تلبيس إبليس/الباب التاسع
الباب التاسع: في ذكر تلبيس إبليس على الزهاد والعباد
عدلقد يسمع العامي ذم الدنيا في القرآن المجيد والأحاديث فيرى أن النجاة تركها ولا يدري ما الدنيا المذمومة فيلبس عليه إبليس: بأنك لا تنجو في الآخرة إلا بترك الدنيا فيخرج على وجهه إلى الجبال فيبعد عن الجمعة والجماعة والعلم ويصير كالوحش ويخيل إليه أن هذا هو الزهد الحقيقي كيف لا وقد سمع عن فلان أنه هام على وجهه وعن فلان أنه تعبد في جبل وربما كانت له عائلة فضاعت أو والدة فبكت لفراقه وربما لم يعرف أركان الصلاة كما ينبغي وربما كانت عليه مظالم لم يخرج منها وإنما يتمكن إبليس من التلبيس على هذا لقلة علمه ومن جهله رضاه عن نفسه بما يعلم ولو أنه وفق لصحبة فقيه يفهم الحقائق لعرفه أن الدنيا لا تذم لذاتها وكيف يذم ما من الله تعالى به وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب وملبس ومسجد يصلي فيه وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حله أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة ويصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع وإن الخروج إلى الجبال المنفردة منهي عنه فإن النبي ﷺ نهى أن يبيت الرجل وحده وأن التعرض لتركه الجماعة والجمعة خسران لا ربح والبعد عن العلم والعلماء يقوي سلطان الجهل وفراق الوالد والوالدة في مثل هذا عقوق والعقوق من الكبائر وأما من سمع عنه أنه خرج إلى جبل فأحوالهم تحتمل أنهم لم يكن لهم عيال ولا والد ولا والدة فخرجوا إلى مكان يتعبدون فيه مجتمعين ومن لم يحتمل حالهم وجها صحيحا فهم على الخطأ من كانوا وقد قال بعض السلف: خرجنا إلى جبل نتعبد فجاءنا سفيان الثوري فردنا
تلبيسه على الزهاد
عدلومن تلبيسه على الزهاد: إعراضهم عن العلم شغلا بالزهد فقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وبيان ذلك: أن الزاهد لا يتعدى نفعه عتبة بابه والعالم نفعه متعد وكم قد رد إلى الصواب من متعبد
فصل
عدلومن تلبيسه عليهم: أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات فمنهم من لا يزيد على خبز الشعير ومنهم من لا يذوق الفاكهة ومنهم من يقلل المطعم حتى ييبس بدنه ويعذب نفسه بلبس الصوف ويمنعها الماء البارد وما هذه طريقة الرسول ﷺ ولا طريق أصحابه وأتباعهم وإنما كانوا يجوعون إذا لم يجدوا شيئا فإذا وجدوا أكلوا وقد كان رسول الله ﷺ يأكل اللحم ويحبه ويأكل الدجاج ويحب الحلوى ويستعذب له الماء البارد ويختار الماء البائت فإن الماء الجاري يؤذي المعدة ولا يروي وقد كان رجل يقول: أنا لا آكل الخبيص لأني لا أقوم بشكره فقال الحسن البصري: هذا رجل أحمق وهل يقوم بشكر الماء البارد
وقد كان سفيان الثوري إذا سافر حمل في سفرته اللحم المشوي والفالوذج وينبغي للإنسان أن يعلم أن نفسه مطيته ولا بد من الرفق بها ليصل بها إلى المقصود فليأخذ ما يصلحها وليترك ما يؤذيها من الشبع والإفراط في تناول الشهوات فإن ذلك يؤذي البدن والدين
ثم إن الناس يختلفون في طباعهم فإن الأعراب إذا لبسوا الصوف واقتصروا على شرب اللبن لم نلمهم لأن مطايا أبدانهم تحمل ذلك وأهل السواد إذا لبسوا الصوف وأكلوا الكوامخ لم نلمهم أيضا ولا نقول في هؤلاء من قد حمل على نفسه لأن هذه عادة القوم فأما إذا كان البدن مترفا قد نشأ على التنعم فإنا ننهي صاحبه أن يحمل عليه ما يؤذيه فإن تزهد وآثر ترك الشهوات إما لأن الحلال لا يحتمل السرف أو لأن الطعام اللذيذ يوجب كثرة التناول فيكثر النوم والكسل فهذا يحتاج أن يعلم ما يضر تركه وما لا يضر فيأخذ قدر القوام من غير أن يؤذي النفس
وقد ظن قوم أن الخبز القفاز يكفي في قوام البدن ولو كفى إلا أن الاقتصار يؤدي من جهة أن أخلاط البدن تفتقر إلى الحامض والحلو والحار والبارد والممسك والمسهل وقد جعل أسباب مثل أن يقل عندها البلغم الذي لا بد في قوامها منه فتشتاق إلى اللبن ويكثر عندها الصفراء فتميل إلى الحموضة فمن كفها عن التصرف على مقتضى ما قد وضع في طبعها مما يصلحها فقد آذاها إلا أن يكفها عن الشبع والشره وما يخاف عاقبته فإن ذلك يفسدها فأما الكف المطلق فخطأ فافهم هذا ولا يلتفت إلى قول الحارث المحاسبي وأبي طالب المكي فيما ذكرا من تقليل المطعم ومجاهدة النفس بترك مباحاتها فإن اتباع الشارع وصحابته أولى وكان ابن عقيل يقول: ما أعجب أموركم في المتدين إما أهواء متبعة أو رهبانية مبتدعة بين تجرير أذيال المرح في الصبا واللعب وبين إهمال الحقوق وإطراح العيال واللحوق بزوايا المساجد فهلا عبدوا على عقل وشرع
فصل
عدلومن تلبيسه عليهم أنه يوهمهم أن الزهد هو القناعة بالدون من المطعم والملبس فحسب فهم يقنعون بذلك وقلوبهم راغبة في الرياسة وطلب الجاه فتراهم يترصدون لزيارة الأمراء إياهم ويكرمون الأغنياء دون الفقراء ويتخاشعون عند لقاء الناس كأنهم قد خرجوا من مشاهدة وربما رد أحدهم المال لئلا يقال قد بدا له من الزهد وهم من ترغد الناس إليهم وتقبيل أي ديهم في أوسع باب من ولايات الدنيا لأن غاية الدنيا الرياسة
تلبيسه على العباد
عدلوأكثر ما يلبس به إبليس على العباد والزهاد خفي الرياء فأما الظاهر من الرياء فلا يدخل في التلبيس مثل إظهار النحول وصفار الوجه وشعث الشعر ليستدل به على الزهد وكذلك خفض الصوت لإظهار الخشوع وكذلك الرياء بالصلاة والصدقة ومثل هذه الظواهر لا تخفى وإنما نشير إلى خفي الرياء وقد قال النبي ﷺ [ إنما الأعمال بالنيات ] ومتى لم يرد بالعمل وجه الله تعالى لم يقبل قال مالك بن دينار: قولوا لمن لم يكن صادقا لا تتعب
واعلم أن المؤمن لا يريد بعمله إلا الله سبحانه وتعالى وإنما يدخل عليه خفي الرياء فيلبس الأمر فنجانه منه صعبة وفي الحديث مرفوعا عن يسار قال لي يوسف بن أسباط: تعلموا صحة العمل من سقمه فإني تعلمت في اثنتين وعشرين سنة
وفي الحديث مرفوعا عن إبراهيم الحنظلي قال سمعت بقية بن الوليد يقول سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في صومعته فقلت له: يا سمعان منذ كم أنت في صومعتك هذه؟ قال: منذ سبعين سنة قلت: ما طعمك؟ قال: يا حنيفي وما دعاك إلى هذا قلت: أحببت أن أعلم قال: في كل ليلة حمصة قلت: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة قال: ترى الذين بحذائك؟ قلت: نعم قال: إنهم يأتونني في كل سنة يوما واحدا فيزينون صومعتي ويطوفون حولها يعظمونني بذلك وكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها تلك الساعة فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد فوقر في قلبي المعرفة فقال: أزيدك؟ قلت: نعم قال: انزل عن الصومعة فنزلت فأدلى إلى ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي: ادخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك فلما دخلت الدير اجتمعت النصارى فقالوا: يا حنيفي ما الذي أدلى إليك الشيخ؟ قلت: من قوته قالوا: وما تصنع به؟ نحن أحق ساوم قلت: عشرين دينارا فأعطوني عشرين دينارا فرجعت إلى الشيخ فقال: أخطأت لو ساومتهم عشرين ألفا لأعطوك هذا عز من لا يعبده فانظر كيف تكون بعز من تعبده يا حنيفي أقبل على ربك
قلت: ولخوف الرياء ستر الصالحون أعمالهم حدرا عليها وبهرجوها بضدها فكان ابن سيرين يضحك بالنهار ويبكي بالليل وكان في ذيل أيوب السختياني بعض الطول وكان ابن أدهم إذا مرض يرى عنده ما يأكله الأصحاء وبالإسناد عن عبد الله بن المبارك عن بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه يقول: كان رجل من أفضل أهل زمانه وكان يزار فيعظمهم فاجتمعوا إليه ذات يوم فقال: إنا قد خرجنا من الدنيا وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان وقد خفت أن يكون قد دخل علينا في هذه حالة من الطغيان أكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم أرانا يحب أحدنا أن تقضى له حاجته وإن اشترى بيعا أن يقارب لمكان دينه وإن لقي حيي ووقر لمكان دينه فشاع ذلك الكلام حتى بلغ الملك فعجب به فركب إليه ليسلم عليه وينظر إليه فلما رآه الرجل قيل له: هذا الملك قد أتاك ليسلم عليك فقال: وما يصنع قال للكلام الذي وعظت به فسأل غلامه: هل عندك طعام؟ فقال: شيء من ثمر الشجر مما كنت تفطر به فأمر به فأتى على مسح فوضع بين يديه فأخذ يأكل منه وكان يصوم النهار ولا يفطر فوقف عليه الملك فسلم عليه فأجابه بإجابة خفية وأقبل على طعامه يأكله فقال الملك: أين الرجل؟ فقيل له: هو هذا قال: هذا الذي يأكل؟ قالوا: نعم قال: فما عند هذا من خير فأدبر فقال الرجل: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به
وفي رواية أخرى عن وهب أنه لما أقبل الملك قدم الرجل طعامه فجعل يجمع البقول في اللقمة الكبيرة ويغمسها في الزيت فيأكل أكلا عنيفا فقال له الملك: كيف أنت يا فلان؟ فقال: كالناس فرد الملك عنان دابته وقال: ما في هذا من خير فقال: الحمد لله الذي أذهبه عني وهو لائم لي
وبإسناد عن عطاء قال: أراد أبو الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد فبلغ ذلك يزيد فلبس فروة فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجا وأخذ بيده رغيفا وعرقا وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف فجعل يمشي في الأسواق ويأكل فقيل للوليد: إن يزيد قد اختلط وأخبر بما فعل فتركه ومثل هذا كثير
فصل
عدلومن الزهاد من يستعمل الزهد ظاهرا وباطنا لكنه قد علم أنه لا بد أن يتحدث بتركه للدنيا أصحابه أو زوجته فيهون عليه الصبر كما هان على الراهب الذي ذكرنا قصته مع إبراهيم بن أدهم ولو أراد الإخلاص في زهده لأكل مع أهله قدر ما ينمحي به جاه النفس ويقطع الحديث عنه فقد كان داود بن أبي هند صام عشرين سنة ولم يعلم به أهله كان يأخذ غذاءه ويخرج إلى السوق فيتصدق به في الطريق فأهل السوق يظنون أنه قد أكل في البيت وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في السوق هكذا كان الناس
نقد مسالك الزهاد
عدلومن المتزهدين: من قوته الانقطاع في مسجد أو رباط أو جبل فلذته علم الناس بانفراده وربما احتج لانقطاعه بأني أخاف أن أرى في خروجي المنكرات وله في ذلك مقاصد: منها الكبر واحتقار الناس ومنها أنه يخاف أن يقصروا في خدمته ومنها حفظ ناموسه ورياسته فإن مخالطة الناس تذهب ذلك وهو يريد أن يبقى إطراؤه وذكره وربما كان مقصوده ستر عيوبه ومقابحه وجهله بالعلم فيرى هذا ويحب أن يزار ولا يزور ويفرح بمجيء الأمراء إليه واجتماع العوام على بابه وتقبيلهم يده فهو يترك عيادة المرضى وشهود الجنائز وبقول أصحابه: اعذروا الشيخ فهذه عادته - لا كانت عادة تخالف الشريعة ولو احتاج هذا الشخص إلى القوت ولم يكن عنده من يشتريه له صبر على الجوع لئلا يخرج لشراء ذلك بنفسه فيضيع جاهه لمشيه بين العوام ولو أنه خرج فاشترى حاجته لانقطعت عنه الشهرة ولكن في باطنه حفظ الناموس وقد كان رسول الله ﷺ يخرج إلى السوق ويشتري حاجته ويحملها بنفسه
وكان أبو بكر رضي الله عنه يحمل الثياب على كتفه فيبيع ويشتري والحديث بإسناد عن محمد بن القاسم قال: روي عن عبد الله بن حنظلة قال: مر عبد الله بن سلام وعلى رأسه حزمة حطب فقال له ناس: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله؟ قال: أردت أن أدفع به الكبر وذلك أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: [ لا يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال ذرة من الكبر ]
فصل
عدلقال المصنف: وهذا الذي ذكرته من الخروج لشراء الحاجة ونحوها من التبدل كان عادة السلف القدماء وقد تغيرت تلك العادة كما تغيرت الأحوال والملابس فلا أرى للعالم أن يخرج اليوم لشراء حاجته لأن ذلك يكشف نور العلم عند الجهلة وتعظيمه عندهم مشروع ومراعاة قلوبهم في مثل هذا يخرج إلى الرياء واستعمال ما يوجب الهيبة في القلوب لا يمنع منه وليس كل ما كان في السلف مما لا يتغير به قلوب الناس يومئذ ينبغي أن يفعل اليوم
قال الأوزاعي: كنا نضحك ونمزح فإذا صرنا يقتدى بنا فلا أرى ذلك يسعنا وقد روينا عن إبراهيم بن أدهم أن أصحابه كانوا يوما يتمازحون فدق رجل الباب فأمرهم بالسكوت والسكون فقالوا له: تعلمنا الرياء؟! فقال: إني أكره أن يعصى الله فيكم
قال المصنف: وإنما خاف قول الجهلة: انظروا إلى هؤلاء الزهاد كيف يفعلون وذلك أن العوام لا يحتملون مثل هذا للمتعبدين
فصل
عدلومن هؤلاء قوم لو سئل أحدهم أن يلبس اللين من ثوبه ما فعل لئلا يتوكس جاهه في الزهد ولو خرج روحه لا يأكل والناس يرونه ويحفظ نفسه في التبسم فضلا عن الضحك ويوهمه إبليس أن هذا لإصلاح الخلق وإنما هو رياء يحفظ به قانون الناموس فتراه مطأطئ الرأس عليه آثار الحزن فإذا خلا رأيته ليث شرى
فصل
عدلوقد كان السلف يدفعون عنهم كل ما يوجب الإشارة إليهم ويهربون من المكان الذي يشار إليهم فيه والحديث بإسناد عن عبد الله بن خفيف قال: قال يوسف بن أسباط: خرجت من سبج راجلا حتى أتيت المصيصة وجرابي على عنقي فقام ذا حانوته يسلم علي وذا يسلم فطرحت جرابي ودخلت المسجد أصلي ركعتين أحد قوابي واضطلع رجل في وجهي فقلت في نفسي كم بقاء قلبي على هذا فأخذت جرابي ورجعت بعرفي وعنائي إلى سبج فما رجعت إلى قلبي سنتين
فصل
عدلومن الزهاد من يلبس الثوب المخرق ولا يخيطه ويترك إصلاح عمامته وتسريح لحيته ليرى أنه ما عنده من الدنيا خير وهذا من أبواب الرياء فإن كان صادقا في إعراضه عن أغراضه كما قيل لداود الطائي: ألا تسرح لحيتك! فقال: إني عنها لمشغول فليعلم أنه سلك غير الجادة إذ ليست هذه طريقة رسول الله ﷺ ولا أصحابه فإنه كان يسرح شعره وينظر في المرآة ويدهن ويتطيب وهو أشغل الخلق بالآخرة وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يخضبان بالحناء والكتم وهما أخوف الصحابة وأزهدهم فمن ادعى رتبة تزيد على السنة وأفعال الأكابر لم يلتفت إليه
فصل
عدلومن الزهاد من يلزم الصمت الدائم وينفرد عن مخالطة أهله فيؤذيهم بقبح أخلاقه وزيادة انقباضه وينسى قول النبي ﷺ: [ إن لأهلك عليك حقا ] وقد كان رسول الله ﷺ يمزح فيلاعب الأطفال ويحدث أزواجه وسابق عائشة إلى غير ذلك من الأخلاق اللطيفة فهذا المتزهد الجاعل زوجته كالأيم وولده كاليتيم لانفراده عنهم وقبح أخلاقه لأنه يرى أن ذلك يشغله عن الآخرة ولا يدري لقلة علمه أن الانبساط إلى الأهل من العون على الآخرة وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال لجابر: [ هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك ] وربما غلب على هذا المتزهد التجفف فترك مباضعة الزوجة فيضيع فرضا بنافلة غير ممدوحة
فصل
عدلومن الزهاد من يرى عمله فيعجبه فلو قيل له: أنت من أوتاد الأرض رأى ذلك حقا ومنهم من يترصد لظهور كرامته ويخيل إليه أنه لو قرب من الماء قدر أن يمشي عليه فإذا عرض له أمر فدعا فلم يجب تذمر في باطنه فكأنه أجير يطلب أجر عمله ولو رزق الفهم لعلم أنه عبد مملوك والمملوك لا يمن بعمله ولو نظر إلى توفيقه للعمل لرأى وجوب الشكر فخاف من التقصير فيه وقد كان ينبغي أن يشغله خوفه على العمل من التقصير فيه عن النظر إليه كما كانت رابعة تقول: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي وقيل لها: هل عملت عملا ترين أنه يقبل منك؟ فقالت: إذا كان فمخافتي أن يرد علي
فصل
عدلومن تلبيس إبليس على قوم من الزهاد الذي دخل عليهم فيه من قلة العلم أنهم يعملون بواقعاتهم ولا يلتفتون إلى قول الفقيه قال ابن عقيل: كان أبو إسحاق الخراز صالحا وهو أول من لقنني كتاب الله وكان من عادته الإمساك عن الكلام في شهر رمضان فكان يخاطب بآي القرآن فيما يعرض إليه من الحوائج فيقول: في أذنه { ادخلوا عليهم الباب } ويقول لابنه في عشية الصوم: { من بقلها وقثائها } آمرا أن يشترى البقل فقلت له: هذا الذي تعتقده عبادة هو معصية فصعب عليه فقلت: إن هذا القرآن العزيز أنزل في بيان أحكام شرعية فلا يستعمل في أغراض دنيوية وما هذا إلا بمثابة صرك السدر والأشنان في ورق المصحف أو توسدك له فهجرني ولم يصغ إلى الحجة
قال المصنف قالت: وقد يسمع الزاهد القليل العلم أشياء من العوام فيفتي به حدثني أبو حكيم إبراهيم بن دينار الفقيه أن رجلا استفتاء فقال: ما تقول في امرأة طلقت ثلاثا فولدت ذكرا هل تحل لزوجها؟ قال: فقلت: لا وكان عندي الشريف الدحالي وكان مشهورا بالزهد عظيم القدر بين العوام فقال لي: بل تحل فقلت: ما قال بهذا أحد فقال: والله لقد أفتيت بهذا من ههنا إلى البصرة
قال المصنف: فانظر ما يصنع الجهل بأهله ويضاف إليه حفظ الجاه خوفا أن يرى الزاهد بعين الجهل وقد كان السلف ينكرون على الزاهد مع معرفته بكثير من العلم أن يفتي لأنه لم يجمع شروط الفتوى فكيف لو رأوا تخبيط المتزهدين اليوم في الفتوى بالواقعات وبالإسناد عن إسماعيل بن شبة قال: دخلت على أحمد بن حنبل وقد قدم أحمد بن حرب من مكة فقال لي أحمد بن حنبل: من هذا الخراساني الذي قد قدم؟ قلت: من زهده كذا وكذا ومن ورعه كذا وكذا فقال: لا ينبغي لمن يدعي ما يدعيه أن يدخل نفسه في الفتيا
احتقار العلماء وذمهم
عدلومن تلبيسه على الزهاد احتقارهم العلماء وذمهم إياهم فهم يقولون المقصود العمل ولا يفهمون أن العلم نور القلب ولو عرفوا مرتبة العلماء في حفظ الشريعة وأنها مرتبة الأنبياء لعدوا أنفسهم كالبكم عند الفصحاء والعمي عن البصراء والعلماء أدلة الطريق والخلق وراءهم وسليم هؤلاء يمشي وحده وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن النبي ﷺ قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: [ والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ]
تفسح العلماء في بعض المباحات
عدلومما يعيبون به العلماء تفسح العلماء في بعض المباحات التي يتقوون بها على دراسة العلم وكذلك يعيبون جامع الأموال ولو فهموا معنى المباح لعلموا أنه لا يذم فاعله وغاية الأمر أن غيره أولى منه أفيحسن لمن صلى الليل أن يعيب على من أدى الفرض ونام! ولقد روينا بإسناد عن محمد بن جعفر الخولاني قال: حدثني أبو عبد الله الخواص وكان من اصحاب حاتم الأصم قال: دخلنا مع حاتم البلخي إلى الري ومعه ثلاثمائة وعشرون رجلا من أصحابه يريد الحج وعليهم الصوف والزرمانقات ليس فيهم من معه جراب ولا طعام فنزلنا على رجل من التجار متنسك فضافنا تلك الليلة فلما كان من الغد قال حاتم: يا أبا عبد الرحمن لك حاجة فإني أريد أن أعود فقيها لنا هو عليل فقال حاتم: إن كان لكم فقيه عليل فعيادة الفقيه لها فضل كبير والنظر إلى الفقيه عبادة وأنا أجيء معك وكان العليل محمد بن مقاتل قاضي الري فقال له: مر بنا يا أبا عبد الرحمن فجاؤوا إلى باب داره فإذا البواب فبقي حاتم متفكرا يقول: رب دار عالم على هذه الحال ثم أذن لهم فدخلوا فإذا بدار قوراء وآلة حسنة وبزة وفرش وستور فبقي حاتم متفكرا ينظر حتى دخلوا إلى المجلس الذي فيه محمد بن مقاتل وإذا بفراش حسن وطيء وهو عليه راقد وعند رأسه مذبة وناس وقوف فقعد الرازي وبقي حاتم قائما فأومأ إليه محمد بن مقاتل بيده أن اجلس فقال حاتم: لا أجلس فقال له ابن مقاتل: فلك حاجة؟ قال: نعم قال: وما هي؟ قال: مسألة أسألك عنها قال: فاسألني قال حاتم: قم فاستو جالسا حتى أسألك عنها فأمر غلمانه فأسندوه فقال حاتم: علمك هذا من أين جئت به؟ فقال: حدثني الثقات عن الثقات من الأئمة قال: عمن أخذوه من التابعين قال: والتابعون ممن أخذوه قال: عن أصحاب رسول الله ﷺ قال: وأصحاب رسول الله ﷺ عمن أخذوه؟ قال: عن رسول الله ﷺ قال: ورسول الله ﷺ من أين جاء به؟ قال: عن جبريل عن الله تعالى فقال حاتم: ففيم أداه جبريل عن الله تعالى إلى النبي ﷺ وأداه النبي ﷺ إلى الصحابة وأداه الصحابة إلى تابعيهم وأداه التابعون إلى الأئمة وأداه الأئمة إلى الثقات وأداه الثقات إليكم هل سمعت في هذا العلم من كانت داره في الدنيا أحسن وفراشه ألين وزينته أكثر كان له المنزلة عن الله تعالى أكبر؟ قال: لا قال: فكيف سمعت؟ قال: سمعت من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته كان عند الله تعالى له منزلة أكثر وإليه أقرب قال حاتم: وأنت بمن اقتديت؟ أبالنبي ﷺ وبأصحابه والتابعين من بعدهم والصالحين على أثرهم أو بفرعون ونمروذ فإنهما أول من بنى بالجص والآجر يا علماء السوء إن الجاهل المتكالب على الدنيا الراغب فيها يقول: هذا العالم على هذه الحالة أو أكون أنا! قال: فخرج من عنده وازداد محمد بن مقاتل مرضا وبلغ أهل الري ما جرى بين حاتم وبين ابن مقاتل فقالوا لحاتم أن محمد بن عبيد الطنافسي بقزوين أكثر شيئا من هذا فصار إليه فدخل عليه وعنده الخلق يحدثهم فقال له: رحمك الله أنا رجل أعجمي جئتك لتعلمني مبدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة؟ فقال: نعم وكرامة يا غلام إناء فيه ماء فجاءه بإناء فيه ماء فقعد محمد بن عبيد فتوضأ ثلاثا ثم قال له: هكذا فتوضأ قال حاتم: مكانك رحمك الله حتى أتوضأ بين يديك ليكون أوكد لما أريد فقام الطنافسي وقعد حاتم مكانه فتوضأ وغسل وجهه ثلاثة حتى إذا بلغ الذراع غسل أربعا فقال الطنافسي: أسرفت! قال حاتم: فبماذا أسرفت؟! قال: غسلت ذارعك أربعا قال: يا سبحان الله أنا في كف ماء أسرفت وأنت في جميع هذا الذي أراه كله لم تسرف! فعلم الطنافسي أنه أراده بذلك فدخل البيت ولم يخرج إلى الناس أربعين يوما وخرج حاتم إلى الحجاز فلما صار إلى المدينة أحب أن يخصم علماء المدينة فلما دخل المدينة قال: يا قوم أي مدينة هذه؟ قالوا: مدينة الرسول ﷺ قال: فأين قصر رسول الله ﷺ حتى أذهب إليه فأصلي فيه ركعتين قالوا ما كان لرسول الله ﷺ قصر إنما كان له بيت لاط قال: فأين قصور أهله وأصحابه وأزواجه؟ قالوا: ما كان لهم قصور إنما كان لهم بيوت لاطئة فقال حاتم: فهذه مدينة فرعون قال: فسبوه وذهبوا به إلى الوالي وقالوا: هذا العجمي يقول: هذه مدينة فرعون فقال الوالي: لم قلت ذلك؟ قال حاتم: لا تعجل علي أيها الأمير أنا رجل غريب دخلت هذه المدينة فسألت أي مدينة هذه قالوا مدينة رسول الله ﷺ وسألت عن قصر رسول الله ﷺ وقصور أصحابه قالوا: إنما كانت لهم بيوت لاطئة وسمعت الله تعالى يقول: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } فأنتم بمن تأسيتم برسول الله ﷺ أو بفرعون؟
قال المصنف: قلت: الويل للعلماء من الزاهد الجاهل الذي يقتنع بعمله فيرى الفضل فرضا فإن الذي أنكره مباح والمباح مأذون فيه والشرع لا يأذن في شيء ثم يعاتب عليه فما أقبح الجهل ولو أنه قال لهم: لو قصر تم فيما أنتم فيه لتقتدي الناس بكم كان أقرب حالة ولو سمع هذا بأن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم وفلانا وفلانا من الصحابة خلفوا مالا عظيما أتراه ماذا يقول وقد اشترى تميم الداري حلة بألف درهم وكان يقوم فيها بالليل ففرض على الزاهد التعلم من العلماء فإذا لم يتعلم فليسكت والحديث بإسناد عن مالك بن دينار رضي الله عنه قال: إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز وبإسناد عن حبيب الفارسي يقول: والله إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز
قال المصنف: قلت المراد بالقراء الزهاد وهذا اسم قديم لهم معروف والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب