إليه العباد سلفك خير سلف. وأنت لنا فيهم خير خلف، فلن يهلك ذكر من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، نحن أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا: أي أحضرنا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب الذي فدحنا أي أثقلنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة أي التعزية، فعند ذلك قال له الملك من أنت أيها المتكلم؟ قال عبد المطلب بن هاشم، قال: ابن أختنا بالتاء المثناة فوق، لأن أم عبد المطلب من الخزرج وهم من اليمن، قال نعم، قال ادنه، ثم أقبل عليه وعلى القوم، فقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا وملكا ربحلا: أي كثير العطاش، يعطى عطاء جزلا. قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فإنكم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء: أي العطاء إذا ظعنتم، ثم انهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجرى عليهم الأنزال، فأقاموا بذلك شهرا لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب فأدناه، ثم قال له: يا عبد المطلب إني مفض إليك من سر علمي أمرا لو غيرك يكون لم أبح له به، ولكن رأيتك معدنه فأطلعتك طلعه أي عليه، فليكن عندك مخبأ حتى يأذن الله   فيه، إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون

الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه: أي كتمناه دون غيرنا خبرا عظيما، وخطرا جسيما فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصة، فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سرّ وبرّ، فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر؟ قال إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة ولكن به الزعامة أي السيادة إلى يوم القيامة، فقال له عبد المطلب: أيها الملك أبت، أي رجعت بخير ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من مساره: أي من مساررته إياي بما ازداد به سرورا، فقال له الملك: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه قد ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا: وجاعل له منا أنصارا يعزبهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض أي جميعا، ويستفتح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدحض: أي يزجر الشيطان، ويخمد النيران، ويكسر الأوثان. قوله فصل، وحكمه عدل، ويأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله: قال له عبد المطلب: جد جدك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك ساريّ بإفصاح، فقد وضح لي بعض الإيضاح، قال: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النقب: أي الطرق، إنك لجده يا عبد المطلب غير كذب، قال: فخرّ عبد المطلب ساجدا، فقال له ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟ قال، نعم أيها الملك، إنه كان لي ابن، وكنت به معجبا وعليه رقيقا، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام فسميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه: يعني أبا طالب، وهذا يدل على أن وفود عبد المطلب على سيف بن ذي يزن كان بعد موت أمه.

وحينئذ لا ينافي ذلك ما تقدم أن عمره كان سنتين، لأن ذلك كان سنه حين ولي سيف بن ذي يزن على الحبشة، وتأخر وفود عبد المطلب عليه بعد موت أمه. ويدل على أن أبا طالب كان مشاركا لعبد المطلب في كفالته في حياة عبد المطلب، ثم اختص هو بذلك بعد موته: أي وعبارة سيف بن ذي يزن صادقة بالحالين. فقال له: إن الذي قلت لك كما قلت، فاحتفظ على ابنك، واحذر عليه من اليهود فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا: أي، فحفظه والخوف عليه منهم من باب الاحتياط والإعلام بقدره.

قال واطوما ذكرته لك عن هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تداخلهم النفاسة من أن تكون له الرياسة، فينصبون له الحبائل، ويبغون له الغوائل، وهم فاعلون ذلك، أو أبناؤهم من غير شك. ولولا أعلم أن الموت مجتاحي: أي مهلكي قبل مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه. فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق أن يثرب دار ملكه، واستحكام أمره، وأجل نصرته، وموضع قبره. ولولا أني أقيد الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنه أمره، وأعليت على أسنان العرب كعبه، ولكن سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك.

ثم دعا بالقوم، وأمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد سود، وعشرة إماء سود، وحلتين من حلل البرود، وعشرة أرطال ذهبا، وعشرة أرطال فضة، ومائة من الإبل، وكرش مملوء عنبرا. وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا جاء الحول فأتني بخبره وما يكون من أمره، فمات الملك قبل أن يحول عليه الحول، وكان عبد المطلب كثيرا ما يقول لمن معه: لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره، فإذا قيل له ما هو؟ قال سيعلم ما أقول ولو بعد حين اهـ.

وهذا القصر الذي كان فيه الملك سيف بن ذي يزن يقال له بيت عمدان، يقال إنه كان هيكلا للزهرة تعبد فيه الزهرة. وكان سيدنا عمر   يقول لا أفلحت العرب ما دام فيها عمدانها، فلما ولي عثمان   الخلافة هدمه.

وكان أبو طالب مقلا من المال، فكان عياله إذا أكلوا جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم النبي شبعوا، فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول لهم، كما أنتم حتى يأتي ابني، فيأتي رسول الله فيأكل معهم، فيفضلون من طعامهم، وإن كان لبنا شرب رسول الله أولهم، ثم تتناول العيال القعب: أي القدح الذي من الخشب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم: أي جميعهم من القعب الواحد وإن كان أحدهم ليشرب قعبا واحدا. فيقول أبو طالب: إنك لمبارك.

أقول: وفي الإمتاع وكان أي أبو طالب يقرب إلى الصبيان يصبحهم أول البكرة فيجلسون وينتهبون فيكف رسول الله يده لا ينتهب معهم. فلما رأى ذلك أبو طالب عزل له طعامه على حدة، هذا كلامه: ولا ينافي ما قبله، لأنه يجوز أن يكون ذلك خاصا بما يحضر في البكرة الذي يقال له الفطور دون الغداء والعشاء، فإنه كان يأكل معهم وهو المقدم، والله أعلم.

وكان الصبيان يصبحون شعثا رُمصا بضم الراء وإسكان الميم ثم صاد مهملة ويصبح رسول الله دهينا كحيلا.

قالت أم أيمن: ما رأيت رسول الله يشكو جوعا قط ولا عطشا لا في صغره ولا في كبره.

وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغداء فيقول أنا شبعان: أي في بعض الأوقات، فلا ينافي ما سبق.

وكان يوضع لأبي طالب وسادة يجلس عليها فجاء النبي فجلس عليها، فقال: إن ابن أخي ليُخبر بنعيم: أي بشرف عظيم.

قال: واستسقى أبو طالب برسول الله. قال جلهمة بن عرفطة: قدمت مكة وقريش في قحط فقائل منهم يقول اعتمدوا اللات والعزى. وقائل منهم يقول اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي أنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن الحق وفيكم باقية إبراهيم، وسلالة إسماعيل عليهما السلام؟ أي فكيف تعدلون عنه إلى ما لا يجدي. قالوا: كأنك عنيت أبا طالب، قال: إيها، فقاموا بأجمعهم وقمت معهم، فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه، عليه إزار قد اتشح به فثاروا أي قاموا إليه، فقالوا، يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق لنا، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجنة بدال مهملة فجيم مضمومتين أي ظلمة. وفي رواية كأنه شمس دجن: أي ظلام تجلت عنه سحابة قتماء أي من القتام بالفتح وهو الغبار وحوله أغيلمة جمع غلام، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ أي طاف بأصبعه الغلام، زاد في بعض الروايات، وبصبصت الأغيلمة حوله: أي فتحت أعينها، وما في السماء قزعة: أي قطعة من سحاب، فأقبل السحاب من ههنا ومن ههنا واغدودق: أي كثر مطره، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي.

وفي ذلك يقول أبو طالب من قصيدة يمدح بها النبي وشرف وكرم أكثر من ثمانين بيتا:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

أي ملجأ وغياثا لليتامى، ومانع الأرامل من الضياع. والأرامل: المساكين من النساء والرجال، وهو بالنساء أخص وأكثر استعمالا.

أقول: وأخذت الشيعة من هذه القصيدة القول بإسلام أبي طالب: أي لأنه صنفها بعد البعثة وسيأتي الكلام في إسلامه.

وأما ما نقله الدميري في شرح المنهاج عن الطبراني وابن سعد أن هذه القصيدة التي منها هذا البيت من إنشاء عبد المطلب فهو وهم، لما درج عليه أئمة السير أن المنشىء لها هو أبو طالب، واحتمال توارد كل من أبي طالب وعبد المطلب على هذه القصيدة بعيدا جدا.

ومما يصرح بالوهم ما يأتي عن النبي من نسبة هذا البيت لأبي طالب، والله أعلم.

قال: وعن أبي طالب قال: كنت بذي المجاز: أي وهو موضع على فرسخ من عرفة كان سوقا للجاهلية كما تقدم مع ابن أخي يعني النبي فأدركني العطش فشكوت إليه فقلت يا ابن أخي قد عطشت وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئا إلا الجزع: أي لم يحملني على ذلك إلا الجزع: وعدم الصبر. قال: فثنى وركه: أي نزل عن دابته. ثم قال: يا عم عطشت. قلت نعم فأهوى بعقبه إلى الأرض. وفي رواية: إلى صخرة فركضها برجله وقال شيئا، فإذا أنا بالماء لم أر مثله، فقال اشرب، فشربت حتى رويت، فقال أرويت؟ قلت نعم، فركضها ثانية فعادت كما كانت وسافر: أي وقد أتت عليه بضع عشرة سنة مع عمه الزبير بن عبد المطلب شقيق أبيه كما تقدم إلى اليمن، فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز، فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكلكله: أي صدره فنزل عن بعيره وركب ذلك الفحل، وسار حتى جاوز الوادي ثم خلى عنه فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد مملوء ماء يتدفق، فقال رسول الله أتبعوني ثم أقتحمه فاتبعوه فأيبس الله   الماء فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك، فقال الناس: إن لهذا الغلام شأنا اهـ.

أي وفي السيرة الهشامية أن رجلا من لهب كان قائفا. وكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويقتاف لهم فيهم، فأتى أبو طالب بالنبي وهو غلام مع من يأتيه فنظر إليه، ثم شغل عنه بشيء، فلما فرغ قال عليّ بالغلام، وجعل يقول ويلكم ردوا عليّ الغلام الذي رأيت آنفا فوالله ليكوننّ له شأن، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه وانطلق به، والله أعلم.

باب ذكر سفره مع عمه أبي طالب إلى الشام

عن ابن إسحق لما تهيأ أبو طالب للرحيل صبّ به رسول الله بفتح الصاد المهملة وتشديد الباء الموحدة. والصبابة: رقة الشوق، قاله في الأصل.

قال: وعند بعض الرواة: فضبث به أي بفتح الضاد المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة كضرب لزمه وقبض عليه، يقال ضبثت على الشيء: إذا قبضت عليه.

فقد جاء: أوحى الله تعالى إلى داود : قل للملأ من بني إسرائيل لا يدعوني والخطايا بين أضباثهم: أي قبضاتهم: أي وهم يحملون الأوزار غير مقلعين عنها: أي وعلى ما عند بعض الرواة اقتصر الحافظ الدمياطي، فلفظه: لما تهيأ يعني أبا طالب للرحيل ضبث به رسول الله فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجنّ به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا.

أقول: رأيت بعضهم نقل عن سيرة الدمياطي: وضبث به أبو طالب ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط وإنه ضبث بالضاد المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة. قال وهو القبض على الشيء، وهذا لا يناسب قوله ضباثة لم يضبث مثلها لشيء قط، لأن ذلك إنما يناسب صب بالصاد المهملة: أي الذي هو الرقة كما لا يخفى. على أن مصدر ضبث إنما هو الضبث، ومن ثم لم أجد ذلك في السيرة المذكورة. والذي رأيته فيها ما قدمته عنها، وفي رواية أنه مسك بزمام ناقة أبي طالب، وقال: يا عم إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم. وكان سنه تسع سنين على الراجح. وقيل اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام: أي وهذا القيل صدر به في الإمتاع وقال إنه أثبت: أي ومن ثم اقتصر عليه المحب الطبري.

وذكر أنه لما سار به أردفه خلفه فنزلوا على صاحب دير، فقال صاحب الدير ما هذا الغلام منك؟ قال ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون له أب حي هذا نبي: أي لأن من كانت هذه الصفة صفته فهو نبي: أي النبي المنتظر.

ومن علامة ذلك النبي في الكتب القديمة أن يموت أبوه وأمه حامل به كما تقدم وسيأتي أو بعد وضعه بقليل من الزمن: أي ومن علامته أيضا في تلك الكتب موت أمه وهو صغير كما تقدم في خبر سيف بن ذي يزن. ولا ينافي ذلك الاقتصار من بعض أهل الكتب القديمة على الأول الذي هو موت أبيه وهو حمل.

قال أبو طالب لصاحب الدير وما النبي؟ قال: الذي يأتي إليه الخبر من السماء فينبىء أهل الأرض. قال أبو طالب الله أجل مما تقول، قال: فاتق عليه اليهود، ثم خرج حتى نزل براهب أيضا صاحب دير، فقال له: ما هذا الغلام منك، قال ابني، قال: ما هو بابنك، وما ينبغي أن يكون له أب حي. قال ولم؟ قال لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي: أي النبي الذي يبعث لهذه الأمة الأخيرة، لأن ما ذكر علامته في الكتب القديمة. قال أبو طالب: سبحان الله! الله أجل مما تقول. ثم قال أبو طالب للنبي: يا ابن أخي ألا تسمع ما يقول؟ قال: أي عم لا تنكر لله قدرة، والله أعلم.

فلما نزل الركب بصرى وبها راهب يقال له بحيرا، بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة، واسمه جرجيس، وقيل سرجيس. وحينئذ يكون بحيرا لقبه في صومعة له. وكان انتهى إليه علم النصرانية: أي لأن تلك الصومعة كانت تكون لمن ينتهي إليه علم النصرانية، يتوارثونها كابرا عن كابر، وعن أوصياء عيسى  . وفي تلك المدة انتهى علم النصرانية إلى بحيرا، وقيل كان بحيرا من أحبار اليهود يهود تيما ().

أقول: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون تنصر بعد أن كان يهوديا كما وقع لورقة بن نوفل كما سيأتي.

هذا وقال ابن عساكر: إن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفو، بينها وبين بصرى ستة أميال. وقيل كان يسكن البلقاء من أرض الشام بقرية، يقال لها ميفعة، ويحتاج إلى الجمع.

وقد يقال يجوز: أنه كان يسكن في كلّ من القريتين كل واحدة يسكن فيها زمنا، وكان في بعض الأحايين يأتي لتلك الصومعة فليتأمل. وقد سمع مناد قبل وجوده ينادي ويقول: ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة: رباب بن البراء، وبحيرا الراهب، وآخر لم يأت بعد. وفي لفظ: والثالث المنتظر يعني النبي ذكره ابن قتيبة.

قال ابن قتيبة: وكان قبر رباب وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش: وهو المطر الخفيف، والله أعلم.

وكانت قريش كثيرا ما تمر على بحيرا فلا يكلمهم حتى كان ذلك العام صنع لهم طعاما كثيرا، وقد كان رأى وهو بصومعته رسول الله في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم، ثم لما نزلوا في ظلّ شجرة نظر إلى الغمامة قد أظلت الشجرة وتهصرت: أي مالت ( ) أغصان الشجرة على رسول الله وفي رواية وأخضلت: أي كثرت أغصان الشجرة على رسول الله حين استظلّ تحتها: أي وقد كان وجدهم سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، ثم أرسل إليهم: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم لم أقف على اسم هذا الرجل: يا بحيرا إن لك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وكنا نمر عليك كثيرا فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله من بين القوم لحداثة سنه في رجال القوم: أي تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم ولم ير الصفة: أي لم ير في أحد منهم الصفة التي هي علامة للنبي المبعوث آخر الزمان التي يجدها عنده: أي ولم ير الغمامة على أحد من القوم، ورآها متخلفة على رأس رسول الله، فقال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي. فقالوا: يا بحيرا ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا. قال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الغلام معكم أي وقال: فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم فقال القوم: هو والله أوسطنا نسبا، وهو ابن أخي هذا الرجل، يعنون أبا طالب، وهو من ولد عبد المطلب، فقال رجل من قريش: واللات والعزى إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد

الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه: أي وجاء به () وأجلسه مع القوم: أي وذلك الرجل هو عمه الحارث بن عبد المطلب، ولعله لم يقل هو ابن أخي مع كونه أسن من أبي طالب، لأن أبا طالب كان شقيقا لأبيه عبد الله كما تقدم دون الحارث مع كون أبي طالب هو المقدم في الركب. وقيل الذي جاء به أبو بكر   وقدمه ابن المحدث على ما قبله فليتأمل.

ولما سار به من احتضنه لم تزل الغمامة تسير على رأسه، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا، فقال له: أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما: أي وفي الشفاء أنه اختبره بذلك، فقال له رسول الله : لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغض شيئا قط بغضهما، فقال بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله، فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته: أي صفة النبي المبعوث آخر الزمان التي عنده: أي ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم، فقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا. فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال ابني، قال: ما هو ابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به، قال صدقت: أي ثم قال ما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا، قال صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلاده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لتبغينه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم أي نجده في كتبنا ورويناه عن آبائنا.

واعلم أني قد أديت إليك النصيحة فاسرع به إلى بلده. وفي لفظ لما قال له ابن أخي قال له بحيرا أشفيق عليه أنت؟ قال نعم، قال: فوالله لئن قدمت به إلى الشام أي جاوزت هذا المحل ووصلت إلى داخل الشام الذي هو محل اليهود لتقتلنه اليهود، فرجع به إلى مكة. ويقال إنه قال لذلك الراهب: إن كان الأمر كما وصفت فهو في حصن من الله  .

وقد يقال: لا مخالفة لأن ما صدر من بحيرا كان على ما جرت به العادة من طلب التوقي، فخرج به عمه أبو طالب حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. وفي الهدى فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى المدينة، فليتأمل.

وذكر أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله ما رأى بحيرا وأرادوا به سوءا فردهم عنه بحيرا، وذكرهم الله وما يجدونه في الكتاب من ذكره وصفاته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لا يخلصون إليه، فعند ذلك تركوه وانصرفوا عنه.

وفي رواية أخرى: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب بحيرا، وكانوا قبل ذلك يمرون عليه فلا يخرج إليهم ولا يلتفت إليهم، فجعل وهم يحلون رحالهم يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي، ثم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال الأشياخ من قريش: ما أعلمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدا، ولا يسجد إلا لنبي: أي وإن الغمامة صارت تظلله دونهم، وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة. أي والغضروف تقدم أنه رأس لوح الكتف، ثم رجع وصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به كان النبي في رعية الإبل، فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة: فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء هذه الشجرة مال عليه.

فبينما هو قائم عليهم وهو يعاهدهم أن لا يذهبوا به إلى أرض الروم: أي داخل الشام، فإنهم إن عرفوه قتلوه، فالتفت فإذا سبعة من الروم قد أقبلوا، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا جئنا إلى هذا النبي الذي هو خارج في هذا الشهر: أي مسافر فيه، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا لا، فبايعوه: أي بايعوا بحيرا على مسالمة النبي، وعدم أخذه وأذيته على حسب ما أرسلوا فيه، وأقاموا عند ذلك الراهب خوفا على أنفسهم ممن أرسلهم إذا رجعوا بدونه. قال بحيرا لقريش: أنشدكم الله: أي أسألكم بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه بلالا. وفي لفظ: وبعث معه أبو بكر   بلالا، وزوده بحيرا من الكعك والزيت: أي وإذا كانت القصة واحدة فالاختلاف في إيرادها من الرواة كما تقدم نظيره. فبعض الرواة قدم في هذه الرواية وأخر.

على أنه في الهدى قال: وقع في كتاب الترمذي وغيره أن عمه: أي وأبا بكر   بعث معه بلالا، وهو من الغلط الواضح، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا، وإن كان فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر.

وذكر في الأصل أن في هذه الرواية أمورا منكرة حيث قال: قلت ليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرّج له في الصحيح، ومع ذلك: أي مع صحة سنده، ففي متنه نكارة: أي أمور منكرة: وهي إرسال أبي بكر مع النبي بلالا، فإن بلالا لم ينقل لأبي بكر إلا بعد هذه السفرة بأكثر من ثلاثين عاما، ولأن أبا بكر لم يبلغ العشر سنين حينئذ، لأنه أسن منه بأزيد من عامين بقليل: أي بشهر. ولا ينافي ما يأتي: وتقدم أن سنه حينئذ تسع سنين على الراجح أي فيكون سن أبي بكر نحو سبع سنين وكان بلال أصغر من أبي بكر  ، فلا يتجه هذا بحال: أي لأن أبا بكر حينئذ لم يكن أهلا للإرسال عادة، وكذا بلال لم يكن أهلا لأن يرسل.

وكون النبي أسن من أبي بكر هو ما عليه الجمهور من أهل العلم بالأخبار والسر والآثار.

وما روي أن النبي سأل أبا بكر فقال له: من الأكبر أنا أو أنت؟ فقال له أبو بكر: أنت أكرم وأكبر وأنا أسن. قيل فيه إنه وهم وإن ذلك إنما يعرف عن عمه العباس  ، وكون بلال أصغر من أبي بكر ينازعه قول ابن حبان: بلال كان تربا لأبي بكر: أي قرينه في السن، وبه يردّ قول الذهبي: بلال لم يكن خلق.

قال: وذكر الحافظ ابن حجر أن إرسال أبي بكر معه بلال وهَم من بعض الرواة، وهو مقتطع من حديث آخر أدرجه ذلك الراوي في هذا الحديث انتهى.

أقول: ولأجل هذا الوهم قال الذهبي في الحديث أظنه موضوعا بعضه باطل: أي لم يوافق الواقع: أي فمع كون الحديث موضوعا، بعضه موافق للواقع، وبعضه لم يوافق الواقع. وحينئذ فمراد الأصل بالنكارة في قوله في متنه نكارة البطلان كما أشرت إليه، وليس هذا من قبيل قولهم: هذا حديث منكر، الذي هو من أقسام الضعيف وهو يرجع إلى الفردية ولا يلزم من الفردية ضعف متن الحديث فضلا عن بطلانه.

وقال الحافظ الدمياطي: في هذا الحديث وهمان أحدهما قوله فبايعوه وأقاموا معه والوهم الثاني قوله وبعث معه أبو بكر بلالا، ولم يكونا معه، ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو بكر.

وفيه أن الحافظ الدمياطي فهم أن الضمير في بايعوه للنبي، وقد علمت أنه لبحيرا فلا وهم فيه.

وتوجيه الوهم الثاني بعدم وجود أبي بكر وبلال مع النبي واضح إن ثبت ذلك، وإلا فمجرد النفي لا يرد به الإثبات. وحينئذ لا حاجة معه إلى ذكر ما بعده من أن بلالا لم يكن أسلم ولا ملكه أبو بكر، إلا أن يقال هو على تسليم وجود أبي بكر وبلال مع النبي.

وقد يقال على تسليم ذلك: إرسال أبي بكر لبلال لا يتوقف على إسلام بلال ولا على ملك أبي بكر له، جاز أن يكون سيد بلال وهو أمية بن خلف أرسله في ذلك العير لأمر، فأذن أبو بكر لبلال في العود مع النبي ليكون خادما، ويستأنس ويأمن به، اعتمادا على رضا سيده بذلك، إذ ليس من لازم إرساله أن يكون مملوكا له. وكون أبي بكر لم يكن في سن من يرسل عادة تقدم ما فيه، والله أعلم.

قال: وروى ابن منده بسند ضعيف عن أبي بكر   أنه صحب رسول الله وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي ابن عشرين سنة: أي فالنبي أسن من أبي بكر بعامين: أي وشهر كما تقدم. ولقلة هذه الزيادة على العامين التي هي الشهر الواردة مبهمة في الرواية السابقة لم يذكرها ابن منده، وهم يريدون الشام في تجارتهم، حتى إذا نزل منزلا وهو سوق بصرى من أرض الشام، وفي ذلك المحل سدرة فقعد في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرا يسأله عن شيء، فقال: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ قال له: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال له: والله هذا نبي هذه الأمة، ما استظل تحتها بعد عيسى ابن مريم   إلا محمد  : أي وقد قال عيسى: لا يستظل تحتها بعدي إلا النبي الأمي الهاشمي كما سيأتي في بعض الروايات.

قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون أي سفر أبي بكر معه في سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب انتهى.

أقول: وهي سفرته مع ميسرة غلام خديجة، فإنه لم يثبت أنه سافر إلى الشام أكثر من مرتين. ويؤيده ما تقدم من قول الراوي وهم يريدون الشام في تجاراتهم، لأن النبي لم يخرج تاجرا إلا في تلك السفرة، وسيأتي أن هذا القول قاله الراهب نسطورا لا بحيرا، قاله لميسرة لا لأبي بكر. إلا أن يقال: لا مانع أن يكون قال ذلك لميسرة ولأبي بكر، لكن ربما يبعده ما سيأتي أن سنه حين سافر مع ميسرة كان خمسا وعشرين سنة على الراجح لا عشر سنين. وعلى هذا فالشجرة لم تكن إلا عند صومعة الراهب نسطورا لا عند صومعة الراهب بحيرا، وذكر بحيرا موضع نسطورا، وهو ما وقع في شرف المصطفى للنيسابوري وهم من بعض الرواة سرى إليه من اتحاد محلهما وهو سوق بصرى. إلا أن يقال: يجوز أن يكون الراهب نسطورا خلف بحيرا في ذلك الصومعة لموته مثلا، وهو أقرب من دعوى تعدد الشجرة، فتكون واحدة عند صومعة بحيرا، وواحدة عند صومعة نسطورا، وكلاهما قال فيها عيسى ما ذكرا.

ومن دعوى اتحادها وأنها بين صومعة بحيرا وصومعة نسطورا وأن العير الذي كان فيه أبو طالب نزل جهة صومعة بحيرا، والعير الذي كان فيه أبو بكر وميسرة نزل جهة صومعة نسطورا، وسيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدّق بأنه نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام، لأنهما لم يدركا البعثة: أي الرسالة بناء على اقترانهما بالنبوة، أو أن المراد بها النبوة: أي لم يدركا النبوة فضلا عن الرسالة بناء على تأخرها عن النبوة.

ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال في بحيرا: ما أدري أدرك البعثة أم لا؟ هذا كلامه في الإصابة، وليس هذا بحيرا الراهب الصحابي الذي هو أحد الثمانية الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة.

فعنه   قال: سمعت رسول الله يقول: «إذا شرب الرجل كأسا من خمر» الحديث، ومن قال: إن هذا الحديث منكر ظن أن بحيرا هذا هو بحيرا المذكور هنا الذي لقي النبي قبل البعثة، والله أعلم.

باب ما حفظه الله تعالى به في صغره من أمر الجاهلية

أي من أقذارهم ومعايبهم: أي بحسب ما آل إليه شرعه، لما يريد الله تعالى به من كرامته، حتى صار أحسنهم خلقا، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزيها وتكريما: أي حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا فسموه الأمين، لما جمع الله   فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة، من الحلم والصبر، والشكر والعدل، والزهد والتواضع والعفة والجود، والشجاعة والحياء والمروءة.

فمن ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن رسول الله قال: «لقد رأيتني ـ أي رأيت نفسي ـ في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرّى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم: أي من الملائكة ما أراها لكمة وجيعة » وفي لفظ «لكمني لكمة شديدة ».

وقد يقال: لا منافاة، لأنها مع شدتها لم تكن وجيعة له: «ثم قال شدّ عليك إزارك، فأخذته فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليّ من بين أصحابي» أي وقد وقع له مثل ذلك: أي نقل الحجارة عاريا عند إصلاح أبي طالب لزمزم.

فعن ابن إسحاق وصححه أبو نعيم قال: «كان أبو طالب يعالج زمزم، وكان النبي ينقل الحجارة وهو غلام، فأخذ إزاره واتقى به الحجارة فغشي عليه، فلما أفاق سأله أبو طالب، فقال أتاني آت عليه ثياب بيض، فقال لي استتر» فما رؤيت عورته من يومئذ.

وفي الخصائص الصغرى: ونهى عن التعري وكشف العورة من قبل أن يبعث بخمس سنين. وقد وقع له مثل ذلك: أي نهيه عن التعري عند بنيان الكعبة كما سيأتي، وسيأتي ما فيه.

ومن ذلك ما جاء عن علي   قال: سمعت رسول الله : يقول «ما هممت بقبيح مما همّ به أهل الجاهلية » أي ويفعلونه «إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله   منهما» أي من فعلهما «قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها» أي وفي لفظ «قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلها» لم أقف على اسم هذا الفتى «أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم» وأصل السمر: الحديث ليلا «فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان قد تزوج بفلانة » لرجل من قريش تزوج من امرأة من قريش «فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس» أي وفي لفظ «فجلست أنظر ـ أي أسمع ـ وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا حر الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت اللية الأخرى مثل ذلك».

أقول: المناسبة لقوله عصمني الله ما في الرواية الثانية لا ما ذكر في الرواية الأولى، إلا أن يحمل قوله في الرواية الأولى فلهوت على أردت أن ألهو، والله أعلم، فقال: «والله ما هممت بغيرهما بسوء مما تعمله أهل الجاهلية »: أي ما هممت بسوء مما يعمله أهل الجاهلية غيرهما، وفي لفظ «فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك» أي مما يعمله أهل الجاهلية «ولا هممت به حتى أكرمني الله تعالى بنبوّته».

ومن ذلك ما جاء عن أم أيمن   أنها قالت، كان بوانة بضم الموحدة وبفتح الواو مخففة بعدها ألف ونون، صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك ـ أي تذبح له ـ وتحلق عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك، حتى قالت رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا، فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن: ما دهاك؟ قال إنى أخشى أن يكون بي لمم: أي لمة وهي المس من الشيطان، فقلن: ما كان الله   ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها: أي من تلك الأصنام التي عند ذلك الصنم الكبير الذي هو بوانة تمثل لي رجل أبيض طويل، أي وذلك من الملائكة يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه، قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ.

أقول: ظاهر هذا السياق أن اللمم يكون من الشيطان، وحينئذ يكون بمعنى اللمة: وهي المس من الشيطان كما قدمناه، فقد أطلق اللمم على اللمة، وإلا فاللمم نوع من الجنون كما تقدم في قصة الرضاع: قد أصابه لمم أو طائف من الجن، إذ هو يدل على أن اللمم يكون من غير الشيطان كمرض. وعبارة الصحاح: اللمم طرف من الجنون، وأصاب فلانا من الجن لمة: وهي المس أي فقد غاير بينهما، والله أعلم.

ومن ذلك ما روته عائشة   قالت: سمعت رسول الله يقول: «سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير الله تعالى: أي فكان يقول لقريش: الشاة خلقها الله  ، وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله، فما ذقت شيئا ذبح على النصب ـ أي الأصنام ـ حتى أكرمني الله تعالى برسالته» أي وزيد بن عمرو كان قبل النبوة زمن الفترة على دين إبراهيم ، فإنه لم يدخل في يهودية ولا نصرانية، واعتزل الأوثان والذبائح التي تذبح للأوثان، ونهى عن الوأد، وتقدم أنه كان يحييها إذا أراد أحد ذلك، أخذ الموؤودة من أبيها وتكفلها، وكان إذا دخل الكعبة يقول: لبيك حقا، تعبدا وصدقا. وقيل: ورقا عذتُ بما عاذ به إبراهيم، ويسجد للكعبة، قال: «إنه يبعث أمة وحده» أي يقوم مقام جماعة انتهى: أي فإن ولده سعيدا قال: «يا رسول الله إن زيدا كان كما قد رأيت وبلغك فاستغفر له، قال نعم أستغفر له فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده».

وفي البخاري عن عبد الله بن عمر  : «أن النبي لقي زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن ينزل على النبي الوحي وقد قدمت إلى النبي سفرة ـ أي فيها شاة ذبحت لغير الله   أو قدمها النبي إليه ـ فأبى أن يأكل منها وقال: إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه» ولعل هذا كان قبل ما تقدم عنه، وأن ذلك كان هو السبب في ذلك.

قال الإمام السهيلي: وفيه سؤال كيف وفق الله   زيد إلى ترك ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه، ورسوله كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية، لما ثبت من عصمة الله تعالى له؟ أي فكان يترك ذلك من عند نفسه لا تبعا لزيد بن عمرو. وحينئذ لا يحسن الجواب الذي أشرنا إليه بقولنا.

وأجاب أي السهيلي بأنه لم يثبت أنه أكل من تلك السفرة: أي ولا من غيرها.

سلمنا أنه أكل قبل ذلك مما ذبح على النصب، فتحريم ذلك لم يكن من شرع إبراهيم وإنما كان تحريم ذلك في الإسلام والأصل في الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، هذا كلامه.

وفيه أن هذا التسليم يبطل عدّ الشمس الشامي ذلك من أمر الجاهلية التي حفظه الله تعالى منه في صغره، ويخالف ما ذكره بعضهم من أن زيد بن عمرو هذا هو رابع أربعة من قريش فارقوا قومهم، فتركوا الأوثان والميتة وما يذبح للأوثان. كانوا يوما في عيد لصنم من أصنامهم ينحرون عنده، ويعكفون عليه، ويطوفون به في ذلك اليوم، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم، فما حجر تطوف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ثم تفرقوا في البلاد يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم، وظاهر هذا السياق أن تركهم للأوثان كان بعد عبادتهم لها، وسيأتي عن ابن الجوزي أنهم لم يعبدوها.

وهؤلاء الثلاثة الذين زيد بن عمرو رابعهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش ابن عمته أميمة، وعثمان بن الحويرث. وزاد ابن الجوزي على هؤلاء الأربعة جماعة آخرين سيأتي الكلام عليهم عند الكلام على أول من أسلم.

وزيد بن عمرو بن نفيل هذا كان ابن أخي الخطاب والد سيدنا عمر أخاه لأمه. فأما ورقة فلم يدرك البعثة على ما سيأتي. وكان ممن دخل في النصرانية: أي بعد دخوله في اليهودية كما سيأتي.

وأما عبيد الله بن جحش، فأدرك البعثة وأسلم وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر من المسلمين ثم تنصر هناك كما سيأتي، وكان يمر على المسلمين ويقول لهم: فتحنا وصأصأتم: أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا ومات على النصرانية.

وأما عثمان بن الحويرث، فلم يدرك البعثة، وقدم على قيصر ملك الروم وتنصر عنده.

وأما زيد بن عمرو بن نفيل هذا، كان يوبخ قريشا ويقول لهم: والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، حتى إن عمه الخطاب أخرجه من مكة وأسكنه بحراء، ووكل به من يمنعه من دخول مكة كراهة أن يفسد عليهم دينهم، ثم خرج يطلب الحنيفية دين إبراهيم، ويسأل الأحبار والرهبان عن ذلك حتى بلغ الموصل، ثم أقبل إلى الشام فجاء إلى راهب به كان انتهى إليه علم أهل النصرانية فسأله عن ذلك، فقال له: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها: يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها فإنه مبعوث الآن هذا زمانه، فخرج سريعا يريد مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه وقتلوه ودفن بمكان يقال له ميفعة. وقيل دفن بأصل جبل حراء.

هذا وفي كلام الواقدي عن زيد بن عمرو أنه قال لعامر بن ربيعة وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل. ولا أرى أدركه، وأن أدين به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فسلم مني عليه، قال عامر: فلما أسلمت بلغته عن زيد السلام قال: فرد وترحم عليه. وتقدم أن ولده سعيدا سأل النبي أن يستغفر لأبيه زيد، فقال نعم أستغفر له الحديث.

قال: وعن عائشة   قالت: قال رسول الله: «دخلت الجنة فوجدت لزيد بن عمرو دوحتين» أي شجرتين عظيمتين. قال الحافظ ابن كثير إسناده جيد قوي: أي وقال إلا أنه ليس في شيء من الكتب. وفي رواية «رأيته في الجنة يسحب ذيولا» وعن الزهري «نهى رسول الله عن أكل ما يذبح للجن وعلى اسمهم» وأما ما قيل عند ذبحه بسم الله واسم محمد فحلال أكله وإن كان القول المذكور حراما لإيهامه التشريك، وهذا من جملة المحالّ المستثناة من قوله تعالى له: {لا أذكر إلا وتذكر معي} فقد جاء «أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول لك: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ » أي على كل حال أي جعلت ذكرك مرفوعا مشرفا المذكور ذلك في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} إلى قوله: {ورفعنا لك ذكرك} «قلت الله أعلم، قال: لا أذكر إلا وتذكر معي» أي في غالب المواطن وجوبا أو ندبا.

ومن ذلك ما روي عن علي   قال: «قيل للنبي هل عبدت وثنا قط؟ قال لا، قالوا: هل شربت خمرا قط؟ قال لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان» انتهى.

أقول: تحريم شرب الخمر في الجاهلية ليس من خصائصه، بل حرّمها على نفسه في الجاهلية جماعة كثيرون سيأتي ذكر بعضهم، وتقدم ذكر بعض منهم وكون شرب الخمر من الكفر على ما هو ظاهر السياق بمعنى ينبغي أن يجتنب كما يجتنب الكفر، ولعل صدور هذا منه كان بعد تحريم الخمر، وكيون الإتيان بذلك للمبالغة في الزجر عنها، والتباعد منه لأنها أم الخبائث، وقد كانت نفوس غالبهم ألفتها، وهذا محمل ما جاء «أتاني جبريل فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا» أي مصدقا بما جئت به «دخل الجنة » أي لا بد وأن يدخل الجنة وإن دخل النار «قلت: يا جبريل وإن زنى وإن سرق؟ قال نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم، وإن شرب الخمر» والمراد بتحريمها تحريمها على الناس، وإلا ففي الخصائص الصغرى للسيوطي: وحرمت عليه الخمر من قبل ما يبعث قبل أن تحرم على الناس بعشرين سنة، والله أعلم.

قال: وأما ما رواه جابر بن عبد الله «كان رسول الله يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه، واحد يقول لصاحبه اذهب بنا نقوم خلف رسول الله، فقال: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام قبل فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم» قال الحافظ ابن حجر: أنكره الناس أي فقد قال الإمام أحمد كما في الشفاء إنه موضوع أو يشبه الموضوع. وقال الدارقطني: إن ابن أبي شيبة وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر فلا يلتفت إليه، والمنكر فيه قول الملك عهده باستلام الأصنام قبل، فإن ظاهره أنه باشر الاستلام، وليس ذلك مرادا أبدا، بل المراد أنه شاهد مبشارة المشركين استلام أصنامهم: أي لشهوده بعض مشاهدهم التي تكون عند الأصنام.

وقال غيره: والمراد بالمشاهد التي شهدها: أي التي كان يشهدها مشاهد الحلف ونحوها كالضيافات الآتي بيانها لا مشاهدة استلام الأصنام، فإنه يرده ما تقدم عن أم أيمن انتهى: أي من قولها إن بوانة كان صنما لقريش تعظمه وتعتكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة إلى آخره: أي ويرده أيضا ما تقدم من قوله لبحيرا لما حلفه باللات والعزى: لا تسألني بهما؟ فإني والله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، لأن مثل اللات والعزى غيرهما من الأصنام في ذلك، وما سيأتي من قوله لخديجة  : «والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط» وما جاء أنه قال: «لما نشأت بغضت إليّ الأوثان، وبغض إليّ الشعر» والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب رعيته الغنم

قال: رعيته بكسر الراء، المراد الهيئة انتهى.

أقول: المبين في هذا الباب إنما هو فعله الذي هو رعيه للغنم، لا بيان هيئة رعيه للغنم، فرعيته بفتح الراء لا بكسرها، والله أعلم.

عن أبي هريرة   قال: قال رسول الله: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط» أي وهي أجزاء من الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة. قال سويد بن سعيد: بعني كل شاة بقيراط، وقيل القراريط موضع بمكة.

فقد قال إبراهيم الحربي: قراريط موضع، ولم يرد بذلك القراريط من الفضة أي والذهب، قال: وأيد هذا الثاني بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الذهب والفضة بدليل أنه جاء في الصحيح «ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط» ولأنه جاء في بعض الروايات «لأهلي» ولا يرعى لأهله بأجرة: أي كما قضت بذلك العادة. وأيضا جاء في بعض الروايات بدل بالقراريط «بأجياد» فدل ذلك على أن القراريط اسم محل، عبر عنه تارة بالقراريط وتارة بأجياد.

وردّ بأن أهل مكة لا يعرفون بها محلا يقال له القراريط، وحينئذ يكون أراد بأهله أهل مكة لا أقاربه الذين تقضي العادة بأنه لا يرعى لهم بالأجرة، والإضافة تأتي لأدنى ملابسة، ويدل لذلك ما جاء في رواية البخاري «كنت أرعاها» أي الغنم «على قراريط لأهل مكة » وذكره البخاري كذلك في باب الإجارة، وذلك يبعد أن المراد بالقراريط المحل، وجعل على بمعنى الباء.

ويردّ القول بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الدراهم والدنانير: أي ويمنع دلالة قوله «ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط» على ذلك لجواز أن يكون المراد يذكر فيها القيراط كثيرا لكثرة التعامل به فيها، أو أن المراد بالقيراط ما يذكر في المساحة.

وجمع الحافظ ابن حجر بأنه رعى لأهله أي أقاربه بغير أجرة، ولغيرهم بأجرة، والمراد بقوله «أهلي» أهل مكة: أي الشامل لأقاربه ولغيرهم. قال: فيتجه الخبران ويكون في أحد الحديثين بين الأجرة أي التي هي القراريط، وفي الآخر بين المكان: أي الذي هو أجياد، فلا تنافي في ذلك، هذا كلامه ملخصا. وعبارته تقتضي وقوع الأمرين منه، وهو مما يتوقف على النقل في ذلك.

قال ابن الجوزي: كان موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم رعاة غنم. وهذا يرد قول بعضهم لم يرد ابن إسحاق برعايته الغنم إلا رعايته لها في بني سعد مع أخيه من الرضاع: أي وقد يتوقف في كون قول ابن الجوزي هذا بمجرده يردّ قول هذا البعض، نعم يرده ما تقدم وما يأتي. وفي الهدى أنه آجر نفسه قبل النبوة في رعيه الغنم.

ومن حكمة الله   في ذلك أن الرجل إذا استرعى الغنم التي هي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ووقع الافتخار بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم: أي عند النبي، فاستطال أصحاب الإبل، فقال رسول الله: «بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد» أي وهو موضع بأسفل مكة من شعابها، ويقال له جياد بغير همزة، ولعل المراد بقوله: «راعي غنم» أي وكذا قوله: «وأنا راعي غنم» أي وقد رعى الغنم، وقد رعيت الغنم، إذ الأخذ بظاهر الحالية بعيد، ولتنظر حكمة الاقتصار على من ذكر من الأنبياء مع قوله السابق: «ما بعث الله نبيا إلا رعي الغنم» وما يأتي من قوله «وما من نبي إلا وقد رعاها» وقد قال: «الغنم بركة والإبل عز لأهلها» وقال في الغنم «سمنها معاشنا، وصوفها رياشنا، ودفؤها كساؤنا» وفي رواية «سمنها معاش، وصوفها رياش» أي وفي الحديث «الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» ولعل هذا لا ينافي ما جاء في الأمثال قالوا: أحمق. وفي لفظ: أجهل من راعي ضأن لما بين، لأن الضأن تنفر من كل شيء فيحتاج راعيها إلى جمعها: أي وذلك سبب لحمقه فليتأمل. وفي رواية «الفخر والخيلاء» وفي لفظ «والرياء في أهل الخيل والوبر» قال: وفيما تقدم في الباب من أمر السمر دليل على ذلك: أي على رعايته للغنم أيضا، وما رواه جابر   قال: «كنا مع رسول الله نجني الكباث» بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة: أي وهو النضيج من ثمر الأراك، وفي الحديث «عليكم بالأسود من ثمر الأراك فإنه أطيبه، فإني كنت أجتنيه إذ كنت أرعى الغنم. قلنا: وكيف ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها» اهـ.

أقول: وحينئذ لا ينبغي لأحد عير برعاية الغنم أن يقول كان النبي يرعى الغنم، فإن قال ذلك أدب، لأن ذلك كما علمت كمال في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دون غيرهم، فلا ينبغي الاحتجاج به، ويجرى ذلك في كل ما يكون كمالا في حق النبي دون غيره كالأمية، فمن قيل له أنت أمي فقال كان النبي أميا يؤدب، والله أعلم.

باب حضوره حرب الفجار

أي بكسر الفاء بمعنى المفاجرة كالقتال بمعنى المقاتلة، وهو فجار البرّاض بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وضاد معجمة عن ابن سعد قال: قال رسول الله «قد حضرته» يعني الحرب المذكورة «مع عمومتي، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت» وكان له من العمر أربع عشرة سنة: أي وهذا الفجار الرابع.

وأما الفجار الأول فكان عمره حينئذ عشر سنين. وسببه أي هذا الفجار الأول أن بدر بن معشر الغفاري كان له مجلس يجلس فيه بسوق عكاظ ويفتخر على الناس، فبسط يوما رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف، فوثب عليه رجل فضربه بالسيف على ركبته فأندرها: أي أسقطها وأزالها، وقيل جرحه جرحا يسيرا. قال بعضهم: وهو الأصح، فاقتتلوا.

وسبب الفجار الثاني أن امرأة من بني عامر كانت جالسة بسوق عكاظ فأطاف بها شاب من قريش من بني كنانة فسألها أن تكشف وجهها فأبت فجلس خلفها وهي لا تشعر وعقد زيلها بشوكة، فلما قامت انكشف دبرها فضحك الناس منها فنادت المرأة يا آل عامر، فثاروا بالسلاح ونادى الشاب يا بني كنانة، فاقتتلوا. وقوله: «فسألها أن تكشف وجهها فأبت» يدل على أن النساء في الجاهلية كنّ يأبين كشف وجوههن.

وسبب الفجار الثالث أنه كان لرجل من بني عامر دين على رجل من بني كنانة فلواه به: أي مطله فجرت بينهما مخاصمة، فاقتتل الحيان.

وقد ذكر أن عبد الله بن جدعان تحمل ذلك الدين في ماله، وكان ذلك سببا لانقضاء الحرب. وقيل لم يقاتل في فجار البراض، وعليه اقتصر في الوفاء: أي لم يرم فيه بأسهم، بل قال: «كنت أنبل على أعمامي» أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموه.

وقد يقال: لا مخالفة، لأنه ليس في هذه العبارة أنه لم يرم، بل فيها أنه كان ينبل. ويجوز أن يكون أغلب أحواله ذلك أي أنه كان ينبل: أي يرد النبل، فلا ينافي أنه رمى في بعض الأوقات بأسهم: أي وفي كلام بعضهم: كان أبو طالب يحضر أيام الفجار: أي فجار البراض، وكانت أربعة أيام ومعه رسول الله وهو غلام، فإذا جاء هزمت قيس، ولعل المراد قيس هوازن، فلا ينافي ما يأتي من الاقتصار على هوازن. وإذا لم يجىء هو أي في يوم من تلك الأيام هزمت كنانة، فقالوا: لا أبا لك لا تغب عنا ففعل، ذكره في الإمتاع. وذكر فيه أنه طعن أبا براء ملاعب الأسنة في تلك الحروب: أي في بعض تلك الأيام، وأبو براء هذا كان رئيس بني قيس وحامل رايتهم في تلك الحرب، والطعن ظاهر في الرمح محتمل للنبل. وظاهر كلامهم أنه لم يقاتل فيه بغير الرمي للأسهم على تقدير صحة تلك الرواية بذلك. ولا يبعد أن يكون رمى ولم يصب أحدا، إذ لو أصاب أحدا لنقل لأنه مما توفر الدواعي على نقله إلا أن يقال بجواز أن يكون أصاب ثمرة لم تذكر فليتأمل. قال: وسميت الفجار، لأن العرب فجرت فيه لأنه وقع في الشهر الحرام اهـ.

أقول: ظاهره حروب الفجار الأربعة: أي التي هي فجار البراض وغيرها. وظاهر كلامه أنه لم يحضر إلا في الفجار الرابع، الذي هو فجار البراض، ثم رأيت التصريح بذلك في الوفاء وسأذكره، وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أن حرب الفجار لم يكن في شهر حرام، وسيأتي في هذا الباب ما يدل على ذلك.

أي أن القتال في ذلك لم يكن في الشهر الحرام وإنما سببه كان في الشهر الحرام وهو قتل البراض لعروة الرحال.

فقد قيل سبب القتال أن عروة الرحَّال بتشديد الحاء المهملة، وكان من أهل هوازن أجار لطيمة للنعمان بن المنذر ملك الحيرة. واللطيمة: العير التي تحمل الطيب والبز للتجارة: أي فإن المنذر كان يرسل تلك اللطيمة لتباع في سوق عكاظ ويشتري له بثمن ذلك أدم من أدم الطائف، ويرسل تلك اللطيمة في جوار رجل من أشراف العرب، فلما جهز اللطيمة كان عنده جماعة من العرب كان فيهم البرّاض وهو من بني كنانة، وعروة الرحال وهو من هوازن، فقال البراض: أنا أجيرها على بني كنانة يعني قومه، فقال له النعمان: ما أريد إلا من يجيرها على أهل نجد وتهامة، فقال له عروة الرحال: أنا أجيرها لك، فقال له البراض أتجيرها على كنانة؟ فقال نعم وعلى أهل الشيح والقيصوم، ونال من البراض، فخرج عروة الرحال مسافرا وخرج البراض خلفه يطلب غفلته، فلما استغفله وثب عليه فقتله: أي فإنه شرب الخمر وغنته القينات، فسكر ونام، فجاءه البراض وأيقظه، فقال له الرحال: ناشدتك الله لا تقتلني فإنها كانت مني زلة وهفوة، فلم يلتفت إليه وقتله وذلك في الشهر الحرام، فأتى آت كنانة وهم بعكاظ مع هوازن، فقال لكنانة: إن البراض قد قتل عروة الرحال وهو في الشهر الحرام، فانطلقوا وهوازن لا تشعر ثم بلغهم الخبر، فاتبعوهم فأدركوهم قبيل دخولهم الحرم، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التقوا بعد هذا اليوم وعاونت قريش كنانة. ولا يخفى أن في هذا تصريحا بأن القتال لم يكن في الشهر الحرام، لأنهم إذا كانوا في الشهر الحرام لا يقاتلون مطلقا أي وإن لم يدخلوا الحرم، فكفهم عن قتالهم لمقاربتهم دخول الحرم، وقتالهم لهم في اليوم الثاني دليل على أن قتالهم لم يكن في الشهر الحرام، ومكث القتال بينهم أربعة أيام: أي كما تقدم.

أقول: قال السهيلي: الصواب ستة أيام، والله أعلم. ، قال: وشهد رسول الله بعض تلك الأيام، أخرجه أعمامه معهم: أي ويدل له ما تقدم من أنه كان إذا حضر غلبت كنانة وإذا لم يحضر هزمت، وفي بعض تلك الأيام وهو أشدها: أي وهو اليوم الثالث قيد أمية وحرب ابنا أمية بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب أنفسهم كيلا يفروا، فسموا العنابس: أي الأسود اهـ.

أي وحرب والد أبي سفيان وأمية أخوه ماتا على الكفر، وأبو سفيان أسلم كما سيأتي، ثم تواعدوا للعام المقبل بعكاظ، فلما كان العام المقبل جاؤوا للوعد: أي وكان أمر قريش وكنانة إلى عبد الله بن جدعان. وقيل كان إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان، لأنه كان رئيس قريش وكنانة يومئذ، وكان عتبة ابن أخيه ربيعة بن عبد شمس يتيما في حجره، فضنّ أي بخل به حرب، وأشفق: أي خاف من خروجه معه، فخرج عتبة بغير إذنه، فلم يشعر أي يعلم به إلا وهو على بعير بين الصفين ينادي: يا معشر مضر علام تفانون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم وتفعوا عن دمائنا: أي فإن قريشا وكنانة كان لهم الظفر على هوازن يقتلونهم قتلا ذريعا: أي وذلك لا ينافي انهزامهم بعض الأيام، قالوا: وكيف؟ قال: ندفع لكم رهنا منا إلى أن نوفي لكم ذلك، قالوا: ومن لنا بهذا؟ قال أنا، قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فرضيت به هوازن وكنانة وقريش، ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام، وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي كما تقدم، فلما رأت هوازن الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوهم، وانقضت حرب الفجار. وفي رواية: وودت قريش قتلى هوازن، ووضعت الحرب أوزارها.

وقد يقال: على تقدير صحة هذه الرواية دماء بردت التزمت أن تديها فكان انقضاؤها على يد عتبة بن ربيعة وهو ممن قتل كافرا ببدر، وهو أبو هند زوج أبي سفيان أم معاوية   وعن زوجها وولدها المذكور.

وكان يقال لم يسد مملق: أي فقير إلا عتبة بن ربيعة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال: أي وفي كلام بعضهم: ساد عتبة بن ربيعة، وأبو طالب وكانا أفلس من أبي المزلق وهو رجل من بني عبد شمس لم يكن يجد مؤنة ليلته وكذا أبوه وجده وأبو جده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس.

هذا والذي في الوفاء الاقتصار على أن حرب الفجار كان مرتين: المرة الأولى كانت المحاربة فيه ثلاث مرات. المرة الأولى سببها قضية بدر بن معشر الغفاري. والمرة الثانية كان سببها قضية المرأة، والثالثة سببها قضية الدين ولم يحضر رسول الله تلك المرات، وأما المرأة الثانية فكانت بين هوازن وكنانة، وقد حضرها، وقد يقال لا خلاف في المعنى.

باب شهوده حلف الفضول

وهو أشرف حلف في العرب. والحلف في الأصل: اليمين والعهد؟ وسمي العهد حلفا لأنهم يحلفون عند عقده، وكان عند منصرف قريش من حرب الفجار، لأن حرب الفجار كان في شوال: أي وقيل في شعبان لا في الشهر الحرام: أي وإن كان سببه وهو قتل البراض لعروة الرحال كان في الشهر الحرام كما تقدم. وكون هذا الحلف كان منصرف قريش من حرب الفجار ظاهر في أنه كان بعد انقضاء الحرب وقبل مجيء الفريقين للموعد من قابل، لأن عند مجيئهم من قابل للموعد لم يقع حرب، إلا أن يقال: أطلق عليه حرب باعتبار أنهم كانوا عازمين على المحاربة، وهذا الحلف كان في ذي القعدة. وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب: أي عم رسول الله شقيق أبيه كما تقدم ( ) فاجتمع إليه بنو هاشم وزهرة وبنو أسد بن عبد العزى، وذلك في دار عبد الله بن جدعان التيمي، كان بنو تيم في حياته كأهل بيت واحد يقوتهم، وكان يذبح في داره كل يوم جزورا، وينادي مناديه: من أراد الشحم واللحم فعليه بدار ابن جدعان، وكان يطبخ عنده الفالوذج فيطعمه قريشا.

أي وسبب ذلك أنه كان أولا يطعم التمر والسويق، ويسقي اللبن، فاتفق أن أمية بن أبي الصلت مر على بني عبد المدان، فرأى طعامهم لباب البر والشهد، فقال أمية:

ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ** فرأيت أكرمهم بني المدان

البر يلبك بالشهاب طعامهم ** لا ما يعللنا بنو جدعان

فبلغ شعره عبد الله بن جدعان، فأرسل إلى بصرى الشام يحمل إليه البر والشهد والسمن، وجعل ينادي مناد: ألا هلموا إلى جفنة عبد الله بن جدعان.

ومن مدح أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان قوله:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حياؤك إن سيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضك الثناء

كريم لا يغيره صباح ** عن الخلق الجميل ولا مساء

يباري الريح مكرمة وجودا ** إذا ما الضب أجحره الشتاء

وكان عبد الله بن جدعان ذا شرف وسن، وإنه من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية ( ) أي بعد أن كان بها مغرما.

وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمد يده ويقبض على ضوء القمر ليمسكه، فضحك منه جلساؤه ثم أخبروه بذلك حين صحا، فحلف أن لا يشربها أبدا.

وممن حرمها على نفسه في الجاهلية عثمان بن مظعون  ، وقال: لا أشرب شيئا يذهب عقلي، ويضحك بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أنكح كريمتي من لا أريد.

فصنع لهم عبد الله بن جدعان طعاما، وتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بلّ بحر صوفة: أي الأبد.

وعن عائشة  : «أنها قالت لرسول الله : إن ابن جدعان كان يطعم الطعام، ويقري الضيف، ويفعل المعروف، فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ فقال: لا، لأنه لم يقل يوما، وفي رواية: أنه لم يقل ساعة من ليل أو نهار رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» رواه مسلم: أي لم يكن مسلما، لأن القول المذكور لا يصدر إلا عن مسلم، فلا يقال مقتضى الحديث أنه لو قال ذلك لنفعه ما ذكر يوم القيامة مع كونه كان كافرا، لأنه ممن أدرك البعثة ولم يؤمن، وحينئذ يسأل عن الحكمة عن عدوله إلى ذلك عن قوله لأنه لم يؤمن بي، أو لم يكن مسلما: أي وكان يكنى أبا زهير، وقد قال في أسرى بدر: «لو كان أبو زهير أو مطعم بن عدي حيا فاستوهبهم لوهبتهم له».

وقد ذكر أن جفنة ابن جدعان كان يأكل منها الراكب على البعير: أي وسيأتي في غزوة بدر «أنه ذكر أنه ازدحم هو وأبو جهل وهما غلامان على مائدة لابن جدعان، وأنه دفع أبا جهل لعنه الله فوقع على ركبته فجرحت جرحا أثر فيها» وقد جاء أنه قال: «كنت أستظل بجفنة عبد الله بن جدعان في صكة عمي» أي في الهاجرة، وسميت الهاجرة بذلك، لأن عمى تصغير أعمى على الترخيم: رجل من العماليق أوقع بالعدو والقتل في مثل ذلك الوقت.

وقيل هو رجل من عدوان كان فقيه العرب في الجاهلية، فقدم في قومه معتمرا، فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة: من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين، فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في وقت الظهيرة، ولعل هذا لا يخالفه قول ابن عباس  : عجلنا الرواح للمسجد صكة الأعمى، فقيل ما صكة الأعمى؟ قال: إنه لا يبالي أية ساعة خرج.

وكان عبد الله بن جدعان في ابتداء أمره صعلوكا، وكان مع ذلك شريرا فتاكا لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته، وطرده أبوه، وحلف لا يأويه أبدا، فخرج هائما في شعاب مكة يتمنى الموت، فرأى شقا في جبل فدخل فإذا ثعبان، عظيم له عينان تتقدان كالسراج، فلما قرب منه حمل عليه الثعبان فلما تأخر انساب: أي رجع عنه، فلا زال كذلك حتى غلب على ظنه أن هذا مصنوع، فقرب منه ومسكه بيده فإذا هو من ذهب وعيناه ياقوتتان، فكسره ثم دخل المحل الذي كان هذا الثعبان على بابه، فوجد فيه رجالا من الملوك، ووجد في ذلك المحل أموالا كثيرة من الذهب والفضة، وجواهر كثيرة من الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، فأخذ منه ما أخذ، ثم علم ذلك الشق بعلامة وصار ينقل منه ذلك شيئا فشيئا، ووجد في ذلك الكنز لوحا من رخام فيه: أنا نفيلة بن جرهم بن قحطان بن هود نبي الله، عشت خمسمائة عام، وقطعت غور الأرض باطنها وظاهرها في طلب الثروة والمجد والملك، فلم يكن ذلك ينجي من الموت، ثم بعث عبد الله بن جدعان إلى أبيه بالمال الذي دفعه في جناياته، ووصل عشيرته كلهم فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز ويطعم الناس، ويفعل المعروف.

قال: وفي رواية: تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها، ولا يقر ظالم على مظلوم: أي وحينئذ فالمراد بالفضول ما يؤخذ ظلما.

وقيل: إن هذا أي رد الفضول مدرج من بعض الرواة. زاد بعضهم: على ما بلّ بحرصوفة، وما رسا حراء وثبير مكانيهما اهـ: أي والمراد الأبد كما تقدم، وكان معهم في ذلك الحلف رسول الله قال: «ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار بني جدعان حمر النعم» أي الإبل «وأني أغدر به» بالغين المعجمة والدال المهملة: أي لا أحب الغدر به وإن أعطيت حمر النعم في ذلك. قال: وفي رواية «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم» أي بفواته «ولو دعي به في الإسلام لأجبت» أي لو قال قائل من المظلومين يا آل حلف الفضول لأجبت، لأن الإسلام إنما جاء بإقامة الحق ونصرة المظلوم.

وفيه إن الإسلام قد رفع ما كان من دعوى الجاهلية من قولهم، يا لفلان عند الحرب والتعصب.

وأجيب بأن هذا مستثنى، فالدعوى به جائزة. وفي أخرى «ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين، شهدته مع عمومتي، وما أحب أن لي به حمر النعم، وأني كنت نقضته» أي لا أحب نقضه وإن دفع لي حمر الإبل في مقابلة نقضه.

والمطيبون: هم هاشم وزهرة: أي بنو زهرة بن كلاب وأمية ومخزوم. قال البيهقي كذا روي هذا التفسير: أي أن المطيبين هاشم وزهرة وأمية ومخزوم مدرجا، ولا أدري من قاله.

وعبارته في السنن الكبرى: لا أدري هذا التفسير من قول أبي هريرة، أو من دونه؟ هذا كلامه، فإن النبي لم يدرك حلف المطيبين: أي لأنه كما تقدم وقع بين بني عبد مناف بن قصي، وهم هاشم، وإخوته عبد شمس والمطلب ونوفل، وبنو زهرة، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو تميم، وبنو الحرث بن فهر، وهم المطيبون. وبين بني عمهم عبد الدار بن قصي وأحلافهم بني مخزوم وغيرهم، ويقال لهم الأحلاف كما تقدم، وذلك قبل أن يولد رسول الله، وحيث لم يدرك حلف المطيبين يصير المدرج لفظ المطيبين مع تفسيره بمن ذكر، لا أن المدرج تفسيره فقط بمن ذكر كما يقتضيه كلام البيهقي. وحينئذ تكون الرواية «ما شهدت حلفا لقريش إلا حلفا مع عمومتي إلى آخره» ظن الراوي أن حلف الفضول هو حلف المطيبين، فذكر لفظ المطيبين وبنيهم.

وقد يقال: ذكر ابن إسحاق أنه لما قام عبد الله بن جدعان هو والزبير بن عبد المطلب في الدعوى للتحالف، أجابهما بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تميم، هذا كلامه.

ولا يخفى أن هؤلاء أجلّ المطيبين، أطلق على هذا الحلف والذي هو حلف الفضول حلف المطيبين، لأنهم العاقدون له، فليتأمل.

وسمي بالفضول، قيل لما تقدم من أنهم تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهلها، وقيل لأنه يشبه حلفا وقع لثلاثة من جرهم كل واحد يقال له الفضل.

وعبارة بعضهم: لأن الداعي إليه كان ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم فضل وهم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث، والضمير في أشرافهم يتبادر رجوعه إلى قريش، وهؤلاء الثلاثة تحالفوا على نصرة المظلوم على ظالمه، فالفضول جمع الفضل.

وقيل لأنهم أي هؤلاء الذين تحالفوا كانوا أخرجوا فضول أموالهم للأضياف، وقيل لأن قريشا قالوا عن هؤلاء الذين تحالفوا لقد دخل هؤلاء في فضول من الأمر.

والسبب في هذا الحلف والحامل عليه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان من أهل الشرف والقدر بمكة، فحبس عنه حقه، فاستدعى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار ومخزوما وجمح وسهما وعدي بن كعب، فأبوا أن يعينوا على العاص، وانتهروه أي الزبيدي، فلما رأى الزبيدي الشرّ رقي على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته ** ببطن مكة نائي الدار والقفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته ** يا للرجال وبين الحجر والحجر

إن الحرام لمن تمت مكارمه ** ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

والحرام بمعنى الاحترام، فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب: أي مع عبد الله بن جدعان كما تقدم، واجتمع إليه من تقدم.

وقيل قام فيه العباس وأبو سفيان، وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه شريفا أو وضيعا، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه اهـ.

أقول: ذكر السهيلي أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمرا أو حاجا ومعه بنت له من أضوإ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج، فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يا لحلف الفضول، فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم: أي جردوها، يقولون: جاءك الغوث فما لك؟ فقال: إن نبيها ظلمني في بنتي، فانتزعها مني قسرا فساروا إليه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية ويحك، فقد علمت من نحن وما تعاهدنا عليه، فقال: أفعل، ولكن متعوني بها الليلة. فقالوا: لا والله ولا شخب لقحة: أي مقدار زمن ذلك، فأخرجها إليهم.

وفي سيرة الحافظ الدمياطي: أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب  ، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال متعلق بالحسين. فقال الحسين للوليد: احلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي: ثم لأقومن في مسجد رسول الله، ثم لأدعون لحلف الفضول: أي لحلف كحلف الفضول وهو نصرة المظلوم على ظالمه، ووافقه على ذلك جماعة منهم عبد الله بن الزبير   لأنه كان إذا ذاك في المدينة، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي، والله أعلم.

باب سفره إلى الشام ثانيا

وذلك مع ميسرة غلام خديجة بنت خويلد   لما بلغ رسول الله خمسا وعشرين سنة أي على الراجح من أقوال ستة، وعليه جمهور العلماء، وتلك أقوال ضعيفة لم تقم لها حجة على ساق، وليس له اسم مكة إلا الأمين، لما تكامل فيه من خصال الخير كما تقدم.

وسبب ذلك أن عمه أبا طالب قال له: يا بن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان: أي القحط ( ) وألحت علينا: أي أقبلت ودامت ( ) سنون منكرة: أي شديدة الجدب، وليس لنا مادة: أي ما يمدنا وما يقوّمنا ولا تجارة، وهذه عير قومك وتقدم أنها الإبل التي تحمل الميرة. وفي رواية. عيرات، جمع عير ( ) قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها، فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت لأكره أن تأتي الشام وأخاف عليك من يهودها ولكن لا تجد لك من ذلك بدا، فقال له رسول الله فلعلها أن ترسل إليّ في ذلك. فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك، فتطلب أمرا مدبرا فافترقا، فبلغ خديجة   ما كان من محاورة عمه أبي طالب له. فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه فقالت: إني دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وكرم أخلاقك. وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، ففعل رسول الله، ولقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك. فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك، فخرج مع غلامها ميسرة: أي يريد الشام وقالت خديجة لميسرة: لا تعص له أمرا ولا تخالف له رأيا، وجعل عمومته يوصون به أهل العير: أي ومن حين سيره أظلته الغمامة ( ).

فلما قدم الشام نزل في سوق بصرى في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب يقال له نسطورا: أي بالقصر، فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه. فقال: يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي: أي صانها الله تعالى أن يزل تحتها غير نبيّ. ثم قال له: أفي عينيه حمرة؟ قال ميسرة نعم لا تفارقه فقال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج: أي يبعث، فوعى ذلك ميسرة: أي والحمرة كانت في بياض عينيه وهي الشكلة. ومن ثم قيل في وصفه: أشكل العينين، فهذه الشكلة من علامات نبوّته في الكتب القديمة، أي وقد تقدم ذلك.

قال: وفي الشرف للنيسابوري: فلما رأى الراهب الغمامة تظله فزع وقال: ما أنتم عليه: أي أيّ شيء أنتم عليه؟ قال: ميسرة غلام خديجة  ، فدنا إلى النبي سرا من ميسرة وقبل رأسه وقدمه وقال: آمنت بك، وأنا أشهد أنك الذي ذكره الله في التوراة، ثم قال: يا محمد قد عرفت فيك العلامات كلها: أي العلامات الدالة على نبوتك المذكورة في الكتب القديمة، خلا خصلة واحدة، فأوضح لي عن كتفك، فأوضح له فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ، فأقبل عليه يقبله ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى ابن مريم، فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأميّ الهاشمي العربي المكي، صاحب الحوض والشفاعة، وصاحب لواء الحمد انتهى.

أقول: قال في النور: ولم أجد أحدا عدّ هذا الراهب الذي هو نسطورا في الصحابة   كما عدّ بعضهم فيها بحيرا الراهب، وينبغي أن يكون هذا مثله هذا كلامه.

وقد قدمنا أنه سيأتي أن بحيرا ونسطورا ونحوهما ممن صدّق بأنه نبي هذه الأمة من أهل الفترة لا من أهل الإسلام فضلا عن كونه صحابيا، لأن المسلم من أقرّ برسالته بعد وجودها إلى آخر ما يأتي.

ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة أن بحيرا ممن ذكر في كتب الصحابة غلطا، قال: لأن تعريف الصحابي لا ينطبق عليه، وهو مسلم لقي النبي مؤمنا به، ومات على ذلك قال: فقولي مسلم يخرج من لقيه مؤمنا به قبل أن يبعث كهذا الرجل يعني بحيرا، هذا كلامه، ومراده ما ذكرنا، ولعل نسطورا هذا هو الذي تنسب إليه النسطورية من النصارى، فإن النصارى افترقت ثلاث فرق، نسطورية قالوا عيسى ابن الله. ويعقوبية قالوا عيسى هو الله   هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء. وملكانية قالوا عيسى عبدالله ونبيه. زاد بعضهم فرقة رابعة وهم إسرائيلية قالوا هو إله وأمه إله والله إله.

هذا وفي القاموس: النسطورية بالضم ويفتح: أمة من النصارى تخالف بقيتهم، وهم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في أيام المأمون وتصرف في الإنجيل برأيه وقال إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة، وهو بالرومية نسطورس، كما افترقت اليهود ثلاث فرق، فإنها افترقت إلى قرائية وربانية وسامرية.

ولا يخفى أن بقاء تلك الشجرة هذا الزمن الطويل قبل عيسى وبعده إلى زمن نبينا على خلاف العادة، وصرف غير الأنبياء عن النزول تحت تلك الشجرة وكذا صرف الأنبياء الذين وجدوا بعد عيسى على ما تقدم عن النزول تحت تلك الشجرة بعد عيسى الذي دلت عليه الرواية الأولى والرواية الثانية ممكن، وإن كانت الشجرة لا تبقى في العادة هذا الزمن الطويل، ويبعد في العادة أن تكون شجرة تخلو عن أن ينزل تحتها أحد غير الأنبياء، لأن هذا الأمر مع كونه خارقا للعادة، والأنبياء لهم خرق العوائد سيما نبينا.

وبهذا يردّ قول السهيلي: يريد ما نزل تحت هذه الشجرة الساعة إلا نبي ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء عليهم السلام قبل ذلك وإن كان في لفظ الخبر «قط» أي كما تقدم، فقد تكلم بها على جهة التأكيد للنفي، والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدرى أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء. ويبعد في العادة أيضا أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد حتى يجيء نبي، هذا كلامه.

وقد يقال: يجوز أن تكون تلك الشجرة كانت شجرة زيتون. فقد ذكر أن شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة، على أن في بعض الروايات: ونزل رسول الله تحت شجرة يابسة نخر عودها، فلما اطمأن تحتها اخضرت ونوّرت، واعشوشب ما حولها، وأينع ثمرها، ودلت أغصانها ترفرف على رسول الله.

قال بعضهم: المختار عند جمهور المحققين من أهل السنة أن كل ما جاز وقوعه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام من المعجزات جاز للأولياء مثله من الكرامات بشرط عدم التحدي، لأن المعجزة يعتبر فيها التحدي وأن تكون بعد النبوة، وما قبل النبوة كما هنا يقال له إرهاص.

وحينئذ لا يستبعد ما ذكر عن الشيخ رسلان   أنه كان إذا استند إلى شجرة يابسة قد ماتت تورق ويخرج ثمرها في الحال. على أنه سيأتي في الكلام على غزاة الخندق أن كرامات الأولياء معجزات لأنبيائهم.

ولما رأى الراهب ما ذكر لم يتمالك الراهب أن انحدر من صومعته، وقال له: باللات والعزى ما اسمك؟ فقال له: إليك عني، ثكلتك أمك، ومع ذلك الراهب رقّ مكتوب، فجعل ينظر في ذلك الرق، ثم قال هو هو ومنزل التوراة، فظن بعض القوم أن الراهب يريد بالنبي مكرا، فانتصى سيفه وصاح: يا آل غالب يا آل غالب، فأقبل الناس يهرعون إليه من كل ناحية يقولون: ما الذي راعك؟ فلما نظر الراهب إلى ذلك أقبل يسعى إلى صومعته فدخلها وأغلق عليه بابها، ثم أشرف عليهم فقال: يا قوم ما الذي راعكم مني؟ فوالذي رفع السموات بغير عمد إني لأجد في هذه الصحيفة أن النازل تحت هذه الشجرة هو رسول رب العالمين، يبعثه الله بالسيف المسلول، وبالريح الأكبر، وهو خاتم النبيين، فمن أطاعه نجا، ومن عصاه غوى، ثم حضر رسول الله سوق بصرى، فباع سلعته التي خرج بها واشترى. قال: ولم أقف على تعيين ما باعه وما اشتراه انتهى.

وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل لرسول الله : احلف باللات والعزى، فقال النبي: «ما حلفت بهما قط»، فقال الرجل القول قولك، ثم قال الرجل لميسرة وقد خلا به: يا ميسرة هذا نبي، والذي نفسي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتا: أي في الكتب، فوعى ميسرة ذلك: أي وقبل أن يصلوا إلى بصرى عيي بعيران لخديجة وتخلف معهما ميسرة، وكان رسول الله في أول الركب فخاف ميسرة على نفسه وعلى البعيرين، فانطلق يسعى إلى رسول الله فأخبره بذلك، فأقبل رسول الله إلى البعيرين، فوضع يده على أخفافهما وعوذهما، فانطلقا في أول الركب ولهما رغاء.

قال: وفي الشرف أنهم باعوا متاعهم، وربحوا ربحا ما ربحوا مثله قط. قال ميسرة: يا محمد اتجرنا لخديجة أربعين سنة ما ربحنا ربحا قط أكثر من هذا الربح على وجهك انتهى.

وأقول: لا يخفى ما في قول ميسرة: أتجرنا لخديجة أربعين سنة، ولعلها مصحفة عن سفرة، أو هو على المبالغة، والله أعلم.

ثم انصرف أهل العير جميعا راجعين مكة، وكان ميسرة يرى ملكين يظللانه من الشمس وهو على بعيره إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، وهذا هو المعني بقول الخصائص الصغرى: وخص بإظلال الملائكة له في سفره.

ويحتمل أن المراد في كل سفر سافره، لكن لم أقف على إظلال الملائكة له في غير هذه السفرة. وقد ألقى الله تعالى محبة رسول الله في قلب ميسرة، فكان كأنه عبده، فلما كانوا بمرّ الظهران: أي وهو واد بين مكة وعسفان، وهو الذي تسميه العامة بطن مرو، وهو المعروف الآن بوادي فاطمة. قال ميسرة للنبي: هل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي جرى، لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك: أي وفي رواية: تخبرها بما صنع الله تعالى لها على وجهك، فركب النبي وتقدم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية: أي في غرفة مع نساء، فرأت رسول الله حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظللان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله فخبرها بما ربحوا، وهو ضعف ما كانت تربح، فسرت بذلك وقالت: أين ميسرة؟ قال: «خلفته في البادية »، قالت: عجل إليه ليعجل بالإقبال وإنما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت أم غيره؟ فركب رسول الله، وصعدت خديجة تنظر فرأته على الحالة الأولى، فاستيقنت أنه هو.

فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي   في تائيته بقوله:

وميسرة قد عاين الملكين إذ ** أظلاك لما سرت ثاني سفرة

وأخبرها ميسرة بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذي حالفه: أي استحلفه في البيع: أي وقصة البعيرين. وحينئذ أعطت خديجة له ضعف ما سمته له: أي وما سمته له ضعف ما كانت تعطيه لرجل من قومه كما تقدم. وقول ميسرة له فيما تقدم: لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك يدل على أنها سمت له بكرتين، وكانت تسمي لغيره بكرة. وفي كلام بعضهم: وفي الروض الباسم: استأجرته على أربع بكرات.

وفي الجامع الصغير ما نصه: آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوصين. ثم رأيت في الإمتاع ما يوافق ذلك، ونصه: وأجر نفسه من خديجة سفرتين بقلوصين، وفي السفرة الأولى أرسلته مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة: أي وهو مكان بأرض اليمن بينه وبين مكة ست ليال كانوا يبتاعون فيه ثلاثة أيام، من أول رجب في كل عام، فابتاعا منه بزا ورجعا إلى مكة، فربحا ربحا حسنا. وفي السفرة الثانية أرسلته مع عبدها ميسرة إلى الشام.

وفيه أن سفره مع ميسرة إلى الشام سفرة ثالثة. فعن مستدرك الحاكم وصححه وأقره الذهبي عن جابر: أن خديجة استأجرته سفرتين إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء: موضع باليمن كل سفرة بقلوص، وهي الشابة من الإبل، وهو يفيد أنه سافر لها ثلاث سفرات كما تقدم، ولعل سوق حباشة هو جرش، وإلا لزم أن يكون سافر لها خمس سفرات: أربعة إلى اليمن، وواحدة إلى الشام، وما تقدم عن الروض الباسم من أنها استأجرته في سفرة إلى الشام بأربع بكرات لا يناسب ما تقدم عن ميسرة.

قد جاء في بعض الروايات: أن أبا طالب جاء لخديجة، وقال لها: هل لك أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرتين، وليس نرضى لمحمد دون أربع بكرات، فقالت خديجة: لو سألت لبعيد بغيض، فكيف وقد سألت لحبيب قريب؟ .

ثم لا يخفى أن كون سفره مع ميسرة بسوق حباشة قبل سفره معه إلى الشام مخالف لظاهر ما تقدم من قول عمه أبي طالب، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها، وقول خديجة ما علمت أنه يريد هذا. وإنما قلنا ظاهر، لأنه يجوز أن يكون بعد قول أبي طالب، وقولها المذكور أرسلته مع ميسرة إلى سوق حباشة لقرب مسافته وقصر زمنه، ثم أرسلته مع ميسرة إلى الشام، أو كانت خديجة لا تجوّز أن أبا طالب يرضى بسفره إلى الشام، وأنه يوافق على ذلك فليتأمل.

وتقدم أنه من حين سيره: أي من مكة صارت الغمامة تظله، فإن كانت غير الملكين، فالغمامة كانت تظله في الذهاب والملكان يظلانه في العود، ولعل عدم ذكره ميسرة لخديجة تظليل الغمامة له في ذهابه أنه لم يفطن لها مثلا، ولكن سيأتي في كلام صاحب الهمزية ما يدل على أن الملكين هما الغمامة.

وفيه وقوع رؤية البشر غير نبينا للملائكة غير جبريل، وسيأتي رؤية جمع من الصحابة لجبريل.

وفي المنقذ من الضلال للغزالي أن الصوفية يشاهدون الملائكة في يقظتهم: أي لحصول طهارة نفوسهم، وتزكية قلوبهم، وقطعهم العلائق، وحسمهم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال، وإقبالهم على الله تعالى بالكلية علما دائما وعلما مستمرا، والله أعلم. قال: ولم أقف على اسم الرجل الذي حالفه: أي استحلفه.

وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على رواية صحيحة صريحة فيه بأنه: أي ميسرة بقي إلى البعثة انتهى.

ثم إن خديجة ذكرت ما رأته من الآيات وما حدثها به غلامها ميسرة لابن عمها ورقة بن نوفل وكان نصرانيا: أي بعد أن كان يهوديا على ما يأتي، قد تتبع الكتب، فقال لها: إن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا نبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي منتظر هذا زمانه: أي وكان يتجر قبل النبوة قبل أن يتجر لخديجة، وكان شريكا للسائب بن أبي السائب صيفي.

ولما قدم عليه السائب يوم فتح مكة قال له: مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري: أي لا يرائي، ولا يماري: أي يخاصم صاحبه، وهذا يدل على أن قوله كان لا يداري الخ من مقوله.

وقد قال فقهاؤنا: والأصل في الشركة خبر السائب بن يزيد أنه كان شريكا للنبي قبل البعثة، وافتخر بشركته بعد المبعث: أي قال: كان نعم الشريك لا يداري ولا يماري ولا يشاري. والمشاراة: المشاحة في الأمر واللجاج فيه، وهو يدل على أن ذلك كان من مقول السائب. ولا مانع أن يكون كل من النبي والسائب قال في حق الآخر: كان لا يداري ولا يماري. وبهذا يندفع قول بعضهم: اختلفت الروايات في هذا الكلام الذي هو كان خير شريك، كان لا يشاري، ولا يماري، فمنهم من يجعله من قول النبي في السائب، ومنهم من يجعله من قول السائب في حق النبي.

ويمكن أن لا يكون مخالفة بين السائب بن أبي السائب صيفي وبين السائب بن يزيد، لأنه يجوز أن يكون صيفي لقبا لوالده اسمه يزيد.

وفي الاستيعاب: وقع اضطراب هل الشريك كان أبا السائب، أو ولده السائب بن السائب، أو ولد السائب وهو قيس بن السائب بن أبي السائب لا أخ السائب، وهو عبد الله بن أبي السائب. قال: وهذا اضطراب لا يثبت به شيء، ولا تقوم به حجة.

والسائب بن أبي السائب من المؤلفة، أعطاه يوم الجعرانة من غنائم حنين. وبه يرد قول بعضم إن السائب بن أبي السائب قتل يوم بدر كافرا.

ومما يدل على أن الشركة كانت لقيس بن السائب قوله: كان رسول الله في الجاهلية شريكي، فكان خير شريك: كان لا يشاريني، ولا يماريني.

ووجه الدلالة أنه سمع قوله: كان شريكي وأقره عليه.

وذكر في الإمتاع «إن حكيم بن حزام اشترى من رسول الله بزا من بزّ تهامة بسوق حباشة وقدم به مكة فكان ذلك سببا لإرسال خديجة له مع عبدها ميسرة إلى سوق حباشة ليشتريا لها بزا».

وفي (سفر السعادة) أنه وقع منه أنه باع واشترى، إلا أنه بعد الوحي وقبل الهجرة كان شراؤه أكثر من البيع وبعد الهجرة لم يبع إلا ثلاث مرات. وأما شراؤه فكثير. وآجر واستأجر، والاستئجار أغلب، ووكل وتوكل، وكان توكله أكثر.

باب تزوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبد العزى بن قصي

فهي تجتمع معه في قصي. قال الحافظ ابن حجر: وهي من أقرب نسائه إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، هذا كلامه.

وعن نفيسة بنت منية  : أي وهي أخت يعلى بن منية. ففي الإمتاع منية أخت يعلى بن منية، وعليه يكون ضمير وهي راجع لمنية لا لنفيسة. قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة: أي ضابطة جلدة: أي قوية شريفة: أي مع ما أراد الله تعالى لها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا: أي وأحسنهم جمالا، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة. وفي لفظ: كان يقال لها سيدة قريش، لأن الوسط في ذكر النسب من أوصاف المدح والتفضيل، يقال: فلان أوسط القبيلة: أعرقها في نسبها، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وذكروا لها الأموال فلم تقبل، فأرسلتني دسيسا: أي خفية إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاية ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت خديجة، قال: وكيف لي بذلك؟ بكسر الكاف لأنه خطاب لنفيسة. قلت: بلى وأنا أفعل، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا، فأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضر ودخل رسول الله في عمومته فزوّجه أحدهم: أي وهو أبو طالب على ما يأتي. وقال في خطبته: وابن أخي له في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، فقال عمرو بن أسد: هذا الفحل لا يقدع أنفه: أي بالقاف والدال المهملة: أي لا يضرب أنفه لكونه كريما، لأن غير الكريم إذا أراد ركوب الناقة الكريمة يضرب أنفه ليرتدع، بخلاف الكريم، وكون المزوّج لها عمها عمرو بن أسد قال بعضهم هو المجمع عليه. وقيل المزوّج لها أخوها عمرو بن خويلد.

وعن الزهريّ أن المزوّج لها أبوها خويلد بن أسد وكان سكران من الخمر، فألقت عليه خديجة حلة وهي ثوب فوق ثوب، لأن الأعلى يحل فوق الأسفل، وضمخته بخلوق: أي لطخته بطيب مخلوط بزعفران () فلما صحا من سكره قال: ما هذه الحلة والطيب؟ فقيل له: لأنك أنكحت محمدا خديجة وقد ابتنى بها فأنكر ذلك، ثم رضيه وأمضاه: أي لأن خديجة استشعرت من أبيها أنه يرغب عن أن يزوجها له، فصنعت له طعاما وشرابا، ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا، فلما سكر أبوها قالت له: إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه، فزوّجها، فخلقته وألبسته، لأن ذلك: أي إلباس الحلة وجعل الخلوق به كان عادتهم أن الأب يفعل به ذلك إذا زوّج بنته، فلما صحا من سكره قال: ما هذا؟ قالت له خديجة: زوجتني من محمد بن عبد الله، قال: أنا أزوّج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري، فقالت له خديجة: ألا تستحيي، تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبرهم أنك كنت سكران؟ فلم تزل به حتى رضي: أي وهذا مما يدل على أن شرب الخمر كان عندهم مما يتنزه عنه. ويدل له أن جماعة حرّموها على أنفسهم في الجاهلية، منهم من تقدم، ومنهم من يأتي. وفي رواية أنها عرضت نفسها عليه فقالت: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب   حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فزوّجها.

أقول: قال في النور ولعل الثلاثة: أي أباها وأخاها وعمها حضروا ذلك فنسب الفعل إلى كل واحد منهم، هذا كلامه.

وفي كون المزوج لها أبوها خويلد أو كونه حضر تزويجها نظر ظاهر، لأن المحفوظ عن أهل العلم أن خويلد بن أسد مات قبل حرب الفجار المتقدم ذكرها.

قال بعضهم: وهو الذي نازع تبعا: أي حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن، فقام في ذلك خويلد، وقام معه جماعة من قريش، ثم رأى تبع في منامه ما ردعه عن ذلك، فترك الحجر الأسود مكانه.

وعلى كون المزوّج له عمه حمزة اقتصر ابن هشام في سيرته. وذكر أن رسول الله أصدقها عشرين بكرة.

وعبارة المحب الطبري: فلما ذكر ذلك لأعمامه خرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه ففعل، وحضره أبو طالب ورؤساء مضر فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله القصة، والله أعلم.

قال: وعن ابن إسحاق أنها قالت له: يا محمد ألا تتزوج؟ قال: ومن؟ قالت: أنا، قال: ومن لي بك؟ أنت أيمّ قريش وأنا يتيم قريش؟ قالت: اخطبني الحديث: أي وفيه إطلاق اليتيم على البالغ، وذلك بحسب ما كان، والمراد به المحتاج، وإلا فالعرف أي الشرعي واللغوي خصه بغير البالغ ممن مات أبوه الحقيقي.

وعن بعضهم قال: مررت أنا ورسول الله على أخت خديجة فنادتني فانصرفت إليها، وقف لي رسول الله فقالت: أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ فأخبرته، فقال: بلى لعمري، فذكرت ذلك لها، فقالت اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلة، الحديث.

وفي الإمتاع بعد أن ذكر أن السفير بينهما نفيسة بنت منية، ذكر أنه قيل: كان السفير بينهما غلامها، وقيل مولاة مولدة. وقد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون كل ممن ذكر كان سفيرا.

وفي الشرف أن خديجة   قالت للنبي: اذهب إلى عمك فقل له تعجل إلينا بالغداة، فلما جاءها ومعه رسول الله قالت له: يا أبا طالب تدخل على عمي فكلمه يزوجني من ابن أخيك محمد بن عبد الله فقال أبو طالب: يا خديجة لا تستهزئي، فقالت: هذا صنع الله، فقام فذهب وجاء مع عشرة من قومه إلى عمها، الحديث: أي وفي رواية ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر. ولا مخالفة لجواز أن يكون المراد ببني هاشم أولئك العشرة، وأنهم كانوا هم المراد برؤساء مضر في ذلك الوقت.

وذكر أبو الحسين بن فارس وغيره أن أبا طالب خطب يومئذ فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معدّ: أي معدنه، وعنصر مضر: أي أصله، وجعلنا حضنة بيته: أي المتكفلين بشأنه، وسوّاس حرمه: أي القائمين بخدمته، وجعله لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا حكام الناس. ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، وإن كان في المال قلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثنتي عشرة أوقية ونشا: أي وهو عشرون درهما والأوقية: أربعون درهما، أي وكانت الأواقي والنش من ذهب كما قال المحب الطبري: أي فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي. وقيل أصدقها عشرين بكرة، أي كما تقدم.

أقول: لا منافاة لجواز أن تكون البكرات عوضا عن الصداق المذكور. وقال بعضهم: يجوز أن يكون أبو طالب أصدقها ما ذكر وزاد من عنده تلك البكرات في صداقها فكان الكل صداقا، والله أعلم.

قال: وما قيل إن عليا   ضمن المهر فهو غلط، لأن عليا لم يكن ولد على جميع الأقوال في مقدار عمره، وبه يردّ قول بعضهم: وكون عليّ ضمن المهر غلط، لأن عليا كان صغيرا لم يبلغ سبع سنين: أي لأنه ولد في الكعبة وعمره ثلاثون سنة فأكثر، وسنه حين تزوج خديجة كان خمسا وعشرين سنة على ما تقدم أو زيادة بشهرين وعشرة أيام. وقيل خمسة عشر يوما على ما يأتي قيل الذي ولد في الكعبة حكيم بن حزام.

قال بعضهم: لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة، لكن في النور: حكيم بن حزام ولد في جوف الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره. وأما ما روي أن عليا ولد فيها فضعيف عند العلماء.

قال النووي: وعند ذلك قال عمها عمرو بن أسد: هو الفحل لا يقدع أنفه وأنكحها منه. وقيل قائل ذلك ورقة بن نوفل: أي فإنه بعد أن خطب أبو طالب بما تقدم خطب ورقة، فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا ينكر العرب فضلكم، ولا يردّ أحد من الناس فخركم وشرفكم ورغبتنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم، فاشهدوا عليّ معاشر قريش إني قد زوّجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله وذكر المهر، فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا عليّ معاشر قريش إني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وأولم عليها: نحر جزورا، وقيل جزورين، وأطعم الناس، وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وفرح أبو طالب فرحا شديدا، وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب، ودفع عنا الغموم، وهي أول وليمة أولمها رسول الله.

أقول: ولا ينافي هذا ما تقدم من قوله: فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا خديجة حلة، لجواز أن يكون ذلك كان عند العقد، وهذا عند إرادة الدخول. ولا ينافي ذلك ما تقدم من قوله، وقد ابتنى بها، لأن تلك الرواية غير صحيحة، ولا ينافي كون المزوّج له عمه أبو طالب ما تقدم أن المزوج له عمه حمزة، لجواز أن يكون حضر مع أبي طالب فنسب التزويج إليه أيضا، والله أعلم.

والسبب في ذلك: أي في عرض خديجة   نفسها عليه أيضا مع ما أراد الله تعالى بها من الخير، ما ذكره ابن إسحاق. قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد، فاجتمعن يوما فيه، فجاءهن يهودي وقال أيا معشر نساء قريش إنه يوشك فيكنّ نبي قرُب وجوده، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشا له فلتفعل، فحصبته النساء: أي رمينه بالحصباء، وقبحنه وأغلظن له، وأغضت خديجة على قوله، ووقع ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي: أي وما قاله لها ورقة لما حدثته بما حدثها به ميسرة مما تقدم قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقا ما ذاك إلا هذا.

وذكر الفاكهي عن أنس   أن النبي كان عند أبي طالب، فاستأذن أبا طالب في أن يتوجه إلى خديجة: أي ولعله بعد أن طلبت منه الحضور إليها وذلك قبل أن يتزوجها، فأذن له وبعث بعده جارية له يقال لها نبعة، فقال: انظري ما تقول له خديجة، فخرجت خلفه، فلما جاء إلى خديجة أخذت بيده فضمتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي أنت وأمي، والله ما أفعل هذا الشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي سيبعث، فإن تكن هو فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي سيبعثك لي، فقال لها والله لئن كنت أنا هو لقد اصطنعت عندي ما لا أضيعه أبدا، وإن كان غيري فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يضيعك أبدا، فرجعت نبعة وأخبرت أبا طالب بذلك، وكان تزويجه بخديجة   بعد مجيئه من الشام بشهرين أو خمسة عشر يوما، وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة على ما هو الصحيح الذي عليه الجمهور كما تقدم. زاد بعضهم على الخمسة والعشرين سنة شهرين وعشرة أيام، وقد أشار إلى ما تقدم صاحب الهمزية بقوله:

ورأته خديجة والتقى والزهـ ** ـد فيه سجية والحياء

وأتاها أن الغمامة والسر ** ح أظلته منهما أفياء

وأحاديث أن وعد رسول الله ** بالبعث حان منه الوفاء

فدعته إلى الزواج وما أحـ ** ـسن ما يبلغ المنى الأذكياء

أي وعلمته خديجة  ، ذات الشرف الطاهر، والمال الوافر الظاهر، والحسب الفاخر، والحال أن التقى والزهد والحياء فيه سجية وطبيعة، وأتاها الخبر بأن الغمامة والشجر أظلته: أفياء: أي أظلال حالة كون تلك الأفياء من الغمامة والشجر.

وفيه أن هذا يدل على أن الملكين هما الغمامة.

قال بعضهم: وتظليل الغمامة له كان قبل النبوة تأسيسا لها، وانقطع ذلك بعد النبوة، وأتى خديجة الأحاديث والأخبار من بعض الأحبار بأن وعد الله لرسوله بالبعث والإرسال إلى الخلق قرب الوفاء به منه تعالى لرسوله، فبسبب ذلك خطبته إلى أن يتزوج بها وعرضت نفسها عليه. وما أحسن بلوغ الأذكياء ما يتمنونه.

وتزوجها رسول الله وهي يومئذ بنت أربعين سنة. قال: وقيل خمس وأربعين سنة، وقيل ثلاثين، وقيل ثمان وعشرين اهـ: أي وقيل خمس وثلاثين وقيل خمس وعشرين.

وتزوجت قبله برجلين. أولهما عتيق بن عابد: أي بالموحدة والمهملة، وقيل بالمثناة تحت والمعجمة ( ) فولدت له بنتا اسمها هند، وهي أم محمد بن صيفي المخزومي. وثانيهما أبو هالة، واسمه هند، فولدت له ولدا اسمه هالة، وولدا اسمه هند أيضا فهو هند بن هند: أي وكان يقول: أنا أكرم الناس أبا وأما وأخا وأختا، أبي رسول الله لأنه زوج أمه، وأمي خديجة، وأخي القاسم، وأختي فاطمة، قتل هند هذا مع عليّ يوم الجمل  .

وفي كلام السهيلي أنه مات بالطاعون بالبصرة، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفا فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته، فلم يوجد من يحملها، فصاحت نادبته: واهنداه بن هنداه، واربيب رسول الله، فلم تبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاما لربيب رسول الله هذا.

هذا وفي المواهب أنها كانت تحت أبي هالة أولا، ثم كانت تحت عتيق ثانيا، وستأتي بقية ترجمتها   في أزواجه.

باب بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى

لما بلغ رسول الله خمسا وثلاثين سنة على ما هو الصحيح جاء سيل حتى أتى من فوق الردم الذي صنعوه لمنعه السيل فأخربه: أي ودخلها وصدّع جدرانها بعد توهينها من الحريق الذي أصابها.

وذلك أن امرأة بخرتها فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها، فخافوا أن تفسدها السيول: أي تذهبها بالمرة. وقيل تبخير المرأة كان لها في زمن عبد الله بن الزبير  . ولا مانع من التعدد، وكان ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إبراهيم  ، ولم يكن لها سقف: أي وكان الناس يلقون الحليّ والمتاع كالطيب أي الذي يهدى إليها في بئر داخلها عند بابها على يمين الداخل منه أعدت لذلك، يقال لها خزانة الكعبة كما سيأتي ذلك. فأراد شخص في أيام جرهم أن يسرق من ذلك شيئا فوقع على رأسه وانهار البئر عليه فهلك.

وفي كلام بعضهم: فسقط عليه حجر فحبسه في تلك البئر حتى أخرج منها وانتزع المال منه، فليتأمل الجمع.

وقد يقال على بعد: جاز أن يكون هذا الرجل تكرر منه السرقة، وكان هلاكه في المرة الثانية، فعند ذلك بعث الله حية بيضاء سوداء الرأس والذنب رأسها كرأس الجدي، فأسكنها تلك البئر لحفظ تلك الأمتعة، وكانت قد تخرج منها إلى ظاهر البيت فتشرق بالقاف أي تبرز للشمس على جدار الكعبة، فيبرق لونها، وربما التفت عليه فتصير رأسها عند ذنبها، فلا يدنو منها أحد إلا كشت: أي صوّتت وفتحت فاها معطوف على كشت.

ففي حياة الحيوان قال الجوهري: كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فيها، فحرست بئره وخزانة البيت خمسمائة عام، لا يقربه أحد: أي لا يقرب بئره وخزانته إلا أهلكته: أي ولعل المراد لو قرب منه أحد أهلكته، إذ لو أهلكت أحدا قرب من تلك البئر لنقل، فلم تزل كذلك حتى كان زمن قريش ووجد هذا السيل والحريق، أرادوا هدمها وإعادة بنائها، وأن يشيدوا بنيانها: أي يرفعوه ويرفعوا بابها، حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا واجتمعت القبائل من قريش تجمع الحجارة كل قبيلة تجمع على حدة، وأعدوا لذلك نفقة أي طيبة، ليس فيها مهر بغيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس ( ) أي بعد أن قام أبو وهب عمرو بن عابد، فتناول منها حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، الحديث: أي وفي لفظ أنه قال لهم: لا تدخلوا في نفقة هذا البيت مهر بغيّ: أي زانية ولا بيع ربا وفي لفظ: لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئا أصبتموه غصبا ولا قطعتم فيه رحما، ولا انتهكتم فيه حرمة أو ذمة بينكم وبين أحد من الناس. وأبو وهب هذا خال عبد الله أبي النبي، وكان شريفا في قومه، وكان رسول الله ينقل معهم الحجارة.

روى الشيخان عن جابر بن عبد الله   قال: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله والعباس   ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة: أي كبقية القوم، فإنهم كانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل فخرّ إلى الأرض، فطمحت عيناه إلى السماء: أي وندوي: عورتك، فقال إزاري إزاري: أي شدوا عليّ إزاري، فشدّ عليه. وفي رواية: سقط فغشي عليه، فضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء أن شد عليك إزارك، وهذا يبعد ما جاء في رواية قال له العباس أي بعد أن أمر بستر عورته وسترها: يا ابن أخي اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابني ما أصابني إلا من التعرّي.

وفي رواية: بينا النبي يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته، فنودي يا محمد خمر عورتك: أي غطها، فلم ير عريانا أي مكشوف العورة بعد ذلك.

أي وقد يقال: هذا لا يخالف ما تقدم عن العباس  ، لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر من العباس حينئذ، وغايته أنه سمى النمرة إزارا له.

قال: واستبعد بعض الحفاظ ذلك: أي وقوع هذا مع ما تقدم من نهيه عن ذلك: أي الذي تضمنه الأمر بالستر عند إصلاح عمه أبي طالب لزمزم قبل هذا، قال لأنه إذا نهي عن شيء مرة لا يعود إليه ثانيا بوجه من الوجوه اهـ: أي وقد عاد إلى ذلك.

أقول: يجوز أن يكون لم يفهم أن أمره بستر عورته أولا عزيمة، بل جواز الترك، وفي الثانية علم أنه عزيمة.

لا يقال: تقدم «من كرامتي على ربي أن أحدا لم ير عورتي» وتقدم أن ذلك من خصائصه.

ففي الخصائص الصغرى «أنه لم تر عورته قط، ولو رآها أحد طمست عيناه» لأنه لا يلزم من كشف عورته رؤيتها كما لم يلزم من حضانته وتربيته ومجامعة زوجاته ذلك. فعن عائشة   «ما رأيت منه » والظاهر أن بقية زوجاته كذلك، والله أعلم.

ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر: أي خوف من أن يمنعهم الله تعالى ما أرادوا: أي بأن يوقع بهم البلاء قبل ذلك، سيما وقد شاهدوا ما وقع لعمرو بن عائذ.

أي قال: وعند ابن إسحاق أن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه أي خافوا من أنه يحصل لهم بسببه بلاء، فقال الوليد بن المغيرة لهم، أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل نريد الإصلاح، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، قالوا من الذي يعلوها فيهدمها، قال أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع أي بالراء والعين المهملتين، والضمير في ترع للكعبة: أي لا تفزع الكعبة لا نريد إلا الخير: أي وفي رواية لم نزغ بالنون والزاي والمعجمة: أي لمن نحل عن دينك ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء هدمناها فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة: أي أسنمة الإبل. وفي لفظ كالأسنة.

قال السهيلي: وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق، هذا كلامه: أي وقد يقال: هي كالأسنة في الخضرة وكالأسمنة في العظم.

لا يقال: الأسنة زرق. لأنا نقول شديد الزرقة يرى أخضر، أخذ بعضها ببعض، فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منهما ليقلع بها بعضها فلما تحرك الحجر تنفضت مكة: أي تحركت بأسرها، وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل، فانتهوا عن ذلك الأساس. ووجدت قريش في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا يزول أخشباها أي جبلاها، وهما أبو قبيس وهو جبل مشرف على الصفا. وقعيقعان: وهو جبل مشرف على مكة وجهه إلى أبي قبيس يبارك لأهلها في الماء واللبن، ووجدوا في المقام: أي محله، كتابا آخر مكتوب فيه: مكة بلد الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاث سبل. ووجدوا كتابا آخر مكتوب فيه: من يزرع خيرا يحصد غبظة: أي ما يغبط أي يحسد حسدا محمودا عليه، ومن يزرع شرا يحصد ندامة: أي ما يندم عليه. تعملون السيئات، وتجزون الحسنات، أجل: أي نعم، كما يجنى من الشوك العنب أي الثمر.

أي وفي السيرة الشامية أن ذلك وجد مكتوبا في حجر في الكعبة. وفي كلام بعضهم: وجدوا حجرا فيه ثلاثة أسطر: الأول أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر إلى آخره. وفي الثاني: أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته. وفي الثالث: أنا الله ذو بكة خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه. قال ابن المحدث: ورأيت في مجموع أنه وجد بها حجر مكتوب عليه: أنا الله ذو بكة، مفقر الزناة، ومعري تارك الصلاة، أرخصها والأقوات فارغة، وأغليها والأقوات ملآنة: أي فارغ محلها وملآن محلها، هذا كلامه.

وقد يقال: لا مانع من أن يكون ذلك حجرا آخر، أو يكون هو ذلك الحجر، وما ذكر مكتوب في محل آخر منه: أي وفي الإصابة عن الأسود بن عبد يغوث عن أبيه أنهم وجدوا كتابا بأسفل المقام، فدعت قريش رجلا من حمير، فقال: إن فيه لحرفا لو حدثتكموه لقتلتموني قال: وظننا أن فيه ذكر محمد فكتمناه، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى ساحل جدة: أي الذي به جدة الآن، وكان ساحل مكة قبل ذلك الذي يرمي به السفن يقال له الشعيبية بضم الشين، فلا يخالف قول غير واحد، فلما كانت السفينة بالشعيبية ساحل مكة انكسرت. وفي لفظ حبسها الريح، وتلك السفينة كانت لرجل من تجار الروم اسمه باقوم وكان بانيا.

وقيل كانت تلك السفينة لقيصر ملك الروم يحمل له فيها الرخام والخشب والحديد، سرحها مع باقوم إلى الكنيسة التي حرقها الفرس بالحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة، وقيل من الشعيبية بعث الله تعالى عليها ريحا فحطمها: أي كسرها.

فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها، فأعدوه لسقف الكعبة. وقيل هابوا هدمها من أجل تلك الحية العظيمة، فكانوا كلما أرادوا القرب منه أي البيت ليهدموه بدت لهم تلك الحية فاتحة ً فاها، فبينا هي ذات يوم تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله طائرا أعظم من النسر، فاختطفها وألقاها في الحجون فالتقمتها الأرض، قيل وهي الدابة التي تكلم الناس يوم القيامة. وقد جاء أن الدابة تخرج من شعب أجياد.

وفي حديث «أن موسى سأل ربه أن يريه الدابة التي تكلم الناس فأخرجها له من الأرض، فرأى منظرا هاله وأفزعه، فقال: أي رب ردها فردها».

فقالت قريش عند ذلك: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا: أي بعد أن اجتمعوا عند المقام، وعجوا إلى الله تعالى: ربنا لن نراع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك فأتمه واشغل عنا هذا الثعبان يعنون الحية، وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا في السماء صوتا ووجبة وإذا بالطائر المذكور أخذها وذهب بها إلى أجياد، فقالوا ما ذكر، وقالوا: عندنا عامل رفيق وعندنا أخشاب، وقد كفانا الله الحية وذلك العامل هو باقوم الرومي الذي كان بالسفينة وكان بانيا كما تقدم، فإنهم جاؤوا به معهم إلى مكة، أو هو باقوم مولى سعيد بن العاص وكان نجارا، وتلك الأخشاب هي التي اشتروها من تلك السفينة التي كسرت.

أقول: ومع أخذ الطائر لتلك الحية يجوز أن يقال هابوا هدمها حتى قدم عليه الوليد بن المغيرة، فلا مخالفة بين ما تقدم عن ابن إسحاق وبين هذا الظاهر في أنهم هدموها عند أخذ الطائر لتلك الحية ولم يهابوا هدمها حتى فعل الوليد ما تقدم، والله أعلم.

أي ثم لما أرادوا بنيانها تجزأتها قريش: أي بعد أن أشار عليهم بذلك أو وهب عمرو بن عائذ، فقال لهم: إني أرى أن تقسموا أربعة أرباع، فكان شق الباب لعبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم ابني عمرو، وكان شق الحجر أي الجانب الذي فيه الحجر الآن لبني عبد الدار ولبني أسد ولبني عدي.

والذي في كلام المقريزي: كان لبني عبد مناف ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر أي وهو شق الباب، وصار لأسد وعبد الدار وزهرة الحجر كله: أي الجانب الذي فيه الحجر وصار لمخزوم دبر البيت، وصار لسائر قريش ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود هذا كلامه فليتأمل.

وفي كلام بعضهم: وسمي الركن اليماني باليماني، لأن رجلا من اليمن بناه وكان الباني لها باقوم النجار: أي الذي هو مولى سعيد بن العاص.

أقول: وكان المناسب أن يكون الذي بناها باقوم الرومي الذي كان صحبة السفينة التي كسرت، لأنه كما تقدم كان بانيا، وسيأتي التصريح بذلك. وأما باقوم مولى سعيد بن العاص فتقدم أنه كان نجارا، إلا أن يقال باقوم مولى سعيد كان نجارا بناء، واشتهر بالوصف الأول، فكان الباني لها. وفيه يحتمل أن يكون باقوم الرومي البناء كان نجارا، أيضا، واشتهر بالوصف الأول.

ثم رأيت في كلام بعضهم التصريح بذلك، فقال: وكان أي باقوم الرومي نجارا بناء. فقول القائل: وكان الباني لها باقوم النجار مراده باقوم الرومي لا مولى سعيد.

ثم رأيت في بعض الروايات ما يؤيد ذلك، وهو وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا. ونصها: فخرجت قريش لتأخذ خشبها: أي السفينة التي كسرت، فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا، فقدموا به وبالخشب. فقد دلت الروايتان على أنه موصوف بالوصفين. ويحتمل أن يكون أحدهما بناها والآخر عمل سقفها، أو أنهما اشتركا فيها لما علمت أن كلا منهما كان بانيا نجارا.

ثم رأيت عن ابن إسحاق: وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم سقف الكعبة ويساعده باقوم، أي الرومي، فالقبطي هو مولى سعيد بن العاص. وحينئذ ففي هذه الرواية وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا كالرواية التي قبلها، وسيأتي في الرواية التي تلي هذه أنه الذي بناها. وهي في الإصابة اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم. وكان روميا، وكان في سفينة حبستها الريح فخرجت إليها قريش فأخذوا خشبها وقالوا له: ابنها على بنيان الكنائس، وإن باقوم الرومي أسلم ثم مات فلم يدع وارثا فدفع النبي ميراثه لسهيل بن عمرو.

ثم لما بنوها جعلوها مدماكا من خشب الساج، ومدماكا من الحجارة من أسفلها إلى أعلاها، وزادوا فيها تسعة أذرع، فكان ارتفاعها ثمانية عشر ذراعا، ورفعوا بابها من الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج، وضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر، وفي لفظ: أخرجوا من عرضها أذرعا من الحجر وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من الكعبة.

ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدّوا للقتال، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي: أي تحالفوا على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، وقد تقدم في حلف المطيبين، ومكث النزاع بينهم أربع أو خمس ليال ثم اجتمعوا في المسجد الحرام. وكان أبو أمية بن المغيرة، واسمه حذيفة أسنّ قريش كلها يومئذ: أي وهو والد أم سلمة أم المؤمنين  ، وهو أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم، وكان يعرف بزاد الراكب، لأنه كان إذا سافر لا يتزود معه أحد، بل يكفي كل من سافر معه الزاد.

أي وذكر بعضهم أن أزواد الراكب من قريش ثلاثة: زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد مناف، قتل يوم بدر كافرا، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبو أمية بن المغيرة وهو أشهرهم بذلك.

وفي كلام بعضهم: لا تعرف قريش زاد الراكب إلا أبا أمية بن المغيرة وحده، يحتمل أن المراد لا تكاد تعرف قريش غيره بهذا الوصف لشهرته فلا مخالفة، وأبو أمية هذا مات على دينه، ولعله لم يدرك الإسلام، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم: أي وهو باب بني شيبة، وكان يقال له في الجاهلية باب بني عبد شمس الذي يقال له الآن باب السلام. وفي لفظ أوّل من يدخل من باب الصفا: أي وهو المقابل لما بين الركنين اليماني والأسود ففعلوا أي وفي كلام البلاذري أن الذي أشار على قريش بأن يضع الركن أوّل من يدخل من باب بني شيبة مهشم بن المغيرة ويكنى أبا حذيفة.

وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون اسمه حذيفة، ويكنى بأبي حذيفة كما يكنى بأبي أمية ومهشم لقبه، وأن الراوي عنه اختلف كلامه، فتارة قيل عنه يقضي بينكم، وتارة قيل عنه يضع الركن، والمشهور الأول، ويدل له ما يأتي، فكان أول داخل منه رسول الله، فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا، هذا محمد: أي لأنهم كانوا يتحاكمون إليه في الجاهلية، لأنه كان لا يداري ولا يماري، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: هلم إليّ ثوبا فأتي به: أي وفي رواية: فوضع رسول الله إزاره وبسطه في الأرض أي ويقال إنه كساء أبيض من متاع الشام. ويقال إن ذلك الثوب كان للوليد بن المغيرة، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيده الشريفة، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب: أي بزاوية من زواياه ثم ارفعوه جميعا ففعلوا، فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني زمعة، وكان في الربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، وكان في الربع الرابع قيس بن عدي، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو: أي ولما مات أبو أمية بن المغيرة رثاه أبو طالب بقصيدة طويلة، ورثاه أبو جحيفة بقوله:

ألا هلك الماجد الرافد ** وكل قريش له حامد

ومن هو عصمة أيتامنا ** وغيث إذا فقد الراعد

قال: وعن ابن عباس  : لما وضع رسول الله الركن: أي الحجر ذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي حجرا يشد به الركن، فقال العباس لا، وناول العباس رسول الله ما شدّ به الركن، فغضب النجدي وقال: واعجبا لقوم أهل شرف وعقول وأموال عمدوا إلى رجل أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم كأنهم خدم له، أما والله ليفرقنهم شيعا، وليقسمنّ بينهم حظوظا، فكاد يثير شرا فيما بينهم، ولعل هذا النجدي هو إبليس.

فقد ذكر السهيلي أن إبليس تمثل في صورة شيخ نجدي حين حكموا رسول الله في أمر الركن من يرفعه، وصاح: يا معشر قريش أرضيتهم أن يلي هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أنسابكم؟ انتهى.

وإنما تصوّر بصورة نجدي، لأن في الحديث، نجد طلع منها قرن الشيطان. ولما قال: «اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا وفي نجدنا، فأعاد الأول، والثاني قال: هناك الزلازل والفتن، وفيها يطلع قرن الشيطان».

أقول: سيأتي أنه تصور بهذه الصورة أيضا عند دخول قريش دار الندوة ليتشاوروا في كيفية قتله ودخل معهم، وسيأتي. ثم في حكمة تصوره بذلك غير ما ذكر. ولا مانع أن يكونا حكمة لما هنا ولما يأتي.

وأعادوا الصور التي كانت في حيطانها، لأنه كان في حيطانها صور الأنبياء بأنواع الأصباغ، ومن جملتهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام: أي وإسماعيل وفي يده الأزلام، وصورة الملائكة وصورة مريم كما سيأتي في فتح مكة، وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل، ولم يكسها أحد بعد ذلك حتى كساها رسول الله الحبرات في حجة الوداع، والله أعلم. وهذه المرة الرابعة أي من بناء الكعبة بناء على أن أول من بناها الملائكة.

ففي بعض الآثار أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض كان عرشه على الماء أي العذب، فلما اضطرب العرش كتب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن، فلما أراد أن يخلق السموات والأرض أرسل الريح على ذلك الماء فتموج فعلاه دخان، فخلق من ذلك الدخان السموات، ثم أزال ذلك الماء عن موضع الكعبة فيبس» وفي لفظ «أرسل على الماء ريحا هفافة فصفق الريح الماء» أي ضرب بعضه بعضا «فأبرز عنه خشفة » الحديث، وبسط الله سبحانه وتعالى من ذلك الموضع جميع الأرض طولها والعرض، فهي أصل الأرض وسرتها. وقد يخالفه ما في (أنس الجليل) كذا روي عن علي بن أبي طالب   أنه قال: وسط الدنيا بيت المقدس وأرفع الأرضين كلها إلى السماء بيت المقدس.

وعن ابن عباس   ومعاذ بن جبل أنه أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا ثم بين ذلك في أنس الجليل.

ولما ماجت الأرض وضع عليها الجبال، فكان أول جبل وضع عليها أبو قبيس، وحينئذ كان ينبغي أن يسمى أبا الجبال، وأن يكون أفضلها مع أن أفضلها كما قال الجلال السيوطي استنباطا: أحد، لقوله: «أحد يحبنا ونحبه» ولما ورد أنه على باب من أبواب الجنة، قال: ولأنه من جملة أرض المدينة التي هي أفضل البقاع: أي عنده تبعا لجمع، ولأنه مذكور في القرآن باسمه في قراءة من قرأ {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد} أي بضم الهمزة والحاء، ثم فتق الأرض فجعلها سبع أرضين. وقد جاء «بدأ الله خلق الأرض في يومين غير مدحوّة ثم خلق السموات فسواهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين».

وبهذا يظهر التوقف في قول مغلطاي: إن لفظة بعد في قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} بمعنى قبل، لأن خلق الأرض قبل خلق السماء، لما علمت أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوة، ثم بعد خلق السماء دحى الأرض.

ثم رأيت بعضهم سأل ابن عباس عن ذلك، حيث قال له: يا إمام اختلف عليّ من القرآن آيات، ثم ذكر منها أنه قال: قال الله تعالى: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} ـ حتى بلغ ـ {طائعين} ثم قال في الآية الأخرى: {أم السماء بناها} ثم قال: {والأرض بعد ذلك دحاها} فأجابه ابن عباس  . أما قوله: {خلق الأرض في يومين} فإن الأرض خلقت قبل السماء، وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض. وأما قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} يقول: جعل فيها جبلا، وجعل فيها نهرا، وجعل فيها شجرا، وجعل فيها بحورا. وبه يرد قول بعضهم: خلق السماء قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار فليتأمل.

وقد جاء عن ابن عباس   في قوله تعالى: {ومن الأرض مثلهن} قال: سبع أرضين، وفي كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسكم، رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد. وقال البيهقي: إسناده صحيح لكنه شاذ بالمرة: أي لأنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف.

قال الحافظ السيوطي: ويمن أن يؤول على أن المراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر.

ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه هذا كلامه: أي وحينئذ كان لنبينا رسول من الجن اسمه كاسمه، ولعل المراد اسمه المشهور وهو محمد فليتأمل.

ولما خاطب الله السموات والأرض بقوله: {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} كان المجيب من الأرض موضع الكعبة، ومن السماء ما حاذاها، الذي هو محل البيت المعمور.

وعن كعب الأحبار  : لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدا أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، فقبض قبضة رسول الله من موضع قبره الشريف، وهي بيضاء منيرة لها شعاع عظيم.

وعن ابن عباس  : أصل طينة رسول الله من سرة الأرض بمكة. قال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا تلك الطينة: أي وقد ذكر الشيخ أبو العباس المرسي   «أن النبي قال يوما لأبي بكر الصديق  : أتعرف يوم يوم؟ فقال أبو بكر نعم والذي بعثك بالحق نبيا، يا رسول الله سألتني عن يوم المقادير، يعني يوم ـ {ألست بربكم} ـ ولقد سمعتك تقول حينئذ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» وقد سئل الشيخ علي الخواص نفعنا الله تعالى ببركاته لم لم تتكلم الأنبياء بلسان الباطن الذي تكلم به الصوفية.

فأجاب بأنه إنما لم تتكلم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك لأجل عموم خطابهم للأمة، ولا يعتبر بالأصالة إلا فهم العامة دون فهم الخاصة إلا بعض تلويحات، ومنه قوله للصديق  : «أتعرف يوم يوم؟ فقال نعم يا رسول الله» الحديث، وتلك الطينة لما تموّج الماء رمى بها من مكة إلى محل تربته ومدفنه بالمدينة.

وبهذا يندفع ما يقال: مقتضى كون أصل طينته بمكة أن يكون مدفنه بها، لأن تربة الشخص تكون في محل مدفنه ثم عجنها بطينة آدم، ولعل هذه الطينة هي المعبر عنها بالنور في قوله وقد قال له جابر: «يا رسول الله أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا لوح ولا قلم» الحديث.

وجاء «أول ما خلق الله نوري» وفي رواية: «أول ما خلق الله العقل» قال الشيخ عليّ الخواص: ومعناهما واحد، لأن حقيقته يعبر عنها بالعقل الأول وتارة بالنور. فأرواح الأنبياء والأولياء مستمدة من روح محمد هذا كلامه، وهذا هو المعني بقول بعضهم: لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها. وفيه أن هذا لا يناسبه قوله: «ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض» إذ كيف يأتي ذلك مع قول كعب الأحبار، أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض إلى آخره؟ ومع قول ابن عباس: أصل طينة رسول الله من سرة الأرض. إلا أن يقال إن ذلك النور بعد إيجاده أودع تلك الطينة التي هي قلب الأرض وسرتها. وحينئذ لا يخالف ذلك ما جاء أن الله خلق آدم من طين العزة من نور محمد، فهو الجنس العالي لجميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس.

هذا وقد جاء في حديث بعض رواته متروك الحديث «خلق الله آدم من تراب الجابية، وعجنه بماء الجنة » وجاء «خلق الله آدم من تربة دحنا ومسح ظهره بنعمان الأراك» ودحنا: محل قريب من الطائف، وتقدم أنه يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره وجعل نوره في ظهر آدم. ولما خلق الله آدم وقبل نفخ الروح فيه، استخرج ذلك النور من ظهره وأخذ عليه العهد {ألست بربكم} فقد خص بذلك عن بقية خلقه من بني آدم فإن بني آدم ما أخرجوا من ظهر آدم وأخذ عليهم الميثاق إلا بعد نفخ الروح في آدم.

ونقل بعضهم أن الله تعالى لما أخرج الذرية وأعاده في صلب آدم، أمسك روح عيسى إلى أن أتى وقت خلقه. ولا يخفى أن هذا يفيد أن أخذ العهد على الصديق كان بعد نفخ الروح في آدم، وأخذ العهد عليه كان سابقا على ذلك، وحينئذ فيكون المراد بقول الصديق حينئذ لما قال له: «أتعرف يوم يوم، وقال نعم» إلى قوله: «ولقد سمعتك تقول حينئذ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» أي حين أخذ العهد على بني آدم، لا حين أخذ العهد عليه كما قد يتبادر فليتأمل.

ثم لما نفخت الروح في آدم صار ذلك النور في ظهر آدم فصارت الملائكة تقف صفوفا خلف آدم يتعجبون من ظهور ذلك النور، فقال آدم يا رب: ما بال هؤلاء ينظرون إلى ظهري؟ قال: ينظرون إلى نور محمد خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فسأل الله تعالى أن يجعله في مقدمه لتستقبله الملائكة، فجعله الله في جبهته، ثم سأل الله تعالى أن يجعله في محل يراه، فكان في سبابته، فلما أهبط آدم إلى الأرض، انتقل ذلك النور إلى ظهره، فكان يلمع في جبهته، وفي رواية: لما انتقل النور إلى سبابته قال: يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شيء؟ قال: نعم، نور أخصاء أصحابه، فقال: يا رب اجعله في بقية أصابعي، فكان نور أبي بكر في الوسطى، ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر، ونور عليّ في الإبهام، فلما أكل من الشجرة عاد ذلك النور إلى ظهره كذا في بحر العلوم عن ابن عباس.

ثم انتقل ذلك النور من آدم إلى ولده شيث، ولما قال تعالى للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة } و{قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} يعنون الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، غضب عليهم.

وفي لفظ: ظنت الملائكة: أي علمت أن ما قالوا ردا على ربهم، وأنه قد غضب عليهم من فوقهم، فلاذوا بالعرش وطافوا به سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضي عليهم.

وفي لفظ: فنظر الله إليهم، ونزلت الرحمة عليهم، فعند ذلك قال لهم ابنوا لي بيتا في الأرض يعوذ به من سخطت عليه من بني آدم: أي الذي هو الخليفة، فيطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم، فبنوا الكعبة.

وفي هذه الرواية اختصار، بدليل ما قيل: وضع الله تحت العرش البيت المعمور على أربع أساطين من زبرجد يغشاهن ياقوتة حمراء، وقال للملائكة: طوفوا بهذا البيت: أي لأرضى عنكم، ثم قال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض بمثاله وقدره: أي ففعلوا، وقدره عطف تفسير على مثاله، فالمراد بالمثال القدر.

وفي لفظ لما قال تعالى للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة } و{قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} الآية خافوا أن يكون الله تعالى عابها عليهم لاعتراضهم في علمه، فطافوا بالعرش سبعا يسترضون ربهم، ويتضرعون إليه، فأمرهم أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة، وأن يجعلوا طوافهم به فكان ذلك أهون عليهم من الطواف بالعرش، ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا، وفي كل أرض بيتا. قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتا متقابلة، لو سقط بيت منها لسقط على مقابله، والبيت المعمور في السماء السابعة، وله حرمة كحرمة مكة في الأرض، واسم البيت الذي في السماء الدنيا بيت العزة.

وفي كلام بعضهم: في كل سماء بيت تعمره الملائكة بالعبادة كما يعمر أهل الأرض البيت العتيق بالحج في كل عام. والاعتمار في كل وقت، والطواف في كل أوان، ولينظر ما معنى بناء الملائكة للبيوت في السموات. وإذا لم يصح أن الملائكة بنت الكعبة تكون هذه المرة من بناء قريش هي المرة الثالثة، بناء على أنّ أول من بناها آدم أي أو ولده شيث، فقد قال بعضهم: ما تقدم من الأثرين الدالين على أن أول من بناها الملائكة لم يصح واحد منها، وكانت قبل ذلك: أي وكان محلها قبل بناء آدم، لها خيمة من ياقوتة حمراء، أنزلت لآدم من الجنة: أي لها بابان من زمرد أخضر شرقي، وباب غربي من ذهب، منظومان من در الجنة، فكان آدم يطوف بها ويأنس إليها. وقد حج إليها من الهند ماشيا أربعين حجة ويجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور وعبر عنها بحمراء لأن سقف البيت المعمور كان ياقوتة حمراء.

قال: وذكر أن آدم، لما أهبط إلى الأرض كان رجلاه بها، ورأسه في السماء.

وفي لفظ: كان رأسه يمسح السحاب فصلع، فأورث ولده الصلع أي بعض ولده، فسمع تسبيح الملائكة ودعاءهم، فاستأنس بذلك، فهابته الملائكة: أي صارت تنفر منه فشكا إلى الله تعالى، فنقص إلى ستين ذراعا بالذراع المتعارف. وقيل بذراع آدم، فلما فقد أصوات الملائكة حزن وشكا إلى الله تعالى، فقال: يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به: أي تطوف به الملائكة كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي: أي كان ذلك أي الطواف بالعرش والصلاة عنده شأن الملائكة أولا، فلا ينافي ما تقدم أنهم بعد ذلك صاروا يطوفون بالبيت المعمور كما تقدم، فاخرج إليه: أي طف به وصلّ عنده، وهذا البيت هو هذه الخيمة التي أنزلت لأجله. وقد علمت أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور.

قيل أهبط آدم وطوله ستون ذراعا: أي على الصفة التي خلق عليها، وهو المراد بقوله: «خلق الله تعالى آدم على صورته وطوله ستون ذراعا» أي أوجده الله تعالى على الهيئة التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشأة أحوالا، بل خلقه كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح، فالضمير في صورته يرجع لآدم، وعلى رجوعه إلى الحق سبحانه وتعالى المراد على صفته: أي حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما.

وقد يخالف هذا قول ابن خزيمة قوله: «إن الله خلق آدم على صورته» فخرج على سبب، وهو «أن النبي رأى رجلا يضرب وجه رجل فقال: لا تضربه على وجهه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته» أي صورة هذا الرجل، فهو ينتقل أطوارا. ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، ومن ثم عبر بقوله أوجده، وهذا القيل المتقدم من أنه أهبط آدم وطوله ستون ذراعا، يوافقه ما جاء في الحديث المرفوع/ «كان طوله ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا» ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: إنما روي أن آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء فحطه الله تعالى إلى ستين ذراعا: أي الذي تقدم ظاهر الخبر الصحيح يخالفه، وهو أنه خلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعا وهو الصحيح. وكان آدم أمرد. وفي الصحيحين «فكل من يدخل الجنة يكون على صورة آدم» وقد جاء في صفة أهل الجنة «جرد مرد على صورة آدم».

وفي بعض الأخبار أن آدم لما كثر بكاؤه على فراق الجنة نبتت لحيته، ولم يصح ولم تنبت اللحية إلا لولده، وكان مهبطه بأرض الهند بجبل عال يراه البحريون من مسافة أيام، وفيه أثر قدم آدم مغموسة في الحجر، ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب، ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل قدمي آدم، وذروة هذا الجبل أقرب ذرا جبال الأرض إلى السماء، ولعل هذا وجه النظر الذي أبداه بعض الحفاظ في قول بعضهم: إن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. قال بعض الحفاظ: وفيه نظر.

قيل: ونزل معه من ورق الجنة فبثه هناك فمنه كان أصل الطيب بالهند.

وعن عطاء بن أبي رباح: إن آدم هبط بأرض الهند ومعه أربعة أعواد من الجنة، فهي هذه التي يتطيب الناس بها. وجاء أنه نزل بنخلة العجوة.

ثم لما أمر آدم بالخروج لتلك الخيمة خرج إليها ومدّ له في خطوه، قيل كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام. فقد قيل لمجاهد: هل كان آدم يركب؟ قال: وأي شيء كان يحمله، فوالله إن خطوته لمسيرة ثلاثة أيام.

وفيه أن هذا يقتضي أن آدم لم يكن يركب البراق، فقول بعضهم: إن الأنبياء كانت تركبه مراده مجموعهم لا جميعهم، وقيض الله تعالى له ما كان في الأرض من مخاض أو بحر، فلم يكن يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا، وصار بين كل خطوة مفازة حتى انتهى إلى مكة، فإذا خيمة في موضع الكعبة: أي الموضع الذي به الكعبة الآن، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة مجوفة: أي ولها أربعة أركان بيض، وفيها ثلاثة قناديل من ذهب، فيها نور يلتهب من نور الجنة، طولها ما بين السماء والأرض، كذا في بعض الروايات، ولعل وصف الخيمة بما ذكر لا ينافي ما تقدم أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور، ووصف بأنه ياقوتة حمراء، لأن سقفه كان ياقوتة حمراء، لأن التعدد بعيد فليتأمل، ونزل مع تلك الخيمة الركن وهو الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من أرض الجنة، وكان كرسيا لآدم يجلس عليه: أي ولعل المراد يجلس عليه في الجنة.

أقول: وهذا السياق يدل على أن آدم أهبط من الجنة إلى أرض الهند ابتداء.

وذكر في مثير الغرام عن ابن عباس   «أن الله تعالى أهبط آدم إلى موضع الكعبة، وهو مثل الفلك من شدة رعدته، ثم قال: يا آدم تخطّ فتخطى فإذا هو بأرض الهند، فمكث هنالك ما شاء الله، ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: حج يا آدم، فأقبل يتخطى فصار موضع كل قدم قرية، وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة » الحديث. والسياق المذكور أيضا يدل على أن الخيمة والحجر الأسود نزلا بعد خروج آدم من الجنة.

ويدل لكون الحجر الأسود نزل عليه ما في مثير الغرام «وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم فضمه إليه استئناسا به» هذا كلامه.

وفي رواية عنه «أنزل الركن والمقام مع آدم ليلة نزل آدم من الجنة، فلما أصبح رأى الركن والمقام فعرفهما فضمهما إليه وأنس بهما» فليتأمل الجمع.

وفي رواية أن آدم نزل بتلك الياقوتة: أي فعن كعب: أنزل الله من السماء ياقوتة مجوّفة مع آدم فقال له: يا آدم هذا بيتي أنزلته معك، يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ويصلى حوله كما يصلى حول عرشي: أي على ما تقدم، ونزل معه الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة، ثم وضع البيت: أي تلك الياقوتة عليها. وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما.

وقد يقال في الجمع: يجوز أن تكون المعية ليست حقيقية، والمراد أنه نزل بعده قريبا من نزوله، فلقرب الزمن عبر بالمعية، فلا ينافي ما تقدم من قوله: «يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به فأخرج إليه» وجاء «إن آدم نزل من الجنة ومعه الحجر الأسود متأبطه» أي تحت إبطه، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة، ولولا أن الله تعالى طمس ضوءه ما استطاع أحد أن ينظر إليه». وكون آدم نزل بالحجر الأسود متأبطا له يخالف الرواية المتقدمة أنه نزل مع تلك الخيمة التي هي الياقوتة بعد نزوله. وحينئذ يحتاج للجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما.

وأيضا يحتاج إلى الجمع بين ذلك وبين ما روي عن وهب بن منبه   أن آدم لما أمره الله تعالى بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة: أي التي هي الحجر الأسود مسح بها دموعه، فلما نزل إلى الأرض لم يزل يبكي ويستغفر الله ويمسح دموعه بتلك الجوهرة حتى اسودت من دموعه، ثم لما بنى البيت أمره جبريل   أن يجعل تلك الجوهرة في الركن ففعل.

وفي (بهجة الأنوار) أن الحجر الأسود كما في الابتداء ملكا صالحا. ولما خلق الله تعالى آدم أباح له الجنة كلها إلا الشجرة التي نهاه عنها، ثم جعل ذلك الملك موكلا على آدم أن لا يأكل من تلك الشجرة، فلما قدّر الله تعالى أن آدم يأكل من تلك الشجرة غاب عنه ذلك الملك، فنظر الله تعالى إلى ذلك الملك بالهيبة فصار جوهرا. ألا ترى أنه جاء في الأحاديث «الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله يد ولسان وأذن وعين» لأنه كان في الابتداء ملكا.

أقول: ورأيت في ترجمة كلام الشيخ كمال الدين الأخميمي أنه لما جاور بمكة رأى الحجر الأسود وقد خرج من مكانه وصار له يدان ورجلان ووجه، ومشى ساعة ثم رجع إلى مكانه.

وقد جاء «أكثروا من استلام هذا الحجر، فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله   لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة » أي فقد جاء «ليس في الأرض من الجنة إلا الحجر الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة، ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى» وجاء «استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع» وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة، والله أعلم.

وجاء «أن آدم أتى ذلك، أي تلك الخيمة: أي التي هي البيت المعمور على ما تقدم ألف مرة من الهند ماشيا من ذلك ثلثمائة حجة وسبعمائة عمرة، وأول حجة حجها جاءه جبريل وهو واقف بعرفة فقال له: يا آدم برّ نسكك، أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة. وفي رواية: لما حج آدم استقبلته الملائكة بالردم: أي ردم بين جمح الذي هو محل المدعي، فقالوا: بر حجك يا آدم، قد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام.

أقول: وفي تاريخ مكة للأزرقي أن آدم   حج على رجليه سبعين حجة ماشيا، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. والمأزمان: موضع بين عرفة والمزدلفة. قال الطبري: ودون منى أيضا مأزمان، والله أعلم بالمراد منهما هذا كلامه. وجاء «أنه وجد الملائكة بذي طوى وقالوا له: يا آدم ما زلنا ننتظرك ههنا منذ ألفي سنة » وكان بعد ذلك إذا وصل إلى المحل المذكور خلع نعليه، ويحتاج للجمع بين كون الملائكة استقبلته بالردم، وكونها لقيته بالمأزمين، وكونه وجدهم بذي طوي، وبين كونهم حجوا البيت قبله بألف عام، وكونهم حجوا قبله بألفي عام، وبخمسين ألف عام، وهل الملائكة خلقوا دفعة واحدة أم خلقوا جيلا بعد جيل.

ومما يدل على أنهم جيلا بعد جيل ما جاء من نحو «من قال سبحان الله وبحمده، خلق الله ملكا له عينان وجناحان وشفتان ولسان يطير مع الملائكة ويستغفر لقائلها إلى يوم القيامة » وما جاء «إن جبريل في كل غداة يدخل بحر النور فينغمس فيه» الحديث، لكن في (سفر السعادة) الحديث المنسوب إلى أبي هريرة أنه قال: «يأمر الله تعالى جبريل كل غداة أن يدخل بحر النور ينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله   من كل قطرة منها ملكا» لهذا الحديث طرق كثيرة ولم يصح منها شيء؟ ولم يثبت في هذا المعنى حديث هذا لفظه، والله أعلم.

وعند ذلك قال آدم للملائكة: فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال آدم: زيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله فكان آدم إذا طاف يقولها، وكان طوافه سبعة أسابيع بالليل وخمسة أسابيع بالنهار: أي ولما فرغ من الطواف صلى ركعتين تجاه باب الكعبة، ثم أتى الملتزم أي محله فقال: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فأقبل معذرتي، وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنبي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي» الحديث.

أقول: قول الملائكة قد طفنا بهذا البيت لا يحسن أن يعنوا به تلك الخيمة المذكورة المعنية بقوله تعالى لآدم: قد أهبطت بيتا إلى آخر ما تقدم، أو كونها أهبطت مع آدم، بل المراد محل ذلك البيت الذي هو الخيمة قبل أن تنزل.

ويجوز أن يكون المراد تلك الخيمة أو نفس تلك الخيمة، بناء على أنها البيت المعمور، وأن الملائكة طافوا بها قبل نزولها إلى الأرض كما تقدم. قال: وعن وهب بن منبه: قرأت في كتاب من كتب الأول: ليس من ملك بعثه الله إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت فينقض من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر، ثم يطوف سبعا بالبيت، ويصلي في جوفه ركعتين، ثم يصعد.

أقول: يجوز أن يكون المراد بإحرامه بنية الطواف بالبيت لا إحرامه بالعمرة بدليل قولة «ثم يطوف سبعا بالبيت» إلى آخره.

ويجوز أن يكون المراد بالبيت في كلام وهب محل تلك الخيمة ما يعم من وجد من الملائكة وبمن بعث بعد ذلك. ولا يخفى أن الأول يبعده قوله حتى يستلم الحجر.

وعلى الثاني يكون فيه دلالة على أن الحجر الأسود كان في تلك الخيمة يبتدأ الطواف بها منه. وجاء عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهما «إن الله   أوحى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض، ابن لي بيتا، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء» وفي رواية «وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي» أي على ما تقدم، وهذا السياق بظاهره يوافق ما تقدم عن ابن عباس   أن هبوط آدم كان من الجنة إلى موضع الكعبة ابتداء، والله أعلم. قال «وجاء أن جبريل   بعثه الله تعالى إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا» أي قال لهما إن الله تعالى يقول لكما ابنيا لي بيتا. فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى أجابه الماء ونودي من تحته: حسبك يا آدم» وفي رواية «حتى إذا بلغ الأرض السابعة. فقذفت فيها الملائكة الصخر، ما يطيق الصخرة ثلاثون رجلا» اهـ.

وفيه أنه كان أمر آدم ببناء البيت بعد مجيئه إلى تلك الخيمة من الهند ماشيا خالف ظاهر ما تقدم عن عطاء وسعيد بن المسيب «أوحى الله تعالى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض ابن لي بيتا» إذ ظاهره أنه أوحى إليه بذلك وهو في الجنة، إلا أن يقال المراد بالأرض في قوله اهبط إلى الأرض أرض الحرم: أي اذهب إلى أرض الحرم ابن لي بيتا.

ثم لا يخفى أن قوله فقذفت فيه الملائكة الصخر، يقتضي أن إلقاء الملائكة للصخر كان بعد حفر آدم، وهو لا يخالف ما تقدم عن كعب. «أنزل الله من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم، فقال له: يا آدم هذا بيتي أنزلته معك، ونزل معه الملائكة، فرفعوا قواعده من الحجارة ثم وضع البيت عليها» فيكون إلقاء الملائكة للصخر بعد حفر آدم «فلما تم ذلك الأس جعل ذلك البيت فوق تلك الصخور» ويكون المراد بقوله ونزل معه الملائكة: أي صحبوه من أرض الهند إلى أرض الحرم.

وجاء في بعض الروايات إن آدم وحواء لما أسساه نزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم، ونزل الركن فوضع موضعه اليوم من البيت فطاف به آدم» أي كما كان يطوف به قبل ذلك، وبهذا تجتمع الروايات. وحينئذ لا مانع أن ينسب بناء هذا الأساس الذي وضعت الملائكة عليه تلك الخيمة لآدم وأن ينسب للملائكة.

أما نسبته للملائكة فواضح. وأما نسبته لآدم فلأنه السبب فيه، أو لأنه كان إذا ألقت الملائكة الصخر يضع آدم بعضه على بعض، وعلى نسبة بناء ذلك الأس للملائكة ولآدم يحتمل القول بأن أول من بنى الكعبة الملائكة. والقول بأن أول من بنى الكعبة آدم فليتأمل.

وقد جاء أن آدم بناه من لبنان جبل بالشام، ومن طور زيتا جبل من جبال القدس، ومن طور سينا جبل بين مصر وإيليا.

وفي كلام بعضهم أنه جبل بالشام، وهو الذي نودي منه موسى  ، ومن الجودي وهو جبل بالجزيرة، ومن حرا حتى استوى على وجه الأرض.

أقول: وفي رواية بناه من ستة أجيل: من أبي قيس ومن رضوى ومن أحد فالمتحصل من الروايتين أنه بناء من ثمانية أجبل، ولا مانع من ذلك، واستمر ذلك البيت الذي هو الخيمة إلى زمن نوح  ، فلما كان الغرق بعث الله تعالى سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور كما في الكشاف، وكان رفعه لئلا يصيبه الماء النجس، وبقيت قواعده التي هي الأس. وفي العرائس: ثم طافت السفينة بأهلها الأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء، حتى أتت الحرم: فلم تدخله ودارت بالحرم أسبوعا.

وقد رفع الله البيت الذي كان يحجه آدم صيانة له من الغرق، وهو البيت المعمور أي وكان حواء أسست البيت مع آدم يخالف ما جاء أن حواء أهبطت بجدة، وحرّم الله عليها دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم وإلى شيء من مكة لأجل خطيئتها، وأنها أرادت أن تدخل مع آدم إلى مكة فقال لها: إليك عني، قد خرجت من الجنة بسببك فتريدين أن أحرم هذا، فكان آدم إذا أراد أن يلقاها ليلم بها خرج من الحرم كله حتى يلقاها بالحل.

وذكر محمد بن جرير أن الله أهبط آدم على جبل سرنديب بالهند: أي وتقدم ما فيه وحواء بحدة بالحاء المهملة. وقيل بالجيم. فجاء آدم في طلبها فتعارفا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك عرفة، فاجتمعا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك جمع، وزلفت إليه في المحل الذي قيل له بسبب ذلك مزدلفة، وهذا يدل على أن جمع غير مزدلفة، وهو خلاف المشهور من أن جمع هو مزدلفة، إلا أن يقال كل من المحلين من جملة البقعة، وأطلق كل من الاسمين على جميع تلك البقعة.

وقيل اسمي المحل عرفة، لأن جبريل   لما علم إبراهيم   المناسك وانتهى إلى عرفة وقال له أعرفت مناسك؟ قال نعم. فسمى عرفة: أي والمراد مناسكه التي قبل عرفة، وإلا فعظم المناسك بعد عرفة، فليتأمل.

وفي الخصائص الصغرى عن رزين أنه روي «أن آدم  . قال: إن الله أعطى أمة محمد أربع كرامات لم يعطنيها: كانت توبتي بمكة وأحدهم يتوب في كل مكان» الحديث، وهو يدل على أن توبته كانت بسبب طوافه بالبيت. ويذكر أن حواء عاشت بعد آدم سنة.

وجاء «أن آدم لما فرغ من بناء البيت أمره الله تعالى بالمسير إلى أن يبني بيت المقدس، فسار وبناه ونسك فيه» وحينئذ لا يشكل قوله وقد قيل له: «أي مسجد وضع في الأرض أولا المسجد الحرام، قيل ثم أيّ؟ قال بيت المقدس، قيل: كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة » وحينئذ لا حاجة لجواب الإمام البلقيني إن المراد أن المدة المذكورة بين أرضيهما في الدحوّ أي دحيت أرض المسجد الحرام، ثم بعد مضي مقدار أربعين سنة دحيت أرض بيت المقدس».

وفيه أن الإمام البلقيني إنما أجاب بذلك بناء على أن سيدنا إبراهيم   هو الباني للمسجد الحرام، والباني لمسجد بيت المقدس سيدنا سليمان  ، فإن بينهما كما قيل أكثر من ألف عام. وكذا لا إشكال إذ كان الباني للمسجد الحرام آدم، والباني لمسجد بيت المقدس أحد أولاده كما قيل بذلك، ومن ثم أجاب بعضهم بأن سليمان إنما كان مجددا لبناء بيت المقدس: وأما المؤسس له فسيدنا يعقوب بن إسحاق بعد بناء جده إبراهيم للمسجد الحرام بالمدة المذكورة، وأما على أن الباني لهما آدم فلا إشكال. وفي رواية أن أول من بنى الكعبة أي كلها بعد أن رفعت تلك الخيمة بعد موت آدم شيث ولد آدم بناها بالطين والحجارة: أي فهي أولية إضافية، ثم لما جاء الطوفان انهدم وبقي محله. وقيل إنه استمر ولم يبنه أحد إلى زمن ابراهيم  .

ففي رواية «أن إبراهيم   لما أراد بناء الكعبة جاء جبريل فضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة ثم بناها إبراهيم الخليل   على ذلك الأس» ويقال له القواعد: أي كما تقدم، وهذا الأس كما علمت لآدم أو للملائكة أولهما، وإنما قيل له أساس إبراهيم وقواعد إبراهيم لأنه بني على ذلك ولم ينقضه.

ومما يدل للقيل المذكور ما جاء في بعض الروايات عن عائشة   قالت دثر مكان البيت أي بسبب الطوفان، بدليل ما جاء في رواية «قد درس مكان البيت بين نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وكان موضعه أكمة حمراء، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض وما دعا عنده أحد إلا استجيب له».

وعن عائشة   «لم يحجه هود ولا صالح عليهما الصلاة والسلام، لتشاغل هود بقومه عاد، وتشاغل صالح بقومه ثمود».

وجاء «إن بين المقام والركن وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا»، وجاء «إن حول الكعبة لقبور ثلثمائة نبي، وإن ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود لقبور سبعين نبيا، وكل نبي من الأنبياء إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم وأتى مكة يعبد الله   بها حتى يموت» وجاء «ما بين الركن اليماني والحجر الأسود روضة من رياض الجنة، وإن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل في تلك البقعة ».

أقول: ويوافق ذلك قول بعضهم: إن إسماعيل دفن حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود، لكن جاء «إن قبر إسماعيل في الحجر» وذكر المحب الطبري أن البلاطة الخضراء التي بالحجر قبر إسماعيل  .

وقد يقال: لا منافاة بين كون هود وصالح لم يحجا البيت، وبين كونهما دفنا في تلك البقعة، لأنه يجوز أن يكونا ماتا قبل وصولهما إلى البيت، فجيء بهما ودفنا في تلك البقعة. على أن بعضهم ضعف كونهما لم يحجا: أي ويدل له أنه قد جاء «حجه هود وصالح ومن آمن معهما» وفي بعض الروايات «لم يحجه بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء» ويحتاج إلى الجمع بينه وبين ما تقدم من أن كل نبي إذا كذبه قومه إلى آخره على تقدير صحتها.

وقد يقال: لا يحتاج إلى الجمع إلا أن يثبت أن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه، على أنه لم يكن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه، إلا هود وصالح، وهو يؤيد القول بأنهما لم يحجا، وتقدم ضعفه. وجاء في حديث، راويه متروك «إن نوحا حجت به السفينة، فوقفت بعرفات، وبابت بمزدلفة، وطافت به أي بالحرم» كما تقدم أن السفينة لم تجاوز الحرم، وهذا لا يناسبه قوله «وسعت» لأن السعي بين الصفا والمروة، إلا أن يراد بالسعي نفس الطواف، فهو من عطف التفسير. وفي أنس الجليل ورد حديث شريف «إن السفينة طافت ببيت المقدس أسبوعا، واستوت على الجودي» أي وجاء «إن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت العتيق، إنكم في حرم الله وحول بيته، لا يمس أحد امرأة، وجعل بينهم وبين النساء حاجزا» ويذكر أن ولده حاما تعدى ووطىء زوجته، فدعا عليه بأن يسود الله لون بنيه، فأجاب الله دعاءه في أولاده، فجاء ولده أسود، وهو أبو السودان.

وقيل في سبب دعوة نوح وسوادهم غير ذلك. وقد بينت ذلك في كتابي (إعلام الطراز المنقوش في فضائل الحبوش) والله أعلم. وقبر آدم وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف في بيت المقدس: أي بعد نقل يوسف من بحر النيل كما سنذكره.

قال: وقد جاء «إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم: أن ابن لي بيتا، فقال إبراهيم: أي رب أين أبنيه؟ فأوحى الله تعالى إليه أن اتبع السكينة: أي وهي ريح لها وجه كوجه الإنسان: أي وقيل كوجه الهر وجناحان، ولها لسان تتكلم به: أي وفي الكشاف في تفسير السكينة التي كانت في التابوت الذي هو صندوق التوراة، قيل هو صورة من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه».

وعن علي   «كان لها وجه كوجه الإنسان» هذا كلام الكشاف. وفي رواية «بعث الله ريحا يقال لها الخجوج لها جناحان، ورأس في صورة حية، فكشف لإبراهيم وإسماعيل ما حول البيت من أساس البيت الأول».

وفي رواية «أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس: يا إبراهيم إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس له: قد فعلت قال نعم، فارتفعت» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات وبينها وبين ما تقدم أن جبريل ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أس إلى آخره. وجاء «إن السكينة جعلت تسير ودليله الصرد» وهو الطائر المعروف: أي وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير وغيرها، لأن له صفيرا مختلفا يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته فيدعوه إلى القرب منه فإذا قرب منه قصمه من ساعته وأكله. ويقال له الصوام، لأنه ورد أنه أول طائر صام عاشوراء. فعن بعض الصحابة   «رآني رسول الله وعلى يدي صرد فقال: هذا أول طير صام عاشوراء» لكن قال الذهبي هو حديث منكر. وقال الحاكم: حديث باطل.

ويذكر أن خالد بن الوليد لما قتل طليحة الكذاب الذي ادعى النبوة في زمنه، وقوي أمره بعد موته قال خالد لبعض أصحابه ممن أسلم: ما كان يقول لكم طليحة من الوحي؟ فقال: كان يقول: والحمام واليمام، والصدر الصوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام. وقد سمع نبي الله سليمان   الصرد يصوّت فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبون.

وفي الكشاف أن ذلك صياح الهدهد، ولا مانع أن يكون ذلك صياحهما. وسمع طاوسا يصوت فقال: يقول كما تدين تدان. وسمع هدهدا يصوت فقال: يقول: من لا يرحم لا يرحم.

ويجمع بينه وبين ما تقدم بأنه يجوز أن الهدهد تارة يقول استغفروا الله يا مذنبون، وتارة يقول من لا يرحم لا يرحم. وسمع خطافا يصوت، فقال: يقول قدموا خيرا تجدوه. وسمع ديكا يصوت فقال: يقول: اذكروا الله يا غافلون. وسمع بلبلا يصوت فقال: يقول: إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة، فقال: إنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. وسمع رخمة تصوت فقال: تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وقال: الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغا تقول: ويل لمن الدنيا همه. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد عن الناس أنس.

وعن سيدنا سليمان صلوات الله وسلامه عليه: ليس من الطيور أنصح لبني آدم وأشفق عليهم من البومة، تقول إذا وقفت عند خربة: أين الذين كانوا يتنعمون بالدنيا، ويسعون فيها؟ ويل لبني آدم، وكيف ينامون وأمامهم الشدائد، تزودوا، يا غافلون، وتهيؤوا لسفركم.

وعن أنس بن مالك   قال: «خرجت مع رسول الله فرأينا طيرا أعمى يضرب بمنقاره على شجرة، فقال النبي : أتدري ما يقول: فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: إنه يقول: اللهم أنت العدل وقد حجبت عني بصري وقد جعت، فأقبلت جرادة فدخلت في فمه، ثم ضرب بمنقاره الشجرة، فقال  : أتدري ما يقول: قلت: لا، قال إنه يقول: من توكل على الله كفاه».

ويقال لما قال سليمان للهدهد، لأعذبنك عذابا شديدا، قال له الهدهد: اذكر يا نبي الله وقوفك بين يدي الله، فلما سمع سليمان صلوات الله وسلامه عليه ذلك ارتعد فرقا وعفا عنه: أي فإن الهدهد كان دليلا له على الماء، فإن الهدهد يرى الماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فلما فقد سليمان الماء تفقد الهدهد فلم يجده، فأرسل خلفه العقاب، فرآه الهدهد مقبلا من جهة اليمن، فلما رآه الهدهد منقضا عليه قال له بحق من أقدرك عليَّ إلا ما رحمتني.

قيل لابن عباس: يا سبحان الله! الهدهد يرى الماء تحت الأرض ولا يرى الفخ؟ فقال: إذا وقع القضاء عمي البصر. قيل عني سيدنا سليمان   بالعذاب الشديد الذي يعذبه به الهدهد التفرقة بينه وبين إلفه، وقيل إلزامه خدمة أقرانه، وقيل صحبة الأضداد وقد قيل: أضيق السجون عشرة الأضداد. وقيل الزوجة العجوز. قال تعالى حكاية عنه {علمنا منطق الطير}.

قال بعضهم: عبر عن أصواتها بالمنطق، لما يتخيل منها من المعاني التي تدرك من النطق، فسليمان صلوات الله وسلامه عليه مهما سمع من صوت طائر علم بقوته القدسية الغرض الذي أراده ذلك الطائر، وهذا في طائر لم يفصح بالعبارة، وإلا فقد يسمع من بعض الطيور الإفصاح بالعبارة. فنوع من الغربان يفصح بقوله: الله حق.

وعن بعضهم قال: شاهدت غرابا يقرأ سورة السجدة، وإذا وصل إلى محل السجود سجد وقال: سجد لك سوادي، وآمن بك فؤادي، والدرة تنطق بالعبارة الفصيحة.

وقد وقع لي أني دخلت منزلا لبعض أصحابنا وفيه درة لم أرها، فإذا هي تقول لي: مرحبا بالشيخ البكري وتكرر ذلك، فعجبت من فصاحة عبارتها.

وكان يعرف نطق الحيوان غير الطير، فقد جاء أن سليمان سمع النملة وقد أحست بصوت جنود سليمان، تقول للنمل {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} فعند ذلك أمر سليمان الريح فوقفت حتى دخل النمل مساكنها، ثم جاء سليمان إلى تلك النملة وقال لها: حذرت النمل ظلمي، قالت: أما سمعت قولي {وهم لا يشعرون} على أني لم أرد حطم النفوس أي إهلاكها، إنما أردت حطم القلوب خشية أن يشتغلن بالنظر إليك عن التسبيح: أي فيمتن.

فقد جاء مرفوعا «آجال البهائم كلها وخشاش الأرض في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها، قبض الله أرواحها» ويروى «ما من صيد يصاد ولا شجرة تقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى» وفي الحديث «الثوب يسبح، فإذا اتسخ انقطع تسبيحه» وفي رواية «إن النملة قالت له إنما خشيت أن تنظر إلى ما أنعم الله به عليك فتكفر نعم الله عليها، فقال لها: عظيني، قالت: هل تدري لم جعل ملكك في فص خاتمك؟ قال لا، قالت: أعلمك أن الدنيا لا تساوي قطعة من حجر».

ومن عجيب صنع الله تعالى أن النملة تغتذى بشم الطعام، لأنها لا جوف لها يكون به الطعام. ويذكر أن هذه النملة التي خاطبت سيدنا سليمان أهدت له نبقة فوضعتها في كفه.

ويحكى عنها لطيفة لا نطيل بذكرها. وفي فتاوى الجلال السيوطي. قال الثعالبي في زهرة الرياض: لما تولى سليمان   الملك جاءه جميع الحيوانات يهنئونه إلا نملة واحدة فجاءت تعزيه، فعاتبها النمل في ذلك، فقالت: كيف أهنيه وقد علمت أن الله تعالى إذا أحب عبدا زوى عنه الدنيا وحبب إليه الآخرة. وقد شغل سليمان بأمر لا يدرى ما عاقبته، فهو بالتعزية أولى من التهنئة.

وجاء في بعض الأيام شراب من الجنة، فقيل له: إن شربته لم تمت، فشاور جنده، فكل أشار بشربه إلا القنفذ فإنه قال له: لا تشربه، فإن الموت في عز خير من البقاء في سجن الدنيا، قال صدقت، فأراق الشراب في البحر.

قال: وصار إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما يتبعان الصرد حتى وصلا إلى محل البيت صارت السكينة سحابة، وقالت: يا إبراهيم خذ قدر ظلي فابن عليه: أي وفي لفظ «لما أمر إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعا فأرسل إليه السكينة وهي ريح خجوج ملتوية في هبوبها لها رأس» الحديث فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام فأبرزا أي الحفر عن أس ثابت في الأرض. فبنى إبراهيم وإسماعيل يناول الحجارة: أي التي تأتي بها الملائكة، كما سيأتي حتى ارتفع البناء اهـ.

أقول: يحتمل أن إبراهيم  ، لما أوحى الله إليه بذلك كان في مكة عند إسمعيل وإنهما كانا بمحل بعيد عن محل البيت. ويحتمل أنهما كانا بغيرها ثم جاءا.

وقد قيل في قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله} الآية: أي قائما مقام الأمة لانفراده بعبادة الله تعالى في أرضه، لأنه لم يمكن على وجه الأرض من يعبد الله سواه، والله أعلم.

قال: ثم لما ارتفع البناء جاء المقام أي وهو الحجر المعروف، فقام عليه وهو يبني وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وصار كلما ارتفع البناء ارتفع به المقام في الهواء، فأثر قدم إبراهيم في ذلك الحجر. وقيل إنما أثر في صخرة اعتمد عليها وهو قائم حين غسلت زوجة إسماعيل له رأسه، لأن سارة كانت أخذت عليه عهدا حين استأذنها في الذهاب إلى مكة لينظر كيف حال إسماعيل وهاجر، فحلف لها إنه لا ينزل عن دابته: أي التي هي البراق ولا يزيد على السلام واستطلاع الحال، غيرة من سارة عليه من هاجر، فحين اعتمد على الصخرة ألقى الله تعالى فيها أثر قدمه آية، وفيه كيف يعتمد بقدمه على الصخرة وهو راكب دابته؟ إلا أن يقال لما مال بشقه اعتمد عليها بإحدى رجليه مع ركوبه، وهذا يدل على أن الموجود في المقام أثر قدمه لا قدميه، ووقوفه عليه في حال البناء يدل على أن الموجود فيه أثر قدميه فلينظر، وجعل ارتفاع البيت تسعة أذرع، قيل وعرضه ثلاثين ذراعا. قال بعضهم: وهو خلاف المعروف، ولم يجعل له سقفا ولا بناه بمدر، وإنما رصه رصا وجعل له بابا: أي منفذا لاصقا بالأرض، غير مرتفع عنها، ولم ينصب عليه بابا: أي يقفل، وإنما جعله تبع الحميري بعد ذلك، وحفر له بئرا داخله عند بابه: أي على يمين الداخل منه يلقى فيها ما يهدى إليه، وكان يقال لها خزانة الكعبة كما تقدم.

ولما أراد أن يجعل حجرا يجعله علما للناس: أي يبتدئون الطواف منه ويختمون به، ذهب إسماعيل   إلى الوادي يطلب حجرا، فنزل جبريل   بالحجر الأسود يتلألأ نورا: أي فكان نوره يضيء إلى منتهى أبواب الحرم من كل ناحية. وفي الكشاف: إنه اسودّ لما لمسته الحيض في الجاهلية، وتقدم أنه اسودّ من مسح آدم به دموعه. وجاء «إن خطايا بني آدم سودته» وأما شدة سواده فبسبب إصابة الحريق له أولا في زمن قريش، وثانيا في زمن عبدالله بن الزبير، وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض زمن نوح، بناء على أنه كان موجودا في تلك الخيمة كما تقدم. وفي رواية: إن إبراهيم عليه الصلاة لما قال لإسماعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا، قال: يا أبتي إني كسلان لغب أي تعب، قال: عليّ بذلك، فانطلق يأتيه بحجر، فجاءه جبريل بالحجر من الهند وهو الحجر الذي خرج به آدم من الجنة: أي كما تقدم فوضعه إبراهيم موضعه، وقيل وضعه جبريل وبنى عليه إبراهيم، وجاء إسماعيل بحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع ذلك الحجر: أي أو بنى عليه فقال: من أين هذا الحجر؟ من جاءك به؟ قال إبراهيم  : من لا يكلني إليك ولا إلى حجرك: أي وفي لفظ «جاءني به من هو أنشط منك» وفي لفظ «إن إسماعيل جاءه بحجر من الجبل، قال: غير هذا، فرده مرارا لا يرضى ما يأتيه به» وجاء «إن الله تعالى استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح  ، وقال: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له: أي فلما انتهى إبراهيم   لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم، فقال: يا إبراهيم هذا الركن فجاء فحفر عنه فجعله في البيت» وقيل تمحض أبو قبيس فانشق عنه.

أقول: وفي لفظ قال: «يا إبراهيم يا خليل الرحمن إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من يواقيت الجنة » ومن ثم كان أبو قبيس يسمى في الجاهلية الأمين لحفظه ما استودع، ويسمى أبا قبيس باسم رجل من جرهم اسمه قبيس هلك فيه. وقيل باسم رجل من مذحج بنى فيه يقال له أبو قبيس. وقيل لأنه اقتبس منه الحجر الأسود فسمي بذلك، ويحتاج إلى الجمع بين ما ذكر على تقدير صحته، وما ذكر في ترجمة إلياس أحد أجداده أنه أول من وضع الركن: أي الحجر الأسود حين غرق البيت وانهدم زمن نوح، فكان أول من سقط عليه: أي أول من علم به، فوضعه في زاوية البيت فليتأمل ذلك، والله أعلم: أي وعن عبد الله بن عمر   أنه قال عند المقام: أشهد بالله يكررها لسمعت رسول الله يقول: «الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا أن نورهما طمس لأضاء ما بين المشرق والمغرب» أي من نورهما، ولعل طمس نور الحجر كان سببه ما تقدم فلا مخالفة.

وجاء «إنهما يقفان يوم القيامة وهما في العظم مثل أبي قبيس، يشهدان لمن وافاهما بالوفاء» وعن ابن عباس   «لولا ما مسهما من أهل الشرك، ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى».

وعن جعفر الصادق  : لما خلق الله الخلق، قال لبني آدم: ألست بربكم؟ قالوا بلى، فكتب القلم إقرارهم، ثم ألقم ذلك الكتاب الحجر، فهذا الاستلام له إنما هو بيعة على إقرارهم الذي كانوا أقروا به. قال  : وكان أبي عليّ يقول: إذا استلم الحجر يقول: اللهم أمانتي أديتها، وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء. وفي كلام السهيلي «إن العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين مسح ظهره أن لا يشركوا به شيئا كتبه في صك وألقمه الحجر الأسود، ولذلك يقول المستلم اللهم إيمانا بك، ووفاء بعدك» وقد جاء «الحجر الأسود يمين الله في الأرض».

قال الإمام ابن فورك: وكان ذلك سببا لاشتغالي بعلم الكلام، فإني لما سمعت ذلك سألت فقيها كنت أختلف إليه عن معناه فلم يحر جوابا، فقيل لي: سل عن ذلك فلانا من المتكلمين، فسألته فأجاب بجواب شافٍ، فقلت لا بد لي من معرفة هذا العلم، فاشتغلت به، وهذا الذي قاله السهيلي يروي عن علي بن أبي طالب  .

فعن سيدنا عمر   «أنه لما دخل المطاف قام عند الحجر وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك. فقال له عليّ  : بلى يا أمير المؤمنين، هو يضر وينفع. قال ولم؟ قلت: ذاك بكتاب الله، قال: وأين ذلك من كتاب الله؟ قلت: قال الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} الآية. وكتب ذلك في رق، وكان هذا الحجر له عينان ولسان، فقال له افتح فاك فألقمه ذلك الرق، وجعله في هذا الموضع، فقال: تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، فقال عمر  : أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن».

وعن قتادة قال: ذكر لنا أن إبراهيم   بني البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتاء ولبنان والجوديّ وحراء.

وذكر لنا أن قواعده من حراء التي وضعها آدم مع الملائكة.

أقول: تقدم أن تلك القواعد كانت من جبل لبنان، ومن طور سيناء، ومن طور زيتا، ومن الجودي، ومن حراء، إلا أن يقال يجوز أن يكون معظم ذلك كان من حراء فليتأمل.

وذكر بعضهم أنه كان له ركنان، وهما اليمانيان: أي لم يجعل له إبراهيم   إلا الركنين المذكورين، فجعلت له قريش حين بنته أربعة أركان.

وذكر الحافظ ابن حجر أن ذا القرنين الأول وهو المذكور في القرآن في قصة موسى   وهو إسكندر الرومي، قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام يبنيان الكعبة فاستفهمهما عن ذلك، فقالا: نحن عبدان مأموران، فقال لهما: من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش شهدت: أي قلن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران بالبناء، فقال: رضيت وسلمت وقال لهما صدقتما.

وعن ابن عباس  : لما كان إبراهيم   بمكة وأقبل ذو القرنين: عليهما فلما كان بالأبطح قيل له: في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن. فقال ذو القرنين: ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن، فنزل ذو القرنين ومشى إلى إبراهيم  ، فسلم عليه إبراهيم واعتنقه، فكان هو أول من عانق عند السلام.

قال الفاكهي: وأظن أن الأكبش المذكورة: أي التي شهدت أحجارا، ويحتمل أن تكون غنما.

ووصف ذي القرنين بالأكبر احترازا من ذي القرنين الأصغر وهو الإسكندر اليوناني فإنه كان قريبا من زمن عيسى  ، وبين عيسى وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام أكثر من ألفي سنة وكان كافرا والله أعلم.

وعن ابن عباس  : لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال: يا رب قد فرغت، قال: أذن في الناس بالحج، قال: أي رب ومن يبلغ صوتي؟ قال الله جل ثناؤه: أذن وعليّ البلاغ، قال: أي رب كيف أقول؟ قال قل: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم  ، فوقف على المقام وارتفع به حتى كان أطول الجبال، فنادى وأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه شرقا وغربا ينادي بذلك ثلاث مرات: أي وزويت الأرض له يومئذ سهلها وجبلها وبحرها وبرها وإنسها وجنها حتى أسمعهم جميعا فقالوا؟ لبيك اللهم لبيك، وبدأ بشق اليمن، وحينئذ يكون أول من أجاب أهل اليمن، وسيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات.

وعن ابن عباس  : كان أهل اليمن أكثر إجابة ومن ثم جاء في الحديث «الإيمان يمان» وقال في حق أهل اليمن «يريد أقوام أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم».

وروى الطبراني بإسناده عن علي   قال: قال رسول الله: «من أحب أهل اليمن فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني».

ومما يؤثر عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقد ذكر في تفسير قوله تعالى: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم} هو نداء إبراهيم على المقام بما ذكر.

وقيل له البيت العتيق لأنه أعتق من الجبابرة لم يدعه: أي بحيث ينسب إليه جبار من الجبابرة الذين كانوا بمكة مع العمالقة وجرهم.

وقال القاضي تبعا للكشاف: لأنه أعتق من تسلط الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى. قال: وأما الحجاج فإنما كان قصده إخراج ابن الزبير عنه لما تحصن به دون التسلط عليه كذا قال.

قال بعضهم: وعن عبد الله بن عمر أنه قال: إنما سميت بكة أي بالموحدة، لأنها كانت تبك أعناق الجبابرة، ولينظر من قصده ليهدمه من الجبابرة غير أبرهة.

ثم رأيت في المشرف أن ثلاثة غيره قصدوا هدمه: اثنان قاتلتهما خزاعة ومنعتهما، والثالث كان في أول زمان قريش، أراد هدمه حسدا على شرف الذكر لقريش به وأن يبني عنده بيتا يصرف حجاج العرب إليه، فلما قارب مكة أظلمت الأرض وأيقن بالهلاك، فأقلع عن تلك النية ونوى أن يكسو البيت وينحر عنده، فانجلت الظلمة ففعل ذلك.

وفيه أن هذا الذي حصلت له الظلمة إنما هو تبع الأول، فإنه لما عمد إلى البيت يريد تخريبه، أرسلت عليه ريح كتعت منه يديه ورجليه، وأصابته وقومه ظلمة شديدة. وفي رواية أصابه داء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا: أي يثج ثجا حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه، فدعا بالأطباء فسألهم عن دائه فهالهم ما رأوا منه ولم يجد عندهم فرجا، فعند ذلك قال له الحبر: لعلك هممت بشيء في حق هذا البيت؟ فقال: نعم، أردت هدمه فقال له تب إلى الله مما نويت فإنه بيت الله وحرمه، وأمره بتعظيم حرمته ففعل فبرىء من دائه.

وقيل لأنه أول بيت وضع في الأرض، وقيل لأنه أعتق من الغرق بسبب الطوفان في زمن نوح  ، كذا في الكشاف وغيره. وفيه نظر ظاهر، لما تقدم من دثوره بالطوفان، ولما ذكر في قصة نوح أنه لما بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض، فوقفت بوادي الحرم. فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها، إلا أن يقال إن معنى أعتق أنه لم يذهب بالمرة، بل بقي أثره.

وفي الخميس عن ابن هشام أن ماء الطوفان لم يصل للكعبة، ولكن قام حولها، وبقيت هي في هواء السماء: أي بناء على الكعبة هي الخيمة التي كانت على زمن آدم  . وتقدم عن الكشاف أنها رفعت إلى السماء الرابعة، وأنها البيت المعمور. وهذا كما علمت يدل على أن المراد بالكعبة الخيمة التي كانت لآدم، وقوله قام حولها يريد أنه لم يعل محل تلك الخيمة، ولعله لا ينافيه ما تقدم في قصة نوح فليتأمل.

وفي رواية: أن إبراهيم   نادى: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج» وفي لفظ «إن ربكم قد اتخذ بيتا وطلب منكم أن تحجوه فأجيبوا ربكم كرر ذلك ثلاث مرات، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من كان سبق فيعلم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك، فليس حاج يحج إلى أن تقوم الساعة إلا ممن كان أجاب إبراهيم  ، ومن لبى تلبية واحدة حج حجة واحدة ومن لبى مرتين حج حجتين وهكذا» وفي لفظ «لما نادى إبراهيم   فما خلق الله من جبل ولا شجر ولا شيء من المطيعين له إلا أجاب: لبيك اللهم لبيك».

أقول: لا يخفى أنه يحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات فيما نادى به إبراهيم  ، وسيأتي. ومعلوم أن إجابة غير العقلاء إجابة إجلال وتعظيم، ولعل المراد بالكتب مطلق الطلب لا خصوص الوجوب، لأنه لم يفرض الحج على هذه الأمة إلا بعد الهجرة في السنة السادسة، وقيل التاسعة، وقيل العاشرة كما سيأتي. وأما بقية الأمم من بعد إبراهيم فلم أقف على وجوب الحج عليها.

وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا أن الصحيح أنه لم يجب الحج إلا على هذه الأمة واستغرب. وفي الخصائص الصغرى: وافترض عليهم أي على هذه الأمة ما افترض على الأنبياء والرسل وهو الوضوء والغسل من الجنابة والحج والجهاد، وهو يفيد أنه كان واجبا على الأنبياء والرسل. وفيه أن الأصل أن ما وجب في حق نبي وجب في حق أمته إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية، وقوله وهو الوضوء سيأتي ما في الوضوء والله أعلم: أي ثم أمر بالمقام فوضعه قبله: أي ملصقا بالبيت على يمين الداخل، فكان يصلي إليه مستقبل الباب: أي جهته، وأول من أخره عن ذلك المحل ووضعه موضعه الآن عمر بن الخطاب  : أي وقد تقدم ذلك عن ابن كثير.

أقول: وقيل إن أول من وضعه موضعه الآن النبي في فتح مكة. وسيأتي الجمع بين هذين القولين ويأتي ما فيه.

وذكر الطبري أن محله أولا المنخفض: أي الذي تسميه العامة المعجنة: أي محل عجن الطين للكعبة، وذلك المنخفض هو محل صلاة جبريل به الصلوات الخمس في اليومين كما سيأتي.

ونازع في ذلك العز بن جماعة، وقال: لو كان ذلك لشهر عليه بالكتابة في الحفرة. وردّ بأن ذلك ليس بلازم والناقل ثقة، وهو حجة على من لم ينقل.

وذكر ابن حجر الهيتمي أن في رواية أخرى عن ابن عباس   أن إبراهيم   صعد أبا قبيس، وقيل صعد ثبيرا وأذن، وأن أول من أجابه أهل اليمن: أي لما تقدم أنه بدأ بشق اليمن. ولا مانع من تعدد ذلك: أي وقوفه على تلك الأماكن التي هي المقام وأبو قبيس وثبير. ويجوز أن يكون قال في بعض تلك الأماكن ما لم يقله في غيره مما تقدم، فلا مخالفة بين تلك الروايات فيما نادى به إبراهيم  . وجاء إنه لما فرغ دعائه ذهب به جبريل، فأراه الصفا والمروة وحدود الحرم، وأمره أن ينصب عليها الحجارة، ففعل وعلمه المناسك: أي مع إسماعيل عليهما الصلاة والسلام.

ففي العرائس: خرج جبريل بهما يوم التروية إلى منى، فصلى بهما الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم باتا بها حتى أصبحا، فصلى بهما صلاة الصبح، ثم غدا بهما إلى عرفة، فقام بهما هناك حتى زالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر، ثم رجع بهما إلى الموقف من عرفة، فوقف بهما على الموقف الذي يقف عليه الناس الآن، فلما غربت الشمس دفع بهما إلى مزدلفة، فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بهما حتى طلع الفجر، ثم صلى بهما صلاة الغداة، ثم وقف بهما على قزح حتى إذا أسفر أفاض بهما إلى منى، فأراهما كيف رمى الجمار، ثم أمرهما بالذبح، وأراهما المنحر من منى وأمرهما بالحلق، ثم أفاض بهما إلى البيت، فليتأمل ذلك فإن فيه التصريح بأن إبراهيم وإسماعيل صليا مع جبريل جماعة الصلوات الخمس، وجمعا تقديما بين الظهر والعصر، وتأخيرا بين المغرب والعشاء للنسك، وهو مخالف لقول أئمتنا لم تجمع الصلوات الخمس إلا لنبينا.

ففي الخصائص الصغرى: وخص بمجموع الصلوات الخمس، ولم تجتمع لأحد، وبالعشاء ولم يصلها أحد، وبالجماعة في الصلاة إلا أن يدعى أن المراد الجمع على جهة المداومة على ذلك لجواز أن يكون إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام لم يداوما على ذلك، وفيه ما لا يخفى.

وفي الوفاء عن وهب قال: أوحى الله تعالى إلى آدم   «أنا الله ذو بكة، أهلها جيرتي، وزوارها وفدي وفي كنفي، أعمره بأهل السماء وأهل الأرض، يأتونه أفواجا شعثا غبرا، يعجون بالتكبير عجا، ويرجّون بالتلبية ترجيجا، ويثجون بالكباء ثجا. فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارني وضافني ووفد إليّ ونزل بي، وحق لي أن أتحفه بكرامتي، أجعل ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده، وأقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه، وأعلمه مشاعره، ثم يعمره الأمم والقرون حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له محمد خاتم النبيين، وأجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته، فمن سأل عني يومئذ فأنا من الشعث الغبر، الموفين بنذورهم، المقبلين على ربهم».

ولما دعا إبراهيم   بقوله تعالى: {وارزقهم من الثمرات} أي دعا بذلك وهو على ثنية كداء بالمد. فعن ابن عباس   أن إبراهيم   حين قال: {فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات} كان على الثنية العليا ذكره السهيلي، وعند ذلك نقل له الطائف من فلسطين من أرض الشام: أي وببركة دعائه   يوجد بمكة الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، ذكره في الكشاف.

ثم لما فرغ: أي من بناء البيت وحج وطاف بالبيت لقيته الملائكة في الطواف فسلموا عليه، فقال لهم: ما تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول قبل أبيك آدم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فأعلمناه بذلك، فقال: زيدوا ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال إبراهيم  : زيدوا فيها العليّ العظيم. فقالت الملائكة ذلك.

وكان بناء إبراهيم للبيت بعد مضي من عمره مائة سنة، ثم بناه العماليق، ثم بنته جرهم، وقيل عكسه. وقد يتوقف في بناء العماليق له.

أما في الأول فلأن أول من نزل مكة مع هاجر وولدها إسماعيل جرهم، وإنهم بعد إسماعيل وبعض ولده كانوا ولاة البيت. وأما في الثاني، فلأن ولاية البيت كانت لخزاعة بعد جرهم كما تقدم، وكيف يبنون البيت ولا ولاية لهم عليه، إلا أن يقال: لا مانع أن يكونوا حينئذ أهل ثروة، بخلاف جرهم وخزاعة.

ثم رأيت عن ابن عباس   أن العماليق كانوا في عزّ وكانت لهم أموال كثيرة، وأن الله سلبهم ذلك لما تظاهروا بالمعاصي، وسلط عليهم الذر حتى خرجوا من الحرم، وتفرقوا وهلكوا، والذر في النمل كالزنبور في النحل.

وفي تاريخ مكة للفاكهي أن العماليق قدموا مكة لما قدم وفد عاد للاستسقاء بالبيت. وقيل كانوا بعرفة. ولما أخرج الله تعالى زمزم لإسماعيل بواسطة جبريل. ففي (ربيع الأبرار) أن جبريل أخرج ماء زمزم مرتين: مرة لآدم، ومرة لإسماعيل، وعند ذلك تحولوا إلى مكة. قال المقريزي: لما علموا بذلك. وقيل كانوا بعد جرهم، ولا يصح ذلك. ثم رأيت المقريزي قال: وفي كتاب أخبار مكة للفاكهي ما يدل على تقدم بناء جرهم على بناء العمالقة، ولا يصح ذلك لاتفاقهم على أن ولاية العمالقة على مكة كانت قبل ولاية جرهم، وعلى أنه لم يل مكة بعد جرهم إلا خزاعة.

ولا يخفى أن هذا صريح في أن العمالقة بنته ولا بد، وأن بناءهم له كان قبل بناء جرهم له، والعماليق من ولد عملاق أو عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح  . قيل وهو أول من كتب بالعربية، وقيل من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. ثم بناه قصي جده، وسقفه بخشب الروم وجريد النخل. ثم بنته قريش كما تقدم. ثم بناه بعد قريش عبد الله بن الزبير   أي ويكنى أبا خبيب، بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة، وكني بأبي خبيب لأن خبيبا كان رجلا بالمدينة من النساك، طويل الصلاة، قليل الكلام: أي وعبد الله   كان مشابها له في ذلك، فكني به.

هذا، وفي كلام ابن الجوزي أنه كان لعبد الله بن الزبير ولد يقال له خبيب حيث قال خبيب بن عبد الله بن الزبير ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط فمات، لأنه لما حدّث عن النبي أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا، وفي رواية ثلاثين رجلا، وفي رواية: إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا. وفي رواية إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا اتخذوا عباد الله تعالى خولا: أي عبيدا، ومال الله دولا، ودين الله دغلا. وفي رواية بدل دين الله كتاب الله. قال ابن كثير: وهذا الحديث أي ذكر بني أمية وذكر الأربعين منقطع. ولما بلغ الوليد ما ذكر خبيب كتب لابن عمه عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة أن يضرب خبيبا هذا مائة سوط ففعل، ثم برّد ماء في جرة وصبه أي في يوم شات عليه وحبسه، فلما اشتد وجعه أخرجه وندم على ما فعل. فلما مات وسمع بموته سقط إلى الأرض واسترجع، واستعفى من ولاية المدينة، فكان عمر بن عبد العزيز إذا قيل له أبشر، قال: كيف أبشر وخبيب على الطريق أي عائق لي.

وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال: كنت عند معاوية بن أبي سفيان ومعه ابن عباس على السرير، فدخل عليه مروان بن الحكم، فكلمه في حاجته وقال: اقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فوالله إن مؤنتي لعظيمة، فإني أبو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة، فلما أدبر مروان قال معاوية لابن عباس  : أشهدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله قال: «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله تعالى خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة؟ فقال ابن عباس: اللهم نعم» ثم ذكر مروان حاجة فردّ مروان ولده عبد الملك إلى معاوية فكلمه فيها، فلما أدبر عبد الملك قال معاوية: أنشدك الله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله ذكر هذا؟ فقال: أبو الجبابرة الأربعة، فقال ابن عباس: اللهم نعم، فإن أربعة من ولدة ولوا الخلافة، فليتأمل هذا فإنه ربما يدل على أن عبد الملك صحابي، إلا أن يقال ذكره قبل وجوده فهو من أعلام نبوته وفي كلام ابن كثير: هذا الحديث فيه غرابة ونكارة شديدة. هذا، وقد رأيت عن بعض حواشي الكشاف أن أعداء عبد الله بن الزبير   هم الذين كانوا يكنونه بأبي خبيب، لأن خبيبا كان من أخس أولاده، ويرده قول بعضهم: يغلب للشرف كالخبيبين لخبيب بن عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب.

وذكر ابن الجوزي أيضا فيمن ضرب بالسياط من العلماء سعيد بن المسيب، ضربه عبد الملك بن مروان مائة سوط، لأنه بعث ببيعة الوليد إلى المدينة فلم يبايع سعيد، فكتب أن يضرب مائة سوط ويصب عليه جرة ماء في يوم شات ويلبس جبة صوف ففعل به ذلك، أي كما فعل بخبيب.

ثم رأيت في تاريخ الحافظ ابن كثير لما عهد عبد الملك لولده الوليد في حياته وانتهت البيعة إلى المدينة امتنع سعيد بن المسيب أن يبايع، فضربه نائب المدينة ستين سوطا، وألبسه ثيابا من شعر، وأركبه جملا وطاف به في المدينة، ثم أودع السجن، فلما بلغ ذلك عبد الملك أرسل يعنف والي المدينة على ذلك ويأمره بإخراجه من الحبس، هذا كلامه.

وفي كلام البلاذري، وكان جابر بن الأسود عاملا لابن الزبير على المدينة وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا، إذ لم يبايع لابن الزبير، هذا كلامه. إلا أن يقال: لا مانع أن يكون سعيد فعل به الأمران لأن ولاية ابن الزبير سابقة على ولاية عبد الملك والد الوليد.

ثم رأيت الحافظ ابن كثير صرح بذلك حيث ذكر أن سعيد بن المسيب ضرب بالسياط المذكورة، وفعل به ما تقدم لما امتنع من المبايعة لابن الزبير، وفعل به ذلك أيضا لما امتنع من البيعة للوليد.

وفي طبقات الشيخ عبد الوهاب الشعراني   في ترجمة سعيد بن المسيب: وضربه عبد الملك بن مروان حيث امتنع من مبايعته، وألبسه المسوح، ونهى الناس عن مجالسته، فكان كل من جلس إليه يقول له: قم لا تجالسني فإنهم قد جلدوني ومنعوا الناس عن مجالستي هذا كلامه، إلا أن يقال، المراد امتنع من قبول مبايعة عبد الملك لولده الوليد فلا مخالفة، وإنما امتنع سعيد بن المسيب من المبايعة للوليد، لأنه روي عن النبي: «إنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد فهو شر لأمتي من فرعون لقومه» وفي رواية «هو أضر على أمتي من فرعون على قومه» زاد في رواية «يسد به ركن من أركان جهنم» وفي لفظ «زاوية من زوايا جهنم» فكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك. قال ابن كثير: وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، لا الوليد بن عبد الملك الذي هو عمه.

وكان سعيد بن المسيب أعبر الناس للرؤيا قال له رجل: رأيت كأني أبول في يدي، فقال: تحتك ذات محرم، فنظر فإذا بينه وبين امرأته رضاعة. وأخذ سعيد تعبير الرؤيا عن أسماء بنت أبي بكر وهي أخذت ذلك عن والدها أبي بكر  . وعن سعيد أخذ ابن سيرين ذلك.

وعن ابن سيرين: كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي، وكان يعبر الرؤيا في زمنه وفي حضرته. وعن الزهري «رأى رسول الله رؤيا فقصها على أبي بكر. فقال: رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف. قال: يا رسول الله يقبضك الله إلى مغفرة ورحمة، وأعيش بعدك سنتين ونصفا» فكان كما عبر فقد عاش بعده سنتين وسبعة أشهر وقال له: «رأيتني أردفت غنما سودا ثم أردفتها غنما بيضا حتى ما ترى السود فيها، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما الغنم السود فإن العرب يسلمون ويكثرون، والغنم البيض الأعاجم يسلمون حتى لا ترى العرب فيهم من كثرتهم. فقال رسول الله : كذلك عبرها الملك سحيرا».

وسبب بناء عبد الله بن الزبير للكعبة أن يزيد بن معاوية لما وجه الجيش عشرين ألف فارس وسبعة آلاف راجل وأميرهم مسلم بن قتيبة لقتال أهل المدينة، لما علم أنهم خرجوا عن طاعته: أي وأظهروا شتمه وأعلنوا بأنه ليس له دين، لأنه اشتهر عنه نكاح المحارم وإدمان شرب الخمر وترك الصلاة وأنه يلعب بالكلاب: أي فقد ذكر بعض ثقات المؤرخين أنه كان له قرد يحضره مجلس شرابه ويطرح له وسادة ويسقيه فضلة كأسه، واتخذ له أتانا وحشية قد ربضت له وصنع لها سرجا من ذهب يركب عليها ويسابق بها الخيل في بعض الأيام، وكان يلبس عليه قباء وقلنسوة من الحرير الأحمر.

وقد استفتى الكيا الهراسي من أكابر أئمتنا معاشر الشافعية، كان من رؤوس تلامذة إمام الحرمين نظير الغزالي عن يزيد هذا هل هو من الصحابة؟ وهل يجوز لعنه؟ فأجاب بأنه ليس من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب. وللإمام أحمد قولان: أي في لعنه تلويح وتصريح، وكذلك الإمام مالك وكذا لأبي حنيفة.

ولنا قول واحد التصريح دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك، وهو اللاعب بالنرد والمصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معلوم، هذا كلامه.

وسئل الغزالي هل من صرح بلعن يزيد يكون فاسقا؟ وهل يجوز الترحم عليه؟ فأجاب بأن من لعنه يكون فاسقا عاصيا، لأنه لا يجوز لعن المسلم، ولا يجوز لعن البهائم، فقد ورد النهي عن ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي، ويزيد صح إسلامه وما صح أمره بقتل الحسين ولا رضاه بقتله، وما لم يصح منه ذلك لا يجوز أن يظن به ذلك، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام، وإذا لم يعرف حقيقة الأمر وجب إحسان الظن به، ومع هذا فالقتل ليس بكفر بل هو معصية، وأما الترحم عليه فهو جائز بل هو مستحب، لأنه داخل في المؤمنين في قولنا في كل صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، هذا كلامه. وكان على ما أفتى به الكيا الهراسي من جواز التصريح بلعنه أستاذنا الأعظم الشيخ محمد البكري تبعا لوالده الأستاذ الشيخ أبي الحسن.

وقد رأيت في كلام بعض أتباع أستاذنا المذكور في حق يزيد ما لفظه: زاده الله خزيا وضعه، وفي أسفل سجين وضعه.

وفي كلام ابن الجوزي: أجاز العلماء الورعون لعنه، وصنف في إباحة لعنه مصنفا.

وقال السعد التفتازاني: إني لأشك في إسلامه، بل في إيمانه، فلعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه، وعلى هذا يكون مستثنى من عدم جواز لعن الكافر المعين بالشخص.

ولما خلعوا: أي أهل المدينة بيعة يزيد ولوا عليهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة وأخرجوا والي يزيد من المدينة وهو مروان بن الحكم وبني أمية حتى قال بعضهم: ما خرجنا عليه حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء، فكانت وقعة الحرة المشهورة التي كادت تبيد أهل المدينة عن آخرهم، قتل فيها الجم الكثير من الصحابة والتابعين. وقيل المقتول فيها من الصحابة ثلاثة: منهم عبد الله بن حنظلة، ونهبت المدينة، وافتض فيها ألف عذراء: أي ولم تقم الجماعة ولا الأذان في المسجد النبوي مدة المقاتلة وهي ثلاثة أيام.

وفي كلام بعضهم: ووقع من ذلك الجيش الذي وجهه يزيد للمدينة، من القتل، والفساد العظيم، والسبي، وإباحة المدينة، وقتل من الصحابة   ومن التابعين خلق كثيرون. وكانت عدة المقتولين من قريش والأنصار ثلثمائة وستة رجال، ومن قراء القرآن نحو سبعمائة نفس.

وفي التنوير لابن دحية: وقتل من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة، ومن حملة القرآن سبعمائة، وجالت الخيل في مسجد رسول الله، وراثت بين القبر الشريف والمنبر، واختفت أهل المدينة حتى دخلت الكلاب المسجد وبالت على منبره، ولم يرض أمير ذلك الجيش من أهل المدينة إلا بأن يبايعوه ليزيد على أنهم خول: أي عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، حتى قال له بعض أهل المدينة: البيعة على كتاب الله وسنة رسوله فضرب عنقه.

وروى البخاري «أن عبد الله بن عمر   لما أرجف أهل المدينة يزيد دعا بنيه ومواليه وقال لهم: إنا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله، وإنه والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدا من طاعته إلا كان التنصل بيني وبينه ثم لزم بيته» ولزم أبو سعيد الخدري   بيته أيضا، فدخل عليه جمع من الجيش بيته، فقالوا له: من أنت أيها الشيخ؟ فقال: أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله، فقالوا: سمعنا خبرك، ولنعم ما فعلت حين كففت يدك ولزمت بيتك، ولكن هات المال، فقال: قد أخذه الذين دخلوا قبلكم عليّ وما عندي شيء، فقالوا كذبت ونتفوا لحيته.

وأما جابر بن عبد الله  ، فخرج في يوم من تلك الأيام وهو أعمى يمشي في بعض أزقة المدينة، وصار يعثر في القتلى ويقول: تعس من أخاف رسول الله، فقال له قائل من الجيش: من أخاف رسول الله فقال: سمعت رسول الله يقول: «من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ، فحمل عليه جماعة من الجيش ليقتلوه، فأجاره منهم مروان وأدخله بيته».

قال السهيلي: وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار   ألف وسبعمائة، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.

فقد ذكر أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من الجيش وهي ترضع صبيها وقد أخذ ما وجده عندها، ثم قال لها، هات الذهب وإلا قتلتك وقتلت ولدك، فقالت له: ويحك إن قتلته فأبوه أبو كبشة صاحب رسول الله وأنا من النسوة اللاتي بايعن رسول الله، فأخذ الصبي من حجرها وثديها في فمه وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض، فما خرج من البيت حتى اسودّ نصف وجهه وصار مثلة في الناس.

قال السهيلي، وأحسب هذه المرأة جدة للصبي لا أما له، إذ يبعد في العادة أن تبايع امرأة وتكون يوم الحرة في سن من ترضع، أي ولدا صغيرا لها. ووقعة الحرة هذه من أعلام نبوّته.

ففي الحديث «أنه وقف بهذه الحرة وقال: ليقتلنّ بهذا المكان رجال هم خيار أمتي بعد أصحابي».

وعن عبد الله بن سلام   أنه قال: لقد وجدت قصة هذه الوقعة في كتاب يهوذا بن يعقوب الذي لم يدخله تبديل، وأنه يقتل فيها رجال صالحون، يجيئون يوم القيامة وسلاحهم على عواتقهم، وهذه الوقعة كانت سنة ثلاث وستين، ويقال كان يزيد أعذر أهل المدينة قبل هذه الوقعة فيما ذكروه، وبذل لهم من العطاء أضعاف ما يعطي الناس، رغبة في استمالتهم إلى الطاعة، وتحذيرهم من الخلاف، ولكن يأبى الله إلا ما أراد.

وفي التنوير أن الله ابتلى أمير هذا الجيش الذي هو مسلم بن قتيبة بعد ثلاثة أيام من أخذه البيعة بمرض صار ينبح منه كالكلب إلى أن مات، وولي أمر الجيش بعده الحصين بن نمير بأمر يزيد، فإنه وصى مسلم بن قتيبة لما ولاه إمرة الجيش وقال له: إذا أشرفت على الموت أي لأنه كان مريضا بالاستسقاء فولّ أمر الجيش للحصين، وهذا الذي وقع من يزيد فيه تصديق لقوله: «لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد».

وقد جاء عن سعيد بن المسيب  : لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله غيري، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان والإقامة من القبر الشريف.

ومما يؤثر عن سعيد بن المسيب: الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال، ومن استغنى بالله افتقر إليه الناس.

ومن جملة من خلع يزيد وقتل من الصحابة في تلك الوقعة مغفل بن سنان الأشجعي  . روى علقمة عن ابن مسعود   أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها مثل مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام مغفل بن سنان وقال: «قضى رسول الله في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت» ففرح ابن مسعود.

وسبب مقاتلة عبد الله بن الزبير  ، لأنه امتنع من المبايعة ليزيد أيضا هو والحسين   لما أرسل إليهما يطلب منهما المبايعة له، فامتنعا من ذلك وفرّا من المدينة إلى مكة.

ثم لما قتل الحسين  : أي لأن الحسين أرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه، فأراد الذهاب إليهم فناه ابن عباس  ، وبين له غدرهم، وقتلهم لأبيه، وخذلانهم لأخيه الحسن  . ونهاه ابن عمر وابن الزبير  ، فأبى إلا أن يذهب، فبكى ابن عباس   وقال: واحبيباه. وقال له ابن عمر: أستودعك الله من قتيل. وكان أخوه الحسن قال له: إياك وسفهاء الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك ويسلموك فتندم ولات حين مناص، وقد تذكر ذلك ليلة قتله، فترحم على أخيه الحسن، ولم يبق بمكة إلا من حزن على مسيره، وقدم أمامه إلى الكوفة مسلم بن عقيل، فبايعه من أهل الكوفة للحسين اثنا عشر ألفا، وقيل أكثر من ذلك. ولما شارف الكوفة جهز إليه أميرها من جانب يزيد وهو عبد الله بن زياد عشرين ألف مقاتل، وكان أكثرهم ممن بايع له لأجل السحت العاجل على الخير الآجل، فلما وصلوا إليه ورأى كثرة الجيش طلب منهم إحدى ثلاث، إما أن يرجع من حيث جاء، أو يذهب إلى بعض الثغور، أو يذهب إلى يزيد يفعل فيه ما أراد، فأبوا وطلبوا منه نزوله على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد فأبى، فقاتلوه إلى أن أثخنته الجراحة فسقط إلى الأرض، فحزوا رأسه وذلك يوم عاشوراء عام إحدى وستين، ووضع ذلك الرأس بين يدي عبد الله بن زياد، ولما جاء خبر قتل الحسين   قام ابن الزبير   في الناس يعظم قتل الحسين وجعل يظاهر بعيب يزيد، وبذكر شربه الخمر وغير ذلك، ويثبط الناس عن بيعته. ويذكر مساوىء بني أمية، ويطنب في ذلك. ولما بلغ يزيد ذلك أقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولا، فجاء إليه رجل من أهل الشام في خيل من خيل الشام، وتكلم مع ابن الزبير وعظم على ابن الزبير الفتنة وقال: لا يستحل الحرم بسببك، فإن يزيد غير تاركك ولا تقوى عليه، وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولا، وقد عملت لك غلا من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة، وأجمل بك وبه، فقال له: أنظر في أمري، ثم دخل على أمه أسماء   واستشارها فقالت: يا بني عش كريما ومت كريما ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك، فامتنع وصار يبايع الناس سرا، ثم أظهر المبايعة، فاجتمع عليه أهل الحجاز ولحق به من انهزم من وقعة الحرة، فلما جاء الجيش إلى مكة حاصر عبد الله وضرب بالمنجنيق، نصبه على أبي قبيس قيل وعلى الأقمر وهم أخشبا بمكة فأصاب الكعبة من ناره ما حرق ثيابها وسقفها فإن الكعبة كانت في زمن قريش مبنية، مدماك من خشب الساج، ومدماك من حجارة كما تقدم.

وذكر في الشرف أن الله تعالى بعث عليهم صاعقة بعد العصر، فأحرقت المنجنيق، وأحرقت تحته ثمانية عشر رجلا من أهل الشام، ثم عملوا منجنيقا آخر فنصبوه على أبي قبيس.

ويذكر أن النار لما أصابت الكعبة أتت بحيث يسمع أنينها كأنين المريض آه آه، وهذا من أعلام نبوته، فقد جاء إنذاره بتحريق الكعبة فعن ميمونة   زوج النبي قالت: قال رسول الله: «كيف أنتم إذا مرج الدين، فظهرت الرغبة والرهبة، وحرق البيت العتيق» وفي العرائس: إن أول يوم تكلم الناس في القدر ذلك اليوم، فقيل إحراق الكعبة من قدر الله، وقيل ليس من قدر الله، والمتكلم بذلك حينئذ قيل أبو معبد الجهني، وقيل أبو الأسود الدؤلي، وقيل غير ذلك.

وقوله أول يوم تكلم الناس في القدر، لعل المراد أول يوم اشتهر واستفيض فيه الكلام من الناس في القدر، فلا يخالف ما حكي أن شخصا قال لعلي   وهو بصفين: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا هذا؟ أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: نعم والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئا، ولا قطعنا واديا، ولا علونا شرفا إلا بقضائه وقدره.

والتكلم في القدر ليس من خصائص هذه الأمة، فقد تكلمت فيه الأمم قبلها، وفي الحديث «ما بعث الله نبيا إلا في أمته ذرية يشوشون عليه أمر أمته، ألا وإن الله تعالى قد لعن القدرية على لسان سبعين نبيا» وقد جاء في ذم القدرية زيادة على ما تقدم منها «القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» وجاء «اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية » وجاء «أخاف على أمتي التكذيب بالقدر».

وإنما كانت القدرية مجوس هذه الأمة، لأن طائفة من القدرية تقول يأتي الخير من الله والشر من العبد، وهؤلاء الطائفة أشبه بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن الخير من النور والشر من الظلمة وهم المانوية، وإنما كان القدر شعبة من النصرانية، لأن أكثر القدرية على أنه ليس من أفعال العبد من خير أو شر ناشئا عن إقدار الله تعالى له على ذلك، بل هو ناشيء عن قدرة العبد واختياره، فقد أثبتوا لله تعالى شريكا، كما أن النصارى أثبتوا الشريك لله تعالى، فهذه الفرقة من القدرية أشبهت النصارى، فكان القدر شعبة من النصرانية بهذا الاعتبار، وقد أوضحت ذلك في تعليقي المسمى بـ (المصباح المنير على الجامع الصغير) وفيه «أخر الكلام على القدر لشرار أمتي في آخر الزمان» فإن الحق إسناد الفعل إلى الله تعالى إيجادا وللعبد اكتسابا.

وقيل إن سبب بناء عبد الله بن الزبير   للكعبة أن امرأة بخرتها فطارت شرارة فعلقت بثيابها فحصل ذلك، ولا مانع من التعدد. وقد وقع أيضا احتراقها بتبخير المرأة في زمن قريش، ولا مانع من تعدد ذلك كما تقدم.

وعدّ بعضهم أن من البدع تجمير المسجد وأن مالكا كرهه. وقد روي أن مولى عمر بن الخطاب   كان يجمر المسجد النبوي إذا جلس عمر   على المنبر يخطب، ومع حرق الكعبة حرق قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل فإنهما كانا معلقين بالسقف.

أقول: ولعل تعليقهما في السقف كان بعد تعليقهما في الميزاب. فقد ذكر بعضهم جاء الإسلام ورأس الكبش معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، ويدل لتعليقهما في السقف ما جاء عن صفية بنت شيبة قالت لعثمان بن طلحة «لم دعاك النبي بعد خروجه من البيت؟ قال: قال لي رسول الله : إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا».

وذكر الجلال المحلي في قطعة التفسير أن الكبش المذكور هو الذي قرّبه هابيل جاء به جبريل، فذبحه السيد إبراهيم   مكبرا: أي وحينئذ تكون النار التي أنزلت في زمن هابيل لم تأكله، بل رفعته إلى السماء، وحينئذ يكون قول بعضهم: فنزلت النار فأكلته على التسمح، ويدل لما ذكر الجلال ما جاء أنه قال لجبريل  : «ما كان ذبح إبراهيم؟ أي مذبوحه، قال: الذي قرّب ابن آدم» قال بعضهم: وهذا الحديث لم يثبت. قيل ووصف بأنه عظيم، لأنه رعى في الجنة أربعين عاما، وقيل كان الكبش اختراعا اخترعه الله هناك في ذلك الوقت قال بعضهم: فقد فدى من الموت بصورة الموت وهذا كله بناء على أن الذي قرّبه هابيل كان كبشا. وقيل كان جملا سمينا، وعليه اقتصر القاضي. فلينظر الجمع على تقدير صحة كل، وانصدع الحجر من تلك النار من ثلاثة أماكن، وعند محاصرة الجيش لعبد الله جاء الخبر بموت يزيد.

ويقال إن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أن يعلم الجيش وهم أهل الشام، فنادى فيهم يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم يعني يزيد، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فعل، ومن أحب أن يرجع إلى شأنه فليفعل، فانفلّ الجيش، وبايع عبد الله بن الزبير جماعة بالخلافة، ودخلوا في طاعته ظاهرا.

ويقال إن أمير الجيش طلب من ابن الزبير أن يحدثه فخرج من الصفين حتى اختلفت رؤوس فرسيهما وجعل فرس أمير الجيش ينفر ويكفها فقال له ابن الزبير: ما لك؟ فقال: إن حمام الحرم تحت رجليها فأكره أن أطأ حمام الحرم، فقال تفعل هذا، وأنت تقتل المسلمين فقال له: تأذن لنا أن نطوف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم فطافوا، وقال له: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر يعني الخلافة فارحل معي إلى الشام، فوالله لا يختلف عليك اثنان، فلم يثق به ابن الزبير وأغلظ عليه القول، فكرّ راجعا وهو يقول: أعده بالملك وهو يعدني بالقتل. ومن ثم قيل: كان في ابن الزبير خلال لا تصلح معها الخلافة: منها سوء الخلق، وكثرة الخلاف. ودخل في طاعة ابن الزبير جميع أهل البلدان إلا الشام ومصر، فإن مروان بن الحكم تغلب عليهما بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية. فإن معاوية هذا مكث في الخلافة أربعين يوما، وقيل عشرين يوما بعد أن كان مروان عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق.

وقد كان ابن الزبير لما ولى أخاه نائبا عنه بالمدينة أمره بإجلاء بني أمية وفيهم مروان وابنه عبد الملك إلى الشام، فلما أراد مروان أن يبايع ابن الزبير بدمشق ثنى عزمه عن ذلك جماعة، وقالوا له: أنت شيخ قريش وسيدها، وقد فعل معكم ابن الزبير ما فعل فأنت أحق بهذا الأمر، فوافقهم ومكث تسعة أشهر في الخلافة وهو الرابع من خلفاء بني أمية. وقام بالأمر بعده ولده عبد الملك، وهو أول من سمي عبد الملك في الإسلام، ثم عهد عبد الملك لأولاده الأربعة من بعده: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام. وادعى عمرو بن سعيد أن مروان عهد إليه بعد ابنه عبد الملك، فضاق عبد الملك بذلك ذرعا، واستعجل أمر عمرو بدمشق، فلم يزل به عبد الملك حتى قتله.

وفي كلام ابن ظفر أن عبد الملك لما خرج لمقاتلة عبد الله بن الزبير خرج معه عمرو بن سعيد، وقد انطوى على دغل نية وفساد طوية وطماعيته في نقل الخلافة، فلما ساروا عن دمشق أياما تمارض عمرو بن سعيد واستأذن عبد الملك في العودة إلى دمشق، فأذن له، فلما عاد ودخل دمشق صعد المنبر وخطب خطبة نال فيها من عبد الملك، ودعا الناس إلى خلعه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، فاستولى على دمشق وحصن سورها، وبذل الرغائب، وبلغ ذلك عبد الملك وهو متوجه إلى ابن الزبير، فأشير على عبد الملك أن يرجع إلى دمشق ويترك ابن الزبير، لأن ابن الزبير لم يعطه طاعة ولا وثب له على مملكة، فهو في صورة ظالم له، وقصده لعمرو بن سعيد في صورة مظلوم، لأنه نكث بيعته وخان أمانته، وأفسد رعيته، فرجع إلى دمشق فظفر بعمرو بن سعيد.

ويقال إن سبب بناء عبد الله بن الزبير   للكعبة أنه جاء سيل فطبقها فكان عبد الله   يطوف سباحة: أي ولا مانع من وجود الأمرين الحرق والسيل، فلما رأى عبد الله ما وقع في الكعبة شاور من حضر ومن جملتهم عبد الله ابن عباس   في هدمها، فهابوا هدمها وقالوا: نرى أن يصلح ما وهى ولا تهدم، فقال: لو أن بيت أحدكم أحرق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح، ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها.

وقد حدثته خالته عائشة   عن رسول الله أنه قال لها: «ألم تري قومك يعني قريشا حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم   حين عجزت بهم النفقة، لولا حدثان قومك بالجاهلية ـ أي قرب عهدهم ـ بها» أي وفي لفظ «لولا الناس حديثو عهد بالجاهلية » أي قريب عهدهم بها. أي وفي لفظ «لولا الناس حديثو عهد بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائها لهدمتها وجعلت لها خلفا» أي بابا «من خلفها» أي وفي لفظ «لجعلت لها بابا يدخل منه وبابا بحياله يخرج الناس منه» وفي لفظ «وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وألصقت بابها بالأرض» أي كما كان عليه في زمن إبراهيم «ولأدخلت الحجر فيها» أي وفي رواية: «لأدخلت نحو ستة أذرع» وفي رواية «ستة أذرع وشيئا» وفي رواية «وشبرا» وفي رواية «قريبا من سبعة أذرع» فقد اضطربت الروايات في القدر الذي أخرجته قريش. وفي لفظ «لأدخلت فيها ما أخرج منها» وفي لفظ «لجعلتها على أساس إبراهيم وأزيد» أي بأن أزيد في الكعبة من الحجر: أي ذلك ما أخرجته قريش خشي أن تنكر قلوبهم هدم بنائهم الذي يعدونه من أكمل شرفهم، فربما حصل لهم الارتداد عن الإسلام.

وقد ذكر بعضهم أن كل من بنى الكعبة بعد إبراهيم   لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم، غير أن قريشا ضاقت بهم النفقة: أي الحلال الحديث، وهذا بناء على أن من بعد إبراهيم وقبل قريش بناها كلها وليس كذلك، بل الحاصل منهم إنما هو ترميم لها فقوله لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم ليس على ظاهره، بل المراد أنه أبقاها على ذلك.

قال: وعن ابن عباس   أنه قال لعبد الله: دع بناء وأحجارا أسلم عليها المسلمون وبعث عليها النبي : أي فإنه يوشك أن يأتي بعدك من يهدمها فلا يزال يهدم ويبني، فيتهاون الناس بحرمتها ولكن ارفعها: أي رمها فقال عبد الله: إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري، فلما مضى الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها، فتحاماها الناس وخشوا أن ينزل بأول الناس يقصدها أمر من السماء، حتى صعدها رجل فألقى منها حجارة فلم ير الناس أصابه شيء فتابعوه اهـ.

أي وقيل أول فاعل لذلك عبد الله بن الزبير نفسه   وخرج ناس كثير من مكة إلى منى ومنهم ابن عباس   فأقاموا بها ثلاثا مخافة أن يصيبهم عذاب شديد بسبب هدمها، وأمر ابن الزبير جماعة من الحبشة بهدمها رجاء أن يكون فيهم الذي أخبر به أنه يهدمها.

وفيه أن الذي أخبر النبي بأنه يهدمها ذكر صفته حيث قال: «كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجرا حجرا» وجاء في وصفه أنه مع كونه أفحج الساقين أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، ووصف أيضا «بأنه أصلع» وفي لفظ «أجلح» وهو من ذهب شعر مقدم رأسه، ووصف «بأنه أصعل» أي صغير الرأس/ «وبأنه أصمع» أي صغير الأذنين «معه أصحابه ينقضونها حجرا حجرا، ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر».

أي وقوله «ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر» لعله لم يثبت عند ابن الزبير وكذا تلك الأوصاف، وهدم الحبشة لها يكون بعد موت عيسى  ، ورفع القرآن من الصدور والمصاحف: أي وورد أن أول ما يرفع رؤيته في المنام والقرآن. وأول نعمة ترفع من الأرض العسل، وقيل يكون هدمها في زمن عيسى  .

وجمع بأنه يهدم بعضها في زمن عيسى  ، فإذا جاءهم الصريخ هربوا فإذا مات عيسى عادوا وكملوا هدمها.

فهدمها عبد الله إلى أن انتهى الهدم إلى القواعد: أي التي هي الأساس. قال وفي رواية: كشف له عن أساس إبراهيم   فوجده داخلا في الحجر ستة أذرع وشيئا، وأحجار ذلك الأساس كأنها أعناق الإبل، حجارة حمراء، آخذ بعضها في بعض مشبكة كتشبك الأصابع، وأصاب فيه قبر أم إسماعيل  ، وهذا ربما يدل على أنه لم يصب فيه قبر إسماعيل، وهو يؤيد القول بأن قبره في حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود، لا في الحجر كما ذكره الطبري، وأنه تحت البلاطة الخضراء التي بالحجر كما تقدم، فدعا عبد الله بن الزبير   خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم، وأشهدهم على ذلك الأساس، وأدخل عبد الله بن المطيع العدوي عتلة كانت بيده في ركن من أركان البيت فتزعزعت الأركان كلها، فارتج جوانب البيت، ورجفت مكة بأسرها رجفة شديدة وطارت منه برقة فلم يبق دار من دور مكة إلا دخلت فيها ففزعوا اهـ.

أقول: تقدم في بناء قريش أنهم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها ببعض وأن رجلا أدخل عتلته بين حجرين منها فحصل نحو ما ذكر.

ويقد يقال: لا مخالفة بين كون تلك الأحجار كانت خضراء وبين كونها حمراء، لأنه يجوز أن تكون حمرة تلك الأحجار ليست صافية، بل هي قريبة من السواد، ومن ثم وصفت: بأنها زرق كما تقدم والأسود يقال له أخضر، كما أن الأخضر غير الصافي يقال له أسود، والصافي يقال له أزرق والله أعلم.

وجعل عبد الله على تلك القواعد ستورا فطاف الناس بتلك الستور حتى بني عليها، وارتفع البناء وزاد في ارتفاعها على ما كانت عليه في بناء قريش تسعة أذرع، فكانت سبعا وعشرين ذراعا. زاد بعضهم وربع ذراع، وبناها على مقتضى ما حدثته به خالته عائشة  ، فأدخل فيه الحجر: أي لأنه يجوز أن يكون إدخال الحجر هو الذي سمعه من عائشة فعمل به دون غير ذلك من الروايات المتقدمة الدال على أن الحجر ليس من البيت، وإنما منه ستة أذرع وشبر أو قريب من سبعة أذرع.

وفيه أن هذا أي قوله فأدخل فيه الحجر هو الموافق لما تقدم من أن قريشا أخرجت منها الحجر، وهو واضح إن كان وجد الأساس خارجا عن جميع الحجر.

وأما إذا لم يكن خارجا عن جميع الحجر كيف يتعداه ولا يبني عليه اعتمادا على ما حدثته به خالته عائشة  . على أنه سيأتي عن نص حديث عائشة   أنه قال لها: «فإن بدا لقومك من بعد أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من ستة أذرع» فليتأمل، وجعل لها خلفا: أي بابا من خلفها وألصقه بالأس كالمقابل له.

قال: ولما ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود وكان في وقت الهدم وجد مصدعا بسبب الحريق كما تقدم، فشده بالفضة، ثم جعله في ديباجة، وأدخله في تابوت وأقفل عليه، وأدخله دار الندوة، فحين وصل البناء إلى محله أمر ابنه حمزة وشخصا آخر أن يحملاه ويضعاه محله وقال: إذا وضعتماه وفرغتما فكبرا حتى أسمعكما فأخفف صلاتي، فإنه صلى بالناس بالمسجد اغتناما لشغلهم عن وضعه لما أحس منهم بالتناقض في ذلك: أي أن كل واحد يريد أن يضعه وخاف الخلاف، فلما كبر تسامع الناس بذلك، فغضب جماعة من قريش حيث لم يحضرهم.

وكون الحجر وجد مصدعا بسبب الحريق، وكون ابن الزبير شده كذلك بالفضة لا ينافي ما وقع بعد ذلك من أن أبا سعيد كبير القرامطة وهم طائفة ملاحدة ظهروا بالكوفة سنة سبعين ومائتين، يزعمون أن لا غسل من الجنابة، وحل الخمر، وأنه لا صوم في السنة إلا يوم النيروز والمهرجان، ويزيدون في أذانهم، وأن محمد ابن الحنفية رسول الله وأن الحج والعمرة إلى بيت المقدس وافتتن بهم جماعة من الجهال وأهل البرازي، وقويت شوكتهم حتى انقطع الحج من بغداد بسببه وسبب ولده أبي طاهر، فإن ولده أبا طاهر بنى دارا بالكوفة وسماها دار الهجرة، وكثر فساده، واستيلاؤه على البلاد وقتله المسلمين وتمكنت هيبته من القلوب، وكثرت أتباعه، وذهب إليه جيش الخليفة المقتدر بالله السادس عشر من خلفاء بني العباس غير ما مرة وهو يهزمهم.

ثم إن المقتدر سير ركب الحاج إلى مكة فوافاهم أبو طاهر يوم التروية فقتل الحجيج بالمسجد الحرام وفي جوف الكعبة قتلا ذريعا، وألقى القتلى في بئر زمزم، وضرب الحجر الأسود بدبوسه فكسره، ثم اقتلعه وأخذه معه، وقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها وشققها بين أصحابه، وهدم قبة زمزم وارتحل عن مكة بعد أن أقام بها أحد عشر يوما ومعه الحجر الأسود، وبقي عند القرامطة أكثر من عشرين سنة: أي والناس يضعون أيديهم محله للتبرك، ودفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع، وهو الرابع والعشرون من خلفاء بني العباس، فأعيد الحجر إلى موضعه، وجعل له طوق فضة شدد زنته ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعون درهما ونصف.

قال بعضهم: تأملت الحجر وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط وسائره أبيض، وطوله قدر عظم الذراع.

وبعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة قام رجل من الملاحدة وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بدبوس فتشقق وجه الحجر من تلك الضربات، وتساقطت منه شظيات مثل الأظفار، وخرج مكسره أسمر يضرب إلى الصفرة محببا مثل حب الخشخاش فجمع بنو شيبة ذلك الفتات وعجنوه بالمسك واللك وحشوه في تلك الشقوق وطلوه بطلاء من ذلك، وجعل طول الباب أحد عشر ذراعا والباب الآخر بإزائه كذلك.

فلما فرغ من بنائها خلقها من داخلها وخارجها بالخلوق أي الطيب والزعفران، وكساها القباطيّ: أي وهي ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر.

وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة الديباج عبد الله بن الزبير.

وأقول: وبناء عبد الله للكعبة من جملة أعلام النبوة لأنه من الإخبار بالمغيبات. ففي نص حديث عائشة   «فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من ستة أذرع» وتقدم أن هذا يرد قول بعضهم: أن ابن الزبير أدخل في بنائه جميع الحجر.

قال بعضهم: وهذا منه تصريح بالإذن في أن يفعل ذلك بعده عند القدرة عليه والتمكن منه.

وقد قال المحب الطبري: وهذا الحديث يعني حديث عائشة   يدل تصريحا وتلويحا على جواز التغيير في البيت إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة.

قال الشهاب ابن حجر الهيتمي: ومن الواضح البين أن ما وهى وتشقق منها في حكم المنهدم أو المشرف على الانهدام فيجوز إصلاحه، بل يندب بل يجب هذا كلامه.

وفي شعبان سنة تسع وثلاثين وألف جاء سيل عظيم بعد صلاة العصر يوم الخميس لعشرين من الشهر المذكور هدم معظم الكعبة، سقط به الجدار الشامي بوجهيه، وانحدر معه في الجدار الشرقي إلى حد الباب، ومن الجدار الغربي من الوجهين نحو السدس، وهدم أكثر بيوت مكة، وأغرق في المسجد جملة من الناس خصوصا الأطفال، فإن الماء ارتفع إلى أن سد الأبواب.

وعند مجيء الخبر بذلك إلى مصر جمع متوليها الوزير محمد باشاه وهو الوزير الأعظم الآن: أي في سنة ثلاثة وأربعين وألف جمعا من العلماء كنت من جملتهم، ووقعت الإشارة بالمبادرة للعمارة، وقد جعلت للوزير المذكور في ذلك رسالة لطيفة وقعت منه موقعا كبيرا، وأعجب بها كثيرا، حتى أنه دفعها لمن عبر عنها باللغة التركية، وأرسل بها لحضرة مولانا السلطان مراد أعز الله أنصاره، وذكرت فيها أن الحق أن الكعبة لم تبن جميعها إلا ثلاث مرات المرة الأولى: بناء إبراهيم  . والثانية: بناء قريش، وكان بينهما ألفا سنة وسبعمائة سنة وخمس وسبعون سنة. والثالثة: بناء عبد الله بن الزبير: أي وكان بينهما نحو اثنتين وثمانين سنة: أي وأما بناء الملائكة وبناء آدم وبناء شيث لم يصح. وأما بناء جرهم والعمالقة وقصي فإنما كان ترميما. ولم تبن بعد هدمها جميعها إلا مرتين: مرة زمن قريش، ومرة زمن عبد الله بن الزبير  .

وحينئذ يكون ما جاء في الحديث «استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع، وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة » معناه قد يهدم مرتين ويرفع في الهدم الثالث من الدنيا.

وذكر الإمام البلقيني أن كون ابن الزبير أول من كسا الكعبة الديباج أشهر من القول بأن أول من كساها الديباج أم العباس بن عبد المطلب كما سيأتي. وجاز أن يكون عبد الله بن الزبير كساها أوّلا القباطي ثم كساها الديباج، والله أعلم. وكان كسوتها: أي في زمن الجاهلية المسوح والأنطاع، فإن أول من كساها تبع الحميري، كساها الأنطاع ثم كساها الثياب الحميرية: أي وفي رواية كساها الوصائل: وهي برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن.

وفي كلام الإمام البلقيني: ويروى أن تبعا اليماني لما كساها الخسف انتفضت فزال ذلك عنها فكساها المسوح والأنطاع فانتفضت، فزال ذلك عنها، فكساها الوصائل فقبلتها قال: والوصائل ثياب موصلة من ثياب اليمن.

وفي الكشاف: كان تبع الحميري مؤمنا، وكان قومه كافرين، ولذلك ذم الله قومه ولم يذمه.

وعن النبي: «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» وعنه   «ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي».

هذا: وقد نقل الشمس الحموي في كتابه (المناهج الزهية، والمباهج المرضية) عن ابن عباس   أنه كان نبيا. وقيل أول من كساها عدنان بن أدد، وكانت قريش تشترك في كسوة الكعبة حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة سنة وحدي. وجميع قريش سنة: أي وقيل كان يخرج نصف كسوة الكعبة في كل سنة، ففعل ذلك إلى أن مات فسمته قريش العدل، لأنه عدل قريشا وحده في كسوة الكعبة. ويقال لبنيه بنو العدل، وكانت كسوتها لا تنزع فكان كلما تجدد كسوة تجعل فوق، واستمر ذلك إلى زمنه، ثم كساها النبي الثياب اليمانية.

وفي كلام بعضهم: أول من كسا الكعبة القباطيّ النبي، وكساها أبو بكر وعمر وعثمان القباطي.

وكساها معاوية الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان، والاقتصار على ذلك ربما يفيد أن عطف الحبرات على القباطي من عطف التفسير، فليتأمل.

وكساها المأمون الديباج الأحمر والديباج الأبيض والقباطي، فكانت تكسى الأحمر يوم التروية، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان قال بعضهم: وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل العباسي، ثم في زمن الناصر العباسي كسيت السواد من الحرير، واستمر ذلك إلى الآن في كل سنة، وكسوتها من غلة قريتين يقال لهما بيسوس وسندبيس من قرى القاهرة، وقفهما على ذلك الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاون في سنة نيف وخمسين وسبعمائة: أي والآن زادت القرى على هاتين القريتين.

والحاصل أن أول من كساها على الإطلاق تبع الحميري كما تقدم على الراجح، وذلك قبل الإسلام بتسعمائة سنة.

قيل وسبب كسوة أم عمه لها الديباج أن العباس ضل وهو صبي فنذرت إن وجدته لتكسونّ الكعبة فوجدته، فكست الكعبة الديباج: أي وكانت من بيت مملكة.

وقيل أول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان: أي وهو المراد بقول ابن إسحاق أول من كساها الديباج الحجاج، لأن الحجاج كان من أمراء عبد الملك.

وقد سئل الإمام البلقيني هل تجوز كسوة الكعبة بالحرير المنسوج بالذهب، ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف؟ فأجاب بجواز ذلك. قال: لما فيه من التعظيم لكسوتها الفاخرة التي ترجى بكسوتها الخلع السنية في الدنيا والآخرة. ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف، فإن في ذلك المناسبة للحال المنيف، هذا كلامه.

أي وأول من حلى بابها بالذهب جده عبد المطلب، فإنه لما حفر بئر زمزم وجد فيها الأسياف والغزالتين من الذهب، فضرب الأسياف بابا لها، وجعل في ذلك الباب الغزالتين، فكان أول ذهب حليته الكعبة على ما تقدم.

وأول من ذهب الكعبة في الإسلام عبد الملك بن مروان. وقيل عبد الله بن الزبير جعل على أساطينها صفائح الذهب، وجعل مفاتيحها من الذهب، وجعل الوليد بن عبد الملك الذهب على الميزاب.

يقال إنه أرسل لعامله على مكة ستة وثلاثين ألف دينار يضرب منها على باب الكعبة وعلى الميزاب وعلى الأساطين التي داخلها وعلى أركانها من داخل.

وذكر أن الأمين بن هارون الرشيد أرسل إلى عامله بمكة بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقطع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها ذلك، وجعل مساميرها وحلقتي الباب والعتب من الذهب وإن أمّ المقتدر الخليفة العباسي أمرت غلامها لؤلؤا أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا ففعل.

وقال عبد الله بن الزبير لما فرغ من بنائها: من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، فإن لم يقدر فشاة، ومن لم يقدر فليتصدق بما تيسر وأخرج مائة بدنة، فلما طاف استلم الأركان الأربعة جميعا، فلم تزل الكعبة على بناء عبد الله بن الزبير تستلم أركانها الأربعة: أي لأنها على قواعد إبراهيم  ، ويدخل إليها من باب ويخرج من باب، حتى قتل: أي قتله شخص من جيش الحجاج بحجر رماه به فوقع بين عينيه فقتل وهو بالمسجد، لأن الحجاج كان أميرا على الجيش الذي أرسله عبد الملك بن مروان لقتاله.

وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: أن اهدم ما زاده ابن الزبير فيها، أي يهدم البناء الذي جعله على آخر الزيادة التي أدخلها في الكعبة، وكانت قريش أخرجتها بدليل قوله وردها إلى ما كانت عليه، وسد الباب الذي فتح: أي وأن يرفع الباب الأصلي إلى ما كان عليه زمن قريش، واترك سائرها: أي لأنه اعتقد أن ابن الزبير فعل ذلك من تلقاء نفسه: فكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بأن عبد الله بن الزبير وضع البناء على أسّ قد نظر إليه العدول من أهل مكة: أي وهم خمسون رجلا من وجوه الناس وأشرافهم كما تقدم. فكتب إليه عبد الملك: لسنا من تخبيط ابن الزبير في شيء، فنقض الحجاج ما أدخل من الحجر وسد الباب الثاني، أي الذي في ظهر الكعبة عند الركن اليماني، ونقص من الباب الأول خمسة أذرع: أي ورفعه إلى ما كان عليه في زمن قريش، فبنى تحته أربعة أذرع وشبرا، وبنى داخلها الدرجة الموجودة اليوم.

وفي لفظ أن الحجاج لما ظفر بابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس فيها وأحدث فيها بابا آخر، واستأذن في ردّ ذلك على ما كانت عليه في الجاهلية. فكتب إليه عبد الملك أن يسد بابها الغربي ويهدم ما زاد فيها من الحجر، ففعل ذلك الحجاج، فسائرها قبل وقوع هذا الهدم بالسيل الواقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف، وبنيانه على بنيان ابن الزبير إلا الحجاب الذي يلي الحجر، فإنه من بنيان الحجاج: أي والبناء الذي تحت العتبة وهو أربعة أذرع وشبر، فإن باب الكعبة كان على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم   لاصقا بالأرض حتى رفعته قريش كما تقدم، وما سد به الباب الغربي والردم كان بالحجارة التي كانت داخل أرض الكعبة، أي التي وضعها عبد الله بن الزبير: أي ولعله إنما وضع في ذلك المحل الحجارة التي تصلح للبناء، فلا ينافي ما أخبرني به بعض الثقات أن بعض بيوت مكة كان فيها بعض الحجارة التي أخرجت من الكعبة زمن عبد الله بن الزبير.

ويقال إن ذلك البيت الذي كان فيه تلك الحجارة كان بيتا لعبد الله بن الزبير  ، وبناء الحجاج كان في السنة التي قتل فيها عبد الله بن الزبير   وهي سنة ثلاث وسبعين.

قيل ولما دخل عبد الله بن الزبير   وهو محاصر، حاصره الحجاج خمسة أشهر وقيل سبعة أشهر وسبع عشرة ليلة على أمه أسماء   قبل قتله بعشرة أيام وهي شاكية: أي مريضة فقال لها: كيف تجدينك يا أمه؟ قالت: ما أجدني إلا شاكية، فقال لها: إن في الموت لراحة فقالت: لعلك تبغيه لي ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت، وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني. ولما كان اليوم الذي قتل فيه دخل عليها في المسجد، فقالت له: يا بنيّ لا تقبلنّ منهم حطة تخاف فيها على نفسك، الذي تخافه القتل، فوالله لضربة بالسيف في عزّ خير من ضربة سوط في ذلك.

ويقال إن الناس لا زالوا يتنقلون عن ابن الزبير إلى الحجاج لطلب الأمان وهو يؤمنهم، حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف حتى كان من جملة من خرج إليه حمزة وخبيب ابنا عبد الله بن الزبير وأخذ لأنفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما.

ودخل عبد الله على أمه فشكا إليها خذلان الناس له وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه فقد قتل أصحابك عليه، ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك كم خلودك في الدنيا، فدنا منها وقبل رأسها وقال: والله ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته.

وبعد أن قتل وصلب على الجذع فوق الثنية ومضت ثلاثة أيام جاءت أمه أسماء   تقاد، لأن بصرها كان قد كف حتى وقفت عليه، فدعت له طويلا ولم يقطر من عينها دمعة، وقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل، فقال لها الحجاج المنافق: رأيت كيف نصر الله الحق وأظهر أن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم.

وفي كلام سبط ابن الجوزي أن ابن الزبير لما قال لعثمان   وهو محاصر إن عندي نجائب أعددتها لك فهل لك أن تنجو إلى مكة فإنهم لا يستحلونك بها، قال له عثمان: سمعت رسول الله يقول: «يلحد رجل في الحرم من قريش أو بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم، فلن أكون أنا».

وفي وراية قال له، لا لأني سمعت رسول الله يقول: «يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد الله عليه مثل نصف أوزار الناس» هذا كلامه.

وعندي أن المراد بعبد الله الحجاج لا ابن الزبير. ولا مانع أن يكون الحجاج من قريش على أن الذي في الصواعق لابن حجر الهيتمي   أن القائل لعثمان ذلك المغيرة بن شعبة.

ولما سمعت سيدتنا أسماء   الحجاج يقول في ولدها المنافق، قالت له: كذبت، والله ما كان منافقا، ولكنه كان صوّاما قوّاما برا كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله وحنكه بيده، وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به، كان عاملا بكتاب الله، حافظا لحرم الله، يبغض أن يعصى الله  ، قال: انصرفي فإنك عجوز قد خرفت، قالت: والله ما خرفت ولقد سمعت رسول الله يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» أما الكذاب فقد رأيناه تعني المختار بن أبي عبيد الثقفي والي العراق، فإنه لما قتل الحسين   اتفق مع طائفة من الشيعة ممن كان خذل الحسين، ولما قتل ندموا على ذلك، فوافقوا المختار على مقاتلة من قتل الحسين من أهل الكوفة، فتوجهوا إليه وقتلوا جميع من قاتل الحسين وملكوا الكوفة وشكر الناس للمختار ذلك، ثم قالت: وأما المبير فأنت المبير.

ولما بلغ عبد الملك ما قاله الحجاج لأسماء كتب إليه يلومه على ذلك: أي ومن ثم أرسل إليها الحجاج، فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول وقال: إما أن تأتيني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك بقرونك، فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليّ من يسحبني بقروني فعند ذلك أخذ نعليه ومشى حتى دخل عليها، فقال: يا أمه إن أمير المؤمنين أوصاني بك، فهل لك من حاجة؟ فقالت: لست لك بأمّ ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكن انتظر حتى أحدثك ما سمعت من رسول الله، سمعت رسول الله يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت، فقال الحاج: مبير للمنافقين. ومن كذب المختار أنه ادعى النبوّة وأنه يأتيه الوحي ويسر ذلك لأحبابه.

وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال: كنت أقوم بالسيف على رأس المختار ابن أبي عبيد، فسمعته يوما يقول: قام جبريل عن هذه النمرقة، وفي رواية من على هذا الكرسي، فأردت أن أضرب عنقه، فتذكرت حديثا حدثته أن رسول الله قال: «إذا أمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة » فكففت عنه، ولعل هذا مستند ما نقل عن كتاب الإملاء لإمامنا الشافعي   من القول بأن المسلم يقتل بالمستأمن.

وقد كتب المختار للأحنف بن قيس وجماعته: وقد بلغني أنكم تسموني الكذاب وقد كذب الأنبياء من قبلي ولست بخير منهم.

وقد كان يقع منه أمور تشبه الكهانة، منها أنه لما جهز جيشا لقتال عبيد الله بن زياد المجهز لمقاتلة الحسين   كما تقدم قال لأصحابه في غد يأتي إليكم خبر النفير. وقتل ابن زياد فكان كما أخبر، وجيء برأس ابن زياد وألقيت بين يدي المختار وكان قتله يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين. ثم قتل المختار، وكان قتل المختار على يد مصعب بن الزبير، جيء برأس المختار بين يدي مصعب لما ولي العراق من جانب أخيه لأبيه عبد الله بن الزبير.

ومما يؤثر عن مصعب: العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين، ثم قتل مصعب وقطعت رأسه ووضعت بين يدي عبد الملك بن مروان.

وعن بعضهم أنه حدّث عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين دخلت القصر قصر الإمارة بالكوفة فإذا رأس الحسين على ترس بين يديه عبيد الله بن زياد وعبيد الله بن زياد على السرير. ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار والمختار على السرير. ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير ومصعب بن الزبير على السرير. ثم دخلت بعد ذلك بحين فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك وأنت على السرير، فقال عبد الملك لا أراك الله الخامسة ثم أمر بهدم ذلك القصر.

وعن إمامنا الشافعي   أن أبا الحجاج لما دخل بأم الحجاج واقعها، فنام فرأى قائلا يقول له في المنام: ما أسرع ما أنجبت بالمبير.

وفي كلام سبط ابن الجوزي أن أم الحجاج كانت قبل أبيه مع المغيرة بن شعبة فطلقها بسبب أنه دخل عليها يوما فوجدها تتخلل حين انقلبت من صلاة الصبح، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لقذرة، وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة، كنت فبنت، قالت: والله ما فرحنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنا، ولا هو شيء مما ظننت، ولكني استكت فأردت أن أتخلل من السواك، فندم المغيرة على طلاقها، فخرج فلقي يوسف بن أبي عقيل والد الحجاج، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلت عن سيدة نساء ثقيف وهي الفارعة، فتزوجها تنجب لك، فتزوجها فولدت له الحجاج.

وفي حياة الحيوان إنها كانت قبل أبي الحجاج عند أمية بن أبي الصلت، هذا كلامه.

وقد يقال لا مانع أنها تزوجت الثلاثة وإن تزوجها لأمية كان قبل المغيرة، وكونها سيدة نساء ثقيف يبعد القول بأنها المتمنية التي مر بها سيدنا عمر   وهي تنشد:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها الأبيات وأنه كان يعير بها فيقال له ابن المتمنية.

وفي مدة صلب عبد الله بن الزبير صارت أمه تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته. وذهب أخوه عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان يسأل في إنزاله عن الخشبة فأجابه وأنزله، قال غاسله: كنا لا نتناول عضوا من أعضائه إلا جاء معنا، فكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه، وقامت فصلت عليه أمه وماتت بعده بجمعة، ذكر ذلك في الاستيعاب، وقيل بعده بمائة يوم. قال الحافظ ابن كثير وهو المشهور. وبلغت من العمر مائة سنة، ولم يسقط لها سنّ، ولم ينكر لها عقل. وقتل مع ابن الزبير مائتان وأربعون رجلا، منهم من سال دمه في جوف الكعبة. وكان من جملة من قتل عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي. قتل يوم قتل ابن الزبير وقطع رأسه، وبعث الحجاج برأسه ورأس ابن الزبير إلى المدينة فنصبوهما وصاروا يقربون رأس عبد الله بن صفوان إلى رأس ابن الزبير كأنه يساره يلعبون بذلك، ثم بعثوا بهما إلى عبد الملك بن مروان.

ولما وضعت رأس عبد الله بن الزبير بين يدي عبد الملك سجد وقال: والله كان أحب الناس إليّ وأشدهم إليّ إلفا ومودة، ولكن الملك عقيم: أي فإن الرجل يقتل ابنه أو أخاه على الملك فإذا فعل ذلك انقطعت بينهما الرحم، وستأتي مدحة عبد الملك لعبد الله بن الزبير، وتوبيخ أمير الجيش الذي أرسله يزيد لمقاتلته.

وقد كان ابن الزبير قال لعبد الله بن صفوان: إني قد أقلتك بيعتي، فاذهب حيث شئت، فقال: إنما أقاتل عن ديني، وكان سيدا شريفا مطاعا حليما كريما قتل وهو متعلق بأستار الكعبة. وحينئذ يشكل كونه حرما آمنا.

ومما يدل لما تقدم من أن عبد الله بن الزبير كان عنده سوء خلق، ما حكي أنه جاء إليه شخص فقال له: إن الناس على باب عبد الله بن عباس   يطلبون العلم وإن الناس على باب أخيه عبيد الله يطلبون الطعام، فأحدهما يفقه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة، فدعا شخصا وقال له: انطلق إلى ابني العباس   وقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين اخرجا عني وإلا فعلت وفعلت، فخرجا إلى الطائف: أي وقيل ما خرج عبد الله من مكة إلى الطائف إلا لأن الله تعالى يقول: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}.

فقد قال الشيخ محيي الدين بن العربي: اعلم أن الله تعالى قد عفا عن جميع الخواطر التي لا تستقر عندنا إلا بمكة، لأن الشرع قد ورد أن الله يؤاخذ فيه من يرد فيه بإلحاد بظلم، وكان هذا سبب سكنى عبد الله بن عباس بالطائف احتياطا لنفسه، لأنه ليس في قدرة الإنسان أن يدفع عن قلبه الخواطر.

قال بعضهم: كان يقال من أراد الفقه والجمال والسخاء فليأت دار العباس، الجمال للفضل، والسخاء لعبيد الله، والفقه لعبد الله.

قال: ولما حج عبد الملك: أي وذلك في سنة خمس وسبعين قال له الحارث: أنا أشهد لابن الزبير بالحديث الذي سمعه من خالته عائشة   قال: أنت سمعته منها؟ قال نعم، فجعل ينكت، بالمثناة فوق، بقضيب كان في يده الأرض ساعة، ثم قال: وددت أني كنت تركته يعني ابن الزبير وما تحمل.

وفي رواية أن عبد الملك كتب إلى الحجاج وددت أنك تركت ابن الزبير وما تحمل وهذا هو الموافق لما في تاريخ الأزرقي أن الحرث وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة   ما كان يزعم أنه سمع منها في بناء الكعبة. قال الحرث: أنا سمعته منها، قال عبد الملك: أنت سمعته منها؟ الحديث وكون عائشة حدثت ابن الزبير بما ذكر لا ينافي ما في تاريخ ابن كثير عن بعضهم.

قال سمعت ابن الزبير   يقول: حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر   أن رسول الله قال لعائشة: «لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم  » الحديث، وفي رواية «أن عائشة   نذرت إن فتح الله مكة على رسول الله تصلي في البيت ركعتين، فلما فتحت مكة، أي وحج رسول الله حجة الوداع فسألت النبي أن يفتح لها باب الكعبة ليلا، فجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله وقال: يا رسول الله إنها لم تفتح ليلا قط، قال فلا تفتحها ثم أخذ رسول الله بيدها وأدخلها الحجر وقال: صلي ههنا، فإن الحطيم» أي الحجر «من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة » أي الحلال «فأخرجوه من البيت، ولولا حدثان قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة، وأظهرت قواعد الخليل، وأدخلت الحطيم في البيت وألصقت العتبة على الأرض، ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك» ولم يعش   ولم تتفرغ الخلفاء لذلك.

وبما ذكر يعلم ما في قول الأصل فهدمها: أي عبد الملك وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله.

وقد علمت أن الحجاج لم يبن إلا الحجاب الذي يليه الحجر، والبناء الذي تحت العتبة والدرجة التي في باطنها.

وأما التراب الذي جعل في باطنها، فيحتمل أن يكون هو التراب الذي أخرجه عبد الله بن الزبير استمر باقيا فأعاده الحجاج، ويحتمل أنه غيره، ولم أقف على بيان ذلك في كلام أحد.

والشاذروان الذي أخرجه عبد الله بن الزبير من عرض الأساس الذي بنته قريش لأجل مصلحة استمساك البناء وثباته.

ومن العجب ما حدث به بعضهم قال: كنت أميرا على الجيش الذي بعث به يزيد ابن معاوية إلى عبد الله بن الزبير بمكة، فدخلت مسجد المدينة، فجلست بجانب عبد الملك بن مروان، فقال لي عبد الملك: أنت أمير هذا الجيش؟ قلت نعم، قال ثكلتك أمك، أتدري إلى من تسير؟ تسير إلى أول مولود ولد في الإسلام: أي بالمدينة من أولاد المهاجرين، وإلى ابن حواري رسول الله، وإلى ابن ذات النطاقين يعني أسماء، وإلى من حنكه رسول الله، أما والله إن جئته نهارا وجدّته صائما، وإن جئته ليلا وجدته قائما، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله في النار جميعا، فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه.

وذكر بعضهم أن عبد الملك بن مروان لما رأى جيش يزيد متوجها إلى مكة قال: أعوذ بالله أيبعث الجيش إلى حرم الله، فضرب منكبه شخص كان يهوديا وأسلم وكان يقرأ الكتب وقال له: جيشك إليه أعظم.

ويقال إن هذا اليهودي مرّ على دار مروان والد عبد الملك هذا، فقال: ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار: أي لأن مروان كان سببا لقتل عثمان، وعبد الملك ابنه كان سببا لقتل عبد الله بن الزبير، ووقع من الوليد بن يزيد بن عبد الملك الأمور الفظيعة.

وسبب ولاية الحجاج على الجيش أنه قال لعبد الملك بن مروان: رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته فولني قتاله فولاه، فأرسله في جيش كثيف من أهل الشام، فحضر ابن الزبير ورمى الكعبة بالمنجنيق. ولما رمي به أرعدت السماء وأبرقت فخاف أهل الشام، فصاح الحجاج: هذه صواعق تهامة وأنا ابنها، ثم قام ورمى المنجنيق بنفسه فزاد ذلك، ولم تزل صاعقة تتبعها أخرى حتى قتلت اثني عشر رجلا فخاف أهل الشام زيادة.

قال بعضهم: ولا زال الحجاج يحضهم على الرمي بالمنجنيق، ولم تزل الكعبة ترمى بالمنجنيق حتى هدمت وحرقت أستارها حتى صارت كالفحم.

أي وفيه أنه لو كانت هدمت أو حرقت لأعيد بناؤها أو أصلحت بالترميم، ولو وقع ذلك لنقل، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، ولعل هذا اشتبه على بعض الرواة، ظن أن الذي وقع من جيش يزيد واقع من الحجاج.

فإن قيل هلا أهلك الله من نصب المنجنيق على الكعبة كما أهلك أبرهة؟ قلنا لأن من نصب المنجنيق لم يرد هدم الكعبة، بخلاف أبرهة كما تقدم. وفيه أنه قد يشكل كونه حرما آمنا.

وفي البخاري عن ابن عباس   أنه قال حين وقع بينه وبين ابن الزبير: أي وأمره بأن يخرج إلى الطائف ويهدده على ما تقدم، قلت أبوه الزبير، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وجده أبو بكر، وجدّته صفية. وفي رواية عنه أنه قال: أما أبوه فحواريّ رسول الله يريد الزبير، وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر، وأما أمه فذات النطاقين يريد أسماء، وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة، وأما عمته فزوج النبي يريد خديجة، وأما عمة النبي فجدته يريد صفية، ثم عفيف في الإسلام، وقارىء للقرآن.

ولما قتل عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فجمع الحجاج الناس وخطبهم وقال في خطبته: ألا إن ابن الزبير كان من أخيار هذه الأمة إلا أنه نازع الحق أهله، إن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة اذكروا الله يذكركم.

ومن أعلام نبوّته ما روي «أن عبد الله بن الزبير لما ولد نظر إليه رسول الله، فقال: هو هو، فلما سمعت بذلك أمه أمسكت عن إرضاعه، فقال لها النبي أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب وذئاب عليها ثياب، ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه».

وفي حياة الحيوان: العرب إذا أرادوا مدح الإنسان قالوا كبش، وإذا أرادوا ذمه قالوا تيس، ومن ثم قال في المحلل: «التيس المستعار».

ويقال إن الحجاج بعد قتل ابن الزبير ذهب إلى المدينة وعلى وجهه لثام، فرأى شيخا خارجا من المدينة فسأله عن حال أهل المدينة، فقال شرّ حال، قتل ابن حواري رسول الله، قال: من قتله؟ قال: الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله ورسله، من قليل المراقبة لله، فغضب الحجاج غضبا شديدا، ثم قال: أيها الشيخ أتعرف الحجاج إذا رأيته؟ قال نعم ولا عرّفه الله خيرا، ولا وقاه ضيرا، فكشف الحجاج اللثام عن وجهه وقال: ستعلم الآن إذا سال دمك الساعة، فلما تحقق الشيخ أنه الحجاج قال: إن هذا لهو العجب يا حجاج، أنا فلان أصرع من الجنون في كل يوم خمس مرات، فقال الحجاج: اذهب لا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه، وخلوص هذا من يد الحجاج من العجب، لأن إقدامه على القتل ومبادرته إليه أمر لم ينقل مثله عن أحد.

وكان يخبر عن نفسه ويقول: إن أكبر لذاته سفك الدماء. قال بعضهم: والأصل في ذلك أنه لما ولد لم يقبل ثديا فتصور لهم إبليس في صورة الحرث بن كلدة طبيب العرب، وقال: اذبحوا له تيسا أسود، وألعقوه من دمه، واطلوا به وجهه، ففعلوا به ذلك فقبل ثدي أمه.

وذكر أنه أتي إليه بامرأة من الخوارج، فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاما، فقال لها بعض أعوانه: يكلمك الأمير وأنت معرضة، فقالت: إني أستحيي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت. وقد أحصي الذي قتل بين يديه صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا.

ولما عزى سيدتنا أسماء عبد الله بن عمر  ، وأمرها بالصبر قالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل، وقد جاء أن هذه البغي أول من يدخل النار.

ويقال إن عبد الله بن الزبير قال لأمه يوم قتل: يا أمه إني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يعمد لإتيان منكر ولا عمل فاحشة.

وفي كون عبد الله بن عمر   تأخر موته عن ابن الزبير نظر، فقد قيل: إن عبد الله بن عمر مات قبل ابن الزبير بثلاثة أشهر. وسبب موته أن الحجاج سفه عليه، فقال له عبد الله: إنك سفيه مسلط فغيره ذلك عليه، فأمر الحجاج شخصا أن يسمّ زجّ رمحه ويضعه على رجل عبد الله، ففعل به ذلك في الطواف، فمرض من ذلك أياما ومات.

ويذكر أن الحجاج دخل ليعوده فسأله عمن فعل به ذلك وقال له: قتلني الله إن لم أقتله، فقال له عبد الله: لست بقاتل له، قال ولم؟ قال: لأنك الذي أمرته.

وقول عبد الله بن عمر   للحجاج إنك سفيه مسلط، يشير إلى قول أبيه عمر  ، فإنه لما بلغه أن أهل العراق حصبوا أميرهم: أي رجموه بالحجارة خرج غضبان فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: اللهم إنهم قد لبسوا عليّ، فألبس عليهم، وعجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم، وكان ذلك قبل أن يولد الحجاج.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: لما مات ابن الزبير واستقر الأمر لعبد الملك بن مروان بايعه عبد الله بن عمر. ويوافقه ما في الدلائل للبيهقي أن ابن عمر وقف على ابن الزبير وهو مصلوب وقال: السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم.

ويذكر أنه كان لعبد الله بن الزبير   مائة غلام لكل غلام منهم لغة لا يشاركه غيره فيها، وكان يكلم كل واحد منهم بلغته، وهذا أغرب مما استغرب. وهو أن ترجمان الواثق بالله من خلفاء بني العباس كان عارفا بألسن كثيرة، حتى قيل إنه يعرف أربعين لغة، ويماري فيها.

وقد قال الحجاج لعروة بن الزبير يوما في كلام جرى بينهما: لا أم لك، فقال: إليّ تقول هذا وأنا ابن عجائز الجنة؟ يعني جدته صفية وعمته خديجة وخالته عائشة وأمه أسماء.

وقال الحجاج يوما لشخص: ما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال الرجل: ما أقول في رجل أنت سيئة من سيئاته.

وقد أطلق سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة من سجن الحجاج سبعين ألفا قد حبسهم للقتل ليس لواحد منهم ذنب يستوجب به الحبس فضلا عن القتل.

وذكر أنه كان يحبس الرجال مع النساء، ولم يكن لحبسه بيوت أخلية، فكان الرجل يبول بجانب المرأة والمرأة تبول بجانب الرجل، فتبدو العورات، وكان كل عشرة في سلسلة، ويطعمهم خبز الدخن مخلوطا بالملح والرماد.

ومر يوم جمعة فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل له أهل السجن يقولون قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون، فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة.

وآخر من قتله الحجاج من التابعين سعيد بن جبير  ، ولم يقتل بعد ابن جبير إلا رجلا واحدا.

وقال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بفرعونها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم. وقال سليمان بن عبد الملك لرجل من أخصاء الحجاج بعد موت الحجاج: أبلغ الحجاج قعر جهنم؟ فقال: يا أمير المؤمنين يجيء الحجاج يوم القيامة بين أبيك عبد الملك، وبين أخيك الوليد بن عبد الملك، فضعه في النار حيث شئت.

ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم، قال: مات رجل، فلما وضع على مغتسله استوى قاعدا وقال: نظرت بعيني هاتين ـ وأهوى بيديه إلى عينيه ـ الحجاج وعبد الملك في النار يسحبان بأمعائهما ثم عاد ميتا كما كان.

والحجاج متأصل في الظلم. فقد رأيت بعضهم حكى أنه يقال في المثل: أظلم من ابن الجلندي، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} وإنه من أجداد الحجاج، بينه وبينه سبعون جدا.

واستحلف الحجاج رجلا في أمر فقال: لا والذي أنت في يديه غدا أذل مني بين يديك اليوم، فقال: والله إني يومئذ لذليل.

وأول من ضرب الدراهم في الإسلام الحجاج بأمر عبد الملك بن مروان، وكتب عليها: {قل هو الله أحد الله الصمد} أي على أحد وجهي الدراهم {قل هو الله أحد} وعلى وجهه الثاني {الله الصمد}.

ولم توجد الدراهم الإسلامية إلا في زمن عبد الملك بن مروان، وكانت الدراهم قبل ذلك رومية وكسروية. وفي زمن الخليفة المستنصر بالله وهو السابع والثلاثون من خلفاء بني العباس ضرب دراهم وسماها النقرة، وكانت كل عشرة بدينار، وذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة.

ولما دخل سليمان بن عبد الملك المدينة سأل هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب رسول الله؟ فقالوا: أبو حازم، فأرسل إليه، فلما دخل عليه سأله فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من عمران إلى خراب، فقال له: وكيف القدوم على الله؟ قال: أما المحسن فكغائب يقدم على أهله، وأما المسيىء فكآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: يا ليت شعري، ما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله تعالى، فقال: في أي مكان أجده؟ فقال: في قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين، قال: فأي عباد الله أكرم؟ قال: أولوا المروءة.

وجاء أعرابي إلى سليمان بن عبد الملك هذا، فقال: يا أمير المؤمنين إني أكلمك بكلام فاحتمله، فإن وراءه إن قبلته ما تحب. فقال سليمان: هاته يا أعرابي، فقال الأعرابي: إني طلق لساني بما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله. إنه قد اكتنفك رجال قد أساؤوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه، فإنهم لن يبالوا بالأمانة، وأنت مسؤول عما اجترموا فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: أنت ما أنت بأعرابي، فقد سللت لسانك وهو سيفك، قال: أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك.

ولما حج بالناس قال لولد عمه وولى عهده عمر بن عبد العزيز: ألا ترى هذا الخلق، الذي لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ولا يسع رزقهم غيره؟ فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غدا خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاء شديدا، ثم قال: بالله أستعين، وقال يوما لعمر بن عبد العزيز   حين أعجبه ما صار إليه من الملك: يا عمر كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وفرح لو لم يعقبه ترح، ولذات لو لم تقترن يآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة، فبكى سليمان   حتى أخضلت دموعه لحيته.

وولاية عمر بن عبد العزيز بشَّر بها جده لأمه عمر بن الخطاب  . فعنه   أنه قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شين. وفي رواية: علامة، يملأ الأرض عدلا، فكان ولده عبد الله يقول كثيرا: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر بن الخطاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا. وفي رواية عنه كان يقول: يا عجبا يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر. قال بعضهم: فإذا هو عمر بن عبد العزيز، لأن أمه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب  .

ومما يؤثر عن سليمان   أنه لما ولي الخلافة وقام خطيبا قال: الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء رفع، ومن شاء وضع، ومن شاء أعطى، ومن شاء منع، إن الدنيا دار غرور، تضحك باكيا وتبكي ضاحكا، وتخيف آمنا، وتؤمن خائفا.

وقال في خطبة من خطبه أيضا: أيها الناس أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد؟ أسمعهم الداعي، واستردّ العواري، واضمحل ما كان كائن، لم يكن أذهب عنهم ثابت الحياة، وفارقوا القصور، واستبدلوا بلين الوطىء خشن التراب، فهم رهناء فيه إلى يوم المآب، فرحم الله عبدا مهد لنفسه: {يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا}.

ولما ولي الخلافة أبو جعفر المنصور أراد أن يبني الكعبة على ما بناها ابن الزبير وشاور الناس في ذلك، فقال له الإمام مالك بن أنس: أنشدك الله: أي بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة: أي أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس، فصرفه عن رأيه فيه. قال: وذكر الطبري في مناسكه أن الذي أراد ذلك ونهاه مالك هو الرشيد اهـ.

أقول: وكونه الرشيد هو الذي ذكره المقريزي. واقتصر عليه، ولأن المنصور مات محرما ببئر ميمونة لستة أيام خلون من ذي الحجة فلم يدخل مكة.

وقد يقال: يجوز أن يكون دخل المدينة قبل سيره إلى مكة، واستشار الناس في المدينة فقال له الإمام مالك ما تقدم، وأن الرشيد أيضا أراد ذلك، واستشار الإمام مالكا فأشار عليه بما ذكر.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: لما كان في زمن المهدي بن المنصور استشار الإمام مالكا في ردها: أي الكعبة على الصفة التي بناها ابن الزبير، فقال له: إني أخشى أن تتخذها الملوك لعبة.

ورأيت في كلام بعضهم أن المنصور حج، وأنه لما قضى الحج والزيارة توجه إلى زيارة بيت المقدس، ولعل هذا كان في حجة غير هذه التي مات فيها.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور حج وهو خليفة أربع حجات غير الحجة التي مات فيها. وكذا في (القرى لقاصد أم القرى) للطبري. وذكر أنه مات في الحجة الخامسة قبل يوم التروية بيومين، وأنه أحرم في بعض حججه من بغداد.

وقد ذكر الشيخ الصفوي أن المنصور بلغه أن سفيان الثوري ينقم عليه في عدم إقامة الحق، فلم توجه المنصور إلى الحج وبلغه أن سفيان بمكة أرسل جماعة أمامه، وقال لهم: حيثما وجدتم سفيان خذوه واصلبوه، فنصبوا الخشب ليصلبوا سفيان عليه، وكان سفيان بالمسجد الحرام، رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر سفيان ابن عيينة، فقيل له خوفا عليه: بالله لا تشمت بنا الأعداء، قم فاختف، فقام ومشى حتى وقف بالملتزم وقال: ورب هذه الكعبة لا يدخلها يعني مكة المنصور، وكان وصل إلى الحجون فزلقت به راحلته فوقع عن ظهرها ومات من فوره، فخرج سفيان وصلى عليه، هذا كلامه.

وقد يقال: لا مخالفة بين هذا وبين ما تقدم أنه مات ببئر ميمونة، لأنه يجوز أن يكون المراد بوصوله إلى الحجون وصول خيله وركبه فليتأمل.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور لما خرج للحج وجاوز الكوفة بمراحل، أخذه وجعه الذي مات فيه، وأفرط به الإسهال، ودخل مكة فنزل بها وتوفي، ولعل هذا لا يخالف ما سبق، لأنه يجوز أنه أطلق مكة على المحل القريب منها، وأنه مع انطلاق بطنه زلقت به فرسه.

قيل وآخر ما تكلم به المنصور: اللّهم بارك لي في لقائك. ومما يؤثر عنه: أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه، والله أعلم.

وتقدم أن قصيا لما أمر قريشا أن تبني حول الكعبة بيوتها، فبنيت بيوتها من جهاتها الأربع وتركوا قدر المطاف، واستمر الأمر على ذلك زمنه وزمن أبي بكر  ، فلما ولي عمر   رأى أن يوسع حول الكعبة، فاشترى دورا وهدمها ووسع حول الكعبة، وبنى جدارا قصيرا على ذلك، وجعل فيه أبوابا، ثم وسعه عثمان، ثم عبد الله بن الزبير.

ثم إن عبد الملك بن مروان رفع الجدران وسقفه بالساج، ثم إن الوليد بن عبد الملك نقض ذلك، ونقل إليه الأساطين الرخام، وسقفه بالساج المزخرف، وأزر المسجد بالرخام، ثم زاد فيه المنصور ورخم الحجر، ثم زاد فيه المهدي أولا وثانيا حتى صارت الكعبة في وسط المسجد.

وفي أيام المعتضد أدخلت دار الندوة في المسجد، وتسمى مكة فاران، وتسمى قرية النمل لكثرة نملها، أو لأن الله سلط فيها النمل على العماليق لما أظهروا فيها الظلم حتى أخرجهم من الحرم كما تقدم، ولها أسماء كثيرة قد أفردها صاحب القاموس بمؤلف.

أقول: وسيأتي عن الإمام النووي أنه قال: ليس في البلاد أكثر أسماء من مكة والمدينة، والله أعلم.

قال: وعن أبي هريرة  : «خلقت الكعبة أي موضعها قبل الأرض بألفي سنة، كانت حشفة على الماء، عليها ملكان يسبحان، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الأرض دحاها منها، فجعلها في وسط الأرض» انتهى.

وسئل الجلال السيوطي   عن قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام} هل كانت أيام ثم موجودة قبل خلق السموات والأرض؟ .

فأجاب: بأن خلق السموات والأرض وخلق الأيام كان دفعة واحدة من غير تقديم لأحدهما على الآخر، واستند في ذلك لمأثور التفسير.

وفي الحديث «إن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض» الحديث. وحينئذ فقوله: «إن إبراهيم   حرم مكة » معناه أظهر حرمتها.

باب ما جاء من أمر رسول الله عن أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتهم وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار وطرد الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة تساقط النجوم وما وجد من ذكره وذكر صفته في الكتب القديمة وما وجد فيه اسمه مكتوبا من النبات والأحجار وغيرهما

قال ابن إسحاق: وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله قبل مبعثه لما تقارب زمانه. أما الأحبار من يهود والرهبان من النصارى، فلما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه. وأما الكهان من العرب، فجاءهم به الشياطين فيما تسترق به من السمع، إذ كانت لا تحجب عن ذلك كما حجبت عند الولادة والمبعث، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره، ولا تلقي العرب لذلك بالا حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرونها فعرفوها. وهذا فيه تصريح بأن الملائكة كانت تذكره في السماء قبل وجوده.

فأما أخبار الأحبار من اليهود فمنها ما تقدم ذكره. ومنها ما جاء عن سلمة بن سلامة وكان من أصحاب بدر قال: كان لنا جار من يهود بني عبد الأشهل، فذكر أي عند قوم أصحاب أوثان () القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، فقالوا له: ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال نعم، والذي يحلف به، وليودّ أي الشخص أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، بأن ينجو من تلك النار غدا، فقالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبيّ يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن، قالوا ومن يراه؟ فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنا، فقال: إن يستنفد: أي يستكمل هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: والله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا وهو: أي ذلك اليهودي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر بغيا وحسدا فقلنا له: ويحك يا فلان، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به.

ومن ذلك ما جاء عن عمرو بن عنبسة السلمي   قال: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية: أي ترك عبادتها، قال: فلقيت رجلا من أهل الكتاب من أهل تيماء: أي وهي قرية بين المدينة والشام () فقلت: إني امرؤ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحي ليس معهم إله فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار، فيعين ثلاثة لقذره أي يستنجي بها، ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه تركه وأخذ ذلك الأحسن، فرأيت أنه إله باطل لا ينفع ولا يضر، فدلني على خير من هذا، قال: يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه، ويدعو إلى غيرها. فإذا رأيت ذلك فاتبعه، فإنه يأتي بأفضل الدين، فلم يكن لي همة منذ قال لي ذلك إلا مكة، آتي فأسأل هل حدث حدث؟ فيقال لا، ثم قدمت مرة فسألت، فقيل لي: حدث، رجل يرغب عن آلهة قومه ويدعو إلى غيرها، فشددت راحلتي ثم قدمت منزلي الذي كنت أنزله بمكة، فسألت عنه فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا عليه أشداء، فتلطفت له حتى دخلت عليه، فسألته: أي شيء أنت؟ قال نبي. قلت: من نباك؟ قال الله. قلت: وبم أرسلك؟ قال «بعبادة الله وحده لا شريك له، وبحقن الدماء، وبكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأمان السبيل» فقلت: نعم ما أرسلت به، قد آمنت بك وصدقتك، أتأمرني أن أمكث معك أو أنصرف؟ فقال: ألا ترى كراهة الناس ما جئت به، فلا تستطيع أن تمكث، كن في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني، فكنت في أهلي حتى خرج إلى المدينة، فسرت إليه، فقدمت المدينة، فقلت يا نبي الله أتعرفني؟ قال: «نعم أنت السلمي الذي أتيتني بمكة ».

ومن ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهداه ما كنا نسمع من أحبار يهود. كنا أهل شرك أصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن يقتلكم قتل عاد وإرم: أي يستأصلكم بالقتل () فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله رسوله محمدا أجبناه حين دعانا إلى الله   وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا ففي ذلك نزلت هذه الآيات في البقرة {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}.

ومن ذلك ما حدث به شيخ من بني قريظة قال: إن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان أي الجبان، قدم إلينا قبل الإسلام بسنين، فحل بين أظهرنا، والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه: أي لا أظن أحدا من غير المسلمين، لأن المسلمين يصلون الخمس فلا أصلية لا زائدة، فأقام عندنا فكنا إذا قحط المطر: أي احتبس قلنا له اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا، فيقول لا والله حتى تقدموا بين يدي نجواكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول صاعا من تمر ومدين من شعير فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقي لنا فوالله ما يبرح من محله حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة: أي لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا بل أكثر من ذلك، ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت، قال: يا معشر يهود ما ترينه أخرجني من أهل الخمر ـ بالتحريك وبإسكان الميم: الشجر الملتف والخمير ـ إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم، قال: فإنما قدمت هذه الأرض أتوكف: أي أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه: أي أقبل وقرب كأنه لقربه أظلهم: أي ألقى عليهم ظله وهذ البلد مهاجره، وكنت أرجو أن يبعث فاتبعه، فقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء، وبسبي الذراري والنساء ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، فلما بعث الله رسوله محمدا وحاصر بني قريظة، قال لهم نفر من هَدَل ـ بفتح الهاء وفتح الدال المهملة ـ وقيل بسكونها إخوة بني قريظة، وهم ثعلبة بن سعية وأسد بن سعية، ويقال أسيد بالتصغير وأسد بن عبيد وكانوا شبانا أحداثا، يا بني قريظة والله إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم كما سيأتي.

قال: ومن ذلك خبر العباس بن عبد المطلب   قال: خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب فيه أبو سفيان بن حرب، فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان: إن محمدا قائم في أبطح مكة يقول: أنا رسول الله أدعوكم إلى الله، ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال: بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال. قال العباس: فقلت نعم، قال نشدتك الله هل كان لابن أخيك صبوة؟ قلت: لا والله ولا كذب ولا خان، وما كان اسمه عند قريش إلا الأمين. قال: هل كتب بيده؟ فأردت أن أقول نعم، فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد عليّ، فقلت: لا يكتب، فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود، قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن يهود تفزع من ابن أخيك فقلت: قد رأيت لعلك أن تؤمن به، قال: لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء: أي بالمد. قلت ما تقول: قال كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع على كداء، قال العباس: فلما فتح رسول الله مكة ونظر أبو سفيان إلى الخيل قد طلعت من كداء. قلت: يا أبا سفيان تذكر تلك الكلمة قال: إي والله إني لأذكرها انتهى.

أي ومن ذلك ما جاء عن أمية بن أبي الصلت الثقفي قال لأبي سفيان: إني لأجد في الكتب صفة نبي يبعث في بلادنا فكنت أظن أني هو، وكنت أتحدث بذلك، ثم ظهري لي أنه من بني عبد مناف، فنظرت فلم أجد فيهم من هو متصف بأخلاقه إلا عتبة بن ربيعة، إلا أنه قد جاوز الأربعين ولم يوح إليه، فعرفت أنه غيره. قال أبو سفيان: فلما بعث محمد قلت لأمية، فقال أمية: أما إنه حق فاتبعه. فقلت له: فأنت ما يمنعك قال: الحياء من نساء ثقيف، إني كنت أخبرهن أني هو، ثم أصير تبعا لفتى من بني عبد مناف، وسيأتي ذلك بأبسط مما هنا.

وأما أخبار الرهبان من النصارى، فمنها ما تقدم ذكره. قال: ومنها خبر طلحة بن عبد الله   قال: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل فيكم أحد من أهل الحرم؟ فقلت نعم أنا، قال هل ظهر أحمد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، أي الذي يبعث فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخلة وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة، فوقع في قلبي ما قال الراهب، فلما قدمت مكة حدثت أبا بكر بذلك، فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله فأخبره، فسر بذلك وأسلم طلحة. فأخذ نوفل بن العدوية أبا بكر وطلحة   فشدهما في حبل واحد، فلذلك سميا القرينين اهـ.

أقول: يحتمل أن هذا الراهب هو بحيرا، ويحتمل أن يكون نسطورا، لأن كلا منهما كان ببصرى كما تقدم في سفره. ويحتمل أن يكون غيرهما، وهو أولى، لما تقدم أن كلا من بحيرا ونسطورا لم يدرك البعثة والله أعلم.

أي ومنها ما حدث به سعيد بن العاص بن سعيد، قال: لما قتل أبي العاص يوم بدر كنت في حجر عمي أبان بن سعيد، وكان يكثر السب لرسول الله، فخرج تاجرا إلى الشام فمكث سنة ثم قدم، فأول شيء سأل عنه قال: ما فعل محمد؟ قال له عمي عبد الله بن سعيد: هو والله أعز ما كان وأعلاه، فسكت ولم يسبه كما كان يسبه، ثم صنع طعاما وأرسل إلى سراة بني أمية أي أشرافهم، فقال لهم: إني كنت بقرية فرأيت بها راهبا يقال له بكاء لمن ينزل إلى الأرض منذ أربعين سنة: أي من صومعته، فنزل يوما، فاجتمعوا ينظرون إليه، فجئت فقلت: إن لي حاجة، فقال: ممن الرجل؟ فقلت: إني من قريش، وإن رجلا هناك خرج يزعم أن الله أرسله، قال: ما اسمه؟ فقلت محمد، قال: منذ كم خرج؟ فقلت عشرين سنة، قال: ألا أصفه لك؟ قلت بلى فوصفه، فما أخطأ في صفته شيئا، ثم قال لي: هو والله نبي هذه الأمة، والله ليظهرن، ثم دخل صومعته وقال لي اقرأ ، وكان ذلك في زمن الحديبية: أي والحديبية سيأتي أنها كانت سنة ست فالعشرون تقريب.

أي ومنها ما حدث به حكيم بن حزام بالزاي   قال: دخلنا الشام لتجارة قبل أن أسلم ورسول الله بمكة، فأرسل إلينا ملك الروم فجئناه، فقال: من أي العرب أنتم؟ من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال حكيم: فقلت يجمعني وإياه الأب الخامس، فقال: هل أنتم صادقيّ فيما أسألكم عنه؟ فقلنا نعم، فقال: أنتم ممن اتبعه أم ممن رد عليه؟ فقلنا: ممن رد عليه وعاداه، فسألنا عن أشياء مما جاء رسول الله فأخبرناه، ثم نهض واستنهضنا معه، فأتى محلا في قصره وأمر بفتحه، وجاء إلى ستر فأمر بكشفه فإذا صورة رجل، فقال أتعرفون من هذه صورته؟ قلنا لا، قال: هذه صورة آدم، ثم تتبع أبوابها ففتحها ويكشف عن صور الأنبياء ويقول: أما هذا صاحبكم؟ فنقول لا، فيقول لنا هذه صورة فلان، حتى فتح بابا وكشف عن صورة، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا نعم، هذا صورة محمد بن عبد الله صاحبنا، قال: أتدرون متى صورت هذه الصور؟ قلنا لا، قال: منذ أكثر من ألف سنة، وإن صاحبكم لنبي مرسل فاتبعوه، ولوددت أني عبده فأشرب ما يغسل من قدميه.

ووقع نظير ذلك لجبير بن مطعم  ، وأنه رأى صورة أبي بكر آخذة بعقب تلك الصورة، وإذا صورة عمر آخذة بعقب صورة أبي بكر، فقال: من ذا الذي آخذ بعقبه؟ قلنا نعم هو ابن أبي قحافة، قال: فهل تعرف الذي آخذ بعقبه؟ قلت نعم هو عمر بن الخطاب. قال: أشهد أن هذا رسول الله، وأن هذا هو الخليفة بعده، وأن هذا هو الخليفة من بعد هذا.

ومنها ما حدّث به سلمان الفارسي   قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ بفتح الجيم وتشديد الياء: أي وفي لفظ: من قرية من قرى الأهواز يقال لها رامهرمز، وفي لفظ: ولدت برامهرمز وبها نشأت، وأما أبي فمن أصبهان، وكان أبي دهقان قريته: أي كبير أهل قريته: أي وفي لفظ: كنت من أبناء أساورة فارس، وكنت أحب خلق الله تعالى إلى أبي، لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطِن النار بفتح القاف وكسر الطاء المهملة ويروى بفتحها بمعنى قاطن: أي خادمها الذي يوقدها، لا يتركها تخبا: أي تطفأ ساعة. وكانت لأبي ضيعة عظيمة فشغل في بنيان له يوما فقال لي: يا بنيّ إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم، فاذهب إليها وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني، إن احتبست عني كنت أهمّ إليّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري، فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يصنعون؟ فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: والله هذا خير من الذي نحن عليه، فوالله ما برحتم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أهل هذا الدين؟ قالوا بالشام، فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بنيّ أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قلت: يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بنيّ ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا، والله إنه لخير من ديننا، قال: فخافني أي خاف مني أن أهرب، فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته، وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم، فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة فأخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي، ثم قدمت معهم إلى الشام، فلما قدمتها قلت من أجلّ هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، والأسقف بتخفيف الفاء وتشديدها: هو عالم النصارى ورئيسهم في الدين، فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحبت أن أكون معك، فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه أشياء منها اكتنزها لنفسه ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع ثم مات، فاجتمعت النصارى ليدفنوه. فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا، فقالوا لي: وما أعلمك بذلك؟ فقلت: أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا. وفي رواية: وجدوا ثلاثة قماقم فيها نحو نصف أردب فضة، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة: أي ولم يصلوا عليه صلاتهم مع أن هذا الراهب كان يصوم الدهر، وكان تقيا عن الشهوات. ومن ثم قال في الفتوحات المكية: أجمع أهل كل ملة على أن الزهد في الدنيا مطلوب. وقالوا: إن الفراغ من الدنيا أحب لكل عاقل خوفا على نفسه من الفتنة التي حذرنا الله تعالى منها بقوله: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة } هذا كلامه.

قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني  : ومن فوائد الرهبان أنهم لا يدّخرون قوت الغد، ولا يكنزون فضة ولا ذهبا.

قال: ورأيت شخصا قال لراهب: انظر لي هذا الدينار هو من ضرب أي الملوك؟ فلم يرض، وقال: النظر إلى الدنيا منهيّ عنه عندنا.

قال: ورأيت الرهبان مرة، وهم يسحبون شخصا ويخرجونه من الكنيسة، ويقولون له: أتلفت علينا الرهبان، فسألت عن ذلك، فقالوا رأوا على عاتقه نصفا مربوطا. فقلت لهم: ربط الدرهم مذموم؟ فقالوا: نعم عندنا وعند نبيكم، هذا كلامه.

وعند ذلك جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه: أي لا أظن أحدا غير المسلمين أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، فأحببته حبا شديدا لم أحبه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا حتى حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصني؟ قال: أي بنيّ، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدّلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فلما مات وغيب: أي دفن لحقت بصاحب الموصل فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل. فلما احتضر، قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: يا بنيّ والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به. فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحبي، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما احتضر: أي حضرته الملائكة لقبض روحه، قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بي إلى فلان، ثم إن فلانا أوصى بي إليك، فإلى من توصي بي وإلى من تأمرني؟ قال: يا بنيّ والله ما أعلم بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. فلما مات وغيب: أي دفن لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، فاكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله تعالى. فلما احتضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: أي بنيّ، والله ما أعلم أصبح ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل: أي أقبل وقرب زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات. يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ثم مات وغيب.

أقول: وهذا السياق يدل على أن الذين اجتمع بهم من النصارى على دين عيسى أربعة. وفي كلام السهيلي أنهم ثلاثون، وفي النور أنهم بضعة عشر، وأن هذا أظهر، والله أعلم.

قال سلمان: ثم مر بي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه وغنمي هذه، فقالوا نعم، فأعطيتهموها: أي أعطيتهم إياها، وحملوني معهم حتى إذا بلغوا بي وادي القرى: وهو محل من أعمال المدينة المنوّرة ظلموني، فباعوني إلى رجل يهودي. فمكثت عنده، فرأيت النخل، فرجوت أن تكون البلدة التي وصف لي صاحبي ولم يحق عندي: أي لم أتحقق ذلك. فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عمّ له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة. فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها: أي تحققتها بصفة صاحبي، فأقمت بها.

وبعث رسول الله، وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق. ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق: أي نخل لسيدي أعمل له فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عمّ له حتى وقف عليه. فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة: أي وهم الأوس والخزرج، لأن قيلة أمهما. فقد جاء «إن الله أمدّني بأشد العرب ألسنا وأدرعا، بابني قيلة الأوس والخزرج» والله إنهم الآن لمجتمعون بقبا بالمد والقصر، وربما قيل قباة ـ بتاء التأنيث والقصر ـ على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي، فلما سمعتها أخذتني العُروَاء: وهي الحمى النافض: أي الرعدة، والبرحاء: الحمى الصالب حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ما تقول؟ فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك، فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أثبته فيما قال وقد كان عندي شيء جمعته: أي وهو محتمل لأن يكون تمرا، ولأن يكون رطبا. فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله وهو بقباء فدخلت عليه، فقلت له: إني قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقرّبته إليه، فقال رسول الله لأصحابه كلوا وأمسك يده، فلم يأكل. فقلت في نفسي هذه واحدة: أي ومن ثم لما أخذ الحسن بن علي   وهو طفل تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه، قال له النبي: «كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة » رواه مسلم.

وروي أيضا أنه قال: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» ووجد تمرة فقال: «لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها» وقال: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» وفي رواية «إن هذه الصدقات، إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» والراجح من مذهبنا حرمة الصدقتين عليه وحرمة صدقة الفرض دون النفل على آله. وقال الثوري: لا تحل الصدقة لآل محمد لا فرضها ولا نفلها ولا لمواليهم، لأن مولى القوم منهم، بذلك جاء الحديث.

قال سلمان: ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا هو أيضا يحتمل أن يكون تمرا ولأن يكون رطبا.

وتحوّل رسول الله إلى المدينة ثم جئته فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان ثنتان: أي ومن ثم روى مسلم «كان إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قيل هدية أكل منها، وإن قيل صدقة لم يأكل منها».

قال سلمان: ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد، وقد تبع جنازة رجل من أصحابه: أي وهو كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه رسول الله بقباء لما قدم المدينة.

وقيل هو أول من دفن به، وقيل أول من دفن به أسعد بن زرارة، وقيل أوّل من دفن به عثمان بن مظعون.

وجمع بأن أوّل من دفن به من المهاجرين عثمان: أي وقد مات في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة. وأول من دفن به من الأنصار كلثوم أو أسعد: أي وفي الوفيات لابن زبر: مات كلثوم، ثم من بعده أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوّال من السنة الأولى من الهجرة، ودفن بالبقيع هذا كلامه، ولم يذكر الوقت الذي مات فيه كلثوم. وفي النور عن الطبري أنه مات بعد قدومه المدينة بأيام قليلة. وأوّل من مات من الأنصار البراء بن معرور، مات قبل قدومه المدينة مهاجرا بشهر. ولما حضره الموت أوصى بأن يدفن ويستقبل به الكعبة ففعلوا به ذلك، ولما قدم رسول الله المدينة صلى على قبره هو وأصحابه وكبر أربعا، ولم أقف على محل دفنه.

وقولهم إن أول من دفن بالبقيع كلثوم يدل على أن البراء لم يدفن بالبقيع إلا أن يراد الأولية بعد قدومه المدينة. والظاهر أن هذه أول صلاة صليت على القبر.

قال سلمان: وكان   عليه شملتان وهو جالس في أصحابه فسلمت عليه، ثم ابتدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي؟ فألقى الرداء عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله تحول، فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي. قال ابن عباس  : فأعجب رسول الله أن يسمع ذلك أصحابه: أي وفي شواهد النبوة لما جاء سلمان إلى النبي لم يفهم النبي كلامه فطلب ترجمانا فأتى بتاجر من اليهود كان يعرف الفارسية والعربية، فمدح سلمان النبي وذم اليهود بالفارسية فغضب اليهودي وحرف الترجمة، فقال للنبي إن سلمان يشتمك، فقال النبي : هذا الفارسي جاء ليؤذينا فنزل جبريل وترجم عن كلام سلمان، فقال النبي ذلك: أي الذي ترجمه له جبريل لليهودي، فقال اليهودي: يا محمد إن كنت تعرف الفارسية فما حاجتك إلي؟ فقال: ما كنت أعلمها من قبل والآن علمني جبريل أو كما قال. فقال اليهودي: يا محمد قد كنت قبل هذا أتهمك والآن تحقق عندي أنك رسول الله. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، ثم قال النبي لجبريل: علم سلمان العربية. فقال: قل له ليغمض عينيه ويفتح فاه ففعل سلمان، فتفل جبريل في فيه فشرع سلمان يتكلم بالعربي الفصيح، وهذا السياق يدل على أن ذلك كان عند مجيئه في المرة الثالثة. وحينئذ يشكل مجيئه أولا وثانيا وقوله ما تقدم بالعربية إلا أن يقال ذاك لقلته سهل عليه أن يعبر عنه بالعربية، بخلاف حكاية حاله لكثرته لم يحسن أن يعبر عنه بالعربية.

قال: وقد اختلفت الروايات عن سلمان في الشيء الذي جاء به للنبي أولا وثانيا، فالرواية الأولى المتقدمة ظاهرها يقتضي أنه تمر اهـ: أي وفيه من أين أن ظاهرها ذلك: بل هي محتملة، وقد جاء التصريح بكونه تمرا في الأولى والثانية. ففي بعض الروايات: فسألت سيدي أن يهب لي يوما ففعل، فعملت في ذلك اليوم على صاع أو صاعين من تمر وجئت به النبي، فلم رأيته لا يأكل الصدقة سألت سيدي أن يهب لي يوما آخر فعملت فيه على ذلك: أي على صاع أو صاعين من تمر، ثم جئت به النبي فقبله وأكله منه.

أي والذي في كلام السهيلي قال سلمان: كنت عبدا لامرأة فسألت سيدتي أن تهب لي يوما، الحديث.

وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون عني بسيدته زوجة سيده، لأنه يقال لها سيدة في المتعارف بين الناس، أو أن المرأة هي التي اشترته، ويؤيده ما يأتي، وزوج تلك المرأة يقال له في المتعارف بين الناس سيد. قال: وقيل إن الذي جاء به أولا وثانيا رطب.

وفي رواية: احتطبت حطبا فبعته واشتريت بذلك طعاما والطعام خبز ولحم. وفي رواية جئت بمائدة عليها بط. وفي رواية عليها رطب. وجمع بأنه أولا قدم الخبز واللحم الذي هو البط والتمر، ثم قدم الرطب فلم يتحد المقدم. وفي مسند الإمام أحمد أن المرات ثلاث، وأن المقدم فيها متحد اهـ.

أقول: تقديم الرطب في المرة الثانية يخالفه ما تقدم أنه في المرة الثانية كان تمرا، والله أعلم.

ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله بدر واحد، فكان أول مشاهده الخندق كما سيأتي، وكان بعد ذلك يقال له سلمان الخير، وكان معدودا من أخصائه. قال سلمان: ثم قال لي رسول الله : كاتب يا سلمان، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أي ودية، على وزن فعيلة: وهي النخلة الصغيرة التي يقال لها الفسيلة أحييها له، بالتفقير بالفاء ثم القاف: أي الحفر؟ أي ومن ثم قيل للبئر الفقير: أي احفر لها واغرسها بتلك الحفرة وتصير حية بتلك الحفرة: أي وأتعهدها إلى أن تثمر. والودية والفسيلة: هي النخلة الصغيرة التي جرت العادة بأن تنقل من المحل الذي تنبت فيه إلى محل آخر، لكن في كلام بعضهم: إذا خرجت النخلة من النواة قيل لها غريسة ثم يقال لها ودية، ثم فسيلة، ثم إشاءة، فإذا فاتت اليد فهي جبارة ويقال للنخلة الطويلة عوانة بلغة عمان.

وفي الحديث «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها» وعلى أربعين أوقية أي من ذهب كما سيأتي، فقال رسول الله: «أعينوا أخاكم، فأعانوني بالنخل الرجل بستين، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل يعين بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية » قال: وفي رواية «أنه كوتب على أن يغرس لهم خمسمائة فسيلة »: أي يحفر لها ويغرسها أي ويتعهدها إلى أن تثمر وعلى أربعين أوقية.

قال سلمان: فقال لي رسول الله اذهب يا سلمان ففقر: أي بالفاء. وفي رواية فنقر أي بالنون: أي احفر لها، فإذا فرغت فائتني أنا أضعها بيدي ففقرت. وفي رواية فنقرتها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي، فيضعه رسول الله بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي عليّ المال، فأتى رسول الله بمثل بيضة الدجاجة: أي وفي رواية مثل بيضة الحمامة من ذهب من بعض المعادن، ولعل هذه البيضة كانت مترددة بين بيضة الدجاجة وبين بيضة الحمامة: أي أكبر من بيضة الحمامة وأصغر من بيضة الدجاجة، فاختلف فيها التشبيه، فقال: «ما فعل الفارسي المكاتب؟ » فدعيت له. فقال: «خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان: أي تكون بعضا مما عليك».

وحينئذ قد يتوقف في جواب سلمان بقوله قلت وأين تقع هذه يا رسول الله مما عليّ لأن النبي يؤدي بعضه وإن قل ذلك البعض. إلا أن يقال العادة قاضية بأن ذلك البعض لا يقبل إلا إذا كان له وقع بالنسبة لكله.

وقد أشار للرد على سلمان بأن هذا الذي قلت فيه إنه لا يحسن أن يكون بعضا مما عليك يوفي به الله عنك جميع ما عليك، حيث قال: خذها فإن الله سيؤدي بها عنك، فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم: أي وبقي عندي مثل ما أعطيتهم. قال: وهذا أي سؤال سلمان وجوابه كالصريح في أن الأواقي التي كاتب عليها كانت ذهبا لا فضة.

وقد جاء أي مما يدل على ذلك في بعض الروايات أن سلمان لما قال للنبي وأين تقع هذه مما عليّ؟ فقلبها على لسانه ثم قال: «خذها فأوفهم منها».

وأيضا أي مما يدل على ذلك أيضا أن المعلوم أن قدر بيضة الدجاجة من الذهب يعدل أكثر من أربعين أوقية من الفضة اهـ: أي فلا يحسن قول سلمان وأين تقع هذه مما عليّ وقد صرح بذلك أي بكونها ذهبا البلاذري والقاضي عياض في الشفاء، فقالا: على. أربعين أوقية من ذهب، وإلى القصة أشار صاحب الهمزية بقوله:

ووفى قدر بيضة من نضار ** دين سلمان حين حان الوفاء

كان يدعى قنا فأعتق لما ** أينعت من نخيله الأقناء

أفلا تعذرون سلمان لما ** أن عرته من ذكره العرواء

أي ووفى قدر بيضة من بيض الدجاج أو الحمام من ذهب دين سلمان، وهو أربعون أوقية من ذهب حين قرب حلول الدين، وتقدم أنه وفي دينه منها وبقي عنده منها قدر ما أعطاهم.

وسبب هذا الدين على سلمان أنه كان يدعى قنا، أي أرقّ بالباطل كما تقدم، فكوتب على ذلك وعلى أن يغرس تلك النخيل ويتعهدها إلى أن تثمر، وأعتق بأداء هذا الدين حين أينعت العراجين من نخيله التي غرسها: أي غرست له، أفلا ترون لسلمان عذرا يمنعكم من إيذائه حين أن غشيته قوة الحمى من أجل سماع ذكره. قال سلمان: وشهدت مع رسول الله الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.

وعن بريدة «أن رسول الله اشترى سلمان أي كان سببا لشرائه أي مكاتبته من قوم اليهود بكذا وكذا درهما، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدرك فغرس رسول الله النخل كله إلا نخلة غرسها عمر  ، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر، فقال رسول الله من غرسها؟ قالوا عمر، فقلعها وغرسها رسول الله بيده فأطعمت من عامها».

وذكر البخاري «أن سلمان   غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله سائرها فعاشت كلها إلا التي غرسها سلمان» قال: ويجوز أن يكون كل من سلمان وعمر غرس هذه النخلة أحدهما قبل الآخر انتهى.

أقول: وهذا الحائط الذي غرس فيه سلمان من حوائط بني النضير وكان يقال له المنبت، وقد آل إليه كما سيأتي.

ولا يخفى أن قول صاحب الهمزية كان يدعى قنا أنه لم يرقّ حقيقة، وقد تقدم ذلك. وفيه أنه لو لم يرق حقيقة لما أقره على الرق، وأمره بالمكاتبة وأدى عنه وكونه فعل ذلك تطييبا لخاطر ساداته بعيد فليتأمل.

فإن قيل: إذ رقّ حقيقة كيف جاز له أن يأمر أصحابه أن يأكلوا مما جاء به صدقة ويأكل هو وهم مما جاء به هدية والرقيق لا يملك وإن ملكه سيده على الأصح عندنا معاشر الشافعية، بل وعند باقي الأئمة؟

قلنا: يجوز أن يكون الرقيق كان في صدر الإسلام يملك ما ملكه له سيده ثم نسخ ذلك. على أن بعض أصحابنا ذهب إلى صحته، وفي كلام السهيلي: وذكر أبو عبيد أن حديث سلمان حجة على من قال إن العبد لا يملك هذا كلامه، وأنه لم يعلم رقه حينئذ، لأن الأصل في الناس الحرية، ولعدم تحقق رق سلمان وعدم مجيء مكاتبته على قواعد أئمتنا لم يستدلوا على مشروعية الكتابة بقصة سلمان.

وفي كلام السهيلي أن في خبر: سلمان من الفقه: قبول الهدية، وترك سؤال المهدي، وكذلك الصدقة. وفي الحديث «من قدم إليه الطعام فليأكل، ولا يسأل» والله أعلم.

وعن سلمان   أنه قال لرسول الله حين أخبره بالقصة المتقدمة: زاد أن صاحب عمورية قال له: ائت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفي فاسأله عن هذا الدين فهو يخبرك به.

قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصفه لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني عليه فلم أخلص حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخلها إلا منكبه فتناولته، فقال: من هذا؟ والتفت إليّ فقلت: يرحمك الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فإنه يحملك عليه، ثم دخل. فقال رسول الله : لئن كنت صدقتني لقد لقيت عيسى ابن مريم. والغيضة: الشجر الملتف.

قال السهيلي: هذا الحديث مقطوع، وفيه رجل مجهول. ويقال إن الرجل هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف بإجماع منهم، وإن صح هذا الحديث فلا نكارة في متنه.

فقد ذكر الطبري أن المسيح   نزل بعد ما رفع وأمه وامرأة أخرى أي كانت مجنونة فأبرأها المسيح عند الجذع الذي فيه الصليب يبكيان، فأهبط إليهما فكلمهما وقال لهما علام تبكيان؟ فقالا عليك، فقال: إني لم أقتل ولم أصلب، ولكن الله رفعني وأكرمني، وأخبرهما أن الله أوقع شبهه على الذي صلب وأرسل إلى الحواريين: أي قال لأمه ولتلك المرأة أبلغا الحواريين أمري أن يلقوني في موضع كذا ليلا، فجاء الحواريون ذلك الموضع فإذا الجبل قد اشتعل نورا لنزوله فيه، ثم أمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وعبادة ربهم ووجههم إلى الأمم. وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا لكن لا نعلم أنه هو: أي حقيقة حتى ينزل النزول الظاهر «فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير» كما جاء في الصحيح هذا كلامه.

ويروى «أنه إذا نزل تزوج امرأة من جذام قبيلة باليمن. ويولد له ولدان يسمى أحدهما محمدا والآخر موسى، يمكث أربعين سنة، وقيل خمسا وأربعين، وقيل سبع سنين» كما في مسلم، وقيل ثمان سنين وقيل تسعا، وقيل خمسا: أي وجمع بين كون مدة مكثه أربعين سنة أو خمسا وأربعين سنة وبين كونها سبع سنين: أي وما بعد ذلك بأن المراد بالأول مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده والسبعة: أي وما بعدها من الأقوال يكون بعد نزوله ويدفن إذا مات في روضة النبي. قال: وقيل في حجرته: أي عند قبره الشريف، وقيل في بيت المقدس انتهى. أي وقيل يدفن معه في قبره، ويؤيده ما ورد «ويدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى من قبر واحد بين أبي بكر وعمر».

أقول: وكما يقتل عيسى   الخنزير يقتل الدجال. فقد جاء «ينزل عيسى حكما مقسطا يحكم بشرعنا يقتل الدجال، ونزوله يكون عند صلاة الفجر، فيصلي خلف المهدي بعد أن يقول له المهدي تقدم يا روح الله، فيقول له تقدم فقد أقيمت لك» وفي رواية «ينزل بعد شروع المهدي في الصلاة، فيرجع المهدي القهقري ليتقدم عيسى فيضع يده بين كتفيه ويقول له تقدم، فإذا فرغ من الصلاة أخذ حربته وخرج خلف الدجال فيقتله عند باب لدّ الشرقي» وورد أن المهدي يخرج مع عيسى فيساعده على قتل الدجال. وقد جاء أن المهدي من عترة النبي من ولد فاطمة. قيل من ولد الحسين، وقيل من ولد الحسن، وقيل من ولد عمه العباس.

فعن ابن عباس   «أن أمه أم الفضل مرت به، فقال: إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتيني به قالت: فلما ولدته أتيته به، فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وألبأه ـ أي أسقاه اللبأ من ريقه ـ وسماه عبد الله، وقال اذهبي بأبي الخلفاء، فأخبرت العباس، فأتاه فذكر له فقال: هو ما أخبرتك هذا أبو الخلفاء، حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي أي الخليفة » وهو أبو الرشيد بدليل قوله: «حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم: أي وهو المهدي الذي يأتي آخر الزمان اسمه محمد بن عبد الله، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد» وفي رواية «إلا ليلة واحدة يطول الله ذلك حتى يبعث، وظهوره يكون بعد أن يكسف القمر في أول ليلة من رمضان، وتكسف الشمس في النصف منه مثل ذلك لم يوجد منذ خلق الله السموات والأرض عمره عشرون سنة، وقيل أربعون سنة، ووجهه كوكب دري على خده الأيمن خال أسود، يخرج في زمان الدجال، وينزل في زمانه عيسى ابن مريم» وأما ما ورد «لا مهدي إلا عيسى ابن مريم» فلا ينافي ذلك لجواز أن يكون المراد لا مهدي كاملا معصوما إلا عيسى ابن مريم  .

فقد جاء «لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى ابن مريم آخرها، والمهدي من أهل بيتي في وسطها» وعن العباس   قال: «كنت عند النبي فقال انظر هل ترى في السماء من شيء؟ قلت نعم، قال ما ترى؟ قلت الثريا، قال: أما إنه سيملك هذه الأمة بعددها من صلبك» أي وقد اختلف الناس في عددها المرئي فقيل سبعة أنجم، وقيل تسعة.

وجمعنا بينهما بأن الأول يكون هو المرئي لغالب الناس ولو غير حديد البصر والثاني لمن يكون حديد البصر منهم، وأما المرئي له، فقيل كان يرى أحد عشر نجما. وقيل اثني عشر نجما.

وجمعنا بينهما بحمل الأول على ما إذا لم يمعن النظر. والثاني على ما إذا أمعن النظر، وحينئذ يقتضي هذا أن تكون الخلفاء من بني العباس اثني عشر.

وعن سعيد بن جبير: سمعت ابن عباس   يقول: يكون منا ثلاثة أهل البيت السفاح والمنصور والمهدي. ورواه الضحاك عن ابن عباس مرفوعا. والمهدي في هذه الرواية يحتمل أن المراد به أبو الرشيد، ويحتمل أن يكون المنتظر.

وروى أبو نعيم بسند ضعيف «أنه خرج فتلقاه العباس، فقال: ألا أسرك يا أبا الفضل؟ قال بلى يا رسول الله، قال: إن الله فتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه» وفي رواية «ويختمه بولدك».

وقد أفردت ترجمة المهدي المنتظر بالتأليف في مجلد حافل سماه مؤلفه (الفواصم عن الفتن القواصم).

وقد رويت قصة سلمان   على غير هذا الوجه الذي تقدم. فعنه قال: كان لي أخ أكبر مني، وكان يتقنع بثوبه ويصعد الجبل يفعل ذلك غير ما مرة متنكرا، فقلت له: أما إنك تفعل كذا وكذا فلم لا تذهب بي معك؟ قال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء. قلت: لا تخف، قال: إن في هذا الجبل قوما لهم عبادة وصلاح يذكرون الله ويذكرون الآخرة » ويزعمون أنا على غير دين. قلت: فاذهب بي معك إليهم قال: حتى استأمرهم فاستأمرهم، فقالوا جيء به فذهبت معه فانتهيت إليهم فإذا هم ستة أو سبعة » وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا فصعدنا إليهم، فحمدوا الله تعالى وأثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى ابن مريم. قالوا: ولد بغير ذكر، وبعثه الله رسولا، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى، وخلق الطير، وإبراء الأعمى والأبرص؟ فكفر به قوم وتبعه قوم. ثم قالوا: يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا، وإن بين ذلك جنة ونارا لهما تصير وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة، لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين، ثم انصرفنا ثم عدنا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن، فلزمتهم ثم اطلع عليهم الملك فأمرهم بالخروج من بلاده، فقلت: ما أنا بمفارقكم فخرجت معهم حتى قدمنا الموصل، فلما دخلوا حفوا بهم، ثم أتاهم رجل من كهف جبل فسلم وجلس فحفوا به، فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه، فقال: ما هذا الغلام معكم. فأثنوا عليّ خيرا وأخبروه باتباعي إياهم ولم أر مثل إعظامهم له، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسله الله من رسله وأنبيائه وما لقوا وما صنع بهم، حتى ذكر عيسى ابن مريم، ثم وعظهم. وقال: اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى، ولا تخالفوا يخالف بكم، ثم أراد أن يقوم. فقلت: ما أنا بمفارقك، فقال: يا غلام إنك لا تستطيع أن تكون معي، إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد.

قلت: ما أنا بمفارقك فتبعته حتى دخل الكهف فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا خرجنا واجتمعوا إليه، فتكلم نحو المرة الأولى، ثم رجع إلى كهفه ورجعت معه، فلبثت ما شاء الله أن يخرج في كل يوم أحد ويخرجون إليه ويعظهم ويوصيهم، فخرج في أحد. فقال مثل ما كان يقول. ثم قال: يا هؤلاء إني قد كبر سني ورق عظمي وقرب أجلي، وإني لا عهد لي بهذا البيت يعني بيت المقدس منذ كذا وكذا سنة فلا بد لي من إتيانه، فقلت: ما أنا بمفارقك، فخرج وخرجت معه حتى أتيت إلى بيت المقدس فدخل وجعل يصلي وكان فيما يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد، يخرج من جبال تهامة، علامته أن يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأما أنا فشيخ كبير لا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه. فقلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه. قال: وإن أمرك، ثم خرج من بيت المقدس وعلى بابه مقعد، فقال له ناولني يدك فناوله يده فقال له قم باسم الله فقام كأنما نشط من عقال، فقال لي المقعد: يا غلام احمل علي ثيابي حتى أنطلق، فحملت عليه ثيابه، فذهب الراهب وذهبت في أثره أطلبه كلما سألت عنه، قالوا أمامك حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم، فلما سمعوا لغتي أناخ رجل بعيره وحملني عليه، فجعلني خلفه حتى أتوا بي بلادهم فباعوني، فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها: أي بستان، وقدم رسول الله فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائط ثم أتيته، فوجدت عنده أناسا، فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا؟ قلت صدقة قال للقوم كلوا ولم يأكل هو، ثم لبثت ما شاء الله، ثم أخذت مثل ذلك، ثم أتيته فوجدت عنده أناسا فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا؟ فقلت هدية، قال: بسم الله وأكل وأكل القوم فقلت في نفسي هذه من آياته. ويحتاج للجمع بين هذه الرواية وما تقدم على تقدير صحتهما.

وفي (الدر المنثور) «أن امرأة من جهينة اشترته وصار يرعى غنما لها، بينما هو يوما يرعى إذ أتاه صاحب له، فقال له: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى أتيك، فهبط سلمان إلى المدينة فاشترى بدينار ببعضه شاة فشواها وببعضه خبزا ثم أتاه به، فقال، ما هذا؟ قال سلمان: هذه صدقة، قال لا حاجة لي بها، فأخرجها فأكلها أصحابه، ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما، فأتى به النبي فقال ما هذا؟ قال: هذه هدية: قال فاقعد فكل، فقعد وأكلا جميعا منها، فدرت خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته، ثم درت حتى جلست بين يديه، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله» وهذه الرواية تخالف ما تقدم فليتأمل، ولينظر كيف الجمع.

ونقل بعضهم الإجماع على أن سلمان عاش مائتين وخمسين سنة، وكان حبرا عالما فاضلا زاهدا متقشفا، وكان يأخذ من بيت المال في كل سنة خمسة آلاف، وكان يتصدق بها ولا يأكل إلا من عمل يده، وكان له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها.

قال بعضهم: دخلت عليه وهو أمير على المدائن، وهو يعمل الخوص، فقلت له لم تعمل هذا وأنت أمير وهو يجري عليك رزق؟ فقال: إني أحب أن آكل من عمل يدي وربما اشترى اللحم وطبخه ودعا المجذومين فأكلوا معه.

وأول مشاهده الخندق كما تقدم، قيل وشهد بدرا وأحدا قبل أن يعتق: أي وهو مكاتب، فيكون أول مشاهده الخندق بعد عتقه، والله أعلم.

وأما أخبار الكهان لا عن ألسنة الجان فكثيرة، منها ما تقدم في ليلة ولادته وفي أيام رضاعه.

قال: ومنها أيضا خبر عمرو بن معد يكرب   قال: والله لقد علمت أن محمدا رسول الله قبل أن يبعث، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: فزعنا إلى كاهن لنا في أمر نزل بنا، فقال الكاهن: أقسم بالسماء ذات الأبراج، والأرض ذات الأدراج، والريح ذات العجاج، إن هذا لامراج، لعله من أجيج النار وهو التهابها ولقاح ذي نتاج، قالوا وما نتاجه؟ قال: نتاجه ظهور نبي صادق، بكتاب ناطق، وحسام فالق، قالوا: وأين يظهر؟ وإلى ماذا يدعو! قال: يظهر بصلاح، ويدعو إلى فلاح، ويعطل القداح، وينهى عن الراح والسفاح، وعن كل أمر قباح، قالوا ممن هو؟ قال: من ولد الشيخ الأكرم، حافر زمزم، وعزه سرمد، وخصمه مكمد، انتهى.

ومنها خبر قس بن ساعدة الإيادي، وهو أول من قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وأول من اتكأ على عصا أو قوس أو سيف عند الخطبة.

وقيل إن أول من تكلم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر داود  ، وأن ذلك فصل الخطاب.

وردّ بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته عن ابن عباس   قال: «قدم وفد عبد القيس على رسول الله، فقال: أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: كلنا يا رسول الله نعرفه، قال: فما فعل؟ قالوا: هلك، قال: ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أقسم قس قسما حاتما لأن كان في الأمر رضا ليكونن سخطا، إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فقاموا أم تركوا هناك فناموا؟ ثم قال رسول الله : أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه  :

في الذاهبين الأوليـ ** ـن من القرون لنا بصابر

لما رأيت مواردا ** للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها ** تسعى الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إلى ** ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا ** لة حيث صار القوم صائر

وفي رواية أخرى عن ابن عباس   قال: «قدم الجارود بن عبد الله وكان سيدا في قومه، وقيل له الجارود لأنه أغار على قوم من بني بكر بن وائل فجردهم: أي أخذ جميع أموالهم، وإلى ذلك الإشارة بقول الشاعر:

ودسناهم بالخيل من كل جانب ** كما جرد الجارود بكر بن وائل

فلما قدم على رسول الله، فقال له النبي : يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قسما؟ قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله» قال الجارود: وأنا بين يدي القوم كنت أقفو أي أتبع أثره، كان من أسباط العرب أي من ولد ولدهم، شيخا عمر سبعمائة سنة: أي وقيل ستمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله: أي تعبد من العرب: أي ترك عبادة الأصنام، وأول من قال أما بعد: أي وقيل أول من قال ذلك كعب بن لؤي كما تقدم، وقيل سحبان بن وائل، وقيل يعقوب، وقيل يعرب بن قحطان، وقيل داود وهو فصل الخطاب.

وردّ بأنه لم يثبت عنه أنه تكلم بغير لغته: أي وبعد لفظة عربية، وفصل الخطاب الذي أوتيه هو فصل الخصومة: أي وهذا يؤيد ما تقدم عنه أنه أول من قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر وتقدم ما فيه. وجمع بأن الأولية بالنسبة لداود حقيقية، ولغيره إضافية، فلكعب بن لؤي بالنسبة للعرب ولغيره بالنسبة لقبيلته. وقس أول من كتب من فلان إلى فلان. قال الجارود: كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هوله ليبلغنّ الكتاب أجله، وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول:

هاج للقلب من جواه ادكار ** وليال خلالهن نهار

وجبال شوامخ راسيات ** وبحار مياههن غزار

ونجوم تلوح في ظلم الليل ** تراها في كل يوم تدار

والذي قد ذكرت دل على ** الله نفوسا لها هدى واعتبار

فقال النبي : على رسلك يا جارود، والرسل بكسر الراء: التؤدة فلست أنساه بسوق عكاظ: أي وهو سوق بين بطن نخلة والطائف، كان سوقا لثقيف وقيس عيلان كما تقدم، على جمل أورق: أي يضرب لونه إلى السواد، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه» وفي لفظ «تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه الآن، فقال أبو بكر: يا رسول الله فإني أحفظه كنت حاضرا ذلك اليوم بسوق عكاظ، فقال في خطبته: يا أيها الناس ـ اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات جمع وأشتات، وآيات بعد آيات، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ليل داج: أي مظلم، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا، أقسم قس قسما حاتما، لا حنثا فيه ولا آثما إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبيا قد حان حينه، وأظلكم زمانه؟ فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه فعصاه، ثم قال: تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية، والقرون الماضية. يا معشر إياد: هي قبيلة من اليمن ـ أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعوّاد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بني وشيد. وزخرف ونجد؟ أي من زين وطوّل، وغره المال والولد؟ أين من بغى وطغى؟ وجمع فأوعى؟ وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا وأبعد منكم آمالا، طحنهم التراب بكلكله: أي بصدره، ومزقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية، كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس بوالد ولا مولود، ثم أنشأ يقول الأبيات المتقدمة ».

أي وفي رواية: «لما قدم وفد إياد على النبي قال: «يا معشر وفد إياد، ما فعل قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: هلك يا رسول الله، قال: لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر، يتكلم بكلام معجب موفق، لا أجدني أحفظه الآن، فقام امرؤ أعرابي من أقاصي القوم، فقال: أنا أحفظه يا رسول الله، فسرّ النبي بذلك. كان يقول: يا معشر الناس اجتمعوا، فكل من مات فات، وكل شيء آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية » الحديث.

وفي رواية «أين الصعب ذو القرنين؟ ملك الخافقين، وأذلّ الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان ذلك كلمحة عين».

قال: وفي رواية أخرى عن ابن عباس  : أن قس بن ساعدة كان يخطب قومه بسوق عكاظ فقال: سيأتيكم حق من هذا الوجه؟ وأشار بيده إلى نحو مكة، قالوا له: وما هذا الحق؟ قال: رجل أبلج أحور، من ولد لؤي بن غالب، يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش ونعيم لا ينفدان، فإذا دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه. وقد رويت هذه القصة من طرق متعددة.

قال الحافظ ابن كثير: هذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة. وقال الحافظ ابن حجر: طرق هذا الحديث كلها ضعيفة، وهو يردّ قول ابن الجوزي في موضوعاته: حديث قس بن ساعدة من جميع جهاته باطل اهـ.

أقول: ذكر في (النور) أن في قصة قس ما يرشد إلى التعدد مرتين: مرة حفظ كلامه، وكان قس على جمل أحمر. والثانية التي لم يحفظ فيها كلامه كان قس على جمل أورق. قال: لكن لا أدري أي المرتين كانت أوّلا، هذا كلامه.

وقد يقال: النسيان جائز عليه، فيجوز أن يكون نسي كلام قس بعد الإخبار به أولا، ويدل لذلك قوله: «لا أظن أني أحفظه الآن» أو قبل الإخبار به، فيكون خبره متأخرا عن خبر أبي بكر، فلا دلالة في ذلك على التعدد، ووصف الجمل بأنه أحمر، ووصفه بأنه أورق لا يدل على التعدد، لأنه يجوز أن يكون شديد الحمرة وشدة الحمرة تميل إلى السواد وهو الأورق، فأخبر عنه مرة بأنه أحمر، ومرة بأنه أورق. وهذا السياق يدل على تعدد مجيء وفد عبد القيس، مرة جاؤوا وحدهم، ومرة جاؤوا مع سيدهم الجارود، وقد جاء «رحم الله قسا إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم» والله أعلم.

ومن ذلك خبر نافع الجرشي، نسبة إلى جرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة قبيلة من حمير تسمى به بلدهم: أن بطنا من اليمن كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله وانتشر في العرب، جاؤوا إلى كاهنهم واجتمعوا إليه في أسفل جبل، فنزل إليهم حين طلعت الشمس، فوقف لهم قائما متكئا على قوس، فرفع رأسه إلى السماء طويلا. ثم قال: يا أيها الناس، إن الله أكرم محمدا واصطفاه وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل.

وأما أخبار الكهان على ألسنة الجان فكثيرة أيضا:

منها خبر سواد بن قارب  ، وكان يتكهن في الجاهلية، وكان شاعرا ثم أسلم. فعن محمد بن كعب القرظي قال: بينا عمر بن الخطاب   ذات يوم جالسا إذ مرّ به رجل، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المارّ؟ قال: ومن هذا؟ قالوا سواد بن قارب الذي أتاه رئيه: أي تابعه من الجن، الذي يتراءى له، أتاه بظهور النبي أي بعد أن قال عمر   على المنبر أي منبر النبي : أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ فلم يجبه أحد، فلما كان السنة المقبلة ولعل ذلك كان في زمن المجيء للزيارة من الآفاق قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال بعضهم: يا أمير المؤمنين ما سواد بن قارب؟ قال: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا. قال البراء: فبينا نحن كذلك، إذ طلع سواد بن قارب، فأرسل إليه عمر   فقال له: أنت سواد بن قارب؟ قال نعم، قال: أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي؟ قال نعم، قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك، فغضب سواد بن قارب وقال: ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين، فقال له: سبحان الله: ما كنا عليه من الشرك: أي من عبادة الأصنام أعظم مما كنت عليه من كهانتك: أي وفي رواية أن عمر   قال: اللهم غفرا، قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام والأوثان، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام.

أقول: وفيه أن المتبادر أن غضب سواد إنما هو بسبب ما فهمه من نسبته إلى الكهانة بعد الإسلام لا قبلها، بدليل قوله ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت. وجواب سيدنا عمر   يدل على أنه فهم أن غضب سواد بسبب نسبته للكهانة قبل الإسلام، فلذلك قال: سبحان الله متعجبا منه.

وفي كلام السهيلي أن عمر   مازح سوادا   فقال له: ما فعلت كهانتك يا سواد؟ فغضب وقال له سواد  : قد كنت أنا وأنت على شر من هذا من عبادة الأصنام وأكل الميتات، أفتعيرني بأمر قد تبت منه؟ فقال عمر  : اللهم غفرا فليتأمل والله أعلم. ثم قال لسواد: أخبرني ما نبأ رئيك بظهور رسول الله.

وفي رواية قال: يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال نعم يا أمير المؤمنين. بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان: إذ أتاني رئيي، فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول الله من لؤي بن غالب يدعو إلى الله   وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتطلابها ** وشدها العيس بأقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ** ما صادق الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ** ليس قدماها كأذنابها

فقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا، فلما كانت الليلة الثانية أتاني، فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله   وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتخبارها ** وشدها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ** ما مؤمن الجن ككفارها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ** بين روابيها وأحجارها

فقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعسا، فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب، فاسمع مقالتي، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب، يدعو إلى الله   وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:

عجبت للجن وتحساسها ** وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ** ما خيّر الجن كأنحاسها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ** وارمِ بعينيك إلى رأسها

فقمت فقلت: قد امتحن الله قلبي، فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة. وفي رواية: حتى أتيت مكة وهي كما قال البيهقي أقرب إلى الصحة من الأولى: أي لأن الجن إنما جاءت إليه للإيمان به في مكة فإذا رسول الله وأصحابه حوله. وفي لفظ: والناس حوله. وفي لفظ: والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك. قلت: يا رسول الله، قد قلت شعرا، فاسمع مقالتي يا رسول الله، فقال: هات فأنشأت: أي ابتدأت أقول:

أتاني نجيي بعد هدء ورقدة وفي لفظ:

أتاني رئيي بعد ليل وهجعة ** ولم يك فيما قد تلوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة ** أتاك رسول من لؤي بن غالب

فشمرت من ذيل الإزار وفي لفظ:

عن ساقي الإزار ** ووسطت بي الذعلب الوجناء بين السباسب

فأشهد أن الله لا رب غيره ** وأنك مأمون على كل غائب

وأنك أدنى المرسلين وسيلة ** إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ** وإن كان فيما جاء شيب الذوائب

وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ** سواك بمغن عن سواد بن قارب

وفي رواية:

وكن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة ** بمغن فتيلا عن سواد بن قارب

قال: ففرح النبي وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رؤى الفرح في وجوههم: أي وضحك رسول الله حتى بدت نواجذه وقال: أفلحت يا سواد، فرأيت عمر   التزمه وقال: لقد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك، فهل يأتيك رئيك اليوم؟ قال: منذ قرأت القرآن فلا، ونعم العوض كتاب الله تعالى من الجن: أي وهذا السياق يدل على أن سيدنا عمر لم يكن حاضرا عند النبي لما أخبره سواد.

ولما مات وخشي سواد على قومه الردة قام فيهم خطيبا فقال: يا معشر دوس، من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم، ومن شقائهم أن لا يتعظوا إلا بأنفسهم. وإنه من لم تنفعه التجارب ضربه، ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل، وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس. ولا ينبغي لأهل البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية، ولست أدري لعله يكون للناس جولة، فإن لم تكن فالسلامة منها الأناة، والله يحبها فأحبوها، فأجابه القوم بالسمع والطاعة.

أي ومن ذلك أن امرأة كانت كاهنة بالمدينة يقال لها حطيمة، كان لها تابع من الجن فجاءها يوما فوقف على جدارها، فقالت له: ما لك لا تدخل تحدثنا ونحدثك؟ فقال: إنه قد بعث نبي بمكة يحرم الزنا، فحدثت بذلك، فكان أول خبر تحدث به بالمدينة عن رسول الله.

وأما ما سمع من جوف الأصنام فكثير أيضا.

فمنها أي غير ما تقدم في ليلة ولادته خبر عباس بن مرداس قال: كان لمرداس السلمي وثن يعبده يقال له ضمار بكسر الضاد المعجمة وميم مخففة بعدها ألف ثم راء مهملة، فلما حضرت مرداسا الوفاة قال للعباس ولده أي بني اعبد ضمارا فإنه ينفعك ويضرك، فبينا عباس يوما عند ضمار إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول:

من للقبائل من سليم كلها ** أودى ضمار وعاش أهل المسجد

إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد

أودى ضمار وكان يعبد مدة ** قبل الكتاب إلى النبي محمد

فحرق عباس ضمارا ولحق بالنبي. وفي لفظ أن عباس بن مرداس كان في لقاح له نصف النهار، إذ طلع عليه راكب على نعامة بيضاء وعليه ثياب بيض فقال له: يا عباس ألم تر أن السماء قد تعب أحراسها، وأن الحرب قد حرقت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي نزل عليه البر والتقوى صاحب الناقة القصواء؟ فقال عباس: فراعني ذلك، فجئت وثنا لنا يقال له الضمار كنا نعبده وتكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به، فإذا صائح يصيح من جوفه:

قل للقبائل من قريش كلها ** هلك الضمار وفاز أهل المسجد

هلك الضمار وكان يعبد مدة ** قبل الصلاة على النبي محمد

إن الذي ورث النبوة والهدى ** بعد ابن مريم من قريش مهتد

قال عباس: فخرجت مع قومي بني حارثة إلى رسول الله بالمدينة، فدخلت المسجد، فلما رآني رسول الله تبسم وقال: يا عباس كيف إسلامك، فقصصت عليه القصة، فقال: صدقت، وأسلمت أنا وقومي.

ومن ذلك خبر مازن بن الغضوبة قال: كنت أسدن: أي أخدم صنما بقرية بعمان: أي بالتخفيف تدعى سمائل، وسمال يقال له بادر. وفي لفظ باحر بالحاء المهملة، فعترنا ذات يوم عنده عتيرة وهي الذبيحة مطلقا. وقيل في رجب خاصة. فسمعنا صوتا من جوف الصنم يقول: يا مازن اسمع تسرّ ظهر خير وبطن شر، بعث نبي من مضر بدين الله الكبر، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حرّ سقر. قال مازن: ففزعت لذلك وقلت: إن هذا لعجب، ثم عترت بعد أيام عتيرة: أي ذبحت ذبيحة لذلك الصنم، فسمعت صوتا من الصنم يقول:

أقبل إليّ أقبل ** تسمع ما لا تجهل

هذا نبي مرسل ** جاء بحق منزل

آمن به كي تعدل ** عن حر نار تشعل

وقدها بالجندل فقلت: إن هذا لعجب، وإنه لخير يراد بي.

أقول: ورأيت في بعض السير تقديم هذه الأبيات على ما قبلها، وأن مازنا قال: ثم سمعت صوتا أبين من الأول، وهو يقول: يا مازن اسمع إلى آخره، والله أعلم.

قال مازن: فبينا نحن كذلك، إذ قدم رجل من أهل الحجاز قلنا له: ما الخبر وراءك؟ قال: قد ظهر رجل يقال له أحمد، يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله، فقلت هذا نبأ ما سمعته، فنزلت إلى الصنم فكسرته جذاذا، وركبت راحلتي وأتيت رسول الله فشرح لي الإسلام وأسلمت، وقلت:

كسرت بادرا جذاذا وكان لنا ** ربا نطيف به ضلا بتضلال

بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ** ولم يكن دينه شيئا على بالي

يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها ** أنى لما قال ربي بادر قالي

عني بعمرو وإخوتها بني خطامة، وهي بطن من طيىء، وهذه الأبيات ساقطة في (أسد الغابة) قال مازن. فقلت: يا رسول الله إني مولع بالطرب: أي مغرم به، وبشرب الخمر وبالهلوك: أي الفاجرة من النساء التي تتمايل وتتثنى عند جماعها: وقيل الساقطة على الرجال أي لشدة شبقها، وألحت: أي دامت علينا سنون: أي أعوام القحط والجدب فذهبن بالأموال، وهزلن الذراري والعيال، وليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد، ويأتيني بالحيا، ويهب لي ولدا، فقال النبي : اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وبالخمر ريا لا إثم فيه، وبالعهر أي الزناعفة الفرج، وأته بالحيا: أي المطر، وهب له ولدا، قال مازن فأذهب الله عني ما كنت أجده، وتعلمت شطر القرآن، وحججت حججا، وأخصبت عمان يعني قريته وما حولها من قرى عمان، وتزوّجت أربع حرائر، ووهب الله لي حيان: يعني ولده وأنشأت أقول:

إليك رسول الله حنت مطيتي ** تجوب الفيافي من عُمان إلى العرجِ

لتشفع لي يا خير من وطىء الحصا ** فيغفر لي ذنبي وأرجع بالفلْجِ

أي بالفوز والظفر بالمطلوب:

إلى معشر خالفت في الله دينهم ** ولا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي

أي بالشين والجيم: أي لا شكلهم شكلي، ولا طريقهم طريقي:

وكنت امرأ بالعهر والخمر مولعا ** شبابي حتى آذن الجسم بالنهج

أي البلاء.

فبدلني بالخمر خوفا وخشية ** وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي

فأصبحت همي في الجهاد ونيتي ** فللّه ما صومي ولله ما حجي

قال مازن: فلما رجعت إلى قومي أنبوني: أي عنفوني، ولاموني وشتموني وأمروا شاعرهم فهجاني، فقلت: إن هجوتهم فإنما أهجو نفسي، وتنحيت عنهم وأتيت مسجدا أتعبد فيه، وكان لا يأتي هذا المسجد مظلوم فيتعبد فيه ثلاثا ويدعو على من ظلمه إلا استجيب له ولا دعا ذو عاهة من برص أو غيره إلا عوفي. ثم إن القوم ندموا وطلبوا مني الرجوع إليهم فأسلموا كلهم، وضعف هذا الحديث.

وأما ما سمع من أجواف الذبائح. فمنه ما جاء عن عمر بن الخطاب   قال: كنا يوما في حي من قريش يقال لهم آل ذريح بالحاء المهملة، وقد ذبحوا عجلا لهم والجزار يعالجه، إذ سمعنا صوتا من جوف العجل ولا نرى شيئا: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح. يشهد أن لا إله إلا الله: أي والمراد بالذريح: العجل الذي ذبح، لأنه ملطخ بالدم الأحمر، لقولهم: أحمر ذريحيّ: أي شديد الحمرة. والذي في البخاري يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله، والمراد بالجليح: العجل المذبوح أيضا، لأنه قد جلح: أي كشف عنه جلده.

وأما ما سمع من الهواتف، ولم يجىء على ألسنة الكهان، ولا سمع من جوف الأصنام، ولا من جوف الذبائح فكثير. من ذلك ما حدّث به بعضهم وذكره النبي قال: يا رسول الله، لقد رأيت من قس عجبا، خرجت أطلب بعيرا لي حتى إذا عسعس الليل: أي أدبر، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول:

يا أيها الراقد في الليل الأحم (أي بالحاء المهملة يعني الأسود) ** قد بعث الله نبيا بالحرم

من هاشم أهل الوفاء والكرم ** يجلو دجنات الليالي والبهم

أي الظلمات والأمور المشكلة، فأدرت طرفي فما رأيت شخصا فأنشأت أقول:

يا أيها الهاتف في داجي الظلم ** أهلا وسهلا بك من طيف ألمّ

بين هداك الله في لحن الكلم ** من ذا الذي تدعو إليه يغتنم

فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدا بالحبور: أي السرور، صاحب النجيب الأحمر: أي الكريم من الإبل، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر: أي الأبيض المشرب بالحمرة، والحاجب: أي الجبين الأقمر: أي الأبيض، والطرف الأحور: أي شديد سواده، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله، فذاك محمد المبعوث إلى الأسود والأحمر، أهل المدر والوبر: أي العجم والعرب، ثم أنشأ يقول:

الحمد لله الذي ** لم يخلق الخلق عبث

أرسل فينا أحمدا ** خير نبي قد بعث

صلى عليه الله ما ** حج له ركب وحث

وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:

وتغنت بمدحه الجن حتى ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء

أي أظهرت الجن أوصافه الجميلة في صورة الغناء الذي تألفه النفس، ولا تصبر منها عند سماعه، فتسمع لغيره، حتى أطرب الإنس ذاك الغناء: الذي سمعوه من الجن، قال: فلاح الصباح، وإذا بالفنيق يشقشق. والفنيق: بفتح الفاء وكسر النون وسكون المثناة تحت ثم قاف: الفحل الكريم من الإبل، ويشقشق بشينين معجمتين وقافين: أي يهدر إلى النوق، فملكت خطامه، وعلوت سنامه، حتى إذا لغب بالغين المعجمة والموحدة: أي تعب، فنزل في روضة خضراء؟ فإذا أنا بقسّ بن ساعدة في ظل شجرة وبيده قضيب من أراك ينكت به الأرض. والنكت بالمثناة فوق، وهو يقول:

يا ناعي الموت والملحود في جدث (أي قبر) ** عليهم من بقايا بزهم خرق (أي والبز الثياب)

دعهم فإن لهم يوما يصاح به ** فهم إذا انتبهوا من نومهم فرقوا

أي خافوا حتى يعودا بحال غير حالهم ** خلقا جديدا كما من قبله خلقوا

منهم عراة ومنهم في ثيابهم ** منها الجديد ومنها المنهج الخلق

والمنهج من الثياب: الذي أخذ في البلى، قال: فدنوت منه، فسلمت عليه فرد عليّ السلام، فإذا بعين خرارة: أي لمائها خرير: أي صوت في الأرض، خوارة: أي ضعيفة، ومسجد بين قبرين وأسدين عظيمين يلوذان به، وإذا بأحدهما قد سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء، فضربه بالقضيب الذي في يده وقال: ارجع، ثكلتك أمك: أي فقدتك حتى يشرب الذي قبلك فرجع، ثم ورد بعده، فقلت له: ما هذان القبران؟ قال: هذان قبرا أخوين كانا لي يعبدان الله   معي في هذا المكان لا يشركان بالله شيئا: أي اسم أحدهما سمعون والآخر سمعان، فأدركهما الموت فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما، ثم نظر إليهما وأنشد أبياتا، فقال رسول الله : رحم الله قسا، إني أرجو أن يبعثه الله أمة وحده: أي واحدا يقوم مقام جماعة كما تقدم، وقد أشار إلى ذلك صاحب الأصل بقوله:

وعنه أخبر قس قومه فلقد ** حلى مسامعهم من ذكره شنفا

ولما مات قس قبر عندهما، وتلك القبور الثلاثة بقرية يقال لها روحين، من أعمال حلب، وعليها بناء والناس يزورونهم، وعليهم وقف ولهم خدام.

ومن ذلك ما ذكره الواقدي بإسناد له قال: كان أبو هريرة   يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا، وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم، فبينا الخثعميون عند صنم لهم إذ سمعوا هاتفا يهتف ويقول:

يا أيها الناس ذوو الأجسام ** ومسندو الحكم إلى الأصنام

أما ترون ما أرى أمامي ** من ساطع يجلو دجى الظلام

ذاك نبي سيد الأنام ** من هاشم في ذروة السنام

مستعلن بالبلد الحرام ** جاء يهدّ الكفر بالإسلام

أكرمه الرحمن من إمام

قال أبو هريرة: فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا، فلم يمض بهم ثالثهم حتى فجأهم خبر رسول الله أنه قد ظهر بمكة، أي جاءهم ذلك بغتة، فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند أصنامهم.

وأما خبر زمل بن عمرو العذري قال: كان لبني عذرة، وهي قبيلة من اليمن صنم يقال له خمام بالخاء المعجمة المضمومة وتخفيف الميم وكانوا يعظمونه، وكان في بني هند بن حرام بالحاء المهملة المفتوحة والراء، وكان سادنه: أي خادمه رجلا يقال له طارق، قال في النور: لا أعلم له ترجمة ولا إسلاما، وكانوا يعترون، أي يذبحون الذبائح عتده، فلما ظهر النبي سمعنا صوتا يقول: يا بني هند بن حرام، ظهر الحق وأودى خمام، أي هلك، ورفع الشرك الإسلام. قال زمل: ففزعنا لذلك، وهالنا أي أفزعنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا يقول: يا طارق يا طارق، بعث النبي الصادق، بوحي ناطق، صدع صدعة بأرض تهامة، لناصريه السلامة، ولخاذليه الندامة، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة، فوقع الصنم لوجهه.

فإن كان ذلك الصوت من جوف الصنم ويرشد إليه قوله: هذا الوداع مني إلى يوم القيامة، فهو من غير هذا النوع، وإن لم يكن فهو من هذا النوع. قال زمل: فابتعت أي اشتريت راحلة، ورحلت حتى أتيت النبي مع نفر من قومي وأنشدته:

إليك رسول الله أعلمت نصه (االنص: هو الغاية في السير. ) ** أكلفها حزنا وقوزا من الرمل (والحزن ما ارتفع من الأرض، والقوز بالقاف والزاي: التل الصغير. )

لأنصر خير الناس نصرا موزرا (أي قويا) ** وأعقد حبلا من حبالك في حبلى (والحبل العهد والميثاق. )

وأشهد أن الله لا شيء غيره أدين له (أي أخضع وأضيع) ** ما أثقلت قدمي نعلي

ومن هذا النوع خبر تميم الداري: أي ويكنى أبا رقية اسم ابنة له لم يولد له غيرها روى عنه قصة الجساسة مع الدجال على المنبر، فقال: حدثني تميم الداري، وذكر القصة، قال بعضهم: وهذا أولى ما يخرّجه المحدثون في رواية الكبار عن الصغار.

وقد يكون من ذلك ما ذكر أبا بكر   مر يوما على ابنته عائشة  ، فقال: هل سمعت من رسول الله دعاء؟ فقالت سمعت من رسول الله دعاء كان يعلمناه، وذكر أن عيسى ابن مريم كان يعلمه أصحابه ويقول: لو كان أحدكم جبل دين ذهبا قضاه الله عنه، قال نعم يقول: «اللهم فارج الهم، كاشف الغم، مجيب دعوة المضطرين، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أنت ترحمني، فارحمني برحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك» وعن أبي بكر   قال: «كان عليّ دين وكنت له كارها فقلته، فلم ألبث إلا يسيرا حتى قضيته».

قال تميم الداري  : كنت بالشام حين بعث رسول الله، فخرجت إلى بعض حاجاتي فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي، فلما أخذت مضجعي إذا مناد ينادي لا أراه، عذ بالله، فإن الجن لا تجير أحدا على الله، فقلت أيم تقوله؟ وأيم بتشديد الياء وبإسكانها وفتح الميم فيهما: أي أيما شيء تقول؟ فقال: «قد خرج رسول الأميين رسول الله وصلينا خلفه بالحجون: أي وهو مقبرة مكة التي يقال لها المعلاة كما تقدم وأسلمنا واتبعناه، وذهب كيد الجن، ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد فأسلم، فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب، فسألت راهبه وأخبرته، فقال: صدقوك نجده يخرج من الحرم أي مكة، ومهاجره الحرم: أي المدينة، وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه، قال تميم: فطلبت الشخوص: أي الذهاب حتى جئت رسول الله فأسلمت.

أقول: وهذا يدل ظاهرا على أن تميما الداري أسلم بمكة قبل الهجرة، فهو مما الكلام فيه، بل رأيت في تتمة الخبر: فسرت إلى مكة، فلقيت النبي وكان مستخفيا فآمنت به.

ورأيت بعضهم قال: وهذه الرواية غلط، لأن تميما الداري إنما أسلم سنة تسع من الهجرة، والله أعلم.

قال: ومن ذلك ما حدّث به سعيد بن جبير   أن رجلا من بني تميم حدث عن بدء إسلامه قال: إني لأسير برمل عالج ذات ليلة، إذ غلبني النوم، فنزلت عن راحلتي، وأنختها ونمت وتعوذت قبل نومي، فقلت: أعوذ بعظيم هذا الوادي عن الجن، فرأيت في منامي رجلا بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي، فانتبهت فزعا فنظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئا، فقلت: هذا حلم، ثم عدت فتعوذت، فرأيت مثل ذلك وإذا بناقتي ترعد. ثم غفوت، فرأيت مثل ذلك، فانتبهت، فرأيت ناقتي تضطرب، فالتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيته في منامي بيده حربة ورجل شيخ يمسك بيده يرده عن ناقتي، وبينهما نزاع.

فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش، فقال الشيخ للفتى: قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإنسي، فقام الفتى وأخذ منها ثورا وانصرف، ثم التفت إلى الشيخ وقال: يا فتى إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله، فقل: أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي، ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها، فقلت له: ومن محمد؟ قال: نبي عربي لا شرقي ولا غربي، فقلت: أين مسكنه؟ قال: يثرب ذات النخل، فركبت ناقتي، وحثثت السر حتى أتيت المدينة، فرأيت رسول الله، فحدثني قبل أن أذكر له منه شيئا، ودعاني إلى الإسلام فأسلمت، وهذا السياق يدل على أن هذه القصة بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه.

ونظير هذا ما حدث به بعض الصحابة قال: خرجت في طلب إبل لي وكنا إذا نزلنا بواد قلنا نعوذ بعزيز هذا الوادي، فتوسدت ناقتي، وقلت: أعوذ بعزيز هذا الوادي فإذا هاتف يهتف بي ويقول:

ويحك عذ بالله ذي الجلال ** منزل الحرام والحلال

ووحد الله ولا تبال ** ما كيد ذي الجن من الأهوال

إذ يذكر الله على الأحوال ** وفي سهول الأرض والجبال

وصار كيد الجن في سفال ** إلا النبي وصالح الأعمال

فقلت له:

يا أيها القائل ما تقول ** أرشد عندك أم تضليل

فقال:

هذا رسول الله ذو الخيرات ** جاء بيس وحاميمات

وسور بعد مفصلات ** يأمر بالصلاة والزكاة

ويزجر الأقوام عن هنات ** قد كنّ في الإسلام منكرات

فقلت: أما لو كان لي من يؤدي إبلي هذه إلى أهلي لأتيته حتى أسلم فقال: أنا أؤديها فركبت بعيرا منها ثم قدمت فإذا النبي على المنبر. وفي رواية: فوافيت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة، فإني أنيخ راحلتي، إذ خرج إلي أبو ذر فقال لي: يقول لك رسول الله ادخل، فدخلت، فلما رآني قال: ما فعل الرجل. وفي لفظ: ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك، أما إنه قد أداها سالمة، وقد قص الله تعالى على نبيه ما كان عليه الناس قبل بعثته، من أن الإنسان إذا نزل منزلا مخوفا قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهائه بقوله سبحانه وتعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال} أي يستعيذون برجال (من الجن) أي حين ينزلون في أسفارهم بمكان مخوف يقول كل رجل أعوذ بسيد هذا المكان من شر سفهائه {فزادوهم رهقا} أي زادوا الجن: أي ساداتهم باستعاذتهم بهم طغيانا، فيقولون: سدنا الإنس والجن.

أي ومن ذلك ما حكاه وائل بن حجر الحضرمي، ويكنى أبا هنيدة، كان قيلا من أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم. قال: «وفدت على رسول الله وقد بشر أصحابه بقدومي، فقال: يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الله   وفي رسوله، وهو بقية أبناء الملوك. قال وائل فما لقيني أحد من الصحابة إلا قال: بشرنا بك رسول الله قبل قدومك بثلاث، فلما دخلت على رسول الله رحب بي وأدناني من نفسه وقرب مجلسي وبسط لي رداءه فأجلسني عليه وقال: اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده، ثم صعد المنبر وأقامني بين يديه ثم قال: أيها الناس هذا وائل بن حجر أتاكم من أرض بعيدة من حضرموت راغبا في الإسلام فقلت: يا رسول الله بلغني ظهورك وأنا في ملك عظيم، فمن الله على أن رفضت ذلك كله، وآثرت دين الله قال صدقت، اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده».

قال: وسبب وفودي على رسول الله أنه كان لي صنم من العقيق فبينما أنا نائم في الظهيرة إذا سمعت صوتا منكرا من المخدع الذي به الصنم فأتيت الصنم وسجدت بين يديه، وإذا قائل يقول:

واعجبا لوائل بن حجر ** يخال يدري وهو ليس يدري

ماذا يرجي من نحيت صخري ** ليس بذي نفع ولا ذي ضر

لو كان ذا حجر أطاع أمري*

قال: فقلت: أسمعت أيها الهاتف الناصح، فماذا تأمرني؟ فقال:

ارحل إلى يثرب ذات النخل ** تدين دين الصائم المصلي

محمد النبي خير الرسل

ثم خر الصنم لوجهه، فاندقت عنقه فقمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت مسرعا، حتى أتيت المدينة فدخلت المسجد الحديث.

وفيه أنه إن كان الصوت من جوف الصنم فهو من غير هذا النوع. ولوائل هذا حديث مع معاوية تركناه لطوله.

وأما ما سمع من بعض الوحوش، فمنه ما حدث به أبو سعيد الخدري   قال: «بينا راع يرعى بالجزيرة إذ عرض الذئب لشاة من شياهه فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه فقال ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إليّ؟ فقال الراعي أعجب من ذئب يكلمني بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب مني؟ رسول الله بين الحرتين».

وفي رواية بيثرب يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، وفي لفظ: يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم، فساق الراعي شياهه فأتى المدينة فغدا لرسول الله، فحدثه بما قال الذئب، فقال رسول الله : صدق الراعي، إن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم الرجل شراك نعله أي وهو أحد سيورها الذي يكون على وجهها كما تقدم، وعذبة سوطه، أي طرفه وقيل أحد سيوره، ويخبره بما فعل أهله» أي وفي لفظ «فأمر رسول الله، فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج فقال للأعرابي: أخبرهم فأخبرهم».

وفي رواية أن راعي الغنم كان يهوديا. وفي رواية أن الذئب قال له أنت أعجب مني واقفا على غنمك وتركت نبيا لم يبعث الله قط أعظم منه قدرا وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف أهلها وأصحابه ينظرون قتالهم، وما بينك وبينه إلا هذا الشعب، فتصير في جنود الله تعالى، فقال له الراعي: من لي بغنمي، فقال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم إليه غنمه ومضى إليه، وقال له رسول: «عد إلى غنمك تجدها بوفرها فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها» وفيه أن هذا وما تقدم من خبر سعيد بن جبير كما علمت بعد الهجرة لا عند المبعث الذي الكلام فيه.

قال في النور هذا الراعي لا أعرف اسمه. قال وكلم الذئب غير واحد، فانظرهم في تعليقي على البخاري.

أقول: ذكر في حياة الحيوان عن ابن عبد البر: كلم الذئب من الصحابة   ثلاثة: رافع بن عميرة، وسلمة بن الأكوع، ووهبان بن أوس.

وأما ما سمع من بعض الأشجار، فقد روي عن أبي بكر   أنه قيل له: هل رأيت قبل الإسلام شيئا من دلائل نبوة محمد؟ قال نعم، بينا أنا قاعد في ظل شجرة في الجاهلية، إذ تدلى على غصن من أغصانها حتى صار على رأسي فجعلت أنظر إليه وأقول: ما هذا؟ فسمعت صوتا من الشجرة: هذا النبي يخرج في وقت كذا وكذا فكن أنت من أسعد الناس به، والله أعلم.

وأما تساقط النجوم، وطرد الجن بها عن استراق السمع. فقد قال ابن إسحاق لما تقارب أمر رسول الله وحضر مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد فيها فرموا بالنجوم فعرف الجن أن ذلك لأمر حدث من الله في العباد، يقول الله تعالى لنبيه حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا {وأنا لمسنا السماء} أي طلبنا استراق السمع منها ( ) {فوجدناها ملئت حرسا شديدا} أي ملائكة أقوياء يمنعون عنها {وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} لخلوها عن الحرس والشهب {فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} أي أرصد له ليرمي به: أي ومن يخطف الخطفة منهم بخفة حركته يتبعه شهاب ثاقب يقتله: أي أو يحرق وجهه أو يخبله قبل أن يلقيها إلى الكاهن، وذلك لئلا يلتبس أمر الوحي بشيء من خبر الشياطين مدة نزوله وبعد انقضائه وموته، لئلا تدخل الشهبة على ضعفاء العقول، فربما توهموا عود الكهانة التي سببها استراق السمع، وأن أمر رسالته تم فاقتضت الحكمة حراسة السماء في حياته وبعد موته، ومن ثم قال «لا كهانة بعد اليوم».

وقد حدث بعضهم قال: إن أول العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمى بها ثقيف، وإنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية، وكان أدهى العرب، وأنكرها رأيا: أي أدهاها رأيا، وكان ضريرا، وكان يخبرهم بالحوادث فقالوا له: يا عمرو ألم تر: أي تعلم ما حدث في السماء من الرمي بهذه النجوم، فقال: بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم أي النجوم المشهورة ( ) التي يهتدي بها في البر والبحر وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء هي التي يرمي بها فهو والله طي هذه الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها فهو لأمر أراد الله بهذا الخلق: أي والنوء بالنون والهمز هنا: ما يحصل عند سقوط نجم في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما. وحقيقة النوء سقوط النجم وطلوع رقيبه في المدة المذكورة.

وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع منها، فتقول: مطرنا بنوء كذا، وسيأتي الكلام على ذلك في غزوة الحديبية.

وفي لفظ: فأمر أراد الله ونبي يبعث في العرب فقد تحدث بذلك. لا يقال: قد رجمت الشياطين بالنجوم قبل ذلك، وذلك عند مولده. لأنا نقول: المراد رجمت الآن بأكثر مما كان قبل ذلك، أو صارت تصيب ولا تخطىء.

ومن ثم حدث بعضهم، قال: لما بعث النبي أي قرب زمن بعثه رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها قبل، فأتوا عبد يا ليل بن عمرو وهو بمثناتين تحتيتين وكسر اللام الأولى الثقفي وكان أعمى فقالوا: إن الناس قد فزعوا وقد أعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم، فقال لهم: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي تعرف أي وهي التي يهتدي بها في البر والبحر، وتعرف بها الأنواء فهي عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهي من حدث، فنظروا فإذا نجوم لا تعرف، فقالوا: هذا من حدث.

أي وقد روى مسلم أنه قال: «النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما يوعدون، وأن آمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون، فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي ».

وفي لفظ: فما مكثوا إلا يسرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب فقال: ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل.

وهذا قد يخالف ما يأتي عن ابن عمر «لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله منعت الشياطين من خبر السماء بالشهب» ولا مانع من تكرر سؤال ثقيف مرة لعمرو بن أمية ومرة لعبد يا ليل بن عمرو، وأن كلا منهما كان أعمى. ويحتمل اتحاد الواقعة.

ووقع الاختلاف في اسم الذي سألوه، فسماء بعضهم عمرو بن أمية، وبعضهم سماه عبد يا ليل بن عمرو، هذا كما ترى إنما كان عند المبعث، وبه يعلم ما في قول الماوردي الذي نقله عن شيخ بعض شيوخنا النجم الغيطي في معراجه وأقره.

وسببه أي رمي النجوم أن الله تعالى لما أراد بعثة محمد رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، ففزع أكثر العرب منها، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير وكان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها، فقال: انظروا البروج الاثني عشر، فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فلما بعث رسول الله كان هو الأمر العظيم، فإنه يقتضي أن المراد ببعثه ولادته فكان يتعين إسقاط قوله قبل مولده، لما علمت أن هذا: أي كثرة تساقط النجوم إنما كان عند بعثه ونبوته لا عند ولادته. ومنه خبر أبي لهب أو لهيب بن مالك أي من بني لهب، فإن بني لهب فزعوا لفزع ثقيف. قال: «حضرت مع رسول الله فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبي وأمي، نحن أول من عرف حراسة السماء ومنع الجن من استراق السمع، وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن يقال له خطر. بالخاء المعجمة والطاء المهملة والراء ابن مالك. قال في النور: لا أعرف له ترجمة إلا إسلاما، وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وكان من أعلم كهاننا، فقلنا له يا خطر هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمي بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها، فقال ائتوني بسحر أي قبيل الفجر أخبركم الخبر الخير، أم ضرر أم لأمن أو حذر. قال. فانصرفنا عنه يومنا فلما كان من الغد في وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص في السماء بعينيه، فناديناه: يا خطر يا خطر، فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا فانقض نجم عظيم من السماء وصرخ الكاهن رافعا صوته أصابه أصابه، جمع وصب كجمل وجمال، فالهمزة بدل من الواو، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوابه: أي زال عنه جوابه، يا وليه ما حاله، بلبله بلباله، البلبال الغم، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله، ثم أمسك طويلا، ثم قال: يا معشر بني قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أقسم بالكعبة والأركان، والبلد المؤتمن السدان أي الخدام، قد منع السمع عتاة الجان، بثاقب يكون ذا سلطان، من أجل مبعوث عظيم الشأن، يبعث بالتنزيل والفرقان، وبالهدى وفاضل القرآن، تبطل به عبادة الأوثان، قال فقلنا له: ويلك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما، فماذا ترى لقومك؟ فقال:

أرى لقومي ما أرى لنفسي ** أن يتبعوا خير نبي الإنس

برهانه مثل شعاع الشمس ** يبعث في مكة دار الحمس

بمحكم التنزيل غير اللبس

والحمس بضم الحاء المهملة وإسكان الميم والسين المهملة: هم قريش وما ولدت من غيرها فإنهم كانوا لا يزوجون بناتهم لأحد من أشراف العرب إلا على شرط أن يتحمس أولادهم، فإن قريشا من بين قبائل العرب دانوا بالحمس، ولذلك تركوا الغزو، لما في ذلك من استحلال الأموال والفروج ومالوا للتجارة، ومن ثم يقال: قريش الحمس، سموا بذلك لتشددهم في دينهم، لأن الحماسة هي الشدة، فقلنا له: يا خطر ومن هو؟ فقال والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حكمه طيش. أي عدول عن الحق، من قولهم طاش السهم عن الهدف: إذا عدل عنه، ولا في خلقه هيش. أي ليس في طبيعته وسجيته قول قبيح، يكون في جيش، وأي جيش، من آل قحطان، وآل أيش، وآل قحطان هم الأنصار، قال: «رحى الإيمان دائرة في ولد قحطان» وآل أيش قبيلة من الجن المؤمنين، ينسبون إلى أبيهم أيش، شخص من كبير الجن. وقيل أراد بهم المهاجرين. أي ومن المهاجرين الذي يقال فيهم أيش، لأنه يقال في مقام المدح فلان أيش على معنى أي شيء هو؟ أي شيء عظيم لا يمكن أن يعبر عن عظمته وجلالته. وروي بدل أيش ريش. فقلنا له بين لنا من أي قريش؟ فقال: والبيت ذي الدعائم، يعني الكعبة، والركن يعني الحجر الأسود والأحائم، يعني بئر زمزم لأن الأحائم جمع أحوام والأحوام جمع أحوم وهو الماء في البئر؟ وأراد بئر زمزم أو أن الأصل الحوائم، ففيه قلب مكان الأصل فواعل فصار أفاعل، والحوائم: هي الطير التي تحوم على الماء، والمراد حمام مكة لهو نجل أي نسل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم يعني الحروب وقتل كل ظالم، ثم قال هذا هو البيان: أخبرني به رئيس الجان، ثم قال الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر، ثم سكن وأغمي عليه فما أفاق إلا بعد ثلاثة أيام، فقال لا إله إلا الله، فقال رسول الله: «سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة » أي وحي وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده: أي مقام جماعة كما تقدم في نظيره.

قال: ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس   عن نفر من الأنصار قالوا: «بينا نحن جلوس مع رسول الله رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله : ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية؟ » أي قبل البعث قالوا: يا رسول الله كنا نقول إذا رأينا يرمى بها: مات ملك ولد مولود، مات مولود، فقال رسول الله : ليس ذلك كذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعته حملة العرش فسبحوا فسبح من تحتهم بتسبيحهم فسبح من تحت ذلك، فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا، ثم يقول بعضهم لبعض لم سبحتم؟ فيقولون: قضى الله في خلقه كذا وكذا له الأمر الذي كان» أي يكون في الأرض «فيهبط به من سماء إلى سماء» أي تقوله أهل كل سماء لمن يليهم «حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاس، ثم يأتون به إلى الكهان، فيحدثونهم فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا».

أي وفي البخاري «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقو السمع، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه» الحديث. وقولهم قال الحق: أي ثم يذكرونه، لما تقدم من قولهم قضى الله في خلقه كذا وكذا، ولما يأتي. وقوله، يرمى بها في الجاهلية صريح في أنه كان يرمي بالنجوم للحراسة في زمن الفترة بينه وبين عيسى   قبل مولده. ويخالفه ما يأتي عن أبي بن كعب   «وقد سئل عن الكهان؟ فقال: إنهم ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بالشيء يكون حقا، قال: تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة » ثم إن الله تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة.

أي وفي البخاري أنه قال: «إن الملائكة تتحدث في العنان ـ أي الغمام ـ بالأمر يكون في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن، فيزيدونها مائة كذبة ».

وعن أبيّ بن كعب   «لم يرم بنجم منذ رفع عيسى   حتى تنبأ رسول الله رمى بها، فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد يا ليل» الحديث.

أقول: وهذا يفيد أنه لم يرم بها قبل مبعثه: أي قبل قربه الشامل لزمن الولادة، فلا يخالف ما تقدم، وأن النجوم كان يرمى بها قبل أن يرفع عيسى   وذلك صادق بزمن آدم فمن بعده من الرسل، وهو الموافق لقول الزهري: الحجب وتساقط النجوم كان موجودا قبل البعث في سالف الأزمان: أي في زمن الرسل لا في زمن الفترات بين الرسل، لقول الكشاف: وقول بعضهم: ظاهر الأخبار يدل على أن الرجم للشياطين بالشهب كان في زمن غيره من الرسل وهو كذلك، وعليه أكثر المفسرين ـ حراسة لما ينزل من الوحي على الرسل. وأما في الزمن الذي ليس فيه رسول: أي وهو زمن الفترات بين الرسل، فكانوا يسترقون السمع في مقاعد لهم، ويلقون ما يسمعون للكهان: أي لأن الله تعالى ذكر فائدتين في خلق النجوم، فقال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} وقال تعالى {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد} وكونها إنما جعلت رجوما وحفظا ليس إلا عند قرب مبعثه، خاصة دون بقية الرسل من أبعد البعيد.

وحيث كان الغرض من الرمي بالنجوم منع الشياطين من استراق السمع اقتضى ذلك أنه لم يرم بها قبل مبعثه، ومنه زمن ولادته.

ويوافق ذلك قول ابن إسحاق: لما تقارب أمر رسول الله وحضر مبعثه حجبت الشياطين، وقول ابن عمر  : «لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله منعت الشياطين من خبر السماء، رموا بالشهب فذكروا ذلك لإبليس، فقال: بعث أي لعله بعث نبي، عليكم بالأرض المقدسة أي لأنها محل الأنبياء، وهذا يدل على أن عند إبليس أن الرمي بالنجوم علامة على بعث الأنبياء، فذهبوا ثم رجعوا، فقالوا ليس بها أحد، فخرج إبليس يطلبه بمكة: أي لأنها مظنة ذلك بعد محل الأنبياء، فإذا رسول الله بحراء منحدرا معه جبريل، فرجع إلى أصحابه، فقال: بعث أحمد ومعه جبريل». وفي رواية «إن إبليس قال لما أخبروه بأنهم منعوا من خبر السماء: إن هذا الحدث حدث في الأرض، فائتوني من تربة كل أرض فأتوه بذلك، فجعل يشمها، فلما شم تربة مكة قال: من ههنا الحدث، فمضوا فإذا رسول الله قد بعث».

أقول: قد يقال لا منافاة بين الروايتين، لأنه يجوز أنهم لم يخبروه بمبعثه لما وجدوه، فذهب أو ذهب بعد إخبارهم له بذلك للاستيقان، وهذا يفيد أن الرمي بالنجوم إنما كان عند مبعثه: أي عند تقارب زمنه لا قبل ذلك الذي منه زمن ولادته. وحينئذ يشكل حصول مثل ذلك لإبليس وجنوده عند مولده. ومن ثم قدمنا أنه يجوز أن يكون من خلط بعض الرواة، وهذه الرواية تدل على أن إبليس لم يكن عنده علم بأن سقوط النجم على الشياطين علامة على مبعث النبي والرواية التي قبلها تدل على ذلك كما علمت. وكلتا الروايتين يدل على أنه لم يعلم عينه ولا محله والله أعلم، وقد أشار صاحب الهمزية إلى أن حجب الشياطين كان عند مبعثه بقوله:

بعث الله عند مبعثه الشهـ ** ـب حراسا وضاق عنها الفضاء

تطرد الجن عن مقاعد للسمـ ** ـع كما يطرد الذئاب الرعاء

محت آية الكهانة آيا ** ت من الوحي ما لهن انمحاء

أي أرسل الله زمن إرساله الشعل من النار على الجن لأجل حراسة السماء منهم، ولكثرة تلك الشعل ضاقت عنها المفازات حال كون تلك الشهب تطرد الجن عن أمكنة قريبة يقعدون فيها لأجل أن يسمعوا شيئا من الملائكة المتكلمين بما سيقع في الأرض من المغيبات، وطرد تلك الشهب لأولئك الشياطين في الشدة كطرد الرعاة للذئاب عن الغنم إذا أرادت أن تعدو عليها، فبسبب ذلك الطرد البالغ للجن عن خبر السماء محت آيات من الوحي آية الكهانة التي هي الإخبار بالأمور المغيبة، ما لتلك الآيات من الوحي انمحاء: أي ذهاب، بل هي باقية إلى يوم القيامة. وفيه أنه لزم على كون الغرض من الرمي بالنجوم حفظ الوحي أن ذلك لا يكون إلا عند مبعثه ولا يكون قبل ذلك الذي قبل منه وقت ولادته. وأيضا لو كان ذلك موجودا قبل مبعثه واستمر إلى مبعثه لم تفزع العرب منه عند مبعثه.

وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون الغرض الأصلي من الرمي بها حفظ الوحي، فلا ينافي وجود ذلك قبل ذلك عند ولادته إرهاصا وتخويفا.

وكان هذا السؤال الثاني هو الحامل لأبيّ بن كعب على دعوى أنه لم يرم بالنجوم منذ رفع عيسى   حتى تنبأ رسول الله رمى بها، ومن ثم قال: فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فزعوا لعبد يا ليل. ويجاب بأنه يجوز أن يكون الرمي بالنجوم عند المبعث مخالفا للرمي بها قبله، إما لفرط كثرتها وإما لأن الرمي بها بعد المبعث كان من كل جانب. وقيل كان من جانب واحد، وإما لأن الرمي بها صار لا يخطىء أبدا، وقبل ذلك كان يخطىء تارة ويصيب أخرى، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله: أي يصيره غولا يضل الناس في البراري، وكان ذلك سبب فزع العرب لأنه كان قبل ذلك لم يكن من كل جانب، ولم يكثر ويخطىء فيعود الشيطان إلى مكانه فيسترق السمع ويلقي ما يسترقه إلى كاهنه أي فلم تنقطع الكهانة قبل مبعثه بالمرة، بل كانت موجودة إلى زمن مبعثه، وعند مبعثه انقطعت بالمرة ومن ثم قال: «لا كهانة اليوم» وهذا كله على تسليم رواية ابن عباس أن النجوم رمى بها عند ولادته. وحفظ الوحي بالرمي بالشهب لا يخالف ما حكاه في الإتقان عن سعيد بن جبير «ما جاء جبريل بالقرآن إلى النبي إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة » وسيأتي عن الينبوع عن ابن جرير «ما نزل جبريل بوحي قط إلا ونزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحى إليه يطردون الشياطين عنهما، لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى ذلك النبي من الغيب الذي يوحيه إليه فيبلغوه إلى أوليائهم».

وعن بعضهم قال: سافرت عن زوجتي فخلفني عليها شيطان على صورتي وكلامي وسائر حالاتي التي تعرفها مني، فلما قدمت من السفر لم تفرح بي ولم تتهيأ لي، وكانت إذا قدمت من سفر تتهيأ لي كما تتهيأ العروس فقلت لها في ذلك، فقالت: إنك لم تغب، فبينما أنا كذلك، وقد ظهر لي ذلك الشيطان وقال لي أنا رجل من الجن عشقت امرأتك وكنت آتيها في صورتك فلا تنكر ذلك، فاختر إما أن يكون لك الليل ولي النهار، أو لك النهار ولي الليل، فراعني ذلك ثم اخترت النهار، فلما كان في بعض الليالي جاءني وقال: بت الليلة عند أهلك فقد حضرت نوبتي في استراق السمع من السماء فقلت: أنت تسترق السمع؟ فقال: نعم هل لك أن تكون معي؟ قلت: نعم، فلما جاء الليل أتاني، وقال حوّل وجهك فحولت وجهي، فإذا هو في صورة خنزير له جناحان فحملني على ظهره فإذا له معرفة كمعرفة الخنزير، فقال لي: استمسك بها فإنك ترى أمورا وأهوالا فلا تفارقني تهلك، ثم صعد حتى لصق بالسماء فسمعت قائلا يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» فهوى بي ووقع من وراء العمران فحفظت الكلمات فلما أصبحت أتيت أهلي، فلما كان الليل جاء فقلتهن، فاضطرب، فلم أزل أقولهن حتى صار رمادا، وإن لم يحمل وقوع ذلك في زمن الجاهلية وإلا كان كذبا لأنهم أجابوا عن إيراد أن القول بقدرة الجن على التصور يلزمه رفع الثقة بشيء، فإن من رأى نحو ولده وزوجته احتمل أنه جني فيشك بأن الله تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي إلى ما يترتب عليه ريبة في الدين فليتأمل.

وقد جاء في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله «من كثرت همومه وغمومه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، والذي نفسي بيده إن لا حول ولا قوة إلا بالله شفاء من سبعين داء أدناها الهمّ والغم والحزن» وفرق بين الغم والهم، بأن الغم يعرض منه السهر، والهم يعرض منه النوم.

وفي حكمة آل داود: العافية ملك خفي، وهمّ ساعة هرم سنة. وقال الأطباء: الهم يوهن القلب، وفيه ذهاب الحياة، كما أن في الحزن ذهاب البصر. وفي الحديث «من كثر همه سقم بدنه» فعلم أن النجوم على تسليم أنه كان يرمي بها قبل الولادة وبعدها إلى البعثة كانت قبل قرب زمن المبعث تصيب تارة ولا تصيب أخرى مع قلتها، وعند البعثة تصيب ولا بد مع كثرتها، وإن الكثرة هي سبب الفزع لا دوام الإصابة، وإلا فمجرد دوام الإصابة لا يكون حاملا على الفزع لأنه لا يظهر لكل أحد، بخلاف الكثرة، ومجرد الكثرة لا يكون سببا لقطع الكهانة، أو أنها قبل البعث كانت ترمي من جانب دون آخر، وبعد البعثة رميت من جميع الجوانب وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ويقذفون من كل جانب دحورا} فكان ذلك سببا للفزع، والمراد وجود ذلك مع دوام الإصابة ليكون سببا لقطع الكهانة، وإلا فمجرد الرمي من كل جانب مع قلة الإصابة لا يكون سببا لقطع الكهانة، ولما انقطعت الكهانة بعدم إخبار الجن قالت العرب هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة حتى أسرعوا في أموالهم أي في إتلافها، فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها الناس أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي، والشمس والقمر؟ كذا في كلام بعضهم، ولعله لا يخالف ما تقدم من أن أول العرب فزع للرمي بالنجوم ثقيف، وأنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية، ولرجل آخر يقال له عبد يا ليل، لجواز أن يكون ما ذكر هنا صدر من بعضهم لبعض، ثم اجتمعوا على عمرو وعبد ياليل والله أعلم.

وظاهر القرآن والأخبار أن الذي يرمي به الشياطين المسترقون نفس النجم، وإنه المعبر عنه بالكوكب وبالمصباح وبالشهاب. وقيل الشهاب عبارة عن شعلة نار تنفصل من النجم أي كما قدمنا فأطلق عليها لفظ النجم، ولفظ المصباح، ولفظ الكوكب، ويكون معنى {وجعلناها رجوما} جعلنا منها رجوما وهي تلك الشهب، ومعنى كونها حفظا باعتبار ما ينشأ عنها من تلك الشهب.

وقالت الفلاسفة: إن الشهب إنما هي أجزاء نارية تحصل في الجوّ عند ارتفاع الأبخرة المتصاعدة واتصالها بالنار التي دون الفلك. وقيل السحاب إذا اصطكت أجرامه تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدّتها سريعة الخمود. فقد حكي أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت قاله في الكشاف.

ومما يؤيد أن الشعل منفصلة من النجوم، ما جاء عن سلمان الفارسي   أن النجوم كلها كالقناديل معلقة في السماء الدنيا كتعليق القناديل بالمساجد مخلوقة من نور. وقيل إنها معلقة بأيدي ملائكة، ويعضد هذا القول قوله تعالى: {إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت} إن انتثارها يكون بموت من كان يحملها من الملائكة. وقيل إن هذا ثقب في السماء، وقد وقع في سنة تسع وتسعين من القرن السادس أن النجوم ماجت وتطايرت تطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر وأفزع الخلق، فلجؤوا إلى الله تعالى بالدعاء قال بعضهم: ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور رسول الله.

أقول: وقد وقع نظير ذلك في سنة إحدى وأربعين من القرن الثالث: ماجت النجوم في السماء، وتناثرت الكواكب كالجراد أكثر الليل، كان أمرا مزعجا لم ير مثله. ووقع في سنة ثلثمائة تناثر النجوم تناثرا عجيبا إلى ناحية المشرق، والله أعلم.

وأما ما جاء من ذكره: أي ذكر اسمه وصفته وصفة أمته في الكتب القديمة: أي كالتوراة المنزلة على موسى   لست ليال خلون من رمضان اتفاقا. والإنجيل المنزل على عيسى   لثنتي عشرة خلت من رمضان، وقيل لثلاث عشرة، وقيل لثمان عشرة. والزبور المنزل على داود   لثنتي عشرة، وقيل لثلاث عشرة، وقيل لثمان عشرة، وقيل في ست خلت من رمضان، وصحف شعياء، ويقال له أشعياء أو مزامير داود. وصحف شيث، فقد أنزلت عليه خمسون صحيفة، وقيل ستون. وصحف إبراهيم، فقد أنزل عليه عشرون صحيفة، وقيل ثلاثون أول ليلة من رمضان اتفاقا. وفي كتاب شعيب: ولم يذكر صحف إدريس، وقد أنزلت عليه ثلاثون صحيفة.

وذكر بعضهم أن موسى   أنزل عليه قبل التوراة عشرون صحيفة، وقيل عشر صحائف، وهذا كما لا يخفى يزيد على ما اشتهر أن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب.

وفي كلام بعضهم اتفقوا على أن القرآن أنزل لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان. وعن أبي قلابة «أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان» وحينئذ يكون من حكى الاتفاق في التوراة وصحف إبراهيم لم يطلع على هذا أو لم يعتد به، فقد أشار إلى ذكره في جميع الكتب المنزلة الإمام السبكي   في تائيته بقوله:

وفي كل كتب الله نعتك قد أتى ** يقص علينا ملة بعد ملة

وهذا كما لا يخفى أبلغ من قول بعضهم:

ومن قبل مبعثه جاءت مبشرة ** به زبور وتوراة وإنجيل

وقد اعترض على هذا القائل بعض الأغبياء بأن التوراة والإنجيل قد صحت بشارتهما به. وأما الزبور فلا ندري ولا نقول إلا ما نعلم. ويرده ما ذكره الإمام السبكي، وسنده قوله تعالى: {وإنه لفي زبر الأولين} أي كتبهم. فقد قال بعض المفسرين إن الضمير عائد إلى النبي، لأن الإضافة حيث لا عهد تحمل على العموم، وسيأتي أيضا التصريح بوجود اسمه في الزبور وقد جاء «إن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء والأرض» كما تقدم.

وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} أن عبد الله بن سلام   دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبي مهاجر، فأنزل الله الآية، وفيها أيضا محمد واسمه فيها أيضا حمياطا، وقيل: أي يحمي الحرم من الحرام. واسمه في التوراة أيضا قدمايا: أي الأول السابق، واسمه فيها أيضا ينديند. واسمه أيضا أحيد وقيل أحيد: أي يمنع نار جهنم عن أمته، واسمه فيها أيضا طاب طاب: أي طيب. واسمه فيها أيضا كما في الشفاء محمد حبيب الرحمن، ووصف فيها بالضحوك: أي طيب النفس. وفيها محمد بن عبد الله ولده بمكة، ومهاجره إلى طابة، وملكه بالشام. والتوراة أي على فرض أن تكون اسما عربيا مأخوذة من التورية وهو كتمان السر بالتعريض، لأن أكثرها معاريض من غير تصريح. واسمه في الإنجيل المنحمنا، والمنحمنا بالسريانية: محمد.

أي وما جاء عن سهل مولى خيثمة. قال: كنت يتيما في حجر عمي فأخذت الإنجيل فقرأته حتى مرت لي ورقة ملصقة بغراء ففتقتها فوجدت فيها وصف محمد، فجاء عمي، فلما رأى الورقة ضربني. وقال: ما لك وفتح هذه الورقة وقراءتها، فقلت فيها وصف النبي أحمد، فقال: إنه لم يأت بعد: أي الآن.

أي وفي الإنجيل أيضا اسمه حبنطا: أي يفرق بين الحق والباطل، ووصفه بأنه صاحب المدرعة وهي الدرع، وفيه أيضا وصفه بأنه يركب الحمار والبعير، وسيأتي أن راكب الحمار عيسى  ، وراكب الجمل محمد، وسيأتي الجواب. وفي الإنجيل إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى ربي فيعطيكم بارقليط، والبارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب: أي وما جاء بذلك وأخبر بالحوادث والغيوب إلا محمد رسول الله، والبارقليط أو الفارقليط: الحكيم والرسول. قيل والإنجيل: أي على فرض أن يكون اسما عربيا، مأخوذ من النجل: وهو الخروج، ومن ثم سمي الولد نجلا لخروجه، أو مشتق من النجل: وهو الأصل، يقال لعن الله أناجيله: أي أصوله، فسمى هذا الكتاب بهذا الاسم لأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين. وقيل من النجلة وهي سعة العين لأنه أنزل وسعة لهم: أي لأن فيه تحليل بعض ما حرم عليهم.

ومن ذلك ما جاء من عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص  ، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة، قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك بالمتوكل، ليس بفظ: أي سيىء الخلق، ولا غليظ: أي شديد القول، ولا صخاب بالسين والصاد في الأسواق: أي لا يصيح فيها» وفي الحديث «أشد الناس عذابا كل جعار نعار سخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ـ أي ملة إبراهيم التي غيرتها العرب وأخرجتها عن استقامتها، بأن يقول لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» أي لا تفهم كأنها في غلاف. قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار   فسألته فما أخطأ في حرف.

أقول: لكن في رواية كعب: وأعطى المفاتيح، ليبصرنّ الله به أعينا عورا، وليسمع به آذانا صما، ويقيم به ألسنة معوجة، يعين المظلوم، ويمنعه من أن يستضعف. وفيها وصفه بأنه يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.

وعن بعض أحبار اليهود أنه قال: على جميع ما وصف به في التوراة وقفت إلا هذين الوصفين، وكنت أشتهي الوقوف عليها، فجاءه شخص يطلب منه ما يستعين به، وذكر له أنه لم يكن عنده ما يعينه به، فقلت: هذه دنانير ندفعها له، وتكون على كذا من التمر ليوم كذا ففعل، فجئته قبل الأجل بيومين أو ثلاثة، فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فقال لي عمر: أي عدو الله: تقول لرسول الله ما أسمع وهمّ بي، فنظر إليه رسول الله في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: «أنا وهو أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة ـ أي المطالبة ـ اذهب وأوفه حقه، وزده عشرين صاعا مكان ما روعته أي خفته فأسلم اليهوديّ» وذكر القصة.

وفي التوراة: لا يزال الملك في يهود إلى أن يجيء الذي إياه تنتظر الأمم: أي لا يزال أمرهم ظاهرا إلى أن يجيء الذي تنتظره الأمم. أي المرسل إليهم وهو محمد، لأنه المرسل لجميع الأمم.

وما زعمه اليهود بأنه يوشع رد بنص التوراة في محل آخر: إن الله ربكم يقيم نبيا من إخوتكم مثلي، وقد قال لي: إنه سوف يقيم نبيا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلمتي في فيه، وأيما إنسان لم يطع كلامه أنتقم منه، لأن قوله مثلي: أي رسولا بكتاب مشتمل على الأحكام والشرائع، وذكر المبدأ والمعاد، لأن يوشع لم يكن له كتاب، بل كان متابعا لسنة موسى   في بني إسرائيل خاصة، وأيضا يوشع منهم لا من إخوتهم، فلو كان يوشع لقال منكم.

وما زعمه النصارى إنه المسيح ردّ عليهم بنصوص الإنجيل التي منها: إن الله يقيم لكم نبيا من إخوتكم، لأن المسيح ليس من إخوتهم بل منهم، لأنه من نسل داود. ففي زبور داود: سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، وإخوة بني إسرائيل إنما هم أولاد إسماعيل الذي هو أخو إسحق وبنو إسرائيل منه. وأيضا لو كان المسيح لم يحسن أن يخاطب بهذا اللفظ.

وفي الإنجيل: جاء الله من طور سينا، وظهر بساعير، وأعلن بفاران: أي عرف الله بإرساله موسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم، لأن ظهور نبوّة موسى كان في طور سينا، وتقدم أنه جبل بالشام. قيل هو الذي بين مصر وإيليا، وأنزلت التوراة عليه فيه. وظهور نبوّة عيسى كان في ساعير وهو جبل القدس، لأن عيسى   كان يسكن بقرية بأرض الخليل يقال لها ناصرة، وباسمها سمي من اتبعه، وأنزل عليه الإنجيل بها. وظهور نبوّة محمد كان في فاران وهي مكة، وأنزل عليه القرآن بها.

وفي التوراة أن إسماعيل أقام بقرية فاران، وإنما عبر في جانب موسى بالمجيء لأنه أول المشرعين، لأن كتابه الذي هو التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك، وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده، ومن ثم قيل لها صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز. ولما حصل بعيسى وبكتابه الذي هو الإنجيل نوع ظهور عبر في جانبه بالظهور الذي هو أقوى من المجيء، ثم لما زاد الظهور بمجيء محمد عبر عنه بالإعلان الذي هو أقوى من مجرد الظهور.

وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} إنهم يجدون نعته {يأمرهم بالمعروف} وهو مكارم الأخلاق وصلة الأرحام {وينهاهم عن المنكر} وهو الشرك {ويحلّ لهم الطيبات} وهي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل، والبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام التي حرمتها الجاهلية {ويحرم عليهم الخبائث} التي كانت تستحلها الجاهلية من الميتة والدم ولحم الخنزير {ويضع عنهم إصرهم} من تحريم العمل يوم السبت، وعدم قبول دية المقتول، وأن يقطعوا ما أصابهم من البول والله أعلم.

ومن ذلك ما جاء عن النعمان السبائي   وكان من أحبار يهود باليمن قال: لما سمعت بذكر النبي قدمت عليه وسألته عن أشياء، ثم قلت له: إن أبي كان يختم على سفر ويقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه. قال النعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر، فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا فيه ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنت خير الأنبياء، وأمتك خير الأمم، واسمك أحمد، وأمتك الحمادون: أي يحمدون الله في السراء والضراء قربانهم دماؤهم: أي يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بإراقة دمائهم في الجهاد، وأناجيلهم في صدورهم: أي يحفظون كتابهم، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم، يتحنن الله عليهم كتحنن الطير على فراخه، ثم قال لي: يعني أباه: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدقه، فكان النبي يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال له النبي: «يا نعمان حدثنا، فابتدأ النعمان الحديث من أوله، فرؤى رسول الله يبتسم، ثم قال: أشهد أني رسول الله».

وما زعمه النصارى إنه المسيح ردّ عليهم بنصوص الإنجيل التي منها: إن الله يقيم لكم نبيا من إخوتكم، لأن المسيح ليس من إخوتهم بل منهم، لأنه من نسل داود. ففي زبور داود: سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، وإخوة بني إسرائيل إنما هم أولاد إسماعيل الذي هو أخو إسحق وبنو إسرائيل منه. وأيضا لو كان المسيح لم يحسن أن يخاطب بهذا اللفظ.

وفي الإنجيل: جاء الله من طور سينا، وظهر بساعير، وأعلن بفاران: أي عرف الله بإرساله موسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم، لأن ظهور نبوّة موسى كان في طور سينا، وتقدم أنه جبل بالشام. قيل هو الذي بين مصر وإيليا، وأنزلت التوراة عليه فيه. وظهور نبوّة عيسى كان في ساعير وهو جبل القدس، لأن عيسى   كان يسكن بقرية بأرض الخليل يقال لها ناصرة، وباسمها سمي من اتبعه، وأنزل عليه الإنجيل بها. وظهور نبوّة محمد كان في فاران وهي مكة، وأنزل عليه القرآن بها.

وفي التوراة أن إسماعيل أقام بقرية فاران، وإنما عبر في جانب موسى بالمجيء لأنه أول المشرعين، لأن كتابه الذي هو التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبله من الكتب فإنها لم تشتمل على ذلك، وإنما كانت مشتملة على الإيمان بالله تعالى وتوحيده، ومن ثم قيل لها صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز. ولما حصل بعيسى وبكتابه الذي هو الإنجيل نوع ظهور عبر في جانبه بالظهور الذي هو أقوى من المجيء، ثم لما زاد الظهور بمجيء محمد عبر عنه بالإعلان الذي هو أقوى من مجرد الظهور.

وقد قيل في تفسير قوله تعالى: {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} إنهم يجدون نعته {يأمرهم بالمعروف} وهو مكارم الأخلاق وصلة الأرحام {وينهاهم عن المنكر} وهو الشرك {ويحلّ لهم الطيبات} وهي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل، والبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام التي حرمتها الجاهلية {ويحرم عليهم الخبائث} التي كانت تستحلها الجاهلية من الميتة والدم ولحم الخنزير {ويضع عنهم إصرهم} من تحريم العمل يوم السبت، وعدم قبول دية المقتول، وأن يقطعوا ما أصابهم من البول والله أعلم.

ومن ذلك ما جاء عن النعمان السبائي   وكان من أحبار يهود باليمن قال: لما سمعت بذكر النبي قدمت عليه وسألته عن أشياء، ثم قلت له: إن أبي كان يختم على سفر ويقول لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب فإذا سمعت به فافتحه. قال النعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر، فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا فيه ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنت خير الأنبياء، وأمتك خير الأمم، واسمك أحمد، وأمتك الحمادون: أي يحمدون الله في السراء والضراء قربانهم دماؤهم: أي يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بإراقة دمائهم في الجهاد، وأناجيلهم في صدورهم: أي يحفظون كتابهم، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم، يتحنن الله عليهم كتحنن الطير على فراخه، ثم قال لي: يعني أباه: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدقه، فكان النبي يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال له النبي: «يا نعمان حدثنا، فابتدأ النعمان الحديث من أوله، فرؤى رسول الله يبتسم، ثم قال: أشهد أني رسول الله».

أقول: والنعمان هذا قتله الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، وقطعه عضوا عضوا وهو يقول: إن محمدا رسول الله، وإنك كذاب مفتر على الله، ثم حرقه بالنار: أي ولم يحترق كما وقع للخيل.

وقيل الذي أحرقه الأسود العنسي بالنار ولم يحترق ذؤيب بن كليب أو ابن وهب، ولما بلغه ذلك قال لأصحابه، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل، وهذا السفر يحتمل أن يكون ملخصا من التوراة، وقوله إلا وجبريل معهم يدل على أن جبريل يحضر كل قتال صدر من الصحابة   للكفار، بل ظاهره كل قتال صدر حتى من جميع الأمة. وفي رواية بعضهم نقلا عن سفر من التوراة: لا يلقون أي أمته، عدوّا إلا وبين أيديهم ملائكة معهم رماح.

وفي التوراة في صفة أمته زيادة على ما سبق: يؤضؤون أطرافهم، ويتأزرون في أوساطهم، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم.

وقد جاء «ائتزوا كما رأيت الملائكة » أي ليلة الإسراء «تأتزر» أي مؤتزرة عند ربها إلى أنصاف سوقها.

وقد جاء «عليكم بالعمائم وأرخوها خلف ظهوركم فإنها سيما الملائكة » وكلاهما أي الاتزار وإرخاء العذبة من خصائص هذه الأمة.

وقد جاء «إن العمائم تيجان المسلمين» وفي رواية «من سيما المسلمين» أي علاماتهم المميزة لهم عن غيرهم.

ويؤخذ من وصفهم بأنهم يوضؤون أطرافهم أن الأمم السابقة كانوا لا يتوضؤون، ويوافقه قول الحافظ ابن حجر: إن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة، ويوافقه ما رواه ابن مسعود مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء» أي أن يكونوا طاهرين، أو أن هذا أي وجوب الطهر لكل صلاة كان في صدر الإسلام ولم ينسخ إلا في فتح مكة كما سيأتي.

ويخالف كون الوضوء من خصائص هذه الأمة ما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه ابن لهيعة عن بريدة قال: «دعا رسول الله بوضوء فتوضأ واحدة واحدة فقال: هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال: هذا وضوء الأمم قبلكم، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» فإن هذا يفيد أن الوضوء كان للأمم السابقة، لكن مرتين ولأنبيائهم كان ثلاثا، وعليه فالخاص بهذه الأمة التثليث كوضوء الأنبياء: أي كما اختصت هذه الأمة عمن عداها بالغرة والتحجيل.

وعلى هذا يحمل قول ابن حجر الهيتمي إن الوضوء من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم.

وفي كلام ابن عبد البر قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون، ولا أعرفه من وجه صحيح. وفي كلام ابن حجر: والذي من خصائصنا إما الكيفية المخصوصة أو الغرة والتحجيل، هذا كلامه، وهو يفيد أن كون الكيفية المخصوصة ومنها الترتيب من خصائصنا غير مقطوع به، بل الأمر فيه على الاحتمال.

ولا يخفى أن الإشارة في قوله: «هذا وضوء الأمم» يدل على الترتيب، فقد استدل أئمتنا على وجوب الترتيب بأنه لم يتوضأ إلا مرتبا باتفاق أصحابه، ولو كان جائزا لتركه في بعض الأحايين. وما اعترض به على دعوى الاتفاق بأنه جاء عن ابن عباس   أنه وصف وضوءه «فتوضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم رجليه ثم مسح رأسه» أجيب عنه بضعف هذه الرواية.

وعلى تقدير صحتها يجوز أن يكون ابن عباس نسي مسح الرأس فذكره بعد غسل رجليه فمسحه ثم أعاد غسل رجليه. والراوي عن ابن عباس لم يقف على إعادة ابن عباس غسل رجليه.

وفي التوراة في صفة أمته: «دويهم في مساجدهم كدوي النحل» وفي رواية: «أصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل، رهبان بالليل، ليوث بالنهار وإذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشر حسنات. وإذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول: أي وهو التوراة أو جنس الكتب السابقة والكتاب الآخر: أي وهو القرآن.

وروى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح قال الله تعالى لعيسى: يا عيسى إني باعث من بعدك نبيا، أمته إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون صبروا واحتسبوا ولا حلم ولا علم. قال: كيف يكون ذلك لهم ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي. وحينئذ يكون المراد ولا حلم ولا علم لهم كامل، وأن الله تعالى يكمل علمهم وحلمهم من علمه وحلمه، ويدل لذلك ما ذكره بعضهم أن هذه الأمة آخر الأمم فكان العلم والحلم الذي قسم بين الأمم كما شهد به حديث «إن الله قسم بينكم أخلاقكم» قد دق جدا فلم يدرك هذه الأمة إلا يسير من ذلك مع قصر أعمارهم فأعطاهم الله من حلمه وعلمه. وجاء أنهم مسمون في التوراة: صفوة الرحمن. وفي الإنجيل: حلماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء.

وفي الطبراني أن عمر قال لكعب الأحبار: كيف تجدني يعني في التوراة؟ قال خليفة قرن من حديد، أمير شديد، لا تخاف في الله لومة لائم. وزاد عن جواب السؤال قوله: ثم الخليفة من بعدك يقتله أمة ظالمون له ثم يقع البلاء بعد.

وفي صحف شعياء اسمه ركن المتواضعين. وفيها: إني باعث نبيا أميا أفتح به آذنا صما، وقلوبا غلفا، وأعينا عميا، مولده بمكة ومهاجرته بطيبة، وملكه بالشام، رحيما بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ويبكي لليتيم في حجر الأرملة، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته ولو يمشي على القضيب الرعراع يعني اليابس لم يسمع من تحت قدميه، إلى آخر الرواية فإن فيها طولا، وقد ساقها الجلال السيوطي في الخصائص الكبرى. وشعياء هذا كان بعد داود وسليمان، وقبل زكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام.

ولما نهي بني إسرائيل عن ظلمهم وعتوهم طلبوه ليقتلوه فهرب منهم فمر بشجرة فانفلقت له ودخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فأبرزها، فلما رأوا ذلك جاؤوا بالمنشار فوضعوه على الشجرة فنشروها ونشروه معها.

وكان من جملة الرسل الذي عناهم الله تعالى بقوله: {وقفينا من بعده} أي موسى {بالرسل} وهم سبعة، وهو ثالث تلك الرسل السبعة: أي وهو المبشر بعيسى ومحمدا، فقال يخاطب بيت المقدس لما شكا له الخراب وإلقاء الجيف فيه: أبشر يأتيك راكب الحمار، يعني عيسى، وبعده راكب الجمل يعني محمد، وتقدم في وصفه أنه يركب الحمار والبعير.

وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون عيسى اختص بركوب الحمار، بخلاف محمد فإنه كان يركبهما، هذا تارة وهذا أخرى، فليتأمل.

ومن جملتهم أرمياء، قيل وهو الخضر، والله أعلم.

واسمه في الزبور حاط حاط، والفلاح الذي يمحق الله به الباطل وفارق وفاروق. أي يفرق بين الحق والباطل، وهو كما تقدم معنى فارقليط أو بارقليط، بالفاء في الأول والموحدة في الثاني.

وقيل معناه الذي يعلم الأشياء الخفية، وفي (الينبوع) ومن الألفاظ التي رضوها لأنفسهم، يعني النصارى وترجموها على اختيارهم أن المسيح   قال: إني أسأل الله أن يبعث إليك بارقليط آخر يكون معكم إلى الأبد، وهو يعلمكم كل شيء، ويفسر لكم الأسرار، وهو يشهد لي كما شهدت له، ويكون خاتم النبيين، ولم يشهد له بالبراءة والصدق في النبوة بعده إلا محمد.

وقد ذكر صاحب الدرّ المنظم بإسناده أن النبي، قال لعمر  : «يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي بعثني الله في التوراة لموسى، وفي الإنجيل لعيسى، وفي الزبور لداود ولا فخر» أي لا أقول ذلك على سبيل الافتخار، بل على سبيل التحدث بالنعمة «يا عمر أتدري من أنا؟ أنا اسمي في التوراة أحيد، وفي الإنجيل البارقليط، وفي الزبور حمياطا، وفي صحف إبراهيم طاب طاب ولا فخر».

وذكر صاحب كتاب (شفاء الصدور) في مختصره أن من فضائله ما رواه مقاتل بن سليمان قال: وجدت مكتوبا في زبور داود. إني أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي، ووصف في مزامير داود بأنه يقوي الضعيف الذي لا ناصر له، ويرحم المساكين ويبارك عليه في كل وقت، ويدوم ذكره إلى الأبد. وبالجبار، ففيها تقلد أيها الجبار سيفك.

فإن قيل: قال الله تعالى: {وما أنت عليهم بجبار}. أجيب بأن الأول هو الذي يجبر الخلق إلى الحق. والثاني هو المتكبر. وفيها: يا داود سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقا لا أغضب عليه أبدا، ولا يعصيني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر: أي على فرض وقوع ذلك الذنب، والمراد به خلاف الأولى من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين: أي ما يعد حسنة بالنسبة لمقام الأبرار قد يعدّ سيئة بالنسبة لمقام المقربين، لعلوّ مقامهم وارتفاع شأنهم وأمته مرحومة، يأتون يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء.

وفي بعض مزامير داود: إن الله أظهر من صهيون إكليلا محمودا، وصهيون: اسم مكة. والإكليل: الإمام الرئيس وهو محمد.

وفي صحف شيث: أخو ناخ، ومعناه صحيح الإسلام، وهذا يدل على أن مزامير داود نسخة مختلفة بالزيادة والنقص.

وفي صحف إبراهيم اسمه يوذموذ. وقيل إن ذلك في التوراة، ولا مانع من وجوده فيهما. وتقدم أنه في صحف إبراهيم اسمه طاب طاب، ولا مانع من وجود الوصفين في تلك الصحف.

وفي كتاب شعيب : عبدي الذي يثبت شأنه، أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي، لا يضحك: أي مع رفع الصوت، ومن ثم قال: ولا يسمع صوته في الأصوات، لأن ضحكه كان التبسم، يفتح العيون العور والآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيته لا أعطيه أحدا. وفيه أيضا مشقح بالشين المعجمة والقاف والحاء المهملة: أي زاهي، يحمد الله حمدا جديدا، أي مخترعا لم يسبقه إليه أحد، يأتي من أقصى الأرض، لعل المراد به مكة، به تفرح البرية وسكانه، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ، سلطانه على كتفه. وذكر البرية وسكانها إشارة لدولة العرب، والمراد بسلطانه على كتفه خاتم النبوة لأنه علامة وبرهان على نبوته.

أي وذكر ابن ظفر أن في بعض كتب الله المنزلة: إني باعث رسولا من الأميين، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل الحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والإسلام ملته، أرفع به من الوضيعة، وأهدي به من الضلالة، وأؤلف به بين قلوب متفرقة وأهواء مختلفة، وأجعل أمته خير الأمم.

وأما ما جاء مما يدل على وجود اسمه الشريف أعني لفظ محمد مكتوبا في الأحجار والنبات والحيوان وغير ذلك بقلم القدرة فكثير.

من ذلك ما جاء عن جابر بن عبد الله   قال: قال رسول الله: «كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام: لا إله إلا الله محمد رسول الله» قال: المراد فص خاتمه.

فعن عبادة بن الصامت   مرفوعا: «إن فص خاتم سليمان بن داود كان سماويا: أي من السماء، ألقي إليه فوضعه في خاتمه» أي وكان به انتظام ملكه، وكان نقشه «أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي» وحينئذ يكون ما تقدم عن جابر وما يأتي يجوز أن يكون روي بالمعنى. وكان ينزعه إذا دخل الخلاء وإذا جامع، وكان عند نزعه يتنكر عليه أمر الناس ولم يجد من نفسه ما كان يجده قبل نزعه.

وفي (أنس الجليل) «كان نقش خاتم سليمان لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد عبده ورسوله» ووجد على بعض الحجارة القديمة مكتوب: محمد تقي مصلح، وسيد أمين. وفي جامع مدينة قرطبة بالمغرب عمود أحمر مكتوب فيه بقلم القدرة «محمد».

وعن عمر بن الخطاب   قال: قال رسول الله: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، قال وكيف عرفت محمدا» وفي لفظ كما في (الوفاء) وما محمد ومن محمد؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد لما خلقتك» أي وفي لفظ كما في (الشفاء) «قال آدم لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله تعالى إليه، وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك، ولولاه ما خلقتك».

وفي الوفاء، عن ميسرة «قلت: يا رسول الله متى كنت نبيا. قال: لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب اسمي، أي موصوفا بالنبوة أو بما هو أخص منها وهو الرسالة على ما هو المشهور، على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وآدم بين الروح والجسد ـ أي قبل أن تدخل الروح جسده ـ فلما أحياه الله نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه» أي فقد وصف بالنبوة قبل وجود آدم.

وفيه أيضا عن سعيد بن جبير اختصم ولد آدم أيّ الخلق أكرم على الله تعالى؟ فقال بعضهم: آدم خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته. وقال آخرون: بل الملائكة لأنهم لم يعصوا الله  ، فذكروا ذلك لآدم، فقال: لما نفخ في الروح لم تبلغ قدميّ حتى استويت جالسا فبرق إلى العرش فنظرت فيه محمد رسول الله فذاك أكرم الخلق على الله  . قيل وكان يكنى آدم بأبي محمد وبأبي البشر، وظاهره أنه كان يكنى بذلك في الدنيا، وتقدم أنه يكنى بأبي محمد في الجنة.

ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا  ، قال لكعب الأحبار  : أخبرنا عن فضائل رسول الله قبل مولده، قال: نعم يا أمير المؤمنين. قرأت أن إبراهيم الخليل وجد حجرا مكتوبا عليه أربعة أسطر الأول: أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني. والثاني: أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي، طوبى لمن آمن به واتبعه. والثالث: أنا الله لا إله إلا أنا الحرم لي، والكعبة بيتي من دخل بيتي أمن من عذابي، ولينظر الرابع.

أي وذكر بعضهم أن في سنة أربع وخمسين وأربعمائة عصفت ريح شديدة بخراسان كريح عاد انقلب منها الجبال وفرت منها الوحوش، فظن الناس أن القيامة قد مات، وابتهلوا إلى الله تعالى، فنظروا فإذا نور عظيم قد نزل من السماء على جبل من تلك الجبال ثم تأملوا الوحوش؟ فإذا هي منصرفة إلى ذلك الجبل الذي سقط فيه ذلك النور، فساروا معها إليه فوجدوا به صخرة طولها ذراع في عرض ثلاثة أصابع وفيها ثلاثة أسطر. سطر فيه {لا إله إلا أنا فاعبدون}. وسطر فيه محمد رسول الله القرشي. وسطر ثالث، فيه احذروا وقعة المغرب فإنها تكون من سبعة أو تسعة. والقيامة قد أزفت أي قربت.

وجاء أن آدم   قال: طفت السموات فلم أر في السموات موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، ولم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوب عليه، ولقد رأيت اسمه على نحور الحور العين وورق آجام أي ورق قص آجام الجنة، وشجرة طوبى، وسدرة المنتهى والحجب، وبين أعين الملائكة، وهذا الحديث قد حكم بعض الحفاظ بوضعه.

أي وقد قيل: إن أول شيء كتب القلم في اللوح المحفوظ: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسولي، من استسلم لقضائي، وصبر على بلائي وشكر على نعمائي، ورضي بحكمي، كتبته صديقا، وبعثته يوم القيامة من الصديقين. وفي رواية: مكتوب في صدر اللوح المحفوظ: لا إله إلا الله، دينه الإسلام محمد عبده ورسوله، فمن آمن بهذا أدخله الله الجنة.

وفي رواية «لما أمر الله القلم أن يكتب ما كان وما يكون كتب على سرادق العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله» يتأمل هذا فإنه إن كان المراد كما هو المتبادر أن القلم لما أمر أن يكتب ما ذكر كان أول شيء كتبه على سرادق العرش ما ذكر ثم تمم كتابة ما أمر به على ذلك كما كتب أول ما ذكر البسملة في اللوح المحفوظ ثم تمم كتابة ما أمر به يلزم أن يكون القلم كتب ما كان وما يكون في اللوح وعلى سرادق العرش.

ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب أيضا   عن النبي: «إن آدم   قال: وجدت اسم محمد على ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى: أي وعلى ورق قصب آجام الجنة، ومن ثم قال السيوطي في الخصائص الكبرى: من خصائصه كتابة اسمه الشريف مع اسم الله تعالى على العرش. وفيها: ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن» ومكتوب اسمه على سائر ما في الملكوت: أي من السموات والجنان وما فيهن.

وفي (الخصائص الصغرى) له أيضا: ومن خصائصه كتابة اسمه الشريف على العرش وكل سماء والجنان وما فيها وسائر ما في الملكوت.

أقول: ولا يخالف هذا: أي ما تقدم عن آدم ما جاء على تقدير صحته أن آدم لما نزل إلى الأرض استوحش فنزل جبريل فنادى بالأذان: الله أكبر الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين، قال آدم: من محمد؟ قال جبريل: هو آخر ولدك من الأنبياء لجواز أن يكون آدم أراد أن يستثبت هل هو محمد الذي رأى اسمه مكتوبا وأخبر بأنه آخر الأنبياء من ذريته، وأنه لولاه ما خلقه واستشفع به أو غيره فليتأمل. وإنما قلنا على تقدير صحته لأنه سيأتي في بدء الأذان أن في سند هذا الحديث مجاهيل.

وذكر صاحب كتاب (شفاء الصدورّ) في مختصره عن علي بن أبي طالب   عن النبي عن الله   أنه قال: «يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي، ولا رفعت هذه الخضراء، ولا بسطت هذه الغبراء». وفي رواية عنه «ولا خلقت سماءً ولا أرضا ولا طولا ولا عرضا».

وبهذا يرد على من رد على القائل في مدحه:

لولاه ما كان لا فلك ولا فلك ** كلا ولا بان تحريم وتحليل

بأن قوله لولاه ما كان لا فلك ولا فلك مثل هذا يحتاج إلى دليل، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على ذلك، فيقال له: بل جاء في السنة ما يدل على ذلك، والله أعلم.

ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: غزونا الهند فوقعت في غيضة فإذا فيها شجر عليه ورق أحمر مكتوب عليه بالبياض: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وعن بعضهم: رأيت في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب عليه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله تعالى بقدرته، في الورقة ثلاثة أسطر: الأول لا إله إلا الله، والثاني محمد رسول الله، والثالث إن الدين عند الله الإسلام.

وعن بعض آخر قال: دخلت بلاد الهند فرأيت في بعض قراها شجر ورد أسود ينفتح عن وردة كبيرة سوداء طيبة الرائحة مكتوب عليها بخط أبيض: لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق. عمر الفاروق، فشككت في ذلك وقلت إنه معمول، فعمدت إلى وردة كبيرة لم تفتح فرأيت فيها كما رأيت في سائر الورق وفي البلد منها شيء كثير، وأهل تلك البلد يعبدون الحجارة.

ونقل ابن مرزوق في شرح البردة عن بعضهم قال: عصفت بنا ريح ونحن في لجج بحر الهند فأرسينا في جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر ذكي الرائحة مكتوب عليه بالأصفر: براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات النعيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله.

أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال: رأيت في بلاد الهند شجرة تحمل ثمرا يشبه اللوز له قشران، فإذا كسر خرج منه ورقة خضراء مطوية، مكتوب عليها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله كتابة جلية، وهم يتبركون بتلك الشجرة، ويستسقون بها إذا منعوا الغيث. هذا وفي (مزيل الخفاء) الاقتصار على لا إله إلا الله: أي وحينئذ لا يكون شاهدا على ما ذكرنا.

أي ومن ذلك ما حكاه الحافظ السلفي عن بعضهم أن شجرة ببعض البلاد لها أوراق خضر، وعلى كل ورقة مكتوب بخط أشد خضرة من لون الورق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان أهل تلك البلاد أهل أوثان، وكانوا يقطعونها ويبقون أثرها فترجع إلى ما كانت عليه في أقرب وقت، فأذابوا الرصاص وجعلوه في أصلها. فخرج من حول الرصاص أربع فروع على كل فرع لا إله إلا الله محمد رسول الله، فصاروا يتبركون ويستشفون بها من المرض إذا اشتد ويخلقونها بالزعفران وأجلّ الطيب.

ومن ذلك أنه وجد في سنة سبع أو تسع وثمانمائة حبة عنب، فيها بخط بارع، بلون أسود «محمد».

ومن ذلك ما ذكره بعضهم أنه اصطاد سمة مكتوب على جنبها الأيمن: لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر: محمد رسول الله، قال: فلما رأيتها ألقيتها في النهر احتراما لها.

وعن بعض آخر قال: ركبت بحر الغرب ومعنا غلام معه سنارة فأدلاها في البحر فاصطاد سمكة قدر شبر بيضاء، فنظرنا فإذا مكتوب بالأسود على أذنها الواحدة: لا إله إلا الله، وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى: محمد رسول الله فقذفناها.

وعن بعضهم أنه ظهرت له سمكة بيضاء، وإذا على قفاها مكتوب بالأسود: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وعن ابن عباس   قال: «كنا عند رسول الله وإذا بطائر في فمه لوزة خضراء فألقاها فأخذها النبي فوجد فيها دودة خضراء مكتوب عليها بالأصفر: لا إله إلا الله محمد رسول الله». ومن ذلك ما حكاه بعضهم أنه كان بطبرستان قوم يقولون لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا يقرّون لمحمد بالرسالة، وحصل منهم افتتان؟ ففي يوم شديد الحر ظهرت سحابة شديدة البياض، فلم تزل تنشأ حتى أخذت ما بين الخافقين، وأحالت بين السماء والبلد، فلما كان وقت الزوال ظهر في السحابة بخط واضح: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلم تزل كذلك إلى وقت العصر، فتاب كل من كان افتتن، وأسلم أكثر من كان بالبلد من اليهود والنصارى.

ومن ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب   قال: بلغني في قول الله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} قال: كان لوحا من ذهب. وقيل لوح من رخام مكتوب فيه: عجبا لمن أيقن بالموت: أي بأنه يموت كيف يفرح، عجبا لمن أيقن بالحساب: أي أنه يحاسب كيف يغفل، عجبا لمن أيقن بالقضاء: أي أن الأمور بالقضاء والقدر كيف يحزن، عجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وروى البيهقي وغيره عن علي بن أبي طالب   أن الكنز الذي ذكره الله تعالى في كتابة لوح من ذهب، فيه بسم الله الرحمن الرحيم: عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب أي يتعب. عجبت لمن ذكر النار ثم يضحك. عجبت لمن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي لفظ: لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي.

وفي تفسير القاضي البيضاوي: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق: أي أن الله رازقه كيف ينصب أي يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله.

أقول: قد يقال يجوز أن يكون ما ذكر أولا في أحد وجهي ذلك اللوح، وما ذكر ثانيا في الوجه الثاني، أو أن بعض الرواة زاد، وبعضهم نقص، وبعضهم روى بالمعنى وحفظ ذلك الكنز لأجل صلاح أبيهما وكان تاسع أب لهما.

وقد قال محمد بن المنكدر: إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي هو فيها والدويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله وستره.

ويذكر أن بعض العلوية همّ هارون الرشيد بقتله، فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله فقيل له: بماذا دعوت حتى نجاك الله؟ فقال قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي، كذا في العرائس، والله أعلم.

ومن ذلك ما جاء عن جابر   قال: «مكتوب بين كتفي آدم محمد رسول الله خاتم النبيين».

أي وذكر بعضهم أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا، على أحد جنبيه مكتوب: لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال: ولد عندي في عام أربعة وسبعين وستمائة جدي أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة، وفيها مكتوب «محمد» بخط في غاية الحسن والبيان.

وما حكاه بعضهم قال: شاهدت ببلدة من بلاد إفريقية بالمغرب رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل، مكتوب بعرق أحمر كتابة مليحة «محمد رسول الله».

وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته في كتابه (لواقح الأنوار القدسية في قواعد السادة الصوفية)، وفي يوم كتابتي لهذا الموضع رأيت علما من أعلام النبوّة، وذلك أن شخصا أتاني برأس خروف شواها وأكلها وأراني فيها مكتوبا بخط إلهيّ على الجبين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق، يهدي به من يشاء، يهدي به من يشاء. قال الشيخ عبد الوهاب: وتكرير ذلك لحكمة، فإن الله لا يسهو، هذا كلامه. وقد يقال: لعل الحكمة التأكيد لعلو مقام الهداية، كيف وهو المجانب لمقام الضلالة والغواية.

وعن الزهري قال: شخصت إلى هشام بن عبد الملك، فلما كنت بالبلقاء رأيت حجرا مكتوبا عليه بالعبرانية، فأرشدت إلى شيخ يقرؤه، فلما قرأه ضحك وقال: أمر عجيب، مكتوب عليه: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله وكتبه موسى بن عمران.

وقد قال محمد بن المنكدر: إن الله يحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي هو فيها والدويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله وستره.

ويذكر أن بعض العلوية همّ هارون الرشيد بقتله، فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله فقيل له: بماذا دعوت حتى نجاك الله؟ فقال قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي، كذا في العرائس، والله أعلم.

ومن ذلك ما جاء عن جابر   قال: «مكتوب بين كتفي آدم محمد رسول الله خاتم النبيين».

أي وذكر بعضهم أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا، على أحد جنبيه مكتوب: لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله أي ومن ذلك ما حكاه بعضهم قال: ولد عندي في عام أربعة وسبعين وستمائة جدي أسود غرته بيضاء على شكل الدائرة، وفيها مكتوب «محمد» بخط في غاية الحسن والبيان.

وما حكاه بعضهم قال: شاهدت ببلدة من بلاد إفريقية بالمغرب رجلا ببياض عينه اليمنى من أسفل، مكتوب بعرق أحمر كتابة مليحة «محمد رسول الله».

وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله تعالى ببركته في كتابه (لواقح الأنوار القدسية في قواعد السادة الصوفية)، وفي يوم كتابتي لهذا الموضع رأيت علما من أعلام النبوّة، وذلك أن شخصا أتاني برأس خروف شواها وأكلها وأراني فيها مكتوبا بخط إلهيّ على الجبين: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق، يهدي به من يشاء، يهدي به من يشاء. قال الشيخ عبد الوهاب: وتكرير ذلك لحكمة، فإن الله لا يسهو، هذا كلامه. وقد يقال: لعل الحكمة التأكيد لعلو مقام الهداية، كيف وهو المجانب لمقام الضلالة والغواية.

وعن الزهري قال: شخصت إلى هشام بن عبد الملك، فلما كنت بالبلقاء رأيت حجرا مكتوبا عليه بالعبرانية، فأرشدت إلى شيخ يقرؤه، فلما قرأه ضحك وقال: أمر عجيب، مكتوب عليه: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله وكتبه موسى بن عمران.

باب سلام الحجر والشجر عليه قبل مبعثه

عن سمرة قال: قال رسول الله: «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبلَ أن أبعث، إني لأعرفه الآن» قال جاء في بعض الروايات أن هذا الحجر هو الحجر الأسود: أي وقيل غيره، وأنه هو الذي في زقاق بمكة يعرف بزقاق الحجر: أي ولعله غير الحجر الذي به أثر المرفق، ذكر أنه اتكأ عليه بمرفقه، وهو الذي يقال له زقاق المرفق وغير الحجر الذي به أثر الأصابع.

وروي «أن رسول الله حين أراد الله تعالى كرامته بالنبوّة، كان إذا خرج لحاجة أي لحاجة الإنسان أبعد حتى لا يرى ببناء، ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا» اهـ وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله:

لم يبق من حجر صلب ولا شجر ** إلا وسلم بل هناه ما وهبا

وإلى ذلك يشير أيضا صاحب الهمزية بقوله:

والجمادات أفصحت بالذي أخـ ** ـرس عنه لأحمد الفصحاء

أي والجمادات التي لا روح فيها نطقت بكلام فصيح لا تلعثم فيه: أي بالشهادة له بالرسالة، ولم تنطق به أهل الفصاحة والبلاغة وهم الكفار من قريش وغيرهم.

وعن عليّ   قال: «كنت مع النبي بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله».

أقول: وإلى تسليم الحجر قبل البعثة يشير الإمام السبكي   في تائيته بقوله:

وما جزت بالأحجار إلا وسلمت ** عليك بنطق شاهد قبل بعثة

وأما حديث عائشة   قالت: قال رسول الله: «لما أوحي إليّ جعلت لا أمرّ بحجر ولا شجر إلا قال السلام عليك يا رسول الله» وما ذكره بعضهم أن الجن قالوا له بمكة: من يشهد أنك رسول الله؟ قال تلك الشجرة، ثم قال لها من أنا؟ فقالت: رسول الله» فليس من المترجم له.

وفي الخصائص الصغرى: وخصى بتسليم الحجر، وبكلام الشجر، وبشهادتهما له بالنبوة، وإجابتهما دعوته.

وفي كلام السهيلي: يحتمل أن يكون نطق الحجر والشجر كلاما مقرونا بحياة وعلم. ويحتمل أن يكون صوتا مجردا غير مقترن بحياة وعلم. وعلى كل هو علم من أعلام النبوة.

وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: أكثر العقلاء، بل كلهم يقولون عن الجمادات لا تعقل، فوقفوا عند بصرهم. والأمر عندنا ليس كذلك؟ فإذا جاءهم عن نبيّ أو وليّ أن حجرا كلمه مثلا يقولون خلق الله فيه العلم والحياة في ذلك الوقت. والأمر عندنا ليس كذلك بل سر الحياة سار في جميع العالم.

وقد ورد «أن كل شيء سمع صوت المؤذن من رطب ويابس يشهد له، ولا يشهد إلا من علم وأطال في ذلك» وقال قد أخذ الله بأبصار الإنس والجن عن إدراك حياة الجماد إلا من شاء الله كنحن وأضرابنا، فإنا لا نحتاج إلى دليل في ذلك، لكون الحق تعالى قد كشف لنا عن حياتها عينا وأسمعنا تسبيحها ونطقها، وكذلك اندكاك الجبل لما وقع التجلي إنما كان ذلك منه لمعرفته بعظمة الله  ، ولولا ما عنده من العظمة لما تدكدك، والله أعلم.

باب بيان حين المبعث وعموم بعثته

قال ابن إسحاق: لما بلغ رسول الله أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين، وكافة للناس أجمعين. وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبيّ بعثه قبله بالإيمان به، والتصديق له، والنصر على من خالفه، وأن يؤدّوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم: أي فهم وأممهم من حملة أمته كما سيأتي عن السبكي.

فعن أنس بن مالك  : «أن رسول الله بعث على رأس الأربعين». قال: وهذا هو المشهور بين الجمهور من أهل السير، والعلم بالأثر. وقيل بزيادة يوم. وقيل بزيادة عشرة أيام، وقيل بزيادة شهرين. وقيل بزيادة سنتين، وهو شاذ، وأكثر منه شذوذا ما قيل إنه بزيادة ثلاث سنين، وما قيل إنه بزيادة خمس سنين. قال بعضهم: والأربعون هي سن الكمال، ونهاية بعث الرسل: أي لا يرسلون دونها، ومن ثم قال في الكشاف: ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة، هذا كلام الكشاف. وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث أو أربع وثلاثين سنة: أي ومعلوم أنه دعا إلى الله قبل ذلك، فهو قول شاذ حكاه وهب بن منبه عن النصارى اهـ: أي وعليه جرى غير واحد من المفسرين، بل قال في ينبوع الحياة: لم يبلغني أن أحدا من المفسرين ذكر في مبلغ سنه إذ رفع أكثر من ثلاث وثلاثين سنة هذا كلامه.

وفي الهدى: وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة، فهذا لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه، هذا كلامه. ويوافق ما تقدم عن المفسرين وما في (العرائس): ولما تمت له يعني عيسى   ثلاثون سنة أوحى الله تعالى إليه أن يبرز للناس، ويدعوهم، ويضرب الأمثال لهم، ويداوي المرضى والزمنى والعميان والمجانين، ويقمع الشياطين، ويذلهم ويدحرهم، ففعل ما أمر به، وأظهر المعجزات، فأحيا ميتا يقال له عازر بعد ثلاثة أيام من موته.

وعبارة الجلال المحلي في قطعة التفسير: أحيا عيسى   أربعة. عازر صديقا له، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، هذا كلامه. وذكر البغوي قصة كل واحد فراجعه. وكان عيسى   يمشي على الماء، ومكث في الرسالة ثلاث سنوات ثم رفع، ويوافق ذلك أيضا قول ابن الجوزي: وأما حديث: وما من نبي إلا نبىء بعد الأربعين فموضوع، لأن عيسى   نبىء ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، بل قيل نبىء وهو طفل، فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس بشيء، هذا كلامه: أي وفيه أن هذا بمجرده لا يدل على وضع الحديث، ويوافقه أيضا قول القاضي البيضاوي: ونبىء نوح وهو ابن خمسين سنة، وقيل أربعين، ويوافقه أيضا قول بعضهم: ومما يدل على أن بلوغ الأربعين ليس شرطا للنبوة، وقصة سيدنا يحيى صلوات الله وسلامه عليه بناء على أن الحكم في قوله تعالى: {وآتيناه الحكم صبيا} النبوة، لا الحكمة وفهم التوراة كما قيل بذلك، بل أحكم إليه عقله في صباه واستنبأه، قيل كان ابن سنتين أو ثلاث.

ولما ولي الخلافة المقتدر وهو غير بالغ صنف الإمام الصولي له كتابا فيمن ولي الأمر وهو غير بالغ، واستدل على جواز ذلك بأن الله بعث يحيى بن زكريا نبيا وهو غير بالغ، وذكر فيه كل من استعمله النبي من الصبيان. قال بعضهم: وهو كتاب حسن، فيه فوائد كثيرة.

وكان ذبح يحيى قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بسنة ونصف سنة.

ومما يدل على ما تقدم عن الهدى: أي من إنكار أن عيسى   رفع وله ثلاث وثلاثون سنة قول بعضهم: الأحاديث الصحيحة تدل على أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة. من تلك الأحاديث قوله في مرض موته لابنته فاطمة   «أخبرني جبريل أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين» وفي الجامع الصغير «ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي قبله» وعلى كون كل نبي عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله يشكل أن نوحا كان أطول الأنبياء عمرا، ومن ثم قيل له كبير الأنبياء، وشيخ المرسلين. وهو أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا، ثم رأيت أن الحافظ الهيتمي ضعف حديث: ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش النبي الذي قبله. وقال العماد بن كثير: إنه غريب جدا. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله عام تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه: أي ينتظرون فراغه من الصلاة، لأن نزول {والله يعصمك من الناس} كان قبل هذا، حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم: لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي» زاد في رواية «لا أقولهن فخرا. أما أولاهنّ فأرسلت إلى الناس كلهم عامة » أي من في زمنه وغيرهم ممن تقدم أو تأخر: أي وللشجر والحجر إلى آخر ما يأتي «وكان من قبلي» وفي لفظ «وكان كل نبي إنما يرسل إلى قومه» أي جميع أهل زمنه أو جماعة منهم خاصة. ومن الأول نوح، فإنه كان مرسلا لجميع من كان في زمنه من أهل الأرض، ولما أخبر بأنه لا يؤمن منهم إلا من آمن معه وهم أهل السفينة وكانوا ثمانين: أربعين رجلا، وأربعين امرأة.

وفي عوارف المعارف: أصحاب السفينة، كانوا أربعمائة. وقد يقال من الآدميين وغيرهم فلا مخالفة، دعا على من عدا من ذكر باستئصال العذاب لهم، فكان الطوفان الذي كان به هلاك جميع أهل الأرض إلا من آمن، ولو لم يكن مرسلا إليهم ما دعا عليهم بسبب مخالفتهم له في عبادة الأصنام، لقوله تعالى: {وما كنا معذبين} أي حتى في الدنيا {حتى نبعث رسولا}.

وقد ثبت أن نوحا أول الرسل: أي لمن يعبد الأصنام، لأن عبادة الأصنام أول ما حدثت في قومه وأرسله الله إليهم ينهاهم عن ذلك، وحينئذ لا يخالف كون أول الرسل آدم أرسله الله تعالى إلى أولاده بالإيمان بالله تعالى وتعليم شرائعه. وذكر بعضهم أنه كان مرسلا لزوجته حواء في الجنة، لأن الله تعالى أمره أن يأمرها وينهاها في ضمن أخباره بأمره ونهيه، بقوله تعالى: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة } وذلك عين الإرسال كما ادعاه بعضهم.

فعلم أن عموم رسالة نوح   لجميع أهل الأرض في زمنه لا يساوي عموم رسالة نبينا، لما علمت أن رسالته عامة حتى لمن يوجد بعد زمنه، وحينئذ يسقط السؤال وهو لم يبق بعد الطوفان إلا مؤمن، فصارت رسالة نوح   عامة. ويسقط جواب الحافظ ابن حجر عنه بأن هذا العموم الذي حصل بعد الطوفان لم يكن من أصل بعثته بل طرأ بعد الطوفان، بخلاف رسالة نبينا محمد، قيل كان بين الدعوة والطوفان مائة عام، وقد حققنا فيما سبق أن آدم ومن بعده دعا إلى الإيمان بالله تعالى وعدم الإشراك به، إلا أن الإشراك به وعبادة الأصنام اتفق أنه لم يقع إلا زمن نوح ومن بعده.

وأما قول اليهود أو بعضهم وهم العيسوية طائفة من اليهود أتباع عيسى الأصفهاني: إنه إنما بعث للعرب خاصة دون بني إسرائيل، وإنه صادق ففاسد، لأنهم إذا سلموا أنه رسول الله، وأنه صادق لا يكذب لزمهم التناقض، لأنه ثبت بالتواتر عنه أنه رسول الله لكل الناس.

أقول: قال بعضهم: ولا ينافيه قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} لأنه لا يدل على اقتصار رسالته عليهم، بل على كونه متكلما بلغتهم ليفهموا عنه أولا، ثم يبلغ الشاهد الغائب، ويحصل الإفهام لغير أهل تلك اللغة من الأعاجم بالتراجم الذين أرسل إليهم، فهو مبعوث إلى الكافة وإن كان هو وكتابه عربيين كما كان موسى وعيسى عليها الصلاة والسلام مبعوثين لبني إسرائيل بكتابيهما العبراني: أي وهو التوراة، والسرياني وهو الإنجيل، مع أن من جملتهم جماعة لا يفهمون بالعبرانية ولا بالسريانية كالأروام، فإن لغتهم اليونانية والله أعلم.

وأشار إلى الثانية من الخمس بقوله: «ونصرت بالرعب على العدو ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر» أي أمامه وخلفه «يملأ مني رعبا» أي يقذف الرعب في قلوب أعدائه، وجعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه: أي المحاربين له أكثر من شهر.

أي وجاء أن سيدنا سليمان   ذهب هو وجنده من الإنس والجن وغيرهما إلى الحرم. وكان يذبح كل يوم خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة لأن مساحة جنده كانت مائة فرسخ، قال لمن حضر من أشراف جنده: هذا مكان يخرج منه نبي عربي يعطى النصر على جميع من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم قالوا: فبأي دين يا نبي الله يدين؟ قال: بدين الحنيفية، فطوبى لمن آمن به، قالوا: كم بين خروجه وزماننا، قال مقدار ألف عام.

وأشار إلى الثالثة بقوله: «وأحلت لي الغنائم كلها، وكان من قبلي» أي من أمر بالجهاد منهم «يعطونها ويحرمونها» أي لأنهم كانوا يجمعونها: أي والمراد ما عدا الحيوانات من الأمتعة والأطعمة والأموال، فإن الحيوانات تكون ملكا للغانمين دون الأنبياء. ولا يجوز للأنبياء أخذ شيء من ذلك بسبب الغنيمة كذا في الوفاء. وجاء في بعض الروايات «وأطعمت أمتك الفيء ولم أحله لأمة قبلها» أي والمراد بالفيء ما يعم الغنيمة، كما أنه قد يراد بالغنيمة ما يعم الفيء. هذا وفي بعض الروايات «وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار، أي نار بيضاء من السماء فتأكله» أي حيث لا غلول «وأمرت أن أقسمه في فقراء أمتي» وفي تكملة تفسير الجلال السيوطي لتفسير الجلال المحلي أن ذلك لم يعهد في زمن عيسى  ، ولعله لم يكن ممن أمر بالجهاد، فلا يخالف ما سبق.

وأشار إلى الرابعة بقوله: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت» أي تيممت حيث لا ماء «وصليت» فلا يختص السجود منها بموضع دون غيره «وكان من قبلي لا يعطون ذلك» أي الصلاة في أي محل أدركتهم فيه، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم: أي ولم يكن أحد منهم يتيمم، لأن التيمم من خصائصنا. وفي رواية جابر «ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه».

وجاء في تفسر قوله تعالى: {واختار موسى قومه} الآيات. من المأثور أن الله تعالى قال لموسى: «أجعل لكم الأرض مسجدا؟ فقال لهم موسى: إن الله قد جعل لكم الأرض مسجدا، قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في كنائسنا، فعند ذلك قال الله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } إلى قوله {المفلحون} أي وهم أمة محمد. وفيه أنه قيل إن عيسى   كان يسيح في الأرض يصلي حيث أدركته الصلاة. ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين ما تقدم من قوله: لم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه، إلا أن يقال لا يصلي مع أمته إلا في محرابه.

وأما عيسى   فخص بأنه كان يصلي حيث أدركته الصلاة وسيأتي في الخصائص الكلام على ذلك.

وأشار إلى الخامسة بقوله: «قيل لي سل فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن الله لا إله إلا الله، وهي لإخراج من في قلبه ذرة من الإيمان ليس له عمل صالح إلا التوحيد» أي إخراج من ذكر من النار لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك قاله القاضي عياض.

أي وقد جاء في بيان من يشفع بإذن الله له في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع وفي رواية «ثم تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون والمؤمنون، فيشفعهم الله  » وقد جاء «إن أول شافع جبريل ثم إبراهيم، ثم موسى ثم يقوم نبيكم رابعا لا يقوم بعد أحد فيما يشفع فيه».

وفي الحديث «آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول يا رب أمتي يا رب، فيقال انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من بر أو شعير من إيمان» وفي لفظ «حبة من خردل» وفي لفظ «أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل فأخرجه» أي من النار «فأنطلق فأفعل» أي أخرجه من النار «وأدخله الجنة ».

وله شفاعة قبل هذه في إدخال أهل الجنة الجنة بعد مجاوزة الصراط، ففي الحديث «فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا، فيأذن الله لي في حمده وتمجيده، ثم يقول: ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع واسأل تعطه، فأقول: يا رب شفعني في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فيأذن الله تعالى في الشفاعة إلى آخر ما تقدم.

ومن هذا يعلم أن الشفاعة في الإخراج من النار، إنما تكون منه وهو في الجنة، فما تقدم من قوله: «آتي تحت العرش فأخر ساجدا» إلى آخره، إنما ذلك في الشفاعة في فصل القضاء، فهذا خلط من بعض الرواة: أي خلط الشفاعة في الموقف التي هي الشفاعة في فصل القضاء بالشفاعة، بعد مجاوزة الصراط في دخول أهل الجنة الجنة وبالشفاعة بعد دخول الجنة في إخراج أهل التوحيد من النار، والشفاعة في فصل القضاء هي المشار إليها في قوله: «وأعطيت الشفاعة » فقد قال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام فيها للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف: أي وهذا هو المقام المحمود الذي يحمده ويغبطه في الأولون والآخرون، المعني بقوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}.

وعن حذيفة   «تجمع الناس في صعيد واحد، فأول مدعو محمد فيقول: لبيك وسعديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ولك وإليك لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت».

وقد هاجت فتنة كبيرة ببغداد بسبب هذه الآية، أعني {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} فقالت الحنابلة: معناه يجلسه الله تعالى على عرشه. وقال غيرهم: بل هي الشفاعة العظمى في فصل القضاء، فدام الخصام إلى أن اقتتلوا فقتل كثيرون.

وهذه الشفاعة إحدى الشفاعات الثلاث المعنية بقوله: «لي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن».

وفي كلام بعضهم: له تسع شفاعات أخر غير فصل القضاء، جرى في اختصاصه ببعضها خلاف، وهي: الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب ولا عقاب. قال النووي وجماعة: هي مختصة به، والشفاعة في أناس استحقوا دخول النار فلا يدخلونها. قال القاضي عياض وغيره: ويشترك فيها من يشاء الله تعالى. والشفاعة في إخراج من أدخل النار من الموحدين وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان وهي مختصة به. والشفاعة في إخراج من أدخل منهم النار وفي قلبه أزيد من ذرة من إيمان، ويشاركه فيها الأنبياء والملائكة والمؤمنون. وظاهر هذا السياق أن المراد بمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلى آخره عام في أمته وغيرهم من الأمم. وهو يخالف قول بعضهم: جاء في الصحيح «فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله ـ أي ومات على ذلك ـ قال: ليس ذلك لك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله».

ولا يشكل على ذلك قوله: «أتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي» وفي رواية «ثلثي أمتي الجنة » أي بلا حساب ولا عذاب « وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا، فاخترت الشفاعة وعلمت أنها أوسع لهم».

لأنا نقول: المراد بالذين تناله شفاعته ممن مات لا يشرك بالله شيئا خصوص أمته: وأما من قيل له فيه ليس ذلك لك فهم الموحدون من الأمم السابقة فليتأمل مع ما سبق من شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين. والشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها. وجوّز النووي اختصاصها به. والشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض الكفار كأبي طالب وأبي لهب في كل يوم اثنين بالنسبة لأبي لهب، والشفاعة لمن مات بالمدينة الشريفة، ولعل المراد أنه لا يحاسب.

وقد أوصل ابن القيم شفاعاته إلى أكثر من عشرين شفاعة. وفي رواية «أعطيت ما لم يعطه أحد من الأنبياء: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض» أي وفي لفظ «وبينا أنا نائم ثم رأيتني أوتيت مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت بين يديّ» ولا منافاة، لأنه يجوز أنه أعطى ذلك يقظة بعد أن أعطيه مناما «وسميت أحمد» أي ومحمدا أي لأن أحدا من الأنبياء لم يسمّ بذلك، فهو من خصائصه بالنسبة للأنبياء، كذا في الخصائص الصغرى، وتقدم أن التسمية بأحمد من خصائصه على جميع الناس: وفي وصفه نفسه بما ذكر، وقول عيسى   {إني عبد الله} الآية، وقول سليمان   {علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} الآية هو الأصل في ذكر العلماء مناقبهم في كتبهم، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} ومن قوله: «التحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر» قال الله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}.

صعد سيدنا عمر   المنبر فقال: الحمد لله الذي صيرني ليس فوقي أحد ثم نزل، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنما فعلت ذلك إظهارا للشكر.

وعن سفيان الثوري  : من لم يتحدث بنعمة الله فقد عرّضها للزوال.

والحق في ذلك التفصيل، وهو أن من خاف من التحدث بالنعمة وإظهارها الرياء، فعدم التحدث بها وعدم إظهارها أولى، ومن لم يخف ذلك فالتحدث بها وإظهارها أولى أي وفي الشفاء أنه أحمد المحمودين، وأحمد الحامدين، ويوم القيامة يحمده الأولون والآخرون لشفاعته لهم، فحقيق أن يسمى محمدا وأحمد، وتقدم أن هذا يوافق ما تقدم عن الهدى أن أحمد مأخوذ من الفعل الواقع على المفعول.

وقد جاء «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي، وجعلت أمتي خير الأمم».

قال القاضي البيضاوي، وفي التسمية بالأسماء العربية تنويه إلى تعظيم المسمى، هذا كلامه. وفي رواية «لما أسري بي إلى السماء قرّبني ربي حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى، قيل لي: قد جعلت أمتك آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم» أي بوقوفهم على أخبارهم «ولا أفضحهم عند الأمم» أي لتأخرها عنهم، وعليه فالضمير في (دنا) يعود إليه. وذكر بعضهم أن {دنا فتدلى} الآية، عبارة عن تقريبه تعالى للنبي، فالضمير في دنا إلى آخره يعود إلى الله تعالى وهو معنى لطيف. وفي رواية «نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيّ لهم قبل الخلائق» وفي رواية «نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، تنفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرّ محجلين من أثر الطهور» وفي رواية «من آثار الوضوء، فتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها» هذا، وفي رواية «غرا من أثر السجود محجلين من أثر الوضوء» وفي رواية «فضلت على الأنبياء بست» أي ولا مخالفة بين ذكر الخمس أولا وبين ذكر الست هنا، لأنه يجوز أن يكون اطلع أولا على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي، هذا على اعتبار مفهوم العدد، ثم أشار إلى بيان الست بقوله: «أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة » والخلق يشمل الإنس والجن والملك والحيوانات والنبات والحجر.

قال الجلال السيوطي: وهذا القول، أي إرساله للملائكة. رجحته في كتاب الخصائص وقد رجحه قبلي الشيخ تقي الدين السبكي، وزاد أنه مرسل لجميع الأنبياء والأمم السابقة من لدن آدم إلى قيام الساعة. ورجحه أيضا البارزي، وزاد أنه مرسل إلى جميع الحيوانات والجمادات، وأزيد على ذلك أنه أرسل إلى نفسه.

وذهب جمع إلى أنه لم يرسل للملائكة منهم ما الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع، ومشيت عليه في شرح التقريب. وحكى الفخر الرازي في تفسيره والبرهان النسفي في تفسيره فيه الإجماع هذا كلامه، وبهذا الثاني أفتى والد شيخنا الرملي، وعليه فيكون قوله: «أرسلت للخلق كافة » وقوله تعالى: {ليكون للعالمين نذيرا} من العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص.

ولا يشكل عليه حديث سلمان «إذا كان الرجل في أرض وأقام الصلاة صلى خلفه من الملائكة ما لا يرى طرفاه، يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده» لأنه يجوز أن لا يكون ذلك صادرا عن بعثته إليهم.

ولا يشكل ما ورد «بعثت إلى الأحمر والأسود» لما تقدم أن المراد بذلك العرب والعجم. وفي الشفاء: وقيل الحمر الإنس، والسود الجانّ، واستدل للقول الأول القائل بأنه أرسل للملائكة بقوله تعالى: {ومن يقل منهم} أي من الملائكة {إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم} فهي إنذار للملائكة على لسانه في القرآن العظيم الذي أنزل عليه، فثبت بذلك إرساله إليهم ودعوى الإجماع منازع فيها، فهي دعوى غير مسموعة، ثم رأيت الجلال السيوطي ذكر هذا الاستدلال وهو واضح، وذكر تسعة أدلة أيضا، وهي لا تثبت المدعي الذي هو أن الملائكة يكلفون بشرعه، كما لا يخفى على من رزق نوع فهم بالوقوف عليها.

فعلم أنه مرسل لجميع الأنبياء وأممهم على تقدير وجوده في زمنهم، لأن الله تعالى أخذ عليهم وعلى أممهم الميثاق على الإيمان به ونصرته مع بقائهم على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل، وتكون شريعته في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، لأن الأحكام والشرائع تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات قاله السبكي: أي فجميع الأنبياء وأممهم من جملة أمته، فقد قال لعمر بن الخطاب  : «والذي نفسي بيده لو أن موسى   كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني».

وأخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن ثابت، قال: «جاء عمر   إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول الله فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، فسرّى عن رسول الله، وقال: والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم/ «إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين».

وفي النهر لأبي حيان «إن عبد الله بن سلام استأذن رسول الله أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل فلم يأذن له» وكون جميع الأنبياء وأممهم من أمته، فالمراد أمة الدعوة لا أمة الإجابة لأنها مخصوصة بمن آمن به بعد البعثة على ما تقدم ويأتي. وبعثته رحمة حتى للكفار بتأخير العذاب عنهم، ولم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم المكذبة، وحتى للملائكة، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

وقد ذكر في الشفاء أن النبي قال لجبريل: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى العاقبة، فآمنت لثناء الله تعالى عليّ في القرآن بقوله  : {ذي قوة عند ذي العرش مكين}».

قال الجلال السيوطي: إن هذا الحديث لم نقف له على إسناد، فهو أفضل من سائر المرسلين وجميع الملائكة المقربين، وفي لفظ آخر «فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأحلت لي الغنائم، وجعلت أمتي خير الأمم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب، والذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، آدم فمن دونه» وفي رواية «فما من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، أنا أمشي ويمشي الناس معي حتى آتي باب الجنة » الحديث.

أقول: قد سئلت عما حكاه الجلال السيوطي أنه ورد إلى مصر نصراني من الفرنج وقال لي: شبهة إن أزلتموها أسلمت، فعقد له مجلس بدار الحديث الكاملية، ورأس العلماء إذ ذاك الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقال له النصراني والناس يسمعون: أي أفضل عندكم المتفق عليه، أو المختلف فيه؟ فقال له الشيخ عز الدين: المتفق عليه، فقال له النصراني: قد اتفقنا نحن وأنتم على نبوة عيسى واختلفنا في نبوة محمد فيلزم أن يكون عيسى أفضل من محمد، فأطرق الشيخ عز الدين ساكتا من أول النهار إلى الظهر حتى ارتج المجلس واضطرب أهله، ثم رفع الشيخ رأسه وقال: عيسى قال لبني إسرائيل {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} فيلزمك أن تتبعه فيما قال، وتؤمن بأحمد الذي بشر به فأقام الحجة على النصراني وأسلم بأنه كيف أقام الحجة على كون محمد أفضل من عيسى إذ غاية ما ذكر أن محمدا رسول الله. فأجبت بأنه حيث ثبت أن محمدا رسول الله وجب الإيمان به وبما جاء به ومما جاء به، وأخبر به أنه أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وقد سئل أبو الحسن الحمال بالحاء المهملة من فقهائنا معاشر الشافعية: محمد وموسى أيهما أفضل؟ فقال محمد، فقيل له: ما الدليل على ذلك؟ فقال: إنه تعالى أدخل بينه وبين موسى لام الملك فقال تعالى: {واصطنعتك لنفسي} وقال لمحمد: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} ففرق بين من أقام بوصفه وبين من أقامه مقام نفسه والله أعلم.

وفي رواية «إذا كان يوم القيامة كان لي لواء الحمد وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم» وفي لفظ «ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر، وأنا أول شافع، وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة: أي حلق بابها، فيفتح الله لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر» أي وفي رواية «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، أي بتحريك حلقة الباب أو قرعه بها لا بصوت، فيقول الخازن أي وهو رضوان: من أنت؟ فأقول محمد» وفي رواية «أنا محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح» وفي رواية «أن لا أفتح لأحد قبلك» زاد في رواية «ولا أقوم لأحد بعدك لأفتح له» فمن خصائصه أن رضوان لا يفتح إلا له، ولا يفتح لغيره من الأنبياء وغيرهم، وإنما يتولى ذلك غيره من الخزنة، وهي خصوصية عظيمة نبه عليها القطب الخضري، وكون الفاتح له الخازن لا ينافي ما قبله من كون الفاتح له الحق سبحانه وتعالى لما علم أن الخازن إنما فتح بأمر الله فهو الفاتح الحقيقي.

وفي رواية «أنا أول من يفتح له باب الجنة ولا فخر فآتي فآخذ بحلقة الجنة، فيقال من هذا؟ فأقول محمد، فيفتح لي، فيستقبلني الجبار جل جلاله فأخر له ساجدا» أي فالكلام في يوم القيامة، فلا يرد إدريس بناء على أن دخوله الجنة مترتب على فتح الباب غالبا، لأن ذلك قبل يوم القيامة، وفي يوم القيامة يخرج إلى الموقف، فيكون مع أمته للحساب. ولا ينافيه ما جاء «أول من يقرع باب الجنة بلال بن حمامة » على تقدير صحته، لأنه يجوز أن يكون يقرع الباب الأصليّ لا حلقه، أو الأول من الأمة والله أعلم.

وفي الأوسط للطبراني بإسناد حسن «حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» وسيأتي أن هذا من جملة ما أوحي إليه ليلة المعراج، الذي أشار إليه قوله تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} ولعل هذا هو المراد مما جاء في المرفوع عن ابن عباس   «حرمت الجنة على جميع الأمم حتى أدخلها أنا وأمتي» وأن ظاهرها من أنه لا يدخلها أحد من الأنبياء إلا بعد دخول هذه الأمة ليس مرادا.

وفي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لهذه الأمة المحمدية، وهي أنه لا يدخل أحد الجنة من الأمم السابقة ولو من صلحائها وعلمائها وزهادها حتى يدخل من كان يعذب في النار من عصاة هذه الأمة بناء على أنه لا بد من تعذيب طائفة من هذه الأمة في النار. ولا بعد في ذلك، لأنه تقدم أن أول من يحاسب من الأمم، هذه الأمة. فيجوز أن الأمم لا يفرغ حسابهم، ولا يأتون إلى باب الجنة إلا وقد خرج من كان يعذب من هذه الأمة في النار ودخل الجنة.

وجاء «إنه يدخلها قبله من أمته سبعون ألفا مع كل واحد سبعون ألفا لا حساب عليهم» وذلك معارض لقوله: «أنا أول من يدخل الجنة » إلا أن يقال: أول من يدخل الجنة من الباب، وهؤلاء السبعون ألفا ورد أنهم يدخلون من أعلى حائط الجنة فلا معارضة.

ولا يعارض ذلك ما جاء «أول من يدخل الجنة أبو بكر» لأن المراد أول من يدخلها من رجال هذه الأمة غير الموالي.

ولا يعارض ذلك ما تقدم عن بلال   «أنه أول من يقرع باب الجنة » لأنه لا يلزم من القرع الدخول وعلى تسليم أن القرع كناية عن الدخول، فالمراد من الموالي.

ولا يعارض ذلك أيضا ما جاء «أول من يدخل الجنة بنتي فاطمة » كما لا يخفى، لأن المراد أول من يدخلها من نساء هذه الأمة فالأولية إضافية.

وجاء «لأشفعنّ يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر» وعن أنس   «فضلت على الناس بأربع: بالسخاء، والشجاعة، وقوة البطش، وكثرة الجماع» أي فعن سلمى مولاته أنها قالت «طاف رسول الله على نسائه التسع ليلته وتطهر من كل واحدة قبل أن يأتي الأخرى وقال: هذا أطهر وأطيب».

ومما يدل على قوة بطشه ما وقع له مع ركانة كما سيأتي. وفي الخصائص الصغرى: وكان أفرس العالمين، فهو أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأشجعهم وأعلمهم وأكملهم في جميع الأخلاق الجميلة والأوصاف الحميدة.

قال ابن عبد السلام: من خصائصه أن الله تعالى أخبره بالمغفرة: أي لما تقدم وتأخر، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك: أي ولأنه لو وقع لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، بل ومما اختص به وقوع غفران نفس الذنب المتقدم والمتأخر، كما تقدم من قوله في بيان ما اختص به عن الأنبياء «وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر» أي ولا ينافي ذلك قوله تعالى في حق داود {فغفرنا له ذلك} لأنه غفران لذنب واحد. قال ابن عبد السلام: بل الظاهر أنه لم يخبرهم أي بغفران ذنوبهم، بدليل قولهم في الموقف «نفسي نفسي، لأني» إلى آخره. وعن أبي موسى   قال: قال رسول الله: «من سمع بي من يهودي أو نصراني ثم لم يسلم دخل النار» أي لأنه يجب عليه أن يؤمن به.

أقول: والذي في مسلم «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» أي من سمع بنبينا ممن هو موجود في زمنه وبعده إلى يوم القيامة ثم مات غير مؤمن بما أرسل به كان من أصحاب النار. أي ومن جملة ما أرسل به أنه أرسل إلى الخلق كافة لا لخصوص العرب تأمل، وإنما خص اليهود والنصارى بالذكر تنبيها على غيرهما لأنه إذا كان حالهما ذلك مع أن لهم كتابا فغيرهم مما لا كتاب له كالمجوسي أولى، لأن اليهود كتابهم التوراة، والنصارى كتابهم الإنجيل لأن شريعة التوراة التي هي شريعة موسى يقال لها اليهودية أخذا من قول موسى   {إنا هدنا إليك} أي رجعنا إليك، فمن كان على دين موسى يسمى يهوديا، وشريعة الإنجيل يقال لها النصرانية، أخذا من قول عيسى   {من أنصاري إلى الله} فمن كان على دين عيسى يسمى نصرانيا، وكان القياس أن يقال له أنصاري. وقيل النصراني نسبة إلى ناصرة قرية من قرى الشام نزل بها عيسى كما تقدم، ولا مانع من رعاية الأمرين في ذلك. وجاء في رواية «وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة » أي والأمم السابقة كانوا يصلون متفرقين كل واحد على حدته، وإن أمته حط عنها الخطأ والنسيان وحمل ما لا تطيقه، الذي أشارت إليه خواتيم سورة البقرة، وإن شيطانه أسلم وفي الخصائص الصغرى «وأسلم قرينه» ومجموع تلك الخصال سبع عشرة خصلة. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع.

وذكر أبو سعيد النيسابوري في كتابه (شرف المصطفى) أنه عد الذي اختص به نبينا عن الأنبياء فإذا هو ستون خصلة: أي ومن ذلك أي مما اختص به في أمته أن وصف الإسلام خاص بها لم يوصف به أحد من الأمم السابقة سوى الأنبياء فقط فقد شرفت هذه الأمة المحمدية بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الإسلام على القول الراجع نقلا ودليلا لما قام عليه من الأدلة الساطعة قاله الجلال السيوطي  .

باب بدء الوحي له

عن عائشة   أول ما بدىء به رسول الله من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة «لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق» أي وفي لفظ «كفرق الصبح» أي كضيائه وإثارته، فلا يشك فيها أحد كما لا يشك أحد في وضوح ضياء الصبح ونوره. وفي لفظ «فكان لا يرى شيئا في المنام إلا كان» أي وجد في اليقظة كما رأى، فالمراد بالصالحة الصادقة. وقد جاءت في رواية البخاري في التفسير: أي ولا يخفى أن رؤيا النبي كلها صادقة وإن كانت شاقة كما في رؤياه يوم أحد.

قال القاضي وغيره وإنما ابتدىء رسول الله بالرؤيا لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل بالنبوة: أي الرسالة، فلا تتحملها القوى البشرية: أي لأن القوى البشرية لا تتحمل رؤية الملك وإن لم يكن على صورته التي خلقه الله عليها ولا على سماع صورته ولا على ما يخبر به لا سيما الرسالة، فكانت الرؤيا تأنيسا له والمراد بالملك جبريل، لكن ذكر بعضهم أن من لطف الله تعالى بنا عدم رؤيتنا للملائكة أي على الصورة التي خلقوا عليها لأنهم خلقوا على أحسن صورة فلو كنا نراهم لطارت أعيننا وأرواحنا لحسن صورهم.

وعن علقمة بن قيس «أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، أي ما يكون في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي» اهـ: أي في اليقظة لأن رؤيا الأنبياء وحي وصدق وحق، لا أضغاث أحلام ولا تخيل من الشيطان، إذ لا سبيل له عليهم، لأن قلوبهم نورانية، فما يرونه في المنام له حكم اليقظة، فجميع ما ينطبع في عالم مثالهم لا يكون إلا حقا، ومن ثم جاء «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا».

أقول: وحينئذ يكون في القول بأن من خصوصياته اجتماع أنواع الوحي الثلاثة له وعد منها الرؤيا في المنام، وعد منها الكلام من غير واسطة، وبواسطة جبريل نظر، لما علمت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعهم مشتركون في الرؤيا، وموسى   حصل له كل من الكلام بلا واسطة وبواسطة جبريل.

وذكر بعضهم أن مدة الرؤيا ستة أشهر قال فيكون ابتداء الرؤيا حصل في شهر ربيع الأول، وهو مولده ثم أوحى الله إليه في اليقظة أي في رمضان ذكره البيهقي وغيره.

وجاء في الحديث: «الرؤيا الصادقة » وفي البخاري «الرؤيا الحسنة: أي الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ». قال بعضهم: معناه أن النبي حين بعث أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين يوحي إليه ومدة الوحي إليه في اليقظة ثلاث وعشرون سنة، ومدة الوحي إليه في المنام أي التي هي الرؤيا ستة أشهر، فالمراد خصوص رؤيته وخصوص نبوته، وهذا القيل نقله في الهدى وأقره حيث قال: كانت الرؤيا ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاثا وعشرين سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا، هذا كلامه. وحينئذ يكون المعنى ورؤيتي جزء من ستة وأربعين جزءا من نبوتي، ولا يخفى أن هذا لا يناسب «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح» إذ هو يقتضي أن مطلق الرؤيا الصالحة جزء من مطلق النبوة الشامل لنبوته ونبوة غيره فليتأمل. ولم أقف في كلام أحد على مشاركة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له في هاتين المدتين. وحينئذ تحمل الخصوصية التي ادعاها بعضهم على هذا.

ومما يدل على أن المراد مطلق الرؤيا ومطلق النبوة لا خصوص رؤياه ونبوته، ما جاء في ذلك من الألفاظ التي بلغت خمسة عشر لفظا.

ففي رواية «أنها جزء من سبعين جزءا» وفي رواية «من أربعة وأربعين» وفي رواية «أنها جزء من خمسين جزءا من النبوة » وفي رواية «من تسعة وأربعين» وفي أخرى «أنها جزء من ستة وسبعين» وفي أخرى «من خمسة وعشرين جزءا» وفي أخرى «من ستة وعشرين جزءا» وفي أخرى «من أربعة وعشرين جزءا» فإن ذلك باعتبار الأشخاص لتفاوت مراتبهم في الرؤيا.

وذكر الحافظ ابن حجر أن أصح الروايات مطلقا رواية ستة وأربعين، ويليها رواية أنها جزء من سبعين جزءا.

فعلم أن الرؤية المذكورة جزء من مطلق النبوة: أي كجزء منها من جهة الاطلاع على بعض الغيب، فلا ينافي انقطاع النبوة بموته.

ومن ثم جاء «ذهبت النبوة » أي لا توجد بعدي. «وبقيت المبشرات» أي المرائي التي كانت مبشرات للأنبياء بالنبوة، بدليل ما في رواية «لم يبق بعدي من المبشرات» أي مبشرات النبوة «إلا الرؤيا» أي مجرد الرؤيا الخالية عن شيء من مبشرات النبوة، بدليل ما في لفظ «لم يبق إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم» أي لنفسه «أو ترى له».

لا يقال: الرؤيا الصادقة تكون من الكافر أو ترى له، وهو خارج بالرجل الصالح وبالمسلم. لأنا نقول: لو فرض وقوع ذلك كان استدراجا. وفيه أنها واقعة، وظاهر سياق الحديث الحصر، وكما تكون الرؤيا مبشرة بخير عاجل أو آجل تكون منذرة بشر كذلك قال بعضهم: وقد تطلق البشارة التي هي الخبر السار على ما يشمل النذارة التي هي الخبر الضار بعموم المجاز، بأن يراد بالبشارة ما يعود إلى الخير، لأن النذارة ربما قادت إلى الخير.

وفي الإتقان: ومن المجاز تسمية الشيء باسم ضده نحو {فبشرهم بعذاب أليم} اهـ أي وهي في هذه الآية للتهكم.

وجاء رجل أي وهو أبو قتادة الأنصاري إلى النبي فقال: «يا رسول الله إني أرى في المنام الرؤيا تمرضني، فقال له النبي : الرؤيا الحسنة من الله، والسيئة من الشيطان، فإذا رأيت الرؤيا تكرهها فاستعذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاث مرات فإنها لا تضرك» أي وحكمة التفل احتقار الشيطان واستقذاره.

وفي رواية «إذا رأى أحدكم ما يكره فليعذ بالله من شرها ومن الشيطان، كأن يقول: أعوذ بالله من شر ما رأيت ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثا، ولا يحدّث بها أحدا فإنها لا تضره» زاد في رواية «وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه» زاد في أخرى «وليقم فليصلّ» أي ليكون فعل ذلك سببا للسلامة من المكروه الذي رآه.

وفي البخاري «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليتحدث بها: أي ولا يخبر بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما كره فإنما هي من الشيطان» أي لا حقيقة لها، وإنما هي تخيل يقصد به تخويف الإنسان والتهويل عليه «فليستعذ بالله من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره» وفي الأذكار «ثم ليقل: اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام» وفي الحديث «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان».

قيل في معناه لأن صاحب الرؤيا يرى الشيء على ما هو عليه، بخلاف صاحب الحلم فإنه يراه على خلاف ما هو عليه، فإن الحلم مأخوذ من حلم الجلد: إذا فسد. والرؤيا قيل إنها أمثلة يدركها الرائي بجزء من القلب لم تستول عليه آفة النوم، وإذا ذهب النوم من أكثر القلب كانت الرؤيا أصفى وذكر الفخر الرازي أن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها، أي أثرها عن قرب، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين.

والسبب فيه أن حكمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل.

وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذكر الخير أكثر، وهذا جري على ما هو الغالب، وإلا فقد قيل لجعفر الصادق: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: «رأى النبي في منامه كأن كلبا أبقع يلغ في دمه» فكان أي ذلك الكلب الأبقع شمرا قاتل الحسين وكان أبرص، فكان تأخير الرؤيا بعد خمسين سنة.

وجاء عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله قال لخديجة: «إذا خلوت سمعت نداء أن يا محمد يا محمد» وفي رواية «أرى نورا» أي يقظة لا مناما «وأسمع صوتا وقد خشيت أن يكون والله لهذا الأمر» وفي رواية «والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط ولا الكهان، وإني لأخشى أن أكون كاهنا» أي فيكون الذي يناديني تابعا من الجن، لأن الأصنام كانت الجن تدخل فيها، وتخاطب سدنتها، والكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وفي رواية «وأخشى أن يكون بي جنون» أي لمة من الجن «فقالت: كلا يا بن عم ما كان الله ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث» وفي رواية «إن خلقك لكريم» أي فلا يكون للشيطان عليك سبيل. استدلت   بما فيه من الصفات العلية والأخلاق السنية على أنه لا يفعل به إلا خيرا، لأن من كان كذلك لا يجزى إلا خيرا.

ونقل الماوردي عن الشعبي أن الله قرن إسرافيل بنبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، يعلمه الشيء بعد الشيء ولا يذكر له القرآن، فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة، وأمهله هذه المدة ليتأهب لوحيه.

وفيه أنه لو كان في تلك المدة مبشرا بالنبوة ما قال لخديجة ما تقدم، إلا أن يقال ما تقدم إنما قاله لخديجة في أول أمر، ويدل لذلك ما قيل إنه مكث خمس عشرة سنة يسمع الصوت أحيانا ولا يرى شخصا، وسبع سنين يرى نورا ولم ير شيئا غير ذلك، وإن المدة التي بشر فيها بالنبوة كانت ستة أشهر من تلك المدة التي هي اثنان وعشرون سنة، وهذا الشيء الذي كان يعلمه له إسرافيل لم أقف على ما هو، والله أعلم.

وبعد ذلك حبب الله إليه الخلوة التي يكون بها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا لدوام ذكر الله تعالى، فيصفو وتشرق عليه أنوار المعرفة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده. وكان يخلو بغار حراء بالمد والقصر، وهذا الجبل هو الذي نادى رسول الله بقوله إلي يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فكان يتحنث: أي يتعبد به أي بغار حراء الليالي ذوات العدد، ويروى أولات العدد: أي مع أيامها، وإنما غلب الليالي لأنها أنسب بالخلوة. قال بعضهم: وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد، فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهر رمضان أو غيره.

وفي كلام بعضهم ما قد يدل على أنه لم يختل أقل من شهر، وحينئذ يكون قوله في الحديث الليالي ذوات العدد محمول على القدر الذي كان يتزود له فإذا فرغ زاده رجع إلى مكة وتزود إلى غيرها إلى أن يتم الشهر، وكذا قول بعضهم؟ فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهرا. ولم يصح أنه اختلى أكثر من شهر. قال السراج البلقيني في شرح البخاري: لم يجىء في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده  ، هذا كلامه وسيأتي بيان ذلك قريبا.

ثم إذا مكث تلك الليالي: أي وقد فرغ زاده يرجع إلى خديجة   فيتزود لمثلها: أي قيل وكانت زوادته الكعك والزيت. وفيه أن الكعك والزيت يبقى المدة الطويلة، فيمكث جميع الشهر الذي يختلى فيه ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر مدة الخلوة كانت شهرا، فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك، ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش، وكان غالب أدمهم اللبن واللحم، وذلك لا يدخر منه لغاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه، ولا سيما وقد وصف بأنه كان يطعم من يرد عليه هذا كلامه.

وهو يشير فيه إلى ثلاثة أجوبة:

الأول: أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت.

الثاني: أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا.

الثالث: أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه كان يطعم فربما نفد ما ادخره.

وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع، بخلاف اللبن واللحم، ومن ثم جاء «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة » وقوله: «ائتدموا من هذه الشجرة المباركة » أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت. وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء: أي في اليوم والشهر المتقدم ذكر.

وعن عبيد بن عبيد   «كان رسول الله يجاور في حراء في كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية » أي المتألهين منهم: أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده عبد المطلب، فقد قال ابن الأثير: أول من تحنث بحراء عبد المطلب، كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله: أي يتعبد ( ) كورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة، وقد أشار إلى تعبده صاحب الهمزية بقوله:

ألف النسك والعبادة والخلـ ** ـوة طفلا وهكذا النجباء

وإذا حلت الهداية قلبا ** نشطت في العبادة الأعضاء

أي ألف العبادة والخلوة في حال كونه طفلا، ومثل هذا الشأن العلى شأن الكرام، وإنما كان هذا شأن الكرام، لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة، لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس، وأراد بطفلا زمن رضاعه عند حليمة.

فقد تقدم عنها   أنها قالت: لما ترعرع رسول الله كان يخرج إلى الصبيان وهم يعلبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافي قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته بغار حراء كانت في زمن تزوجه بخديجة  ، فكان يجاور ذلك الشهر، يطعم من جاءه من المساكين: أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية: أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين.

وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الانقطاع عن الناس، وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل: إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره.

وقيل كان تعبده التفكر مع الانقطاع عن الناس: أي لا سيما إن كانوا على باطل، لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية، ومن ثم قيل: الخلوة صفوة الصفوة.

وقول بعضهم: كان يتعبد بالتفكر: أي مع الانقطاع عما ذكرنا، وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل، إلا أن يدعى أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به. وقيل تعبده كان بالذكر وصححه في (سفر السعادة) وقيل بغير ذلك.

من ذلك الغير أنه قيل كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم. وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا.

وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: تعبد قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة، فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن، ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق. وكان إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته وذلك شهر رمضان، وقيل شهر ربيع الأول، وقيل شهر رجب خرج رسول الله إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله: أي عياله التي هي خديجة   إما مع أولادها أو بدونهم، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها، وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر، وقيل رابع عشر منه، وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول: أي وقيل ليلة ثالثه.

قال بعضهم: القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده كان في ربيع الأول على الصحيح: أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب.

فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة   قال: «من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا» وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه، أي أول يوم هبط فيه على النبي ولم يهبط عليه قبل ذلك، وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الاثنين. ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الاثنين، فقد جاء أن رسول الله قال لبلال: «لا يفوتك صوم يوم الاثنين، لأني ولدت فيه، ونبئت فيه» فلا مخالفة بين كونه نبىء في الليل وبين كونه نبىء في اليوم، لأن السحر قد يلحق بالليل.

وفي كلام بعضهم أتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء، فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول: أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة، منهم الإمام الصرصري حيث قال:

وأتت عليه أربعون فأشرقت ** شمس النبوة منه في رمضان

واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن. وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا، قال رسول الله: «فجاءني وأنا نائم بنمط» وهو ضرب من البسط، وفي رواية «جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب أي كتابة، فقال اقرأ، فقلت: ما أقرأ» أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا «فغطني، أو فغتني» بالتاء بدل من الطاء به: أي غمني بذلك النمط، بأن جعله على فمه وأنفه قال: «حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب، فقلت: ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه: أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي: أي وفي رواية «فقلت والله ما قرأت شيئا قط، وما أدري شيئا أقرؤه»: أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} فقرأتها فانصرف عني، وهببت» أي استيقظت «من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا».

أقول: أي استقر ذلك في قلبي وحفظته. ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض، وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له يوم الاثنين، محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد، وسحر يوم الاثنين وهو نائم لا يقظة لقوله: «ثم هببت من نومي».

ولا ينافي ذلك قوله، ثم ظهر له بالرسالة، أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو أقرأ الحاصل في اليقظة. وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في استقرار ذلك في قلبه. وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية: «ما قرأت شيئا» لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلي، ولا يبعده أيضا قوله: «ما أدري ما أقرأ» لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الاستقرار التكرر، فلم يستقر ذلك في قلبه في الليلة الأولى.

وفي سيرة الشامية أن مجيء جبريل له بالنمط لم يتكرر، وأنه كان قبل دخوله غار حراء، وهذا السياق يدل على أنه كان بعده.

وفي (سفر السعادة) ما يقتضي أنه جاء بالنمط يقظة في حراء، ونصه «فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حراء إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة، ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال: اقرأ، قال والله ما أنا بقارىء ولا أدري في هذه الرسالة كتابة » أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها، قال: «فضمني إليه وغطني حتى بلغ مني الجهد، فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة، ثم قال اقرأ باسم ربك». هذا كلامه فليتأمل، والله أعلم «قال فخرجت» أي من الغار: أي وذلك قبل مجيء جبريل إليه باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق «حتى إذا كنت في شط من الجبل» أي في جانب منه «سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، فإذا جبريل على صورة رجل صافّ قدميه» أي وفي رواية «واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء» أي نواحيها «يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا، ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة: أي في الغار، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي».

أقول: وهذا يدل على أن خديجة   كانت معه بغار حراء، وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة   على ما تقدم.

وقد يخالف ذلك ما روي أن خديجة   صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله فلم تجده بحراء، فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده، فشق ذلك عليها، فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع، فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه بحراء.

وقد يقال: يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه وهي بحراء فلم تجده، وأن الرسل أخطؤوا محل وقوفه بالجبل الذي هو حراء، ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه بحراء، لاحتمال عوده إليه، ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده بحراء، فإرسالها تكرر مرتين مع اختلاف محلها، ويكون قوله: «وانصرفت راجعا إلى أهلي»: أي بمكة لا بحراء، لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة   إلى مكة.

هذا على مقتضى الجمع. وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا، وهو يدل على أن خروجه إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي «فخرج مرة أخرى إلى حراء، قال: فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا» إلى آخره فليتأمل والله أعلم.

قال «ثم حدثتها بالذي رأيت»: أي من سماع الصوت ورؤية جبريل، وقوله له: يا محمد أنت رسول الله، فقالت أبشر يا بن عمي واثبت، فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها: أي التي تتجمل بها عند الخروج.

ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله أنه رأى وسمع: أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جبريل، فقال ورقة: قدوس قدوس بالضم والفتح، والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل، وإنه لنبيّ هذه الأمة، فقولي له يثبت. والقدوس: الطاهر المنزه عن العيوب، وهذا يقال للتعجب، أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان، جبريل أمين الله بينه وبين رسله: أي لأن هذا الاسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب، فرجعت خديجة إلى رسول الله فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله جواره وانصرف: أي فرغ ما تزوّده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر، لأن ذلك كان قبل أن يجيء إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم. أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته.

فعند ذلك صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله، فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتقاتلنه ولتخرجنه بها السكت، ولا تكون إلا ساكنة. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه، ثم أدنى ورقة رأسه منه وقبل يأفوخه، أي وسط رأسه، لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الرأس إذا استد وقبل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء. ثم انصرف رسول الله إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس، وتارة قال سبوح سبوح، أو جمع بين ذلك في وقت واحد. وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين، وقد جاء أن أبا بكر   دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله، فقالت له: يا عتيق إذهب بمحمد إلى ورقة: أي بعد أن أخبرته بما أخبرها به رسول الله كما سيذكر، فلما دخل رسول الله أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة، وذهب به إلى ورقة، فقال له رسول الله : إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا إلى الأرض، فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني: أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجيء إليه بالقرآن. وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة ثلاث مرات، الأولى على يد أبي بكر  . وذلك قبل أن يرى جبريل. والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به، وذلك عند اجتماعه به في المطاف. والثالثة التي بعد مجيء جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور، من أنه أوّل ما نزل، وذلك على يد خديجة، ولا ينافي ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد، لأن مراده قصة مجيء جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه.

وإنما قال ورقة له يا ابن أخي، قيل لأنه يجتمع مع عبد الله والد النبي في قصيّ فكان عبد الله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام، مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى، ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا. ثم صار نصرانيا، أي لأن نبوّة موسى   مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها، وأن شريعة عيسى  ، قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى   لا ناسخة لها، قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت، والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى   أي بل كان يعلم الغيب، لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيح واتحد به، فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد.

أقول: وفيه أن في رواية «وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام» أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى. وفي الاقتصار على موسى دون الاقتصار على عيسى ما علمت، ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح الاقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى، فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الاقتصار على كل منهما.

ولا ينافي ذلك أي مجيء جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى، لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي، بل في بعض الأحيان، وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة. ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون، وقد وقعت النقمة على يد نبينا على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل، هذا كلامه فليتأمل. وقد جاء أنه قال في حق أبي جهل في يوم بدر «هذا فرعون هذه الأمة » والله أعلم.

وعن عائشة   «جاءه الملك سحرا» أي سحر يوم الاثنين يقظة لا مناما، أي بغير نمط «فقال له اقرأ. قال: ما أنا بقارىء» أي لا أوجد القراءة، قال: «فأخذني فغطني» أي ضمني وعصرني. وفي لفظ «فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء» أي لا أحسن القراءة، أي لا أحفظ شيئا أقرؤه «فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارىء» أي أيّ شيء أقرؤه.

وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ، أو ماذا أقرأ. إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الاستفهام، خصوصا وقد قدمه قال: «فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}».

أقول: فقولنا: أي بغير نمط هو ظاهر الروايات، ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات، ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط. وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك: «فكأنما كتب في قلبي كتابا» «وما بالعهد من قدم». إلا أن يقال يجوز أن يكون جوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه. ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة.

وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق، أي في الحال: أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه.

وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه: ما أنا بقارىء الذي معناه لا أوجد القراءة. إلا أن يقال جبريل   أراد التنبيه لا الأمر، وجوابه بناء على مقتضى ظاهر اللفظ.

وعلم أن قوله: ما أنا بقارىء في المواضع الثلاثة معناه مختلف: ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة، والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول، والثالث معناه الاستفهام عن أي شيء أن يقرؤه، وفيه ما علمت.

وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ: لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ. وحينئذ يكون بمعنى الثاني، فيكون تأكيدا له: أي الغرض منهما شيء واحد.

قال بعضهم: وجه المناسبة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالما، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها، وهي تعلم العلم.

وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الاستهلال: وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان. قال فيه: من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله، وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة. وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات.

وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لابن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر   «أن النبي نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات».

وذكر السهيلي أن في ذلك: أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له الشعب والتضييق عليه. والثانية اتفاقهم على الاجتماع على قتله. والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه، وجاءه جبريل وميكائيل: أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه، إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل: اقرأ الحديث، فعلم أن اقرأ باسم ربك نزلت من غير بسملة، وقد صرح بذلك الإمام البخاري، وما ورد عن ابن عباس   «بأن أول ما نزل جبريل على محمد قال: يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: اقرأ باسم ربك» قال الحافظ ابن كثير. هذا الأثر غريب، في إسناده ضعف وانقطاع، أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم، حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره، وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال: وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه، فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق، هذا كلامه والله أعلم.

قال الحافظ ابن حجر: هذا الذي وقع له في ابتداء الوحي من خصائصه، إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء   أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك. «ولما قرأ رسول الله تلك الآية رجع بها ترجف بوادره» والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق، تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائص: أي وفي رواية «فؤاده» أي قلبه، ولا مانع من اجتماع الأمرين، لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب «حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني» أي غطوني بالثياب «فزملوه حتى ذهب عنه الروع» بفتح الراء: أي الفزع «ثم أخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي» وفي رواية «على عقلي» كما في (الأمتاع) «قالت له خديجة: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا» أي لا يفضحك «إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل» أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك «وتكسب المعدوم» بضم التاء. والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم: أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك.

وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدم بلا واو، لأن المعدوم: أي الشخص المعدوم لا يكسب: أي لا يعطى الكسب «وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» أي على حوادثه «فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، فقالت له خديجة  : أي عم اسمع من ابن أخيك» أي وقولها أي عم صوابه ابن عم، لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم.

قال ابن حجر: وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد: أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين، قالت في مرة أي عم، وفي مرة أي ابن عم «قال ورقة: يابن أخي ماذا ترى: فأخبره رسول الله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى» أي صاحب سر الوحي وهو جبريل «يا ليتني فيها جذعا» أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله: أي إظهاره الذي جاء به وأنذر، أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها «يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، قال رسول الله : أو مخرجيّ هم؟ » بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج، والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوي، قلبت الواو ياء وأدغمت، قال ورقة: «نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودي» أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه.

وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم، وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضي الإخراج، فلا يحسن أن يكون علامة عليه، وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله   بها حتى يموت وتقدم ما فيه.

وفي كونه لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل، وقال في جواب قوله: إنه يخرج أو مخرجيّ هم؟ استفهاما إنكاريا، دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته، خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه، قال ورقة: «وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا» أي شديدا قويا، من الأزر وهو الشدة. الذي في الحديث الصحيح «وإن يدركني يومك» وسيأتي في بعض الروايات «وإن يدركني ذلك» قال السهيلي: وهو القياس، لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق: هو الذي يدركه ما يأتي بعده كما جاء «أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي» هذا كلامه.

أي وفي بعض الروايات أنه قال لها: «إن ابن عمك لصادق وإن هذا البدء نبوة » وفي لفظ «إنه لنبي هذه الأمة » أي وفي الشفاء أن قوله لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة، ولكنه لعله خشي أن لا تحتمل قوته مقاومة الملك وأعباء الوحي، بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة، فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولوا العزم من الرسل.

وفي كلام الحافظ ابن حجر، اختلف العلماء في هذه الخشية على اثني عشر قولا، وأولاها بالصواب وأسلمها من الارتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه، فليتأمل مع رواية «خشيت على عقلي».

قال: وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى: قرية سيدنا يونس  ، فقالت له: يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل: أي فإن هذا الاسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم، فقال عداس: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان؟ أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم، فقالت: أخبرني بعلمك فيه؟ قال: هو أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام اهـ.

وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر، لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل، ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن، وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر، وأن خديجة قالت له: أنعم صباحا يا عداس، فقال: كأن هذ الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش، قالت أجل، قال ادني مني فقد ثقل سمعي، فدنت منه ثم قالت له ما تقدم، وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره، وأنهما اشتركا في الاسم والبلد والدين، أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة.

ففي كلام ابن دحية: عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى، عنده علم من الكتاب، فأرسلت إليه خديجة تسأله عن جبريل، فقال: قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك.

وفي رواية أن عداسا هذا قال لها: يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا، فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك، فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه، وإن كان من الله فلن يضره، فانطلقت بالكتاب معها، فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله مع جبريل يقرئه هذه الآيات {ن? والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون} فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي فداك أبي وأمي، امض معي إلى عداس، فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه، فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول: قدوس قدوس، أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث.

وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن? قبل اقرأ، ولا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنا بقارىء، إذ هو صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئا، ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ. وكون ن? نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون، إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول.

وذكر ابن دحية أيضا أنه لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط، كتبت إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل، فقال لها: قدوس قدوس يا سيدة نساء قريش، أنى لك بهذا الاسم؟ فقالت: بعلي وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه، فقال: إنه السفير بين الله وبين أبنائه، وإن الشيطان لا يجترىء أن يتمثل به، ولا أن يتسمى باسمه. وهذه العبارة: أي كون جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه صدرت من الحافظ السيوطي، وزاد: ولا يعرف ذلك لغيره من الملائكة.

واعترض عليه بعضهم بأن إسرافيل كان سفيرا بين الله وبينه. فعن الشعبي أنه جاءته النبوة وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، وفي لفظ عنه: فلما مضت ثلاث سنين تولى عنه إسرافيل وقرن به جبريل: أي وقد تقدم أن إسرافيل قرن به قبل النبوة ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، يعلمه الشيء بعد الشيء إلى آخره، وحينئذ يلزم أن يكون قرن به بعد النبوة ثلاث سنين أيضا، وسيأتي عن بحث بعض الحفاظ أنها مدة فترة الوحي فليتأمل. وأجاب الحافظ السيوطي عن ذلك بأن السفير هو المرصد لذلك، وذلك لا يعرف لغير جبريل، ولا ينافي ذلك مجيء غيره من الملائكة إلى النبي في بعض الأحيان.

ولك أن تقول: إن كان المراد بالمجيء إليه بوحي من الله كما هو المتبادر فليس في هذه الرواية أن إسرافيل وغيره من الملائكة كان يأتيه بوحي من الله قبل مجيء جبريل له بوحي غير النبوة، ولا يخرجه ذلك عن الاختصاص باسم السفير، وبأن إسرافيل لم ينزل لغير النبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ثبت في الحديث، فلم يكن السفير بين الله وجميع أنبيائه.

قيل وإنما خص بذلك لأنه أول من سجد من الملائكة لآدم. ورأيته سئل هل عيسى بعد نزوله يوحى إليه؟ فأجاب بنعم، وأورد حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. وفيه التصريح بأنه يوحى إليه. قال: والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل قال: بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه، لأن ذلك وظيفته وهو السفير بين الله تعالى وبين أنبيائه، لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة ثم استدل على ذلك بما يطول.

قال: وما اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي فهو شيء لا أصل له، وزعم زاعم أن عيسى إنما يوحى إليه وحي إلهام ساقط قال: وحديث «لا وحي بعدي» باطل، أي ويدل له ما رأيته في كلام بعضهم: جبريل ملك عظيم ورسول كريم، مقرب عند الله، أمين على وحيه، وهو سفيره إلى أنبيائه كلهم، وسماه روح القدس، والروح الأمين، واختصه بوحيه من بين الملائكة المقربين.

قال: ورأيت في بعض التواريخ أن جبريل نزل عليه ستا وعشرين ألف مرة ولم يبلغ أحد من الأنبياء هذا العدد، والله أعلم.

وفي أسباب النزول للواحدي عن علي   «لما سمع النداء: يا محمد قال: لبيك، قال قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال قل {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} حتى فرغ من السورة »: أي فلما بلغ «ولا الضالين، فقال: قل آمين فقال آمين» كما في رواية وكيع وابن أبي شيبة وجاء في حديث قال بعضهم إسناده ليس بالقائم «إذا دعا أحدكم فليختم بآمين، فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة » وفي الجامع الصغير «آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين» أي خاتم دعاء رب العالمين أي يمنع من أن يتطرق إليه ردّ وعدم قبول. ومن ثم «لما سمع رجلا يدعو، قال قد وجب إن ختم بآمين».

فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فإني أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم، فإنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل، وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك.

أقول: هذا لا يدل للقول بأن الفاتحة أول ما نزل، وعليه كما قال في الكشاف أكثر المفسرين، إذ يبعد كل البعد أن تكون هذه الرواية قبل نزول {اقرأ باسم ربك} ثم رأيت عن البيهقي أنه قال فيما تقدم عن أسباب النزول، هذا مرسل ورجاله ثقات، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر: أي والمدثر نزلت بعد {يا أيها المزمل}.

ثم رأيت ابن حجر اعترض ما تقدم عن الكشاف بقوله: الذي ذهب إليه أكثر الأمة هو الأول: أي القول بأنه اقرأ، وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول، هذا كلامه.

ثم رأيت الإمام النووي قال: القول بأن الفاتحة أول ما نزل بطلانه أظهر من أن يذكر: أي ومما يدل على ذلك ما جاء من طرق عن مجاهد أن الفاتحة نزلت بالمدينة. ففي تفسير وكيع عن مجاهد: فاتحة الكتاب مدنية، وفيه أنه جاء عن قتادة أنها نزلت بمكة.

وعن علي كرم الله وجهه كما في أسباب النزول للواحدي أنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش. وفيها عنه «لما قام النبي بمكة فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين} قالت قريش رض الله فاك». وفي الكشاف أن الفاتحة نزلت بمكة، وقيل نزلت بالمدينة، فهي مكية مدنية، هذا كلامه وتبعه على ترجيح أنها مكية القاضي البيضاوي حيث قال: وقد صح أنها مكية. وفي الإتقان وذكر قوم منه أي مما تكرر نزوله الفاتحة، فليتأمل فإنه لا يقال ذلك إلا بناء على أنها نزلت بهما: أي نزلت بمكة ثم بالمدينة مبالغة في شرفها. وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أن تكرير نزولها ليس بمجزوم به. وقيل نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة.

قال في الإتقان: والظاهر أن النصف الذي نزل بالمدينة النصف الثاني، قال ولا دليل لهذا القول، هذا كلامه.

واستدل بعضهم على أنها مكية بأنه لا خلاف أن سورة الحجر مكية، وفيها {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} وهي الفاتحة. فعن أبي هريرة   قال: قال رسول الله وقد قرىء عليه الفاتحة «والذي نفسي بيده ما أنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

وقد حكى بعضهم الاتفاق على أن المراد بالسبع المثاني في آية الحجر هي الفاتحة. ويردّ دعوى الاتفاق قول الجلال السيوطي: وقد صح عن ابن عباس   تفسير السبع المثاني في آية الحجر بالسبع الطوال.

ومما يدل على أن المراد بها الفاتحة، ما ذكر في سبب نزولها وهو أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل، ورسول الله وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصحابة بهم عري وجوع، فخطر ببال النبي شيء لحاجة أصحابه فنزل {ولقد آتيناك} أي أعطيناك {سبعا من المثاني} مكان سبع قوافل، ولا تنظر إلى ما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية {ولا تحزن عليهم} أي على أصحابك {واخفض جناحك} لهم، فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما تحب من أسباب الدنيا.

وفي زوائد الجامع الصغير «لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات». وفي لفظ «فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» وفي لفظ «فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن» فليتأمل، ولها اثنان وعشرون اسما.

وذكر بعضهم أن لها ثلاثين اسما. وذكرها الاستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط، قال السهيلي: ويكره أن يقال لها أم الكتاب: أي لما ورد «لا يقولنّ أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب» قال الحافظ السيوطي  : ولا أصل له في شيء من كتب الحديث، وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه، ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى. وتارة جوّزوا الأمرين معا، وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي.

ثم رأيت في الإتقان قال: قال الزركشي في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها وهو بعيد هذا كلامه. ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته بمكة كان يصلي بغير الفاتحة. قال في أسباب النزول: وهذا مما لا تقبله العقول: أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة: أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان «لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي رواية «لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب» والمراد في كل ركعة، لقوله للمسيىء صلاته «إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت» إلى أن قال: «ثم اصنع ذلك ـ أي القراء بأم القرآن ـ في كل ركعة » وجاء على شرط الشيخين «أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها منها عوضا» ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله، لأنه تفرد بهذا القول، والعلماء على خلافه: أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول {يا أيها المدثر} ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي: أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي.

وقد يقال: لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة، لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس، وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه بعد فرض الصلوات الخمس.

وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة، يدل على أنها نزلت بالمدينة.

فقد أخرج مسلم عن ابن عباس   قال: «بينما جبريل قاعد عند النبي سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة » هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه ليلة الإسراء بقاب قوسين.

ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات، وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها.

ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة   قال: قال رسول الله: «إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم: إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها».

وقد أخرج الدارقطني عن علي   أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له إنما هي ست آيات، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم آية } وقيل لها السبع المثاني، لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة. وقيل المثاني كل القرآن، لأنه يثني فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد.

قال بعضهم: والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال: أي كما أنها المراد بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} على ما تقدم، وهي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة يونس. وقيل براءة وقيل الكهف.

وعن أم سلمة  : «أن النبي عدّ البسملة آية من الفاتحة » وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من «أنه عدّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية » فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة، والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها.

منها أنها ذكرت أن النبي كان يصلي في بيتها، فيقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين} وفي رواية عنها «أن النبي كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» والاستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضي أن البسملة ليست آية من {اقرأ باسم ربك} ومن ثم قال الحافظ الدمياطي: نزول اقرأ بدون بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة، واستدل به: أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور: أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي   في القديم وهو قول قدماء الحنفية.

قال: وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة: أي سورة اقرأ.

وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها، واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها.

ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضي سلب القرآنية عنها. وردّ هذا الردّ بأن الإمام الكافيجي قال: المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر: أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله: أي وفي الفتوحات: البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله، وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات، وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة، ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال: نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة.

وفي كلام أبي بكر بن العربي: وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد، فإنه لم يعدّها أحد آية من سائر السور.

ونقل عن إمامنا الشافعي   أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور. فعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم، وأول البقرة ال?م قال بعضهم: وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور، فإنها ليست آية من أولها، بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها، وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وخص بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني «إن النبي قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» كما سيأتي، وسيأتي ما فيه.

قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة، والتبرىء الذي يدل عليه أول براءة. ورده في الفتوحات، بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال: وأين الرحمة من الويل.

وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة: أي فعن ابن عباس   قال: سألت عثمان بن عفان   لمَ لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر {بسم الله الرحمن الرحيم}؟ فقال: كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة، وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة.

وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبد العزيز. أنهما كانا يقولان: إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله {ألم يجدك يتيما} وليس كذلك، لأن تلك حال اغتمامه بإيذاء الكفار، فهي حال محنة وضيق، وهذه حال انشراح الصدر وتطيب القلب فكيف يجتمعان؟ هذا كلامه.

وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد، ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفي كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين، وقد جهر بها كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا.

وأما ما رواه مسلم عن أنس قال: «صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» أجيب عنه بأنه لم نيف إلا السماع، ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز. ويؤيده قول بعضهم: كانوا يخفون البسملة.

وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم «أن رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن. ولا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبد الله بن مغفل أنه قال: «سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني إياك والحدث، فإني صليت مع النبي ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله، فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين، فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا، فقال ذلك، وكذا يقال فيما روي «كانوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم» فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ.

ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة   قال: قال رسول الله: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة: ـ أي الفاتحة ـ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: فوّض إليّ عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذه بيني وبين عبد ولعبدي ما سأل، فيقول عبدي: اهدنا الصراط المستقيم» إلى آخرها.

قال أبو بكر بن العربي المالكي: فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين: أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة. والثاني أنها صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد، لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه، ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها، وأطال في ذلك، وسيأتي في الحديبية أنه كان يكتب: باسمك اللهم موافقة للجاهلية. قيل كتب ذلك في أربعة كتب. وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت، فلما أنزل {بسم الله مجراها ومرساها} كتب {بسم الله} ثم لما نزل {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} كتب {بسم الله الرحمن} ثم نزلت {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} كتب {بسم الله الرحمن الرحيم} كذا نقل عن الشعبي «أن النبي لم يكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} حتى نزلت سورة النمل» وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور، ويؤيده قول السهيلي: ثم كان بعد ذلك: أي بعد نزول {وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} ينزل جبريل   ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة: أي تمييزا لها عن غيرها. وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة   على ذلك، هذا كلامه، فليتأمل ما فيه، فإنه قد يدل للقول بأن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات.

ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم.

وفي الإتقان عن الدارقطني «أن النبي : قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه. وقوله: «على نبي بعد سليمان غيري» يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة.

وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال، فقالت قريش: سحر محمدا الجبال قال السهيلي: إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح مع داود، والله أعلم.

ثم لم يلبث ورقة أن توفي. قال سبط ابن الجوزي: وهو آخر من مات في الفترة، ودفن بالحجون فلم يكن مسلما، ويؤيده ما جاء في رواية في سندها ضعف عن ابن عباس   أنه مات على نصرانيته. وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدّق بنبوّته ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكوم مسلما بل من أهل الفترة، فلما توفي ورقة قال رسول الله: «لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير» أي والقس بكسر القاف: رئيس النصارى، وبفتحها تتبع الشيء ( ).

هذا، وفي القاموس: القس مثلث القاف: تتبع الشيء وطلبه كالتقسس، وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها، ورئيس النصارى في العلم. وفي رواية «أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس» وفي رواية «قد رأيته، فرأيت عليه ثيابا بيضا، وأحسبه ـ أي أظنه ـ لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض».

أقول: صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة، فقد تعددت الرؤية. وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير، فلا دلالة في ذلك على التعدد، والله أعلم. وفي رواية «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين ( ) لأنه آمن بي وصدقني»: أي قبل الدعوة التي هي الرسالة، وحينئذ يكون معنى قوله له: «جنة أو جنتين» هيئت له جنة أو جنتان، ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة، إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدّق به لم يقل فيه: «وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وجزم ابن كثير بإسلامه.

قال بعضهم: وهو الراجح عند جهابذة الأئمة: أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة.

ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث، ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق، وعن كتاب الخميس. وحينئذ يكون قوله: «لأنه آمن بي وصدقني» واضحا، لكن ينازع في ذلك قوله: «وأحسبه لو كان أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه.

ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة. وعن يحيى بن بكير قال: سألت جابر بن عبد الله، يعني عن ابتداء الوحي، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض» أي وفي رواية «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي» زاد في رواية «متربعا عليه» وفي لفظ «على عرش بين السماء والأرض» فرعبت منه، فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني» أي وفي رواية «زملوني زملوني، وصبوا عليّ ماء بارد فدثروني وصبوا عليّ ماء باردا فنزلت هذه الآية {يا أيها المدثر} أي الملتف بثيابه {قم فأنذر وربك فكبر}»، ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة، إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل، وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل: أي قبل اقرأ وأن النبوّة والرسالة مقترنان.

قال الإمام النووي: والقول بأن أول ما نزل {يا أيها المدثر} ضعيف باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحي: أي ومما يدل على ذلك قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي. فما تقدم من قول بعضهم يعني عن ابتداء الوحي فيه نظر، وكذا في قول الراوي عن جابر «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت» لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي، إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان: واحدة في ابتداء الوحي، وأخرى في فترة الوحي، وبعض الرواة خلط، فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي، وعجزها بدل على أن ذلك كان في فترة الوحي.

هذا، ويجوز أن يكون جاور بحراء في مدة فترة الوحي. ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير «أنه كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان، وكان ذلك في مدة فترة الوحي» وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل. وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير «أنه حدث عن خديجة   أنها قالت لرسول الله : أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم» أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن: أي بشيء منه، وهو {اقرأ باسم ربك} بناء على أنه أول ما نزل. ولا ينافي ذلك قولها: «هذا الذي يأتيك إذا جاءك» لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته، فجاءه جبريل  ، فقال لها رسول الله : يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني: أي قد رأيته، لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة / «قالت: قم يا بن عمي فاجلس على فخذي، فقام رسول الله فجلس على فخذها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، قالت، فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، فألقت خمارها ورسول الله جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال لا، قالت: يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان» وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:

وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذي اللب في الأمور ارتياء

أماطت عنها الخمار لتدري ** أهو الوحي أم هو الإغماء

اختفى عند كشفها الرأس جبريـ ** ـل فما عاد أو أعيد الغطاء

استبانت خديجة أنه الكنـ ** ـز الذي حاولته والكيمياء

أي وأتاه. قال ابن حجر: أي بعد البعثة أي النبوة، واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل، ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار، فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم، عليهم الصلاة والسلام.

وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشىء عن لمة الجن، فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي، وسيأتي أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه: أي من الإغماء إلى آخره، فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه، فاستبانت: علمت علم اليقين أن ما يعرض له هو الوحي: أي لا الجني، لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجني. وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم، لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما.

أقول: وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له، وقبل اجتماعه به.

وقلو بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة؟ فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى، فإذا رآه فتحسري، فإن لم يكن من عند الله لا يراه: أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت، قالت: فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة، فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر.

وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال   وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام: أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن البوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به، وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة، وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي، ومخالف أيضا لقول الذهبي: الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة، أي بناء على تأخرها، ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة: «يا ليتني فيها جذع» فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة: أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما، بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب، بما علم بالضرورة أنه من دين محمد أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع.

وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن منه وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم، وحينئذ يكون صحابيا.

ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال: لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها، وأنه يفرق بينه وبين بحيرا، بأن ورقة أدرك البعثة، وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر، والتعريف السابق يشمله هذا كلامه.

وتعريفه السابق للصحابي: هو من اجتمع بالنبي مؤمنا. وعبارة شرح النخبة: هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر.

ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا: ما أدري أدرك البعثة أم لا؟

ولا يخفى عليك ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة، فإنه يقتضي أن البعثة عبارة عن النبوّة لا عن الرسالة، وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة.

وروى ابن إسحاق عن شيوخه «أنه كان يرقي من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك» هذا يدل على «أنه كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة، وتغميض عينيه، وتربد وجهه، ويغط كغطيط البكر، فقالت له خديجة: أوجه إليك من يرقيك؟ قال: أما الآن فلا» ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به.

واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة، يعني أمه رقت النبي من العين، ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءه الملك، وقال لها قولي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك.

وعن أسماء بنت عميس   أنها قالت: «يا رسول الله إن ابني جعفر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقي لهما؟ قال نعم، لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين».

فإن قيل بهذه الأمور علم أن جبريل ملك لا جني، فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى؟ أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم، فقد يقال: خلق الله تعالى فيه علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه جبريل، وأنه يتكلم عن الله تعالى، كما خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحي إليه هو الله.

وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان له عدوّ من شياطين الجن يقال له الأبيض، كان يأتيه في صورة جبريل. واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي.

وأجيب عنه بمثل ما هنا، وهو أن الله تعالى جعل في النبي علما ضروريا يميز به بين جبريل وبين هذا الشيطان، ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم.

وفي كلام ابن العماد: وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض، والأنبياء معصومون منه، وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك} هذا كلامه والله أعلم.

وعن ابن عباس   عن النبي قال: «كان من الأنبياء من يسمع الصوت: أي ولا يرى مصوّتا، فيكون بذلك نبيا» قال بعضهم: يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو: أي ليس من جنس الكلام، وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه.

ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا. قال: «وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب» أي وفي رواية «كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال».

ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي. وحينئذ إما أن يكون جبريل على صورة دحية الكلبي، وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكي فتحها، أو على صورة غيره، ومنه ما وقع في حديث عمر   «بينما نحن عند رسول الله ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد» الحديث. ورواية البخاري تدل على أنه لم يعرفه إلا في آخر الأمر، وورد «ما جاءني ـ يعني جبريل ـ في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة ».

وفي صحيح ابن حبان «والذي نفسي بيده ما اشتبه عليّ منذ أتاني قبل مرّته هذه، وما عرفته حتى ولى» وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام، حيث قال في تائيته:

ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية

فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة.

فإن قيل إذا جاء جبريل على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل؟ وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح، أو يصير ميتا؟

أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن، فيكون الجسد واحدا، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط.

وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة عليّ   وأولاده: أي الأئمة الاثني عشر، وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعفر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم علي الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد علي التقي. والحادي عشر حسن العسكري. والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان، وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى   على ما فيه. فقد قال عبد الله بن سبأ يوما لعلي  : أنت أنت، يعني أنت الإله، فنفاه عليّ إلى المدائن وقال: لا تساكني في بلد أبدا. وكان عبد الله بن سبأ هذا يهوديا، كان من أهل صنعاء، وأمه يهودية سوداء، ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، وكان أوّل من أظهر سب الشيخين ونسبهما للافتيات على سيدنا علي  .

ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك، فقال علي: معاذ الله أني أضمر لهما ذلك، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان، وقيل في أول خلافة عمر، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله.

وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في عليّ. وكان يقول في عليّ إنه حي لم يقتل، وإن فيه الجزء الإلهي، وإنه يجيء في السحاب، والرعد صوته والبرق سوطه، وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما. وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة: أي أنه يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى. وكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد، وقد قال الله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وأظهر أمر الوصية: أي أن عليا   أوصى له بالخلافة، وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان   كما سيأتي.

ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة: محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين  .

ومنهم من قال «بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه» وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر، وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول، وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج. كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها.

وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله   حل في صورة آدم، ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو، فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم، فإنه كان يعرف شيئا من السحر والتيرنجيات، فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب. ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه. وجاؤوا إلى القلعة التي كان متحصنا بها. فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات، ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقي حي بها من أتباعه.

والقول بالاتحاد كفر، فقد قال العز بن عبد السلام: من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر، وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف. وأنه لا يجري فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة، ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين.

وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي: سبحاني ما أعظم شأني، وقوله: «إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون. وقوله: وأنا ربي الأعلى، وقوله: أنا الحق وهو أنا وأنا هو: ليس من دعوى الحلول في شيء، وإنما قوله: سبحاني إني أنا الله، محمول على الحكاية: أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث «إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده» وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ. إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى، بحيث استغرق في بحر التوحيد، بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه، وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى، الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى، وترك الإرادة منه والاختيار.

فالعارف إذا وصل إلى هذا المقام ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول.

وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالاتحاد. ولا مشاحة في الاصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه، فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب، فقد فني عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا الله ولا يبغض إلا الله، ولا يوالي إلا الله، ولا يعادي إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا لله، ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

وفي كلام سيدي عليّ   حيث أطلق القول بالاتحاد في كلام القوم من الصوفية، فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا، كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر {ولله المثل الأعلى} هذا كلامه   ورضي عنا به، وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال: أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين.

فقد قال بعض العلماء: حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب، والعبد في حال فناء العبد، فيكون العبد معدوما موجودا في آن واحد، ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين، ومن لم يشهد ذلك أنكره. ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا، وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال، لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي يدلا عنه.

وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع، وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة، قال: وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال، ومنه قصة قضيب البان وغيره: أي كواقعة الشيخ عبد القادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به.

فقد ذكر الجلال السيوطي   أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن وليّ الله الشيخ عبد القادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها، فهل يقع الطلاق على أحدهما! قال: فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك، فقال: ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان.

وقد قيل في الأبدال: إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، ويقال عالم المثال كما تقدم، فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح، فهو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال. قال: وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل، بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر.

ومما يدل على وجود المثال رؤيته للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس   في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه} بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام.

ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض الأولياء في غير مكانها. وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ولعل مجيء جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر، فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها، إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه.

قال الشيخ الأكبر  : دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة، فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال، وهي التي لك عندي، فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر، فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه، وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة، إلا أن يدعي أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره، وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك، لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة: أي بالوعيد والزجر فليتأمل.

وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقي القرآن طريقان:

أحدهما أن رسول الله انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل: أي لأن الأنبياء يحصل لهم الانسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير اكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر.

والثاني أن الملك انخلع من الملكية إلى البشرية حتى أخذه رسول الله منه هذا كلامه. والراجح أن المنزّل اللفظ، والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا، أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل، وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى، وأوحاه إليه كذلك، أو حفظه جبريل من اللوح المحفوظ ونزل به.

واعلم أن من حالات الوحي النفث: أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال: «إن روح القدس» أي المخلوق من الطهارة يعني جبريل «نفث» أي ألقى. والنفث في الأصل: النفخ اللطيف الذي لا ريق معه «في روعي» بضم الراء: أي قلبي «أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» أي عاملوا بالجميل في طلبكم، وتتمته «ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله» أي كالكذب «فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته».

وفي كلام ابن عطاء الله: الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة:

منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به. ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا، لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه. ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى، وشاهد حسن اختياره إذا منع.

ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه، ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه.

ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة. وفي حديث ضعيف «اطلبوا الحوائج بعزة النفس، فإن الأمور تجري بالمقادير».

ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس: وهي أشد الأحوال عليه: أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة.

أقول: روى الشيخان عن عائشة   «أن الحارث بن هشام  ، وهو أخو أبي جهل لأبويه، وكان يضرب به المثل في السؤدد حتى قال الشاعر:

أحسبت أن أباك حين تسبني ** في المجد كان الحارث بن هشام

أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام

أسلم يوم الفتح، وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانىء أخت علي بن أبي طالب وأراد عليّ قتله، فذكرت ذلك للنبي فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» وحسن إسلامه، وشهد حنينا، وكان من المؤلفة كما سيأتي «سأل رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ أي حامله الذي هو جبريل، قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيقصم ـ بالفاء ـ أي يقلع عني وقد وعيت ما قال» وفي رواية «يأتيني أحيانا له صلصة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا» أي يتصور بصورة الرجل. وفي رواية «في صورة الفتي، فيكلمني فأعي ما يقول» وروي أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى.

ونص هذه الرواية «كان الوحي يأتيني على نحوين، يأتيني جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل، فذلك ينفلت مني. ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني».

قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله، لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده، فلا يثبت فيما ألقي إليه بخلافه في الحالة الثانية، لأن سماع مثل هذا الصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي اضطر إلى التثبت في ذلك، وقولنا: أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.

وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال، وقول بعضهم: الصلصلة المذكورة هي صوت الملك بالوحي، وقوله: «يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا» وكان يجد ثقلا عند نزول الوحي، ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان، وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه.

وعن زيد بن ثابت   «كان إذا نزل الوحي على رسول الله ثقل لذلك. ومرة وقع فخذه على فخذي، فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله. وربما أوحي إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت».

أي وجاء «أنه لما نزلت سورة المائدة عليه كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها».

وفي رواية «فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة » ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك.

وجاء «ما من مرة يوحي إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض منه» وعن أسماء بنت عميس «كان رسول الله إذ انزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه» وفي رواية «يصير كهيئة السكران».

أقول: أي يقرب من حال المغشي عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران: أي مع بقاء عقله وتمييزه.

ولا ينافي ذلك قول بعضهم: ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا، لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة، وهذا هو اللائق بمقامه، وحينئذ لا ينتفض وضوؤه.

ثم رأيت صاحب الوفاء قال: فإن قال قائل ما كان يجري عليه من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتفض وضوؤه؟

والجواب لا، لأنه كان محفوظا في منامه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، فإذا كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوؤه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى، لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه. وما ذكرناه أولى، لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل.

وفي كلام الشيخ محيي الدين ما يدل على أنه وجميع من يأتيه الوحي من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقي على ظهره حيث قال: سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره، فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده، فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض.

وعن أبي هريرة   «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء» قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه كان يخضب بالحناء، وإلا فهو   لم يخضب، لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه.

وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب، فقد جاء «اختضبوا بالحناء، فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم» وفي مسلم عن أبي هريرة  : «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي» وفي لفظ «كان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة » وفي رواية «كرب لذلك وتربد له وجهه، وغمض عينيه، وربما غط كغطيط البكر».

وعن زيد بن ثابت  : «كان إذا نزل على رسول الله السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة، وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها».

وعن عمر بن الخطاب  : «كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل».

وذكر الحافظ ابن حجر أن دوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس: أي المتقدم ذكرها، لأن سماع الدوي بالنسبة للحاضرين. والصلصلة بالنسبة إلى النبي، فالراوي شبه بدويّ النحل، والنبي شبه بصلصلة الجرس: أي فالمراد بهما شيء واحد، والله أعلم.

ومن حالاته: أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح.

أقول: فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر. وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود   «أن النبي لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين: حين سأله أن يريه نفسه، فقال: وددت أني رأيتك في صورتك: أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض، وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} وبقوله تعالى {فاستوى وهو بالأفق الأعلى} «طلع جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ النبي مغشيا عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه» الحديث. والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} وسيأتي الكلام على ذلك.

وفي الخصائص الصغرى: خص برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها: أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا.

وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية، وليست كأجنحة الطير. ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسدّ ما بين المشرق والمغرب، هذا كلامه فليتأمل.

ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه.

والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط؟ والله أعلم.

ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه بلا واسطة ملك؟ بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا، وذلك ليلة المعراج. واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء.

ويحتمل أن يكون نوعا واحدا، وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية. والثاني بناء على القول بالرؤية. وحينئذ لا يناسب عدّ ذلك نوعين كما فعل الشامي، ومن ثم نسب ابن القيم هذا النوع الثاني لبعضهم كالمتبرىء منه حيث قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية، وهي تكليم الله تعالى له كفاحا بغير حجاب هذا كلامه، لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية؟ فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت. وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا}.

وقول ابن القيم السادسة: أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها، لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك، وهذا محتمل لأن يكون من غير حجاب، وأن يكون من وراء الحجاب، فهي لم تخرج عما تقدم.

وكذا قوله السابعة: أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى: أي من وراء حجاب، فهي لم تخرج عما تقدم. وحينئذ يكون كلمه في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب. وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الاعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر، والجواب عنه، وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى، والله أعلم.

قال الحافظ السيوطي: وليس في القرآن من هذا النوع: أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم.

نعم يمكن أن يعدّ منه آخر سورة البقرة: أي آمن الرسول إلى آخر الآيات، لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين.

وروى الديلمي «قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال آخر سورة البقرة، فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش، ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه» ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله، وقد قيل له: «يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم؟ قال آية الكرسي أعظم» وما جاء عن الحسن   مرسلا. أفضل القرآن البقرة، وأفضل آية فيه آية الكرسي» وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي» وفي الجامع الصغير «آية الكرسي ربع القرآن».

ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى، وبعض سورة ألم نشرح. قال: «سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته، سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فقال: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك، وضالا فهديتك، وعائلا فأغنيتك، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا وتذكر معي» انتهى.

أقول: قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله: «فقال محمد ألم أجدك إلى آخره» ليس هذا نص التلاوة، وإن هذا ظاهر في أن المتلوّ الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك، وأن هذا تذكير به، والله أعلم.

ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ «أتاني ربي» وفي لفظ «رأيت ربي في أحسن صورة ـ أي خلقة ـ فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض» أي وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي  ، فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية أو المعنوية، وهذا لا يبعد أن يقع مثله للأولياء بطريق الإرث: أي تجلى له الحق بالتجلي الخاص الذي ما ذكر عبارة عنه. وفي رواية «فعلمت علم الأولين والآخرين» أي ومن حالات الوحي رؤيا النوم، قال: «رؤيا الأنبياء وحي» كما تقدم.

ومن حالاته العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه عند الاجتهاد في الأحكام بناء على ثبوته لا بواسطة ملك، وبذلك فارق النفث في الروع.

وبذكر هذه الأنواع للوحي يعمل أن ما تقدم من حصره في الحالتين المذكورتين عند سؤال الحارث له أغلبيّ أو أن ما عداهما وقع بعد سؤال الحارث له.

وفي (ينبوع الحياة) عن ابن جرير «ما نزل جبريل بوحي قط إلا وينزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحي إليه، يطردون الشياطين عنهما، لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى النبي، من الغيب الذي يوحيه إليه، فيلقوه إلى أوليائهم» ثم رأيته في (الإتقان) ذكر أن من القرآن ما نزل معه الملائكة مع جبريل تشيعه، من ذلك سورة الأنعام، شيعها سبعون ألف ملك، وفاتحة الكتاب شيعها ثمانون ألف ملك، وآية الكرسي شيعها ثمانون ألف ملك، وسورة يس? شيعها ثلاثون ألف ملك {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} شيعها عشرون ألف ملك، ولعل هذا لا ينافي ما تقدم من أن الغرض من تساقط النجوم عند البعثة حراسة السماء من استراق الشياطين لما يوحى، لجواز أن يكون هذا لحفظ ما يوحى من استراقه في الأرض وبين السماء والأرض.

وعن النخعي: إن أول سورة أنزلت عليه {اقرأ باسم ربك} قال الإمام النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، هذا كلامه. ولا يخفى أن مراد النخعي بالسورة هنا القطعة من القرآن: أي أوّل آيات أنزلت، فلا ينافي ما تقدم من رواية عمرو بن شرحبيل مما يدل على أن أول سورة أنزلت فاتحة الكتاب، لأن المراد أول سورة كاملة نزلت لا في شأن الإنذار، فلا ينافي ما تقدم من رواية جابر مما يقتضي أن أوّل ما نزل {يا أيها المدثر} لأن المراد بذلك أوّل سورة كاملة نزلت في شأن الإنذار بعد فترة الوحي: أي فإنها نزلت قبل تمام نزول سورة اقرأ، وهذا الجمع تقدم الوعد به، أي لكن يشكل عليه ما في الكشاف عن رسول الله «ما نزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا، ما خلا سورة براءة ـ و{قل هو الله أحد} ـ فإنهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة » فإن هذا السياق يدل على أنه لم ينزل عليه سورة كاملة إلا براءة و{قل هو الله أحد} ويخالفه ما في (الإتقان) أن مما نزل جملة سورة الفاتحة وسورة الكوثر، وسورة تبت، وسورة لم يكن، وسورة النصر والمرسلات والأنعام. لكن ذكر ابن الصلاح أن هذا روي بسند فيه ضعف قال: ولم أر له إسنادا صحيحا.

وقد روي ما يخالفه، ولم يذكر في (الإتقان) مما نزل جملة سورة براءة، وذكر أن المعوذتين نزلتا دفعة واحدة. وحينئذ يكون المراد بقوله: «إلا آية آية وحرفا حرفا» أي كلمة، والمراد بها ما قابل السورة، وإلا فقد أنزل عليه ثلاث آيات وأربع آيات وعشر آيات كما أنزل عليه آية وبعض آية. فقد صح نزول {غير أولي الضرر} منفردة وهي بعض آية.

وفي الإتقان عن جابر بن زيد قال: «أوّل ما أنزل الله تعالى من القرآن بمكة {اقرأ باسم ربك} ثم {ن? والقلم} ثم {يا أيها المزمل} ثم { يا أيها المدثر} ثم الفاتحة، إلى آخر ما ذكر.

ثم قال: قلت هذا السياق غريب، وفي هذا الترتيب نظر، وجابر بن زيد من علماء التابعين، هذا كلامه. وذكر بعض المفسرين أن سورة والتين أول ما نزل من القرآن، والله أعلم. وما تقدم من أن نزول {يا أيها المدثر} كان في شأن الإنذار بعد فترة الوحي، لأنه كان بعد نزول جبريل عليه بـ {اقرأ باسم ربك}، مكث مدة لا يرى جبريل.

أي وإنما كان كذلك ليذهب ما كان يجده من الرعب، وليحصل له التشوف إلى العود، ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما وافى بذروة كي يلقي نفسه منها تبدّى له جبريل ؟ فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه: أي قلبه وتقرّ نفسه ويرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا وافى ذروة جبل تبدى له مثل ذلك. قال: وفي رواية «أنه لما فتر الوحي عنه حزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى يريد أن يلقي نفسه منه، فكلما وافى ذروة جبل منهما كي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ويرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك، وكانت تلك المدة أربعين يوما، وقيل خمسة عشر يوما، وقيل اثني عشر يوما، وقيل ثلاثة أيام. قال بعضهم وهو الأشبه بحاله عند الله تعالى انتهى.

أقول: ويبعد هذا الأشبه قوله فإذا طالت عليه فترة الوحي، والله أعلم. وفي الأصل وهذه الفترة لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة.

أقول: في فتح الباري أن ابن إسحاق جزم بأنها ثلاث سنين، والله أعلم.

قال أبو القاسم السهيلي: وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصف سنة: أي وفي كلام الحافظ ابن حجر: وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت. وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس   أن مدة الفترة كانت أياما أي وأقلها ثلاثة: أي وتقدم ما فيه. قال: قال بعض الحفاظ: والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها أي مدة الفترة كانت بين اقرأ و{يا أيها المدثر} هي المدة التي اقترن معه فيها إسرافيل كما قال الشعبي انتهى.

أقول: ويوافق ذلك ما في الاستيعاب لابن عبد البر أن الشعبي قال: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين، وقرن بنبوته إسرافيل   ثلاث سنين وقد تقدم ذلك.

وفي الأصل عن الشعبي «أن رسول الله وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ولم ينزل القرآن» أي شيء منه على لسانه «ثم وكل به جبريل فجاءه بالوحي والقرآن» وهو موافق في ذلك لما في سيرة شيخه الحافظ للدمياطي حيث قال: قال بعض العلماء: وقرن به إسرافيل، ثم قرن به جبريل، وهو ظاهر في أن اقتران إسرافيل به كان بعد النبوة، ويؤيده قوله: «ويأتيه بالكلمة من الوحي» ومحتمل لأن يكون ذلك قبل النبوة، فيوافق ما تقدم عن الماوردي، لكن تقدم أنه كان يسمع حسه ولا يرى شخصه؟ إلا أن يقال: لا يلزم من كونه يتراءى له أن يراه، وقوله يأتيه بالكلمة من الوحي هو معنى قوله يأتيه بالشيء بعد الشيء، ثم رأيت الواقدي أنكر على الشعبي كون إسرافيل قرن به أولا. وقال: لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل: أي بعد النبوة، ويحتمل مطلقا. قال بعضهم: ما قاله الشعبي هو الموافق لما هو المشهور المحفوظ الثابت في الأحاديث الصحيحة، وخبر الشعبي مرسل أو معضل، فلا يعارض ما في الأحاديث الصحيحة هذا كلامه.

ثم رأيت الحافظ ابن حجر نظر في كلام الواقدي بأن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم، هذا كلامه.

لا يقال: قد وجد الدليل، فقد جاء «بينا النبي جالس وعنده جبريل إذ سمع نغيضا: أي هدة من السماء، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط» قال جماعة من العلماء: إن هذا الملك إسرافيل. لأنا نقول هذا مجرد دعوى لا دليل عليها؟ ولا يحسن أن يكون مستندهم في ذلك ما في الطبراني عن ابن عمر  . سمعت رسول الله يقول: «لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل، فقال أنا رسول ربك» الحديث.

ومن ثم عدّ السيوطي من خصائصه هبوط إسرافيل عليه، إذ ليس في ذلك دليل على أن إسرافيل لم يكن نزل إليه قبل ذلك حتى يكون دليلا على أن اقتران جبريل به سابق على اقتران إسرافيل به.

هذا، وفي كلام الحافظ السيوطي أن مجيء إسرافيل كان بعد ابتداء الوحي بسنتين، قال كما يعرف ذلك من سائر طرق الأحاديث، وهو بظاهره يرد ما في (سفر السعادة) أنه لما بلغ تسع سنين أمر الله تعالى إسرافيل أن يقوم بملازمته.

ولما بلغ إحدى عشرة سنة أمر جبريل بملازمته فلازمه تسعا وعشرين سنة فليتأمل.

وعن يحيى بن بكير قال: ما خلق الله خلقا في السموات أحسن صوتا من إسرافيل، فإذا قرأ في السماء يقطع على أهل السماء ذكرهم وتسبيحهم.

ثم رأيت في فتح الباري: ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين: أي على ما تقدم ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن عليه فقط هذا كلامه: أي فكان جبريل يأتي إليه بغير قرآن بعد مجيئه إليه باقرأ، ولم يجىء إليه بالقرآن الذي هو يا أيها المدثر إلا بعد الثلاث سنين على ما تقدم، ثم في تلك المدة مكث أياما لا يأتيه أصلا، ثم جاءه بيا أيها المدثر، فكان قبل تلك الأيام يختلف إليه هو وإسرافيل، وهذا السياق كما لا يخفى يؤخذ منه عدم المنافاة بين كون مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما يقول ابن إسحاق، وسنتين ونصفا كما يقول السهيلي، وسنتين كما يقول الحافظ السيوطي، وبين كونها أياما أقلها ثلاثة وأكثرها أربعون كما تقدم عن ابن عباس، لأن تلك الأيام التي كانت لا يرى فيها جبريل أصلا على ما تقدم: أي ولا يرى فيها إسرافيل أيضا. وفي غير تلك الأيام كان يأتيه بغير القرآن، وحينئذ لا يحسن رد الحافظ فيما سبق على السهيلي. وينبغي أن تكون تلك الأيام التي لا يرى فيها جبريل وإسرافيل هي التي يريد فيها أن يلقي نفسه من رؤوس شواهق الجبال، وهذا السياق أيضا يدل على أن النبوة سابقة على الرسالة بناء على أن الرسالة كانت بيا أيها المدثر، ويصرح به ما تقدم من قول بعضهم نبأه بقوله {اقرأ باسم ربك} وأرسله بقوله {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر} وأن بينهما فترة الوحي وعليه أكثر الروايات.

وقيل النبوة والرسالة مقترنان، ولعل من يقول بتلك يقول يا أيها المدثر دلت على طلب الدعوة إلى الله تعالى، وهذا غير إظهار الدعوة والمفاجأة بها الذي دل عليه قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} فليتأمل.

وذكر السهيلي أن من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم مشتق من الحالة التي هو عليها، فلاطفه الحق سبحانه وتعالى بقوله: {يا أيها المدثر} فبذلك علم رضاه الذي هو غاية مطلوبه، وبه كان يهون عليه تحمل الشدائد، ومن هذه الملاطفة قوله لعلي بن أبي طالب  ، وقد نام وترب جنبه «قم يا أبا تراب» وقوله لحذيفة في غزوة أحد وقد نام إلى الأسفار «قم يا نومان».

وذكر الشيخ محيي الدين بن العربي في قوله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر} اعلم أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقب الوحي، وذلك أن الملك إذا ورد على النبي بعلم أو حكم تلقى ذلك الروح الإنساني، وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه لذلك، وتنتقل الرطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق، فإذا سريّ عنه ذلك سكن المزاج، وانقشعت تلك الحرارة، وانفتحت تلك المسام، وقبل الجسم الهواء من خارج، فيتحلل الجسم، فيبرد المزاج، فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن هذا ملخص كلامه.

وذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى: {وثيابك فطهر} أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي نفعنا الله تعالى ببركاته قال: رأيت رسول الله في النوم فقال: يا أبا الحسن طهر ثيابك من الدنس، تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس، فقلت: يا رسول الله وما ثيابي؟ قال: إن الله كساك حلة التوحيد وحلة المحبة وحلة المعرفة، قال: ففهمت حينئذ قوله تعالى: {وثيابك طهر}.

وجاء في وصف إسرافيل في بعض الأحاديث «لا تفكروا في عظم ربكم، ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة، فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله، وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سموات، وإنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوصع» فهو عند نزوله يكون حاملا لزاوية العرش أو يخلفه غيره من الملائكة في ذلك.

باب ذكر وضوئه وصلاته أول البعثة

أي أول الإرسال إليه باقرأ.

أقول: في المواهب «أنه روي أن جبريل   بدا له في أحسن صورة وأطيب رائحة، فقال له: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام، ويقول لك: أنت رسول الله إلى الجن والإنس فادعهم إلى قول: لا إله إلا الله، ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء، فتوضأ منها جبريل، ثم أمره أن يتوضأ، وقام جبريل يصلي، وأمره أن يصلي معه، فعلمه الوضوء والصلاة » الحديث.

وقوله «فعلمه الوضوء» يحتمل أن يكون بفعله المذكور. ويحتمل أن يكون علمه بقوله افعل كذا في وضوئك وصلاتك، ويدل للأول ما سيأتي.

وفيه أن قول جبريل المذكور إنما كان عند أمره بإظهار الدعوة والمفاجأة بها إلى الله تعالى بعد فترة الوحي كما سيأتي، فالجمع بينه وبين قوله ثم ضرب برجله الأرض إلى آخره لا يحسن، لأنه سيأتي أن ذلك كان في يوم نزوله له {اقرأ باسم ربك} ولعله من تصرف بعض الرواة، والله أعلم.

فعن ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم «أن الصلاة حين افترضت على النبي : أي قبل الإسراء أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل ورسول الله ينظر ليريه كيف الطهور ـ أي الوضوء للصلاة ـ أي فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين» كما في بعض الروايات ( ) أي وفي رواية «فغسل كفيه ثلاثا، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه، ثم غسل يديه إلى المرفقين، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا، ثم أمر النبي فتوضأ مثل وضوئه».

أقول: وبهذه الرواية، يردّ قول بعضهم: إن النبي زاد في الوضوء التسمية وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق ومسح جميع الرأس والتخليل ومسح الأذنين والتثليث، إلا أن يقال مراد هذا البعض أن ما ذكر زاده على ما في الآية. وفي كلام بعضهم: كانت العرب في الجاهلية يغتسلون من الجنابة، ويداومون على المضمضة والاستنشاق والسواك، والله أعلم.

ثم قام جبريل فصلى به ركعتين» يحتمل أن تلك الصلاة كانت بالغداة قبل طلوع الشمس. ويحتمل أنها كانت بالعشي: أي قبل غروب الشمس. وفي الإمتاع وإنما كانت الصلاة قبل الإسراء صلاة بالعشيّ: أي قبل غروب الشمس، ثم صارت صلاة بالغداة، وصلاة بالعشي ركعتين: أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي. والعشي: هو العصر.

ففي كلام بعض أهل اللغة: العصر العشاء، والعصران الغداة والعشي، وكانت صلاته نحو الكعبة، واستقبل الحجر الأسود: أي جعل الحجر الأسود قبالته وهذا يدل على أنه لم يستقبل في تلك الصلاة بيت المقدس، لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا إذا صلى بين الركنين الأسود واليماني كما كان يفعل بعد فرض الصلوات الخمس وهو بمكة، كما سيأتي «أنه كان يصلي بين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود، ويجعل الكعبة بينه وبين الشام» ( ) أي بينه وبين بيت المقدس: أي صخرته، إلا أن يقال يجوز أن يكون عند صلاته إلى الكعبة كان بينهما إلا أنه كان إلى الحجر الأسود أقرب منه إلى اليماني، فقيل استقبل الحجر الأسود فلا مخالفة، لكن سيأتي ما قد يفيد أنه لم يستقبل بيت المقدس إلا في الصلوات الخمس: أي بعد الإسراء وقبل ذلك كان يستقبل الكعبة إلى أي جهة من جهاتها «ولما صلى رسول الله بصلاة جبريل، قال جبريل: هكذا الصلاة يا محمد، ثم انصرف جبريل، فجاء رسول الله خديجة وأخبرها، فغشي عليها من الفرح، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل فتوضأت كما توضأ رسول الله ثم صلى بها رسول الله كما صلى به جبريل  ».

وفي سيرة الحافظ الدمياطي ما يفيد أن ذلك كان في يوم نزول جبريل   له بـ {اقرأ باسم ربك} حيث قال: بعث النبي يوم الاثنين وصلى فيه، وصلت خديجة آخر يوم الاثنين، ويوافقه ظاهر ما جاء «أتاني جبريل في أول ما أوحي إليّ فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ الوضوء أخذ غرفة من الماء فنضح بها فرجه» أي رش بها فرجه أي محل الفرج من الإنسان، بناء على أنه لا فرج له، وكون الملك لا فرج له لو تصور بصورة الإنسان استدل عليه بأنه ليس ذكرا ولا أنثى، وفيه نظر، لأنه يجوز أن يكون له آلة ليست كآلة الذكر ولا كآلة الأنثى كما قيل بذلك في الخنثى ويقال لذلك فرج.

وبعض شراح الحديث حمل الفرج على ما يقابل الفرج من الإزار، وبذلك استدل أئمتنا على أنه يستحب لمن استنجى بالماء أن يأخذ بعد الاستنجاء كفا من ماء ويرش في ثيابه التي تحاذي فرجه، حتى إذا خيل له أن شيئا خرج ووجد بللا قدّر أنه من ذلك الماء، ولعل هذا هو المراد بقوله: «علمني جبريل الوضوء، وأمرني أن أنضح تحت ثوبي مما يخرج من البول بعد الوضوء» أي دفعا لتوهم خروج شيء من البول بعد الوضوء لو وجد بلل بالمحل.

وعن ابن عمر   «كان ينضح سراويله حتى يبلها» وما جاء «أنه لما أقرأه اقرأ باسم ربك، قال له جبريل: انزل عن الجبل، فنزل معه إلى قرار الأرض قال: فأجلسني على درنوك ـ بالدال المهملة والراء والنون: أي وهو نوع من البسط ذو خمل ـ ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء، فتوضأ منها جبريل» الحديث فمشروعية الوضوء كانت مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس، وإن ذلك كان في يوم نزول جبريل باقرأ، وهو مخالف لقول ابن حزم: لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة.

ومما يرد ما قاله ابن حزم نقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أنه لم يصل قط إلا بوضوء، قال: وهذا مما لا يجهله عالم، هذا كلامه، إلا أن يقال مراد ابن حزم أنه لم يشرع وجوبا إلا في المدينة، وهو الموافق لقول بعض المالكية إنه كان قبل الهجرة مندوبا: أي وإنما وجب بالمدينة بآية المائدة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} الآية.

ويرده ما في الإتقان أن هذه الآية مما تأخر نزوله عن حكمه يعنى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} إلى قوله: {لعلكم تشكرون} فالآية مدنية إجماعا، وفرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة: أي فالوضوء على هذا مكي بالفرض، مدني بالتلاوة.

قال: والحكمة في ذلك: أي في نزول الآية بعد تقدم العمل لما يدل عليه أن تكون قرآنيته متلوة هذا كلامه.

وقوله مع فرض الصلاة، يحتمل أن المراد صلاة الركعتين بناء على أنهما كانتا واجبتين عليه، وهو الموافق لما تقدم عن ابن إسحاق. ويحتمل أن المراد الصلاة الخمس: أي ليلة الإسراء، وهو الموافق لما اقتصر عليه شيخنا الشمس الرملي حيث قال: وكان فرضه مع فرض الصلاة قبل الهجرة بسنة، هذا كلامه. وحينئذ يكون قبل ذلك مندوبا حتى في صلاة الليل.

وقول صاحب المواهب: ما ذكر من أن جبريل   علمه الوضوء وأمره به يدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء فيه نظر ظاهر، إذ لا دلالة في ذلك على الفرضية، إذ يحتمل أن يكون اللفظ الصادر من جبريل له أمرتك أن تفعل كفعلي وصيغة أمره مشتركة بين الوجوب والندب.

وذكر بعضهم أن الغرض من نزول آية المائدة بيان أن من لم يقدر على الوضوء والغسل لمرض أو لعدم الماء يباح له التيمم: أي ففرضية الوضوء والغسل سابقة على نزولها ويؤيد ذلك قول عائشة   في الآية: فأنزل الله تعالى آية التيمم، ولم تقل آية الوضوء وهي هي، لأن الوضوء كان مفروضا قبل أن توجد تلك الآية، ويوافقه ما ذكره ابن عبد البر من اتفاق أهل السير على أن الغسل من الجنابة فرض عليه وهو بمكة.

وعن ابن عمر   ما يقتضي أن فرض الغسل كان مع فرض الصلوات ليلة الإسراء. فقد جاء عنه «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، فلم يزل رسول الله يسأل حتى جعل الصلاة خمسا والغسل من الجنابة مرة ». قال بعض فقهائنا: رواه أبو داود ولم يضعفه، وهو إما صحيح أو حسن، قال ذلك البعض. ويجوز أن يكون المراد بها: أي الغرض من نزولها فرض غسل الرجلين في قراءة من قرأ «وأرجلكم بالنصب» فإن حديث جبريل ليس فيه إلا مسحهما: أي وهو أن جبريل أول ما جاء النبي بالوحي توضأ فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح رأسه ورجليه إلى الكعبين وسجد سجدتين: أي ركع ركعتين مواجهة البيت، ففعل النبي كما يرى جبريل يفعله، هذا كلامه، وفيه نظر، لأن أكثر الروايات «وغسل رجليه» كما تقدم فرجليه في هذه الرواية معطوفة على وجهه كما أن أرجلكم في الآية على قراءة الجر معطوفة على الوجوه، وإنما جرّ للمجاورة وإن كان الجر للمجاورة في غير النعت قليلا، أو عبر عن الغسل الخفيف بالمسح.

وفي كلام الشيخ محيي الدين مسح الرجلين في الوضوء بظاهر الكتاب، وغسلهما بالسنة المبينة للكتاب. قال: ويحتمل العدول عن الظاهر بناء على أن المسح فيه يقال للغسل، فيكون من الألفاظ المترادفة، وفتح أرجلكم لا يخرجها عن الممسوح، فإن هذه الواو قد تكون واو المعية.

وجاء «أنه كان يتوضأ لكل صلاة » أي عملا بظاهر قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة } الآية «فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له سيدنا عمر  : فعلت شيئا لم تكن تفعله، فقال عمدا فعلته يا عمر» أي للإشارة إلى جواز الاقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس، وجواز ذلك ظاهر في نسخ وجوب الوضوء عليه لكل صلاة، ويوافقه قول بعضهم: قيل كان ذلك الوضوء لكل صلاة واجبا عليه ثم نسخ، هذا كلامه: أي ويؤيد ذلك ظاهر ما جاء أنه أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث، أي ويكون وقت المشقة يوم فتح مكة، لما علمت أنه لم يترك الوضوء لكل صلاة إلا حينئذ. وهذا السياق يدل على أن وجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته.

ويدل لذلك ما روي عن أنس   «كان رسول الله يتوضأ لكل صلاة، قيل لهم كيف تصنعون: أي هل كنتم تفعلون كفعله قال: يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث» أي فوجوب الوضوء لكل صلاة كان من خصوصياته ثم نسخ.

وذكر فقهاؤنا أن الغسل كان واجبا عليه لكل صلاة ( ) فنسخ بالنسبة للحدث الأصغر تخفيفا، فصار الوضوء بدلا عنه، ثم نسخ الوضوء لكل صلاة فظاهر سياقهم يقتضي أن وجوب الغسل ثم الوضوء لكل صلاة كان عاما في حقه وحق أمته. ويحتاج إلى بيان وقت نسخ وجوب الغسل في حقه وحق أمته وبيان وقت نسخ وجوب الوضوء، لكل صلاة في حق الأمة، ومنه يعلم أن نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة يكون بالنسبة للأمة ثم بالنسبة إليه. وحينئذ لا يشكل قول فقهائنا الآية تقتضي وجوب الطهر بالماء أو التراب لك صلاة، خرج الوضوء بالسنة، أي بما تقدم من فعله يوم الفتح، وبتجويزه للأمة أن يصلي الواحد منهم الصلوات بوضوء واحد، وبقي التيمم على مقتضى الآية، فقد وقع النسخ أوّلا بالنسبة للأمة، ثم ثانيا بالنسبة إليه، ولعل وجوب الغسل لكل صلاة كان بوحي غير قرآن أو باجتهاد.

ولا يخفى أن كون ظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء والتيمم لكل صلاة إنما هو بقطع النظر عما نقله إمامنا   عن زيد بن أسلم أن الآية فيها تقديم وحذف، وأن التقدير إذا قمتم إلى الصلاة من النوم {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم الآية }، والله أعلم.

وعن مقاتل بن سليمان? فرض الله تعالى في أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشيّ أي قبل غروب الشمس.

أقول: إن كان المراد بأول الإسلام نزول جبريل عليه باقرأ يردّ ما تقدم عن الإمتاع أن أول ما وجب ركعتان بالعشيّ ثم صارت صلاة بالغداة وصلاة بالعشي ركعتين إلا أن يراد الأولية الإضافية.

وفي بعض الأحاديث ما يدل على أن وجوب الركعتين كان خاصا به دون أمته.

منها قوله: «أول ما افترض الله على أمتي الصلوات الخمس»، وفيه أنه افترض عليها قبل ذلك صلاة الليل ثم نسخ بالصلوات الخمس.

وفي الإمتاع «كان رسول الله يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى: أي فيصلون صلاة العشي، وكانوا يصلون الضحى والعصر، ثم نزلت الصلوات الخمس» هذا كلامه. وهو يفيد أن الركعتين الأوليين كان يصليهما وقت الضحى لا قبل الشمس فليتأمل والله أعلم، ثم فرضت الخمس ليلة المعراج.

وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة: أي لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد: أي بقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر} أي صلوا.

أقول: وهو الناسخ لما وجب قبل ذلك من التحديد في أول السورة الحاصل بقوله: {قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه} وقد نسخ قيام الليل بالصلوات الخمس ليلة الإسراء، ولم يذكر أئمتنا وجوب صلاة الركعتين عليه، بل قالوا: أول ما فرض عليه الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض عليه قيام الليل المذكور في أول سورة المزمل، ثم نسخ بما في آخرها، ثم نسخ بالصلوات الخمس، وهو مخالف لما تقدم عن ابن إسحاق من وجوب صلاة الركعتين عليه، ويوافقه قول ابن كثير في قولهم ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلوات: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء.

قال بعضهم: وإنما قال ذلك، لأن أصل الصلاة قد فرض في حياة خديجة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي.

وفي كلام ابن حجر الهيتمي: لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط، ثم استمر على ذلك مدة مديدة، ثم فرض عليهم من الصلاة ما ذكر في سورة المزمل، ثم نسخ ذلك كله بالصلوات الخمس، ثم لم تكثر الفرائض وتتتابع إلا بالمدينة، ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب، وكان كلما زاد ظهورا وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت هذا كلامه.

ولم أقف على ما كان يقرأ في صلاة الركعتين قبل فترة الوحي وبعدها وقبل نزول الفاتحة، بناء على تأخر نزولها عن ذلك كما هو الراجح، ثم رأيته في الإتقان ذكر أن جبريل حين حولت القبلة أخبر رسول الله أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة، هذا كلامه. وينبغي حمله على الصلوات الخمس، وحينئذ يكون ما تقدم من قول بعضهم لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة محمولا على ذلك أيضا، وقد تقدم ذلك، والله أعلم.

باب ذكر أول الناس إيمانا به

أي بعد البعثة: أي الرسالة، وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة.

لا يخفى أنه لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا، واتبعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء، وإلى هذا الإشارة بقوله: «إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا، فطوبى للغرباء» ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به على الإطلاق خديجة  .

أقول: نقل الثعلبي المفسر اتفاق العلماء عليه. وقال النووي: إنه الصواب عند جماعة من المحققين. وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.

وفيه أن بناته الأربع كنّ موجودات عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن، إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن، أخذا مما يأتي.

وعن ابن إسحاق أن خديجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى، وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها وأخبرها به.

ثم عليّ بن أبي طالب  . ففي المرفوع عن سلمان أن النبي قال: «أول هذه الأمة ورودا على الحوض أوّلها إسلاما عليّ بن أبي طالب  » وجاء «أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة، وإنه لأول أصحابي إسلاما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما» وكان لم يبلغ الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه، كان سنه ثمان سنين، وكان عند النبي قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره، لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال، فقال رسول الله لعمه العباس: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاءا إليه وقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله عليا   فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا، فلم يزل عليّ مع رسول الله».

وفي خصائص العشرة للزمخشري «أن النبي تولى تسميته بعليّ وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه» فعن فاطمة بنت أسد أم عليّ   أنها قالت: «لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه، ثم إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام، قالت: فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد، فدعونا له محمدا فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء الله  » هذا كلامه فليتأمل.

وعنها   أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعليّ فتقوّس في بطنها فمنعها من ذلك. وكان عليّ   أصغر إخوته، فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين، وبين جعفر وأخيه عقيل كذلك، وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا، فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين، فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم عليّ: أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه.

وقد جاء أنه قال لعقيل لما أسلم «يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني، وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك».

وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما: أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال: إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترشا عمتك حمالة الحطب، والراكب خير من المركوب.

ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه عليّ لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك، فقال له: لأذهبنّ إلى رجل هو أوصل إليّ منك، فذهب إلى معاوية فأعطاه معاوية مائة ألف درهم، ثم قال له معاوية: اصعد المنبر فاذكر ما أولاك عليّ وما أوليتك، فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليّا على دينه فاختار دينه، وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه. وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل: هذا أبو يزيد يعني عقيلا، لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه، فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي، وأسأل الله تعالى خاتمه الخير. توفي عقيل في خلافة معاوية.

قال: وسبب إسلام علي كرم الله تعالى وجهه «أنه دخل على النبي ومعه خديجة وهما يصليان سرا، فقال: ما هذا؟ فقال رسول الله : دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وإلى الكفر باللات والعزى، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدّث أبا طالب، وكره رسول الله أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا عليّ إذا لم تسلم فاكتم هذا، فمكث ليلته. ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله فأسلم» اهـ.

أقول: وذلك في اليوم الثاني من صلاته هو وخديجة، وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي: أي لأنه تقدم أن صلاته مع خديجة كانت آخر يوم الاثنين، وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة، وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم.

وفي أسد الغابة «أن أبا طالب رأى النبي وعليا يصليان وعليّ على يمينه، فقال لجعفر  : صل جناح ابن عمك، فصلى عن يساره، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. قال بعضهم: وإنما صح إسلام علي: أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم: أي ومن ثم نقل عنه أنه قال:

سبقتكمو إلى الإسلام طرّا ** صغيرا ما بلغت أوان حلمي

أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق، لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين، لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر.

وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق. وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز.

هذا، وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي   أنه قال شعرا. وقيل لم يقل إلا بيتين: أي ولعل أحدهما ما تقدم، ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله:

تلكم قريش تمناني لتقتلني ** فلا وربك ما برّوا ولا ظفروا

فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ** بذات ودقين لا تبقي ولا تذر

وذات ودقين: هي الداهية.

وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين، وقيل ابن خمس عشرة سنة، وقيل ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل ابن ست عشرة سنة.

ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم: كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد.

ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سنّ الزبير حين أسلم ست عشرة سنة، وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سلّ سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك.

ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر: أسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وهما ابنا ثمان سنين، وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين: أي بناء على أن سن إمكان الاحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا.

ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطىء جارية حبشية فحملت منه، فولدت ولدا حسنا. ويرد القول بأن سنه إذ ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة.

أقول: قال بعض متأخري أصحابنا: وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه، لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به. وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع: وأما علي بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا، لأنه كان مع رسول الله في كفالته كأحد أولاده، يتبعه في جميع أموره، فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم، هذا كلامه فليتأمل، فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له كأولاده.

وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله له: أدعوك إلى الله وحده إلى آخره.

ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في (الإمتاع) وهو «ثلاثة ما كفروا بالله قط: مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب، ة وآسية امرأة فرعون».

والذي في العرائس: روي عن النبي أنه قال: «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار صاحب يس?، وعلي بن أبي طالب   وهو أفضلهم» إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم. وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله له: «وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى» وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط.

وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية: أي لم يأت بها: أبا بكر الصديق، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، ورباب بن البراء، وأسعد بن كريب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي، وأبا قيس بن صرمة. ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها، لكن في كلام السبكي: الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى، فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه، فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة، هذا كلامه، وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم.

وفي كلام الحافظ ابن كثير: الظاهر أن أهل بيته آمنوا قبل كل أحد: خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي  ، فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد، وكذا يتأمل قول ابن إسحاق: أما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن.

وعن ابن إسحاق: ذكر بعض أهل العلم «أن رسول الله كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي مستخفيا من قومه فيصليان فيها، فإذا أمسيا رجعا كذلك، ثم إن أبا طالب عثر: أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان: أي بنخلة، المحل المعروف، فقال لرسول الله : يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به؟ فقال: هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه، فقال أبو طالب: إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه». وفي رواية «أنه قال له: ما بالذي تقول من بأس، ولكن والله لا تعلوني استي أبدا» وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك وصلّ على يساره لما رأى النبي يصلي وعليا على يمينه، لكن يروى أن عليا   ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك؟ فقال: تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله بنخلة، فقال: ما هذا الفعل الذي أرى؟ فلما أخبرناه قال: هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا، إني لا أحب أن تعلوني استي، فلما تذكرت الآن قوله ضحكت. وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي، وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا.

وذكر أن أبا طالب قال لعلي: أي بني، ما هذا الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله ورسوله، وصدقت ما جاء به، ودخلت معه واتبعته، فقال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.

أي ويذكر عنه أنه كان يقول: إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أني أخاف أن تعيرني نساء قريش لاتبعته.

وعن عفيف الكندي   قال: كنت امرأ تاجرا قدمت للحج، وأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان العباس لي صديقا، وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم، فبينما أنا عند العباس بمنى: أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع: أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت توضأ فأسبغ الوضوء: أي أكمله ثم قام يصلي: أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات، ثم خرج غلام مراهق: أي قارب البلوغ فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلي، ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما، ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة، ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة، فقلت: ويحك يا عباس ما هذا الدين؟ فقال: هذا دين محمد بن عبد الله أخي، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه امرأته خديجة، قال عفيف بعد أن أسلم: يا ليتني كنت رابعا» أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت، فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه، لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه كان قبل إسلام علي، وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم، بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي، ويؤيده ما قيل: أول من صلى مع النبي أبو بكر، لكن في الاستيعاب لابن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام.

وفيه أن عليا قال: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين، أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة.

وقوله في هذا الحديث: فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى قبل غروب الشمس فقط.

أقول: قد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه، والجماعة في ذلك جائزة، وقد فعلها في النقل المطلق، وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس.

وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة  ، إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها، فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا، كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك، وفي مكة كانت مباحة، لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر الصحابة. وفيه أن القهر إنما ينافي إظهار الجماعة لا فعلها، إلا أن يقال تركت حسما للباب. وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل، والله أعلم.

ثم بعد إسلام علي   أسلم من الصحابة   زيد بن حارثة بن شرحبيل.

وقال ابن هشام: شرحبيل مولى رسول الله وهبته له خديجة، أي لما تزوجها، أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية، أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا، فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع، أي وعمره ثمان سنين، فإنه أسر من عند أخواله طي، وعليه اقتصر السهيلي.

فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه، أي وقيل اشتراه من سوق حباشة بأربعمائة درهم، ويقال بستمائة درهم، فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها، فلما تزوّجها وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له، فأعتقه رسول الله وتبناه قبل الوحي ( ).

أي وقيل اشتراه لها فإنها جاء إلى خديجة، فقال: «رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه، ولو كان لي ثمنه لاشتريته، قالت وكم ثمنه؟ قال سبعمائة درهم، قالت: خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره، فاشتراه رسول الله فجاء به إليها، وقال: إنه لو كان لي لأعتقته، قالت: هو لك فأعتقه» وقيل بل اشتراه رسول الله من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك.

وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن اسمه زيدا، ولكن النبي سماه بذلك باسم جدّه قصيّ حين تبناه.

ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه فقام إليه وقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال لا، قال: فحر أنت أم مملوك؟ قال: مملوك، قال: عربيّ أنت أم أعجمي؟ قال: بل عربيّ، قال: ممن أهلك؟ قال من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ود، قال: ويحك ابن من أنت؟ قال ابن حارثة بن شرحبيل، قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي قال: ومن أخوالك؟ قال: طيّ، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى، فالتزمه وقال ابن حارثة ودعا أباه، فقال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه.

وفي رواية أنا ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا أباه ووصفوا له مكانه، فجاء أبوه وعمه.

وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن يكون اجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس، فلما جاء أهلك في طلبه ليفدوه خيره النبي بين المكث عنده والرجوع إلى أهله، فاختار المكث عند رسول الله.

فقد ذكر أنهم لما جاؤوا للنبي، قالوا: يابن عبد المطلب يا بن سيد قومه ( ): أي وفي لفظ، لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا بن عبد المطلب يا بن هاشم يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون الأسير العاني، وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك، فقال: وما ذاك؟ قال: زيد بن حارثة، فقال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال ادعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء، فقالوا، زدت على النصف. وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت، فدعاه فقال: تعرف هؤلاء؟ قال: نعم أبي وعمي، ولعل سكوته عن أخيه لاستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه، على أن أكثر الروايات الاقتصار على مجيء أبيه وعمه.

وفي كلام السهيلي «أن زيدا لما جاء قال له من هذان؟ فقال: هذا أبي حارثة بن شرحبيل، وهذا كعب بن شرحبيل عمي. فعند ذلك قال له: أنا من علمت، وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني مكان الأب والعم، فقالا، ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال نعم، ما أنا بالذي أختار عليه أحدا، فلما رأى رسول الله منه ما رأى أخرجه إلى الحجر: أي الذي هو محل جلوس قريش، فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا».

وفي كلام ابن عبد البر أنه حين تبناه رسول الله كان سنه ثمان سنين، وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول: هذا ابني وارثا وموروثا، ويشهدهم على ذلك، وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول، دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف: أي من حالفه، فنسخ ذلك، وهذا الذي ذكره ابن عبد البر من أنه حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه له قبل الوحي، وأن ذلك كان قبل مجيء أبيه وعمه، وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجيء أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل.

وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم. وفي كلام بعضهم: لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري.

ولما تبنى رسول الله زيدا كان يقال له زيد بن محمد، ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد باسمه إلا هو كما سيأتي. قال ابن الجوزي: إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجلّ الذي في قوله تعالى: {يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب} اسم رجل كان يكتب للنبي ( ).

أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد باسمه في القرآن، وهي أنه لما نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد، ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة، فصار اسمه يتلى في المحاريب.

ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي، ولم تذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسنّ منه.

سئل جبلة: من أكبر أنت أم زيد؟ فقال زيد: أكبر مني وأنا ولدت قبله: أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام.

ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق  . قال بعضهم في سبب إسلامه، إنه كان صديقا لرسول الله يكثر غشيانه في منزله ومحادثته، وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم، فكان متوقعا لذلك، فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له: إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبيّ مرسل مثل موسى، فانسل أبو بكر حتى أتى رسول الله فسأله عن خبره، فقص عليه قصته المتضمنة لمجيء الوحي له بالرسالة، فقال صدقت، بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فيقال إنه سماه يومئذ الصديق، وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزول {يا أيها المدثر} بعد فترة الوحي، بناء على ما تقدم، وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافي ما سيأتي أنه سمي بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش، لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ.

وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به} أن الذي جاء بالصدق رسول الله والذي صدق به أبو بكر. قال: ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر، خرجت وعليها خمار أحمر فقالت: الحمد لله الذي هداك يا بن أبي قحافة، واسمه عبد الله: أي سماه بذلك رسول وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة، فأبو بكر   أول من غير رسول الله اسمه، ولقبه عتيق لحسن وجهه، أو لأنه عتق من الذمّ والعيب () أي أو نظر إليه فقال هذا عتيق من النار، فهو أول لقب وجد في الإسلام.

وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش. قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول: عتيق وما عتيق، ذو المنظر الأنيق.

وفي كلام ابن حجر الهيتمي: وصح أن الملقب له به النبي لما دخل عليه في بيت عائشة، وأنه غلب عليه من يومئذ. قال: وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه، وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلام السهيلي.

قيل وسمي عتيقا، لأن رسول الله قال له حين أسلم أنت عتيق من النار.

وكان أبو بكر   صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم، وكان من أعف الناس. كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال، محببا في قومه، حسن المجالسة، وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا، ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذا العلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي، وكان أعلم الناس بأنساب العرب.

فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال: إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش، فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر، وكان لا يعدّ مساويهم، فمن ثم كان محببا فيهم، بخلاف عقيل بن أبي طالب  ، فإنه كان بعد أبي بكر، أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم، وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم.

وفي كلام بعضهم: كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم، يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد.

قال الزمخشري: ولعله كني بأبي بكر، لابتكاره الخصال الحميدة، وكان نقش خاتمه «نعم القادر الله» وكان نقش خاتم عمر   «كفى بالموت واعظا يا عمر» وكان نقش خاتم عثمان «آمنت بالله مخلصا» وكان نقش خاتم عليّ «الملك لله» وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح «الحمد لله».

وكان رسول الله يقول: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ـ أي وقفة وتأخر وتردد ـ إلا ما كان من أبي بكر».

وفي رواية «ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي عليّ وراجعني في الكلام، إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه» ( ) أي ومن ثم كان أسدّ الصحابة رأيا، وأكملهم عقلا، لخبر تمام «أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر» ونزل فيه وفي عمر {وشاورهم في الأمر} كان أبو بكر   بمكان الوزير من رسول الله، فكان يشاوره في أموره كلها.

وقد جاء «إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء: اثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل، واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر» وفي حديث رواته ثقات «إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر» وفي رواية «إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض».

وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر، فقال له: انزل عن مجلس أبي، فقال: مجلس أبيك والله لا مجلس أبي، فأجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن رأيي، فقال: والله ما اتهمتك.

ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر   مع سيدنا الحسين، فإنه قال له وهو يخطب: انزل عن منبر أبي، فقال له: منبر أبيك لا منبر أبي، من أمرك بهذا؟ فقام عليّ فقال له: ما أمره بهذا أحد، ثم قال للحسين: لأوجعنك يا غدر، فقال: لا توجع ابن أخي، صدق منبر أبيه.

قال: وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته، وبراهين صدق دعوته قبل دعوته، ولرؤيا رآها قبل ذلك. رأى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره، فقصها على بعض أهل الكتاب، فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه، وأنه يكون أسعد الناس به، ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا. فقد رأيت أن أبا بكر   رأى رؤيا فقصها على بحيرا، فقال له: إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته، وخليفته بعد مماته.

أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر   آمن بالنبي قبل النبوة: أي علم أنه النبي المنتظر، لما مر عن بحيرا الراهب، ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن، فقال له أحسبك حرميا، فقال أبو بكر نعم، فقال له أحسبك قرشيا، قال نعم، فقال له أحسبك تيميا، قال نعم قال له: بقيت لي فيك واحدة، قال وما هي؟ قال له: تكشف لي عن بطنك، فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك؟ فقال: أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى وكهل. فأما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة: أي مع كونه حرميا قريشيا تيميا، بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا، وما عليك أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت فيك الصفة: أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفي عليّ، فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سوداء فوق سرتي، أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر، فقال أنت هو ورب الكعبة، قال أبو بكر: فلما قضيت أربي من اليمن أتيته لأودعه، فقال: أحافظ عني أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي؟ قلت نعم، فذكر له أبياتا، قال أبو بكر: فقدمت مكة وقد بعث النبي فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري، فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا انتظارك ما انتظرنا به، فإذا قد جئت فأنت الغاية والكفاية: أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له، قال أبو بكر: فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته فقرعت عليه الباب فخرج إليّ وقال لي: يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله، فقلت: وما دليلك على ذلك؟ قال: الشيخ الذي أفادك الأبيات، فقلت: ومن أخبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلي، قلت مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال أبو بكر  : فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله بإسلامي. وفي لفظ أشد سرورا مني بإسلامي، ولا مانع من صدور الأمرين منه  .

ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين، وما جاء من شعر حسان   من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه:

وأول الناس منهم صدق الرسلا وأنه سمع ذلك منه ولم ينكره، بل قال: صدقت يا حسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة.

وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر   أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أو الناس إسلاما بعد خديجة، ثم مولاه زيد بن حارثة، لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر.

أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار. أي غير الموالي أبو بكر، ومن الصبيان عليّ ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، وهذا ما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ، وإلا فلا حاجة لزيادة «ليس من الموالي» تأمل.

أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام: أي في إظهار الإسلام، لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف عليّ، فقد جاء عن علي   أنه قال: إن أبا بكر   سبقني إلى أربع وعدّ منها إظهار الإسلام وقال أنا أخفيته، ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب، لأن ذلك كان عند اختفائه هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي، فالأولية في إظهار الإسلام إضافية.

قال ابن كثير: وورد عن علي   أنه قال: أنا أول من أسلم، ولا يصح إسناد ذلك إليه. قال وقد روي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه. وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان؟ فالأولية إضافية.

ومما يؤثر عن علي  : لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم. البشاشة فخ المودة، والصبر قبر العيوب، والغالب بالظلم مغلوب، العجب ممن يدعو ويستبطىء الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي.

وأول من أسلم من النساء بعد خديجة   أم الفضل زوج العباس، وأسما بنت أبي بكر، وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب.

وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم. وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي: إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل، لقوله النبي أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه، وأنه كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي، وهو يردّ القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة، فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام. ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة، لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه الرسول المنتظر، وذلك نافع له في الآخرة. ومن ثم قال لما توفي ورقة: «لقد رأيت القس ـ يعني ورقة ـ في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني» إلى آخر ما تقدم.

وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم: أن يؤمن ويصدق برسالته بعد وجودها، بل يكفي ولو قبل ذلك، فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى: أي محكوما بإيمانه.

ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة: أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله: الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي. والمراد بالرسالة نزول {يا أيها المدثر} لا إظهارها، ونزول قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} بناء على تأخر الرسالة عن النبوة.

وحين أسلم أبو بكر   دعا إلى الله تعالى ورسوله من وثق به من قومه. فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس.

أي ولما أسلم عثمان   أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال: ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد؟ والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه، وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع.

وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه، ولا مانع من تعدد ذلك. وجاء «لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيقي فيها عثمان بن عفان».

وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام(1)   وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم. وعبد الرحمن بن عوف(1)  : أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر، وقيل عبد الكعبة، وقيل عبد الحارث، فسماه رسول الله عبد الرحمن قال: وكان أمية بن خلف لي صديقا، فقال لي يوما: أرغبت عن اسم سماك به أبواك؟ فقلت نعم، فقال لي: إني لا أعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله، فكان يناديني بذلك.

قال: وسبب إسلام عبد الرحمن بن عوف ما حدث به قال: سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري، فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر؟ هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم؟ فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة.

وعن علي   قال: سمعت رسول الله يقول لعبد الرحمن بن عوف: «أنت أمين في أهل الأرض أمي في أهل السماء» وجاء «أنه وصفه بالصادق الصالح البار».

وأسلم بدعاية أبي بكر   أيضا سعد(1) بن أبي وقاص: أي فإن أبا بكر لما دعاه إلى الإسلام لم يبعد، وأتى النبي فسأله عن أمره فأخبر به ( ) فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة، وهو   من بني زهرة، ومن ثم قال وقد أقبل عليه: «سعد خالي فليرني امرؤ خاله».

وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي، وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها، فقالت له: ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحمن وبر الولدين؟ قال: فقلت نعم، فقالت: والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد: أي وتمس إسافا ونائلة، فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب، فأنزل الله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} الآية، وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوما وليلة لا تأكل ولا تشرب. قال سعد: فلما رأيت ذلك قلت لها: تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج نفسا نفسا ما تركت دين هذا النبي، فكلي إن شئت أو لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت.

وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال: أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر: أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح: ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث؟ فرجعت من حيث جئت، وقلت: لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا، ثم أرسلت إليّ أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي، فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول: هو البر لا يفارق دينه، ولا يكون تابعا، فلما أسلم عامر لقي منها ما لم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة، ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت: ما شأن الناس؟ فقالوا: هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا، وهي تعطي الله عهدا لا يظلها نخل ولا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته، فقلت لها: والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئي مقعدك من النار.

وجاء «أنه أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجه الوداع، فجاء رسول الله يعود عبد الرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عنده الحارث، فقال النبي لعبد الرحمن: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضرّ بك قوم وينتفع بك آخرون، ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس، فقال: والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله، هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء؟ قال نعم، فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال» وهذا استدل به على إسلام الحارث بن كلدة، لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك، فهو معدود من الصحابة. وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله.

وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق   أيضا طلحة بن عبدالله التيمي فجاء به إلى رسول الله حين استجاب له فأسلم.

أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام أخذهما نوفل بن العدوية، وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم، ولذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان يقول: «اللهم اكفنا شر ابن العدوية ».

أقول: سببب إسلام طلحة بن عبيد الله   ما تقدم أنه قال: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل ثم من أهل الحرم أحد؟ فقلت: نعم أنا، قال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ، فإياك أن تسبق إليه، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين يدعو إلى الله، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فخرجت حتى دخلت على أبي بكر   فأخبرته بما قال الراهب، فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله فأخبره بذلك، فسر بذلك وأسلم طلحة.

وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه، وهو طلحة بن عبيد الله التيمي، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه} الآية، لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة. وفي لفظ يتزوّج محمد بنات عمنا ويحجبهنّ عنا، لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده، فنزلت الآية.

قال الحافظ السيوطي: وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر، لأن طلحة أحد العشرة أجلّ مقاما من أن يصدر عنه ذلك، حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبه هذا كلامه.

والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم: عثمان وطلحة بن عبيد الله، ويقال له طلحة الفياض، وطلحة الجود، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وزاد بعضهم سادسا، وهو أبو عبيدة بن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بزازا، وكان الزبير جزارا، وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل، والله أعلم، ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء.

وذكر في الأصل جماعة من السابقين للإسلام منهم عبد الله بن مسعود وأن سبب إسلامه ما حدث به، قال: «كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط، فجاء رسول الله ومعه أبو بكر بن أبي قحافة، فقال النبي : هل عندك لبن؟ فقلت نعم ولكني مؤتمن، قال: هل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل؟ قلت نعم فأتيته بشاة شصوص لا ضرع لها فمسح النبي مكان الضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنا» كذا في الأصل. وفي الصحاح كما في النهاية الشصوص التي ذهب لبنها، وحينئذ يكون قول الأصل لا ضرع لها، أي لا لبن لها، ويدل لذلك قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين «فمسح ضرعها» وقول ابن مسعود فمسح مكان الضرع، أي محل اللبن «فأتيت النبي بصخرة منقورة فاحتلب النبي فسقى أبا بكر وسقاني، ثم شرب، ثم قال للضرع: اقلص فرجع كما كان» أي لا وجود له على ظاهر ما في الأصل، أو لا لبن فيه على ما في النهاية كالصحاح، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:

ورب عناق ما نزا الفحل فوقها ** مسحت عليها باليمين فدرّت

قال ابن مسعود: فلما رأيت هذا من رسول الله، قلت: يا رسول الله علمني، فمسح رأسي وقال: «بارك الله فيك فإنك غلام معلم».

أقول: فإن قيل قول ابن مسعود ولكني مؤتمن، وعدوله عن ذات اللبن إلى غيرها يخالف ما سيأتي في حديث المعراج والهجرة أن العادة كانت جارية بإباحة مثل ذلك اللبن لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك، فكان كل راع مأذونا له في ذلك وإذا كان ذلك أمرا متعارفا مشهورا يبعد خفاؤه.

قلنا: قد يقال لا مخالفة لأن ابن السبيل المسافر، وجاز أن يكون النبي وأبو بكر   لم يكونا مسافرين، لجواز أن تكون تلك الغنم التي كان فيها ابن مسعود ببعض نواحي مكة القريبة منها، التي لا يعدّ قاصدها مسافرا، ولعله لا ينافي ذلك ما سيأتي أن من خصائصه أبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج إليهما، وأنه يجب على مالكهما بذل ذلك له.

وكان عبد الله بن مسعود يعرف بأمه وهي أم عبد، وكان قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم، ولما ضحكت الصحابة   من دقة رجليه قال رسول الله: «لرجل عبد الله في الميزان أثقل من أحد» وقال في حقه: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد».

وقوله: «لرجل عبد الله في الميزان» يدل للقول بأن الموزون الإنسان نفسه لا عمله، وكان يكرمه ويدنيه ولا يحجبه، فلذلك كان كثير الولوج عليه، وكان يمشي أمامه ومعه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه، ولذلك كان مشهورا بين الصحابة   بأنه صاحب سر رسول الله، وبشره رسول الله بالجنة، ولم أقف على أنه أسلم حين أجفلت الشاة، لكن قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين: أسلم قديما بمكة لما مرّ به وهو يرعى غنما إلى آخره، يدل على أنه أسلم حينئذ. ومما يؤثر عنه: الدنيا كلها هموم، فما كان فيها من سرور فهو ربح، والله أعلم.

وذكر في الأصل أن من السابقين أبا ذر الغفاري، واسمه جندب بن جنادة بضم الجيم فيهما قال: وسبب إسلامه ما حدث به قال: صليت قبل أن ألقي النبي ثلاث سنين لله أتوجه حيث يوجهني ربي، فبلغنا أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي أنيس انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وأتني بخبره، فلما جاء أنيس قلت له: ما عندك فقال: والله رأيت رجلا يأمر بخير وينهي عن الشر، وفي رواية: رأيتك على دينه يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق، قلت فما يقول الناس فيه؟ قال: يقولون شاعر كاهن ساحر، والله إنه لصادق وإنهم ليكذبون، فقلت اكفني حتى أذهب فأنظر، قال نعم وكن على حذر من أهل مكة، فحملت جرابا وعصا ثم أقبلت حتى أتيت مكة، فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، فمكثت في المسجد ثلاثين ليلة ويوما، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على بطني سحنة جوع. والسحنة: بالتحريك، قيل حرارة يجدها الإنسان من الجوع، ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد وإذا رسول الله وصاحبه جاءا فطافا بالبيت، ثم صلى رسول الله، فلما قضى صلاته أتيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجهه ثم قال من الرجل؟ قلت من غفار بكسر المعجمة قال: متى كنت؟ قال: كنت من ثلاثين ليلة ويوما ههنا، قال: فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على بطني سحنة جوع قال: «مبارك، إنها طعام طعم وشفاء سقم» أي وجاء «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لتشفى شفاك الله، وإن شربته لتشبع أشبعك الله، وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل» وجاء «التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق» وجاء «آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم».

وذكر أن أبا ذر أول من قال لرسول الله السلام عليك التي هي تحية الإسلام، فهو أول من حيا رسول الله بتحية الإسلام، وبايع رسول الله أن لا يأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق ولو كان مرا، ومن ثم قال رسول: «ما أظلت الخضراء» أي السماء «ولا أقلت الغبراء» أي الأرض «أصدق من أبي ذر» وقال في حقه: «أبو ذر يمشي في الأرض على زهد عيسى ابن مريم» وفي الحديث «أبو ذر أزهد أمتي وأصدقها» وقد هاجر أبو ذر إلى الشام بعد وفاة أبي بكر، واستمر بها إلى أن ولي عثمان، فاستقدمه من الشام لشكوى معاوية منه وأسكنه الربذة، فكان بها حتى مات، فإن أبا ذر صار يغلظ القول لمعاوية ويكلمه بالكلام الخشن.

وعن ابن عباس   «أن لقيا أبي ذر لرسول الله كان بدلالة عليّ  ، وأنه قال له: ما أقدمك هذه البلدة، فقال له أبو ذر: إن كتمت عليّ أخبرتك» وفي رواية «إن أعطيتني عهدا وميثاقا أن ترشدني أخبرتك، ففعل قال أبو ذر: فأخبرته فأرشدني وأوصلني إلى رسول الله وأسلمت».

وفي الإمتاع «أن عليا استضاف أبا ذر ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء وهو لا يخبره، ثم في الثالث قال له: ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة؟ قال له: إن كتمت علي أخبرتك قال: فإني أفعل، قال له: بلغنا أنه خرج هنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي أي خروجي إليه فاتبعني، أدخل حيث أدخل فإن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي «وفي لفظ» كأني أريق الماء فامضِ أنت، قال أبو ذر: فمضى ومضيت حتى دخل ودخلت معه على النبي فقلت له: أعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت مكاني» الحديث.

وما تقدم من قوله له: «من كان يطعمك» وجواب أبي ذر له بقوله: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم يبعد أن يكون عليّ   أضاف أبا ذر ولم يأكل عنده، وكذا يبعده ما جاء أن أبا بكر قال: يا رسول الله ائذن لي في إطعامه الليلة، قال أبو ذر: فانطلق رسول الله وأبو بكر، فانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا، فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته، إلا أن يحمل الطعام على خصوص الزبيب.

ويمكن التوفيق بين الروايتين: أي رواية دخوله على النبي مع علي فأسلم، ورواية اجتماعه به في الطواف فأسلم، بأن يكون أبو ذر دخل عليه أولا مع عليّ ثم لقيه في الطواف، ويكون المراد حينئذ بإسلامه الثاني الثبات عليه بتكرير الشهادتين، وعذره في عدم اجتماعه به في المسجد مدة ثلاثين يوما عدم خلو المطاف، كما يرشد لذلك قوله: ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد إلى آخره، وإلا فيبعد أن يكون لم يدخل المسجد للطواف مدة ثلاثين يوما.

ويعد هذا الجمع قوله له: «من الرجل إلى آخره» ثم قال: لأبي ذر «يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم يأتوني، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل، فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخنّ بهذا بين ظهرانيهم، قال: وكنت في أول الإسلام خامسا» وفي رواية «رابعا» ولعل المراد من الإعراب فلا ينافي ما يأتي في وصف خالد بن سعيد «فلما اجتمعت قريش بالمسجد ناديت بأعلى صوتي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا قوموا إلى هذا الصابيء فضربت لأموت» وفي لفظ «فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فأكب عليّ العباس، ثم قال لهم: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم عليهم، فخلوا عني، قال: فجئت زمزم فغسلت عني الدماء، فلما أصبحت الغداة رجعت لمثل ذلك، فصنع بي مثل ما صنع، وأدركني العباس، وكان منه كالأمس، فخرجت وأتيت أنيسا فقال ما صنعت؟ فقلت: قد أسلمت وصدقت، فقال: ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا، فقالت: ما لي رغبة عن دينكما، فإني أسلمت وصدقت ثم أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله المدينة أسلمنا، فلما جاء المدينة أسلم نصفهم الثاني» أي لأنه قال لأبي ذر: «إني وجهت إلى الأرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم، وجاءت أسلم: القبيلة المعروفة فقالوا يا رسول الله نسلم على الذي أسلم عليه إخواننا، فقال رسول الله : غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله».

أي وقد ذكر أن أبا ذر وقف يوما عند الكعبة: أي في حجة حجها أو عمرة اعتمرها فاكتنفه الناس فقال لهم: لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا؟ فقالوا بلى، فقال سفر القيامة أبعد مما تريدون، فخذوا ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوما شديدا حره ليوم الشنور، وصلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور.

وممن أسلم خالد بن سعيد بن العاص  . قيل كان حين أسلم رابعا وقيل ثالثا وقيل خامسا. وهو أول من أسلم من إخوته. ويمكن أن يكون ذلك محمل قول ابنته أم خالد: أول من أسلم أبي: أي من إخوته.

وسبب إسلامه أنه رأى في النوم النار ورأى من فظاعتها وأهوالها أمرا مهولا، ورأى أنه على شفيرها، وأن أباه يريد أن يلقيه فيها، ورأى رسول الله آخذا بحجزته يمنعه من الوقوع فيها، فقام من نومه فزعا وقال: أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق وعلم أن نجاته من النار تكون على يد رسول الله، فأتى أبا بكر فذكر له ذلك، فقال له: أريد بك خير، هذا رسول الله فاتبعه، فأتاه فقال يا محمد إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده، لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، فأسلم خالد.

وفي الوفاء عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت: كان خالد بن سعيد ذات ليلة نائما، قبيل مبعث رسول الله، فقال: رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينما هو كذلك إذ خرج نور أي من زمزم، ثم علا في السماء فأضاء في البيت، ثم أصاب مكة كلها، ثم تحول إلى يثرب فأصابها حتى أني لأنظر إلى البسر في النخل، فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي، فقال: يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبد المطلب ألا ترى أنه خرج من حفر أبيهم ثم إنه ذكر ذلك لرسول الله أي بعد مبعثه، فقال: يا خالد أنا والله ذلك النور، وأنا رسول الله، وقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد، وعلم أبوه بذلك، أبوه وهو سعيد أبو أجيحة وكان من عظماء قريش، كان إذا اعتمّ لم يعتم قرشي إعظاما له، ومن ثم قال فيه القائل:

أبا أجيحة من يغتم عمته ** يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد

وعند إسلام ولده خالد أرسل في طلبه فانتهره وضربه: أي بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه، وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم، فقال: والله تبعته على ما جاء به، فغضب أبوه وقال: اذهب يا لكع حيث شئت، وقال: والله لأمنعنك القوت، قال إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، فأخرجه وقال لبنيه ولم يكونوا أسلموا: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به، فانصرف خالد إلى رسول الله، فكان يلزمه ويعيش معه، ويغيب عن أبيه في نواحي مكة، حتى خرج أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فكان خالد أول من هاجر إليها.

وذكر عن والده سعيد أنه مرض فقال إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدا، فقال خالد عند ذلك: اللهم لا ترفعه، فتوفي في مرضه ذلك. وخالد هذا أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم، وأسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص  .

قيل وسبب إسلامه أنه رأى نورا خرج من زمزم أضاءت له منه نخل المدينة حتى رأى البسر فيها، فقص رؤياه، فقيل له هذه بئر بني عبد المطلب، وهذا النور منهم يكون فكان سببا لإسلامه، وتقدم قريبا أن هذه الرؤيا وقعت لخالد، فكانت سبب إسلامه، وأنه قصها على أخيه عمرو المذكور، فهو من خلط بعض الرواة، إلا أن يقال لا مانع من تعدد هذه الرؤية لخالد ولأخيه عمرو، وأنها كانت سببا لإسلامهما، وأسلم من بني سعيد أيضا أبان والحكم الذي سماه رسول الله عبد الله.

أي ومن السابقين للإسلام صهيب، كان أبوه عاملا لكسرى، أغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير، فنشأ في الروم حتى كبر، ثم ابتاعه جماعة من العرب وجاؤوا به إلى سوق عكاظ، فابتاعه منهم بعض أهل مكة، أي وهو عبد الله بن جدعان فلما بعث رسول الله مرّ صهيب على دار رسول الله فرأى عمار بن ياسر، فقال له عمار بن ياسر: أين تريد يا صهيب؟ قال: أريد أن أدخل إلى محمد فأسمع كلامه وما يدعو إليه، قال عمار: وأنا أريد ذلك، فدخلا على رسول الله، فأمرهما بالجلوس فجلسا، وعرض عليهما السلام، وتلا عليهما ما حفظ من القرآن، فتشهدا ثم مكثا عنده يومهما ذلك حتى أمسيا خرجا مستخفيين، فدخل عمار على أمه وأبيه فسألاه أين كان؟ فأخبرهما بإسلامه وعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك، فأعجبهما فأسلما على يده فكان رسول الله يسميه الطيب المطيب.

وأسلم أيضا حصين والد عمران بن حصين   بعد إسلام والده عمران.

وسبب إسلامه أن قريشا جاءت إليه وكانت تعظمه وتجله، فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا ويسبها، فجاؤوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي ودخل حصين، فلما رآه النبي قال: «أوسعوا للشيخ، وعمران ولده في الصحابة، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها؟ فقال: يا حصين كم تعبد من إله؟ قال سبعة في الأرض وواحد في السماء، فقال: فإذا أصابك الضرّ لمن تدعو؟ قال الذي في السماء، قال: فإذا هلك المال من تدعو؟ قال الذي في السماء، قال: فيستجيب لك وحده وتشرك معه، أرضيته في الشرك؟ يا حصين أسلم تسلم فأسلم، فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فبكى وقال: بكيت من صنع عمران، دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم وفي حقه فدخلني من ذلك الرقة، فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله لأصحابه: شيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب: أي عتبته رأته قريش، قالوا: قد صبا وتفرقوا عنه».

السيرة الحلبية
مقدمة | نسبه الشريف | تزويج عبد الله أبي النبي آمنة أمه وحفر زمزم | حمل أمه به | وفاة والده | مولده | تسميته محمدا وأحمد | رضاعه | وفاة أمه وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب إياه | وفاة عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب له | سفره مع عمه إلى الشام | ما حفظه الله به في صغره | رعيته الغنم | حضوره حرب الفجار | شهوده حلف الفضول | سفره إلى الشام ثانيا | تزوجه خديجة بنت خويلد | بنيان قريش الكعبة | ما جاء من أمر رسول الله عن أحبار اليهود ورهبان النصارى والكهان والجان | سلام الحجر والشجر عليه قبل مبعثه | المبعث وعموم بعثته | بدء الوحي | وضوؤه وصلاته أول البعثة | أول الناس إيمانا به | استخفائه وأصحابه في دار الأرقم ودعائه إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه | عرض قريش عليه أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي | الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وإسلام عمر بن الخطاب | اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب وكتابة الصحيفة | الهجرة الثانية إلى الحبشة | وفد نجران | وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة | خروج النبي إلى الطائف | الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه | الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس | عرض رسول الله نفسه على القبائل أن يحموه ويناصروه | الهجرة إلى المدينة | بدء الأذان والإقامة | مغازيه: غزوة بواط | غزوة العشيرة | غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الأولى | تحويل القبلة | غزوة بدر الكبرى | غزوة بني سليم | غزوة بني قينقاع | غزوة السويق | غزوة قرقرة الكدر | غزوة ذي أمر | غزوة بحران | غزوة أحد | غزوة حمراء الأسد | غزوة بني النضير | غزوة ذات الرقاع | غزوة بدر الآخرة | غزوة دومة الجندل | غزوة بني المصطلق | غزوة الخندق | غزوة بني قريظة | غزوة بن لحيان | غزوة ذي قرد | غزوة الحديبية | غزوة خيبر | غزوة وادي القرى | عمرة القضاء | غزوة مؤتة | فتح مكة | غزوة حنين | غزوة الطائف | غزوة تبوك | سراياه وبعوثه: سرية حمزة بن عبد المطلب | سرية عبيدة بن الحارث | سرية سعد بن أبي وقاص | سرية عبد الله بن جحش | سرية عمير بن عدي الخطمي | سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك | سرية عبد الله بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف الأوسي | سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع | سرية زيد بن حارثة إلى القردة | سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد | سرية الرجيع | سرية القراء إلى بئر معونة | سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء | سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر | سرية محمد بن مسلمة لذي القصة | سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة أيضا | سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم | سرية زيد بن حارثة إلى العيص | سرية زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة | سرية زيد بن حارثة إلى جذام | سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق لبني فزارة | سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل | سرية زيد بن حارثة إلى مدين | سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك | سرية عبد الله بن رواحة إلى أُسَير | سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم | سرية سعيد بن زيد | سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى طائفة من هوازن | سرية أبي بكر إلى بني كلاب | سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بفدك | سرية غالب بن عبد الله الليثي | سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن | سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم | سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح | سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد | سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر | سرية كعب بن عمير الغفاري | سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل | سرية الخبط | سرية أبي قتادة إلى غطفان | سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة | سرية أبي قتادة إلى بطن أضم | سرية خالد بن الوليد إلى العزى | سرية عمرو بن العاص إلى سواع | سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة | سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة | سرية أبي عامر الأشعري إلى أوطاس | سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين الصنم ليهدمه | سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم | سرية قطبة بن عامر إلى خثعم | سرية الضحاك الكلابي | سرية علقمة بن مجزز | سرية علي بن أبي طالب | سرية علي بن أبي طالب إلى بلاد مذحج | سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل | سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أبنى | الوفود التي وفدت عليه | كتبه التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام | كتابه إلى قيصر | كتابه إلى كسرى | كتابه للنجاشي | كتابه للمقوقس ملك القبط | كتابه للمنذر بالبحرين | كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان | كتابه إلى هوذة | كتابه إلى الحارث الغساني | حجة الوداع | عمَره | معجزاته | خصائصه | أولاده | أعمامه وعماته | أزواجه وسراريه | خدمه الأحرار | الذين أعتقهم | كتّابه | حراسه | من ولي السوق في زمنه | من كان يضحكه | أمناء الرسول | شعراؤه | من كان يضرب الأعناق بين يديه | مؤذنوه | العشرة المبشرون بالجنة | حواريوه | سلاحه | خيله وبغاله وحمره | صفته الظاهرة | صفته الباطنة | مرضه ووفاته | بيان ما وقع من عام ولادته إلى زمان وفاته على سبيل الإجمال