تلبيس إبليس/الباب الحادي عشر
الباب الحادي عشر في ذكر تلبيس إبليس على المتدينين بما يشبه الكرامات
عدلقد بينا فيما تقدم أن إبليس إنما يتمكن من الإنسان على قدر قلة العلم فكلما قل علم الإنسان كثر تمكن إبليس منه وكلما كثر العلم قل تمكنه منه ومن العباد من يرى ضوءا أو نورا في السماء فإن كان رمضان قال: رأيت ليلة القدر وإن كان في غيره قال قد فتحت لي أبواب السماء وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه فيظن ذلك كرامة وربما كان اتفاقا وربما كان اختبارا وربما كان من خدع إبليس والعاقل لا يساكن شيئا من هذا ولو كان كرامة وقد ذكرنا في باب الزهاد عن مالك بن دينار وحبيب العجمي أنهما قالا: إن الشيطان ليلعب بالقراء كما يلعب الصبيان بالجوز ولقد استعوى بعض ضعفاء الزهاد بأن أراه ما يشبه الكرامة حتى ادعى النبوة فروي عن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي قال: ثنا محمد بن المبارك بن مسلم عن عبد الرحمن بن حسان قال: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق وكان مولى لأبي الجلاس وكان له أب بالغوطة تعرض له إبليس وكان متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرأيت عليه زهادة وكان إذا أخذ في التحميد لم يصغ السامعون إلى كلام أحسن من كلامه قال: فكتب إلى أبيه يا أبتاه اعجل علي فإني رأيت أشياء أتخوف منها أن تكون من الشياطين قال: فزاده أبوه غيا وكتب له: يا بني أقبل على ما أمرت به إن الله يقول: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم } ولست بأفاك ولا أثيم فامض لما أمرت به وكان يجيء إلى أهل المساجد رجلا رجلا فيذكر له أمره ويأخذ عليهم العهود والمواثيق إن هو رأى يرضى قبل وإلا كتم عليه وكان يريهم الأعاجيب كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء ويقول: اخرجوا حتى أريكم الملائكة فيخرجهم إلى دير المران فيريهم رجالا على خيل فتبعه بشر كثير وفشى الأمر وكثر أصحابه حتى وصل خبره إلى القاسم بن مخيمرة فقال له: إني نبي فقال له القاسم: كذبت يا عدو الله فقال له أبو إدريس: بئس ما صنعت إذ لم تلن له حتى تأخذه الآن يفر وقام من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فأعلمه بأمره فبعث عبد الملك في طلبه فلم يقدر عليه وخرج عبد الملك حتى نزل العنيبرة فاتهم عامة عسكرة بالحارث أن يكونوا يرون رأيه وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس واختفى وكان الصحابة يخرجون يلتمسون الرجال يدخلونهم عليه وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس فأدخل على الحارث فأخذ في التحميد وأخبره بأمره وأنه نبي مبعوث مرسل فقال: إن كلامك لحسن ولكن لي في هذا نظر قال فانظر فخرج البصري ثم عاد إليه فرد عليه كلامه فقال: إن كلامك لحسن وقد وقع في قلبي وقد آمنت بك وهذا هو الدين المستقيم فأمر أن لا يحجب عنه متى أراد الدخول فأقبل البصري يتردد إليه ويعرف مداخله ومخارجه وأين يهرب حتى صار من أخبر الناس به ثم قال له: ائذن لي فقال: إلى أين؟ قال إلى البصرة فأكون أول داع لك بها قال: فاذن له فخرج مسرعا إلى عبد الملك وهو بالصنيبرة فلما دنا من سرادقه صاح: النصيحة النصيحة فقال أهل العسكر: وما نصيحتك؟ قال: نصيحة لأمير المؤمنين فأمر الخليفة عبد الملك أن يأذنوا له بالدخول عليه فدخل وعنده أصحابه قال: فصاح: النصيحة قال: وما نصيحتك؟ قال: اخلني لا يكن عندك أحد فأخرج من في البيت وقال له: ادنني قال: ادن فدنا وعبد الملك على السرير قال: ما عندك؟ قال: الحارث فلما ذكر الحارث طرح عبد الملك نفسه من أعلى السرير إلى الأرض ثم قال: أين هو؟ قال: يا أمير المؤمنين ببيت المقدس قد عرفت مداخله ومخارجه وقص عليه قصته وكيف صنع به فقال: أنت صاحبه وأنت أمير بيت المقدس وأميرنا ههنا فمرني بما شئت قال: يا أمير المؤمنين ابعث معي قوما لا يفهمون الكلام فأمر أربعين رجلا من فرغانة فقال: انطلقوا مع هذا فما أمركم به من شيء فأطيعوه قال: وكتب إلى صاحب بيت المقدس أن فلانا هو الأمير عليك حتى يخرج فأطعه فيما أمرك به فلما تقدم بيت المقدس أعطاه الكتاب فقال: مرني بما شئت فقال: اجمع لي كل شمعة تقدر عليها ببيت المقدس وادفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس وزواياه فإذا قلت: أسرجوا أسرجوا جميعا فرتبهم في أزقة بيت المقدس وزواياه بالشمع وتقدم البصري إلى منزل الحارث فأتى الباب فقال للحاجب: استأذن لي على نبي الله قال: في هذه الساعة؟ ما يؤذن عليه حتى يصبح قال: أعلمه أني ما رجعت إلا شوقا إليه قبل أن أصل فدخل عليه وأعلمه بكلامه فأمره بفتح الباب قال: ثم صاح البصري: أسرجوا الشموع فأسرجت حتى كانت كأنها النهار ثم قال: من مر بكم فاضبطوه كائنا من كان دخل هو إلى الموضع الذي يعرفه فطلبه فلم يجده فقال أصحاب الحارث هيهات تريدون تقتلون نبي الله قد رفع إلى السماء قال: فطلبه في شق قد هيأه سربا فأدخل البصري يده في ذلك السرب فإذا هو بثوبه فاجتره فأخرجه إلى خارج ثم قال للفرغانيين: اربطوه فربطوه فبينما هم يسيرون به على البريد إذ قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله فقال رجل من الفرغانيين أولئك العجم هذا كرامتنا فهات كرامتك أنت وساروا به حتى أتوا به عبد الملك فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت فصلبه وأمر بحربة وأمر رجلا فطعنه فلما صار إلى ضلع من أضلاعه فانكفأت الحربة عنه فجعل الناس يصيحون ويقولون: الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة ثم مشى إليه وأقبل يتجسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها فأنفذها فقتله قال الوليد: بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية دخل على عبد الملك بن مروان فقال: لو حضرتك ما أمرتك بقلته قال: ولم؟ قال: إنما كان به المذهب فلو جوعته ذهب عنه وروى أبو الربيع عن شيخ أدرك القدماء: فلما حمل الحارث على البريد وجعلت في عنقه جامعة من حديد وجمعت يده إلى عنقه فأشرف على عقبة بيت المقدس تلى هذه الآية: { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } فتقلقلت الجامعة ثم سقطت من يده ورقبته إلى الأرض فوثب الحرس الذين كانوا معه فأعادوها عليه ثم ساروا به فلما أشرفوا على عقبة أخرى قرأ آية فسقطت من رقبته ويده على الأرض فأعادوها عليه فلما قدموا على عبد الملك حبسه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويخوفوه الله ويعلموه أن هذا من الشيطان فأبى أن يقبل منهم فصلب وجاء رجل بحربة فطعنه فانثنت فتكلم الناس وقالوا ما ينبغي لمثل هذا أن يقتل ثم أتاه حرسه برمح دقيق فطعنه بين ضلعين من أضلاعه ثم هزه وأنفذه وسمعت من قال: قال عبد الملك للذي ضربه بالحربة لما انثنت: أذكرت الله حين طعنته؟ قال: نسيت قال: فاذكر الله ثم اطعنه ذكر الله ثم طعنه فأنفذها
المغترين بما يشبه الكرامات
عدلوكم اغتر قوم بما يشبه الكرامات فقد روينا بإسناد عن حسن عن أبي عمران قال: قال لي فرقد: يا أبا عمران قد أصبحت اليوم وأنا مهتم بضريبتي وهي ستة دراهم وقد أهل الهلال وليست عندي فدعوت فبينما أنا أمشي على شط الفرات إذا أنا بستة دراهم فأخذتها فوزنتها فإذا هي ستة لا تزيد ولا تنقص فقال: تصدق بها فإنها ليست لك قلت: أبو عمران هو إبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة فانظروا إلى كلام الفقهاء وبعد الاغترار عنهم وكيف أخبره أنها لقطة ولم يلتفت إلى ما يشبه الكرامة وإنما لم يأمره بتعريفها لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار وكأنه إنما أمره بالتصدق بها لئلا يظن أنه أكرم بأخذها وإنفاقها
وبإسناد عن إبراهيم الخراساني أنه قال: احتجت يوما إلى الوضوء فإذا أنا بكوز من جوهر وسواك من فضة رأسه ألين من الخز فاستكت بالسواك وتوضأت بالماء وتركتهما وانصرفت قلت: في هذه الحكاية لا يوثق بروايته فإن صحت دلت على قلة علم هذا الرجل إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز ولكن قل علمه فاستعمله
وإن ظن أنه كرامة والله تعالى لا يكرم بما يمنع من استعماله شرعا إلا أن أظهر له ذلك على سبيل الامتحان وذكر محمد بن أبي الفضل الهمداني المؤرخ قال حدثني أبي قال: كان السرمقاني المقري يقرأ على علي بن العلاف وكان يأوي إلى المسجد بدرب الزعفراني واتفق أن ابن العلاف رآه ذات يوم في وقت مجاعة وقد نزل إلى دجلة وأخذ منه أوراق الخس مما يرمي به أصحابه وجعل يأكله فشق ذلك عليه وأتى إلى رئيس الرؤساء فأخبره بحاله فتقدم إلى غلام بالقرب إلى المسجد الذي يأتي إليه السرمقاني أن يعمل لبابه مفتاحا من غير أن يعلمه ففعل وتقدم إليه أن يحمل كل يوم ثلاثة أرطال خبزا سميدا ومعها دجاجة وحلوى سكرا ففعل الغلام ذلك وكان يحمله على الدوام فأتى السرمقاني في أول يوم فرأى ذلك مطروحا في القبلة ورأى الباب مغلقا فتعجب وقال في نفسه: هذا من الجنة ويجب كتمانه وأن لا أتحدث به فإن من شرط الكرامة كتمانها وأنشدني:
( من أطلعوه على سر فباح بهلم يأمنوه على الأسرار ما عاشا )
فلما استوت حالته وأخصب جسمه سأله ابن العلاف عن سبب ذلك وهو عارف به وقصد المزاح معه فأخذ يوري ولا يصرح ويكني ولا يفصح ولم يزل ابن العلاف يستخبره حتى أخبره أن الذي يجده في المسجد كرامة إذ لا طريق لمخلوق عليه فقال له ابن العلاف: يجب أن تدعو لابن المسلمة فإنه هو الذي فعل ذلك فنغص عيشه بأخباره وبانت عليه شواهد الانكسار
تحذير العقلاء بما يشبه الكرامات
عدلولما علم العقلاء شدة تلبيس إبليس حذروا من أشياء ظاهرها الكرامة وخافوا أن تكون من تلبيسه روينا بإسناد عن أبي الطيب يقول: سمعت زهرون يقول: كلمني الطير وذاك أني كنت في البادية فتهت فرأيت طائرا أبيض فقال لي زهرون أنت تائه فقلت: يا شيطان غرغيري فقال لي: أنت تائه فقلت: يا شيطان غرغيري فوثب في الثالثة فصار على كتفي وقال: ما أنا بشيطان أنت تائه أرسلت إليك ثم غاب عني
وبإسناد عن محمد بن عبد الله القرشي قال حدثني محمد بن يحيى بن عمرو قال حدثتني زلفى قالت: قلت لرابعة العدوية: يا عمة لم لا تأذنين للناس يدخولن عليك؟ قالت: وما أرجو من الناس إن أتوني حكوا عني ما لم أفعل قال القرشي: وزادني غير أبي حاتم أنها قالت: يبلغني أنهم يقولون إني أجد الدراهم تحت مصلاي ويطبخ لي القدر بغير نار ولو رأيت مثل هذا فزعت منه قالت: فقلت لها إن الناس يكثرون فيك القول يقولون إن رابعة تصيب في منزلها الطعام والشراب فهل تجدين شيئا فيه؟ قالت: يا ابنة أخي لو وجدت في منزلي شيئا ما مسسته ولا وضعت يدي عليه قال القرشي: وحدثني محمد بن إدريس قال: قال محمد بن عمرو: وحدثتني زلفى عن رابعة إنها أصبحت يوما صائمة في يوم بارد قالت: فنازعتني نفسي إلى شيء من الطعام السخن أفطر عليه وكان عندي شحم فقلت: لو كان عندي بصل أو كراث عالجته فإذا عصفور قد جاء فسقط على المثقب في منقاره بصلة فلما رأيته أضربت عما أردت وخفت أن يكون من الشيطان وبالإسناد عن محمد بن يزيد قال: كانوا يرون لوهيب أنه من أهل الجنة فإذا أخبر بها اشتد بكاؤه وقال: قد خشيت أن يكون هذا من الشيطان وبالإسناد عن أبي عثمان النيسابوري يقول: خرجنا مع أستاذنا أبي حفص النيسابوري إلى خارج نيسابور فجلسنا فتكلم الشيخ علينا فطابت أنفسنا ثم بصرنا فإذا بأيل قد نزل من الجبل حتى برك بين يدي الشيخ فأبكاه ذلك بكاء شديدا فلما سكن سألناه فقلت: يا أستاذ تكلمت علينا فطابت قلوبنا فلما جاء هذا الوحش وبرك بين يديك أزعجك وأبكاك فقال: نعم رأيت اجتماعكم حولي وقد طابت قلوبكم فوقع في قلبي لو أن شاة ذبحتها ودعوتكم عليها فما تحكم هذا الخاطر حتى جاء هذا الوحش فبرك بين يدي فخيل لي أني مثل فرعون الذي سأل ربه أن يجري له النيل فأجراه قلت فما يؤمنني أن يكون الله تعالى يعطيني كل حظ لي في الدنيا وأبقى في الآخرة فقيرا لا شيء لي فهذا الذي أزعجني
الحكايات الموضوعة في الكرامات
عدلوقد لبس إبليس على قوم من المتأخرين فوضعوا حكايات في كرامات الأولياء ليشيدوا بزعمهم أمر القوم والحق لا يحتاج إلى تشييد بباطل فكشف الله تعالى أمرهم بعلماء النقل أخبرنا محمد بن ناصر أنبأنا الحسن بن أحمد الفقيه قال نا محمد بن محمد الحافظ قال نا عبيد الله بن محمد الفقيه قال أحمد بن عبد الله بن الحسن الآدمي قال حدثني أبي قال: قال سهل بن عبد الله قال عمرو بن واصل كذا في الرواية والصواب قال عمرو بن واصل قال سهل بن عبد الله: صحبت رجلا من الأولياء في طريق مكة فنالته فاقة ثلاثة أيام فعدل إلى مسجد في أصل جبل وإذا فيه بئر عليها بكرة وحبل ودلو ومطهرة وعند البئر شجرة رمان ليس فيها حمل فأقام في المسجد إلى المغرب فلما دخل الوقت إذا بأربعين رجلا عليهم المسوح وفي أرجلهم نعال الخوص قد دخلوا المسجد فسلموا وأذن أحدهم وأقام الصلاة وتقدم فصلى بهم فلما فرغ من صلاته تقدم إلى الشجرة فإذا فيها أربعون رمانة غضة طريفة فأخذ كل واحد منهم رمانة وانصرف قال وبت على فاقتي فلما كان في الوقت الذي أخذوا فيه الرمان أقبلوا أجمعين فلما صلوا وأخذوا الرمان قلت: يا قوم أنا أخوكم في الإسلام وبي فاقة شديدة فلا كلمتموني ولا واسيتموني فقال رئيسهم: إنا لا نكلم محجوبا بما معه فامض واطرح ما معك وراء هذا الجبل في الوادي وارجع إلينا حتى تنال ما ننال قال فرقيت الجبل فلم تسمح نفسي برمي ما معي فدفنته ورجعت فقال لي: رميت ما معك؟ قلت نعم قال: فرأيت شيئا؟ قلت لا قال: ما رميت شيئا إذن فارجع فارم به في الوادي فرجعت ففعلت فإذا قد غشيني مثل الدرع نور الولاية فرجعت فإذا في الشجرة رمانة فأكلتها واستقللت بها من الجوع والعطش ولم ألبث دون المضي إلى مكة فإذا أنا بالأربعين بين زمزم والمقام فأقبلوا إلي بأجمعهم يسألوني عن حالي ويسلمون علي فقلت: قد غنيت عنكم وعن كلامكم آخرا كما أغناكم الله عن كلامي أولا فما في لغير الله موضع
قال المصنف رحمه الله: عمرو بن واصل ضعفه ابن أبي حاتم والآدمي وأبوه مجهولان ويدل على أنها حكاية موضوعة قولهم اطرح ما معك لأن الأولياء لا يخالفون الشرع والشرع قد نهى عن إضاعة المال وقوله غشيني نور الولاية فهذه حكاية مصنوعة وحديث فارغ ومثل هذه الحكاية لا يغتر بها من شم رائحة العلم إنما يغتر بها الجهال الذين لا بصيرة لهم
أخبرنا محمد بن ناصر قال نا السهلكي قال: سمعت محمد بن علي الواعظ قال: وفيما أفادني بعض الصوفية حاكيا عن الجنيد قال: قال أبو موسى الدبيلي: دخلت على أبي يزيد فإذا بين يديه ماء واقف يضطرب فقال لي تعال ثم قال: إن رجلا سألني عن الحياء فتكلمت عليه بشيء من علم الحياء فدار دورانا حتى صار كذا كما ترى وذاب قال الجنيد: وقال أحمد بن حضرويه: بقي منه قطعة كقطعة جوهر فاتخذت منه فصا فكلما تكلمت بكلام القوم أو سمعت من كلام القوم يذوب ذلك الفص حتى لم يبق منه شيء قلت: وهذه من النحالة القبيحة التي وضعوها الجهال ولولا أن الجهالة يروونها مسندة فيظنونها شيئا لكان الإضراب عن ذكرها أولى
أنبأنا أبو بكر بن حبيب قال نا ابن أبي صادق قال ثنا ابن باكويه قال ثنا أبو حنيفة البغدادي قال ثنا عبد العزيز البغدادي قال: كنت أنظر في حكايات الصوفية فصعدت يوما السطح فسمعت قائلا يقول: { وهو يتولى الصالحين } فالتفت فلم أر شيئا فطرحت نفسي من السطح فوقفت في الهواء
قال المصنف رحمه الله: هذا كذب محال لا يشك فيه عاقل فلو قدرنا صحته فإن طرح نفسه من السطح حرام وظنه أن الله يتولى من فعل المنهي عنه فقد قال تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكيف يكون صالحا وهو يخالف ربه وعلى تقدير ذلك فمن أخبره أنه منهم وقد تقدم قول عيسى صلوات الله عليه للشيطان لما قال له ألق نفسك قال: إن الله يختبر عباده وليس للعبد أن يختبر ربه
مسالك الصوفية في الشطح والدعاوى: مخاريق الحلاج وابن الشباس
عدلوقد اندس في الصوفية أقوام وتشبهوا بهم وشطحوا في الكرامات وادعائها وأظهروا للعوام مخاريق صادوا بها قلوبهم وقد روينا عن الحلاج أنه كان يدفن شيئا من الخبر والشواء والحلوى في موضع من البرية ويطلع بعض أصحابه على ذلك فأصبح قال لأصحابه: إن رأيتم أن نخرج على وجه السياحة فيقوم ويمشي والناس معه فإذا جاؤوا إلى ذلك المكان قال له صاحبه الذي أطلعه على ذلك: نشتهي الآن كذا وكذا فيتركهم الحلاج وينزوي عنهم إلى ذلك المكان فيصلي ركعتين ويأتيهم بذلك وكان يمد يده إلى الهواء ويطرح الذهب في أيدي الناس ويمخرق وقد قال بعض الحاضرين يوما: هذه الدراهم معروفة ولكن أؤمن بك إذا أعطيتني درهما عليه اسمك واسم أبيك وما زال يمخرق إلى وقت صلبه
حدثنا أبو منصور القزاز قال نا أبو بكر بن ثابت نا عبد الله بن أحمد بن عمار الصيرفي ثنا أبو عمرو بن حيوة قال: لما أخرج حسين الحلاج للقتل مضيت في جملة الناس فلم أزل أزاحم حتى رأيته فقال لأصحابه: لا يهولنكم هذا فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوما وكان اعتقاد الحلاج اعتقادا قبيحا وقد بينا في أول هذا الكتاب شيئا من اعتقاده وتخليطه وبينا أنه قتل بفتوى فقهاء عصره وقد كان في المتأخرين من يطلي بدهن الطلق ويقعد في التنور ويظهر أن هذا كرامة
قال ابن عقيل: وكان ابن الشباس وأبوه قبله لهم طيور سوابق وأصدقاء في جميع البلاد فينزل بهم قوم فيرفع طائرا في الحال إلى قريتهم يخبر بخبر من له هناك بنزولهم ويستعمله من أحوالهم وما تجدد هناك بعدهم قبل أن يجتمع عليهم ويستعلم حالهم فيكتب ذلك إليه الجواب ثم يجتمع بهم فيخبرهم بتلك الحوادث ويحدثهم بأحوالهم حديث من هو معهم ومعاشرهم في بلادهم ثم يحدثهم بما تجدد بعدهم وفي يومه ذلك فيقول: الساعة تجدد كذا وكذا فيدهشون ويرجعون إلى رستاقهم فيجدون الأمر على ما قال ويتكرر هذا منه فيصير عندهم كالقطعي على أنه يعلم الغيب قال: وما كان يفعله أنه يأخذ طير عصفور ويشد رجله تلفكا ويجعل التلفك بطاقة صغيرة ويشد في رجل حمامة تلفكا ويشد في طرف التلفك كتابا أكبر من ذلك ويجعله بين يديه ويجعل العصفور بيد ويأخذ غلاما له في السطح والحمامة بيد آخر فيه ما في تلك البطاقة الصغيرة ويطلق الطائر العصفور فينظر الناس الكتاب وهو طائر في الهواء فيروح الحمام إلى تلك القرية فيأخذه صديقه الذي هناك ثم يخبره بجميع أمور القرية وأصحابها فلما يتكامل مجلسه بالناس ويشير وينادي يا بارش كأنه يخاطب شيطانا اسمه بارش ويقول خذ هذا الكتاب إلى قرية فلان فقد جرت بينهم خصومة فاجتهد في إصلاح ذات بينهم ويرفع صوته بذلك فيسرح غلامه المترصد العصفور الذي في يده فيرفع الكتاب نحو السماء بحضرة الجماعة يرونه عيانا من غير أن يرون التلفك فإذا ارتفع الكتاب جذبه الغلام المقيد بالعصفور وقطع التلفك حتى لا يرى ويرسل العصفور إلى تلك القرية ليصلح الأمر وكذلك يفعل بالحمامة ثم يقول لغلامه هات الكتاب فيلقيه الغلام الذي في السطح الذي قد جاءه خبر ما في القرية التي هؤلاء منها ثم يكتب كتابا إلى دهقان تلك القرية فيشد به بلفكا ويجعله في رجل عصفور كما قدمنا ويطلقه حتى يعلو سطح المكان فيأخذه ذلك الغلام فيشده في رجل طير الحمام فيروح إلى تلك القرية بذلك الكتاب فيصلح بين الناس الذين قد أتاهم خبرهم بالمشاجرة فتخرج الجماعة من الذين من تلك القرية فيجدون كتاب الشيخ قد وصل لهم وقد اجتمع دهاقين القرية وأصلحوا بينهم فيجيء ذلك فيخبرهم فلا يشكون في ذلك أنه يعلم الغيب ويتحقق هذا في قلوب العوام
قال ابن عقيل: وإنما أوردت مثل هذا ليعلم أنه قد ارتفع القوم إلى التلاعب بالدين فأي بقاء للشريعة مع هذا الحال؟ قلت: وابن الشباس هذا كان يكنى أبا عبد الله والشباس هو أبوه كان يكنى أبا الحسن واسم الشباس علي بن الحسين بن محمد البغدادي توفي بالبصرة سنة أربع وأربعين وأربع مائة وكان الشباس وأبوه وعمه مستقرين بالبصرة
وكانت مذاهبهم تخفى على الناس إلا أن الأغلب أنهم كانوا من الباطنية وقد ذكرت في التاريخ عن ابن الشباس أن بعض أصحابه اكتشفت له نار بخيانته وزخارفه وكانت تخفى على الناس إلى أن كشفها بعض أصحابه من الباطنية للناس فلما كشفها للناس وبينها فكان ما حدث به عنه أنه قال: حضرنا يوما عنده فأخرج جديا مشويا فأمرنا بأكله وأن نكسر عظمه ولا تهشمها فلما فرغنا أمر بردها إلى التنور وترك على التنور طبقا ثم رفعه بعد ساعة فوجدنا جديا حيا يرعى حشيشا ولم نر للنار أثرا ولا للرماد ولا للعظام خبرا قال فتلطفت حتى عرفت ذلك وذلك أن التنور يفضي إلى سرداب وبينهما طبق نحاس بلولب فإذا أراد إزالة النار عنه فركه فينزل عليه فيسده وينفتح السرداب وإذ أراد أن يظهر النار أعاد الطبق إلى فم السرداب فترى للناس
قال المصنف رحمه الله: وقد رأينا في زماننا من يشير إلى الملائكة ويقول: هؤلاء ضيف مكرمون يوهم أن الملائكة قد حضرت ويقول لهم تقدموا إلي وأخذ رجل في زمامنا إبريقا جديدا فترك فيه عسلا فتشرب في الخزف طعم العسل واستصحب الإبريق في سفره فكان إذا غرف به الماء من النهر سقى أصحابه وجدوا طعم العسل وما في هؤلاء من يعرف الله ولا يخاف في الله لومة لائم نعوذ بالله من الخذلان