السيرة الحلبية/الجزء الثالث
باب غزوة بدر الكبرى
ويقال لها بدر العظمى، ويقال لها بدر القتال، ويقال بدر الفرقان: أي لأن الله تعالى فرق فيها بين الحق والباطل.
«ثم إن العير التي خرج في طلبها حتى بلغ العشيرة ووجدها سبقته بأيام لم يزل مترقبا قفولها: أي رجوعها من الشأم، فلما سمع بقفولها من الشام ندب المسلمين» أي دعاهم وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب ناس»، أي أجابوا «وثقل آخرون أي لم يجيبوا لظنهم أن رسول الله ﷺ لم يلق حربا، ولم يحتفل لها رسول الله » أي لم يهتم بها، بل قال «من كان ظهره»: أي ما يركبه «حاضرا فليركب معنا» ولم ينتظر من كان ظهره غائبا عنه».
ولما خرج إلى بدر قالت له أمّ ورقة بنت نوفل: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك أمرّض مرضاكم، لعل الله يرزقني الشهادة، فقال لها: قري في بيتك، فإن الله يرزقك الشهادة، وكانت قد قرأت القرآن، فكان رسول الله ﷺ يزورها ويسميها الشهيدة» فكان الناس يقولون لها الشهيدة. فلما كان زمن خلافة سيدنا عمر عدا عليها غلام وجارية كانت دبرتهما فغمياها بقطيفة إلى أن ماتت، فجيء بهما إلى سيدنا عمر، فأمر بصلبهما، فكانا أوّل مصلوب بالمدينة، وقال: صدق رسول الله ﷺ كان يقول «انطلقوا بنا نزور الشهيدة».
فكان أبو سفيان حين دنا بالعير من أرض الحجاز يتجسس الأخبار: أي يبحث عنها ويسأل من لقي من الركبان تخوفا من رسول الله، فبلغه أن رسول الله ﷺ قد استنفر أصحابه للعير، أي ويقال: إنه لقي رجلا فأخبره أنه قد كان عرض لغيره في بدايته وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير فخاف خوفا شديدا، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري: أي استأجره بعشيرين مثقالا، ولا يعرف له إسلام، والذي من الصحابة ضمضم بن عمر الخزاعي ليأتي مكة، أي وأن يجدع بعيره وأن يحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، ويستنقر قريشا، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، وقبل أن يقدم بثلاث ليال رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي، اختلف في إسلامها رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب، فقالت له: يا أخي. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني: أي اشتدت علي وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدّثك.
قال: وفي رواية أنها قالت له: لن أحدثك حتى تعاهدني أن لا تذكرها، فإنهم إن سمعوها ـ تعني كفار قريش ـ آذونا وأسمعونا ما لا نحب، فعاهدها العباس ا هـ. فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح: أي وهو ما بين المحصب ومكة، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا فانفروا يا آل غدر: أي يا أصحاب الغدر وعدم الوفاء إلى مصارعكم في ثلاث: أي بعد ثلاثة أيام.
وفي كلام السهيلي: يا آل غُدر بضم الغين والدال جمع غدور، أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم، قالت: فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره: أي انتصب به على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت: أي تكسرت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلها منه فلقة، فقال لها العباس: والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة، أي وكان صديقا له ذكرها له أي واستكتمه، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، فتحدث بها ففشا الحديث. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش فعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال أبو جهل لعنه الله: يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: ذاك الرؤيا التي رأت عاتكة! فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تستنبأ رجالكم حتى تستنبأ نساؤكم.
وفي رواية: ما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء ا هـ. قال أبو جهل: قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه، الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا. وفي رواية أن العباس قال لأبي جهل هل أنت منته يا مصفر استه: أي يا مأبون، أو يا جبان، أو الذي يغير لون البرص الذي بمقعدته بالزعفران، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا، ولقي العباس من أخته عاتكة أذى شديدا حين أفشى من حديثها، قال العباس: فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني أقررتم؟ أي قائلة، أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟
ثم قلت لهنّ: وأيم الله لأتعرضنّ له، وإن عاد قاتلته، وغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود إلى بعض ما قاله فأوقع به، إذ هو قد خرج نحو باب المسجد يشتد: أي يعدو، فقلت في نفسي ما له لعنه الله؟ أكل هذا فرق؟ أي خوف مني، فإذا هو يسمع ما لم أسمع، سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، أي قطع أنفه وأذناه، وحول رحله وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، الليطمة اللطيمة: أي أدركو اللطيمة، وهي العير التي تحمل الطيب والبز، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها. وفي لفظ: إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدا، الغوث الغوث. قال العباس: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعا، أي وفزعوا أشد الفزع؛ وأشفقوا: أي خافوا من رؤيا عاتكة.
ويروى أنهم قالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا، أي وأعان قويهم ضعيفهم؛ وقام أشراف قريش يحضون الناس على الخروج، وقال سهيل بن عمرو: يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟ من أراد مالا فهذا مالي، ومن أراد قوتا فهذا قوتي ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب، أي خوفا من رؤيا عاتكة، فإنه كان يقول رؤيا عاتكة كأخذ بيد، أي صادقة لا تتخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة: أي استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه دينا أفلس بها أي قال له اخرج وديني لك، أي ويقال إن ذلك الدين كان ربا. ومن ثم جاء في لفظ: وكان لاطه بأربعة آلاف درهم، قال أبو عبيد: وسمي الربا لياطا لأنه ملصق بالبيع وليس ببيع.
وفي كلام البلاذري، أنه قامر أبا لهب على أن يطيعه فيما أراد، فقمره أبو لهب فأسلمه إلى ضيق، أي ضيق عليه بالطلب، ثم قامره فقمره أبو لهب أيضا، فأرسله مكانه إلى بدر وهشام هذا قتله عمر بن الخطاب في هذه الغزوة، حتى إن أمية بن خلف أراد القعود وكان شيخا جسيما ثقيلا، فجاء إليه وهو جالس مع قومه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها مجمر: أي بخور يحملها حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا عليّ استجمر فإنما أنت من النساء، فقال له: قبحك الله وقبح ما جئت به، أي وكان عقبة كما في فتح الباري سفيها. وكان أبو جهل سلط عقبة على ذلك. وفي لفظ أتاه أبو جهل، فقال له: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي، وفي لفظ: وأنت من أشراف الوادي تخلفوا معك، فسر يوما أو يومين، أي ولا مانع من وجود ذلك كله، فتجهز مع الناس.
أي وسبب تخلفه أن سعد بن معاذ قدم مكة معتمرا فنزل عليه لأن أمية كان ينزل على سعد بالمدينة إذا ذهب إلى الشام في تجارته. فقال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فقال أمية لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفلت الناس انطلقت فطفت. وفي لفظ: فخرج أمية به قريبا من نصف النهار، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف؟ فقال له سعد: أنا سعد بن معاذ. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟ وفي لفظ: آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فتلاحيا: أي تخاصم، وسعد يرفع صوته بقوله: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة؟ فصار أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي وجعل يسكت سعدا. فقال سعد لأمية: إليك عني، فإني سمعت محمدا يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال نعم، قال: بمكة؟ قال: لا أدري، قال: والله ما كذب محمد، فكاد يحدث أي يبول في ثيابه فزعا، فرجع إلى امرأته، فقال: ما تعلمين ما قال أخي اليثربي ـ يعني سعد بن معاذ؟ قالت: وما ذاك؟ قال زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد. قال: فلما جاء الصريخ وأراد الخروج، قالت له امرأته: أما علمت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فإني إذن لا أخرج، فلما صمم على عدم الخروج بل أقسم بالله لا يخرج من مكة قيل له ما تقدم، فخرج ناويا أن يرجع عنهم.
أي ومعنى كونه قاتله، أنه كان سببا في قتله، وإلا فهو لم يباشر إلا قتل أخيه. وهو أبيّ بن خلف في أحد كما سيأتي. ومن ثم جاء في رواية قال لأمية: إن أصحابه يعني النبي ﷺ يقتلونك.
ويحتمل أن سعد بن معاذ سمعه يقول «أنا أقتل أبيّ بن خلف» ففهم أنه يريد أمية لا أبيا.
أي وفي الإمتاع: أن أمية بن خلف وعتبة وشيبة ابني ربيعة وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام استقسموا بالأزلام، فخرج لهم القدح الناهي: أي المكتوب عليه لا تفعل، فأجمعوا على المقام، فجاءهم أبو جهل لعنه الله وأزعجهم، وأعانه على ذلك عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.
ويقال إن عداسا قال لسيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة بأي وأمي أنتما، والله ما تساقان إلا لمصارعكما، فأرادا عدم الخروج، فلم يزل بهما أبو جهل حتى خرجا عازمين على العود عن الجيش.
ولما فرغوا من جهازهم، أي وكان ذلك في ثلاثة أيام، وقيل في يومين وأجمعوا السير: أي عزموا عليه وكانوا خمسين وتسعمائة. وقيل كانوا ألفا وقادوا مائة فرس أي عليها مائة درع سوى دروع المشاة. قال ابن إسحاق: وخرجوا على الصعب والذلول: أي لشدة إسراعهم، والصعب: الذي لا ينقاد، والذلول: الذي ينقاد، معهم القيان: أي بفتح القاف وتخفيف المثناة تحت وفي آخره نون جمع قينة: وهي الأمة مطلقا. وقيل المغنية؛ والمراد هنا الثاني، لقوله في الإمتاع: ومعهم القينات يضربن بالدفوف يغنين: أي بهجاء المسلمين.
وسيأتي في أحد خروج جماعة من نساء قريش معهن الدفوف، وعند خروجهم ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب أي والدماء، وقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا: أي لأن قريشا كانت قتلت شخصا من كنانة، وأن شخصا من قريش كان شابا وضيئا له ذؤابة وعليه حلة خرج في طلب ضالة له، فمر ببني كنانة وفيهم سيدهم وهو عامر بن الخلوج فرآه فأعجبه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فذكر أنه من قريش، فلما وَلّى الغلام. قال عامر لقومه: أما لكم في قريش من دم؟ قالوا بلى، فأغراهم به فقتلوه، ثم قال بنو كنانة لقريش رجل برجل: فقالت قريش، نعم رجل برجل. ثم إن أخا المقتول ظفر بعامر بمر الظهران فعلاه بالسيف حتى قتلهُ ثم خاط بطنه بسيفه، ثم جاء وعلقه بأستار الكعبة من الليل فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر عرفوه وعرفوا قاتله، أي وكاد ذلك يثنيهم، أي يصرفهم عن الخروج فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي ـ وكان من أشراف بني كنانة ـ وقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا وخرج معهم إبليس بعدهم أن بني كنانة وراءهم قد أقبلوا لنصرهم {وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم}.
«ولما خرج رسول الله ﷺ من المدينة ضرب رسول الله ﷺ عسكره ببئر أبي عتبة، أي وأمر أصحابه أن يستقوا منها وشرب من مائها».
وفي الإمتاع عسكر ببيوت للسقيا، وهي عين بينها وبين المدينة يومان كان يستقى له الماء منها.
وقد جاء أن عبده رباحا كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. وقال «بئر غرس من عيون الجنة» ومن ثم غسل منها كما سيأتي. وغرس: اسم عبد كان يقوم عليها، وقيل غير ذلك.
وأمر حين فصل من بيوت السقيا أن تعدّ المسلمون، فوقف لهم عند بئر أبي عتبة فعدوا، وهي على ميل من المدينة فعرض أصحابه وردّ من استصغر، أي وكان ممن رده أسامة بن زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت ، وردّ عمير بن أبي وقاص فبكى فأجازه، وقتل وعمره ستة عشر عاما. وحينئذ يتوقف في رده، لأن الخمسة عشر بلوغ بالسن على ما عليه أئمتنا.
وخرج في خمسة وثلاثمائة رجل، من المهاجرين أربعة وستون، وباقيهم من الأنصار. وقيل كان المهاجرون نيفا وثمانين، وكانت الأنصار نيفا وأربعين ومائتين.
وذكر الإمام الدواني أنه سمع من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم يعني أصحاب بدر مستجاب، وقد جرب ذلك. وخلف عثمان على ابنته رقية وكانت مريضة، أي وقيل لأنه كان مريضا بالجدري: أي ولا مانع من وجود الأمرين، وقد قال «إن لك لأجر رجل وسهمه» أي وكان أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري أجمع الخروج إلى بدر وكانت أمه مريضة، فأمره بالمقام على أمه، فرجع رسول الله ﷺ من بدر وقت توفيت، فصلى على قبرها.
واستعمل أبا لبابة واليا على المدينة ورده من المحل المذكور، أي من بئر أبي عتبة كذا في الأصل. وقيل رده من الروحاء، وهو المشهور: وهي قرية على ليلتين من المدينة كما تقدم.
واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس في المدينة، وخلف عاصم بن عدي على أهل قباء وأهل العالية، أي لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار لينظر في ذلك، وكسر بالروحاء خوات بن جبير.
أي وفي كلام ابن عبد البر وقال موسى بن عقبة: خرج خوات بن جبير مع رسول الله، فلما بلغ الصفراء أصاب ساقه حجر ودميت رجله واعتلت فرجع، وضرب له رسول الله ﷺ بسهمه. وأهل الأخبار يقولون إنه شهد بدرا.
وله في الجاهلية قصة مشهورة مع ذات النحيين: التي تضرب العرب بها المثل فتقول «أشغل من ذات النحيين» وهي خولة « يروى أنه سأله عنها وتبسم، فقال: يا رسول الله قد رزقني الله خيرا منها، وأعوذ بالله من الحور بعد الكور» وروي «أن قال له: ما فعل بعيرك الشارد» يعرّض بهذه القصة، فقال: قيده الإسلام يا رسول الله، وقيل لم يعرض رسول الله ﷺ بهذا القول لتلك القضية، وإنما هو لقضية أخرى هي «أن خوّاتا مر بنسوة في الجاهلية أعجبه حسنهن، فسألهن أن يفتلن له قيدا لبعيره وزعم أنه شارد؛ وجلس إليهن بهذه العلة، فمر عليه رسول الله ﷺ وهو يتحدث إليهن، فإعرض عنه وعنهن، فلما أسلم سأله رسول الله ﷺ عن ذلك البعير وهو يتبسم. وكسر أيضا الحارث بن الصمة.
وبعث له طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد يتحسسان خبر العير. والتحسس للأخبار بالحاء المهملة: أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه، وبالجيم: أي يحفص عنها بغيره. وجاء «تحسسوا ولا تجسسوا» ولم يحضرا لهذا القتال، بل رجعا بخبر العير إلى المدينة على ظن أنه بالمدينة، فلما علما أنه ببدر خرجا إليه فلقياه منصرفا من بدر، وأسهم لكل وصار كل من أسهم له يقول «وأجري يا رسول الله؟ فيقول: وأجرك. ودفع اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، وكان أمامه رايتان سواداوتان: إحداهما مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي ويقال لها العقاب، وكانت من مرط لعائشة».
وفي كلام بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب من أشراف قريش وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله، وسيأتي أنه حملها في هذه الغزوة الأب الخامس لإمامنا الشافعي وهو السائب بن يزيد «والأخرى مع بعض الأنصار» وابن قتيبة اقتصر على الأولى. وذكر بعضهم أن بعض الأنصار هذا قيل هو سعد بن معاذ، وقيل الحباب بن المنذر، وهذا يردّ ما تقدم في غزوة بواط عن ابن إسحاق، وما سيأتي في غزوة بني قينقاع. عن ابن سعد أن الرايات لم تكن وجدت وإنما حدثت يوم خيبر.
ومما يؤيد الرد ما جاء عن ابن عباس «أن النبي ﷺ أعطى عليا كرم الله وجهه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة» وفي الهدى أن لواء المهاجرين كان من مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، ولم يذكر الرايتين.
وفي الإمتاع أنه عقد الألوية وهي ثلاثة، لواء يحمله مصعب بن عمير، ورايتان سوداوتان: إحداهما مع علي، والأخرى مع رجل من الأنصار وفيه إطلاق اللواء على الراية، وقد تقدم أن جماعة من أهل اللغة صرحوا بترادف اللواء والراية.
وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود. وقال في الأصل: والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس رسول الله ﷺ في العريش أي كما سيأتي، قال أي جوابا عما تقدم عن الأصل العريش كان ببدر؛ أي وهذا كان عند خروجهم وفي الطريق، فلا منافاة أي لأنه يجوز أن يكون في بدر دفع الراية لغيره بإذنه ليكون معه في العريش ولبس درعه ذات الفضول، وتقلد سيفه العضب.
وحين فصل من بيوت السقيا قال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك، فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسارى، فاغتنى به كل عائل.
وكان حبيب بن يساف ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج نجدة لقومه من الخزرج طالبا للغنيمة، ففرح المسلمون بخروجه معهم، فقال له رسول الله «لا يصحبنا إلا من كان على ديننا» أي وفي رواية «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» أي وسيأتي في أحداثه قال «لا ننتصر بأهل الشرك على أهل الشرك» لما رد حلفاء عبدالله بن أبي ابن سلول من يهود «وتكررت من حبيب المراجعة لرسول الله، وفي الثالثة قال له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال نعم، فأسلم وقاتل قتالا شديدا».
وفي الإمتاع وقدم حبيب بن يساف بالروحاء مسلما. ولا مخالفة، لجواز أن يكون أسلم قبل الروحاء.
«ولما سار رسول الله ﷺ صام يوما أو يومين، ثم نادى مناديه، يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا».
وذلك «أنه كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفطروا، انتهى وسيأتي في فتح مكة أنه أمرهم بالفطر فلم يفعل جماعة منهم ذلك، فقال أولئك العصاة، وكانت إبل أصحاب رسول الله، أي التي معهم يومئذٍ سبعين بعيرا، فاعتقبوها كل ثلاثة يعتقبون بعيرا، أي إلا ما كان من حمزة وزيد بن حارثة وأبي كبشة وأنيسة مولى رسول الله، فإن هؤلاء الأربعة كانوا يعتقبون بعيرا».
أي وعن عائشة «أن رسول الله ﷺ أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر».
وفي الإمتاع: فكانوا يتعاقبون الإبل الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا كلامه «فكان رسول الله ﷺ وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ومرثد يعتقبون بعيرا» وفي لفظ «كان أبو لبابة وعلي والنبي ﷺ يعتقبون بعيرا» أي وذلك قبل أن يردّ أبا لبابة للمدينة من الروحاء، وبعد أن رده قام مقامه مرثد، وقيل زيد بن حارثة، وقيل زيد كان مع حمزة أي كما تقدم.
ويجوز أن كان مع حمزة تارة، ومع النبي ﷺ أخرى، فكان إذا كانت عقبة النبي ﷺ قالا له: أي رفيقاه: اركب حتى نمشي معك، فيقول «ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما».
«وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا، أي ورفاعة وخلاد ابنا رافع وعبيد بن يزيد الأنصاري يعتقبون بعيرا، حتى إذا كانوا بالروحاء برك بعيرهم عيا، فمرّ بهم رسول الله، فقالوا: يا رسول الله برك علينا بكرنا، فدعا رسول الله ﷺ بماء فتمضمض وألقاه في إناء» أي وفي الإمتاع «فتمضمض وتوضأ في إناء، ثم قال: افتح فاه، فصب منه في فيه ثم صب باقي ذلك عليه، ثم قال: اركبا ومضى فلحقاه؛ وإنه لينفر بهم» أي وأمر بإحصاء من معه، وهو محتمل لأن يكون أمر بذلك ثانيا بعد الروحاء بعد أن رد أبا لبابة «وبعد عدهم في بئر أبي عتبة، فإذا هم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ففرح بذلك، وقال عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر» وهذا قول عامة السلف كما قاله ابن جرير ، ومن زاد على ذلك عدّ منهم من رده من الروحاء ومن أسهم له ولم يحضر ومن نقص عن ذلك، وعدهم ثلاثمائة وخمس رجال أو ست رجال أو سبعة رجال، فالجواب عنه لا يخفى.
وكان في الجيش خمسة أفراس: فرسان له وفرس لمرثد، ويقال له السيل، وفرس للمقداد بن الأسود نسب إليه لأنه تبناه في الجاهلية كما تقدم، ويقال لها سبحة، وفرس للزبير ويقال له اليعسوب، وقيل لم يكن في الجيش إلا فرسان، فرس المقداد وفرس الزبير.
وعن علي : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد.
أقول: يجوز أن يكون المراد لم يقاتل يوم بدر فارسا إلا المقداد وغيره ممن له فرس قاتل راجلا؛ ويؤيد ما يأتي «أنه لما قسم الغنيمة لم يميز أحدا عن أحد الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس» لكن قد يخالفه قول الزمخشري في خصائص العشرة «كان الزبير صاحب راية رسول الله ﷺ يوم بدر، وليس على الميمنة يومئذٍ فارس غيره» هذا كلامه. إلا أن يقال كون الزبير فارسا على الميمنة لا يخالف كون المقداد فارسا في محل آخر مع الجماعة الذين فيهم سيدنا علي كرّم الله وجهه فقول سيدنا علي لم يكن فينا: أي في الجماعة الملازمين لنا تأمل، والله أعلم.
وفي أثناء الطريق بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله ﷺ قال: أفيكم رسول الله ﷺ قالوا نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني بما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له سلامة بن سلامة بن وقش: لا تسل رسول الله، أقبل عليّ أنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها ففي بطنها منك سخلة، فقال له رسول الله ﷺ: مه أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلامة فلما نزلوا بواد يقال له ذفران» بكسر الفاء: أي وهو واد قريب من الصفراء أتاه الخبر عن قريش، بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي ﷺ أصحابه وأخبرهم الخبر: أي قال لهم إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول أي مسرعين، فما تقولون؟ العير أحب إليكم من النفير؟ فقالوا: بلى، أي قالت ذلك طائفة منهم العير أحب إلينا من لقاء العدو. وفي رواية هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، إنا خرجنا للعير وفي رواية «يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فعند ذلك تغير وجه رسول الله » وقد روى ذلك عن أبي أيوب في سبب نزول قوله تعالى {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} وعند ذلك قام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل: أي لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ما دامت منا عين تطرف، فوالله الذي بعثك بالحق نبيا لو سرت بنا إلى برك الغماد ـ وهي مدينة بالحبشة ـ لجالدنا: أي ضربنا بالسيوف معك من دونه حتى نبلغه. وفي لفظ «نقاتل عن يمينك وعن يسارك. ومن بين يديك ومن خلفك، قال ابن مسعود: فرأيت وجه رسول الله ﷺ يشرق لذلك وسر بذلك».
وفي الكشاف «فضحك رسول الله، فقال رسول الله ﷺ خيرا ثم دعا له بخير».
هذا، وفي العرائس روي «أن النبي، قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد عن البيت إني ذاهب بالهدى، فتأخر عند البيت واستشار أصحابه في ذلك، فقال المقداد بن الأسود أما والله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون، والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك ومن بين يديك، ولو خضت بحرا لخضناه معك، ولو علوت جبلا لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتابعناك، فلما سمع أصحاب رسول الله ﷺ ذلك تابعوه، فأشرق عند ذلك وجه رسول الله ﷺ والتعدد ممكن لكنه بعيد ثم قال أشيروا عليّ، فقال عمر يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته واعدد لذلك عدته، أي ثم استشارهم ثالثا، فقال أشيروا عليّ أيها الناس ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، وذلك لأنهم عدد الناس: أي أكثرهم عددا ومن ثم قيل: وإنما كرر رسول الله ﷺ الاستشارة: أي في ذلك المجلس ليعرف حال الأنصار، فإنه تخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه أي جاءه على حين غفلة بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم عملا بظاهر قولهم له حين بايعوه عند العقبة «يا رسول الله إناء براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا، نمنعك بما نمنع به أبناءنا ونساءنا، ومن ثم قال له سعد بن معاذ سيد الأوس. وقيل سعد بن عبادة سيد الخزرج وإنما حكي بصيغة التمريض لأنه قد اختلف في عده في البدريين.
والصحيح أنه لم يشهد بدرا فإنه كان تهيأ للخروج فنهش بالمهملة أي لدغته الحية قبل أن يخرج فأقام أي وضرب له بسهم، فقال: لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله، فقال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، زاد في رواية ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت. وفي لفظ وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر في الحرب، صدق اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك. وفي لفظ: بعض ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله تعالى، فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك، فسر النبي ﷺ لذلك، أي وأشرق وجهه بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، أي وهما عير قريش ومن خرج من مكة من قريش يريد حماية ذلك العير «فوالله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» أي فقد أعلمه الله تعالى بعد وعده بذلك الظفر بالطائفة الثانية، وأراه مصارعهم فعلم القوم أنهم ملاقون القتال وأن العير لا تحصل لهم.
ثم ارتحل رسول الله ﷺ من ذفران حتى نزل قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر ، أي وقيل بدل أبي بكر قتادة بن النعمان، وقيل معاذ بن جبل حتى وقفا على شيخ من العرب أي يقال له سفيان قال في النور: لا أعلم له إسلاما، فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم. فقال الشيخ، لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما فقال له رسول الله ﷺ إذا أخبرتنا أخبرناك فقال الشيخ ذاك بذاك قال نعم، قال فإنه قد بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني به فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزل به رسول الله ﷺ وأصحابه، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني به صدق فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزلت به قريش فلما فرغ من خبره قال من أنتما فقال رسول الله ﷺ: نحن من ماء أي من ماء دافق وهو المني، ثم انصرفا عنه. فقال الشيخ من ماء من ماء العراق؟ فهم أن المراد بالماء حقيقته.
أي لكن في الإمتاع «فقال النبي ﷺ نحن من ماء، وأشار بيده إلى العراق. فقال: من ماء العراق» أي وأضيف الماء إلى العراق لكثرته به، وفيه أن هذا من التورية، وقد تقدم في أوائل الهجرة أنه لا ينبغي لنبي أن يكذب ولو صورة، ومنه التورية.
لكن في كلام القاضي البيضاوي وما روي «أنه قال لإبراهيم ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته.
ثم رجع رسول الله ﷺ إلى أصحابه ودعا لهم فقال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم، ففتح الله لهم يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا» أخرجه أبو داود عن عمرو بن العاص : أي شبعوا واكتسوا بما أصابوه من كسوة وأزواد قريش.
وفي الإمتاع أن دعاءه المذكور كان عند مفارقته محل معسكره بالمدينة وهو بيوت السقيا كما تقدم، وتقدم فيه زيادة وعالة فأغنهم، فأصابوا الأسرى فاغتنى بهم كل عائل ولا مانع أن يكون دعاؤه بذلك تكرر.
«فلما أمسى بعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا رواية لقريش معها غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص، فأتوا بهما ورسول الله ﷺ قائم يصلي، فقالوا: لمن أنتما؟ وظنوا أنهما لأبي سفيان، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهما، فلما أوجعوهما ضربا قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، فلما فرغ رسول الله ﷺ من صلاته قال: إذا صدقاكم ضربتوهما وإذا كذباكم تركتموها، صدقا والله، إنهما لقريش، أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء هذا الكثيب» أي التل من الرمل الذي يرى بالعدوة القصوى: أي جانب الوادي المرتفع «فقال لهما رسول الله ﷺ: كم القوم؟ قالا كثير» أي وفي لفظ هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، قال: ما عدتهم؟ قالا لا ندري، أي وجهد النبي ﷺ أن يخبراه كم هم فأبيا. قال كم تنحرون؟ أي من الجزر كل يوم؟ قالا يوما تسعا ويوما عشرا، فقال: القوم ما بين التسعمائة والألف» أي لكل جزور مائة، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو العامري أي رضى الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح، وهو من أشراف قريش وخطبائهم، وسيأتي أنه ممن أسر في هذه الغزاة وعمرو بن عبدود فأقبل رسول الله ﷺ على الناس، فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ ـ أي قطع ـ كبدها أي أشرافها وعظماءها» وذكر أن مسيرهم وإقامتهم كانت عشر ليال حتى بلغوا الجحفة: أي وهي قرية بقرب رابغ كما تقدم، نزلوا بها عشاء: أي وفي الإمتاع أنهم ردوا القيان من الجحفة.
أقول: هذا والذي في مسلم وأبي داود عن أنس «فإذا هم بروايا قريش فيها رجل أسود لبني الحجاج، فجاؤوا به، فكانوا يسألونه عن أبي سفيان فيقول: مالي بأبي سفيان علم، فإذا قال ذلك ضربوه، وإذا قال هذا أبو سفيان تركوه» الحديث.
أي وفي الإمتاع «وأخذ تلك الليلة يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي ﷺ وهو يصلي» الحديث.
وقد يقال: لا منافاة، لأن بعض الرواة ذكر الثلاثة، وبعضهم اقتصر على اثنين، وبعضهم اقتصر على واحد، والله أعلم.
وكان مع قريش رجل من بني المطلب بن عبد مناف يقال له جهم بن الصلت ». فإنه أسلم في عام خيبر «وأعطاه رسول الله ﷺ من خيبر ثلاثين وسقا، وقيل أسلم بعد الفتح فوضع رأسه فأغفى، ثم قام فزعا، فقال لأصحابه هل رأيتم الفارس الذي وقف عليّ فقالوا لا، قال: قد وقف عليّ فارس فقال: قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف وفلان وفلان، وعد رجالا من أشراف قريش ممن قتل يوم بدر، أي وقال: أسر سهيل بن عمرو وفلان وفلان، وعدّ رجالا ممن أسر، قال: ثم رأيت ذلك الفارس ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما من خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه، فقال له أصحابه: إنه لعب بك الشيطان، ولما شاعت هذه الرؤيا في العسكر وبلغت أبا جهل قال: قد جئتم بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم سيرون غدا من يقتل» وفي لفظ «قال أبو جهل: هذا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول، نحن أو محمد وأصحابه، وأول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل بن هشام عشر جزائر أي بمر الظهران، وكانت جزور منها بعد أن نحرت بها حياة فجالت في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها» كذا في الإمتاع.
ومن هذا المحل رجع بنو عدي أي تفاؤلا بذلك، ثم نحر لهم سفيان بن أمية بعسفان تسع جزائر، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشر جزائر، وساروا من قديد فضلوا بهائم ثم أصبحوا بالجحفة، فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر، فلما أصبحوا بالأبواء نحر لهم مقيس بن عمرو الجمحي تسع جزائر أي ويقال إن الذي نحر لهم بالأبواء نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشر جزائر، ونحر لهم الحارث بن عامر ابن نوفل تسعا، ونحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشر جزائر، ونحر لهم مقيس الجمحي على ماء بدر تسعا، أي ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، ثم مضى رجلان من الصحابة أي قبل وصوله إلى بدر، وكذا قبل وصول قريش إلى بدر كما يدل عليه الكلام الآتي خلاف ما يدل عليه هذا السياق إلى ماء بدر «فنزلا قريبا منه عند تلّ هناك، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه وشخص على الماء وإذا جاريتان يتلازمان: أي يتخاصمان، وتمسك إحداهما الأخرى على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها إنما يأتي العير غدا أو بعد غد. فأعمل لهم وأقضيك الذي لك، فقال ذلك الرجل الذي على الماء صدقت، ثم خلص بينهما، وسمع ذلك الرجلان فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله ﷺ فأخبراه بما سمعا ثم إن أبا سفيان تقدم العير حذرا حتى ورد الماء، فلقي ذلك الرجل، فقال له: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما ثم انطلقا».
فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففتته، فإذا فيه النوى، فقال: والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعا فصوّب عيره عن الطريق وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع، فلما علم أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش، أي وقد كان بلغه مجيئهم ليحرزوا العير وكانوا حينئذ بالجحفة إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله تعالى فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بد أن ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان أي تضرب بالمعازف: أي الملاهي، وقيل الدفوف، وقيل الطنابير وقيل نوع منها يتخذه أهل اليمن، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها وسيأتي في غزاة بدر الموعد أن موسم بدر يكون عند هلال ذي القعدة في كل عام يمكث ثمانية أيام، ويبعد إرادة ذلك لأبي جهل أي إقامتهم ببدر بقية رمضان وتمام شوّال.
قال «ولما أرسل أبو سفيان يقول لقريش ما تقدم، أي ورد عليه أبو جهل بما ذكر قال: هذا بغي، والبغي منقصة وشؤم وعند ذلك رجع منهم بنو زهرة وكانوا نحو المائة انتهى» أي وقيل ثلاثمائة، وقائدهم كان الأخنس بن شريق.
وفي كلام ابن الأثير «فلم يقتل منهم» أي من بني زهرة أحد «ببدر» وفي كلام غيره «ولم يشهد بدر أحد من بني زهرة إلا رجلان قتلا كافرين، فإن الأخنس قال لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، واجعلوا بي حميتها، وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير منفعة لا ما يقول هذا» يعني أبا جهل «وقال لأبي جهل أي وقد خلا به، أترى محمدا يكذب؟ فقال: ما كذب قط، كنا نسميه الأمين، لكن إذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة، ثم تكون فيهم النبوّة فأي شيء يكون لنا؟ فانخنس الأخنس ورجع ببني زهرة» أي واسمه أبيّ وإنما لقب بالأخنس من حين رجع ببني زهرة، فقيل خنس بهم فسمي الأخنس، كان حليفا لبني زهرة ومقدما فيهم ـ فإنه أسلم يوم الفتح، وأعطاه رسول الله ﷺ مع المؤلفة قلوبهم».
ورأيت عن السهيلي «أنه قتل يوم بدر كافرا» وتبعه على ذلك التلمساني في حاشية الشفاء واستدل له بقول القاضي البيضاوي: أن قوله تعالى {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} الآية نزلت في الأخنس بن شريق. وفي الإصابة أنه كان من المؤلفة، ومات في خلافة عمر.
وعن السدي «أن الأخنس جاء إلى النبي ﷺ فأظهر إسلامه وقال: الله يعلم إني لصادق ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم مسلمين فحرق زرعهم، فنزلت {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} إلى قوله: {وبئس المهاد}.
قال ابن عطية، ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت قد أثبته في الصحابة جماعة، ولا مانع أن يكون أسلم ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، هذا كلام الإصابة.
وفي كلام ابن قتيبة، ولم يسلم الأخنس، وفي كلام بعضهم: ثلاثة ابن وأبوه وجده شهدوا بدرا الأخنس وابنه يزيد وابنه معن فليتأمل ذلك.
«قال وأراد بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع» انتهى.
ثم لم يزالوا سائرين حتى نزلوا بالعدوة القصوى قريبا من الماء، ونزل رسول الله ﷺ والمسلمون بعيدا من الماء، بينهم وبين الماء رحلة، فظمىء المسلمون وأصابهم ضيق شديد، وأجنب غالبهم، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس إليهم، تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وأنكم على الحق وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش، وتصلون مجنبين، أي وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويذهب قواكم، فيحكموا فيكم كيف شاءوا».
وفي الكشاف «فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم، فقتلوا من أحبوا، وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، وكان الوادي دهسا بالسين المهملة، أي لينا كثير التراب تسيخ فيه الأقدام، فبعث الله السماء» أي المطر «فأطفأت الغبار»، ولبدت الأرض» أي شدتها للنبي ولأصحابه، أي وطهرهم به وأذهب عنهم رجز الشيطان» أي وسوسته «وشربوا منه وملؤوا الأسقية وسقوا الركائب، واغتسلوا من الجنابة، أي وطابت نفوسهم، فذلك قوله تعالى {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} أي من الأحداث {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي وسوسته {وليربط على قلوبكم} أي يشدّها ويقويها {ويثبت به الأقدام} أي بتلبيد الأرض حتى لا تسوخ في الرمل «وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه أي ويصلوا إلى الماء» أي فكان المطر نعمة وقوة للمؤمنين وبلاء ونقمة للمشركين.
وعن علي «أصابنا من الليل طس من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله ﷺ يدعو ربه».
وعن عليّ «ما كان فينا أي تلك الليلة قائم إلا رسول الله يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده أن يقول، يا حي يا قيوم يكرر ذلك حتى أصبح أي لأن المسلمين أصابهم تلك الليلة نعاس شديد يلقي الشخص على جنبه».
أي وعن قتادة «كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين، نعاس يوم بدر، ونعاس يوم أحد» لأن النعاس هنا كان ليلا قبل القتال؛ وفي أحد كان وقت القتال، وكون النعاس أمنة وقت القتال أو وقت التأهب له وهو وقت المصافة واضح لا قبله.
هذا وذكر الشمس الشامي أنه لما نزلت الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم، وبشرهم بنزول الملائكة حصل لهم الطمأنينة والسكينة، وقد حصل لهم النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة، وربما يقتضي أنه حصل لهم النعاس عند المصافة، وإلا فقد يقال إن قوله وقد حصل لهم النعاس جملة حالية، أي والحال أنه حصل لهم قبل ذلك في تلك الليلة؛ لا في وقت المصافة.
ولا يبعد ذلك قوله بعد ذلك: ولهذا قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه: النعاس في المصاف من الإيمان والنعاس في الصلاة من النفاق، أي لأنه في الأول يدل على ثبات الجنان، وفي الثاني يدل على عدم الاهتمام بأمر الصلاة.
«فلما أن طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله ﷺ وحرض على القتال» أي في خطبة خطبها «فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، إلى أن قال: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله تعالى به الهمّ وينجي به من الغم» الحديث.
«ثم خرج رسول الله ﷺ يبادرهم» أي يسابق قريشا إلى الماء «فسبقهم عليه، حتى جاء أدنى ماء من بدر» أي أقرب ماء إلى بدر من بقية مياهها «فنزل به، فقال له الحباب بن المنذر، يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم» أي إذا نزل القوم: يعني قريشا كان ذلك الماء أقرب المياه، أي محله أقرب المياه إليهم. قال الحباب: فإني أعرف غزارة مائة وكثرته بحيث لا ينزح، فنزله ثم نغور ما عداه من القلب: أي وهي الآبار غير المبنية، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربون؛ لأن القلب كلها حينئذ تصير خلف ذلك القليب، فقال رسول الله ﷺ: لقد أشرت بالرأي، ونزل جبريل ﵇ على النبي ﷺ فقال: الرأي ما أشار إليه الحباب، فنهض رسول الله ﷺ ومن معه من الناس، فسار حتى أدنى ماء من القوم» أي من المحل الذي ينزل به القوم «فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت» بسكون الواو.
وقال السهيلي: لما كانت القلب عينا جعلها كعين الإنسان، ويقال في عين الإنسان غرتها فغارت، ولا يقال غورتها أي بالتشديد «وبنى حوضا على القليب الذي نزل به فملأه ماء، ثم قذفوا فيه الآنية، ومن يومئذٍ قيل للحباب ذو الرأي» وظاهر كلام بعضهم أنه كان معروفا بذلك قبل هذه الغزاة.
وفيه أن ذلك القليب إذا كان خلف ظهورهم وسائر القلب خلفه ما المعنى في تغويرها لأنها إذا لم تغورهم يشربون ولا يشرب القوم. إلا أن يقال: المعنى لئلا يأتوا إليها من خلفهم، فالغرض قطع أطماعهم من الماء، فليتأمل، واستدل بقوله «بل هو الرأي» على جواز الاجتهاد له في الحرب نظرا لصورة السبب أو مطلقا لأن صورة السبب لا تخصص، وجواز الاجتهاد له مطلقا هو الراجح.
ومما استدل به على وقوع الاجتهاد له في الأحكام قوله «إلا الإذخر» عقب ما قيل له إلا الإذخر. قال السبكي: وليس قاطعا، لاحتمال أن يكون أوحي إليه في تلك اللحظة.
هذا، وفي كلام بعضهم أنهم نزلوا على ذلك القليب نصف الليل فصنعوا الحوض وملؤوه وقذفوا فيه الآنية بعد أن استقوا منه، وسيأتي ما يؤيده.
«وقال سعد بن معاذ: يا نبي الله ألا نبني عريشا» أي وهو شيء كالخيمة من جريد يستظل به «تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله ﷺ ودعا له بخير، أي وقال: أو يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد أي وهو نصرهم وظهورهم على عدوهم ثم بني» أي ذلك العريش «لرسول الله ﷺ أي فوق تل مشرف على المعركة كان فيه».
أي وعن علي «أنه قال لجمع من الصحابة، أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا أنت؛ قال: أشجع الناس أبو بكر، لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله ﷺ عريشا فقلنا: من مع رسول الله » أي من يكون معه «لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله، ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله ﷺ لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه» أي ولذلك حكم عليّ أنه أشجع الناس. وبه يرد قول الشيعة والرافضة إن الخلافة لا يستحقها إلا عليّ، لأنه أشجع الناس، أي وهذا كان قبل أن يلتحم القتال، وإلا فبعد التحامه كان عليّ على باب العريش الذي به، وأبو بكر وسعد بن معاذ قائمان على باب العريش في نفر من الأنصار كما سيأتي.
ومما استدل على أن أبا بكر أشجع من علي أن عليا أخبره النبي ﷺ أنه لا يقتله إلا ابن ملجم، فكان إذا دخل الحرب ولاقى الخصم علم أنه لا قدرة له على قتله، فهو معه كالنائم على فراشه. وأما أبو بكر فلم يخبر بقاتله، فكان إذا دخل الحرب لا يدري هل يقتل أو لا، ومن هذه حاله يقاسي من التعب ما لا يقاسيه غيره.
ومما يدل على ذلك ما وقع له في قتال أهل الردة، وتصميمه العزم على مقاتلة مانعي الزكاة مع تثبيط سيدنا عمر له عن ذلك.
«فلما كان الصباح أقبلت قريش من الكثيب» هذا يؤيد القول بأنه سار بأصحابه ليلا يبادرهم إلى الماء، لأن ذلك بعد طلوع الفجر وصلاة الصبح كما تقدم، لأن الظاهر من قول الراوي أقبلت: أي عليهم هم ماكثون.
ويؤيده أيضا ما في مسلم عن أنس «أن النبي ﷺ قال ليلة بدر» أي بعد أن وصل إلى محل الوقعة «هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان ها هنا، وهذا مصرع فلان هاهنا. قال أنس: ما ماط أحدهم عن موضع يده » أي ما تنحى فليتأمل الجمع.
ولما رأى رسول الله ﷺ قريشا وقد أقبلت بالدروع الساترة والجموع الوافرة والأسلحة الشاكية أي التامة قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها» أي كبرها وعجبها وفخرها «تجادلك: أي تعاديك وتخالف أمرك وتكذب رسولك، فنصرك» أي أنجز نصرك «الذي وعدتني» أي وفي لفظ «اللهم إنك أنزلت على الكتاب وأمرتني بالثبات، ووعدتني إحدى الطائفتين، أي وقد فاتت إحداهما وهي العير وإنك لا تخلف الميعاد. اللهم أحبهم» أي أهلكهم «الغداة» وفي رواية «اللهم لا تفلتن أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود، اللهم وإسحاق عين أبي زمعة، وأعم بصر أبي زمعة، اللهم لا تفلتن سهيلا» الحديث.
«ولما اطمأنت قريش أرسلوا عمير بن وهب الجمحي ـ أي ـ فإنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وشهد أحدا معه فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد» أي انظر لنا عدتهم «فاستجال بفرسه حول عسكر النبي ﷺ ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، ولكن أمهلوني حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا، فذهب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا ثم رجع إليهم وقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا» أي وهي في الأصل النوق تبرك على قبر صاحبها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت «تحمل المنايا» أي الموت «أي نواضح يثرب تحمل الموت النافع» أي البالغ.
زاد بعضهم: ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تملظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهلهم، زرق العيون كأنهم الحصا تحت الحجف، يعني الأنصار قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما نرى أن نقتل منهم رجلا حتى يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم؛ فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: ياأبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس؛ فقام عتبة خطيبا فقال، يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، أي يا قوم أعصبوها اليوم برأسي، أي اجعلوا عارها متعلقا بي، وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.
أي وفي لفظ آخر «أن حكيم بن حزام قال لعتبة بن ربيعة: تجير بين الناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي» أي الذي قتله واقد بن عبدالله في سرية عبدالله بن جحش إلى نخلة، وهو أوّل قتيل قتله المسلمون «وتحمل ما أصاب محمد من تلك العير أي الذي غنمه عبدالله بن جحش» كما سيأتي في السرايا «فإنهم لا يطلبون من محمد إلا ذلك؟ فقال عتبة نعم قد فعلت، أي هو حليفي فعليّ عقله وما أصيب من المال، ونعم ما قلت، ونعم ما دعوت إليه، وركب عتبة جملا له وصار يجيله في صفوف قريش يقول: يا قوم أطيعوني فإنكم لا تطلبون غير دم ابن الحضرمي وما أخذ من العير، وقد تحملت ذلك.
زاد بعضهم «أنه قال: يا معشر قريش أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح» يعني قريشا «أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات» يعني الأنصار، وهذا كما ترى وما يأتي أيضا يضعف قول من قال إنه عقل ابن الحضرمي أي أعطى ديته.
«وقد كان لما رأى قريشا أقبلت من الكثيب وعتبة على جمل أحمر قال: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر».
أي وفي رواية «إن يكن أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا. ولما رأى رسول الله ﷺ راكب الجمل الأحمر يجيله في صفوف قريش، قال: يا علي ناد حمزة وكان أقربهم إلى المشركين، فقال له رسول الله ﷺ: من صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم؟ فقال: هو عتبة بن ربيعة ينهى عن القتال» وحينئذ يكون قوله إن يكن في أحد من القوم خير الخ من أعلام نبوته.
«ثم قال عتبة لحكيم بن حزام انطلق لابن الحنظلية» يعني أبا جهل «قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد سل درعا له من جرابها» أي أخرجها منه، فقلت له: «يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره» أي رئته كلمة تقال للجبان.
وفي لفظ أنه قال لعتبة، وقد جاء إليه، أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته أي قلت له اعضض على بظر أمك أن قد ملأت رئتك وجوفك رعبا كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وقال لحكيم: ما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور أي في قلة بحيث يكفيهم الجزور وفيهم ابنه أي وهو أبو حذيفة ، فإنه كان ممن أسلم قديما «فقد تخوفكم عليه».
أي وفي رواية أنه قال: يا معشر قريش إنما يشير عليكم عتبة بهذا، لأن ابنه مع محمد ومحمد ابن عمه، فهو كره أن تقتلوا ابنه وابن عمه، فغضب عتبة وسب أبا جهل وقال، سيعلم أينا أفسد لقومه.
أي ومن غريب الاتفاق أن أم أبان بنت عتبة بن ربيعة المذكور كان لها أربعة إخوة وعمان، كل منهم حضر بدرا اثنان من إخوتها مسلمان، واثنان مشركان، وواحد من عميها مسلم، والآخر كافر، فالأخوان المسلمان: أبو حذيفة ومصعب بن عمير ولعله كان أخاها لأمها، والكافران: الوليد بن عتبة وأبو عزيز، والعم المسلم معمر بن الحارث ولعله كان أخا لعتبة لأمه، والعم الكافر شيبة بن ربيعة، وكان من حكمة الله تعالى أن الله جعل المسلمين قبل أن يلتحم القتال في أعين المشركين قليلا استدراجا لهم ليقدموا، ولما التحم القتال جعلهم الله في أعين المشركين كثيرا ليحصل لهم الرعب والوهن، وجعل الله المشركين عند التحام القتال في أعين المسلمين قليلا ليقوى جأشهم على مقاتلتهم.
ومن ثم جاء عن ابن مسعود أنه قال: لقد قلّوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل أتراهم سبعين، قال: أراهم مائة، وأنزل الله تعالى {وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم}، ومن ثم قال الله تعالى {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم} أي يرى أولئك الكفار المؤمنين {مثليهم رأي العين}.
أي وقد ذكر أن قباث بن أشيم ـ فإنه أسلم بعد ذلك ـ قال في نفسه يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها لردّت محمدا وأصحابه. وعنه أنه قال: لما كان بعد الخندق قدمت المدينة سألت عن رسول الله، فقالوا: هو ذاك في محل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت عليه فقال «يا قباث أنت القائل يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها ردت محمدا وأصحابه، فقال قباث: والذي بعثك بالحق ما تحدث به لساني ولا ترفرفت به شفتاي ولا سمعه مني أحد، وما هو إلا شيء هجس في قلبي» وحينئذ يكون معنى قوله «أنت القائل: أي في نفسك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن ما جئت به الحق».
«ولما بلغ عتبة ما قاله أبو جهل قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو» وقد تقدم معنى مصفر استه.
وذكر السهيلي هنا أن هذه الكلمة لم يخترعها عتبة ولا هو أبو عذرتها، فقد قيلت لبعض الملوك وكان مترفها لا يغزو في الحروب يريدون صفرة الخلوق والطيب، وسادة العرب لا تستعمل الخلوق والطيب إلا في الدعة وتعيبه في الحرب أشد العيب. وأظن أن أبا جهل لما علم بسلامة العير استعمل الطيب والخلوق، فلذلك قال له عتبة هذه الكلمة وإنما أراد مصفر بدنه، ولكنه قصد المبالغة في الذم، فخص منه بالذكر ما يسوؤه أن يذكر هذا كلامه.
وذكر «أن النبي ﷺ بعث عمر بن الخطاب إليهم يقول: ارجعوا فإنه إن يل هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه مني، فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصفا فأقبلوه، فوالله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف، فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن مكننا الله منهم. ثم إن أبا جهل بعث إلى عامر ابن الحضرمي أي أخو المقتول الذي هو عمرو، وقال هذا حليفك: يعني عتبة يريد أن يرجع الناس، وفي لفظ «يخذل الناس عن القتال، وقد تحمل دية أخيك من ماله يزعم أنك قابلها، ألا تستحيي أن تقبل الدية من مال عتبة، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فاذكر مقتل أخيك، وكان عامر كأخيه المقتول من حلفاء عتبة» وسيأتي ذلك «فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف أي كشف استه أي وحثا عليه التراب، ثم صرخ واعمراه واعمراه، فثارت النفوس» أي وعامر هذا لا يعرف له إسلام.
أي وفي الاستيعاب: عامر بن الحضرمي قتل يوم بدر كافرا، وأما أخوهما العلاء فمن فضلاء الصحابة ، أي وقد كان يقال إنه مجاب الدعوة وأنه خاض البحر هو وسريته التي كان أميرا عليها، وذلك في زمن خلافة عمر ، يقال يبس حتى رىء الغبار من حوافر الخيل بكلمات قالها ودعا بها، وهي «يا عليّ يا حكيم، يا عليّ يا عظيم، أنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا».
وقد وقع نظير ذلك: أي دخول البحر لأبي مسلم الخولاني التابعي، فإنه لما غزا الروم مع جيشه مروا بنهر عظيم بينهم وبين العدوّ، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر وإنا عبادك في سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم. ثم قال: اعبروا بسم الله فعبروا، فلم يبلغ الماء بطون الخيل.
وكذا وقع نظير ذلك لأبي عبيد الثقفي التابعي أمير الجيوش في أيام سيدنا عمر فإن دجلة حالت بينه وبين العدو، فتلا قوله تعالى {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} ثم سمى الله تعالى، واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه ولما نظر إليهم الأعاجم صاروا يقولون ديوانا ديوانا: أي مجانين ثم ولوا مدبرين، فقتلهم المسلمون وغنموا أموالهم» وله أخ يقال له ميمون وهو الذي حفر البئر التي بأعلى مكة التي يقال لها بئر ميمون ولم أقف على إسلامه.
وأما أختهم التي هي الصعبة وهي أم طلحة بن عبيدالله فصحابية كانت أولا تحت أبي سفيان بن حرب فطلقها، فخلف عليها عبيدالله، فولدت له طلحة الذي قال في حقه «من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيدالله».
ثم إن الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخو أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد، وكان رجلا شرسا، سيىء الخلق، شديد العداوة لرسول الله «وجاء أنه أول من يعطى كتابه بشماله، كما أن أخاه أبا سلمة أول من يعطى كتابه بيمينه كما تقدم قال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطل قدمه بنصف ساقه» أي أسرع قطعها «فطارت وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه أي وشرب منه وهدمه برجله الصحيحة يريد أن تبر يمينه» فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض، وأقبل نفر من قريش حتى وردوا ذلك الحوض منهم حكيم بن حزام. فقال رسول الله ﷺ: دعوهم، فما شرب منه رجل يومئذٍ إلا قتل كافرا إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر».
وعلى أن هذا الحوض كان وراء ظهره يكون مجيء هؤلاء للحوض من خلفه فليتأمل.
«ثم إن عتبة بن ربيعة التمس بيضة» أي خوذة «ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسع رأسه لعظمها فاعتجر على رأسه ببرد له» أي تعمم به ولم يجعل تحت لحيته من العمامة شيئا، وخرج بين أخيه شيبة وابنه الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار، ثلاثة إخوة أشقاء: هم معوذ ومعاذ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبدالله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة» وفي رواية «أكفاء كرام، إنما نريد قومنا» أي وفي لفظ «ولكن أخرجوا إلينا من بني عمنا» أي وفي لفظ «أنه أمرهم بالرجوع فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيرا» لأنه كره أن تكون الشوكة لغير بني عمه وقومه في أول قتال «وعند ذلك نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال النبي ﷺ: قم يا عبيدة بن الحرث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» وفي لفظ «قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاءوا ببطلانهم ليطفئوا نور الله، قم يا عبيدة بن الحرث، قم يا حمزة، قم يا علي، فلما قاموا ودنوا قالوا لهم، من أنتم، أي لأنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح» قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليّ: عليّ: قالوا نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة بن الحارث وكان أسنّ القوم، كان أسنّ من النبي ﷺ بعشر سنين عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة، وأما علي فلم يمهل أن قتل الوليد، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذففاه» بالمهملة والمعجمة «واحتملا صاحبهما فجراه إلى أصحابه، أي وأضجعوه إلى جانب موقفه، فأفرشه رسول الله ﷺ قدمه الشريفة فوضع خده عليها، وقال له رسول الله ﷺ: أشهد أنك شهيد، أي بعد أن قال له عبيدة: ألست شهيدا يا رسول الله؟ فتوفي في الصفراء، ودفن بها عند مرجع المسلمين إلى المدينة».
وقيل برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعليّ للوليد، واختلف عبيدة وشيبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه وقعت الضربة في ركبة عبيدة فأطاحت رجله وصار مخ ساقه يسيل، ثم مال حمزة وعليّ على شيبة فذففا عليه.
أي ويقال إن شيبة لما صرع من ضربة عبيدة قام، فقام إليه حمزة فاختلفا ضربتين فلم يصنع سيفهما شيئا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه فأهوى عبيدة وهو صريع فضرب شيبة فقطع ساقة فذفف عليه حمزة.
وقيل بارز عليّ شيبة وبارز عبيدة الوليد. فقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي أنه قال «أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد، فلم يعب النبي ﷺ علينا ذلك».
وقال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات ولكن المشهور أن عليا كرم الله وجهه إنما بارز الوليد، وهذا هو اللائق بالمقام، لأن عتبة وشيبة كانا شيخين كعبيدة وحمزة، بخلاف عليّ والوليد فكانا شابين. وقتل حمزة طعيمة بن عدي أخا المطعم بن عدي وتقدم أن المطعم مات قبل هذه الغزاة بستة أشهر كافرا.
قيل وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام.
وفي الصحيحين عن أبي ذر «أنه كان يقسم قسما إن هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبه وعتبة وصاحبه يوم بدر».
وفي البخاري عن علي أنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة.
وقيل أول من يقف بين يدي الله للخصومة علي ومعاوية «ثم تزاحم الناس ودنا بعضهم من بعض. وقد كان عدل رسول الله ﷺ صفوف أصحابه بقدح في يده» أي بسهم لا نصل له ولا ريش «فمر بسواد» بتخفيف الواو لا بتشديدها كما زعمه ابن هشام ابن غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء «أي حليف بني النجار وهو خارج من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني» أي مكني من القود أي القصاص «من نفسك، فكشف رسول الله ﷺ عن بطنه وقال استقد» أي خذ القود أي القصاص «فاعتنقه فقبل بطنه الشريف، فقال: ما حملك على هذا يا سواد، فقال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله ﷺ بخير».
وفيه أن هذا لا قود فيه ولا قصاص عندنا فليتأمل. وسواد هذا جعله بعد فتح خيبر عاملا على خيبر كما سيأتي.
أي وفي حديث حسن عن عبد الرحمن بن عوف قال «صفنا رسول الله ﷺ يوم بدر، فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي ﷺ فقال معي معي».
أقول: وقع له مع بعض الأنصار: أي وهو سواد بن عمرو مثل هذا الذي وقع له مع سواد بن غزية.
ففي أبي داود «أن رجلا من الأنصار كان فيه مزاح، فبينما هو يحدّث القوم يضحكهم إذ طعنه رسول الله ﷺ في خاصرته بعود كان في يده» وفي لفظ «بعرجون» وفي آخر «بعصا، فقال أصبرني يا رسول الله» أي أقدني «ومكني من نفسك لأقتص منك، فقال اصبر» أي اقتص «قال: إن عليك قميصا وليس عليّ قميص فرفع رسول الله ﷺ قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه».
أي ومن خصائصه أنه ما التصق ببدنه مسلم وتمسه النار كذا في الخصائص الصغرى. وفيها في محل آخر: ولا تأكل النار شيئا مس جسده، وكذلك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
«ثم لما عدّل الصفوف قال لهم: إن دنا القوم منكم فانضحوهم» أي ادفعوهم «عنكم بالنبل، واستبقوا نبلكم» أي لا ترموهم على بعد، فإن الرمي مع البعد غالبا يخطىء فيضيع النبل بلا فائدة، أي وقال لهم «لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد وعلى المصابرة فيه. منها: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم وينجي به من الغم» وهذا السياق يدل على تكرر هذه الخطبة: أي وقوعها قبل مجيئهم إلى محل القتال وبعد مجيئهم إليه. ولا مانع منه.
«ثم رجع إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشح بسيفه مع نفر من الأنصار، يخافون على رسول الله ﷺ كرة العدوّ أي والجنائب مهيأة لرسول الله ﷺ إن احتاج إليها ركبها. ولما اصطف الناس للقتال رمى قطبة بن عامر حجرا بين الصفين وقال: لا أفر إلا إن فرّ هذا الحجر، وكان أول من خرج من المسلمين مهجع» بكسر الميم وإسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة «مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمي بسهم أرسله إليه» ونقل بعض المشايخ أنه أول من يدعى من شهداء هذه الأمة، وأنه قال يومئذٍ «مهجع سيد الشهداء» أي من هذه الأمة، فلا ينافي ما جاء «أن سيد الشهداء يوم القيامة يحيى بن زكريا، وقائدهم إلى الجنة وذابح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشفرة في يده والناس ينظرون إليه» لكن جاء «سيد الشهداء هابيل» إلا أن تجعل الأولية إضافية، فيراد أول أولاد آدم لصلبه.
قيل وكون مهجع أول قتيل من المسلمين لا ينافي كون أول قتيل من المسلمين عمير بن الحمام، لأن ذاك أول قتيل من المهاجرين، وعمير أول قتيل من الأنصار، ولا ينافي ذلك أن أول قتيل من الأنصار حارثة بن قيس: أي قتل بسهم لم يدر راميه.
ففي البخاري عن حميد، قال: سمعت أنسا يقول «أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، قتل بإرسال سهم إليه»، أي فإنه أصابه سهم غرب: أي لا يعرف راميه، وهو يشرب من الحوض.
وفي كلام ابن إسحاق: أول من قتل من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب، ومن بعده حارثة بن سراقة. وقد جاءت أم حارثة وهي عمة أنس بن مالك إلى النبي، فقالت «يا رسول الله حدّثني عن حارثة، فإن يكن في الجنة لم أبك عليه ولكن أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في دار الدنيا». وفي رواية «إن يكن في الجنة صبرت، وإن يكن غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: يا أم حارثة إنها ليست بجنة ولكنها جنات، وحارثة في الفردوس الأعلى، فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ لك يا حارثة» وهذا قد يخالف قول ابن القيم كالزمخشري أن الجنة التي هي دار الثواب واحدة بالذات كثيرة بالأسماء والصفات، وهذا الاسم الذي هو الجنة يجمعها من أسمائها: جنة عدن، والفردوس، والمأوى، ودار السلام، ودار الخلد، ودار المقامة ودار النعيم، ومقعد صدق، وغير ذلك مما يزيد على عشرين اسما.
أي وعن الواقدي أنه بلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله، فقالت أمه: والله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله ﷺ فأسأله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه وفي رواية: «أصبر وأحتسب، وإن كان ابني في النار بكيته».
وفي رواية: «ترى ما أصنع، فلما قدم رسول الله ﷺ من بدر جاءت أمه فقالت: يا رسول الله قد عرفت موقع حارثة من قلبي فأردت أن أبكي عليه، ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته، فقال النبي ﷺ: هبلت» وفي رواية «ويحك أو هبلت، أجنة واحدة إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى ودعا رسول الله ﷺ بإناء من ماء فغمس يده فيه ومضمض فاه ثم ناوله أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت ثم أمرهما ينضحان في جيوبهما ففعلنا فرجعتا من عند النبي ﷺ وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسر».
وقد كان حارثة سأل رسول الله ﷺ أن يدعو له بالشهادة، فقد جاء أنه قال لحارثة يوما وقد استقبله «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، قال: انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي واظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزم عبد: أي أنت عبد بذر الله الإيمان في قلبه قال: فقلت ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله ﷺ بذلك، وقال أبو جهل وأصحابه حين قتل عتبة وشيبة والوليد تصبرا، لنا العزى ولا عزى لكم، ونادى منادي رسول الله ﷺ: الله مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار».
أقول: سيأتي وقوع مثل ما قال أبو جهل وأصحابه من أبي سفيان وأنه أجيب بمثل هذا الجواب في يوم أحد، والله أعلم.
«وصار رسول الله ﷺ يناشد ربه ما وعده من النصر» أي وهذا العريش هو المراد بالقبة في قول البخاري. عن ابن عباس «أن رسول الله ﷺ قال وهو في قبة يوم بدر: اللهم أنشدك عهدك» الحديث ويقول «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلا تعبد» أي وفي مسلم «أنه قال: اللهم: إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض» قال ذلك في هذا اليوم وفي يوم أحد.
قال العلماء: فيه التسليم لقدر الله تعالى، والردّ على غلاة القدرية الذين يزعمون أن الشر غير مراد لله ولا مقدور له.
وذكر الإمام النووي أن كونه قال ما ذكر يوم بدر هو المشهور. وفي كتب التفسير والمغازي أنه يوم أحد، ولا معارضة بينهما، فقاله في اليومين هذا كلامه.
أي يجوز أن يكون قال ذلك في يوم بدر وفي يوم أحد. وفي رواية: «اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين أي لأنه علم أنه آخر النبيين، فإذا هلك هو ومن معه لا يبقى من يتعبد بهذه الشريعة». وفي لفظ آخر «اللهم لا تودّع مني ولا تخذلني، أنشدك ما وعدتني» لأنه كان وعده النصر وفي رواية «ما زال يدعو ربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك تناشدك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك» أي وفي رواية «والله لينصرنك الله، وليبيضن وجهك» أي وفي لفظ «قد ألححت على ربك» وكون وعد الله لا يتخلف لا ينافي الإلحاح في الدعاء لأن الله يحب الملحين في الدعاء، وإنما قال أبو بكر ما ذكر لأنه شق عليه تعب النبي ﷺ في إلحاحه بالدعاء، لأنه رقيق القلب شديد الإشفاق على رسول الله.
وقيل لأن الصديق كان في تلك الساعة في مقام الرجاء والنبي ﷺ كان في مقام الخوف، لأن الله يفعل ما يشاء، وكلا المقامين سواء في الفضل ذكره السهيلي.
وحين رأى المسلمون القتال قد نشب عجوا بالدعاء إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى عند ذلك {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} أي متتابعين. وقيل ردفا لكم ومددا لكم. وقيل وراء كل ملك ملك آخر.
ويوافق ذلك ما جاء عن ابن عباس «أمدّ الله نبيه يوم بدر بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة، فأمده الله تعالى بالملائكة ألف مع جبريل وألف مع ميكائيل؟ » وجاء «أمدّه الله بثلاثة آلاف: ألف مع جبريل، وألف مع ميكائيل وألف مع إسرافيل» وهذا رواه البيهقي في الدلائل عن علي بإسناد فيه ضعف.
وقيل وعدهم الله تعالى أن يمدهم بألف ثم زيدوا في الوعد بألفين، ثم زيدوا في الوعد بألفين أيضا.
وقيل أمدهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ثم أكملهم بخمسة آلاف، قال الله تعالى {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} أي ألف من جبريل، وألف مع ميكائيل، وألف مع إسرافيل {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين} فإن ذلك كان يوم يدر على ما عليه الأكثر، وقيل يوم أحد كان الإمداد فيه بذلك: أي بثلاثة آلاف، ثم وقع الوعد بإكمالهم خمسة آلاف معلقا على شرط، وهو التقوى، والصبر عن حوز الغنائم فلم يصبروا ففات الإمداد بما زاد على الثلاثة آلاف.
وهذا الثاني هو الذي في النهر لأبي حيان، كان المدد يوم بدر بألف من الملائكة، ويوم أحد بثلاثة آلاف، ثم بخمسة لو صبروا عن أخذ الغنائم فلم يصبروا، فلم تنزل، هذا كلامه، وهو واضح لأن عدم صبرهم عن أخذ الغنائم وعدم امتثال أمره إنما كان في أحد لا في بدر.
وروى البيهقي عن حكيم بن حزام أن يوم بدر وقع نمل من السماء قد سدّ الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، أي نازلا من السماء فوقع في نفسي أن هذا شيء أيد به وهي الملائكة.
أي وروي بسند حسن عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود مبثوث حتى امتلأ الوادي، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم. والبجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب، وسيأتي وقوع مثل ذلك في حنين.
قال: وإنما كانت الملائكة شركاء لهم في بعض الفعل ليكون الفعل منسوبا للنبي ولأصحابه، وإلا فجبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه كما فعل بمدائن قوم لوط، وأهلك قوم صالح وثمود بصيحة واحدة، وليهابهم العدّ وبعد ذلك، حيث يعلمون أن الملائكة تقاتل معهم.
وبهذا يرد ما قيل لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وإنما كانوا يكثرون السواد، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم.
وجاء «لولا أن الله حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر لمات أهل الأرض خوفا من شدة صعقاتهم وارتفاع أصواتهم».
وجاء في حديث مرسل «ما رؤى الشيطان أحقر ولا أدحر ولا أصغر من يوم عرفة إلا ما رىء يوم بدر» أي وكذا سائر مواسم المغفرة والعتق من النار كأيام رمضان سيما ليلة القدر.
وجاء «إن إبليس جاء في صورة سراقة بن مالك المدلجي الكناني في جند من الشياطين» أي مشركي الجنّ في صور رجال من بني مدلج من بني كنانة معه رايته، وقال للمشركين {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} ا هـ أي كما قال لهم ذلك عند ابتداء خروجهم وقد خافوا من بني كنانة قوم سراقة، وقد تقدم أنه كان وحده. ولا منافاة لجواز أن يكون جنده لحقوا به بعد «قال: فلما رأى جبريل والملائكة» وفي رواية: وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه وكانت يد في يد رجل من المشركين أي وهو الحارث بن هشام أخو أبي جهل انتزع يده من يده الرجل، ثم نكص على عقبه وتبعه جنده، فقال له الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب} وتشبث به الحارث بن هشام فإنه أسلم بعد ذلك وقال له: والله لا أرى إلا خفافيش يثرب، فضربه إبليس في صدره فسقط، وعند ذلك قال أبو جهل: يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة أي والوليد فإنهم قد عجلوا، واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالجبال، وصار يقول: لا تقتلوهم خذوهم باليد.
وذكر السهيلي أنه يروى أن من بقي من قريش وهرب إلى مكة وجد سراقة بمكة، فقالوا له: يا سراقة خرقت الصف، وأوقعت فينا الهزيمة، فقال: والله ما علمت بشيء من أمركم، وما شهدت، وما علمت، فما صدّقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله، فعلموا أنه إبليس هذا كلامه.
قال قتادة: صدق إبليس في قوله {إني أرى ما لا ترون} وكذب في قوله {إني أخاف الله} والله ما به مخافة من الله.
قال في ينبوع الحياة: ولا يعجبني هذا، فإن إبليس عارف بالله، ومن عرف الله خافه، أي وإن لم يكن إبليس خافه حتى الخوف.
قيل وإنما خاف أن يكون هذا اليوم هو اليوم الموعود الذي قال فيه سبحانه وتعالى {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين}.
ورأيت عن سيدي علي الخواص أنه لا يلزم من قول إبليس ذلك أن يكون معتقدا له بالباطن كما هو شأن المنافقين.
ورأيت عن وهب أن اليوم المعلوم الذي أنظر فيه إبليس هو يوم بدر قتلته الملائكة في ذلك اليوم. والمشهور أنه منظر إلى يوم القيامة، ويدل لذلك ما روي أن إبليس لما ضرب الحارث في صدره لم يزل ذاهبا حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال: يا رب موعدك الذي وعدتني، اللهم إني أسألك نظرتك إياي، وخاف إن يخلص إليه القتل.
هذا، وفي زوائد الجامع الصغير عن مسلم أن سيدنا عيسى ﵇ يقتل إبليس بيده بعد نزوله وفراغه من صلاته، ويرى المسلمين دمه في حربته.
وفي كلام بعضهم: ولعل المراد بيوم القيامة الذي أنظر أليه إبليس ليس نفخة البعث بل نفخة الصعق التي بها يكون موت من لم يمت من أهل السموات وأهل الأرض، قيل إلا حملة العرش وجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهؤلاء ممن استثنى الله تعالى في قوله {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} ثم يموت جبريل وميكائيل ثم حملة العرش ثم إسرافيل ثم ملك الموت فهو آخر من يموت.
وفي كلام بعضهم: الصعق أعم من الموت، أي فالمراد ما يشمل الغشي وذهاب الشعور، أي فمن مات قبل ذلك وصار حيا في البرزخ كالأنبياء والشهداء لا يموت، وإنما يحصل له غشي وذهاب شعور، ويكون المستثنى من القسم الأول من تقدم ذكره من الملائكة، ومن القسم الثاني موسى صلوات الله وسلامه عليه، فإنه جوزي بذلك: أي بعدم الغشي وذهاب الشعور بما حصل له من ذلك بسبب صعقة الطور.
وفيه أنه لم يجزم بذلك بل تردد في ذلك حيث قال «فأكون أوّل من رفع رأسه» أي أفاق من الغشي «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوام العرش فلا أدري أرفع رأسه» أي أفاق «من الغشي قبلي، أو كان ممن استثنى الله فلم يصعق». وفي رواية «فإذا موسى متعلق بقائمة العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟ » ولعل بعض الرواة ضم هذا الخبر لخبر الشيخين «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ، فإذا موسى الخ» وفيه نظر لأن المراد بيوم القيامة عند نفخة البعث ونفخة الصعق سابقة عليها كما علمت.
ويلزم على هذا التردد مع كون الخبرين خبرا واحدا إشكال جزمه بأنه أوّل من تنشق عنه الأرض.
وأجاب شيخ الإسلام بما يفيد أنهما خبران لا خبر واحد حيث قال: لتردد كان قبل أن يعلم أنه أوّل من تنشق عنه الأرض، أي فهما حديثان لا حديث واحد.
فإن قيل قوله «لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى» الحديث يقتضي أنه ليس أفضل من موسى.
قلنا هو كقوله «من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وذلك منه تواضع؛ أو كان قبل أن يعلم أنه أفضل الخلق أجمعين. وقيل الوقت المعلوم خروج الدابة، وإذا خرجت قتلته بوطئها.
وعن ابن عباس أن إبليس إذا مرّت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة، وهذه النفخة التي هي نفخة الصعق مسبوقة بنفخة الفزع التي تفزع بها أهل السموات والأرض فتكون اورض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج، وتسير الجبال كسير السحاب، وتنشق السماء، وتكسف الشمس، ويخسف القمر وهي المعنية بقوله تعالى {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} وبقوله تعالى {إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها} الآية، وقال تعالى {ففزع من في السمات ومن في الأرض إلا من شاء الله} قيل وهم الشهداء.
فقد جاء «إن الأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا: يا رسول الله فمن استثنى الله تعالى في قوله {إلا من شاء الله} فقال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء {وهم أحياء عند ربهم يرزقون} وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه».
واقتصاره على ذكر الشهداء وسكوته عن الأنبياء لما هو معلوم من الأصل أن مقام الأنبياء أرقى من مقام الشهداء، وإن كان قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. ومن ثم قيل: الرزق خاص بالشهداء، ومن ثم اختصوا بحرمة الصلاة عليهم.
ويقال إنه كان مع المسلمين يوم بدر من مؤمني الجنّ سبعون، أي لكن لم يثبت أنهم قاتلوا فكانوا مجرد مدد.
«ثم إن رسول الله ﷺ خفق خفقة أي مالت رأسه من النعاس ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه» وفي لفظ «آخذ برأس فرسه يقوده على ثناياه النقع» أي الغبار «وهو يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته».
أي وفي رواية «أن جبريل أتى النبي ﷺ بعد ما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد خضب الغبار ثنيته، عليه درعه وقال: يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى أرضيت».
أي ولا مانع من تعدد رؤيته لجبريل ، وأن هذه بعد تلك، وأن المرة الأولى مساقها يقتضي أنها كانت مناما، وأن الغبار في المرة الثانية كان أكثر منه في المرة الأولى بحيث علا على ثناياه.
«ثم خرج رسول الله ﷺ من العريش إلى الناس فحرضهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام» بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم «وبيده تمرات يأكلهن بخ بخ» كلمة تقال لتعظيم الأمر والتعجب منه «ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل» أي وفي رواية «أنه قال: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فقال عمير ابن الحمام بخ بخ، فقال رسول الله ﷺ: لم تبخبخ» أي مم تتعجب «فقال: رجاء أن أكون من أهلها» أي وفي رواية «ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فأخذ تمرات فجعل يلوكهن ثم قال. والله إن بقيت حتى ألوكهن» وفي لفظ إن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فنبذهن وقاتل أي وهو يقول:
ركضنا إلى الله بغير زاد ** إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على لجهاد ** وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبرد والرشاد ولا زال يقاتل حتى قتل وسيأتي في غزاة أحد مثل هذا لبعض الصحابة أبهمه جابر في ألقاء التمرات من يده ومقاتلته حتى قتل.
فعن جابر قال: «قال رجل للنبي يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة، قال: فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل» أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وسيأتي ما في ذلك.
وقال عوف بن الحارث بن عفراء «يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده» أي ما يرضيه غاية الرضا «قال: غمسه يده في العدو حاسرا» أي لا درع له ولا مغفر «فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل » فالضحك في حق الله كناية عن غاية رضاه.
وقد جاء أنه قال في طلحة بن الغمر «اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه» أي ألقه لقاء كلقاء المتحابين المظهرين لما في أنفسهما من غاية الرضا والمحبة فهي كلمة وجيزة تتضمن الرضا مع المحبة وإظهار البشر، فهي من جوامع كلمه التي أوتيها.
وقاتل في ذلك اليوم معبد بن وهب زوج هريرة بنت زمعة أخت سودة بنت زمعة أم المؤمنين بسيفين «ثم أخذ رسول الله ﷺ حفنة من الحصباء» بالمد «أمره بذلك جبريل » كما جاء في بعض الروايات: أي قال خذ قبضة من تراب وارمهم بها «فتناولها ».
وفي رواية «أنه قال لعلي كرم الله وجهه ناولني فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت الوجوه» أي قبحت الوجوه أي وزاد بعضهم «اللهم أرعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم، ثم نفخهم» أي ضربهم بها «فلم يبق من المشركين رجل إلا ملأت عينه» وفي رواية «وأنفه وفمه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب لينزعه من عينيه» أي فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
هذا، والمحفوظ المشهور أن ذلك إنما كان في حنين، لكن يوافق الأول ما نقله بعضهم أن قوله تعالى {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} نزل يوم بدر، هكذا قال عروة وعكرمة ومجاهد وقتادة، قال هذا البعض، وقد فعل مثل ذلك في غزوة أحد هذا كلامه.
وفي رواية «أنه أخذ ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم؛ وحصاة بين أيديهم، فقال: شاهت الوجوه؛ فانهزم القوم» وهذه الحصيات الثلاث قال جابر بن عبدالله وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فأخذهن رسول الله ﷺ فرمى بهن في وجوه المشركين، أي يمنة ويسرة وبين أيديهم وحين رمى بذلك قال لأصحابه: شدوا فكانت الهزيمة، وأنزل الله تعالى {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.
وقد يقال: لا مانع من اجتماع الأمرين، وكل منهما مراد من الآية. قال، وقاتل رسول الله ﷺ يومئذٍ بنفسه قتالا شديدا. وكذلك أبو بكر كما كان في العريش يجاهدان بالدعاء قاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين انتهى.
أقول: كذا نقل بعضهم عن الأموي، ويتأمل ذلك، فإني لم أقف عليه في كلام أحد غيره، وكأنّ قائل ذلك فهم مباشرته للقتال مما تقدم عن علي «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله، وكان أشد الناس بأسا» ولا دلالة في ذلك، والله أعلم.
نعم ذكر ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون رؤى رسول الله ﷺ في أثرهم مصلتا السيف يتلو هذه الآية {سيهزم الجمع ويولون الدبر} وهذه الآية ذكر في الإتقان أنها مما تأخر حكمه عن نزوله، فإنها نزلت بمكة، وكان ذلك يوم بدر.
فعن عمر : قلت أيّ جمع، فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله ﷺ في آثارهم مصلتا السيف يقول {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فكانت ليوم بدر، أخرجه الطبراني في الأوسط، ولو قاتل لجرح أو قتل من قاتله، ولو وقع ذلك لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله.
وسيأتي في أحد عن النور «أنه لم يقتل بيده الشريفة قط أحد إلا أبي بن خلف لا قبله ولا بعده» وإلى رميه بالحصا أشار صاحب الهمزية بقوله:
ورمى بالحصا فأقصد جيشا ** ما العصا عنده وما الإلقاء
أي ورمى بالحصا جيشا فأصابهم كلهم بها، أي شيء إلقاء عصا موسى على حبال سحرة فرعون وعصيهم عند ذلك الحصى المرميّ به لا يقاربه ذلك الإلقاء ولا يدانيه، لأن ذاك وجد له نظير وهو إلقاء السحرة الحبال والعصي، والرمي بالحصا لم يوجد له نظير.
أي وقال حينئذ «من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له» كما في الإمتاع «فلما وضع القوم أيديهم يأسرون نظر رسول الله ﷺ إلى سعد فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم، فقال له رسول الله ﷺ: لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل» أي الإكثار منه والمبالغة فيه أحب إليّ من استبقاء الرجال.
وذكر بعضهم أن النبي ﷺ قال لأصحابه «إنكم قد عرفتم أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا إكراها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله» أي بل يأسره وذكر أبا البختري بن هشام، أي فقال «من لقي أبا البختري فلا يقتله» أي لأنه كان ممن قام في نقض الصحيفة ونص على العباس بن عبد المطلب، فقال أبو حذيفة : أيقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ويترك العباس؟ أي لأنه تقدم أن أباه عتبة وعمه شيبة وأخاه الوليد أول من قتل من الكفار مبارزة وعشيرته وهي بنو عبد شمس قد قتل منها جماعة، لئن لقيته يعني العباس لألجمنه السيف هو بالمهملة والمعجمة، فبلغت أي تلك المقالة رسول الله، فقال رسول الله ﷺ لعمر: يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟ فقال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ﷺ بأبي حفص: يا رسول الله دعني أضرب عنقه يعني أبا حذيفة بالسيف، فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذٍ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا في جملة من قتل فيها من الصحابة وهم أربعمائة وخمسون، وقيل ستمائة .
ولقي المجذر أبا البختري فقال له «إن رسول الله ﷺ قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ أي ورفيقي وكان معه زميل له خرج معه من مكة أي قال له جنادة بن مليحة، فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله ﷺ إلا بك وحدك، قال: لا والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي، أي يقتل حرصا على الحياة، فقتله المجذر أي بعد أن قاتله، ثم أتى رسول الله ﷺ فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقتلته».
أقول: لعل المجذر فهم أن ما عدا من نهى عن قتله يقتل وإن استأسر حتى قال ما نحن بتاركي زميلك، أي ولا بد من قتله وإن استأسر، فكان ذلك حاملا لأبي البحتري على أن لا يستأسر ويترك زميله فيقتل خوف السبة والله أعلم.
أي وكان من جملة من خرج مع المشركين يوم بدر عبد الرحمن بن أبي بكر وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، وقيل عبد العزى، فسماه رسول الله ﷺ عبد الرحمن وكان من أشجع قريش وأشدهم رماية، وكان أسن ولد أبيه وكان صالحا وفيه دعابة، فلما أسلم قال لأبيه لقد أهدفت لي أي ارتفعت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك أي أعرضت عنك، فقال أبو بكر: لو هدفت لي لم أصدف أي أعرض عنك، فالمراد بكونه أهدف له ارتفع وهو لا يشعر بذلك، فلا ينافي ما قيل إن عبد الرحمن ابن أبي بكر يوم بدر دعا إلى البراز، فقام إليه أبوه أبو بكر ليبارزه، فقال له رسول الله «متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما علمت أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري».
أي وفي بعض السير أن الصديق قال لولده عبد الرحمن يوم بدر وهو مع المشركين لم يسلم: أين مالي يا خبيث؟ فقال له عبد الرحمن كلاما معناه: لم يبق إلا عدة الحرب التي هي السلاح وفرس سريعة الجري وجنان يقاتل عليه شيوخ الضلال، أي وهذا يدل على أن الصديق ترك مالا عند أهله لما هاجر، وهو قد يخالف ما تقدم عن ابنته أسماء من قولها: إن أبا بكر أرسل ابنه عبدالله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم إلى الغار، فدخل علينا جدي أبو قحافة الحديث، ولعل ماله الذي عناه الصديق ما كان من نحو أمتعة وبعض مواشي لا النقد فلا مخالفة.
ويروى عن ابن مسعود أن الصديق دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، فقال له النبي «متعنا بنفسك، أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري» فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ولا مانع من التعدد حتى في نزول الآية، لكن يبعد نزولها في أحد أيضا كون أبي بكر يدعو للمبارزة بعد نزولها أولا في بدر.
ثم رأيت ابن ظفر قال في الينبوع: إنه لم يثبت أن أبا بكر دعا ابنه للمبارزة، وإنما هو شيء ذكر في كتب التفسير، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فالآية مدنية لا مكية وبه يرد ما ذكر أن سببها أن أبا بكر سمع والده أبا قحافة يذكر النبي ﷺ بشر فلطمه لطمة سقط منها، فأخبر أبو بكر النبي، فقال له لا تعد لمثلها، فقال: والله لو حضرني السيف لقتلته به.
وفي كلام الزمخشري أن عبد الرحمن أسلم في هدنة الحديبية وهاجر إلى المدينة ومات سنة ثلاث وخمسين بمحل بينه وبين مكة ستة أميال، وحمل على أعناق الرجال إلى مكة، وقدمت أخته عائشة من المدينة فأتت قبره فصلت عليه.
أي وفي هذا اليوم الذي هو يوم بدر قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا، فإن أباه قصده ليقتله فولى عنه أبو عبيدة لينكفّ عنه فلم ينكف عنه، فرجع عليه وقتله وأنزل الله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} الآية.
وعن عبد الرحمن بن عوف قال: لقد لقيت أمية بن خلف وكان صديقا لي في الجاهلية ومعه: أي مع أمية ابنه عليّ أي آخذ بيده وكان عليّ ممن أسلم والنبي ﷺ بمكة قبل أن يهاجر، ففتنهم أقاربهم عن الإسلام ورجعوا عنه وماتوا على كفرهم، وأنزل الله تعالى فيهم {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم} الآية، أي وهم الحرث بن ربيعة، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد، والعاص بن منبه، وعلي بن أمية المذكور.
وفي السيرة الهشامية: وذلك أنهم كانوا أسلموا ورسول الله ﷺ بمكة فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة حبستهم آباؤهم وعشريتهم بمكة، وفتنوهم فافتتنوا: أي رجعوا عن الإسلام، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا جميعا، وسياقه كما ترى يقتضى أنهم لم يرجعوا إلى الكفر إلا بعد الهجرة، وسياق ما قبله ربما يقتضى أنهم رجعوا إلى الكفر قبل أن يهاجر.
قال عبد الرحمن بن عوف: وكان معي أدراع استلبتها أي فأنا أحملها، فلما رآني أمية ناداني باسمي الأوّل يا عبد عمرو فلم أجبه، لأنه كان قال لي لما سماني رسول الله ﷺ عبد الرحمن، أترغب عن اسم سماك به أبوك؟ فقلت: نعم. قال: الرحمن لا أعرفه، ولكني أسميك بعبد الإله كما تقدم فلما ناداني بعبد الإله، قلت نعم.
أي وظاهر السياق يقتضي أنه عرف أنه المراد بذلك، وأنه ترك إجابته قصدا، حيث جعله عبدا للصنم. ويحتمل وهو الأقرب أنه لم يجبه لعدم معرفته أنه المراد بذلك الاسم، لكونه هجر بالمرة، فلما ناداه أمية بما ذكر عرفه وعرف أنه المراد بذلك لما ذكر «وعند ذلك قال له أمية: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قلت نعم، فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه عليّ وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، ثم قال لي: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ أي كانت في درعه بحيال صدره. قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل وقيل قائل ذلك ابنه ثم خرجت أمشي بهما، فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام أي كما تقدم، فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فقلت: أي بلال، أفبأسيري؟ أي تفعل ذلك بهما، قال: لا نجوت إن نجا وكررت وكرر ذلك، ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا وكرر ذلك، فأحاطوا بنا فأصلت رجل السيف» أي سله من غمده «وذلك الرجل هو بلال فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فضربوهما بأسيافهم فهبروهما».
أقول: الذي في البخاري عن عبد الرحمن بن عوف «أن بلالا لما استصرخ الأنصار، قال: خشيت أن يلحقونا فخلفت لهم ابنه لأشغلهم به فقتلوه ثم أتونا حتى لحقوا بنا، وكان أمية رجلا ثقيلا» أي كما تقدم «فقلت ابرك، فألقيت نفسي عليه لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، فأصاب أحدهم رجلي بسيفه» أي ظهر قدمه.
وفي كلام ابن عبد البر. قال ابن هشام: قتل أمية بن خلف معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف اشتركوا فيه.
قال ابن إسحاق: وابنه علي قتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف، هذا شهد المشاهد كلها مع رسول الله، وتزوَّج بنت خارجة بعد أن توفي عنها أبو بكر الصديق ؛ وهو جد حبيب شيخ مالك والله أعلم.
وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري أي وفي رواية: لما كان يوم بدر حصل لي درعان ولقيني أمية، فقال: خذني وابني فأنا خير لك من الدرعين، فألقيت الدرعين فأخذتهما، فلما قتلا صار يقول: يرحم الله بلالا فلا درعيّ ولا أسيريّ، أي لأنه جعل في هذه الغزاة أن كل من أسر أسيرا فهو له كما تقدم وسيأتي: أي فله فداؤه، وهو يخالف ما عليه أئمتنا أن مال فداء الأسرى ورقابهم إذا استرقوا كسائر أموال الغنيمة، إلا أن يقال ذاك كان في صدر الإسلام ترغيبا في الجهاد، ثم استقر الأمر على ما قاله فقهاؤنا، أي وقال رسول الله «من له علم بنوفل بن خويلد؟ فقال علي كرّم الله وجهه: أنا قتلته، فكبر رسول الله ﷺ وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه» أي فإنه لما التقى الصفان نادى نوفل بصوت رفيع: يا معاشر قريش اليوم يوم الرفعة والعلاء، فقال «اللهم اكفني نوفل بن خويلد» وفي كلام بعضهم ما يفيد أن قتل علي كرّم الله وجهه له كان بعد أن أسره جبار بن صخر، فقد جاء «أن جبارا بينما هو يسوقه إذ رأى عليا، فقال: يا أخا الأنصار من هذا واللات والعزى؟ إنه ليريدني، فقال: هذا علي بن أبي طالب، فعمد له علي كرم الله وجهه فقتله، ثم أمر رسول الله ﷺ بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال: إن خفى عليكم» أي بأن قطع رأسه وأزيل عن جثته «انظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مائدة لعبدالله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أسن منه: أي أكبر منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش» أي خدش «على أحديهما جحشا لم يزل أثره به».
أي ولعل هذا هو محمل قول بعضهم إنه صارع أبا جهل، فإنه لم يصح أنه صارعه، ولعل هذا الأثر هو الذي عناه ابن مسعود بقوله: لما قتلت أبا جهل لعنه الله، وقلت لرسول الله. قتلت أبا جهل، فقال لي عقيل وهو أسير عند النبي ﷺ: كذبت ما قتلته؛ فقلت له: بل أنت الكذاب الآثم يا عدوّ الله، قد والله قتلته، قال: فما علامته؟ قلت: إن بفخذة حلقة كحلقة الجمل المحلق، قال صدقت، وكان أبو جهل، قد استفتح أي طلب الحكم على نفسه، لأنه لما دنا القوم بعضهم من بعض قال: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأخنه: أي أهلكه الغداة، أي زاد بعضهم: اللهم من كان أحب إليك وأرضى عندك، وفي لفظ: اللهم أولانا بالحق فانصره اليوم، فأنزل الله تعالى {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}.
أقول: كون أبي جهل طلب الحكم على نفسه واضح لو سكت عن قوله وأتانا بما لا نعرف، إذ هو نص فيه.
وفي تفسير سهل أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أفضل الدينين عندك وارضاهما لك، أي وفي رواية اللهم انصر خير الدينين، اللهم ديننا القديم ودين محمد الحادث، فنزل {إن تستفتحوا} يعني تستنصروا {فقد جاءكم الفتح}.
وفي أسباب النزول للواحدي أن المشركين حين أرادوا الخروج من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدي الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى الآية.
وقد روي عن النبي «أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين» والله أعلم.
قال معاذ بن عمرو بن الجموح: رأيت أبا جهل وقد أحاطوا به وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها عمدت نحوه وحملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه: أي أسرعت قطعه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى، والمرضخة: بالخاء المعجمة وبالمهملة. وقيل الرضخ بالمعجمة: كسر الرطب، وبالمهملة كسر اليابس، وضربني ابنه أي عكرمة فإنه أسلم بعد ذلك على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جسمي، وأجهضني القتال: أي شغلني عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأستحسها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت عليها حتى طرحتها. وفي رواية «أنه جاء بها إلى رسول الله ﷺ فبصق عليها، أي ولصقها فلصقت» وإلى ذلك يشير الإمام السبكي في تائيته، لكن قال ابن عفراء: ولا منافاة لجواز أن يكون معاذ بن عمرو بن الجموح بن عفراء، وسيأتي ما يدل على ذلك بقوله:
وبانت بها كف ابْن عفراء فاشتكى ** إليك فعادت بعد أحسن عودة
إلا أن قوله بها يرجع لغزاة أحد، وقد علمت أن ذلك إنما هو ببدر، واحتمال تكرر ذلك في أحد وفي بدر لشخص واحد بعيد، إلا أن يثبت النقل بذلك، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بضم الميم وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة ابن عفراء، فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، أي وما جاء في بعض الروايات ضربه حتى برد بفتح الموحدة والراء والدال المهملة: أي مات لا ينافيه؛ لأنه يجوز أن يكون المراد صار في حالة من مات بأن صار إلى حركة المذبوح، ومن ثم جاء في بعض الروايات حتى برك بالكاف بدل الدال أي سقط إلى الأرض: أي إلى جنبه، وإلا فقطع قدمه مع نصف ساقه لا يفضي غالبا أن يسقط إلى جنبه، ومعوذ هذا لا زال يقاتل حتى قتل. قال عبدالله بن مسعود : ورأيت أبا جهل بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه، ثم قلت له هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبم أخزاني؟ أعار عليَّ رجل قتلتموه: أي ليس بعار على رجل قتلتموه. وفي رواية: أعمد من رجل قتلتموه، أي أنا سيد رجل قتلتموه، لأن عميد القوم سيدهم: أي فلا عار عليّ في قتلكم إياي.
وجاء أنه قال: لو غير أكار قتلني، والأكار: الزراع يعني الأنصار لأنهم كانوا أصحاب زرع: أي لو كان الذي قتلني غير فلاح لكان أحب إليّ وأعظم لشأني، ولم يكن عليّ في ذلك نقص، لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، أخبرني لمن الديرة؟ أي النصرة والظفر اليوم. زاد في رواية، لنا أو علينا؟ قلت لله ولرسول الله. وفي الصحاح في دبر بالباء الموحدة، والدبرة: الهزيمة في القتال.
ومما يدل للأول ما تقدم من قول أبي جهل: أخبرني على من كانت الدبرة لنا أو علينا؟ وفي مغازي ابن عقبة التي قال فيها مالك مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي «أن رسول الله ﷺ وقف على القتلى والتمس أبا جهل فلم يجده حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال: اللهم لا تعجزني فرعون هذه الأمة، فسعى له الرجال حتى وجده ابن مسعود الحديث. وفي الصحيحين عن أنس لما قال رسول الله «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابن عفراء حتى برد» ولمسلم «برك» أي وهو المراد من الأول كما تقدم، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل» الحديث، وأخذه بلحيته لا ينافي وضع رجله على رقبته، لجواز أن يكون جمع بينهما. قال ابن مسعود: ثم احتززت رأسه.
وفي رواية رويت عن ابن مسعود قال «لما ضربته بسيفي لم يغن شيئا فبصق في وجهي وقال خذ سيفي فاحتزّ به رأسي من عرشي، ليكون أنهى للرقبة، والعرش: عرق في أصل الرقبة، ففعلت كذلك، ثم جئت به إلى رسول الله، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدوّ الله أبي جهل، فقال رسول الله ﷺ: الله الذي لا إله غيره، أي ورددها ثلاثا» وروى الطبراني «آلله قتلت أبا جهل» بنصب الجلالة، وهو بهذا اللفظ عندنا كناية يمين، ومثل النصب الرفع والجر «قال: قلت نعم والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله ﷺ فحمد الله تعالى» أي ويقال إنه سجد خمس سجدات شكرا، ويقال إنه قال «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الإحزاب وحده» وكون أبي جهل بصق في وجه ابن مسعود وقال له خذ سيفي الخ، ينافي كونه وصل إلى حركة المذبوح، إلا أن يقال يجوز أن يكون في أول الأمر كان كذلك ثم تراجعت إليه روحه حتى قدر على ما ذكر فليتأمل، مع ما يأتي.
قيل وبهذا أي بحمل رأس أبي جهل إلى رسول الله ﷺ يردّ على الزهري قوله: لم يحمل إلى النبي ﷺ رأس قط ولا يوم بدر وحمل رأس لأبي بكر فأنكره. ويجاب بأن البيهقي قال: ما روي من حمل رأس أبي جهل قد تكلم في ثبوته وبتقدير صحته فهو من محل إلى محل لا من بلد إلى بلد، أي من بلد الكفر إلى دار الإسلام: أي الذي أنكره أبو بكر ، فإنه أنكر نقل الرأس من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وقد جوّزه من أئمتنا الماوردي والغزالي إذا كان في ذلك مكايدة للكفار. وفي النور: تحصلنا على جماعة حملت رؤوسهم إليه: أبو جهل، وسفيان بن خالد، وكعب بن الأشرف، ومرحب اليهودي، والأسود العنسي على ما روي، وعصماء بنت مروان، ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة: أي ورأس عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعيته وشق شفته السفلى يوم أحد كما سيأتي.
وفي وضع ابن مسعود رجله على عنق أبي جهل وقطع رأسه تصديق لتعبيره للرؤيا التي رآها لأبي جهل وقال له: إن صدقت رؤياي لأطأنّ رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاه.
وفي رواية أن ابن مسعود وجده مقنعا في الحديد وهو منكب لا يتحرك فرفع سابغة البيضة: أي الخودة عن قفاه لأن سابغة البيضة ما يغطى بها العنق، ومن ثم يقال بيضة لها سابغ، فضربه فوقع رأسه بين يديه.
وعن ابن مسعود كما في المعجم الكبير للطبراني: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع وعليه بيضة ومعه سيف جيد ومعي سيف رديء فجعلت ألقف رأسه وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة؟ ألست برويعينا بمكة؟ فقتله ثم سلبه، فلما نظر إليه إذ هو ليس به جراح، وإنما هي أحدار: أي أورام في عنقه ويديه وكتفيه كهيئة آثار السياط: أي آثار سود كسمة النار: أي ليس به جراح من جراح الآدميين داخل بدنه، فلا ينافي ما تقدم من قطع ابن الجموح لرجله.
ويجوز أن يكون ضرب ابن عفراء له حتى أثبته لم ينشأ عنه جراحة داخل بدنه، فأتى النبي ﷺ فأخبره، فقال: ذاك ضرب الملائكة، أي فإن الملائكة عليهم السلام كانت لا تعلم كيف قتل الآدميين فعلمهم الله تعالى ذلك بقوله تعالى {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} أي مفصل، فكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم بآثار سود كسمه النار. ولا ينافي ذلك وصفه بالخضرة في بعض الروايات، لأن الأخضر لشدة خضرته ربما قيل فيه أسود، وتلك الآثار في الأعناق، والبنان الظاهر أن ذلك يكون موجودا حتى بعد مفارقة الرأس أو اليد ليستدل به على أن مفارقة الرأس أو اليد من فعل الملائكة، وينبغي أن يكون هذا: أي ضربهم فوق الأعناق والبنان أكثر أحوالهم، فلا ينافي وجود أثر ضربهم في الكتفين كما تقدم وفي الوجه والأنف.
فعن بعض الصحابة : كنا ننظر إلى المشرك أمامنا مستلقيا فننظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق في وجهه كضربة السوط فاحضر ذلك الموضع، وفسر بعضهم الأعناق بالرؤوس، وهو غير مناسب لما ذكر هنا.
وروي عن سهل بن حنيف عن أبيه قال «لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك» أي يرفعه عليه «فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف» ويمكن الجمع بين هذا وما قبله بأن ضرب الملائكة في الأعناق تارة يفصلها وتارة لا، وفي الحالتين يرى أثر ذلك أسود في العنق ليستدل به على أنه من فعل الملائكة كما تقدم.
وفي رواية عن ابن مسعود قال «انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد قطعت رجله وهو صريع وهو يذب الناس عنه بسيف له، فقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، قال: هل هو إلا رجل قتله قومه، قال: فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده، فبدر» أي سقط سيفه «فأخذته فضربته حتى قتلته، ثم خرجت حتى أتيت النبي ﷺ كأنما أقلّ من الأرض» أي أحمل من شدة الفرح «فأخبرته، فقال: الله الذي لا إله إلا هو» وفي لفظ تقدم «لا إله غيره ردده ثلاثا» وفي رواية عن ابن مسعود «فاستحلفني ثلاث مرات، ثم قال: الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله ثلاث مرات وخر ساجدا: أي خمس سجدات شكرا» كما تقدم.
وفي رواية: صلى ركعتين. قال ابن مسعود : ثم إنه خرج يمشي معي حتى قام عليه فقال: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة» زاد في لفظ «ورأس قاعدة الكفر، ونفلني سيفه أي وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة» ومع قصره كان أقصر من سيف ابن مسعود فلا منافاة.
أقول: يجوز أن يكون المضيّ إليه بعد إلقاء الرأس بين يديه استعظاما لقتله، أي وأن ابن مسعود في هذه الرواية سكت عن قطع رأسه والمجيء بها إلى رسول الله ﷺ: فلا مخالفة؛ وقد قال له النبي ﷺ يوما وقد أخذ بمجامع ثوبه «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» أي وعيد على وعيد «فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك بي شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها، فأنزل الله تعالى {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى} وقيل نزلت كالتي قبلها في عدي بن ربيعة لما سأل رسول الله ﷺ عن أمر القيامة فأخبره به، فقال: لو عاينت هذا اليوم لم أصدقك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فأنزل الله تعالى {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} الآيات، والله أعلم.
وعن قتادة أن رسول الله ﷺ قال «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل، قتله الله شر قِتله» بكسر القاف الهيئة. قتلته الملائكة، وفي لفظ قتله ابن عفراء وقتلته الملائكة، وقد ذمنه: أي أجهز عليه ابن مسعود وابن عفراء هذا يجوز أن يكون هو معاذ بن عمرو بن الجموح. ويجوز أن يكون أخاه معاذ بن الحارث، وكونه قتله لأنه أزال منعته كما تقدم.
وفي مسلم عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، نظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل بن هشام؟ قلت نعم، وما حاجتك به؟ قال: بلغني أنه كان يسب رسول الله، والذي نفسي بيده لو رأيته لم يفارق سوادي سواده: أي شخص شخصه حتى يموت الأعجل منا: أي الأقرب أجلا، فغمزني الآخر فقال مثلها، فعجبت لذلك، أي لحرص كل منهما على ذلك وإخفائه عن صاحبه ليكون المختص به فلم أنشب: أي ألبث أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس: أي بالزاي يتحول من محل إلى محل آخر، فقلت لهما ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسالأن عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه أي أشرفا به على القتل فصيراه إلى حركة مذبوح، ثم انصرفا إلى رسول الله ﷺ فأخبراه، فقال أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما؟ قال لا، فنظر رسول الله ﷺ في السيفين، فقال كلاكما قتله، وقضى بسلبه: أي ما عدا سيفه لهما، فلا ينافي ما سبق من أعطائه لابن مسعود ، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء بن الحارث، فهما: أي معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن الحرث ابنا عفراء، غاية الأمر أن الأول اشتهر بأبيه عمرو بن الجموح، والثاني اشتهر بأمه التي هي عفراء.
وقول الحافظ ابن حجر: إن معاذ بن عمرو بن الجموح ليس اسم أمه عفراء يجوز أن يكون مستنده في ذلك مقابلة ابن الجموح بابن عفراء في كلامهم المقتضي ذلك، لأن يكون ابن الجموح ليس ابن عفراء.
ولا يشكل على ذلك ما في النور نقلا عن الإمام النووي، أن عمرو بن الجموح وابني عفراء: أي معاذ ومعوذ اشتركوا في قتل أبي جهل، لأن معاذا الثاني ابن الحرث، فكل من عمرو بن الجموح والحرث تزوج عفراء، وكل سمى ولده منها بمعاذ. ويدل لذلك ما يأتي عن الإمتاع أنه قال «رحم الله ابني عفراء اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة، ولما قيل له: يا رسول الله من قتله معهما، قال الملائكة، ولم يقل عمرو بن الجموح» لكن رأيت بعضهم ذكر أن عفراء شهد لها بدرا سبع بنين ثلاثة من الحارث بن رفاعة، وهم معوذ ومعاذ، وعامر، وأربعة من بكر بن عبد ياليل، وهم خالد وأساس وعاقل وعامر، واستشهد منهم ببدر معاذ ومعوذ وعاقل هذا كلامه، وذكر عامر في الأول تقدم بدله ذكر عوف وهو واضح، فقد تقدم أن عوف بن الحارث بن عفراء قال «يا رسول الله ما يضحك الرب الخ» ولم يذكر هذا البعض أن من أولادها معاذ بن عمرو بن الجموح، وهو يؤيد ما تقدم عن الحافظ، وعن الإمام النووي، فعليك بالتأمل. وقيل قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
أقول: أي لكونه هو الذي أزال منعته فاستحق سلبه، ولا ينافي ذلك قوله لهما «كلاكما قتله» لجواز أن يكون أتى بذلك ملاطفة للثاني وترغيبا له في الجهاد، لأن له مشاركة ما في قتله، لأنه زاد في إثخانه إلى أن صيره إلى آخر رمق.
ويرده كونه أشركهما في سلبه، ومن ثم قال فقهاؤنا: يعطي السلب لمن أثخن دون من قتل: أي بعد ذلك، فقد أعطى رسول الله ﷺ سلب أبي جهل لمثخنيه ابني عفراء دون قاتله ابن مسعود، لكن هذا القيل قال به بعض آخر من فقهائنا، وهو الموافق لما في البخاري في كتاب فرض الخمس: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء قتلا أبا جهل ثم تنازعا فيه، وذلك لأن النبي ﷺ نظر إلى السيفين فرأى فيهما أثر الدم فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن الجموح، قال الأصحاب لأنه أثخنه والآخر جرحه بعده، وقوله: كلاكما قتله تطييب لقلب الآخر هذا كلامه فليتأمل، فإن الذي أظنه أن كونه رأى أثر الدم في سيفيهما خلط من الراوي لأن ذلك كان في قتل بن الأشرف، ويؤيد الخلط ما تقدم عن ابن مسعود أنه لم ير فيه أثر جراح داخل بدنه.
وفي الإمتاع أنه قال «يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر، فقيل: يا رسول الله من قتله معهما؟ قال: الملائكة، وذففه ابن مسعود» وهذا السؤال يقتضي أن معنى قوله «إنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة» أن غيرهما شاركهما في ذلك، فليتأمل.
وفي شرح الروض وهو من أجل كتبنا أن عبدالله بن رواحة وابني عفراء تقاتلا مع أبي جهل مبارزة وأنه علم ذلك وأقره؛ وجعلوا ذلك دليلا على إباحة مبارزة القوي لكافر لم يطلب المبارزة.
أي وأما ما تقدم من أمره لحمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث بمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة فذاك لكافر طلب المبارزة فقد تقدم أن عتبة خرج بين أخيه شيبة وولده الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، وأنه خرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة إخوة أشقاء وهم: معاذ ومعوذّ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبدالله بن رواحة، فلم يرضوا بمبارزتهم، فعند ذلك أمر من ذكر بمبارزتهم، وعندي أن ما ذكره في شرح الروض من مبارزة عبدالله بن رواحة وابني عفراء لأبي جهل، ذكر أبي جهل اشتباه، وإنما هو لهؤلاء الثلاثة ولم تقع منهم مقاتلة، وكيف يبارز ثلاثة واحدا؟ فليتأمل.
وجاء في الحديث «إن الله قتل فرعون هذه الأمة أبا جهل، فالحمد لله الذي صدق وعده، ونصر دينه» والله أعلم.
وكان على الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، أي إلا جبريل فإنه كان عليه عمامة صفراء، أي وقيل حمراء.
قال بعضهم: وكان بعضهم بعمائم خضر وبعضهم بعمائم صفر، وبعضهم بعمائم حمر أي وبعضهم بعمائم بيض، وبعضهم بعمائم سود، فلا منافاة.
وذكر أن عمامة جبريل ﵇ يوم أغرق فرعون كانت سوداء، قال وفي رواية «سيماهم عمائم سود» وعند ابن مسعود «كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر» ا هـ أي وبيض وسود.
وفي كلام بعضهم: نزلت الملائكة يوم بدر بعمائم صفر، ورواية بيض وسود ضعيفة.
وفي كلام ابن إسحاق عن ابن عباس قال «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل، فإنه كان عليه عمامة صفراء من نور» أي وكانوا يوم أحد بعمائم حمر ويوم حنين كذلك».
في الجامع الصغير «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم أحد عمائم حمر» وما ذكر لا ينافي ما قيل سيماهم ببدر عمائم صفر قد أرخوها بين أكتافهم. وما جاء «كان على الزبير ببدر عمامة صفراء معتجرا بها، فقال: نزلت الملائكة عليّ بسيما أبي عبدالله» يعني الزبير ، لجواز أن يكون أكثرهم كان بعمائم صفر.
وقد ذكر أن الزبير قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى كان الرجل يدخل يده في الجراح في ظهره وعاتقه.
وقد سئل الحافظ السيوطي عن قوله تعالى {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} ما السمة التي كانت عليهم؟ فأجاب بأن ابن أبي حاتم ذكر في تفسيره بأسانيد عن علي كرم الله وجهه أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها.
وعن مكحول وغيره أنها العمائم. وعن ابن عباس أنها كانت عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، وفي سنده رجل ضعيف. وعنه أيضا عمائم سود، وفي سنده متروك، ثم قال: ورواية البيض والسود ضعيفة هذا كلامه، أي وعلى تقدير صحتها يجاب بما قدمنا. وكان شعار الأنصار: أي علامتهم التي يتعارفون بها في ذلك إذا جاء الليل أو وقع اختلاط «أحد أحد» أي وشعار المهاجرين يومئذٍ «يا بني عبد الرحمن».
أي وعن زيد بن علي قال: كان شعار النبي ﷺ أي المهاجرين أو هو حتى لا يشتبه بغيره «يا منصور أمت» ويقال «أحد أحد» وشعار الخزرج «يا بني عبدالله» وشعار الأوس «يا بني عبيدالله».
وعن ابن سعد يقال كان شعار الجميع يومئذٍ «يا منصور أمت».
أي وقد يقال: لا منافاة بين هذه الرواية وما قبلها من الروايات، لأن المراد بالجميع المجموع، لكن يحتاج إلى الجمع بين تلك الروايات السابقة على تقدير صحتها وكانت خيل الملائكة بلقا.
وعن علي قال: كان سيما الملائكة: أي سيما خيلهم يوم بدر الصوف الأبيض، أي وفي لفظ: بالعهن الأحمر في نواصي الخيل وأذنابها.
أي ولا منافاة، لجواز أن يكون بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وعند ذلك قال «سوّموا خيلكم فإن الملائكة قد سومت» فهو أول يوم وضع فيه الصوف أي في نواصي الخيل وأذنابها، ولم أقف على لون الصوف الذي وضع في ذلك.
وعن ابن عباس قال «حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة» أي الغلبة «فننهب مع من ينهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: اقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه» أي غشاؤه «فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت» وأقدم بضم الدال من التقدم: كلمة يزجر بها الخيل، وحيزوم بالميم وربما قيل بالنون اسم فرس جبريل، ولعلها هي الحياة وأحدهما اسم لها والآخر لقب، وقيل لها الحياة لأنها ما مسها شيء إلا صار حيا وهي التي قبض من أثرها أي من تراب حافرها السامري، نسبة إلى سامر، قرية أو طائفة: ما ألقاه في العجل الذي صاغه من حلى القبط فكان له خوار: أي صوت، فكان إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا، قال في النهر: الظاهر أنه قامت به الحياة.
وقيل لما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في تجويفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الحوار. وفي كلام بعضهم: فرس جبريل التي هي حيزوم كان صهيله التسبيح والتقديس، وإذا نزل عليها جبريل ﵇ علمت الملائكة أن نزوله للرحمة، وإذا نزل منشور الأجنحة علمت أن نزوله للعذاب، أي وحينئذ فنزول جبريل ﵇ عليها يوم بدر كان لرحمة المسلمين، وإن كان عذابا على الكافرين، ويكون نزوله لا عليها بل منشور الأجنحة إذا كان لمحض العذاب.
ويحتمل أن يكون حيزوم غير فرس الحياة، وإليه ذهب السهيلي ، فقال: والحياة أيضا فرس لجبريل ﵇.
قال الحافظ ابن حجر: ومن الأخبار الواهية أن الموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أثني، أي خطوتها ـ كما في العرائس ـ مدّ البصر، وهي التي كان جبريل ﵇ والأنبياء عليهم السلام يركبونها أي كلهم كما في العرائس، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي.
هذا، وفي أثر مرسل أن رسول الله ﷺ قال لجبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟ فقال جبريل ﵇: يا محمد ما كل أهل السماء أعرف.
قال ابن كثير: وهذا الأثر يردّ قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل ﵇، أي وفيه أنه لا يبعد أن يقول أحد من الملائكة لفرس جبريل اقدم حيزوم، ولا يعرف ذلك القائل، وكأنّ الحافظ ابن كثير فهم من قوله من القائل الخ، أن ذلك الفرس لذلك القائل، نعم إن كان هذا الأثر وقع بعد الرواية التي تلي هذه وهي جاءت سحابة الخ، أو أن ذلك الأثر سقط من لفظة لفرسه، والأصل من القائل يوم بدر من الملائكة لفرسه، اتجه ما فهمه ابن كثير فليتأمل، قال: وفي رواية «جاءت سحابة فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: اقدم حيزوم، فنزلوا على ميمنة رسول الله، ثم جاءت سحابة أخرى نزل منها رجال كانوا على ميسرته، فإذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي ﷺ وأسلمت» ومن ثم ذكر في الصحابة.
وفي النور: هذا الرجل مذكور في الصحابة، وليس في الحديث أي الرواية الأولى ما يدل على إسلامه إلا أن تحديثه لابن عباس بهذه المعجزة للنبي يشعر بإسلامه هذا كلامه.
وفيه أن قوله ونحن مشركان يدل على أنه كان مسلما عند تحديثه لابن عباس .
وقد جاء عن ابن عباس «أن الغمام الذي ظلل بني إسرائيل في التيه هو الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر.
أي وعن علي «هبت ريح شديدة ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، فكانت الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة» أي لعلها أمامه أخذا من قوله «وكانت الثانية ميكائيل، نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله، وكانت الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله » وفي ذلك سكوت عن الرابعة، أي زاد في الإمتاع «وكان إسرافيل وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة».
وظاهر هذا أن كلا من جبريل وميكائيل قاتل، وتقدم أنهم في هذه الغزاة التي هي غزاة بدر قيل لم يمدوا إلا بألف من الملائكة، ورواية ألفين ضعيفة جاءت عن علي ، فتكون هذه الرواية التي جاءت عن علي أيضا كذلك، ولا نظر لما تقدم عن بعضهم أن إمدادهم يوم بدر بثلاثة آلاف أولا، وأنهم وعدوا أن يمدوا بخمسة آلاف إن ثبتوا وصبروا وهو ما عليه الأكثر، لما علمت أن ذلك إنما كان في أحد، وسيأتي ذلك مع زيادة. قال بعضهم: ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر، أي وفي غيره يكونون مددا من غير مقاتلة، وسيأتي أنهم قاتلوا يوم أحد ويوم حنين.
ففي مسلم عن سعد بن أبي وقاص «أنه رأى عن يمين رسول الله ﷺ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، يقاتلان كأشد القتال».
قال الإمام النووي : فيه أن قتال الملائكة لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافا لمن زعم اختصاصه، فإن هذا صريح في الرد عليه.
أقول: يمكن الجمع بأن المختص ببدر قتال الملائكة عنه وعن أصحابه، وفي غيره كان عنه خاصته، فلا منافاة؛ ثم رأيتني ذكرت هذا الجمع في غزوة أحد عن البيهقي، وتعقبته بما جاء أن الملائكة قاتلت في ذلك اليوم عن عبد الرحمن بن عوف. وعلى تسليم ورود ذلك فيه أنهم لو قاتلوا يوم أحد لظهر أثر قتلهم كما ظهر في يوم بدر.
وقد يقال: مرادهم بالمقاتلة يوم أحد المدافعة من غير أن يوقعوا فعلا، وفي يوم بدر المراد بالمقاتلة إيقاع الفعل، والله أعلم.
وانكسر سيف عكاشة بتشديد الكاف أكثر من تخفيفها ـ ابن محصن وهو يقاتل به فأعطاه رسول الله ﷺ جذلا من حطب: أي أصلا من أصول الحطب وقال له قاتل بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول الله ﷺ هزه فعاد في يده سيفا، طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون.
ثم لم يزل عند عكاشة وشهد به المشاهد كلها مع رسول الله. ثم لم يزل متوارثا عند آل عكاشة. وعكاشة، مأخوذ من عكش على القوم: إذا حمل عليهم، والعكاشة: العنكبوت، وسيأتي مثل ذلك في أحد لعبدالله بن جحش.
وانكسر سيف سلمة بن أسلم فأعطاه رسول الله ﷺ قضيبا كان في يده: أي عرجونا من عراجين النخل وقال: اضرب به، فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده.
قال: وعن خبيب بن عبد الرحمن قال «ضرب خبيب جدي يوم بدر فمال شقه، فتفل عليه رسول الله ﷺ ولأمه ورده فانطبق».
وعن رفاعة بن مالك قال «لما كان يوم بدر رميت بسهم ففقئت عيني، فبصق عليها رسول الله ﷺ ودعا لي، فما آذاني منها شيء» ا هـ.
ثم أمر رسول الله ﷺ بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم التي أخبر بها رسول الله ﷺ قبل وجودها؟ فعن عمر بن الخطاب «أن رسول الله ﷺ كان يرينا مصارع أهل بدر يقول: هذا مصرع عتبة بن ربيعة، وهذا مصرع شيبة بن ربيعة، وهذا مصرع أمية بن خلف، وهذا مصرع أبي جهل بن هشام، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، أي ويضع يده الشريفة على الأرض، فما تنحى أحدهم عن موضع يده» كما تقدم عن أنس، وتقدم عنه أن ذلك كان ليلة بدر بعد أن وصل إلى محل الواقعة، إذ لا يتصور وضع يده على الأرض إلا إذا كان بمحل الوقعة.
وبه يعلم ما ذكره بعضهم أن إخباره بمصارع القوم تكرر منه مرتين قبل الوقعة بيوم أو أكثر ويوم الوقعة، هذا كلامه، إلا أن يقال قوله يوم الوقعة هو بناء على أنه وصل بدرا في النهار. والقول بأن ذلك كان ليلا بناء على أنه وصل بدرا ليلا. ومعلوم أنه إنما وضع يده في محل الوقعة.
ثم أمر أن يطرحوا فطرحوا في القليب، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتزايل: أي تقطعت أوصاله فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وهذا دليل على أن الحربي لا يجب دفنه، وبه قال أئمتنا، بل قالوا: يجوز إغراء الكلاب على جيفته.
وفي سنن الدارقطني «كان من سنته في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا» أي ولكثرة جيف الكفار كره أن يشق على أصحابه أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر، وكان الحافر لهذا القليب رجل من بني النجار، فكان فألا مقدما لهم ذكره السهيلي.
«ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة في القليب تغير وجه أبي حذيفة ففطن» بفتح الطاء «له رسول الله، فقال له: لعلك دخلك من شأن أبيك شيء، فقال: لا والله، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله ﷺ بخير وقال له خيرا».
أقول: وذكر فقهاؤنا أن النبي ﷺ نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه في هذه الغزاة وقد أراد ذلك، والله أعلم.
«ثم جاء رسول الله ﷺ حتى وقف على شفير القليب» أي قيل بعد ثلاثة أيام من إلقائهم في القليب وذلك ليلا، أي وفي الصحيحين عن أنس «كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي» أي وهو القليب «وجعل يقول: يا فلان بن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا».
وجاء في بعض الطرق نداؤهم بأسمائهم، فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام» وهذا يقتضي أنه في تلك الرواية نطق بلفظ يا فلان ابن فلان ولا يخفى بعده فليتأمل.
واعترض بأن أمية بن خلف لم يكن من أهل القليب لما علمته. وأجيب بأنه كان قريبا من القليب «بئس عشيرة النبي، كنتم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها. وفي رواية أجسادا قد أجيفوا. وفي لفظ: قد جيفوا، فقال: ما أنتم بأسمع، وفي رواية: لأسمع لما أقول منهم، وفي رواية: لقد سمعوا ما قلت غير أنهم لا يستيطعون أن يردوا شيئا».
وعن قتادة أحياهم الله تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله ﷺ توبيخا لهم وتصغيرا ونقمة وحسرة.
أقول: والمراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور؛ لأن الروح بعد مفارقة جسدها يصير لها تعلق به، أو بما يبقى منه ولو عجب الذنب فإنه لا يفنى وإن اضمحل الجسم بأكل التراب، أو بأكل السباع أو الطير أو النار، وبواسطة ذلك التعلق يعرف الميت من يزوره ويأنس به ويردّ سلامه إذا سلم عليه كما ثبت في الأحاديث. والغالب أن هذا التعلق لا يصير الميت به حيا كحياته في الدنيا، بل يصير كالمتوسط بين الحي والميت الذي لا تعلق لروحه بجسده، وقد يقوى حتى يصير كالحي في الدنيا، ولعله مع ذلك لا يكون فيه القدرة على الأفعال الاختيارية، فلا يخالف ما حكي عن السعد اتفقوا على أنه تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية هذا كلامه، والكلام في غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء : أي شهداء المعركة، أما هما فتعلق أرواحهم بأجسادهم تصير به أجسادهم حية كحياتها في الدنيا ويكون لهم القدرة والأفعال الاختيارية.
فقد روى البيهقي في الجزء الذي ألفه في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم عن أنس أن النبي ﷺ قال «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون «وجاء» إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة».
وروى أبو يعلى عن أبي هريرة «لينزلن عيسى ابن مريم ﵇، ثم إن قام على قبري وقال: يا محمد لأجبته» ومن ثم قال الإمام السبكي: حياة الأنبياء والشهداء كحياتهم في الدنيا، ويشهد له صلاة موسى ﵇ في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدا حيا، وكذا الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء كلها صفات الأجسام.
ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب، وأما الادراكات كالعلم والسمع فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى، هذا كلامه وسائر الموتى شامل للكفار، أي وأكل الشهداء وشربهم في البرزخ لا عن احتياج بل لمجرد الإكرام، وكون الشهداء اختصوا بذلك دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا مانع منه، لأن المفضول قد يخص بما لا يوجد في الفاضل، ألا ترى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شرعت الصلاة عليهم وجوبا وحرمت على الشهداء، وبهذا يردّ قول بعضهم في الاستدلال على حياة الأنبياء بقوله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} والأنبياء أولى بذلك لأنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة ووصف الشهادة، فيدخلون في عموم لفظ الآية، ولأنه قال في مرض موته «لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم» فثبت كونه حيا في قبره بنص القرآن، إما من عزم اللفظ أو من مفهوم الموافقة.
ووجه رده أن الأولوية قد تمنع بل أصل القياس، لما علمت أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وإن جمعوا بين النبوة والشهادة، إلا أن المراد في الآية شهداء المعركة لا مطلق الشهادة، إذ شهادة المعركة لم تحصل لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ثم لا يخفى أن الذي ثبت حياة الأنبياء وصلاتهم في قبورهم وحجهم، وأما صومهم وأكلهم وشربهم في ذلك فلم أقف على ما يدل على ذلك في شيء من الأحاديث والآثار، وقياسهم في ذلك على الشهداء علمت أنه قد يمنع لما أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل.
والذي يدل على أنهم يحجون ما جاء عن ابن عباس «سرنا مع رسول الله ﷺ بين مكة والمدينة فمررنا بواد، فقال: أيّ واد هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق، فقال: كأني أنظر إلى موسى واضعا أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية مارا بهذا الوادي، ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف مارا بهذا الوادي ملبيا» وقد جاء في موسى ﵇ «أنه كان على بعير» وفي رواية «على ثور» ولا منافاة لجواز أن يكون تكرر حجه أو ركب البعير مرة والثور أخرى. ولا يخفى أن رزق الشهداء يصدق على الجماع، لأنه مما يتلذذ به كالأكل والشرب.
ثم رأيت سيدي أبا المواهب الشاذلي ونفعنا ببركاته، قال في كتابه المسمى (بعنوان أهل السر المصون في كشف عورات أهل المجون) وأخبر سبحانه عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وحمله أهل العلم على الحقيقة وأنهم يأكلون ويشربون وينكحون حقيقة، وقائل غير هذا أي أن الأكل والشرب عبارة عن لذة تحصل لهم كاللذة الناشئة عن الأكل والشرب والنكاح صرف هذه الآية عن ظاهرها من غير ضرورة تلجىء إلى ذلك، ثم قاس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الشهداء في ذلك، لما تقدم من أنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة والشهادة. وقد علمت جواب من منع القياس.
ثم رأيت عن إفتاء شيخنا الشمس الرملي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والشهداء يأكلون في قبورهم ويشربون ويصلون ويصومون ويحجون. ووقع الخلاف هل ينكحون؟ فقيل نعم. وقيل لا، وأنهم يثابون على صلاتهم وصومهم وحجهم، ولا تكليف عليهم في ذلك لانقطاع التكليف بالموت، بل من قبيل التكرمة ووقع الدرجات هذا كلامه، ولعل مستنده في إثبات ما عدا الصلاة والحج للأنبياء قياسهم على الشهداء، وقد علمت ما فيه وإثبات الخلاف الذي ذكره شيخنا في نكاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا أدري هل هو خلاف أهل عصره أو من تقدمهم.
على أن إثبات النكاح للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ربما يبعده ما ذكروه في حكمة قوله «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب» حيث لم يقل من دنياي ولا من الدنيا، فإنه أشار بهذه الإضافة إلى أن النساء والطيب من دنيا الناس لأنهم يقصدونهما للاستلذاذ وحظوظ النفس، وهو منزه عن ذلك.
وإنما حبب إليه النساء لينقلن عنه محاسنه ومعجزاته الباطنة والأحكام السرية التي لا يطلع عليها غالبا غيرهن وغير ذلك من الفوائد الدينية.
وحبب إليه الطيب لملاقاته للملائكة، لأنهم يحبونه ويكرهون الريح الخبيث، لأن حقيقة الإكرام أن يحصل له في البرزخ ما كان يلتذ به في الدنيا، ليكون حاله فيه كحاله في الدنيا.
وفيه أن الحكمة المذكورة لا تناسب قوله «فضلت على الناس بأربع وعدّ منها كثرة الجماع» وهم كغيرهم في هذا التعلق متفاوتون بحسب مقاماتهم، وإنه يعبر عن قوة هذا التعلق بعود الحياة، ومنه ما ذكر عن قتادة وتعود الروح، ومنه قول بعضهم: أرواح الأنبياء والشهداء بعد خروجها من أجسادها تعود إلى تلك الأجسام في القبر، وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي.
ومن ثم قال ابن العربي : رؤية المصطفى بصفته العلوية إدراك له على الحقيقة، وعلى غير صفته العلوية إدراك للمثال ويعبر عنه بردها.
ومنه قوله «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله تعالى عليّ روحي حتى أرد ﵇» أي إلا قوى تعلق روحي، وذلك إكراما لهذا المسلم حيث لا يردّ عليه سلامه إلا وقد قوي تعلق روحه الشريفة بجسده الشريف، والروح بناء على أنها غير عرض مع كونها في مقاماتها لها تعلق بجسدها وبما يبقى منه كما تقدم، كالشمس في السماء الرابعة ولها تعلق بالأرض، وربما عبر عن ضعف هذا التعلق بصعودها وطلوعها، وبناء على أنها عرض تزول ويعود مثلها، وقد أوضحت ذلك في (النفحة العلوية في الأجوبة الحلبية عن الأسئلة القروية) وهي أسئلة سئلت عنها من بعض أهل القرى المصرية، وذكرت أن هذا أولى مما أطال به الجلال السيوطي من الأجوبة مع ما فيها مما لا يخفى. ورأيت في حديث عن عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «إن لله ملكا أعطاه سمع العباد كلهم، وإنه ما من أحد يصلي عليّ صلاة إلا بلغنيها، وإني سألت ربي أن لا يصلي عليّ أحد صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرة أمثالها» وذكر الحافظ الذهبي أن راوي هذا الحديث تفرد به متنا وإسنادا والله أعلم.
وعن عائشة أنها أنكرت قوله لقد سمعوا ما قلت وقالت، إنما قال لقد علموا أن الذي كنت أقول حق، وقالت: إنما أراد النبي ﷺ أي بقوله في حق أهل القليب «ما أنتم بأسمع منهم» أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم هو الحق، أي لا أنهم يسمعون ما أقول بحاسة سمعهم التي كانت موجودة في الدنيا، ثم قرأت أي محتجة على ذلك قوله تعالى {إنك لا تسمع الموتى} الآية، وبقوله {وما أنت بمسمع من في القبور}.
ويجاب بأنه لا مانع من إبقاء السمع هنا على حقيقته، لأنه إذا قوي تعلق أرواح هؤلاء الكفار بأجسادهم بحيث صاروا أحياء كحياتهم في الدنيا للغرض المذكور لا مانع من سماعهم بحاسة سمعهم لبقاء محل تلك الحاسة منهم، كما أن الجسد بذلك التعلق يقوى على الجلوس للسؤال في القبر والسماع المنفي في الآيتين بمعنى السماع النافع، وقد أشار إلى ذلك الجلال السيوطي بقوله نظما:
سماع موتى كلام الخلق قاطبة ** جاءت به عندنا الآثار في الكتب
وآية النفي معناها سماع هدى ** لا يقبلون ولا يصغون للأدب
لأنه تعالى شبه الكفار الأحياء بالأموات في القبور في أنهم لا ينتفعون بالدعاء إلى الإسلام النافع.
ثم بعث رسول الله ﷺ عبدالله بن رواحة بشيرا لأهل العالية: أي وهي محل قريب من المدينة على عدة أميال، وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بها راكبا ناقته القصوى، وقيل العضباء بما فتح الله على رسوله والمسلمين، فجعل عبدالله بن رواحة ينادي في أهل العالية: يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله ﷺ وقتل المشركين وأسرهم، ونادى زيد بن حارثة في أهل السافلة بمثل ذلك، أي ويقولان: قتل فلان وفلان، أي وأسر فلان وفلان من أشراف قريش، وصار عدو الله كعب بن الأشرف يكذبهما ويقول: إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها، قال أسامة بن زيد فأتانا الخبر حين سوّينا التراب على رقية بنت رسول الله، أي ولما عزي فيها رسول الله ﷺ قال «الحمد لله دفن البنات من المكرمات» وفي رواية «من المكرمات دفن البنات» ويعجبني قول الباخرزي :
القبر أخفى سترة للبنات ** ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله عز اسمه ** قد وضع النعش بجنب البنات
وجاء عثمان من رقية هذه بولد يقال له عبدالله فاكتنى به؛ وكان قبل ذلك يكنى أبا عمرو، وتزوج بعدها أختها أم كلثوم بوحي.
فقد روي «أنه رأى عثمان بن عفان مهموما بعد موت رقية ، فقال له: مالي أراك لهفانا مهموما، فقال له: يا رسول الله وهل دخل علي أحد ما دخل عليّ انقطع الصهر بيني وبينك، فبينما هو يحاوره إذ قال: هذا جبريل ﵇ يأمرني عن الله أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عشرتها، فزوجه إياها، ولما تزوجها دخل عليها رسول الله ﷺ فقال: يا بنية أين أبو عمرو؟ قالت: خرج لبعض حاجاته قال: كيف رأيت بعلك؟ قالت: يا أبت خير بعل وأفضله، فقال: يا بنية كيف لا يكون كذلك وهو أشبه الناس بجدك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأبيك محمد» وجاء «عثمان من أشبه أصحابي بي خلقا» وجاء عن ابن عباس قال رسول الله «قال لي جبريل ﵇: إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان» ولتزوجه ببنتي رسول الله ﷺ قيل له ذو النورين، ولم يجمع أحد منذ آدم إلى اليوم بين بنتي نبي غيره ، ومن ثم لما سأل رسول الله ﷺ عليا عنه قال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين.
ولما ماتت أم كلثوم تحته وذلك سنة تسع قال «زوجوا عثمان، لو كان لي ثالثة لزوجته إياها، وما زوجته إلا بوحي من الله» وجاء أنه قال له «لو أن لي أربعين بنتا زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة» وأم عثمان بنت عمته أروى بنت عبد المطلب، توأمة عبدالله أبي النبي.
قال: وقال رجل من المنافقين لأبي لبابة : قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده أبدا، قد قتل محمد وغالب أصحابه، وهذه ناقتة عليها زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الرعب، قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبي لبابة وسألته عما أسره له الرجل، فأخبرني بما أخبره، به، فقلت: أحق ما تقول، قال: أي والله حق ما أقول يا بني، فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق، فقلت: أنت المرجف برسول الله ﷺ لنقدمنك إلى رسول الله ﷺ إذا قدم فيضرب عنقك، فقال: إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه، انتهى. أي وهذا كان قبل أن يجتمع أسامة بأبيه زيد بن حارثة.
ثم أقبل رسول الله ﷺ راجعا إلى المدينة، فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل، أي الغنيمة، وكانت مائة وخمسين من الإبل، وعشرة أفراس ومتاعا وسلاحا وأنطاعا وثيابا وأدما كثيرا حمله المشركون للتجارة، ونادى منادي رسول الله «من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له» أي كما تقدم، ولعله تكرر ذلك منه مرتين: مرة للتحريض على القتال، ومرة عند القسمة، فالمقسوم ما بقي بعد إخراج السلب وإخراج الأسرى قسم على المسلمين بالسوية بعد الاختلاف فيه، فادّعى من قاتل العد وصده أنهم أحق به، وادعى من جمعه أنهم أحق به، وادعى من كان يحرس رسول الله ﷺ في العريش أن غيرهم ليس بأحق به منهم، أي لأن سعد بن معاذ قام على باب العريش الذي به وأبو بكر في نفر من الأنصار، وفي رواية عن عبادة بن الصامت «أن جماعة خرجت في أثر العدو وعند انهزامه، وجماعة أكبوا على جمع الغنيمة فجمعوها، وجماعة عند انهزام العدو أحدقوا به في العريش خوفا أن يصيب العدّ ومنه غرة ولعل هؤلاء كانوا زيادة عمن كان مع سعد بن معاذ على باب العريش؛ فادعى من أكب على جمعها أنهم أحق بها، وادعى من عداهم أن أولئك ليسوا بأحق بها منهم».
أي وكون جماعة أحدقوا به بعد انهزام العدوّ، قد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم عن ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون دنا رسول الله ﷺ في أثرهم بالسيف مصلتا يتلو هذه الآية {سيهزم الجمع ويولون الدبر} لجواز أن يكون خرج في أثرهم برهة من الزمان، ثم عاد إلى العريش فأحدق به هؤلاء مع من تقدم، فأنزل الله تعالى سورة الأنفال {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}.
فالنفل قد يطلق على الغنيمة كما هنا كما أشرنا إليه، وسماها الله تعالى أنفالا لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكذا الفيء المذكور في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير يطلق على الغنيمة وسمي فيئا لأن الله تعالى أفاءه على المؤمنين: أي رده عليهم من الكفار، فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فقد رد إليهم ما يستحقونه كما يعاد، ويرد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يقبضه قبل ذلك. ومنه قول بعضهم: كان أهل الفيء بمعزل عن أهل الصدقة، وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء، كان يعطي من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفيء أي إلى الغنيمة، وأخرج من الصدقة فنزعه الله من أيديهم، فجعله إلى رسول الله ﷺ: أي يضعه حيث شاء فدلت الآية على أن الغنيمة لرسول الله ﷺ خاصة ليس لأحد من المقاتلة شيء منها، ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} والأربعة أخماس الباقية للمقاتلة، أي فكان ذلك الخمس يخمس خمسة أخماس: واحد له يفعل فيه ما أحب، والأربعة من ذلك الخمس لمن ذكر في الآية، والأربعة الأخماس الباقية تكون للمقاتلة.
وسيأتي في سرية عبدالله بن جحش لنخلة «أنه خمس العير الذي جاء به عبدالله كذلك، فجعل خمس ذلك لله، وأربعة أخماسه للجيش» وقيل عبدالله هو الذي خمسها كذلك، وأقرّه على ذلك، وهي أول غنيمة في الإسلام وأوّل غنيمة خمست، فكان تخميسها قبل نزول الآية، لما علمت أن نزول تلك الآية كان بعد بدر فهي من الآيات التي تأخرت تلاوتها عن حكمها، قال بعضهم: وكان ابتداء تحليل الغنائم لهذه الأمة في وقعة بدر كما ثبت في الصحيحين، وذلك في قوله تعالى {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} فأحل الغنيمة لهم.
أقول: وفيه أن هذا قد يعين القول بأنه وقف غنائم نخلة حتى رجع من بدر، ويضعف ما سبق من أنه خمسها، أو أن عبدالله هو الذي خمسها قبل بدر، وأقرّه على ذلك، وقد علمت أن ما أصابه من بدر قسمة بين المسلمين سواء أي لم يتميز فيه أحد عن أحد، الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس سواء، وفيه تفضيل الفارس على الراجل في ذلك اليوم، وسيأتي التصريح بذلك، وهذا يؤيد القول بأن الجيش كان فيه خمسة أفراس أو فرسان، دون القول بأنه لم يكن فيه إلا فرس واحد على ما تقدم، حتى هو كان سهمه كسهم واحد منهم، أي كفارس منهم بناء على ما تقدم أنه كان له فرسان إلا ما اصطفاه وهو سيفه ذو الفقار كما سيأتي، وحينئذ يكون قول سعد بن أبي وقاص «يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يغيظهم مثل ما تعطي الضعيف» أراد بالفارس فيه القوى.
ففي مسند الإمام أحمد، قال سعد بن أبي وقاص «قلت: يا رسول الله الرجل يكون حاجته للقوم يكون سهمه وسهم غيره سواء، فقال رسول الله ﷺ ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم» وما في مسند الإمام أحمد يدل على أن مراد سعد بالفارس القوي لمقابلته في هذه الرواية بالضعيف، فلا ينافي أنه أعطى الفارس لفرسه سهمين وله سهم كالراجل.
وقد أسهم لمن لم يحضر، كمن أمره بالتخلف لعذر منعه من الحضور كعثمان بن عفان ، فإنه خلفه لأجل مرض زوجته رقية بنت النبي ﷺ كما تقدم، أو لما كان به من الجدري على ما تقدم، ولهذا عدّ من البدريين، وأبي لبابة لأنه خلفه على أهل المدينة، وعاصم بن عدي فإنه خلفه على أهل قباء والعالية، ولمن أرسله لكشف أمر العدوّ يتجسس خبره فلم يجيء إلا وقد انقضى القتال، وهما طلحة بن عبيدالله وسعيد ابن زيد كما تقدم، والحارث بن حاطب، أمره بما مر في بني عمرو بن عوف وخوات ابن جبير والحارث بن الصمة لأن كلا منهما كسر بالروحاء كما تقدم.
وبهذا يظهر التوقف في قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وضرب لعثمان يوم بدر بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره، رواه أبو داود عن ابن عمر قال الخطابي: هذا خاص بعثمان، لأنه كان يمرّض ابنة رسول الله ﷺ هذا كلامه.
وأسهم لأربعة عشر رجلا قتلوا ببدر، ولعلهم ماتوا بعد انقضاء الحرب، فلا يشكل على ما قاله فقهاؤنا أن من مات قبل انقضاء الحرب لا حق له.
وتنفل زيادة على سهمه سيفه ذا الفقار؛ أي وكان لمنبه بن الحجاج أي وقيل لابنه العاص قتل أيضا يوم بدر، وقيل كان لعمه نبيه، وفي كلام أبي العباس بن تيمية أنه كان لأبي جهل، أي ويمكن أن يكون ذلك السيف كان في الأصل لأبي جهل، ثم أعطاه لمنبه بن الحجاج أو لغيره ممن ذكر لا يقال أو بالعكس، لأن سيف أبي جهل أخذه ابن مسعود كما تقدم فلا مخالفة.
وتنفل أيضا جمل أبي جهل وكان مهريا، ولم يزل يغزو عليه حتى ساقه في هدي الحديبية كما سيأتي، وهذا الذي كان يأخذه زيادة على سهمه أي قبل قسمة الغنيمة إذا كان مع الجيش يقال له الصفي والصفية عبدا أو أمة أو دابة أو سيفا أو درعا، لكن في الإمتاع عن محمد بن أبي بكر الصديق «كان لرسول الله ﷺ صفي من المغنم حضر أو غاب» قال بعضهم: وهو محسوب من سهمه، وقيل يكون زائدا عليه، إلا أن يقال ذاك الذي وقع فيه الخلاف كان بعد نزوله آية التخميس، وهذا كان قبل ذلك، فلا يخالف ما سبق أن ما أخذه قبل القسمة كان زائدا على سهمه المساوي لسهام القوم، أي وكان في الجاهلية يقال للذي يأخذه الرئيس إذا غزا بالجيش المرباع وهو ربع الغنيمة، ولم يسمع مرباع إلا في الربع دون غيره من الخمس ومما بعده. والصفايا أشياء كان يصطفيها الرئيس لنفسه من خيار ما يغنم، والنشيطة: ما أصابه الجيش في طريقه قبل أن يصل إلى مقصده وكان للرئيس النقيعة أيضا، وهو بعير ينحره قبل القسمة فيطعمه الناس، كذا في شرح الحماسة للتبريزي.
قال: وقد سقط في الإسلام النقيعة والنشيطة، وأمر عليا كرم الله وجهه فقتل النضر بن الحارث بالصفراء.
أي وفي الإمتاع «أنه نظر إلى النضر وهو أسير، فقال النضر لليسير الذي بجانبه: محمد والله قاتلي، فإنه نظر إليّ بعينين فيهما الموت، فقال له: والله ما هذا منك إلا رعب، وقال النضر لمصعب بن عمير : يا مصعب أنت أقرب من هذا إليّ رحما فكلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي يعني المأسورين، هو والله قاتلي، فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه.
وفي أسباب النزول للسيوطي وأقره، وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال له رسول الله ﷺ: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، وقد رثته أخته، وقيل بنته فإنها أسلمت بعد ذلك يوم الفتح فقالت من أبيات:
- أمحمد يا خير ضنء كريمة * والذي رأيته في الحماسة:
أمحمد ولأنت ضنء نجيبة ** في قومها والفحل فحل معرق
أي له عرق في الكرم، والضنء: الولد
ما كان ضرك لو مننت وربما ** منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
وحين سمع ذلك رسول الله ﷺ بكى حتى أخضل أي بلّ لحيته، وقال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه، أي لقبول شفاعتها عندي بهذا الشعر، وليس معناه الندم، لأنه لا يفعل إلا حقا.
أي وكان للنضر هذا أخ يقال له النضير بالتصغير وكان أسنّ المهاجرين، وقيل كان من مسلمة الفتح، وربما يدل له أنه أمر له بمائة بعير من غنائم حنين، فجاءه شخص يبشره بذلك، فقال: لا آخذها، فإني أحسب أن رسول الله ﷺ لم يعطني ذلك إلا تألفا على الإسلام وما أريد أن أرتشي على الإسلام، فقيل له إنها عطية رسول الله ﷺ فقبلها، وأعطى المبشر منها عشرة أبعرة.
ثم قتل عقبة بن أبي معيط بعرق الظبية بضم الظاء المعجمة وهي شجرة يستظل بها، قال وحين قدم للقتل: من للصبية يا محمد؟ ، قال النار.
وجاء عن عباس «أن عقبة لما قدم للقتل نادى: يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا فقال له النبي ﷺ: بكفرك وافترائك على رسول الله » أي وفي لفظ «ببزاقك في وجهي» أي فإن عقبة كان يكثر مجالسته واتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله ﷺ فأبى رسول الله ﷺ أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبيّ بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت يا عقبة، قال لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه، فشهدت له الشهادة وليست في نفسي، فقال وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل به ذلك، فقال له رسول الله «لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف» كذا في الكشاف، وفي لفظ آخر «بكفرك، وفجورك، وعتوّك على الله ورسوله، وأنزل الله فيه {ويوم يعضّ الظالم على يديه} الآية».
وذكر ابن قتيبة «أنه لما أمر بقتل عقبة، أي وقد قال: يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم! أي وأنا واحد منكم، قال له: يا محمد ناشدتك الله والرحم فقال له رسول الله ﷺ: هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية» وفي رواية «قال له: إنما أنت يهودي من أهل صفورية» أي فليس هو من قريش: أي لا رحم بيني وبينك: أي لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام لما نافر عمه هاشم كما تقدم فأقام بصفورية ووقع على أمة يهودية ولها زوج يهودي من أهل صفورية فولدت له أبا عمرو الذي هو والد أبي معيط على فراش اليهودي فاستلحقه بحكم الجاهلية، ثم قدم به مكة وكناه بأبي عمرو وسماه ذكوان مع أن الولد للفراش، وقيل كان عبدا لأمية فتبناه. فلما مات أمية خلفه على زوجته.
ويدل لهذا الثاني ما ذكره بعض المؤرخين أن معاوية سأل رجلا من علماء النسب وفد عليه: كم عمرك؟ قال أربعون ومائتا سنة قال: كيف رأيت الزمان؟ فقال سنيات بلاء، وسنيات رخاء، يهلك والد، ويخلف مولود، فلولا الهالك لامتلأت الدنيا، ولولا المولود لم يبق أحد، فقال له: هل رأيت عبد المطلب؟ قال نعم، أدركته شيخا وسيما منسما جسيما، يحف به عشرة من بنيه كأنهم النجوم، فقال له: هل رأيت أمية بن عبد شمس؟ يعني جده، قال نعم: رأيته أخفش أزرق ذميما، يقوده عبده ذكوان، فقال: ويحك كف، فقد جاء غير ما ذكرت ذاك ابنه. فقال: أنتم تقولون ذلك.
والقاتل لعقبة عاصم بن ثابت، وقيل علي ، أي وقيل صلب على الشجرة.
أقول: قال محمد بن حبيب الهاشمي: هو أول مصلوب في الإسلام، ورده ابن ابن الجوزي بأن أول من صلب في الإسلام خبيب بن عدي.
وقد يقال: لا مخالفة، لأن المراد بالثاني، أول مصلوب من المسلمين، وبالأول أول مصلوب من الكفار.
وذكر أن أول من استعمل الصلب فرعون، ولعل المراد به فرعون موسى بن عمران لا فرعون إبراهيم الخليل وهو أول الفراعنة، ولا فرعون يوسف بن يعقوب وهو ثاني الفراعنة، وفي قول إن فرعون يوسف هذا هو فرعون موسى بمعنى أنه بقي إلى زمن موسى ﵇ط، وكان هلاكه على يده.
وفي كلام ابن قتيبة عن سعيد بن جبير ضم طعيمة بن عدي إلى عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، أي لأنه ممن قتل معهما صبرا، وفيه نظر، فقد تقدم أن القاتل له حمزة في الحرب وسيأتي في أحد أن قتل حمزة كان سبب قتله لطعيمة المذكور.
ثم سار رسول الله ﷺ حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم. أي وروي عن ابن عباس أنه قال: «لما قدمت إلى المدينة وكنت جائعا استقبلتني امرأة يهودية على رأسها جفنة فيها جدي مشوي، فقالت: الحمد لله يا محمد الذي سلمك كنت نذرت لله إن قدمت المدينة سالما لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكل منه، فأنطق الله الجدي فقال: يا محمد لا تأكلني فإني مسموم» أي بخلاف ما وقع له في خبير، فإنه لم يخبره الذراع بذلك إلا بعد أكله منه كما سيأتي، وسيأتي أنه سأل المرأة عن سبب ذلك وهنا لم يسألها.
ولما قدم أي قاربها خرج المسلمون للقائه وتهنتئه بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء، أي وقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنونا به، فوالله إن لقينا أي ما لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقولة فنحرناها فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «أولئك الملأ من قريش» أي الأشراف والرؤساء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة بالدفوف والولائد جمع وليدة: وهي الصبية والأمة وتلك الولائد يقلن:
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
وتلقاه أسيد بن الحضير، فقال: الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك.
«ولما أقبلوا من بدر فقدوا رسول الله ﷺ فوقفوا، بجاء رسول الله ﷺ ومعه عليّ، فقالوا: يا رسول الله فقدناك، فقال إن أبا الحسن وجد مغصا في بطنه فتخلفت عليه، ثم لما قدمت الأسارى فرّقهم بين الصحابة وقال: استوصوا بهم خيرا».
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش ابن عبد عمرو فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم وأمية وفلان وفلان من أشراف قريش، أي وأسر فلان وفلان فقال صفوان بن أمية وكان يقال له سيد البطحاء، وكان من أفصح قريش لسانا، وكان جالسا في الحجر: والله إن يعقل أي ما يعقل هذا سلوه عني، فسألوه، أي قالوا: ما فعل صفوان، فقال: هو ذاك الجالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وعن عكرمة مولى ابن عباس قال «قال أبو رافع مولى رسول الله ﷺ: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب» أي ثم وهبه العباس له وسيأتي الكلام عليه في السرايا، وكان العباس أسلم وأسلمت زوجته: أي أم الفضل، قيل إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة كما تقدم، وهي أم أولاده، وهم: عبدالله؛ وعبيدالله، وعبد الرحمن، والفضل، وقثم، ومعبد، وأمّ حبيب.
قيل رآها وهي تدب بين يديه فقال: إن بلغت وأنا حي تزوجتها فقبض قبل أن تبلغ قال ابن الجوزي: فليس في الصحابيات من كنيتها أم الفضل إلا زوج العباس، قال أبو رافع: وأسلمت أنا وكنا نكتم الإسلام أي لأن العباس كان يكره خلاف قومه، لأنه كان ذا مال كثير وأكثره متفرق فيهم، أي وسيأتي الجواب عن كونه أسر وأخذ منه الفداء مع كونه مسلما، وسيأتي أنه لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح.
فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر سرّنا ذلك، فوالله إني لجالس إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشر حتى جلس عندنا، فبينا هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحارث وكان مع قريش في بدر، فقال له أبو لهب: هلمّ إلي عندك الخبر، فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم والله ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فقلت والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة وثاورته: أي وأثبته: أي قام كل للآخر فاحتملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود وضربته به ضربة في رأسه أثرت شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب سيده، تعني العباس، فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رمي بالعدسة: أي ما عاش صحيحا قبل أن يرمى بالعدسة إلا سبع ليال: أي وهي بثرة تشبه العدسة من جنس الطاعون، قتلته، فلم يحفروا له حفيرة ولكن أسندوه إلى الحائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه، أي لأن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه حتى أنتن، فلما خافوا السبة: أي سب الناس لهم في تركه فعلوا به ما ذكر.
وفي رواية: حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفيرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. وعن عائشة «أنها كانت إذ مرت بموضعه، ذلك غطت وجهها».
أقول: قال في النور: وهذا القبر الذي يرجم خارج باب شبيكة، أي الآن ليس بقبر أبي لهب، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة، وذلك في دولة بني العباس، فإن الناس أصبحوا وجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة فرصدوا للفاعل فمسكوهما بعد أيام، فصلبا في ذلك الموضع، فصار يرجمان إلى الآن، والله أعلم.
فلما ظهر الخبر ناحت قريش على قتلاهم أي شهرا، وجزّ النساء شعورهن، وكنّ يأتين بفرس الرجل أو راحلته وتستر بالستور وينحن حولها ويخرجن إلى الأزقة، ثم أشير عليهم أن لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا نبكي قتلانا حتى نأخذ بثأرهم، وتواصوا على ذلك، وكان الأسود بن زمعة بن المطلب أصيب له في بدر ثلاثة، ولداه وولد ولده، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان قد ذهب بصره أي بدعوة النبي ﷺ عليه بذلك، لأنه كما تقدم كان من المستهزئين بالنبي ﷺ وأصحابه، إذا رآهم يقول: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على ملك كسرى وقيصر، ويكلم رسول الله ﷺ بما يشق عليه، فدعا عليه رسول الله ﷺ بالعمى، وتقدم ذلك؛ وتقدم سبب عماه.
وفي كلام بعضهم كان دعا على الأسود هذا بأن يعمي الله تعالى بصره ويثكل ولده فاستجاب الله تعالى له سبق العمى إلى بصره أولا، ثم أصيب يوم بدر بمن نعاه من ولده أي وهو زمعة وهو أحد الثلاثة الذين كان يقال لكل واحد منهم زاد الراكب كما تقدم، وأخوه عقيل والحارث فإنهما قتلا كافرين ببدر، فتمت إجابة الله تعالى لرسول الله ﷺ فإذا به قد سمع صوت باكية بالليل، فقال لغلامه انظر هل أحل النحب: أي البكاء، هل بكت قريش على قتلاهم لعلي أبكي، فإن جوفي قد احترق، فلما رجع الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فأنشد من أبيات
أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود
والسهود بضم السين المهملة: عدم النوم. والبكر: الفتى من الإبل. والجدود: بضم الجيم جمع جد بفتحها، وهو الحظ والسعد، وبعد هذين البيتين بيت آخر وهو:
ألا قد ساد بعدهمو رجال ** ولولا يوم بدر لم يسودوا
يعرض بأبي سفيان فإنه رأس قريش. قال: وقد جاء في بعض الروايات اختلاف الصحابة فيما يفعل بالأسرى لما قال لهم رسول الله ﷺ: ما ترون في هؤلاء الأسرى إن الله قد مكنكم منهم؟ أي وقد يخالف هذا ما سبق من قوله إن من أسر أسيرا فهو له.
وقد يقال: لا مخالفة لأن معنى كونه له أنه مخير فيه بين قتله وأخذ فدائه، ولعله لا يخالف ما تقدم أنه. لما أراد قتل النضر قال المقداد وكان أسره: يا رسول الله أسيري، فقال له إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول وفي رواية «استشار أبا بكر وعمر وعليا» أي وفي رواية «أبا بكر وعمر وعبدالله بن جحش فيما هو الأصلح من الأمرين القتل وأخذ الفداء؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله أهلك وقومك» وفي رواية «هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك فيكونون لنا عضدا، فقال رسول الله ﷺ: ما تقول يا ابن الخطاب؟ قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما أرى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب» وفي لفظ «نسيب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه أي العباس فيضرب عنقه، حتى يعلم أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم» أي وقال ابن رواحة «أنظروا واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس وهو يسمع: ثكلتك رحمك، فدخل رسول الله ﷺ أي ولم يرد عليهم، فقال بعض الناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال بعض الناس يأخذ بقول ابن رواحة، ولم يقل قائل يأخذ بقول عمر، ثم خرج رسول الله ﷺ فقال: إن الله ليلين قلوب أقوام
فيه حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدنّ قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة« لعله لا ينزل إلا بالرحمة، فلا ينافي أن جبريل ينزل بالرحمة في بعض الأحايين كما تقدم قريبا، ومن ثم جاء في الحديث «أرأف أمتي بأمتي أبو بكر» «ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم حيث يقول {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم}، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ابن مريم إذ قال {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}».
قيل إن قوله {فإنك أنت العزيز الحكيم} من مشكلات الفواصل، إذ كان مقتضى الظاهر فإنك أنت الغفور الرحيم.
ورد بأن العزيز الذي لا يغلبه أحد ولا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه. والحكيم: هو الذي يضع الشيء في محله.
«ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل، نزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى» أي أغلب أحوالك ذلك، فلا ينافي أنه ينزل بالرحمة في بعض الأوقات كما تقدم «ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} ومثلك في الأنبياء مثل موسى إذ قال {ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}».
قال الجلاد السيوطي في الخصائص الصغرى: ومن خصائصه أن من أصحابه من يشبه بجبريل وبإبراهيم وبنوح وبموسى وبعيسى وبيوسف وبلقمان الحكيم وبصاحب يس? هذا كلامه.
وقد علمت أن أبا بكر شبه بميكائيل ولم يذكر ميكائيل، ولينظر من شبه من أصحابه بيوسف، ثم رأيتني ذكرت فيما تقدم قريبا أنه عثمان بن عفان ، ولينظر من شبه من أصحابه بلقمان الحكيم وبصاحب يس.
ثم قال لأبي بكر وعمر: «لو توافقتما ما خالفتكما، فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق».
وقد وقع له أنه قال مثل ذلك لهما. وقد اختلفا في تولية شخصين أراد تولية أحدهما على بني تميم، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمل فلانا، وقال عمر: يا رسول استعمل فلانا، فقال رسول الله ﷺ: أما إنكما لو اجتمعتما لأخذت برأيكما ولكنكما اختلفتما عليّ أحيانا، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} الآية؛ واستدل بقوله مثلك يا أبا بكر الخ على جواز ضرب المثل من القرآن، وهو جائز في غير المزح ولغو الحديث وإلا كره، ونسبة الاختلاف في أسارى بدر لأبي بكر وعمر لا تخالف ما سبق من نسبته إلى الصحابة ، لأنه يجوز أن يكونا هما المرادين بالصحابة؛ وعدم ذكر عليّ مع إدخاله في الاستشارة وكذا عبدالله بن جحش على ما تقدم، لأنه يجوز أن يكون وافق أحدهما، أي فقد ذكر ابن رواحة مع عدم إدخاله في الاستشارة.
وفي كلام الإمام أحمد «استشار رسول الله ﷺ الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: إن الله قد مكنكم منهم، قال: فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي، ثم عاد فقال: يا أيها الناس إن الله قد مكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه، ثم عاد فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله ﷺ ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل الفداء، فلما كان الغد غدا عمر إلى رسول الله ﷺ فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال يا رسول الله: ما يبكيكما؟ » وفي لفظ «ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله ﷺ: إن كاد لمَسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب».
وفي مسلم والترمذي عن ابن عباس «أنه قال لعمر بن الخطاب : أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء» أي للعذاب الذي كاد أن يقع على أصحابك لأجل أخذهم الفداء: أي إرادة أخذه «لقد عرض عليّ عقابهم أدنى» أي أقرب «من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه «وأنزل الله تعالى {ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} الآيات».
أقول: قال بعضهم: في هذه الآيات دليل على أنه يجوز الاجتهاد للأنبياء، لأن العتاب الذي في الآيات لا يكون فيما صدر عن وحي ولا يكون فيما كان صوابا، وإذا أخطؤوا لا يتركون عليه بل ينبهون على الصواب.
وأجاب ابن السبكي بأن ذلك من خصائصه، أي ما كان هذا لنبي غيرك ولا يخفى عليك ما فيه.
وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير نبينا يجوز أن يقروا على الخطأ لأن من بعد من يخطىء منهم يبين خطأه بخلاف نبينا لا نبي بعده يبين خطأه فلا يقر على الخطأ. وفيه أن بعد نبينا عيسى أنه يوحى إليه.
ونظر بعضهم في وقوع الخطأ من الأنبياء واستمرارهم عليه بأنه غير لائق بمنصب النبوة، لأن وجود من يستدرك الخطأ لا يدفع مقتضيه.
وفيه جواز وقوع الخطأ والعمل به قبل مجيء الاستدراك، وتقدم جواز الاجتهاد له مطلقا لا في خصوص الحرب، واستثناء عمر ربما يفيد أن جميع الصحابة وافقوا أبا بكر على أخذ الفداء، وخالفوا عمر مع أنه تقدم قريبا أن سعد بن معاذ كره ذلك قبل عمر، فقد تقدم أن المسلمين لما وضعوا أيديهم يأسرون رأى رسول الله ﷺ إلى سعد بن معاذ فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم. فقال له رسول الله ﷺ لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، ومن ثم قال «لو نزل عذاب لم يفلت منه إلا ابن الخطاب وسعد بن معاذ» كما سيأتي. وفيه أن ابن رواحة كرهه بل أشار باحراقهم بالنار.
وفي الأصل «أن جبريل نزل على النبي ﷺ في أسارى بدر فقال: إن شئتم أخذتم منهم الفداء ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، فنادى منادي النبي ﷺ في أصحابه فجاؤوا أو من جاء منهم أي وهم المعظم فقال: إن هذا جبريل يخبركم بين أن تقدموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدتهم، فقالوا بل نفاديهم فنتقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون وفي لفظ ويستشهد منا عدتهم. فليس في ذلك ما نكره وهو كما ترى، يدل على أن الصحابة وافقوا أبا بكر على أخذ الفداء، ولعل هذا الإخبار بالتخيير كان بعد الإستشارة التي تكلم فيها أبو بكر وعمر، وأن بكاءه كان بعد هذه الاستشارة الثانية، وقول صاحب الهدى بكاؤه وبكاء الصديق رحمة وخشية أن العذاب يعم ولا يصيب من أراد ذلك خاصة يفيد أن الذي أشار بأخذ الفداء طائفة من الصحابة لا كلهم.
أقول: وفيه أن هذا يشكل عليه قوله «لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب أو إلا ابن الخطاب، وسعد بن معاذ» فإن فيه تصريحا بأن العذاب لو وقع لا يعم وأنه لا يصيب إلا من أشار بالفداء. وفيه أن من أشار بالفداء غاية الأمر أنهم اختاروا غير الأصلح من الأمرين، واختيار غير الأصلح لا يقتضي العذاب، على أن حل أخذ الفداء علم من واقعة عبدالله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي، فإنه أسر فيها عثمان بن المغيرة والحكم بن كيسان ولم ينكره الله تعالى، وذلك قبل بدر بأزيد من عام؛ إلا أن يقال أراد الله تعالى تعظيم أمر بدر لكثرة الأسارى فيها مع شدة تصلبهم في مقاتلته. وفي المواهب كلام في الآية المذكورة يتأمل فيه.
ورأيت فيها عن ابن عباس «لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أقدم إليه الحجة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم».
وعن الأعمش سبق منه أنه لا يعذب أحدا شهد بدرا، ومن ثم جاء كما يأتي «أن رجلا قال: يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم» والله أعلم، ولا ينافي قتل سبعين منهم في قابل: أي في أحد كون بعض الأسارى في بدر مات في الأسر ولم يؤخذ فداؤه، وهو مالك بن عبيدالله أخو طلحة بن عبيدالله، وكون بعضهم أطلق من غير أخذ فداء، لأن المنكر عدم قتل أولئك السبعين الذي أسروا.
قال بعضهم: اتفق أهل العلم بالسير على أن المخاطبين بقوله تعالى {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها} هم أهل أحد: أي قد أصبتم يوم بدر مثلى من استشهد منكم يوم أحد سبعين قتيلا وسبعين أسيرا، والله أعلم.
وتواصت قريش على أن لا يعجلوا في طلب فداء الأسرى لئلاء يتغالى محمد وأصحابه في الفداء، فلم يلتفت لذلك المطلب بن أبي وداعة السهمي، بل خرج من الليل خفية وقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، وقد كان قال لأصحابه لما رأى أبا وداعة أسيرا: إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه، أي فكان أول أسير فدي، واسم أبي وداعة الحارث وذكر في الصحابة. قال الزبير بن كبار: زعموا أنه كان شريكا للنبي بمكة.
أي والمشهور أن شريكه إنما هو السائب بن أبي السائب الذي قال في حقه، وقد أسلم يوم الفتح وقد جعل الناس يثنون عليه «أنا أعلمكم به هذا شريكي نعم الشرك كان لا يداري، ولا يماري» وفي رواية أنه لما قال «أنا أعلمكم به قال: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكك فنعم الشريك، لا تداري ولا تماري» وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى، وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف، ومن لم يكن معه فداء أي وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة، فإذا تعلموا كان ذلك فداءه.
وجاء جبير بن مطعم وهو كافر: أي إلى المدينة يسأل النبي ﷺ: في أسارى بدر فقال له «لو كان شيخك أو الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه» وفي رواية «لو كان مطعم حيا وكلمني في هؤلاء النفر» وفي رواية «في هؤلاء النتنى لتركتهم له» لأن المطعم كان أجار النبي ﷺ لما قدم من الطائف، وكان ممن سعى في نقض الصحيفة كما تقدم ذلك.
وكان من جملة الأسارى عمرو بن أبي سفيان بن حرب أخو معاوية: أي أسره عليّ بن أبي طالب فقيل لأبي سفيان افد عمرا ابنك، قال: أيجمع عليّ دمي ومالي، قتلوا حنظلة يعني ابنه، وهو شقيق أم حبيبة أم المؤمنين ، وأفدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم، فبينما أبو سفيان إذ وجد سعد بن النعمان أخا نبي عمرو بن عوف أي قد وفد من المدينة معتمرا فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو، فمضى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله ﷺ فأخبروه خبر سعد بن النعمان، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكون به صاحبهم، ففعل رسول الله ﷺ فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد أي ولم يذكر عمرو هذا فيمن أسلم من الأسارى، والظاهر أنه مات على شركه.
وكان في الأسارى زوج بنت النبي ﷺ زينب ، وهو أبو العاص بن الربيّع بكسر الموحدة وتشديد الياء مفتوحة. قال في الأصل: ختن رسول الله، أي بناء على ما تقوله العامة أن ختن الرجل زوج ابنته والمعروف لغة أن ختن الرجل أقارب زوجته مثل أبيها وأخيها، ومع ذلك لا ينبغي أن يقال في حق رسول الله ﷺ ختن أبي العاص ولا ختن عليّ لإيهامه النقص.
وفي حفظي أن عند المالكية من قال عنه يتيم أبي طالب وختن حيدرة كان مرتدا. وفي عبارة أو بدل الواو، ورواية أو مبينة للمراد من رواية الواو وأن ما أفهمته من اعتبار الجمعية ليس مرادا، وحيدرة: اسم عليّ ، وأبو العاص أسلم بعد ذلك كما سيأتي، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أمّ المؤمنين وأبو ولدها عليّ الذي أردفه خلفه يوم فتح مكة، ومات مراهقا وأبو بنتها أمامة التي كان يحملها في الصلاة، أي وكان يحبها حبا شديدا.
فعن عائشة «أن رسول الله ﷺ أهديت له هدية فيها قلادة من جذع، فقال: لأدفعنها إلى أحب أهلي إليّ، فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة فدعا رسول الله ﷺ أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها» وتزوجها عليّ بعد موت خالتها فاطمة بوصية من فاطمة، زوجها له الزبير بن العوام، وكان أبوها أوصى بها إلى الزبير، ومات عنها فتزوجها المغيرة بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب فماتت عنده، وكان تزويجها للمغيرة بوصية من عليّ ، فإنه لما حضرته الوفاة قال لها: إني لا آمن أن يخطبك معاوية، وفي لفظ هذا الطاغية بعد موتي، فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرا، فلما انقضت عدّتها أرسل معاوية إلى مروان أن يخطبها عليه ويبذل لها مائة ألف دينار، فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة نوفل: إن هذا الرجل أرسل يخطبني، فإن كان لك حاجة فيّ فأقبل، فجاء وخطبها من الحسن بن علي، أي فزوجها منه.
أي ولا يخالف ما تقدم أن المزوج لها الزبير بن العوام، لأنه يجوز أن يكون الحسن كان هو السبب في تزويج الزبير لها فبعثت زينب في فداء زوجها أبي العاص قلادة لها كانت أمها خديجة أدخلتها بها عليه حين بنى بها أي والجائي بها أخوه عمرو بن الربيع، ولا يعلم لعمرو هذا إسلام «فلما رأى تلك القلادة رسول الله ﷺ رق لها رقة شديدة، وقال للصحابة: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها فافعلوا، قالوا نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها القلادة، وشرط عليه رسول الله ﷺ أن يخلي سبيل زينب» أي أن تهاجر إلى المدينة.
أي وقد كان كفار قريش مشوا إليه أن يطلق زينب بنت رسول الله ﷺ كما طلق ولدا أبي لهب بنتي النبي ﷺ قبل الدخول بهما رقية وأمّ كلثوم كما تقدم، وقالوا له: نزوجك أيّ امرأة من قريش شئت، فأبى ذلك، وقال: والله لا أفارق صاحبتي، وما أحبّ أن لي بها امرأة من قريش، فشكر له رسول الله ﷺ ذلك وأثنى عليه بذلك خيرا، فلما وصل أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت.
وقد كان أرسل زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار قال لهما: تكونان بمحل كذا لمحل قريب من مكة حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها.
أي وذكر أن حماها كنانة بن الربيع أخا زوجها قدم لها بعيرا فركبته واتخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقودها في هودج لها وكانت حاملا، فتحدث بذلك رجال من قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار ابن الأسود ، فإنه أسلم بعد ذلك، ونخس البعير بالرمح فوقعت وألقت حملها.
وفي رواية أنه سبق إليها هبار ورجل آخر يقال له نافع، وقيل خالد بن عبد قيس. ثم إن كنانة برك ونثر كنانته وأخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما، فجاء إليه أبو سفيان في رجال من قريش، وقال له: كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف، ثم قال له: إنك لم تصب في فعلك، فإنك خرجت بالمرأة جهارا على رؤوس الأشهاد وقد عرفت مصيبتنا التي كانت وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت زينب علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك من ذلّ أصابنا، وأن ذلك منا من ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بها حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسر بها سرا فألحقها بأبيها ففعل، وأقامت ليالي ثم خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه.
وفي رواية «أنه قال لزيد بن حارثة: ألا تنطلق فتجيء بزينب؟ قال بلى يا رسول الله، قال فخذ خاتمي فأعطها فانطلق زيد، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا، فقال: لمن ترعى؟ قال لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم؟ قال لزينب بنت محمد، فتكلم معه، ثم قال له: هل إن أعطيتك شيئا تعطها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال نعم، فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي إلى زينب وأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل، قالت: فأين تركته؟ قال بمكان كذا وكذا، فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاءته قال لها زيد: اركبي بين يديّ على بعيري: قالت لا، ولكن اركب أنت بين يدي، فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة وذلك بعد شهرين من بدر. وكان يقول زينب أفضل بناتي أصيبت بي» أي بسببي.
ومن العجب أن هذه العبارة ساقها الإمام سراج الدين البلقيني في فتاويه في حق فاطمة حيث قال: وقد روى البزار في مسنده من طريق عائشة «أن النبي ﷺ قال لفاطمة: هي خير بناتي، لأنها أصيبت فيّ» هذا كلامه، ولينظر ما الذي أصيبت فاطمة بسببه. وقد يقال إصابتها بسبب موته في حياتها.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر أجاب بذلك حيث قال لأنها رزئت بأبيها فكان في صحيفتها أي فهو من أعلام نبوته، أو أن قوله في زينب ما ذكر كان قبل ما وهب الله لفاطمة من الكمالات.
وقد سئل الإمام البلقيني هل بقية بناته، أي بعد فاطمة سواء في الفضل أو يفضل بعضهنّ على بعض ولم يجب عن ذلك، ولا مخالفة بين خروج زينب إلى زيد وخروج حميها بها إلى زيد. وبهذا: أي بتأخر هجرة زينب يظهر التوقف في قول ابن إسحاق أما بناته فكلهنّ أدركن الإسلام وأسلمن وهاجرن معه، إلا أن يقال المراد اشتركن معه في الهجرة، وتقدم ما في قوله وأسلمن، وكون الجائي في فداء أبي العاص أخوه عمرو يخالف ما جاء «أن زينب بنت رسول الله ﷺ أرسلت في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة» الحديث ولعلها تصحيف، وأن الأصل بعثت في فداء أبي العاص أخاه عمرو بن الربيع، ويدل لذلك أنه قال في هذه الرواية «إن رأيتم أن تردوا لها أسيرها فأطلقوه» ولم يقل أسيريها، وكان في الأسارى سهيل بن عمرو العامري.
وتقدم أنه كان من أشراف قريش وخطبائها، فقد سئل سعد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية، فقال الأسود بن المطلب وسهيل بن عمرو، وسئل عن خطبائهم في الإسلام، فقال معاوية بن أبي سفيان وابنه يعني يزيد وسعيد بن العاص وابنه يعني عمرو ابن سعيد وعبدالله بن الزبير.
ولعل هذا لا يخالف ما تقدم من قول الأصمعي: الخطباء من بني مروان، عتبة ابن أبي سفيان أخو معاوية، وعبد الملك بن مروان: ومما يؤثر عن عتبة: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم كما تقدم. وقال عمر لرسول الله ﷺ: دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع أي بالدال والعين المهملتين يخرج لسانه، أي لأنه كان أعلم، والأعلم إذا نزعت ثنيتاه لم يستطع الكلام فلا يقم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال له رسول الله ﷺ: لا أمثل به فيمثل الله تعالى بي. وإن كنت نبيا، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه فكان كذلك: فإنه لما مات رسول الله ﷺ أراد أكثر أهل مكة الرجوع عن الإسلام حتى خافهم أمير مكة عتاب بن أسيد وتوارى، فقام سهيل بن عمرو خطيبا، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله، وقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ألم تعلموا أن الله قال {إنك ميت وإنهم ميتون} وقال {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} الآيات، وتلا آيات أخر، ثم قال: والله إني أعلم أن هذا سيمتد امتداد الشمس في طلوعها وغروبها فلا يغرنكم هذا من أنفسكم: يعني أبا سفيان، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره ومقوّ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم يعني أبا بكر وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به.
وعند ذلك ظهر عتاب بن أسيد ، وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل، فلما ذكر قدرا أرضاهم به قالوا له هات، فقال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا، وكان في الأسارى الوليد بن الوليد أخو خالد بن الوليد، أفتكه أخواه هشام وخالد، فلما افتدي أسلم، فعاتبوه في ذلك، فقال كرهت أن يظن بي أني جزعت من الأسر، ولما أسلم وأراد الهجرة حبسه أخواه، وكان النبي ﷺ يدعو له في القنوت كما تقدم، ثم أفلت ولحق بالنبي ﷺ في عمرة القضاء كما سيأتي أي وكان في الأسارى السائب وهو الأب الخامس لإمامنا الشافعي ، وكان صاحب راية بني هاشم في ذلك اليوم: أي التي يقال لها في الحرب العقاب، ويقال لها راية الرؤساء، ولا يحملها في الحرب إلا رئيس القوم، وكانت لأبي سفيان أو لرئيس مثله، ولغيبة أبي سفيان في العير حملها السائب لشرفه، وفدى نفسه.
وأما أبوه الرابع الذي هو شافع الذي ينسب إليه إمامنا الشافعي الذي هو ولد السائب لقي النبي ﷺ وهو مترعرع فأسلم، وكان في الأسارى وهب بن عمير فإنه أسلم بعد ذلك، وأسره رفاعة بن رافع وكان أبوه عمير شيطانا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله ﷺ وأصحابه بمكة فإنه أسلم بعد ذلك فجلس يوما مع صفوان بن أمية فإنه أسلم بعد ذلك، وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان ما في العيش والله خير بعدهم، فقال عمير والله صدقت، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي كنت آتي محمدا حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم، فاغنتمها صفوان، وقال له عليّ دينك أنا أقضيه عنك؛ وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، قال عمير فاكتم عني شأني وشأنك، قال افعل ثم إن عميرا أخذ سيفه وشحذه، بالمعجمة: أي سنه وسمه: أي جعل فيه السم، ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر إذ نظر إلى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدوّ الله عمير ما جاء إلا بشر، فدخل عمر على رسول الله ﷺ فقال: يا نبي الله، هذا عدوّ الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله عليّ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، والحمالة بكسر الحاء المهملة: العلاقة فمسكه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار ادخلوا على رسول الله ﷺ فاجلسوا عنده، فإن هذا الخبيث غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه رسول الله ﷺ آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال عمير: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم. فقال رسول الله ﷺ: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك يا عمير، فقال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم يعني ولده وهبا فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف، قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا، قال: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش. ثم قلت لولا دين عليّ وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لا أعلم ما أتاك به إلا الله تعالى، فالحمد الله الذي هدانا للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله ﷺ فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا ذلك، ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على اطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، فأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، فأذن له رسول الله ﷺ فلحق بمكة وأسلم ولده وهب .
وكان صفوان حين خرج عمير يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا وأن لا ينفعه بنفع أبدا.
أي ولما قدم عمير لم يبدأ بصفوان، بل بدأ ببيته وأظهر الإسلام ودعا إليه، فبلغ ذلك صفوان، فقال: قد عرفت حيث لم يبدأ بي قبل منزله أنه قد نكس وصبأ، ولا أكلمه أبدا. ولا أنفعه ولا عياله بنافعة.
ثم إن عميرا وقف على صفوان وناداه: أنت سيد من سادتنا، رأيت الذي كنا عليه من عبادة الحجر والذبح له أهذا دين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فلم يجبه صفوان بكلمة، وعند فتح مكة هو الذي استأمنه لصفوان كما سيأتي.
وكان في الأسارى أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه قال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب فقال للذي أسرني: شدّ يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقلت له يا أخي هذه وصايتك بي، فبعثت أمه في فدائه أربعة آلاف درهم ففدته بها.
وكان في الأسارى العباس عم النبي، أي وقد شدوا وثاقه فأنّ فلم يأخذه نوم فقيل ما سهرك يا رسول الله؟ قال: لأنين العباس، فقام رجل وأرخى وثاقه، وفعل ذلك بالأسارى كلهم، والذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو، وكان ذميما أي بالمهملة: صغير الجثة والعباس جسيما طويلا فقيل للعباس : لو أخذته بكفك لوسعته كفك، فقال ما هو إن لقيته فظهر في عيني كالخدمة أي وهو جبل من جبال مكة، أي وأبو اليسر هذا هو الذي انتزع راية المشركين، وكنت بيد أبي عزيز بن عمير. قال: وفي رواية أن النبي ﷺ سأل كعبا وقال له: كيف أسرت العباس؟ قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه ملك كريم، أي وفي رواية «أن العباس لما قيل له ما تقدم قال: والله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أبلج من أحسن الناس وجها على فرس أبلق فما أراه في القوم، فقال الذي جاء به: والله أنا الذي أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم.
وفي الكشاف أن العباس عمّ رسول الله ﷺ لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طوالا، فكساه عبدالله بن أبيّ ابن سلول قميصه، وجعل فداء العباس أربعمائة أوقية. وفي رواية مائة أوقية. وفي رواية أربعين أوقية من ذهب. وفي رواية جعل على العباس أيضا فداء عقيل ابن أخيه ثمانين أوقية، أي وجعل عليه فداء ابن أخيه نوفل بن الحارث.
وفي رواية «أنه قال له: افد نفسك يا عباس وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ابني عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية» وسيأتي ما يدل على أنه إنما فدى نفسه وابن أخيه عقيل فقط، وقال للنبي «تركتني فقير قريش ما بقيت» وفي لفظ «تركتني أسأل الناس في كفي، فقال له رسول الله ﷺ: فأين المال الذي دفعته لأم الفضل؟ يعني زوجته وقلت لها إن أصبت فهذا لبني الفضل وعبدالله وقثم» وفي كلام ابن قتيبة «فللفضل كذا، ولعبدالله كذا، وقثم كذا، فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل» زاد في رواية «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله».
وفي رواية «أن العباس قال للنبي: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت فقال له: كيف تكون فقير قريش، وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل، وقلت لها إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت».
وفي رواية «أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقال: أشهد أن الذي تقوله قد كان، وما اطلع عليه إلا الله» وتقدم عن أبي رافع مولى العباس أن العباس وزوجته أم الفضل كانا مسلمين، بل تقدم أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة ، وكانا يكتمان إسلامهما، وأن أبا رافع كان كذلك.
ومما يؤيد إسلام العباس أنه جاء في بعض الروايات «أن العباس قال: علام يأخذ منا الفداء وكنا مسلمين؟ أي وفي رواية: كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني، فقال له النبي ﷺ: الله أعلم بما تقول إن يك حقا فإن الله يجزيك؛ ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا. وقد أنزل الله تعالى {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا} أي إيمانا {يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} أي من الفداء الآيات، فعند ذلك: أي عند نزول الآيات قال العباس للنبي: لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافا فقد آتاني الله خيرا منها مائة عبد» وفي لفظ «أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب به، أي يتجر فيه، وإني لأرجو من الله المغفرة» أي وهذا القول من العباس يدل على تأخر نزول هذه الآيات.
وجاء «أن العباس خرج لبدر ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم به المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي ﷺ أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك» وجاء في بعض الروايات «أن العباس لما أسر تواعدت طائفة من الأنصار على قتله، فبلغ ذلك النبي، فقال لعمر: لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، زعمت الأنصار أنهم قاتلوه، فأتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس، فقالوا والله لا نرسله، فقال لهم عمر: فإن كان رسول الله ﷺ رضي، فقالوا: إن كان رضي فخذه فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له يا عباس أسلم، فوالله لأن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب».
أي وفي أسباب النزول للواحدي: لما أسر العباس يوم بدر أقبل المسلمون عليه يعيرونه بكفره بالله وقطيعة الرحم، وأغلظ عليّ له من القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له عليّ: ألكم محاسن؟ قال نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحيي الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} الآية.
وجاء أنه قال للمسلمين: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله} الآية.
وذكر بعضهم أن العباس كان رئيسا في قريش، وإليه عمارة المسجد الحرام، فكان لا يدع أحد يتشبب فيه، ولا يقول فيه هجرا. والتشبيب: ترقيق الشعر بذكر النساء والهجر: الكلام الفاحش، فكانت قريش اجتمعت وتعاقدت على تسليم ذلك للعباس، وكانوا عونا له على ذلك.
ومن ثم قيل في العباس: هذا والله هو الشرف: يطعم الجائع، ويؤدب السفيه، فإن طعامه كان لفقراء بني هاشم. وقيل وسوطه معد لسفهائهم، وإذا كان ذلك لسفهاء بني هاشم فلسفهاء غيرهم بطريق الأولى.
والظاهر أن ذلك لا يختص بسكونهم في المسجد كما قد يدل عليه الرواية الأولى، ولا ينافي هذا أي قول عمر له أسلم إلى آخره، ما تقدم عن مولاه أبي رافع، من أن العباس كان مسلما، ومن قوله للنبي إنه كان مسلما، ومن إتيانه بالشهادتين عنده، لأن ذاك لم يظهره علانية بل أظهره له فقط ولم يعلم به عمر ولا غيره، ولم يظهر النبي ﷺ إسلام العباس رفقا به، لما تقدم أن العباس كان له ديون متفرقة في قريش، وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم.
ومن ثم لما قهرهم الإسلام يوم فتح مكة أظهر إسلامه: أي فلم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح، وكان كثيرا ما يطلب الهجرة إلى رسول الله ﷺ فيكتب له مقامك بمكة خير لك.
أي وفي رواية «استأذن العباس النبي ﷺ في الهجرة، فكتب إليه: يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» فكان كذلك.
وفي رواية أنه قال لابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب «افد نفسك يا نوفل، قال: ما لي شيء أفدي به نفسي، قال: افد نفسك من مالك الذي بجدة» وفي لفظ «بأرماحك التي بجدة فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما أحد يعلم أن لي بجدة أرماحا غير الله» أي وفدى نفسه ولم يفده العباس.
ويدل لذلك ما رواه البخاري عن أنس «أن النبي ﷺ أتى بمال من البحرين» أي من خراجهما «فقال انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به رسول الله » أي كان مائة ألف «وكان أول خراج حمل إليه وكان يأتي في كل سنة».
وحينئذ لا يعارض هذا قوله لجابر «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك فلم يقدم مال البحرين حتى توفي رسول الله » لأن المراد أنه لم يقدم في تلك السنة. ولما نظر ذلك المال في المسجد خرج رسول الله ﷺ إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فكان لا يرى أحدا إلا أعطاه، فجاءه العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، أي ولم يقل نوفلا ولا حليفه عتبة بن عمرو، فقال: خذ فحثى في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال مر بعضهم يرفعه إليّ، قال لا قال: فارفعه أنت علي، قال لا، فنثر منه، ولا زال يفعل كذلك حتى بقي ما يقدر على رفعه على كاهله أي بين كتفيه، ثم انطلق وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز فما زال يتبعه بصره عجبا من حرصه حتى خفي.
ومنّ رسول الله ﷺ على نفر من الأسارى بغير فداء، منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر كان يؤذي النبي ﷺ والمسلمين بشعره، فقال: يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله، أي وفي رواية قال له: إن لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن ففعل وأعتقه، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا. أي ولما وصل إلى مكة قال سحرت محمدا.
ولما كان يوم أحد خرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره، فأسر وقتل صبرا وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي.
أي فعلم أن أسرى بدر؛ منهم من فدي ومنهم من خلي سبيله من غير فداء، وهو أبو العاص، وأبو عزة، ووهب بن عمير؛ ومنهم من مات؛ ومنهم من قتل وهو النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط كما تقدم.
ولما بلغ النجاشي نصرة رسول الله ﷺ ببدر فرح فرحا شديدا. فعن جعفر بن أبي طالب أن النجاشي أرسل إليه وإلى أصحابه الذين معه بالحبشة ذات يوم، فدخلوا عليه فوجدوه جالسا على التراب لابسا أثوابا خلقة، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال لهم: إني أبشركم بما يسركم، إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه، وأهلك عدوه فلانا وفلانا وعدد جمعا التقوا بمحل يقال له بدر كثير الأراك كنت أرعى فيه غنما لسيدي من بني ضمرة، فقال له جعفر مالك جالس على التراب عليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن حقا على عباد الله أن يحدثوا الله تواضعا عندما أحدث لهم نعمة.
وفي رواية: كان عيسى صلوات الله وسلامه عليه إذا حدث له من الله نعمة ازداد تواضعا، فلما أحدث الله تعالى نصرة نبيه أحدثت هذا التواضع.
وفي رواية إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث الله تواضعا، وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة الحديث.
قال: ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر واستأصل وجوههم، قالوا إن ثأرنا بأرض الحبشة، فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد فنقتلهم بمن قتل منا فأرسلوا عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة ـ فإنهما أسلما بعد ذلك ـ إلى النجاشي ليدفع إليهما من عنده من المسلمين، فأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي. فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ بعث إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري بكتاب يوصيه فيه على المسلمين انتهى. وفي الأصل هنا ما يوافقه.
وفيه أن عمرو بن أمية الضمري لم يكن أسلم بعد، أي لأنه كما في الأصل شهد بدرا وأحدا مع المشركين. وأول مشهد شهده مع المسلمين بئر معونة، وأسر في ذلك وجزت ناصيته وأعتق، وكان ذلك في سنة أربع كما سيأتي. قال: فلما وصل عمرو وعبدالله إلى النجاشي ردهما خائبين.
أي فعن عمرو بن العاص قال: دخلت على النجاشي فسجدت له، فقال: مرحبا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئا؟ فقلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع، وأمر أن يكتب ويتحفظ به، قال عمرو: فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إني رأيت رجلا خرج من عندك يعني عمرو بن أمية الضمري. وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطينه فأقتله، فغضب ثم رفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه قد كسره، فجعلت أتقى الدم بثيابي. وفي رواية: ثم رفع يده فضرب بها أنف نفسه، ظننت أنه قد كسره. وقد يجمع بوقوع الأمرين منه، وعند ذلك قال عمرو: فأصابني من الذل ما لو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه، فقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول الله رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى ابن مريم لتقتله؟ قلت وتشهد أنت أيها الملك أنه رسول الله، فقال: نعم أشهد أنه رسول الله ﷺ أشهد بذلك عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق. قلت له: أفتبايعني له على الإسلام، قال: نعم، فمدّ يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد كساني، فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل من صاحبك قضاء لحاجتك؟ يعنون قتل عمرو بن أمية الضمري، فقلت لهم: كرهت أن أكلمه أول مرة وقلت أعود إليه، قالوا: الرأي ما رأيت وفارقتهم. وهذا يدل على أنه كان معه ومع عبدالله جماعة آخرون من قريش. ويحتمل أنه عنى بأصحابه عبدالله بن ربيعة، ويؤيد الأول ما يأتي فليتأمل.
وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت، فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية، وهو محلّ معروف كان موردة لجدة: أي كان ترسي به السفن قبل وجود جدة كما تقدم، فخرجت من السفينة فابتعت بعيرا وتوجهت إلى المدينة حتى إذا كنت بالهداة: اسم محل، إذا رجلان وهما خالد ابن الوليد وعثمان بن أبي طلحة، فرحبا بي وإذا هما يريدان الذي أريد، فتوجهنا إلى المدينة.
فقد علمت ما في إرسال عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عقب وقعة بدر من أنه كان في ذلك الوقت كافرا، لأنه شهد مع الكفار أحدا.
ومن ثم قال في الأصل هنا: فلما كان شهر ربيع الأول، وقيل المحرم سنة سبع، أي وقيل سنة ست حكاه ابن عبد البر عن الواقدي من هجرة رسول الله ﷺ كتب رسول الله ﷺ إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به عمرو بن أمية الضمري، فلما قرىء عليه الكتاب أسلم، وكتب إليه رسول الله ﷺ أن يزوجه أم حبيبة ففعل. وكتب إليه رسول الله ﷺ أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل، وقد تقدم القول عند ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة أن توجه عمرو بكتابي رسول الله ﷺ في المحرم سنة سبع يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، والثاني في تزويجه أم حبيبة وقيل إرسال عمرو كان في شهر ربيع الأول منها.
وسيأتي ذكر كتابي النبي ﷺ إلى النجاشي مع عمرو عند ذكر كتبه إلى الملوك، هذا كله كلام الأصل فليتأمل ما فيه.
ثم رأيت صاحب النور قال: قد رأيت غير واحد صرح بأن النجاشي أسلم في السنة السابعة؛ يعنون من الهجرة، وهذا يعكر على تصديقه وإسلامه عند إرسال عمرو بن العاص وعبدالله بن ربيعة: أي عقب بدر، حيث قال أنا أشهد أنه رسول الله ﷺ إلى آخر ما تقدم هذا كلامه.
أي فكيف يكون إرسال عمرو بن أمية إلى النجاشي ليسلم. وقد يجاب بأن المراد إظهار إسلامه، أي بعث له عمرو بن أمية لأجل أن يظهر إسلامه ويعلن به بين قومه، أي لأنه كان يخفي إسلامه عن قومه. ولما بلغ قومه أنه اعترف بأن عيسى صلوات الله وسلامه عليه عبدالله ووافق جعفر بن أبي طالب على ذلك سخطوا وقالوا له: أنت فارقت ديننا، وأظهروا له المخاصمة، فأرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هربت فاذهبوا حيث شئتم، وإن ظفرت فأقيموا. ثم عمد إلى كتاب فكتب: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في ثيابه عند منكبه الأيمن وخرج إلى الحبشة وقد صفوا له، فقال: يا معشر الحبشة ألست أرفق الناس بكم؟ قالوا بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد، قال: فماذا تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال لهم النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه وقال: هو يشهد أن عيسى ابن مريم ولم يزد على هذا، وإنما يعني ما كتب فرضوا منه ذلك.
ويذكر أن عليا وجد ابن النجاشي عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين، وكان يقال له نيزر مولى علي كرم الله وجهه.
ويقال إن الحبشة لما بلغهم خبره أرسلوا وفدا منهم إليه ليملكوه ويتوجوه ولم يختلفوا عليه فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن منّ الله عليّ بالإسلام.
على أن ابن الجوزي ذكر أن ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان عند منصرفه مع قريش في غزوة الأحزاب أي لا عقب بدر.
فعن عمرو بن العاص : لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو لأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن ممن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا هو الرأي، فقلت: اجمعوا ما يهدى له وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا إليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري بعثه رسول الله ﷺ في شأن جعفر وأصحابه الحديث.
وهذا لا يمنع أن يكون عمرو بن العاص وفد على النجاشي هو وعبدالله بن ربيعة عقب بدر، فيكون وفود عمرو بن العاص على النجاشي كان ثلاث مرات: مرة مع عمارة عقب مهاجرة من هاجر إلى الحبشة، ومرة مع عبدالله بن ربيعة عقب بدر، وهذه المرة الثالثة التي كانت عقب الأحزاب، وإن إرسال عمرو بن أمية وإسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي كان في هذه المرة الثالثة.
وحينئذ لا يشكل إرسال عمرو بن أمية للنجاشي، لأنه كان مسلما حينئذ، فيكون ذكر مجيء عمرو بن أمية إلى النجاشي في المرة الثانية التي كانت عقب بدر اشتباه من بعض الرواة وكذا ذكر إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي في المرة الثانية من تخليط بعض الرواة.
ثم رأيته في (الإمتاع) قال: وقد رويت قصة الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشي من طرق عديدة مطولة ومختصرة. وكان رسول الله ﷺ يرسل عمرو بن أمية الضمري في أموره لأنه كان من رجال النجدة، أي ومعلوم أنه كان لا يرسله إلا بعد إسلامه، وإسلامه قد علمت أنه كان سنة أربع. وفي الأصل أنه أرسله إلى مكة بهدية لأبي سفيان بن حرب.
أي ولعل المراد بذلك ما حكاه بعض الصحابة قال «دعاني رسول الله ﷺ وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح وقال لي: التمس صاحبا، قال: فجاءني عمرو بن أمية، فقال: بلغني أنك تريد الخروج إلى مكة وتلتمس صاحبا، قلت: أجل، قال: فأنا لك صاحب، قال: فجئت رسول الله، فقلت: وجدت صاحبا، فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمري، فقال: إذا هبط بلاد قومه فاحذروه، فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه، وقد أسلم عبدالله ولده قبل أبيه عمرو بن العاص ، روي «أنه قال فيهما وفي أم عبدالله: نعم البيت عبدالله وأبو عبدالله وأم عبدالله» وكان يفضل عبدالله على أبيه، لأنه كان من عباد الصحابة وزهادهم وفضلاهم وعلمائهم، ومن أكثرهم رواية.
وذكر ابن مرزوق «أن ابن عمرو مر ببدر فإذا رجل يعذب ويئنّ، فناداه يا عبدالله، قال: فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبدالله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله » رواه الطبراني في الأوسط. زاد السيوطي في الخصائص «فأتيت النبي » فأخبرته قال: أو قد رأيته؟ قلت نعم، قال: ذاك عدوّ الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة».
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الشعبي «أن رجلا قال للنبي: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حديد» وفي لفظ «بعمود حديد حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك، فقال رسول الله ﷺ: ذاك أبو جهل يعذب إلى يوم القيامة».
ومما جاء في فضل من شهد بدرا «أن جبريل ﵇ أتى النبي ﷺ فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال جبريل ﵇: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة» وفي رواية «إن للملائكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلا على من تخلف منهم» وجاء بعض الصحابة إلى النبي، فقال «يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي وقد كان من أهل بدر، أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال: إنه شهد بدرا، وعسى أن يكفر عنه» وفي رواية «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
قال وفي الطبراني بسند جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله «اطلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، أو قال: فقد وجبت لكم الجنة» أي غفرت لكم ما مضى وما سيقع من الذنوب، أي وهو يفيد أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه، لأنه إذا وقع يقع مغفورا، وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه، وهذا كما لا يخفي بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا، ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر جلده وكان بدريا.
لا يقال: إذا سلم أن الذنب إذا وقع منهم يقع مغفورا لا معنى لوجوب التوبة، وإنما حد عمر قدامة زجرا عن شرب الخمر. لأنا نقول: بل لوجوب التوبة في الدنيا معنى وإن كان الذنب إذا وقع مغفورا، لأن المراد بذلك عدم المؤاخذة في الآخرة، وذلك لا ينافي وجوب التوبة عنه في الدنيا، لأنه لا تلازم بين وجوب التوبة في الدنيا وبين غفران الذنب في الآخرة.
هذا، وفي الخصائص الصغرى نقلا عن شرح (جمع الجوامع) أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب ما يفسق به غيرهم. وقدامة هذا كان متزوجا أخت عمر ، وكان عمر متزوجا بأخت قدامة وهي أم حفصة ، فكان خالا لحفصة ولأخيها عبدالله، وكان عاملا لعمر في بعض النواحي أي البحرين، فقدم الجارود سعد بن عبد القيس على عمر من البحرين وكان قدامة واليا عليها، فأخبر عمر أن قدامة سكر، قال: وإني رأيت حدّا من حدود الله حقا عليّ أن أرفعه إليك، فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال أبو هريرة: فشهد أبو هريرة أنه رآه سكران، أي قال: لم أره يشرب، ولكني رأيته سكران يقيء، فأحضر قدامة، فقال له الجارود: أقم عليه الحد، فقال له عمر : أخصم أنت أم شاهد؟ فصمت ثم عاوده، فقال له عمر : لتمسكن أو لأسوءَنك، فقال: ليس في الحق. وفي لفظ: أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءَني، فأرسل عمر إلى زوجته قدامة أب بعد أن قال له أبو هريرة : إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد يعني زوجته، فجاءت فشهدت على زوجها بأنه سكر، فقال عمر لقدامة: أريد أن أحدك، فقال: ليس لك ذلك، لقول الله {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}، فقال له عمر: أخطأت التأويل، فإن بقية الآية {إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} فإنك إن اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك، ثم أمر به فحد، فغاضبه قدامة ثم حجا جميعا، ففي قوم استيقظ عمر من نومه فزعا، فقال: عجلوا بقدامة، أتاني آت، فقال: صالح قدامة فإنه أخوك، فاصطلحا.
أي وقد احتج بهذه الآية أيضا جمع من الصحابة شربوا الخمر، وهم أبو جندل، وضرار بن الخطاب، وأبو الأزور، فأراد أبو عبيدة وهو وال بالشام أن يحدهم، فقال أبو جندل {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، وقال: خصمني أبو جندل بهذه الآية. فكتب عمر لأبي عبيدة: إن الذي زين لأبي جندل الخطيئة زين له الخصومة فاحددهم، فلما أراد أبو عبيدة أن يحدهم، قال أبو الأزور لأبي عبيدة: دعنا نلقي العدوّ غدا، فإن قتلنا فذاك، وإن رجعنا إليكم فحدونا، فلقوا العدوّ فاستشهد أبو الأزور وحدّ الآخران.
وفي حواشي البخاري للحافظ الدمياطي «أن نعيمان كان ممن شهد بدرا وسائر المشاهد وأتى في شربه الخمر إلى رسول الله ﷺ فحده أربعا أو خمسا أي من المرات، فقال رجل من القوم اللهم العنه، ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يحد! فقال : لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» ولعل هذا التعليل لا ينظر لمفهومه.
وعند الإمام أحمد عن حفصة ، قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله تعالى أحد شهد بدرا والحديبية» ولعل الواو بمعنى أو. ويدل لذلك ما في بعض الروايات عن جابر بن عبدالله عن النبي، قال «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
ولا ينافي ما في مسلم والترمذي عن جابر «أن عبد لحاطب جاء إلى رسول الله ﷺ يشكو حاطبا إليه، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال: كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية» لأنه يجوز أن يكون ذلك لكونه: أي الجمع بين بدر والحديبية هو الواقع لحاطب.
وفي الطبراني عن رافع بن خديج أن رسول الله ﷺ قال يوم بدر «والذي نفسي بيده لو أن مولودا ولد في فقه أربعين سنة من أهل الدين يعمل بطاعة الله تعالى كلها ويجتنب معاصي الله كلها إلى أن يرد أن أرذل العمر أو يردّ إلى أن لا يعلم بعد علم شيئا لم يبلغ أحدكم هذه الليلة».
وكان يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم. ومن ثم جاء جماعة من أهل بدر للنبي وهو جالس في صفة ضيقة ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا ليفسح لهم القوم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي ﷺ فقال: لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان بعدد الواقفين، فعرف رسول الله ﷺ الكراهة في وجه من أقامه، فقال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه، فنزل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا} الآية فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك» أي ولعل المراد يجلسونهم مكانهم.
وفي الخصائص الصغرى: وخصّ أهل بدر من أصحابه بأن يزادوا في الجنازة على أربع تكبيرات تمييزا لهم لفضلهم.
وقد ذكر أن عمر بن عبد العزيز بن مروان كان يختلف إلى عبيدالله بن عبدالله ليسمع منه، فبلغ عبيدالله أن عمر ينتقص عليا ، فأتاه عمر فأعرض عبيدالله عنه وقام ليصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل عليه، وقال له: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم، ففهمها عمر وقال: معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود، فما سمع بعد ذلك يذكر عليا كرّم الله وجهه إلا بخير.
غزوة بني سليم
ولما قدم رسول الله ﷺ من بدر لم يقم إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه، يريد بني سليم. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم.
أي وفي رواية أبي داود لأن استخلاف ابن أم مكتوم إنما كان على الصلاة بالمدينة دون القضايا والأحكام، فإن الضرير لا يجوز له أن يحكم بين الناس، لأنه لا يدرك الأشخاص ولا يثبت الأعيان، ولا يدري لمن يحكم ولا على من يحكم، أي فأمر القضايا والأحكام يجوز أن يكون فرضه لسباع فلا مخالفة. فلما بلغ ماء من مياههم يقال له الكدر، أي وقيل لهذا الماء الكدر، لأن به طيرا في ألوانها كدرة، فأقام على ذلك ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، أي وكان لواؤه أبيض حمله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكان في تلك السنة تزويج عليّ بفاطمة : أي عقد عليها في رمضان وقيل في رجب، ودخل بها في ذي الحجة. وقيل بعد أن تزوّجها بنى بها بعد سبعة أشهر ونصف، أي فيكون عقد عليها في أول جمادى الأولى. وكان عمرها خمس عشرة سنة، وكان سن عليّ يومئذٍ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، أي وأولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار. ولما خطبها عليّ قال «إن عليا يخطبك فسكتت» أي وفي رواية قال لها «أي بنية إن ابن عمك عليا قد خطبك فماذا تقولين؟ فبكت، ثم قالت: كأنك يا أبت إنما أدخرتني لفقير قريش، فقال: والذي بعثني بالحق ما تكلمت في هذا حتى أذن لي الله فيه من السماء، فقالت فاطمة : رضيت بما رضي الله ورسوله».
وقد كان خطبها أبو بكر ثم عمر فسكت. وفي رواية قال لكل انتظر بها القضاء، فجاءا أي أبو بكر وعمر إلى علي كرم الله وجهه يأمرانه أن يخطبها، قال علي «فنبهاني لأمر كنت عنه غافلا فجئته فقلت: تزوّجني فاطمة، قال: وعندك شيء؟ قلت فرسي وبدني: أي درعي، قال: أما فرسك فلا بدّ لك منها، وأما بدنك فبعها فبعتها بأربعمائة وثمانين درهما فجئته بها فوضعها في حجره فقبض منها قبضة فقال: أي بلال ابتع لنا بها طيبا.
وفي رواية «لما خطبها قال له ماتصدقها» وفي لفظ «هل عندك شيء تستحلها به؟ قال: ليس عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ قال عندي، فباعها من عثمان بن عفان بأربعمائة وثمانين درهما. ثم إن عثمان رد الدرع إلى علي كرم الله وجهه فجاء عليّ بالدرع والدراهم إلى رسول الله ﷺ فدعا لعثمان بدعوات».
وفي فتاوى الجلال السيوطي أنه سئل هل لصحة ما قيل إن عثمان بن عفان رأى درع علي يباع بأربعمائة درهم ليلة عرسه على فاطمة فقال عثمان: هذا درع علي فارس الإسلام لا يباع أبدا، فدفع لغلام علي أربعمائة درهم وأقسم أن لا يخبره بذلك ورد الدرع معه، فلما أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس، في كل كيس أربعمائة درهم، مكتوب على كل درهم: هذا ضرب الرحمن لعثمان بن عفان، فأخبر جبريل النبي ﷺ بذلك، فقال: هنيئا لك يا عثمان.
وفيها أيضا أن عليا خرج ليبيع إزار فاطمة ليأكل بثمنه، فباعه بستة دراهم، فسأله سائل فأعطاه إياه، فجاء جبريل في صورة أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا أبا الحسن اشتر هذه الناقة، قال: ما معي ثمنها، قال: إلى أجل، فاشتراها بمائة ثم عرض له ميكائيل في صورة رجل في طريقه، فقال: أتبيع هذه الناقة؟ قال نعم، قال: بكم اشتريتها؟ قال: بمائة، قال: آخذها بمائة ولك من الربح ستون، فباعها له، فعرض له جبريل فقال: بعت الناقة؟ قال نعم، قال: ادفع إليّ ديني، فدفع له مائة ورجع بستين، فقالت له فاطمة: من أين لك هذا؟ قال: ضاربت مع الله بستة فأعطاني ستين، ثم جاء إلى النبي ﷺ فأخبره بذلك، فقال: البائع جبريل والمشتري ميكائيل، والناقة لفاطمة تركبها يوم القيامة: له أصل أم لا؟
فأجاب عن ذلك كله بأنه لم يصح، أي وهي تصدق بأن ذلك لم يرد فهو من الكذب الموضوع.
ولما أراد أن يعقد خطب خطبة منها «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بحكمته، ثم إن الله جعل المصاهرة نسبا وصهرا وكان ربك قديرا. ثم إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت يا علي؟ قال رضيت» بعد أن خطب علي كرّم الله وجهه أيضا خطبة منها: الحمد لله شكرا لأنعمه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه: أي وفي رواية أنه قال «يا عليّ اخطب لنفسك، فقال عليّ الحمد لله الذي لا يموت، وهذا محمد رسول الله ﷺ زوّجني ابنته فاطمة على صداق مبلغه أربعمائة درهم فاسمعوا ما يقول واشهدوا. قالوا: ما تقول يا رسول الله؟ قال: أشهدكم أني قد زوجّته» كذا رواه ابن عساكر. قال الحافظ ابن كثير: وهذا خبر منكر. وقد ورد في هذا الفصل أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة أضربنا عنها.
ولما تمّ العقد دعا بطبق بسر فوضع بين يديه ثم قال للحاضرين انتهبوا.
وقول علي كرم الله وجهه: نبهاني لأمر كنت عنه غافلا لا ينافي ما روي عن أسماء بنت عميس أنها قالت: قيل لعلي: ألا تتزوج بنت رسول الله، فقال مالي صفراء ولا بيضاء ولست بمأبور بالباء الموحدة: يعني غير الصحيح الدين، ولا المتهم في الإسلام: أي لا أخشى الفاحشة إذا لم أتزوج. وليلة بنى بها قال لعلي: لا تحدث شيئا حتى تلقاني، فجاءت بها أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وعليّ في جانب آخر، وجاء رسول الله ﷺ فقال لفاطمة ائتيني بماء، فقامت تعثر في ثوبها. وفي لفظ في مرطها من الحياء، فأتته بقعب فيه ماء، فأخذه رسول الله ﷺ ومج فيه، ثم قال لها: تقدمي، فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال: ائتوني بماء، فقال علي كرم الله وجهه: فعلمت الذي يريد، فقمت وملأت القعب فأتيته به، فأخذه فمج فيه وصنع بي كما صنع بفاطمة ودعا لي بما دعا لها به، ثم قال: اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في شملهما: أي الجماع، وتلا: قل هو الله أحد والمعوذتين، ثم قال أدخل بأهلك باسم الله والبركة، وكان فراشها إهاب كبش: أي جلده، وكان لهما قطيفة إذا جعلاها بالطول انكشفت ظهورهما وإذا جعلاها بالعرض انكشفت رؤوسهما.
ثم مكث ثلاثة أيام لا يدخل على فاطمة. وفي اليوم الرابع دخل عليهما في غداة باردة وهما في تلك القطيفة، فقال لهما: كما أنتما وجلس عند رأسهما ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي كرم الله وجهه إحداهما فوضعها على صدره وبطنه ليدفئها وأخذت فاطمة الأخرى فوضعتها كذلك.
وقالت له في بعض الأيام: يا رسول الله ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، فقال لها يا بنية اصبري، فإن موسى بن عمران أقام مع امرأته عشر سنين ليس لهم فراش إلا عباءة قطوانية: أي وهي نسبة إلى قطوان: موضع بالكوفة، أي ولعل العباءة التي كانت تجلب من ذلك الموضع كانت صفيقة. وعن علي : لم يكن لي خادم غيرها.
وعنه «لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ وأني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار» ولعل المراد في السنة.
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد لأحد من الصحابة ما ورد لعلي أي من ثنائه عليه.
وسبب ذلك أنه كثرت أعداؤه والطاعنون عليه من الخوارج وغيرهم، فاضطر لذلك الصحابة أن يظهر كل منهم من فضله ما حفظه ردا على الخوارج وغيرهم.
وعن ابن عباس : ما نزل في أحد من الصحابة من كتاب الله ما نزل في عليّ. نزل في عليّ ثلثمائة آية.
وعن ابن عباس : كل ما تكلمت به في التفسير فإنما أخذته عن علي كرم الله وجهه.
ومن كلماته البديعة الوجيزة: لا يخافنّ أحد إلا ذنبه، ولا يرجونّ إلا ربه، ولا يستحيي من لا يعلم أن يتعلم، ولا من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم. ما أبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم.
ومن ذلك: العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يجلسون حلقا فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم من مجالسهم تلك إلى الله.
وقال لعلي «يهلك فيك رجلان: محب مطرٍ، وكذاب مفترٍ مكره لك يأتي بالكذب المفترى» وقال له «يا علي ستفترق أمتي فيك كما افترقت في عيسى ابن مريم» وجاء أنه قال «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا بنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها».
غزوة بني قينقاع
بضم النون وقيل بكسرها أي وقيل بفتحها، فهي مثلثة النون، والضم أشهر: قوم من اليهود وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبيّ ابن سلول. فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد أي لأنه كان عاهدهم وعاهد بني قريظة وبني النضير أن لا يحاربوه، وأن لا يظاهروا عليه عدوه.
وقيل على أن لا يكونوا معه ولا عليه. وقيل على أن ينصروه على من دهمه من عدوه أي كما تقدم، فهم أول من غدر من يهود؟ فإنه مع ما هم عليه من العداوة لرسول الله ﷺ قدمت امرأة من العرب يجلب لها: أي وهو ما يجلب ليباع من إبل وغنم وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ منهم. أي وفي الإمتاع أن المرأة كانت زوجة لبعض الأنصار، أي ومعلوم أن الأنصار كانوا بالمدينة، أي وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن تكون زوجة بعض الأنصار من الأعراب وأنها جاءت بجلب لها، فجعلوا أي جماعة منهم يراودونها عن كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها. قال وفي رواية: خله بشوكة وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون أي وتقدم وقوع مثل ذلك، وأنه كان سببا لوقوع حرب الفجار الأول.
ولما غضب المسلمون على بني قينقاع أي وقال لهم «ما على هذا أقررناهم» تبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، أي قال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وتشبث به عبدالله بن أبي ابن سلول أي لم يتبرأ من حلفهم كما تبرأ منه عبادة بن الصامت، أي وفيه نزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} إلى قوله {فإن حزب الله هم الغالبون} فجمعهم وقال لهم «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة» أي ببدر «وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله تعالى إليكم، قالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك أي تظننا أنا مثل قومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة، إنا والله لو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» وفي لفظ «لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا» أي لأنهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا وأشدهم بغيا، فأنزل الله تعالى {قل للذين كفروا ستغلبون} الآية، أي وأنزل الله {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} الآية فتحصنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله ﷺ ولواؤه وكان أبيض بيد عمه حمزة بن عبد المطلب . قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذٍ.
وقد قدّمنا أن هذا يرده ما تقدم في ضمن غزاة بدر من أنه كان أمامه رايتان سوداوان إحداهما مع علي ويقال لها العقاب، ولعلها سميت بذلك في مقابلة الراية التي كانت في الجاهلية تسمى بهذا الاسم، ويقال لها راية الرؤساء، لأنه كان لا يحملها في الحرب إلا رئيس، وكانت في زمنه مختصة بأبي سفيان ، لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله إذا غاب كما في يوم بدر. والأخرى مع بعض الأنصار، وسيأتي في خيبر أن العقاب كان قطعة من برد لعائشة .
واستخلف على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، لأن خروجه كان في نصف شوّال، واستمر إلى هلال ذي القعدة الحرام، فقذف الله في قلوبهم الرعب وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، فسألوا رسول الله ﷺ أن يخلي سبيلهم، وأن يجلوا من المدينة: أي يخرجوا منها، وأن لهم نساءهم والذرية وله الأموال، أي ومنها الحلقة التي هي السلاح. والظاهر من كلامهم أنه لم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع، وخمست أموالهم أي مع كونها فيئا له لأنها لم تحصل بقتال ولا جلوا عنها قبل التقاء الصفين، فكان له ولأصحابه الأربعة الأخماس.
أقول: ولا يخفى أن من جملة أموالهم دورهم، ولم أقف على نقل صريح دال على ما فعل بها، وعلم أنه جعل هذا الفيء كالغنيمة. ومذهبنا معاشر الشافعية أن الفيء المقابل للغنيمة كالواقع في هذه الغزوة وغزوة بني النضير الآتية كان في زمنه يقسم خمسة أقسام، له أربعة منها، والقسم الخامس يقسم خمسة أقسام له منها قسم، فيكون له أربعة أخماس وخمس الخمس والأربعة الأخماس الباقية من الخمس، منها واحد لذوي القربى، وآخر لليتامى، وآخر للمساكين، وآخر لابن السبيل، فجميع مال الفيء مقسوم على خمسة وعشرين سهما منها أحد وعشرون سهما لرسول الله، وأربعة أسهم لأربعة أصناف، هم: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولعل إمامنا الشافعي رأى أن ذلك كان أكثر أحواله وإلا فهو هنا وفي بني النضير كما سيأتي لم يفعل ذلك بل خمسه هنا، ثم استقل به: أي لم يعط الجيش منه، وقد جعل سهم ذوي القربى بين بني هاشم أي وبنات هاشم وبني أي وبنات المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل من أن الأربعة أولاد عبد مناف كما تقدم.
ولما فعل ذلك جاء إليه جبير بن مطعم من بني نوفل وعثمان بن عفان من بني عبد شمس فقالا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا» وفي لفظ «ومنعتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة» وفي رواية «أن بني هاشم شرفوا بمكانك منهم وبنو المطلب، ونحن ندلي إليك بنسب واحد ودرجة واحدة فبم فضلتهم علينا؟ فقال رسول الله ﷺ: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا، وشبك بين أصابعه» زاد في رواية «أنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام» أي لأن الصحيفة إنما كتبت على بني هاشم والمطلب، لأنهم هم الذين قاموا دونه ودخلوا الشعب.
وبعده صار الفيء أربعة أخماس للمرتزقة المرصدة للجهاد؟ وخمس الخامس لمصالح المسلمين، والخمس الثاني منه لذوي القربى، والخمس الثالث منه لليتامى، والخمس الرابع منه للمساكين، والخمس الباقي منه لابن السبيل.
ثم لا يخفى أنه إذا كان مع الجيش وغنم شيء بقتال أو إيجاف خيل أو جلا عنه أهله بعد التقاء الصفين كان من خصائصه أن يختار من ذلك قبل قسمته، ويقال لهذا الذي يختاره الصفيّ والصفية كما تقدم.
أقول: وتقدم عن الإمتاع عن محمد بن أبي بكر خلافه، وتقدم هل صفيه كان محسوبا عليه من سهمه أو لا؟ قيل نعم، وقيل كان خارجا عنه وتقدم الجواب عن ذلك في غزاة بدر أن هذا الخلاف لا ينافي الجزم ثم بأنه كان زائدا على سهمه، لأن ذلك قبل نزول آية تخميس الغنيمة، فكان سهمه كسهم واحد من الجيش، فصفيه يكون زائدا على ذلك.
وأما سهمه بعد نزول آية التخميس للغنيمة فهو خمس الغنيمة، فيجري فيما يأخذه قبل القسمة الخلاف، هل يكون زائدا على ذلك الخمس أو يكون محسوبا منه؟ فلا مخالفة بين إجراء الخلاف والجزم، والله أعلم.
وقيل لما نزلت بنو قينقاع أمر رسول الله ﷺ أن يكتفوا فكتفوا فأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبدالله بن أبي ابن سلول وألح عليه؛ أي فقال: يا محمد أحسن في مواليّ فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ﷺ من خلفه، أي وتلك الدرع هي ذات الفضول، فقال له رسول الله ﷺ: ويحك أرسلني وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه، ثم قال: ويحك أرسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، فإنهم عترتي وأنا امرؤ أخشى الدوائر، فقال: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، وتركهم من القتل، أي وقال له: خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر أن يجلوا من المدينة؛ أي ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت وأمهلهم ثلاثة أيام فجلوا منها بعد ثلاث، أي بعد أن سألوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث، فقال: لا ولا ساعة واحدة، وتولى إخراجهم، وذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام، أي ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون بدعوته في قوله لابن أبيّ «لا بارك الله لك فيهم».
ويذكر أن ابن أبيّ قبل خروجهم جاء إلى منزله يسأله في إقرارهم فحجب عنه، فأراد الدخول، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه، فانصرف مغضبا، فقال بنو قينقاع: لا نمكث في بلد يفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا تنتصر له وتأهبوا للجلاء. قال: وقيل الذي تولى إخراجهم محمد بن مسلمة ، أي ولا مانع أن يكونا: أي عبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة اشتركا في إخراجهم.
ووجد في منازلهم سلاحا كثيرا، أي لأنهم كما تقدم أكثر يهود أموالا وأشدهم بأسا، وأخذ رسول الله ﷺ من سلاحهم ثلاث قسيّ، قوسا يدعى الكتوم: أي لا يسمع له صوت إذا رمى به، وهو الذي رمى به يوم أحد حتى تشظى بالظاء المشالة كما سيأتي وسيأتي ما فيه، وقوسا يدعى الروحاء، وقوسا يدعى البيضاء، وأخذ درعين: درعا يقال له السغدية أي بسين مهملة وغين معجمة، ويقال إنها درع داود التي لبسها حين قتل جالوت، والأخرى يقال لها فضة، وثلاث أرماح، وثلاثة أسياف: سيف يقال له قلعي، وسيف يقال له بتار، والآخر لم يسم انتهى أي وسماه بعضهم بالحيف، ووهب درعا لمحمد بن مسلمة، ودرعا لسعد بن معاذ والله تعالى أعلم.
وأما سهمه بعد نزول آية التخميس للغنيمة فهو خمس الغنيمة، فيجري فيما يأخذه قبل القسمة الخلاف، هل يكون زائدا على ذلك الخمس أو يكون محسوبا منه؟ فلا مخالفة بين إجراء الخلاف والجزم، والله أعلم.
وقيل لما نزلت بنو قينقاع أمر رسول الله ﷺ أن يكتفوا فكتفوا فأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبدالله بن أبي ابن سلول وألح عليه؛ أي فقال: يا محمد أحسن في مواليّ فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ﷺ من خلفه، أي وتلك الدرع هي ذات الفضول، فقال له رسول الله ﷺ: ويحك أرسلني وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه، ثم قال: ويحك أرسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، فإنهم عترتي وأنا امرؤ أخشى الدوائر، فقال: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، وتركهم من القتل، أي وقال له: خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر أن يجلوا من المدينة؛ أي ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت وأمهلهم ثلاثة أيام فجلوا منها بعد ثلاث، أي بعد أن سألوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث، فقال: لا ولا ساعة واحدة، وتولى إخراجهم، وذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام، أي ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون بدعوته في قوله لابن أبيّ «لا بارك الله لك فيهم».
ويذكر أن ابن أبيّ قبل خروجهم جاء إلى منزله يسأله في إقرارهم فحجب عنه، فأراد الدخول، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه، فانصرف مغضبا، فقال بنو قينقاع: لا نمكث في بلد يفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا تنتصر له وتأهبوا للجلاء. قال: وقيل الذي تولى إخراجهم محمد بن مسلمة ، أي ولا مانع أن يكونا: أي عبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة اشتركا في إخراجهم.
ووجد في منازلهم سلاحا كثيرا، أي لأنهم كما تقدم أكثر يهود أموالا وأشدهم بأسا، وأخذ رسول الله ﷺ من سلاحهم ثلاث قسيّ، قوسا يدعى الكتوم: أي لا يسمع له صوت إذا رمى به، وهو الذي رمى به يوم أحد حتى تشظى بالظاء المشالة كما سيأتي وسيأتي ما فيه، وقوسا يدعى الروحاء، وقوسا يدعى البيضاء، وأخذ درعين: درعا يقال له السغدية أي بسين مهملة وغين معجمة، ويقال إنها درع داود التي لبسها حين قتل جالوت، والأخرى يقال لها فضة، وثلاث أرماح، وثلاثة أسياف: سيف يقال له قلعي، وسيف يقال له بتار، والآخر لم يسم انتهى أي وسماه بعضهم بالحيف، ووهب درعا لمحمد بن مسلمة، ودرعا لسعد بن معاذ والله تعالى أعلم.
غزوة السويق
لما أصاب قريشا في بدر ما أصابهم نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء من جنابة: أي لا يأتي النساء، ولعل هذه العبارة وهي لا يمس رأسه ماء من جنابة وقعت من بعض الصحابة. مراده بها ما ذكر من أنه لا يأتي النساء. ويؤيده ما جاء في بعض الروايات: لا يمس النساء والطيب حتى يغزو محمدا؛ أو أن ذلك قاله أبو سفيان، بناء على أنهم كانوا يغتسلون من الجنابة.
ومن ثم ذكر الدميري أن الحكمة في عدم بيان الغسل في آية الوضوء كون الغسل من الجنابة كان معلوما قبل الإسلام بقية من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فهو من الشرائع القديمة.
وفي كلام بعضهم: كانوا في الجاهلية يغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، ويصلون عليهم؛ وهو أن يقوم وليه بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه ويثني عليه، ثم يقول: عليك رحمة الله ثم يدفن.
وما ذكره الدميري تبع فيه السهيلي حيث قال: إن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية بقية من دين إبراهيم وإسماعيل، كما بقي فيهم الحج و النكاح، فكان الحدث الأكبر معروفا عندهم، ولذلك قال تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فلم يحتاجوا إلى تفسيره. وأما الحدث الأصغر فلما لم يكن معروفا عندهم قبل الإسلام لم يقل وإن كنتم محدثين فتوضؤوا، بل قال {فاغسلوا} الآية.
فخرج أبو سفيان في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه حتى نزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد. ثم أتى لبني النضير: أي وهم حي من يهود خيبر ينسبون إلى هارون أخي موسى بن عمران عليهما الصلاة والسلام تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب، أي وهو من رؤساء بني النضير وهو أبو صفية أم المؤمنين ، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له، لأنه خافه، فانصرف عنه وجاء إلى سلام بن مشكم سيد بني النضير أي وصاحب كنزهم: أي المال الذي كانوا يجمعونه ويدخرونه لنوائبهم وما يعرض لهم أي وكان حليا يعيرونه لأهل مكة، فاستأذن عليه، فأذن له واجتمع به، ثم خرج إلى أصحابه، فبعث رجالا من قريش فأتوا ناحية من المدينة فحرقوا نخلا منها ووجدوا رجلا من الأنصار. قال في الإمتاع: وهذا الأنصاري هو معبد بن عمرو وحليفا لهم فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين، فعلم بهم الناس، فخرج رسول الله ﷺ في طلبهم في مائتين من المهاجرين والأنصار: أي واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر. وكان خروجه لخمس خلون من ذي الحجة.
وجعل أبو سفيان وأصحابه يخففون للهرب أي لأجله، فجعلوا يلقون جرب السويق أي وهو قمح أو شعير يقلى ثم يطحن ليسفّ، تارة بماء، وتارة بسمن، وتارة بعسل وسمن وهو عامة أزوادهم، فيأخذه المسلمون ولم يلحقوا بهم، وانصرف رسول الله راجعا إلى المدينة، وكانت غيبته خمسة أيام.
غزوة قرقرة الكدر
ويقال قرقرة الكدرة ويقال قراقر. فبلغ رسول الله ﷺ أن جمعا من بني سليم وغطفان بقرقرة الكدر: أي لعله بلغه أنهم يريدون الإغارة على المدينة بعد أن غزاهم كما تقدم. وقرقرة الكدر: أرض ملساء فيها طيور في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع، كما تقدم أن الماء الذي بأرضهم الذي بلغه ولم يجد به أحدا منهم يسمى الكدر، لوجود ذلك الطير به، فسار إليهم في مائتين من أصحابه، وحمل لواءه عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وتقدم في تلك أنه استخلف على المدينة سباع بن عرفطة أو ابن أمّ مكتوم وتقدم ما فيه، فلما سار إليه أي إلى ذلك الموضع لم يجد به أحدا، وأرسل نفرا من أصحابه إلى أعلى الوادي واستقبلهم في بطن الوادي فوجد خمسمائة بعير مع رعاة، منهم غلام يقال له يسار فحازوها وانحدروا بها إلى المدينة، فلما كانوا بمحل على ثلاثة أميال من المدينة خمسها، فأخرجه خمسة وقسم الأربعة الأخماس على أصحابه، فخص كل رجل منهم بعيران، ووقع يسار في سهمه، فأعتقه لأنه رآه يصلي أي وقد أسلم، وتعلم الصلاة من المسلمين بعد أسره، أي وفي كون هذا غنيمة حيث قسمه كذلك وقفة.
وكانت مدة غيبته خمس عشرة ليلة، فعلم أنه غزا بني سليم؛ وأنه وصل إلى ماء من مياههم يقال له الكدر لوجود ذلك الطير به، وأنه استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أمّ مكتوم. وهنا وقع الجزم بالثاني، وأن الأولى لم يذكر أنه وجد فيها شيئا من النعم.
وظاهر هذا يدل على التعدد، وجرى عليه الأصل، أي وحينئذ تكون تلك الطيور توجد في ذلك الماء وفي تلك الأرض. فعلى هذا يكون غزا بني سليم مرتين: مرة وصل فيه لذلك الماء ولم يجد شيئا من النعم، ومرة وصل فيها لتلك الأرض ووجد بها تلك النعم، ولم أقف على أن محل ذلك الماء سابق على تلك الأرض، أو أن تلك الأرض سابقة على محل ذلك الماء.
وفي السيرة الشامية أن غزوة بني سليم هي غزوة قرقرة الكدر، فعليه يكون إنما غزا بني سليم مرة واحدة، أي وحينئذ يكون الماء الذي كان به ذلك الطير كان في تلك الأرض الملساء أو قريبا منها، فليتأمل. والحافظ الدمياطي جعل غزوة بني سليم هي غزوة بحران الآتية؛ وسنذكرها.
غزوة ذي أمر
بتشديد الراء: اسم ماء، أي وسماها الحاكم غزوة أنمار، ويقال إنها غزوة غطفان.
بلغ رسول الله أن رجلا يقال له دعثور بضم الدال وإسكان العين المهملتين ثم مثلثة مضمومة ابن الحارث: أي الغطفاني من بني محارب جمع جمعا من ثعلبة ومحارب بذي أمر: أي وهو موضع من ديار غطفان، أي ولعل به ذلك الماء المسمى بما ذكر كما تقدم، يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة، فخرج إليهم رسول الله ﷺ في أربعمائة وخمسين رجلا لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وأصاب أصحابه رجلا منهم: أي يقال له جبار، وقيل حباب بكسر الحاء المهملة وبالباء الموحدة من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله، فأخبره من خبرهم، أي وقال له: لن يلاقوك ولو سمعوا بمسيرك إليهم هربوا في رؤوس الجبال، وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله ﷺ للإسلام فأسلم وضمه إلى بلال، أي وأخذ به ذلك الرجل طريقا وهبط به عليهم، فسمعوا بمسير رسول الله ﷺ فهربوا في رؤوس الجبال: أي فبلغوا ماء يقال له ذو أمرّ، فعسكر به، وأصابهم مطر أي كثير بلّ ثياب رسول الله ﷺ وثياب أصحابه فنزع رسول الله ﷺ ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع أي بمرأى من المشركين واشتغل المسلمون في شؤونهم فبعث المشركون دعثورا الذي هو سيد القوم وأشجعهم المجمع لهم: أي فقالوا له: قد انفرد محمد فعليك به أي وفي لفظ أنه لما رآه قال: قتلني الله إن لم أقتل محمدا، فجاء دعثور ومعه سيفه حتى قام على رأس رسول الله، ثم قال: من يمنعك مني اليوم؟ وفي رواية الآن، فقال رسول الله ﷺ الله، دفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، أي بعد وقوعه على ظهره، فأخذ السيف رسول الله ﷺ وقال له: من يمنعك مني؟ قال لا أحد، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وفي رواية وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم أتى قومه أي بعد أن أعطاه سيفه فجعل
يدعوهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنه رأى رجلا طويلا دفع في صدره فوقع على ظهره، فقال: علمت أنه ملك فأسلمت، ونزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} الآية، ثم أقبل رسول الله ﷺ إلى المدينة ولم يلق حربا، وكانت مدة غيبته إحدى عشرة ليلة.
غزوة بحران
بفتح الموحدة وتضم وسكون الحاء المهملة، وعبر عنها الحافظ الدمياطي بغزوة بني سليم كما تقدم.
لما بلغه أن بيحران: موضع بالحجاز معروف، بينه وبين المدينة ثمانية برد جمعا كثيرا من بني سليم، خرج في ثلاثمائة من أصحابه لستٍ خلون من جمادي الأولى، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، أي ولم يظهر وجها للسير وأحث السير حتى بلغ بحران، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، أي وكان قبل أن يصل إلى ذلك بليلة لقي رجلا من بني سليم، فأخبره أن القوم تفرقوا، فحبسه مع رجل وسار إلى أن وجدهم كذلك، فأطلق الرجل، وأقام بذلك المحل أياما، ثم رجع ولم يلق حربا، وكانت غيبته عشر ليال.
وعلى مقتضى هذا السياق تبعا للأصل يكون غزا بني سليم ثلاث مرات: مرة عقب بدر، وهذه الغزوة، وغزوة ذي أمر كانتا في السنة الثالثة من الهجرة.
وفي تلك السنة التي هي الثالثة عقد عثمان بن عفان ، على أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ بعد موت أختها رقية، وتقدم وقت موتها.
وعقد على حفصة بنت عمر بن الخطاب ، وذلك في شعبان لما انقضت عدة وفاة زوجها خنيس بن حذيفة من شهداء بدر، بعد أن عرضها عمر على أبي بكر فلم يجبه لشيء، وعرضها على عثمان فلم يجبه لشيء، فقال عمر: يا رسول الله قد عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني، فقال له رسول الله «إن الله قد زوّج عثمان خيرا من ابنتك، وزوج ابنتك خيرا من عثمان» فتزوج عثمان أم كلثوم، وتزوّج حفصة.
وتزوّج أيضا زينب بنت خزيمة في رمضان. وتزوّج زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب في تلك السنة.
وقيل تزوّجها في السنة الرابعة، وصححها في الأصل. وقيل في الخامسة، وكان اسمها برة بفتح الموحدة، واسم أمها بُرة بضمها، فغير اسمها وسماها زينب، وقال لها «لو كان أبوك مسلما لسميناه باسم رجل منا، ولكن قد سميته جحشا» أي والجحش في اللغة السيد.
وقد كان جاء إليها ليخطبها لمولاه زيد بن حارثة، فقالت: لست بناكحته، قال: بل فانكحيه، قالت: يا رسول الله أؤامر: أي أشاور نفسي فإني خير منه حسبا، فأنزل الله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الآية، فقالت عند ذلك رضيت.
وفي رواية أنها وهبت نفسها للنبي فزوّجها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول الله ﷺ فزوجها عبده فنزلت الآية.
أي وعن مقاتل «أن زيد بن حارثة لما أراد أن يتزوّج زينب جاء إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله اخطب علي؟ قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، فقال له: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نسبا، فقال: يا رسول الله ﷺ إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، قال: إنها امرأة لسناء» أي فصيحة، والمراد لسانها طويل، فذهب زيد إلى علي ، فحمله على أن يكلم له النبي، فانطلق معه عليّ إلى النبي ﷺ فكلمه، فقال: إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها لتكلمهم ففعل، ثم عاد فأخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك فأرسل إليهم النبي ﷺ يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فانكحوه، وساق إليهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله. ثم بعد ذلك جاء بيت زيد يطلبه فلم يجده، فتقدمت إليه زينب، فأعرض عنها، فقالت له: ليس هو هنا يا رسول الله فادخل، فأبى أن يدخل وأعجبت رسول الله، أي لأن الريح رفعت الستر فنظر إليها من غير قصد فوقعت في نفسه، فرجع وهو يقول «سبحان مصرّف القلوب» وفي رواية «مقلب القلوب» وسمعته زينب يقول ذلك، فلما جاء زيد أخبرته الخبر، فجاء إليه وقال: يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها لك، فقال له رسول الله ﷺ: أمسك عليك زوجك، فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم، أي فلم يستطع أن يغشاها من حين رآها إلى أن طلقها.
فعنها : لما وقعت في قلب النبي ﷺ لم يستطعني زيد وما امتنعت منه، وصرف الله تعالى قلبه عني، وجاءه يوما وقال له: يا رسول الله إن زينب اشتدّ عليّ لسانها وأنا أريد أن أطلقها، فقال له اتق الله وأمسك عليك زوجك، فقال: استطالت عليّ، فقال له إذن طلقها فطلقها. فلما انقضت عدّتها أرسل زيدا لها فقال له اذهب فاذكرها عليّ فانطلق، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله ﷺ يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي: أي أستخيره. فبينا رسول الله ﷺ جالس يتحدث مع عائشة إذ نزل عليه الوحي بأن الله زوّجه زينب، فسريّ عنه وهو يبتسم، وهو يقول: من يذهب إلى زينب فيبشرها أن الله زوجنيها من السماء؟ وجاء إليها رسول الله ﷺ فدخل عليها بغير إذن، قالت: دخل عليّ وأنا مكشوفة الشعر، فقلت: يا رسول الله بلا خطبة ولا إشهاد؛ قال: الله المزوج، وجبريل الشاهد، أي وأنزل الله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك} الآية، فهذه الآية نزلت في زيد وقد قالها في حق ولده أسامة، فقد جاء «أحب أهلي إليّ من أنعم الله وأنعمت عليه أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب» فنعمة الله على زيد وعلى ولده أسامة الإسلام. ونعمة النبي ﷺ عليهما العتق، لأن عتق أبيه عتق له تأمل.
وإنما توجه هذا العتب أي لأن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكا إليه زيد قال له {أمسك عليك زوجك واتق الله} وأخفى منه في نفسه ما الله مبديه ومظهره، وهو ما أعلمه الله به من أنك ستتزوّجها، فالذي أخفاه ما كان الله أعلمه به {وتخشى الناس} أي اليهود والمنافقين أن يقولوا تزوج امرأة ابنه {والله أحق أن تخشاه} في إمضاء ما أحبه ورضيه لك وأعطاك إياه.
وقد جعل الله تعالى طلاق زيد لها وتزوّج النبي ﷺ إياها لإزالة حرمة التبني. قال تعالى {لئلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم}. وأولم عليها بما لم يولم به على نسائه وذبح شاة وأطعم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدّثون في البيت بعد الطعام، فشق ذلك على رسول الله.
ففي البخاري «فجعل النبي ﷺ يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون» وفي البخاري أيضا «فخرج النبي، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، ثم دخل حجر نسائه كلهنّ يقول كما قال لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبي ﷺ فوجد القوم في البيت يتحدثون قال أنس : وكان النبي ﷺ شديد الحياء، فخرج فطلبها إلى حجرة عائشة، فأخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى وضع رجله في أسكفة البيت داخله وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه فنزلت آية الحجاب». قال في الكشاف وهي أدب الله تعالى به الثقلاء.
وفي مسلم عن عائشة قالت «خرجت سودة بعد ما ضرب علينا الحجاب تقضي حاجتها أي بالمناصع: محل كان أزواجه يخرجن إليه بالليل للتبرز، وكانت امرأة جسيمة، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين، فانكفأت راجعة ورسول الله ﷺ في بيتي ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله إني خرجت، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله تعالى إليه، ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» وكان قول عمر لسودة ما ذكر حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة ، فأنزل الله الحجاب، وفيه أنه تقدم عنها أن قول عمر لسودة كان بعد أن ضرب.
وقد يقال المراد بالحجاب هنا عدم خروجنّ للبراز فلا ترى أشخاصهنّ، والحجاب المتقدم عدم رؤية شيء من أبدانهن فلا مخالفة فليتأمل.
وعن عائشة قالت «دخلت على زينب بنت جحش وعندي رسول الله، فأقبلت عليه، فقالت له: ما كل واحدة منا عندك إلا على خلاء: أي على ما أردت، ثم أقبلت عليّ تسبني فردعها النبي ﷺ فلم تنته. فقال لي سبيها فسببتها وكنت أطول لسانا منها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله ﷺ يتهلل سرورا» أي وفي يوم غضب رسول الله ﷺ على زينب لقولها في صفية بنت حيي: تلك اليهودية، فهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض صفر، ثم أتاها بعد وعاد إلى ما كان معها.
وعن عائشة أنها قالت «أرسل أزواج النبي ﷺ فاطمة بنت النبي ﷺ تستأذن والنبي ﷺ معي، فأذن لها فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة» أي أن تعدل بينهنّ وبينها «فقال النبي ﷺ: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت بلى، قال فأحبي هذه يعنيني، فقامت فاطمة فخرجت فجاءت أزواج النبي ﷺ فحدثتهنّ بما قالت وبما قال لها فقلن لها: ما أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى النبي، فقالت: والله لا أكلمه فيها أبدا.
فأرسل أزواج النبي ﷺ زينب بنت جحش فاستأذنت عليه وهو في بيت عائشة فأذن لها، فدخلت فقالت: يا رسول الله أرسلني أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعت: أي زينب بي تسمعني ما أكره، فطفقت أنظر إلى النبي ﷺ حتى يأذن لي فيها، فلم أزل حتى عرفت أن النبي ﷺ لا يكره أن أنتصر، فوقعت بها أسمعها ما تكره، فتبسم النبي ﷺ وقال لها: إنها ابنة أبي بكر» أي محل الفصاحة والشهامة.
وسبب ذلك أي طلبهنّ أن يعدل بينهن وبين عائشة أن الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله.
غزوة أحد
وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور. وشذ من قال سنة أربع. وأحد جبل من جبال المدينة، قيل سمي بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك، وهذا الجبل يقصد لزيارة سيدنا حمزة ومن فيه من الشهداء. وهو على نحو ميلين، وقيل على ثلاثة أميال من المدينة؛ يقال إن فيه قبر هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، وفيه قبض، فواراه موسى به. وكانا قدما حاجين أو معتمرين.
وعن ابن دحية أن هذا باطل بيقين، وأن نص التوراة أنه دفن بجبل من جبال بعض مدن الشام.
وقد يقال لا مخالفة، لأنه يقال المدينة شامية، وقيل دفن بالتيه هو وأخوه موسى عليهما الصلاة والسلام كما تقدم.
قال «إن أحدا هذا جبل يحبنا ونحبه، إذا مررتم به فكلوا من شجره ولو من عضاهه» أي وهي كل شجرة عظيمة لها شوك. والقصد الحث على عدم إهمال الأكل من شجرة تبركا به.
وقال «أحد ركن أركان من أركان الجنة» أي جانب عظيم من جوانبها وفي رواية «على باب من أبواب الجنة» ولا يخالف ما قبله، فإنه جاز أن يكون ركنا بجانب الباب. وفي رواية «جبل من جبال الجنة» ولا مانع أن تكون المحبة من الجبل على حقيقتها، وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود ﵇، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها {وإن منها لما يهبط من خشية الله}.
وقيل هو على حذف مضاف: أي يحبنا أهله وهم الأنصار. أو لأن اسمه مشتق من الأحدية، وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال. وقيل أفضلها عرفة. وقيل أبو قبيس وقيل الذي كلم الله عليه موسى. وقيل قاف.
ولما أصاب قريشا يوم بدر ما أصابها مشى عبدالله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، فإنهم أسلموا بعد ذلك، ورجال أخر من أشراف قريش إلى أبي سفيان ، فإنه أسلم بعد ذلك أيضا، وإلى من كان له تجارة في تلك العير: أي التي كان سببها وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة في دار الندوة لم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم: أي قتل رجالكم ولم تدركوا دماءهم، وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا: أي وقالوا نحن طيبو النفوس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال، فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت خمسين ألف دينار، وأخرجوا أرباحها وكان الربح لكل دينار دينار أي فكان الذي أخرج خمسين ألف دينار. وقيل أخرجوا خمسة وعشرين ألف دينار، وأنزل الله تعالى في تلك {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}.
وتجهزت قريش من والاهم من قبائل كنانة وتهامة. وقال صفوان بن أمية لأبي عزة يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك، ولك عليّ إن رجعت أن أغنيك، وأن أصبت أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ أي وأخذ علي أن لا أظاهر عليه أحدا حين أطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن أظاهر عليه، قال بلى فأعنا بلسانك.
فخرج أبو عزة ومسافع يستنقران الناس بأشعارهما. فأما مسافع فلا يعلم له إسلام، لكن في كلام ابن عبد البر: مسافع بن عياض بن صخر القرشي التيمي له صحبة، وكان شاعرا لم يرو شيئا ولا أدري هل هو هذا أو غيره. وأما أبو عزة فظفر به رسول الله ﷺ بعد هذه الوقعة بحمراء الأسد: أي المكان المعروف الآتي بيانه قريبا، وتقدم استطرادا، ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي، وتقدم استطرادا.
ودعا جبير بن مطعم بن عدي فإنه أسلم بعد ذلك غلاما له حبشيا يقال له وحشي ، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطىء بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق، أي لأن حمزة هو القاتل له. وقيل وحشي كان غلاما لطعيمة، وإن ابنة سيده طعيمة قالت له: إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فإني لا أدري في القوم كفؤا له غيرهم فأنت عتيق، وخرج معهم النساء بالدفوف.
وفي كلام سبط بن الجوزي: وساروا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور والبغايا، هذا كلامه. وخرج من نساء قريش خمس عشرة امرأة: أي مع أزواجهن. ومنهنّ هند زوج أبي سفيان ، فإنها أسلمت بعد ذلك. أي وأم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة ، فإنهما أسلما بعد ذلك، وسلافة مع زوجها طلحة ابن أبي طلحة، وأم مصعب بن عمير يبكين قتلى بدر وينحن عليهم، يحرضنهم على القتال، وعدم الهزيمة والفرار. وبلغ رسول الله ﷺ ذلك أرسل به إليه عمه العباس، أي بعد أن راودوه على الخروج معهم، فاعتذر بما لحقه من القوم يوم بدر ولم يساعدهم بشيء، وذلك في كتاب جاء إليه وهو بقباء، أرسله العباس مع رجل استأجره من بني غفار وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل كذلك، فلما جاءه الكتاب فك ختمه ودفعه لأبي فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبيا، ونزل على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس، أي فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله ﷺ من عنده قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله؟ فقال لها: لا أم لك وأنت وذاك؟ فقالت: قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله، فاسترجع وأخذ بيدها ولحقه فأخبره خبرها وقال: يا رسول الله إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال له رسول الله ﷺ خلّ عنها.
وسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل. وقال بعض الحفاظ جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وخرج معه أبو عامر الراهب في سبعين فارسا من الأوس. قال في الأصل: والأحابيش الذين حالفوا قريشا، وهم: بنو المصطلق وبنو الهون ابن خزيمة، اجتمعوا عند حبشي، وهو جبل بأسفل مكة، وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة على غيرهم ما سجى ليل ووضح نهار، ومارسا حبشي مكانه، فسموا أحابيش باسم الجبل. وقيل سموا بذلك لتحبشهم: أي تجمعهم، وفيهم مائتا فارس أي وثلاثة آلاف بعير وسبعمائة ذرع حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحليفة: أي وهو ميقات أهل المدينة الذي يحرمون منه، أي وأرجفت اليهود والمنافقون، فبعث رسول الله ﷺ عينين له: أي جاسوسين فأتيا رسول الله ﷺ بخبرهم.
ويقال إن عمرو بن سالم الخزاعي مع نفر من خزاعة فارقوا قريشا من ذي طوى وجاءوا إلى النبي ﷺ وأخبروه خبرهم وانصرفوا. ولما وصلوا: أي كفار قريش ومن معهم للأبواء أرادوا نبش قبر أمه، والمشير عليهم بذلك هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ، فقالت: لو بحثتم قبر أم محمد فإن أسر منكم أحدا فديتم كل إنسان بأرب من آرابها: أي جزء من أجزائها، فقال بعض قريش: لا يفتح هذا الباب وإلا نبش بنو بكر موتانا عند مجيئهم، وحرست المدينة، وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة وعليهم السلاح في المسجد بباب رسول الله حتى أصبحوا.
ورأى رسول الله ﷺ رؤيا قال: «رأيت البارحة في منامي خيرا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذبابة سيفي: أي وهو ذو الفقار «ثلما» بإسكان اللام. وفي لفظ «وكأن ظبة سيفي انكسرت» وفي لفظ «ورأيت سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته فكرهته، وهما مصيبتان. ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة» وفي رواية «ورأيت أني في درع حصينة أي وأني مردف كبشا. قال بعد أن قيل له ما أولتها؟ قال: قال: فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون» وفي لفظ «أولت البقر بقرا يكون فينا. وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي» أي وفي رواية «من عترتي يقتل» وفي رواية «رأيت أن سيفي ذا الفقار فلّ، فأولته فلا فيكم» أي وفلول السيف كسور في حده، وقد حصل في حد سيفه كسور، وحصل انفصام ظبته وذهابها فكان ذلك علامة على وجود الأمرين. وأما الدرع الحصينة فالمدينة: أي وأما الكبش فإني أقتل كبش القوم: أي حاميهم وقال لأصحابه: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلنا فيها، أي فأنا أعلم بها منهم وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فهي كالحصن، وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار. قال: ووافق على ذلك عبدالله ابن أبي سلول، أي فإن رسول الله ﷺ أرسل يستشيره ولم يستشره قبل ذلك، قال: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من ورائهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كماجاؤوا. ا هـ.
وهذا هو الظاهر خلافا لما ذكره بعضهم من أنه دعا عبدالله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره، فقال: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكالب، إذ لا يناسب ذلك ما يأتي عنه من رجوعه وقوله خالفني الخ، وإنما قال ذلك رجل من المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة يوم أحد. وقال رجال: أي غالبهم أحداث أحبوا لقاء العدوّ وغالبهم ممن أسف على ما فاته من مشهد بدر، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا، أي فيكون ذلك جراءة منهم علينا، والله لا نطيع العرب في أن تدخل علينا منازلنا.
وفي لفظ أن الأنصار قالوا: يا رسول الله ما غلبنا عدو لنا أتانا في دارنا أي في ناحية من نواحيها فكيف وأنت فينا ووافقهم على ذلك حمزة بن عبد المطلب. وقال للنبي: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، كل ذلك ورسول الله ﷺ كاره للخروج، فلم يزالوا برسول الله ﷺ حتى وافق على ذلك، فصلى الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلّى بالناس العصر وقد حشدوا: أي اجتمعوا؛ وقد حضر أهل العوالي ثم دخل رسول الله ﷺ بيته ومعه أبو بكر وعمر فعمماه وألبساه، وصف الناس ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله ﷺ على الخروج فردّوا الأمر إليك، أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه فخرج رسول الله ﷺ وقد لبس لأمته وظاهر بين درعين أي لبس درعا فوق درع، وهما: ذات الفضول، وفضة التي أصابها من بني قينقاع كما تقدم، وذات الفضول هذه هي التي أرسلها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وهي التي مات عنها وهي مرهونة عند اليهودي، وأفتكها أبو بكر ، وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه: وأنكر الإمام أبو العباس ابن تيمية أنه تمنطق حيث قال: لم يبلغنا أن النبي ﷺ شد وسطه بمنطقة.
وقد يقال: مراد ابن تيمية المنطقة المعروفة وليس هذا منها. وفيه رد على بعضهم في قوله: كان له منطقة من أدم فيها ثلاث حلق من فضة، والطرف من فضة.
وقد يقال: لا يلزم من كونه له منطقة أن يكون تمنطق بها فليتأمل.
وتقلد السيف، وألقى الترس في ظهره، أي وفي رواية: فركب فرسه السكب، وتقلد القوس، وأخذ قناته بيده، أي ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك، فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك. ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت. وفي رواية: فإن شئت فاقعد، أي وقال: قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، أي وفي رواية: حتى يقاتل.
وأخذ منه أن يحرم على النبي نزع لأمته إذا لبسها حتى يلحق العدوّ ويقاتل، وبه قال أئمتنا: أي وقيل إنه مكروه واستبعد. وقوله «وما ينبغي لنبي» يقتضي أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك، أي لأن نزع ذلك يشعر بالجبن، وذلك ممتنع على الأنبياء قاله في النور.
وما اختص به من المحرمات فهو مكروه له، لأن المحرم في المنهيات كالواجب في المأمورات.
وعقد ثلاثة ألوية: لواء للأوس وكان بيد أسيد بن حضير، ولواء للمهاجرين وكان بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل بيد مصعب بن عمير، أي لأنه كما قيل لما سئل عمن يحمل لواء المشركين؟ فقيل طلحة بن أبي طلحة: أي من بني عبد الدار، فأخذه من علي ودفعه لمصعب بن عمير، أي لأن مصعب ابن عمير من بني عبد الدار وهم أصحاب اللواء في الجاهلية كما تقدم؛ وسيأتي. ولواء للخزرج. كان بيد الحباب بن المنذر، وقيل بيد سعد بن عبادة.
وخرج في ألف، وقيل تسعمائة، ولعله تصحيف عن سبعمائة لما سيأتي أن عبدالله ابن أبي ابن سلول رجع معه ثلاثمائة، فبقي سبعمائة من أصحابه منهم مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دارعين. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، أي وسار إلى أن وصل رأس الثنية، أي وعندها وجد كتيبة كبيرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء حلفاء عبدالله بن أبي ابن سلول من يهود، فقال: أسلموا؟ فقيل لا، فقال: إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك فردهم: أي وهؤلاء اليهود غير حلفائه من بني قينقاع، فلا يقال هذا إنما يأتي على أن إجلاء بني قينقاع كان بعد أحد، لأنهم هم حلفاؤه من يهود كما تقدّم، لأنا نمنع انحصار حلفائه من يهود في بني قينقاع.
وسار وعسكر بالشيخين، وهما أطمان: أي جبلان وعند ذلك عرض قومه فردّ جمعا: أي شبابا لم يرهم بلغوا خمس عشرة سنة، بل أربع عشرة سنة، كذا نقل عن إمامنا الشافعي ، ونقل عنه بعضهم أنه قال: لم يرهم بلغوا أربع عشرة سنة: منهم عبدالله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، خلافا لمن أنكر صحبته، وعرابة هذا هو القائل فيه الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ** إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ماراية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين
وأوس والده هو القائل في يوم الأحزاب: إن بيوتنا عورة كما سيأتي، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن خيثمة ، أي وزيد بن حارثة الأنصاري كان أبوه حارثة من المنافقين من أصحاب مسجد الضرار، ورافع بن خديج، وسمرة بن جندب.
ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل له إنه رام، وأصيب في ذلك اليوم بسهم، فقال رسول الله ﷺ: أنا أشهد له يوم القيامة، ومات في زمن عبد الملك بن مروان لما نقض عليه ذلك الجرح، وعندما أجازه قال سمرة بن جندب لزوج أمه: أجاز رسول الله ﷺ رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول الله، فقال تصارعا، فصرع سمرة بن جندب رافعا فأجازه.
وممن رده يوم أحد لصغر سنه سعد ابن حبتة، عرف بأمه حبتة؛ فلما كان يوم الخندق رآه يقاتل قتالا شديدا فدعاه ومسح على رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله؛ فكان عما لأربعين، وخالا لأربعين، وأبا لعشرين، ومن ولده أبو يوسف صاحب أبي حنيفة ، وتقدم في بدر أنه رد زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم. وأسيد بن ظهير، فما فرغ العرض إلا وقد غابت الشمس، فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله ﷺ بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى بهم وبات، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، ونام رسول الله، أي وذكوان بن عبد قيس يحرسه لم يفارقه لما قال: من يحفظنا الليلة حتى كان السحر.
وجاء أنه قال «لقد رأيت» أي في النوم «الملائكة تغسل حمزة ، وأدلج رسول الله في السحر فحانت صلاة الصبح بالشوط» حائط بين المدينة وأحد، ومن ذلك المكان رجع عبدالله بن أبي ابن سلول ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل، وهو يقول: عصاني وأطاع الولدان ومن لا أرى له علما ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس فرجعوا، فتبعهم عبدالله بن عمرو ابن حرام وهو والد جابر ، وكان في الخزرج كعبدالله بن أبي يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا بضم الذال المعجمة: قومكم ونبيكم: أي تتركوا نصرتهم وإعانتهم عندما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتالا وأبوا إلا الانصراف، فقال لهم: أبعدكم الله أي أهلككم الله أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه. وفيه أن قوله المذكور يخالف قوله علام نقتل أنفسنا، إلا أن يقال على فرض أنه يقع قتالا، علام نقتل أنفسنا.
فلما رجع عبدالله بن أبي ابن سلول بمن معه، قالت طائفة: نقتلهم، وقالت طائفة أخرى: لا نقتلهم وهما أن يقتتلا، والطائفتان هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، فأنزل الله تعالى {فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم} أي ردهم إلى كفرهم بما كسبوا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: ولما رأى بنو سلمة وبنو حارثة عبدالله بن أبي قد خذل، هموا بالانصراف وكانوا جناحين من العسكر ثم عصمهما الله، وأنزل قوله تعالى {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} الآية فبقي مع رسول الله ﷺ سبعمائة رجل.
ومن هذا يعلم ما في المواهب من قوله: ويقال إن النبي ﷺ أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكان يقال له الشوط، لأن الذين ردهم لكفرهم حلفاء عبدالله بن أبيّ ابن سلول من يهود، وكان رجوعهم قبل الشوط. والذين رجع بهم عبدالله كانوا منافقين، ورجوعه بهم كان من الشوط، ولم يكن مع المسلمين يومئذٍ إلا فرسان: فرس لرسول الله، وفرس لأبي بردة. وقيل لم يكن معهم فرس، أي وهذا القيل نقله في (فتح الباري) عن موسى بن عقبة وأقرّه. وقالت الأنصار أي لما رجع ابن أبي: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود: أي يهود المدينة، ولعلهم عنوا بهم بني قريظة، لأن بني قريظة من حلفاء سعد بن معاذ وهو سيد الأوس.
وقال بعضهم: كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين، فقال: لا حاجة لنا فيهم.
أقول: وحينئذ يكون المراد قالت طائفة من الأنصار وهم الأوس ولم يكونوا سمعوا قوله «إنا لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» والله أعلم.
وقال لأصحابه: من يخرج بنا على القوم من كثيب: أي من طريق قريب لا يمرّ بنا عليهم، فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فنفذ به من حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى دخل في حائط للمربع بن قيظي الحارثي وكان رجلا منافقا ضريرا فقام يحثي التراب، أي في وجوههم، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وفي يده حفنة من تراب وقال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدر إليه سعد بن زيد فضربه بالقوس في رأسه فشجه، وأراد القوم قتله، فقال رسول الله ﷺ: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» أي وغضب له ناس من بني حارثة كانوا على مثل رأيه: أي منافقين لم يرجعوا مع من رجع مع عبدالله بن أبيّ، فهمّ بهم أسيد بن حضير حتى أومأ أي أشار إليه رسول الله ﷺ بترك ذلك ومضى رسول الله ﷺ حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. قال: واستقبل المدينة، وصف المسلمين في جبل أحد: أي بعد أن بات به تلك الليلة، وحانت الصلاة صلاة الصبح والمسلمون يرون المشركين فأذن بلال وأقام، وصلى رسول الله ﷺ بأصحابه صفوفا، وخطب خطبة حثهم فيها على الجهاد.
ومن جملة ما ذكر فيها «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا». وفي رواية «إلا امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض» بالرفع، وعليها فالمستثنى محذوف: أي إلا أربعة. وما ذكر بدل منها، قال «ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد، ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث: أي أوحى وألقى «في روعي» بضم الراء أي قلبي «الروح الأمين» أي الذي هو جبريل «إنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم وأجملوا» أي أحسنوا «في طلب الرزق، لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله، والمؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده والسلام عليكم» انتهى.
أي ولما أقبل خالد بن الوليد ، فإنه أسلم بعد ذلك ومعه عكرمة ابن أبي جهل ، فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم، بعث رسول الله ﷺ الزبير بن العوام وقال له: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، ولعل المراد وأمر جماعة بأن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين، لأنه تقدم أنه لم يكن معهم إلا فرس أو إلا فرسان.
أي وما وقع في الهدى أن الفرسان من المسلمين يوم أحد كانوا خمسين رجلا سبق قلم وقال: لا تبرحوا حتى أوذنكم وقال، لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال، وكان الرماة خمسين رجلا، وأمر عليهم عبدالله بن جبير وقال: انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وأثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا.
أي وفي رواية «إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» زاد في رواية «وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا». قال وفي رواية أنه قال: أي للرماة «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل. فإن الخيل لا تقدّم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم» انتهى.
وأخرج رسول الله ﷺ سيفا أي وكان مكتوبا في أحدى صفحتيه.
في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة ** والمرء بالجبن لا ينجو من القدر
وقال «من يأخذ هذا السيف بحقه، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم من جملتهم علي قام ليأخذه، فقال: اجلس، وعمر فأعرض عنه والزبير ، أي وطلبه ثلاث مرات، كل ذلك ورسول الله ﷺ يعرض عنه حتى قام إليه أبو دجانة وقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال تضرب به في وجه العدوّ حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب» أي يمشي مشية المتكبر «وحين رآه رسول الله ﷺ يتبختر بين الصفين قال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» أي لأن فيها دليلا على عدم الاكتراث بالعدوّ.
وعند اصطفاف القوم نادى أبو سفيان بن حرب: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم، ولعنوه أشد اللعن. قال: وخرج رجل من المشركين على بعير له فدعا للبراز، فأحجم عنه الناس حتى دعا ثلاثا، فقام إليه الزبير، فوثب حتى استوى معه على البعير ثم عانقه، فاقتتلا فوق البعير، فقال رسول الله ﷺ: الذي يلي حضيض الأرض مقتول، فوقع المشرك، فوقع عليه الزبير فذبحه، فأثنى عليه رسول الله ﷺ وقال «لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير» وقال «لو لم يبرز إليه الزبير لبرزت إليه» لما رأى من إحجام الناس عنه انتهى.
وخرج رجل من المشركين بين الصفين، أي وهو طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة والده اسمه عبدالله بن عثمان بن عبد الدار، وكان بيده لواء المشركين لأن بني عبد الدار كانوا أصحاب لواء المشركين، لأن اللواء كان لوالدهم عبد الدار كما تقدم. وطلب طلحة المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد. فقال: يا أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النار؟ أو أعجله بسيفي إلى الجنة كذبتم، واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إليّ بعضكم، فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين، فقتله علي .
أي وفي رواية: فالتقيا بين الصفين فبدره عليّ فصرعه أي قطع رجله ووقع على الأرض وبدت عورته. فقال: يا بن عمي أنشدك الله والرحم، فرجع عنه ولم يجهز عليه. فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله.
وفي رواية قال له رسول الله «ما منعك أن تجهز عليه؟ فقال: ناشدني الله والرحم، فقال: اقتله، فقتله».
أي ووقع لسيدنا علي كرم الله وجهه مثل ذلك في يوم صفين مرتين: الأولى حمل على بسر بن أرطأة، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته، فانصرف عنه. والثانية حمل على عمرو بن العاص، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته فانصرف عنه علي كرّم الله وجهه.
فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة، وعثمان هذا هو أبو شيبة الذي ينسب إليه الشيبيون فيقال بني شيبة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره، فرجع حمزة وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج يعني عبد المطلب، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة؛ فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة الذي قتله علي ، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فقتله، ثم حمله أخو مسافع وهو الحرث بن طلحة، فرماه عاصم فقتله، أي فكانت أمهما وهي سلافة معهما، وكل واحد منهما بعد أن رماه عاصم يأتي أمه ويضع رأسه في حجرها فتقول له: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأفلح، فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وجعلت لمن جاء برأسه مائة من الإبل.
وسيأتي مقتل عاصم في سرية الرجيع، فحمله أخو مسافع وأخو الحرث وهو كلاب ابن طلحة، فقتله الزبير، أي وقيل قزمان، فحمله أخوهم وهو الجلاس بن طلحة، فقتله طلحة بن عبيدالله، فكل من مسافع والحرث وكلاب والجلاس الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة كل قتل كأبيهم طلحة؛ وعميهم وهما عثمان وأبو سعيد.
وعند ذلك حمله أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل حمزة، فحمله شريح بن قارظ، فقتل أي ولم يعرف قاتله، ثم حمله أبو زيد بن عمرو بن عبد مناف ابن هاشم بن عبد الدار، فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم، فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم: أي وكان حبشيا، فقاتل حتى قطعت يده ثم برك عليه فأخذه لصدره وعنقه حتى قتل عليه: أي قتله قزمان. وقيل القاتل له سعد بن أبي وقاص وقيل علي.
وقد كان أبو سفيان قال لأصحاب اللواء: أي لواء المشركين من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار، إنكم تركتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما تؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان.
قال ابن قتيبة: ويقال إن هذه الآية نزلت في بني عبد الدار {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}.
ولما صرع صاحب لواء المشركين: أي الذي هو طلحة بن أبي طلحة استبشر النبي ﷺ وأصحابه: أي لأنه كبش الكتيبة أي الجيش: أي حاميهم الذي رآه النبي ﷺ في رؤياه المتقدمة أنه مردفا كبشا وقال: أوّلت ذلك أني أقتل كبش الكتيبة، فهذا كبش الكتيبة.
وعند وجود ما ذكر من قتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة، فجاس المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم: أي أزالوهم عن أثقالهم، أي وكان شعار المسلمين يومئذٍ: أمت أمت، وشعار الكفار: يا للعزى، وهي شجرة كانوا يعبدونها: يا لهبل، وهو صنم كان داخل الكعبة منصوبا على بئر هناك، وسيأتي في فتح مكة أنه كان خارجها بجانب الباب.
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون في أوّل الأمر كان داخل الكعبة ثم أخرج منها وجعل بجانبها.
أي وخرج عبد الرحمن بن أبي بكر ، فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أبو بكر شاهرا سيفه، فقال له رسول الله ﷺ شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك، وتقدم طلب عبد الرحمن للمبارزة أيضا في يوم بدر، وتقدم عن ابن مسعود أن الصديق دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، وهو يخالف ما هنا إلا أن يقال إنه هنا يجوز وقوع كل من الأمرين: أي طلب المبارزة من الصدّيق لولده عبد الرحمن، وطلب المبارزة من عبد الرحمن لوالده الصديق.
وقد وقع الصديق أن العرب لما ارتدت بعد موته خرج مع الجيش شاهرا سيفه، فأخذ علي بزمام راحلته وقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك كما قال لك رسول الله ﷺ يوم أحد: شم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا، فرجع وأمضى الجيش.
وفي أوّل الأمر حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة أي بالفاء متفرقة، وحمل المسلمون على المشركين فنهكوهم: أي أضعفوهم قتلا، فلما التقى الناس وحميت الحرب قامت هند في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويقلن
ويها بني عبد الدار ** ويها حماة الأدبار
صُربا بكل بتار وويها: كلمة إغراء وتحريض، كما تقول: دونك يا فلان. والأدبار: الأعقاب، أي الذين يحمون أعقاب الناس، والبتار: السيف القاطع، ويقلن:
نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق
مشى القطا النوازق ** والمسك في المفارق
والدر في المخانق ** إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق ** أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
والطارق: النجم، قال تعالى {والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب} قيل هو زحل: أي نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالنجم. واعترض بأنها لو أرادت النجم قالت: نحن بنات الطارق.
ثم رأيت أن هذا الرجز لهند بنت طارق، وحينئذ فليس المراد بطارق النجم، وإنما هو الرجل المعروف، كأنها قالت نحن بنات طارق المعروف بالعلو والشرف.
وعن بعضهم قال: جلست بمكة وراء الضحاك، فسئل عن قول هند يوم أحد: نحن بنات طارق، ما طارق؟ فقلت: هو النجم، فقال لي: كيف ذلك؟ فقلت له: قال الله تعالى {والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق} والنمارق: الوسائد الصغار.
والمراد نفرش ما تجعل عليه الوسائد مع جعلها عليه، والوامق المحب، أي فراق غير محب، لأن غير المحب لا يرجع إذا غضب، بخلاف المحب. ومن ثم قيل: غضب المحب في الظاهر مهابة سيف، وفي الباطن كسحابة صيف.
قال: وكان إذا سمع ذلك: أي تحريض هند بما ذكر يقول «اللهم بك أحول» بالحاء المهملة، أي أمنع «وبك أصول، وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل» انتهى.
أي وفي رواية «كان رسول الله ﷺ إذا لقي العدو قال: اللهم بك أصاول؛ وبك أحاول» أي أطالب.
وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس. فعن الزبير قال: وجدت، أي غضبت، في نفسي حين سألت رسول الله ﷺ السيف: أي الذي قال فيه: من يأخذه بحقه ثلاث مرات وأنا ابن عمته، فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة حمراء: أي أخرجها من ساق خفه وكان مكتوبا على أحد طرفيها {نصر من الله وفتح قريب} وفي طرفها الآخر: الجبانة في الحرب عار، ومن فرّ لم ينج من النار، فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، أي لأنهم كانوا يقولون ذلك إذا تعصب بها، فجعل لا يلقي أحدا إلا قتله أي وكان إذا كلّ ذلك السيف يشحذه: أي يحده بالحجارة، ولم يزل يضرب به العدو حتى انحنى وصار كأنه منجل، وكان رجل من المشركين لا يدع لنا جريحا إلا ذنف عليه: أي أسرع قتله فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاها بدرقته فعضت الدرقة على سيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند: أي بنت عتبة زوج أبي سفيان وقيل غيرها ثم رد السيف عنها.
قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس: أي بالسين المهملة حمسا شديدا: أي يشجعهم، وبالشين المعجمة: يوقد الحرب ويثيرها، فعمدت إليه، فلما حملت عليه بالسيف ولول: أي دعا بالويل: أي قال: يا ويلاه، فعلمت أنه امرأة، فأكرمت سيف رسول الله ﷺ أن أضرب به امرأة.
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا، ومرّ به سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم أي أقبل، يا ابن مقطعة البظور، لأن أمه أم أنمار مولاة شريق والد الأخنس كانت ختانة بمكة.
أي وفي البخاري «يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادّ الله ورسوله؟ » أي تحاربهما وتعاندهما.
وفيه لما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة، فشدّ عليه، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. وفي رواية: فكان كأمس الذاهب. أي وكان تمام واحد وثلاثين قتلهم حمزة.
وفيه أنه سيأتي عن الأصل: وقتل من كفار قريش يوم أحد ثلاثة وعشرين رجلا، وأكب حمزة عليه ليأخذ درعه. قال وحشي غلام جبير بن مطعم: إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه يهد بالدال المهملة: يهدم وبالدال المعجمة: يقطع. أي وقد عثر حمزة، فانكشف الدرع عن بطنه فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته بالمثلثة: وهو موضوع تحت السرة وفوق العانة. وفي لفظ: فندرته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئته فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي في شيء حاجة غيره.
أي وفي لفظ آخر: كان حمزة يقاتل بين يدي رسول الله ﷺ بسيفين وهو يقول: أنا أسد الله، فبينا هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره، فانكشفت الدرع عن بطنه، فطعنه وحشي الحبشي بحربته.
ثم لما قتل أصحاب لواء المشركين واحدا بعد واحد، ولم يقدر أحد يدنو منه، انهزم المشركون وولوا لا يلوون على شيء، ونساؤهم يدعون بالويل بعد فرحهم وضربهم بالدفوف وألقين الدفوف، وقصدن الجبل كاشفات سيقانهن يرفعن ثيابهنّ، وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم، ففارقت الرماة محلهم الذي أمرهم أن لا يفارقوه، ونهاهم أميرهم عبدالله بن جبير، فقالوا له: انهزم المشركون فما مقامنا هاهنا؟ وانطلقوا ينتهبون. وثبت عبدالله بن جبير مكانه وثبت معه دون العشرة وقال: لا أجاوز أمر رسول الله. فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل من الرماة وقلة من به منهم، فكرّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل فإنهما أسلما بعد ذلك، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم مع أميرهم عبدالله بن جبير أي ومثلوا به. ومن كثرة طعنه بالرماح خرجت حشوته وأحاطوا بالمسلمين. فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والأسر، إذ دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها: يا للعزى يا لهبل، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون. وتفرقت المسلمون في كل وجه وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلط المسلمون وصار يضرب بعضهم بعضا من غير شعار: أي من غير أن يأتوا بما كانوا ينادون به في الحرب يتعارفون به في ظلمة الليل، وعند الاختلاط وهو: أمت أمت مما أصابهم من الدهش والحيرة، ولم يزل لواء المشركين ملقى حتى أخذته عمرة بنت علقمة ورفعته لهم، فلاثوا، أي بالمثلثة: استداروا به واجتمعوا عنده، ونادى ابن قمئة بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة إن محمدا قد قتل. وقيل المنادي بذلك إبليس: أي متمثلا بصورة جعال أو جعيل ابن سراقة، وكان رجلا صالحا ممن أسلم قديما، وكان من أهل الصفة. قيل وهو الذي غير النبي ﷺ اسمه يوم الخندق وسماه عمرا كما سيأتي، وسيأتي ما فيه.
ثم إن الناس وثبوا على جعال ليقتلوه فتبرأ من ذلك القول، وشهدت له خوات بن جبير وأبو بردة بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما حين صرخ ذلك الصارخ. وقيل المنادي بذلك إزب العقبة، قال ذلك ثلاث مرات، أي لأنه لما بلغ رسول الله ﷺ ما صرخ الشيطان به قال: هذا إزب العقبة بكسر الهمزة وسكون الزاي، والإزب: القصير كما تقدم.
وقد ذكر أن عبدالله بن الزبير رأى رجلا طوله شبران على رحله فقال: ما أنت؟ قال إزب، قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود السوط حتى هرب، أي ويجوز أن يكون ذلك صدر من الثلاثة، وهم ابن قمئة، وإبليس وإزب العقبة، فرجعت الهزيمة على المسلمين، أي وقال قائل: يا عباد الله أخراكم: أي احترزوا من جهة أخراكم، فعطف المسلمون على أخراهم يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة ولم يدخلوها. وقال رجال من المسلمين حيث قتل رسول الله ﷺ ارجعوا إلى قومكم يؤمنوكم. وقال آخرون: إن كان رسول الله ﷺ قد قتل أفلا تقاتلون على دين نبيكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله شهداء.
أي وفي (الإمتاع) أن ثابت بن الدحداح: قال يا معشر الأنصار إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار .
وكان من جملة من انهزم عثمان بن عفان والوليد بن عقبة وخارجة بن زيد ورفاعة ابن معلى، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: ذهبتم فيها عريضة، وأنزل الله تعالى {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولقد عفا الله عنهم} قال: وقال جماعة: ليت لنا رسولا إلى عبدالله بن أبيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم. وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة، فلقيتهم أم أيمن فجعلت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك ا هـ: أي أعطني سيفك، أي فالمنهزمون في ذلك اليوم طائفتان: طائفة لم تدخل المدينة، وأخرى دخلتها. وفيه أن أم أيمن كانت في الجيش تسقي الجرحى.
أي فقد جاء «أن حباب بن العرقة رمى بسهم فأصاب أم أيمن وكانت تسقي الجرحى فوقعت وتكشفت فأغرق عدوّ الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله ﷺ فدفع إلى سعد سهما لا نصل له وقال ارم به، فوقع السهم في نحر حباب فوقع مستلقيا حتى بدت عورته فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد» أجاب الله دعوته، أي وفي رواية: «اللهم استجب لسعد إذا دعاك، فكان مجاب الدعوة. وقد يقال: لا منافاة بين كون أم أيمن كانت في الجيش وبين كونها كانت في المدينة لجواز أن تكون رجعت ذلك الوقت من الجيش إلى المدينة.
وقال رجال: أي من المنافقين لما قيل قد قتل محمد الذين بقوا ولم يذهبوا مع عبدالله ابن أبي ابن سلول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. أي وقال بعضهم لو كان نبيا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الأول.
وفي النهر أن فرقة قالوا نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا. وهذا يدل على أن هذه الفرقة ليست من الأنصار بل من المهاجرين.
قال: وعن الزبير بن العوام . قال: لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ يوم أحد حين اشتدّ علينا الخوف وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير. أي ويقال ابن بشير، وكان ممن شهد العقبة: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} الآية.
وعن كعب بن عمرو الأنصاري . قال: لقد رأيتني يومئذٍ في أربعة عشر من قومي إلى جنب رسول الله ﷺ وقد أصابنا النعاس أمنة منه، أي لأنه لا ينعس إلا من يأمن، ما منهم أحد إلا غط غطيطا، حتى إن الجحف: أي الدرق تتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر، وإن المشركين لتحثنا ا هـ وتقدم في بدر أنه حصل لهم النعاس ليلة القتال لا فيه على ما تقدم. وتقدم أن النعاس في الصف من الإيمان وفي الصلاة من الشيطان.
وثبت لما تفرقت عنه أصحابه، وصار يقول: إليّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول الله، فما يعرّج إليه أحد والنبل يأتي إليه من كل ناحية والله يصرفه عنه.
أي وفي الإمتاع أنه قال «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، أنا ابن العواتك» فليتأمل. فإن المحفوظ أنه إنما قال ذلك في حنين وإن كان لا مانع من التعدد.
وثبت مع رسول الله ﷺ جماعة أي من أصحابه منهم أبو طلحة فإنه استمرّ بين يدي النبي ﷺ يحوز عنه بحجفته. وكان رجلا راميا شديد الرمي، فنثر كنانته بين يدي رسول الله، أي وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، فلم يزل يرمي بها. وكان الرجل يمرّ بالجعبة بضم الجيم من النبل فيقول انثرها لأبي طلحة، أي وكسر ذلك اليوم قوسين أو ثلاثة، وصار رسول الله ﷺ يشرف: أي ينظر إلى القوم. وفي لفظ: ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك انتهى، أي ويتطاول أبو طلحة بصدره يقي رسول الله ﷺ.
واستدل بذلك على أن من خصائصه أنه يجب على كل مؤمن أن يؤثر حياته على حياته. قال: فلا خلاف أن هذا لا يجب لغيره، وهذا المذكور عن أبي طلحة من قوله: نحري دون نحرك نقله ابن المنير عن سعد بن أبي وقاص فقال ولهذا قال سعد يوم أحد: نحري دون نحرك، ولا زال يرمي عن قوسه أي المسماة بالكتوم لعدم تصويتها إذا رمى عنها حتى صارت شظايا: أي ذهب منها قطع.
وفي رواية: رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، والسية: ما انعطف من طرفي القوس اللذين هما محل الوتر. قال: وما زال يرمي عن قوسه حتى تقطع وتره وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له. فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: مده يبلغ. قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ وطويت منه لفتين أو ثلاثا على سية القوس، ورمى بالحجارة وكان أقرب الناس إلى القوم ا هـ.
أي وأنكر الإمام أبو العباس بن تيمية كونه رمى عن قوسه حتى صارت شظايا، أي لأنه يبعد وجود رميه من غير إصابة، ولو أصاب أحد لذكر، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وقاتل جماعة من أصحابه منهم سعد بن أبي وقاص، فإنه كان من الرماة المذكورين رمى بقوسه. قال سعد: لقد رأيته: يعني النبي ﷺ يناولني النبل ويقول «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول ارم به. وقد تقدم أنه رمى بسهم من تلك السهام التي لا نصل لها لمن رمى أم أيمن.
قال: وفي رواية عن سعد قال «أجلسني رسول الله ﷺ أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوّك، ورسول الله ﷺ يقول: اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته، وأجب دعوته، حتى إذا فرغت من كنانتي نثر رسول الله ﷺ ما في كنانته» ا هـ أي فكان سعد مجاب الدعوة كما تقدم.
ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر ، أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة، فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا وأثنى عليه معروفا، حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة ذمه وقال: لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. فلما بلغ سعدا ذلك قال: اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره، وأدم فقره، وأعم بصره، وعرضه للفتن، فعمي، وافتقر، وكبر سنه، وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة؛ فإذا قيل له: كيف أنت يا أبا سعدة؟ يقول: شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد.
قيل لسعد: لم تستجاب دعوتك من دون الصحابة؟ فقال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين جاءت، ومن أين خرجت؟ أي لأنه جاء عن ابن عباس «تليت عند رسول الله ﷺ هذه الآية {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} فقام سعد بن أبي وقاص وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: والذي نفس محمد بيده إن العبد ليعقد اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما».
وقد جاء في الحديث «من كان مأكله حراما، ومشربه حراما، وملبسه حراما فأنى يستجاب له» فليتأمل هذا الجواب.
وقد يقال: مراد سعد بقوله: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، أي ممن يأكل الحلال الطيب ويميز عند الأكل بين الحرام وبين غيره حتى أكون مستجاب الدعوة.
ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب. ولعل السكوت عن اللبس لأنه نادر بالنسبة للأكل، وجوابه بقوله «والذي نفس محمد بيده» تقرير لما فهمه سعد أن من يأكل غير الحلال لا يكون مستجاب الدعوة تأمل.
والحق أن سبب استجابة دعوة سعد دعاء النبي ﷺ له بذلك، ولعله إنما لم يجب بذلك لمن سأله بقوله لم تستجاب دعوتك من بين الصحابة، لأنه يجوز أن يكون دعاء النبي ﷺ له بذلك تأخر عن هذا فليتأمل.
وفي الشرف «أن سعدا رمى يوم أحد ألف سهم ما منها سهم إلا ورسول الله ﷺ يقول له ارم فداك أبي وأمي، ففداه في ذلك اليوم ألف مرة».
وعن على كرم الله وجهه «ما سمعت رسول الله ﷺ قال فداك أبي وأمي إلا لسعد » وفي رواية «فما جمع أبويه لأحد إلا لسعد ».
قال في النور: الرواية الأولى أصح، لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع، أي لأنه حينئذ لا يخالف ما جاء عن عبدالله بن الزبير «أن النبي ﷺ جمع لأبيه الزبير بين أبويه، أي قال له فداك أبي وأمي كسعد» أي وذلك في يوم الخندق حيث أتاه بخير بني قريظة، وكذا الرواية الثانية لا تخالف، لأنها محمولة على سماعه.
وعلى الأخذ بظاهرها، وعدم حملها على ذلك يجاب بما قال في النور: ظهر لي أن عليا كرم الله وجهه إنما أراد تفدية خاصة وهي ألف مرة أو في خصوص أحد.
وكان يفتخر بسعده فيقول: «هذا سعد خالي، فليرني امرؤ خاله» لأن سعدا كان من بني زهرة، وكانت أم النبي ﷺ منهم كما تقدم: أي «وكان إذا غاب يقول رسول الله ﷺ: مالي لا أرى الصبيح المليح الفصيح؟ ».
ولما كف بصره قيل له: لو دعوت الله سبحانه أن يرد عليك بصرك، فقال: قضاء الله أحب إليّ من بصري.
ولما حضرت الوفاة سعد بن أبي وقاص دعا بخلق جبة من صوف فقال: كفنوني فيها فإني كنت لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما كنت أخبئها لهذا.
وممن كان مشهورا بالرماية سهيل بن حنيف ، وكان ممن ثبت مع النبي ﷺ في هذا اليوم الذي هو يوم أحد. قال بعضهم: وكان بايعه يومئذٍ على الموت، فثبت معه حتى انكشف الناس عنه، وجعل ينضح بالنبل يومئذٍ عن رسول الله ﷺ وقال: نبلوا سهيلا: أي أعطوه النبل.
وجاء «أن خاله وهو الأسود بن وهب بن عبد مناف بن زهرة استأذن على النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: يا خالي ادخل، فدخل فبسط له رداءه وقال: اجلس عليه إن الخال والد، يا خال من أسدى إليه معروف فلم يشكر فليذكر، فإنه إذا ذكر فقد شكر» وقال له «ألا أنبئك بشيء عسى الله أن ينفعك به؟ قال بلى، قال: إن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه بغير حق».
وعن أم عمارة المازنية : أي وهي نسيبة بالتصغير على المشهور، زوج زيد بن عاصم قالت «خرجت يوم أحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ما أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو في أصحابه والربح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله. فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى حصلت الجراحة إليّ ورؤى على عاتقها جرح أجوف له غور، فقيل لها من أصابك بهذا؟ قالت ابن قمئة، لما ولى الناس عن رسول الله ﷺ أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، فضربني هذه الضربة وضربته ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان».
قال: وفي كلام بعضهم خرجت نسيبة يوم أحد وزوجها زيد بن عاصم وابناهما خبيب وعبدالله وقال لهم رسول الله «رحمكم الله أهل البيت». وفي رواية «بارك الله فيكم أهل بيت» قالت له أم عمارة : ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة: أي وعند ذلك قالت : ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا».
وقال في حقها «ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني» ا هـ أي وقد جرحت اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، وعبدالله ابنها هو القاتل لمسيلمة الكذاب لعنه الله.
فعنها قالت: يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة، وما كان لي ناهية: أي مانعة حتى رأيت الخبيث مقتولا، وإذا ابني عبدالله بن زيد يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ فقال نعم، فسجدت لله شكرا.
ولا ينافيه ما اشتهر أن قاتله وحشي. فعن وحشي قال: قال لي رسول الله ﷺ: أي بعد أن قدم عليه في وفد ثقيف وأسلم كما سيأتي «يا وحشي اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تقاتل لتصد عن سبيل الله، فلما كان خروج المسلمين لقتال مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة لما ولي الصديق ا لخلافة وارتدت العرب، خرجت معهم فأخذت حربتي، فلما رأيته تهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى، كلانا يريده، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت فيه، وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم أينا قتله قال بعضهم: والأنصاري هو عبدالله بن زيد أي كما تقدم، وقيل غيره.
أي وفي كلام بعضهم: اشترك في قتل مسيلمة الكذاب لعنه الله أبو دجانة، وعبدالله بن زيد، ووحشي . وفي تاريخ ابن كثير الاقتصار على وحشي وأبي دجانة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأن كلا من الرواة روى بحسب ما رأى. وذكر ابن كثير أن ما يروى عن أبي دجانة من ذكر الحرز المنسوب إليه إسناده ضعيف لا يلتفت إليه.
وقد نقل عن وحشي أنه قال: قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس وكان عمر مسيلمة حين قتل مائة وخمسين سنة.
وذكر أن أبا دجانة تترس دون رسول الله ﷺ فصار يقع النبل على ظهره وهو منحن حتى كثر فيه النبل.
وقاتل دونه زيادة ابن عمارة حتى أثبتته الجراحة: أي أصابت مقاتله، فقال: أدنوه مني فوسده قدمه الشريف، فمات وخده على قدمه الشريف.
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله ﷺ حتى قتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله؛ فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
وقيل القاتل لمصعب أبي بن خلف لعنه الله، فإنه أقبل نحو النبي ﷺ وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجا، فاستقبل مصعب بن عمير فقتل مصعبا، فاعترضه رجال من المسلمين؟ فأمرهم رسول الله ﷺ أن يخلوا طريقه، أي فأقبل وهو يقول يا كذاب أين تفر، وتناول النبي الحربة من بعض أصحابه أي وهو الحارث بن الصمة أو الزبير بن العوام على ما سيأتي، فخدشه بها في عنقه خشدا غير كبير احتقن الدم: أي لم يخرج بسبب ذلك الخدش، فقال قتلني والله محمد، فقالوا: ذهب والله فؤادك، أي وفي لفظ: ذهب والله عقلك، إنك لتأخذ السهام من أضلاعك فترمي بها، فما هذا والله ما بك من بأس، ما أخدعك، إنما هو خدش، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات والعزى لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز؟ أي السوق المعروف من جملة أسواق الجاهلية كان عند عرفة كما تقدم. وفي لفظ: لو كان بربيعة ومضر أي وفي لفظ: بأهل الأرض لماتوا أجمعون. إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني أي فضلا عن هذه الضربة لأنه كان يقول للنبي في مكة: يا محمد إن عندي العود يعني فرسا له أعلفه في كل يوم فرقا بفتح الراء: هو مكيال معروف يسع اثني عشر مدا من ذرة أقتلك عليها فيقول له رسول الله ﷺ أنا أقتلك إن شاء الله، فحقق الله تعالى قول نبيه.
هذا، وعن سعيد بن المسيب أن أبي بن خلف قال حين أفتدي: أي من الأسر ببدر: والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتل عليها محمدا، فبلغت رسول الله ﷺ فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
أقول: يمكن الجمع بأنه تكرر ذلك من أبي لعنه الله ومن النبي ﷺ والله أعلم. وفي رواية «أبصر ترقوته» بالفتح لا بالضم «من فرجة من سابغة الدرع» وهي ما يغطى به العنق من الدرع كما تقدم «فطعنه طعنة أي كسر فيها ضلعا» بكسر الضاد وفتح اللام وتسكينها «من أضلاعه» أي وهو المناسب لما في بعض الروايات «أن النبي ﷺ طعنه طعنة وقع فيها مرارا من على فرسه وجعل يخور كما يخور الثور إذا ذبح، وإنه لما أخذ الحربة من الحارث بن الصمة، وقيل من الزبير بن العوام انتفض بها انتفاضة شديدة ثم استقبله فطعنه في عنقه».
أقول: ولا مخالفة بين كون الطعنة في عنقه وكونها في ترقوته، لأن الترقوة في أصل العنق.
ولا مخالفة أيضا بين كون الحاصل من الطعنة خدشا مع اعتنائه بالطعنة وناهيك بعزمه، لأن كون الخدش في الظاهر، أي بحسب ما يظهر للرائي والشدة في الباطن أقوى في النكاية. ودليل وجود الشدة في الباطن وقوعه مرارا، وكونه خار كالثور الذي يذبح، وكون الطعن في العنق يفضي إلى كسر الضلع من خوارق العادات، لكن رأيت في رواية أنه ضرب تحت إبطه فكسر ضلعا من أضلاعه.
وقد يقال يجوز أن تكون الحربة نفذت من المكان المذكور. قال في النور: ولم يقتل بيده الشريفة قط أحدا إلا أبي بن خلف لا قبل ولا بعد، ثم مات عدوّ الله وهم قافلون به إلى مكة: أي بسرف بفتح السين المهملة وكسر الراء، وهو المناسب لوصفه لأنه مسرف وقيل ببطن رابغ.
فعن ابن عمر أنه قال «إني لأسير ببطن رابغ بعد هدّو من الليل إذا نار تأجج لي لهبها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذب بها يصيح العطش، وناداني: يا عبدالله، فلا أدري أعرف اسمي، أو كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبدالله؟ فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل، وإذا رجل وهو الموكل بعذابه يقول: لا تسقه هذا قتيل رسول الله، هذا أبيّ بن خلف لعنه الله» رواه البيهقي.
ويدل لهذا ما جاء في الحديث «كل من قتله نبي أو قتل بأمر نبي في زمنه يعذب من حين قتل إلى نفخ الصعقة» وجاء «أشدّ الناس عذابا من قتله نبي» أي وفي رواية «اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله، فسحقا لأصحاب السعير». وفي رواية «اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله ﷺ في سبيل الله» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مأمورون باللطف والشفقة على عباد الله، فما يحمل الواحد منهم على قتل شخص إلا أمر عظيم ورسول الله ﷺ أكملهم لطفا ورفقا وسعة بعباد الله.
وفي شرح التقريب احترز بقوله في سبيل الله عمن يقتله حدا أو قصاصا لأن من يقتله رسول الله ﷺ في سبيل الله كان قاصدا قتله، وقد اتفق ذلك لأبيّ بن خلف لعنه الله، وقد تقدم أن ابن مرزوق ذكر أن ابن عمر مرّ ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فناداه يا عبدالله، فالتفت إليه فقال اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه. لا تفعل يا عبدالله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله ﷺ أي أصحابه، رواه الطبراني في الأوسط، ولا بعد في تعدد الواقعة.
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يقتضي التعدد فإنه ذكر فيها أن ابن عمر ذكر ذلك: أي مروره ببدر للنبي، وأنه قال له ذلك أبو جهل، وذلك عذابه إلى يوم القيامة. وقد ذكرت ذلك في الكلام على غزوة بدر.
ووقع في حفرة من الحفر التي حفرت للمسلمين: أي التي حفرها أبو عامر الفاسق والد حنظلة غسيل الملائكة ، واسم أبي عامر عبد عمرو، مات كافرا بأرض الروم، فر إليها لما فتحت مكة ليقعوا فيها وهم لا يعلمون، فأغمي عليه، وجحشت: أي خدشت ركبتاه، فأخذ علي كرم الله وجهه بيده، ورفعه طلحة بن عبيدالله حتى استوى قائما.
وكان سبب وقوعه أن ابن قمئة لعنه الله علاه بالسيف فلم يؤثر فيه السيف إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه الشريف، فشكا منه شهرا أو أكثر، وقذف بالحجارة حتى وقع لشقه، ورماه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص بحجر، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وشق شفته السفلى: أي ودعا عليه بقوله «اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا». وقد استجاب الله تعالى ذلك، وقتله في ذلك اليوم حاطب بن أبي بلتعة .
قال حاطب: لما رأيت ما فعل عتبة برسول الله ﷺ قلت لرسول الله ﷺ أين توجه عتبة؟ فأشار النبي ﷺ إلى حيث توجه فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف فطرحت رأسه، فنزلت وأخذت فرسه وسيفه وجئت به إلى رسول الله، فقال لي: رضي الله عنك رضي الله عنك مرتين: أي ولا يخالف هذا قول بعضهم فمات بعد بقليل، لكن يخالف القول بأنه مات بعد أن أسلم بعد الفتح وأنه أثبت ولم يولد لعتبة ولد أو ولد ولد إلا وهو أهتم: أي ساقط مقدّم أسنانه أي التي هي الرباعيات أبخر يعرف ذلك في عقبه، وكسرت البيضة أي الخوذة على رأسه وشج وجهه الشريف، شجه عبدالله بن شهاب الزهري فإنه أسلم بعد ذلك، وهو جد الإمام الزهري . ويجوز أن يكون من قبل أمه، أي ويقال له عبدالله الأصغر، أي ولعل هذا حصل منه قبل أو بعد قوله دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ورسول الله ﷺ واقف إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع.
وجدّ الإمام الزهري من قبل أبيه يقال له عبدالله بن شهاب، ويقال له عبدالله الأكبر كان من مهاجري الحبشة، توفي بمكة قبل الهجرة. وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الشجة لم تشنه بل زادته جمالا بقوله:
مظهر شجة الجبين على البر ** ء كما أظهر الهلال البراء
ستر الحسن منه بالحسن فاعجب ** لجمال له الجمال وقاء
فهو كالزهر لاح من سجف الأكـ ** ـمام والعود شق عنه اللحاء
أي مظهر وجهه الشريف أثر جرح جبينه: أي جبهته مع برئها ظهورا كظهور الهلال ليلة استهلاله، ستر ذلك الوجه الحسن الأصلي بالحسن العارض بسبب ذلك الجرح، فأعجب لجمال أصلي له الجمال العارض وقاية وساتر، فهو: أي ما ظهر بذلك الجرح كالزهر إذا ظهر من ستره وكالعود الذي يتطيب به إذا أزيل عنه قشره، وقال حسان في وصف جبينه الشريف:
متى يبتدُ في الداجي البهيم جبينه ** يلحْ مثل مصباح الدجى المتوقد
وجرحت وجناتِه بسبب دخول حلقتين من المغفر في وجنتيه بضربة من ابن قمئة لعنه الله، وقال له لما ضربه: خذها وأنا ابن قمئة فقال له رسول الله ﷺ: أقمأك الله : أي صغرك وأذلك. وقد استجاب الله فيه دعوة نبيه، فإنه بعد الوقعة خرج إلى غنمه فوافاها على ذروة الجبل: أي أعلى الجبل، فإخذ يعترضها فشد عليه كبشها فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل فتقطع. وفي رواية: فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
أقول: ويمكن الجمع بأنه لما نطحه ذلك الكبش ووقع من شاهق الجبل إلى أسفل سلط الله عليه عند ذلك تيس الجبل فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله، لعنة الله عليه، والله أعلم.
«ولما جرح وجه رسول الله ﷺ صار الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل يمسح الدم. وفي لفظ: ينشف دمه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» أي وفي رواية «اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله، فأنزل الله تعالى {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} أي وفي رواية «صار يقول: اللهم العن فلانا وفلانا: أي اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فأنزل الله تعالى الآية».
فإن قيل كيف هذا مع قوله تعالى {والله يعصمك من الناس}. أجيب بأن هذه الآية نزلت بعد أحد.
وعلى تسليم أنها نزلت قبله، فالمراد عصمته من القتل. قال الشيخ محيي الدين بن العربي : لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين له، وعلى قدر ما يقاسيه منهم. وله أجر الهداية لمن أطاعه ولا أحد أكثر أجرا من نبينا محمد فإنه لم يتفق لنبي من الأنبياء ما اتفق له في كثير من طائعي أمة أجابته، ولا في كثير عصاة أمة دعوته الخارجين عن الإجابة.
وامتص مالك بن سنان الخدري وهو والد أبي سعيد الخدري دم رسول الله ﷺ ثم ازدرده، فقال رسول الله «من مس دمي دمه لم تصبه النار».
وفي رواية أنه قال «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» وأشار إليه فاستشهد في هذه الغزاة. وفي لفظ «من سره أن ينظر إلى من لا تمسه النار فلينظر إلى مالك بن سنان » ولم ينقل أنه أمر هذا الذي امتص دمه بغسل فمه ولا أنه غسل فمه من ذلك، كما لم ينقل أنه أمر حاضنته أم أيمن بركة الحبشية بغسل فمها ولا هي غسلته من ذلك لما شربت بوله.
فعنها أنها قالت «قام رسول الله ﷺ من الليل إلى فخارة أي تحت سريره فبال فيها فقمت وأنا عطشى فشربت ما في الفخارة وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي ﷺ قال: يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها، فقالت: والله لقد شربت ما فيها، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: لا يجفر» بالجيم والفاء «بطنك بعده أبدا» وفي لفظ «لاتلج النار بطنك» وفي أخرى «لا تشتكي بطنك» أي ويجوز أنه قال: هذه الألفاظ الثلاثة وكل روى بحسب ما سمع منها، فتكون هذه الأمور الثلاثة تحصل لأم أيمن وفي رواية بدل فخارة «إناء من عيدان» بالفتح: الطوال من النخل، فإن صحا حملا على التعدد لأم أيمن ، ولا مانع منه.
وقد شرب بوله أيضا امرأة يقال لها بركة بنت ثعلبة بن عمرو، كانت تخدم أم حبيبة ؛ جاءت معها من الحبشة: أي ومن ثم قيل لها بركة الحبشية.
وفي كلام ابن الجوزي: بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان الحبشية خادمة أم حبيبة زوج النبي، هذا كلامه.
ولا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون يسار لقبه ثعلبة، وكانت معها في الحبشة ثم قدمت معها مكة، كانت تكنى بأم يوسف، فقال لها حين علم أنها شربت ذلك «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه.
وفي رواية أنه قال لها «لقد احتظرت من النار بحظار» وشرب دمه أيضا أبو طيبة الحجام، وعليّ كرم الله وجهه، وكذا عبدالله بن الزبير .
فعن عبدالله بن الزبير قال «أتيت النبي ﷺ وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبدالله اذهب بهذا الدم فأهرقه حتى لا يراك أحد، قال فشربته، فلما رجعت قال: يا عبدالله ما صنعت؟ قلت: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس، قال: لعلك شربته، قلت نعم، قال: ويل للناس منك وويل لك من الناس» وكان بسبب ذلك على غاية من الشجاعة.
ولما وفد أخوه شقيقه عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة من المدينة على عبد الملك بن مروان قال له يوما: أريد أن تعطيني سيف أخي عبدالله، فقال له عبد الملك: هو بين السيوف ولا أميزه، فقال له عروة: إذا حضرت السيوف ميزته أنا، فأمر عبد الملك باحضارها، فلما أحضرت أخذ منها سيفا مفلل الحد، وقال هذا سيف أخي، فقال له عبد الملك: كنت تعرفه قبل الآن؟ قال لا، فقال كيف عرفته؟ قال بقول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب
وأخذ من ذلك بعض أئمتنا طهارة فضلاته، حيث لم يأمره بغسل فمه، ولم يغسل هو فمه، وأن شربه جائز حيث أقر على شربه.
وما أورده في الاستيعاب أن رجلا من الصحابة اسمه سالم حجمه ثم ازدرد دمه، فقال له النبي «أما علمت أن الدم كله حرام» أي شربه غير صحيح، فقد قال بعضهم هو حديث لا يعرف له إسناد فلا يعارض ما قبله. على أنه يمكن أن يكون ذلك سابقا على إقراره على ذلك والله أعلم.
ونزع أبو عبيدة عامر بن عبدالله الجراح إحدى الحلقتين من وجنة رسول الله ﷺ فسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى.
وقيل الذي نزعهما عقبة بن وهب بن كلدة. وقيل طلحة بن عبيدالله، ولعل الثلاثة عالجوا إخراجها، وكان أشدّهم لذلك أبو عبيدة .
قال بعضهم: ولما سقط مقدم أسنان أبي عبيدة صار أهتم ولم ير قط أهتم أحسن من أبي عبيدة، لأن ذلك الهتم حسن فاه.
وكان أوّل من عرف رسول الله ﷺ بعد الهزيمة، وقول القائل قتل رسول الله ﷺ كعب بن مالك. قال: عرفت عينيه تزهران، أي تضيئان وتتوقدان من تحت المغفر، وهو ما يجعل على الرأس من الزرد، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله، فأشار إليّ أن أنصت.
وعن بعض الصحابة قال: لما صرخ الشيطان قتل محمد لم يشك في أنه حق، وما زلنا كذلك حتى طلع رسول الله ﷺ بين السعديين فعرفناه بتكفيه إذا مشي، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، فلما عرف المسلمون رسول الله ﷺ نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب فيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث ابن الصمة .
وفي خصائص العشرة للزمخشري؛ وثبت يعني الزبير مع رسول الله ﷺ يوم أحد وبايعه على الموت، هذا كلامه فليتأمل.
وقول بعض الرافضة انهزم الناس. كلهم عن رسول الله ﷺ إلا عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ممنوع، وقوله: وتعجبت الملائكة من شأن عليّ، وقول جبريل ﵇ وهو يعرج إلى السماء «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ» قوله وقتل عليّ كرم الله وجهه أكثر المشركين في هذه الغزوة، فكان الفتح فيها على يديه وقال: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهنّ، فجاءني رجل حسن الوجه حسن اللحية طيب الريح وأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسول الله فإنهما عنك راضيان.
ولما أخبرت النبيّ فقال: يا علي أما تعرف الرجل؟ فقلت: لا، ولكن شبهته بدحية الكلبي، فقال: يا علي أقرّ الله عينك فإنه جبريل ﵇، جميعه رده الإمام أبو العباس ابن تيمية بأنه كذب باتفاق الناس وبين ذلك بما يطول.
قال: وأقبل عثمان بن عبدالله بن المغيرة على فرس أبلق وعليه لامة كاملة قاصدا رسول الله ﷺ وهو متوجه للشعب، وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فوقف رسول الله ﷺ فعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر ومشى إليه الحارث بن الصمة ، فاصطدما ساعة بسيفهما ثم ضربه الحارث على رجله فبرك وذفف عليه وأخذ درعه ومغفره فقال رسول الله «الحمد لله الذي أحانه» أي أهلكه.
وأقبل عبيدالله بن جابر العامري يعدو فضربه الحارث على عاتقه فجرحه فاحتمله أصحابه. ووثب أبو دجانة إلى عبيدالله فذبحه بالسيف ولحق برسول الله ﷺ انتهى.
ولما انتهى رسول الله ﷺ إلى فم الشعب خرج عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه حتى ملأ درقته ماء وغسل به عن وجهه الشريف الدم وهو يقول: «اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيه» أي والسياق يقتضي أنه قال ذلك أيضا بعد قوله «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم» ونزول تلك الآية، فإن ذلك كان قبل غسل وجهه الشريف.
قال: ثم أراد رسول الله ﷺ أن يعلو الصخرة التي في الشعب، فلما ذهب لينهض لم يستطع: أي لأنه ضعف لكثرة ما خرج من دم رأسه الشريف ووجهه مع كونه عليه درعان، فجلس تحت طلحة بن عبيدالله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله «أوجب طلحة» أي فعل شيئا استوجب به الجنة حين صنع برسول الله ﷺ ما صنع انتهى.
أي وقيل إن طلحة كان في مشيه اختلاف لعرج كان به، فلما حمل النبي ﷺ تكلف استقامة المشي لئلا يشق عليه فذهب عرجه ولم يعد إليه.
وفي رواية أنه انطلق حتى أتى أصحاب الصخرة: أي الجماعة الذين من الصحابة الذين علوا الصخرة: أي التي في الشعب، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه وأراد أن يرميه فقال رسول الله ﷺ: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك وفرح رسول الله ﷺ الذي وجد في أصحابه من يمنع: أي ولعل هذا الذي أراد رميه لم يعرفه ولا من معه من الصحابة لارتفاع الصخرة.
قال: وعطش عطشا شديدا: أي ولم يشرب من الماء الذي جاء به علي كرم الله وجهه في درقته، لأنه وجد له ريحا فعافه: أي كرهه فخرج محمد بن مسلمة يطلب له ماء فلم يجد. فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب، فشرب رسول الله ﷺ ودعا له بخير.
وفي بعض الروايات أن نساء المدينة خرجن وفيهنّ فاطمة بنت النبي، فلما لقيت رسول الله ﷺ اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته، وعليّ كرم الله وجهه يسكب الماء فتزايد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير: أي معمول من البردي فأحرقته بالنار حتى صار رمادا، فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم انتهى، أي لأن البردي له فعل قويّ في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا.
وفي حديث غريب أنه داوى جرحه بعظم بال أي محرق.
وقد يقال: يجوز أن يكون الراوي ظنّ ذلك البردي المحرق عظما محرقا بناء على صحة تلك الرواية. وعن وضع هذا الرماد الحار عبر بعضهم بأنه اكتوى في وجهه وجعله معارضا للحديث الصحيح في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة من غير حساب بأنهم لا يكتوون.
وعارضه أيضا بأنه كوى سعد بن معاذ مرتين ليرقأ: أي ينقطع الدم من جرحه، وكوى أسعد بن زرارة لمرض الذبحة.
ففي كلام بعضهم: كان موت أسعد بن زرارة بمرض يقال له الذبحة فكواه النبي ﷺ بيده وقال: بئس الميتة لليهود؛ يقولون أفلا دفع عن صاحبه وما أملك له ولا لنفسي شيئا.
وأجيب بأن هذا الحديث محمول على من اكتوى خوفا من حدوث الداء، أو لأنهم كانوا يعظمون أمره ويرون أنه يقطع الداء، وإذا لم يكو العضو عطب وبطل، وهو محمل قوله «لم يتوكل من اكتوى» أو على من يفعله مع قيام غيره من الأدوية مقامه.
ومحمل ما في الخصائص الكبرى أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين وتسلم عليه من جانب بيته ثلاثين سنة حتى اكتوى أي لبواسير كانت به فكان يصبر على ألمها، فلما ترك الكيّ عادت الملائكة إلى سلامها عليه، لأن ذلك قادح في التوكل.
وما في البخاري عن ابن عباس عن النبيّ أنه قال «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكيّ» وفي رواية «وما أحبّ أن أكتوي» أي فالنهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لم يفعله عمران مع علمه بالنهي.
قال في الهدى: وأراد بقوله: وأنا أنهى إلى آخره: أي أنه لا يؤتى بالكيّ إلا إذا لم ينجع الدواء فلا يأتي به أولا ومن ثم أخره.
قيل والفصد داخل في شرطة المحجم. والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد، هذا كلامه.
وبينا رسول الله ﷺ في الشعب مع أولئك النفر من أصحابه إذا علت طائفة من قريش الجبل معهم خالد بن الوليد فقال رسول الله: «اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوّة لنا إلا بك» فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوا من الجبل، أي ونزل قوله تعالى {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون} أي لا تضعفوا عن الحرب، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الظفر بالكفار.
ولعل هذا كان قبل أن يعلو الصخرة كما تقدم. أو لعل الجبل كان أعلى من تلك الصخرة.
قال: وفي بعض الروايات أنه قال لسعد «ارددهم، قال: كيف أردهم وحدي؟ فقال له ارددهم» قال سعد : فأخذت سهما من كنانتي فرميت به رجلا منهم فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته ثم أخذت سهما آخر فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فكان عندي في كنانتي لا يفارق كنانتي، وكان بعده عند بنيه انتهى.
أي وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هذا: أي كون سعد ردهم وحده بهذا السهم. وما قبله الدال على أن الزادّ لهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين.
وروي عنه أنه قال «لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه حتى كان بعد» أي حتى بعد انقضاء الحرب لم أعرفه، فظننت أنه ملك، أي وفي رواية عنه أنه قال «رميت بسهم فرده عليّ رسول الله ﷺ وسهمي أعرفه حتى واليت بين ثمانية أو تسعة، كل ذلك يرده عليّ رسول الله ﷺ فقلت: هذا سهم دم» أي يصيب «فجعلته في كنانتي لا يفارقني».
أقول: ولا منافاة بين هذا وبين قوله ثم أخذت سهما، لأن قوله المذكور لا ينافي أن يكون أخذه بمناولته لا من كنانته كما قد يتبادر، ولا بين قوله فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الرجل كان يرد السهام التي كان يرمي بها حتى لا تفنى سهامه إلا هذا السهم فإنه لم يرده له، بل يناوله له رسول الله، ويرده عليه. ولا منافاة بين قوله: حتى واليت بين ثمانية أو تسعة وبين إخباره بقوله: ثم أخذت سهما إلى أن عدد خمس مرات، لأنه يجوز أن تكون تلك الخمسة قتل فيها وفيما زاد لم يقتل بل جرح فليتأمل والله أعلم.
وصلى رسول الله ﷺ ظهر ذلك اليوم وهو جالس من الجراحة التي أصابته. وصلى المسلمون خلفه قعودا: أي ولعلّ ذلك كان بعد انصراف عدوهم. وإنما صلى المسلمون خلفه قعودا موافقة له وقد نسخ ذلك.
أو أن من صلى قاعدا إنما هو لما أصابهم من الجراح وكانوا هم الأغلب، فقيل صلى المسلمون خلفه قعودا؛ فقد جاء أنه وجد بطلحة نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية وقطعت أصبعه. وفي رواية أنامله. وعند ذلك قال حسن، فقال له: «لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة عليهم السلام والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جوّ السماء» زاد في لفظ «ولرأيت بناءك الذي بني الله لك في الجنة وأنت في الدنيا».
وفي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة بن عبيدالله شلاء وقى بها رسول الله ﷺ يوم أحد» أي من سهم، وقيل من حربة ونزف به الدم حتى غشى عليه؛ ونضح أبو بكر الماء في وجهه حتى أفاق، فقال ما فعل رسول الله؟ قال له أبو بكر: هو بخير، وهو أرسلني إليك، فقال: الحمد لله كل مصيبة بعده جلل أي قليلة.
وكان يقال لطلحة الفياض، سماه بذلك رسول الله ﷺ في غزوة العشيرة كما تقدم. وسماه طلحة الجود في أحد، لأنه أنفق في أحد سبعمائة ألف درهم. وسماه في أحد أيضا طلحة الخيظر.
وعبد الرحمن بن عوف أصيب فوه فهتم وجرح عشرين جراحة. قال وفي رواية عشرين جراحة فأكثر، وجرح في رجله فكان يعرج منها.
وأصاب كعب بن مالك سبعة عشر جراحة. وفي رواية عشرون جراحة قال عاصم بن عمر بن قتادة: كان عندنا رجل غريب لا ندري ممن هو، أي يظهر الإسلام يقال له قزمان، وكان ذا بأس وقوة، وكان رسول الله ﷺ إذا ذكر يقول إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أحد قاتل قزمان قتالا شديدا أي فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، وكان يرمي النبال كأنها الرمال ثم فعل بالسيف الأفاعيل فكان يكت كتيت الجمل. وقتل ثمانية أو تسعة من المشركين. ولما أخبر بذلك قال إنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، وأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، لأنه كان حليفا لهم فجعل رجال من المسلمين يقولون: والله لقد ابتليت اليوم يا قزمان فأبشر، فيقول بماذا أبشر؟ فوالله: ما قاتلت إلا على أحساب قومي: أي على شرفهم ومفاخرهم: أي مناصرة لهم، ولولا ذلك ما قاتلت: أي فلم يقاتل لإعلاء كلمة الله ورسوله وقهر أعدائهما.
أي وفي رواية أن قتادة قال له: هنيئا لك الشهادة يا أبا الغيداق؟ فقال إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير إلينا قريش حتى تطأ أرضنا، فلما اشتدت عليه الجراحة أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه: أي قطع به عروقا في باطن الذراع يقال لها الزواهق: أي وفي رواية: فجعل ذباب سيفه في صدره أي بين ثدييه كما في رواية ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه. قال في النور: وهو الصحيح، ولا مانع أن يكون فعل كلا من الأمرين، أي وعند ذلك جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أصحاب النار فعل كذا وكذا.
وقد جاء: سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله «من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» فنص عليه، وحينئذ قال فيه رسول الله «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة».
ففيه إشارة إلى باطن الأمر قد يكون بخلاف ظاهره. وقال «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» أي وقد أشار إلى هذا الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وقلت لشخص يدعي الدين إنه ** بنار فألقى نفسه للمنية
هذا وفي كلام ابن الجوزي عن أبي هريرة قال «شهدنا مع رسول الله ﷺ خيبر، فقال لرجل ممن يدّعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات، فقال النبيّ كما قال: إلى النار. ثم قيل إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراحة فقتل نفسه، فأخبر النبي ﷺ فقال: الله أكبر، أشهد أني عبدالله ورسوله، فأمر بلالا فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلم وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» وهذا الرجل اسمه قزمان من المنافقين، هذا كلامه فليتأمّل، فإن تعدّد الشخص المسمى بهذا الاسم فيه بعد. ولعلّ ذكر خيبر بدل أحد اشتباه من الراوي. وقوله «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» عام فيدخل في كل من الملك والعالم الذي جعل تسليكه وتعليمه مصيدة للدنيا وأكل الحرام فإن الله يحيى بهما قلوبا؛ ويهدي بهما إلى سواء السبيل مع أنهما فاجران.
وقتل الأصيرم أصيرم بني عبد الأشهل. قال بعضهم: كان الأصيرم يأبى الإسلام على قومه بني عبد الأشهل، فلما كان يوم خروج النبي ﷺ إلى أحد جاء إلى المدينة، فسأل عن قومه، فقيل له بأحد، فبدا له في الإسلام: أي رغب فيه فأسلم ثم أخذ سيفه ورمحه ولأمته، وركب فرسه، فغدا ـ بالغين المعجمة ـ حتى دخل في عرض الناس أي بضم العين المهملة وبالضاء المعجمة: جانبهم وناحيتهم، فقاتل حتى أثبتته الجراحة أصابت مقاتله، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا والله إن هذا الأصيرم، فسألوه ما جاء بك مناصرة لقومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله، ثم جئت وقاتلت حتى أصابني ما أصابني، ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله ﷺ فقال: «إنه لمن أهل الجنة» وكان أبو هريرة يقول: حدّثني عن رجل دخل الجنة ولم يصل: يعني الأصيرم. ويصدق عى هذا قوله «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار» الحديث.
أي وممن يدخل الجنة ولم يصلّ الأسود الراعي لبعض يهود خيبر، الذي جاء للنبي وقال: يا رسول الله أعرض عليّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. ثم تقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله وما صلى صلاة قط كما سيأتي في غزاة خيبر.
وقتل حنظلة بن أبي عامر الفاسق ، وأبو عامر هذا هو الذي كان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله ﷺ الفاسق كما تقدم، وكان هو وعبدالله بن أبي سلول من رؤوس أهل المدينة وعظمائها المتوّجين للرياسة على أهلها.
وكان أبو عامر من الأوس، ويقال له ابن صيفي، وكان عبدالله من الخزرج. فعبدالله بن أبي أظهر الإسلام. وأما أبو عامر فأصرّ على الكفر إلى أن مات طريدا وحيدا إجابة لدعاء رسول الله ﷺ حيث دعا عليه بذلك. وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
ومات ابن صيفي على الصفة التي ** ذكرت وحيدا بعد طرد وغربة
وقد كان أبو عامر هذا خرج من المدينة مباعدا لرسول الله ﷺ ومعه خمسون غلاما، وقيل خمسة عشر من قومه من الأوس، فلحق بمكة وكان يعد قريشا أنه لو لقي قومه: أي الأوس لم يختلف عليه منهم رجلان. فلما جاء مع قريش نادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر، وقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، أي وفي لفظ قالوا له: لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق. ولا مانع من صدور الأمرين منهم، فلما سمع ردّهم عليه قال لعنه الله: لقد أصاب قومي بعدي شرّ، ثم قاتل قتالا شديدا. وهو الذي حفر الحفائر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، التي وقع في إحداها رسول الله ﷺ كما تقدم، أي وكان هو أوّل من أثار الحرب وضرب بأسهم في وجوه المسلمين، واستأذن ولده حنظلة رسول الله ﷺ في قتله فنهاه عن قتله.
وسبب قتل حنظلة أن حنظلة ضرب فرس أبي سفيان فوقع على الأرض فصاح وعلاه حنظلة يريد ذبحه فرآه شدّاد بن الأوس كذا في الأصل قيل وصابه شدّاد بن الأسود، فحمل عليه فقتله، فقال رسول الله «إن صاحبكم، يعني حنظلة، لتغسله الملائكة» أي وفي رواية «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة فسئلت صاحبته أي زوجته وهي جميلة بنت عبدالله بن أبي سلول رأس المنافقين أخت ولده عبدالله ، فقالت: خرج جنبا فقال رسول الله ﷺ: لذلك غسلته الملائكة» فإنه دخل عليها عروسا تلك الليلة التي صبيحتها أحد، وقد كان استأذن رسول الله ﷺ في ذلك: أي في الدخول بها، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله ﷺ فلزمته، فكان معها فأجنب منها ونادى منادي رسول الله ﷺ بالخروج إلى العدّو فعجل عن الغسل إجابة للداعي.
وفي رواية أنها قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة: أي الصياح بالخروج للعدّو. وفي لفظ: الهائعة. وفي لفظ: الهيعة، من الهياع: وهو الصياح الذي فيه فزع. وقد جاء في الحديث «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه» فلما سمع هيعة طار إليها.
وفي رواية: وقد كان غسل أحد شقيه، فخرج ولم يغسل الشق الآخر. وقد رأت هي تلك الليلة أن السماء قد فرجت فدخل فيها ثم أطبقت. وجاء أنها أشهدت أربعة من قومها عليه بالدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، قالت: لأني رأيت السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت، فقلت هذه الشهادة وعلقت منه بعبدالله بن حنظلة في تلك الليلة. وعبدالله هذا هو الذي ولاه أهل المدينة عليهم لما خلعوا يزيد بن معاوية. وكان ذلك سببا لوقعة الحرة ولم تمثل قريش بحنظلة لكون والده معهم الذي هو أبو عامر الراهب لعنه الله.
وفي الإمتاع: وجعل أبو قتادة الأنصاري يريد التمثيل من قريش لما رأى من المثلة بالمسلمين، فقال له «يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم. لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله. فقال أبو قتادة: والله يا رسول الله ما غضبت إلا لله ولرسوله، فقال: صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم» قال: وجاء «أنه همّ أن يدعو عليهم، فنزلت الآية المذكورة أي {ليس لك من الأمر شيء} فكف عن الدعاء عليهم» أي وفيه أنها نزلت بعد قوله «اللهم العن فلانا وفلانا» إلى آخر ما تقدم عن بعض الروايات، إلا أن يقال أراد المداومة على الدعاء عليهم. وعن أبي سعيد الساعدي قال: ذهبنا إلى حنظلة فإذا رأسه يقطر ماء انتهى.
أي فعلم أنه لا منافاة بين كونه دعا عليهم وبين كونه همّ بالدعاء عليهم، لأنه يجوز أن يكون المراد همّ بتكرير الدعاء عليهم. وفي البخاري ومسلم والنسائي عن جابر قال: «قال رجل يوم أحد لرسول الله ﷺ إن قتلت فأين أنا؟ قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده فقاتل حتى قتل» قال في طرح التثريب، قال الخطيب: كانت هذه القصة يوم بدر لا يوم أحد، فأشار إلى تضعيف رواية الصحيحين التي فيها يوم أحد، ولا توجيه لذلك، بل التضعيف تفسير هذه بهذه: أي جعلهما قصة واحدة وكل منهما صحيحة وهما قصتان لشخصين. هذا كلامه، وقد تقدّم في غزاة بدر الحوالة على هذه فليتأمل، أي وأقبل رجل من المشركين مقنعا بالحديد يقول أنا ابن عويف فتلقاه رشيد الأنصاري الفارسي فضربه على عاتقه فقطع الدرع وقال خذها وأنا الغلام الفارسي؛ ورسول الله ﷺ يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله «هلا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري» فعرض لرشيد أخو ذلك المقتول بعد وكأنه كلب وهو يقول: أنا ابن عويف فضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر ففلق رأسه وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «أحسنت يا أبا عبدالله» وكان يومئذٍ لا ولد له.
وقتل عمرو بن الجموح ، وكان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله ﷺ المشاهد. فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: قد عذرك الله، فأتى رسول الله ﷺ فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك، فوالله إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له رسول الله: «أما أنت فقد أعذرك الله فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» فأخذ سلاحه وخرج وأقبل على القبلة وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني خائبا إلى أهلي فقتل، فقال رسول الله «والذي نفسي بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبرّه. منهم عمرو بن الجموح ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته» أي كشف له عن حاله يوم القيامة، أي وفي رواية أنه قال «يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ فمرّ عليه رسول الله ﷺ وقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة».
أقول: لكن يمكن الجمع بأنه في أول دخوله الجنة يطؤها برجله غير صحيحة ثم تصير صحيحة. وعمرو بن الجموح كان في الجاهلية على أصنامهم: أي سادنا لها، وكان في الإسلام يولم عنه إذا تزوج.
وقد وقع منه مثل ذلك لأنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي «فإنه لما كسرت أخته الربيع ثنية جارية من الأنصار فطلب أهلها القصاص، وأمر رسول الله ﷺ بكسر ثنية الربيع قال أخوها أنس المذكور والله لا تكسر ثنية الربيع، وصار كلما يقول: كتاب الله القصاص، يقول والله لا تكسر ثنية الربيع، فرضي القوم بالأرش، فقال رسول الله: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» وقال ذلك في حق البراء بن مالك أخي أنس بن مالك . فعن أنس أن النبي ﷺ قال «ربّ أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبرّه منهم البراء بن مالك» ومصداق ذلك ما وقع له في مقاتلة الفرس، فإن الفرس غلبوا المسلمين فقالوا له: يا براء أقسم على ربك، فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك محمد، فحمل وحمل المسلمون معه فقتل عظيم الفرس وانهزم الفرس، ثم قتل البراء .
ومما وقع أنه كان مع أخيه أنس عند بعض حصون العدوّ بالعراق وكانوا يلقون كلاليب معلقة في سلاسل محماة يخطفون بها الإنسان، فكان من جملة من خطف أنس ، فأقبل البراء وصعد محلا عاليا وأمسك السلسلة بيده ولا زال حتى قطع السلسلة، ثم نظر إلى يده فإذا عظمها يلوح ليس عليه لحم، ونجى الله أنسا بذلك وقال ما تقدم في حق أويس القرني .
فعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر القرنيّ، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» وفي رواية خطابا لعمر «يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن كان به برص فبريء منه إلا موضع درهم، له أمّ هو بها بار لو أقسم على الله لأبرّه فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» والله أعلم.
وقتل أيضا أحد بني عمرو بن الجموح وهو خلاد . وقتل أخو زوجته هند بنت حزام وهو عبدالله والد جابر ، فحملتهم هند على بعير لها تريد أن تدفنهم في المدينة، فلقيتها عائشة وقد خرجت في نسوة يستروحن الخبر فقالت لها عائشة : جاء خبر الجيش، فقالت: أما رسول الله ﷺ فصالح وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين شهداء. ثم قالت لها: من هؤلاء؟ قالت: أخي عبدالله وابني خلاد وزوجي عمرو بن الجموح ، فبرك بهم البعير وصار كلما توجه إلى المدينة يبرك، وإن وجه إلى أرض أحد نزع، فرجعت إلى النبي ﷺ وأخبرته، فقال: إن الجمل مأمور فقبرهم بأحد، وقال لهند «يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن» ولعلّ هذا كان قبل أن ينادي بردّ القتلى إلى مضاجعهم. قال جابر : كان أبي أول قتيل للمسلمين، قتله أبو الأعور السلمي.
وفي الصحيح أن عائشة وأم سليم كانا يسقيان الناس يفرغان من القرب في أفواه القوم.
أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون ذلك شأن عائشة بعد وصولها لأحد، أي وقد كان خلف اليمان والد حذيفة وثابت بن وقس في الآطام مع النساء والصبيان لأنهما كانا شيخين كبيرين، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبالك، ما ننتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منا في عمره إلا ظمأ حمار، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله ﷺ لعل الله يرزقنا الشهادة، فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس من جهة المشركين ولم يعلم المسلمون بهما. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلف عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه.
وذكر السهيلي أن في تفسير ابن عباس أن الذي قتله خطأ هو عتبة ابن مسعود أخو عبدالله بن مسعود ، وعتبة هو أول من سمى المصحف مصحفا. وعند ذلك قال حذيفة أبي فقالوا ما عرفناه. فأراد رسول الله ﷺ أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله ﷺ خيرا. واسم اليمان حسيل، وقيل له اليمان لأنه نسب إلى جدّه اليمان بن الحارث وقيل إنما قيل له اليمان لأنه أصاب دما في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني الأشهل فسماه قومه اليمان لمحالفته اليمانية: أي وهم أهل المدينة.
ومما يؤثر عن حذيفة ، أنه قيل له: من ميت الأحياء؟ قال: الذي لا ينكر المنكر بيديه ولا بلسانه ولا بقلبه.
وفي الكشاف: وعن حذيفة أنه استأذن رسول الله ﷺ في قتل أبيه وهو في صف المشركين أي قبل أن يسلم، فقال له: دعه يليه غيرك. هذا كلامه، ولم أقف على أي غزاة كان ذلك فيها وسياق ما قبله يدل على أنه كان من الأنصار، كان حليفا لبني عبد الأشهل ولم يحفظ أن أحدا من الأنصار قاتله قبل الإسلام فليتأمل.
ثم إن هندا زوجة أبي سفيان والنسوة اللاتي خرجن معها صرن يمثلن بقتلى المسلمين يجدعن: أي يقطعن من آذانهم وأنوفهم، واتخذن من ذلك قلائد، وبقرت: أي شقت هند بطن سيدنا حمزة ، أخرجت كبده فلاكتها: أي مضغتها فلم تستطع أن تسيغها: أي تبتلعها، فلفظتها أي ألقتها من فيها أي لأنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة لتأكلن من كبده. ولما بلغ رسول الله ﷺ أنها أخرجت كبد حمزة قال: هل أكلت منه شيئا؟ قالوا لا قال: إن الله قد حرّم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا أي ولو أكلت منه أي استقرّ في جوفها لم تمسها النار.
وفي رواية «لو أدخل بطنها لم تمسها النار» لأن حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيء من جسده النار.
أي ورأيت في بعض السير أنها شوت منه ثم أكلت.
وقد يقال: لا منافاة، لجواز حمل الأكل على مجرد المضغ من غير إساغة. قال وفي رواية أن وحشيا هو الذي بقر بطن حمزة وأخرج كبده وجاء بها إلى هند، أي وقال لها ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك، قالت سلني، فقال: هذه كبد حمزة فأعطته ثيابها وحليها، ووعدته إذا وصلت إلى مكة تدفع له عشرة دنانير. وجاء بها إلى مصرع حمزة فجدعت أنفه وأذنيه، أي وفي لفظ: فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه وقطعت أذنيه، ثم جعلت ذلك كالسوار في يديها وقلائد في عنقها، واستمرّت كذلك حتى قدمت مكة.
وفي النهر لأبي حيان أن وحشيا جعل له على قتل حمزة أن يعتق فلم يوف له بذلك فندم على ما صنع.
ثم إن هندا علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها وأنشدت أبياتا. ثم إن زوجها أبا سفيان أشرف على الجبل كذا في البخاري أنه أشرف. وفي رواية كان بأسفل الجبل.
وقد يقال: لا مخالفة لجواز وقوع الأمرين معا، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال: أي ومعنى سجال: مرّة لنا ومرّة علينا، يوم أحد بيوم بدر، وأنعمت بكسر التاء خطابا لنفسه، أو للأزلام، لأنه استقسم بها عند خروجه إلى أحد، فخرج الذي يحب وهو أفعل والفاء من فعال مفتوحة وليست من أبنية لكلمة وهي أمر: أي ارتفع عن لومها: أي النفس أو الأزلام يقال: عال عني: أي ارتفع عني ودعني أي وزاد في لفظ: يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسرّ، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان.
أي وقد جاء أنه قال: الحرب سجال، وقد قال تعالى {إن يمسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} وقد نزل ذلك في قصة أحد باتفاق.
ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في القوم. وفي رواية في قتلاكم مثلة لم آمر بها ولم تسرني. وفي رواية: والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت: وفي لفظ: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني أي وفي لفظ: أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ولم تكن عن رأي سراتنا ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان كذلك لم نكرهه. ومر الحليس سيد الأحابيش بأبي سفيان وهو يضرب بزج الرمح في شدق حمزة ويقول ذقه عقق: أي ذق طعم مخالفتك لنا وتركك الذي كنت عليه يا عاق قومه، جعل إسلامه عقوقا، فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يفعل بابن عمه ما ترون، فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة. وقال أبو سفيان: اعل هبل أي أظهر دينك، أو ازدد علوا فقال رسول الله، قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان إنكم تزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا، وهبل هذا تقدّم أنه صنم، وتقدم الكلام عليه.
ورأيت في كلام الشيخ محيي الدين بن العربي أنه الحجر الذي يطؤه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة، وبلط الملوك فوقه البلاط. ثم قال أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله «الله مولانا ولا مولى لكم» ثم قال أبو سفيان لعمر، أي بعد أن قال له: هلم يا عمر. فقال له رسول الله ﷺ: ائته فانظر ما شأنه فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر : لا وإنه ليسمع كلامك الآن. قال أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ: أي لأنه لما قتل مصعب بن عمير ظنه النبي، فقال قتلت محمدا كما تقدّم.
وفي رواية أن أبا سفيان نادى: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، قال ذلك ثلاثا فنهاهم رسول الله ﷺ أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة قالها ثلاثا. ثم قال أفي القوم عمر قالها ثلاثا. وفي رواية: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب: ثم أقبل على أصحابه. فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم، إذ لو كانوا أحياء لأجابوا فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدّو الله إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، ثم نادى أبو سفيان: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله ﷺ لرجل من أصحابه: قل نعم بيننا وبينكم موعد.
ثم بعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقيل سعد بن أبي وقاص . فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل: أي جعلوها منقادة بجانبهم وامتطوا الإبل: أي ركبوا مطاها: أي ظهورها لأن المطا الظهر فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزهم. قال علي كرم الله وجهه أو سعد بن أبي وقاص : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، أي بعد أن تشاوروا في نهب المدينة. فأشار عليهم صفوان بن أمية أن لا تفعلوا، أي وقال لهم. فإنكم لا تدرون ما يغشاكم وفزع الناس لقتلاهم، فقال رسول الله ﷺ: هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع: أفي الأحياء هو أم في الأموات، أي زاد في رواية فإني رأيت الأسنة قد أشرعت إليه. فقال رجل من الأنصار: أي وهو أبي كعب، وقيل محمد بن مسلمة، وقيل زيد بن حارثة، وقيل غير ذلك. ويجوز أن يكون أرسلهم كلهم. قال: أنا أنظر لك يا رسول الله. أي وفي رواية: قال للمرسل: إن رأيت سعد بن الربيع فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله ﷺ كيف تجدك. فنظر فوجد جريحا وبه رمق أي بقية روح. فقال له: إن رسول الله ﷺ أمرني أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وإني قد أنفذت مقاتلي، فأبلغ رسول الله ﷺ عني السلام، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خيرا ما جزي نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. وفي رواية: شفر يطرف أي يتحرك. قال: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله ﷺ فأخبرته
خبره، أي وفي رواية أنه رأى الذي أرسله رسول الله ﷺ يدور بين القتلى فقال له: ما شأنك؟ قال: بعثني رسول الله ﷺ لآتيه بخبرك. قال: فاذهب إليه الحديث.
وفي رواية إن محمد بن مسلمة نادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى، فلم يجبه حتى قال إن رسول الله ﷺ أرسلني أنظر ما صنعت، فأجابه بصوت ضعيف الحديث. أي وفي رواية: اقرأ على قومي مني السلام، وقل لهم يقول لكم سعد بن الربيع الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله ﷺ ليلة العقبة فوالله ما لكم عند الله عذر الحديث. وفيه قال رسول الله « نصح لله ولرسوله حيا وميتا» وخلف بنتين فأعطاهما رسول الله ﷺ من ميراثه الثلثين فكان ذلك بيان المراد من الآية، وهي قوله تعالى {فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} وفي ذلك نزلت: أي اثنتان فما فوقهما. أي وحينئذ لا يحتاج إلى قياس البنتين على الأختين، بجامع أن للواحدة منهما النصف.
ودخلت بنت له على أبي بكر فألقى لها رداءه لتجلس عليه، فدخل عمر فسأله عنها. فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك. قال: ومن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: رجل تبوأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت، هذه ابنة سعد بن الربيع .
وخرج رسول الله يلتمس عمه حمزة بن عبد المطلب . فقال له رجل: رأيته بتلك الصخرات وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء النفر أبو سفيان وأصحابه، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم وهذا الدعاء نقل عن أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي، فإنه غاب عن بدر فشق عليه ذلك، فلما كان يوم أحد ورأى انهزام المسلمين، أي وكان قد قال للنبي: يا رسول الله إني غبت عن أوّل قتال وقع قاتلت فيه المشركين والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء: يعني المشركين. ولما سمع قتل رسول الله، قال: ما تصنعون بالحياة بعده، موتوا على ما مات عليه رسول الله. ثم استقبل القوم. أي وقال لسعد بن معاذ: هذه الجنة ورب الكعبة أجد ريحها دون أحد، وقاتل