تلبيس إبليس/الباب العاشر/الصبر على الفقر والمرض

الصبر على الفقر والمرض

عدل

واعلم أن الفقر مرض فمن ابتلي به فصبر أثيب على صبره ولهذا يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لمكان صبرهم على البلاء والمال نعمة والنعمة تحتاج إلى شكر والغني وإن تعب وخاطر كالمفتي والمجاهد والفقير كالمعتزل في زاوية وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب سنن الصوفية باب كراهية أن يخلف الفقير شيئا فذكر حديث الذي مات من أهل الصفة وخلف دينارين فقال رسول الله : [ كيتان ]

قال المصنف: وهذا احتجاج من لا يفهم الحال فإن ذلك الفقير كان يزاحم الفقراء في أخذ الصدقة وحبس ما معه فلذلك قال: كيتان ولو كان المكروه نفس ترك المال لما قال رسول الله لسعد: [ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ] ولما كان أحد الصحابة يخلف شيئا وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حث رسول الله على الصدقة فجئت بنصف مالي فقال رسول الله : [ وما أبقيت لأهلك ] فقلت: مثله فلم ينكر عليه رسول الله قال ابن جرير الطبري وفي هذا الحديث دليل على بطلان ما يقوله جهلة المتصوفة أن ليس للإنسان ادخار شيء في يومه لغده وإن فاعل ذلك قد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله قال ابن جرير: وكذلك قوله : [ اتخذوا الغنم فإنها بركة ] فيه دلالة على فساد قول من زعم من المتصوفة أنه لا يصح لعبد التوكل على ربه إلا بأن يصبح ولا شيء عنده من عين ولا عرض ويمسي كذلك ألا ترى كيف ادخر رسول الله لأزواجه قوت سنة

فصل

عدل

وقد خرج أقوام من أموالهم الطيبة ثم عادوا يتعرضون للأوساخ ويطلبون وهذا لأن حاجة الإنسان لا تنقطع والعاقل يعد للمستقبل وهؤلاء مثلهم في إخراج المال عند بداية تزهدهم مثل من روي في طريق مكة فبدد الماء الذي معه والحديث بإسناد عن جابر بن عبد الله قال: قدم أبو الحصين السلمي بذهب من معدنهم فقضى دينا كان عليه وفضل معه مثل بيضة الحمامة فأتى بها رسول الله فقال: يا رسول الله ضع هذه حيث أراك الله أو حيث رأيت قال فجاءه عن يمينه فأعرض عنه ثم جاءه عن يساره فأعرض عنه ثم جاءه من بين يديه فنكس رسول الله رأسه فلما أكثر عليه أخذها من يديه فحذفه بها لو أصابته لعقرته ثم أقبل عليه رسول الله فقال: [ يعمد أحدكم إلى ماله فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس وإنما الصدقة عن ظهر غني وأبدأ بمن تعول ] وقد رواه أبو داود في سننه من حديث محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند رسول الله إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رسول الله ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله فحذفه بها فلو أصابته لأقصعته أو لعقرته فقال رسول الله : [ يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غني ] وفي رواية أخرى: [ خذ عنا مالك لا حاجة لنا به ]

وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رجل المسجد فأمر رسول الله أن يطرحوا ثيابا فطرحوا فأمر له منها بثوبين ثم حث على الصدقة فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح به: خذ ثوبك

قال المصنف: ونقلت من خط أبي الوفاء بن عقيل قال: قال ابن شاذان: دخل جماعة من الصوفية على الشبلي فأنفذ إلى بعض المياسير يسأله مالا ينفقه عليهم فرد الرسول وقال: يا أبا بكر أنت تعرف الحق فهلا طلبت منه فقال للرسول: ارجع إليه وقل له الدنيا سفلة أطلبها من سفلة مثلك وأطلب الحق من الحق فبعث إليه بمائة دينار قال ابن عقيل: إن كان أنفذ إليه المائة دينار للافتداء من هذا الكلام القبيح وأمثاله فقد أكف الشبلي الخبيث من الرزق وأطعم أضيافه منه

فصل

عدل

وقد كان لبعضهم بضاعة فأنفقها وقال: ما أريد أن تكون ثقتي إلا بالله وهذا قلة فهم لأنهم يظنون أن التوكل قطع الأسباب وإخراج الأموال

أخبرنا القزاز قال: أخبرنا الخطيب قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال أنبأنا جعفر الخلدي في كتابه قال: سمعت الجنيد يقول دققت على أبي يعقوب الزيات بابه في جماعة من أصحابنا فقال: ما كان لكم شغل في الله تعالى يشغلكم عن المجيء إلي فقلت له: إذا كان مجيئا إليك من شغلنا به فلم ننقطع عنه فسألته عن مسألة في التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني فأعطى التوكل حقه ثم قال: استحييت من الله أن أجيبك وعندي شيء

قال المصنف: لو فهم هؤلاء معنى التوكل وأنه ثقة القلب بالله تعالى لا إخراج صور المال وما قال هؤلاء هذا الكلام ولكن قل فهمهم وقد كان سادات الصحابة والتابعين يتجرون ويجمعون الأموال وما قال مثل هذا أحد منهم وقد روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال حين أمر بترك الكسب لأجل شغله بالخلافة فمن أين أطعم عيالي

وهذا القول منكر عند الصوفية يخرجون قائلة من التوكل وكذلك ينكرون على من قال هذا الطعام يضرني وقد رووا في ذلك حكاية عن أبي طالب الرازي قال: حضرت مع أصحابنا في موضع فقدموا اللبن وقال لي: كل فقلت لا آكله فإنه يضرني فلما كان بعد أربعين سنة صليت يوما خلف المقام ودعوت الله تعالى وقلت: اللهم إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين فسمعت هاتفا يهتف بي ويقول - ولا يوم اللبن

قال المصنف: وهذه الحكاية الله أعلم بصحتها - واعلم أن من يقول هذا يضرني لا يريد أن يفعل ذلك الضرر بنفسه وإنما يريد أنه سبب الضرر كما قال الخليل صلوات الله وسلامه عليه: « رب إنهن أضللن كثيرا من الناس » وقد صح عن رسول الله أنه قال: [ ما نفعني مال كمال أبي بكر ] وقوله: ( ما نفعني ) مقابل لقول القائل ( ما ضرني ) ويصح عنه أنه قال: [ ما زلت آكلة خيبر تعادني فهذا أوان قطعت أبهري ]

وقد ثبت أنه لا رتبة أولى من رتبة النبوة وقد نسب النفع إلى المال والضرر إلى الطعام فالتحاشي عن سلوك طريقه تعاط على الشريعة فلا يلتفت إلى هذيان من هذى في مثل هذا

تلبيس إبليس لابن الجوزي
خطبة الكتاب | حكمة بعثة الرسل | حقيقة الأديان | ذكر تراجم الأبواب | الباب الأول: الأمر بلزوم السنة والجماعة | الباب الثاني: في ذم البدع والمبتدعين | ذم البدع والمبتدعين | لزوم طريق أهل السنة | انقسام أهل البدع | الباب الثالث: في التحذير من فتن إبليس ومكايده | التحذير من فتن إبليس ومكايده | ذكر الإعلام بأن مع كل إنسان شيطانا | بيان أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم | ذكر التعوذ من الشيطان الرجيم | الباب الرابع: في معنى التلبيس والغرور | الباب الخامس: في ذكر تلبيسه في العقائد والديانات ذكر تلبيسه على السوفسطائية | ذكر تلبيس الشيطان على فرق الفلاسفة | ذكر تلبيسه على الدهرية | ذكر تلبيسه على الطبائعيين | ذكر تلبيسه على الثنوية | ذكر تلبيسه على الفلاسفة وتابعيهم | مذهب الفلاسفة | ذكر تلبيسه على أصحاب الهياكل | ذكر تلبيسه على عباد الأصنام | ذكر بداية تلبيسه على عباد الأصنام | ذكر تلبيسه على عابدي النار والشمس والقمر | ذكر تلبيسه على الجاهلية | ذكر تلبيس إبليس على جاحدي النبوات | الكلام على جاحدي النبوات | ذكر تلبيسه على اليهود | ذكر تلبيسه على النصارى | ومن تلبيس إبليس على اليهود والنصارى | ذكر تلبيسه على الصابئين | ذكر تلبيس إبليس على المجوس | ذكر تلبيس إبليس على المنجمين وأصحاب الفلك | ذكر تلبيس إبليس على جاحدي البعث | مبدأ عبادة الأصنام | ذكر تلبيسه على القائلين بالتناسخ | ذكر تلبيس إبليس على أمتنا في العقائد والديانات | تلبيس إبليس على أمتنا في العقائد | ذكر تلبيس إبليبس على الخوارج | رأي الخوارج | ذكر تلبيسه على الرافضة | ذكر تلبيس إبليس على الباطنية | نقد مذهب الباطنية | الباب السادس: في ذكر تلبيس إبليس على العلماء في فنون العلم | ذكر تلبيسه على القراء | ذكر تلبيس إبليس على أصحاب الحديث | ذكر تلبيس إبليس على الفقهاء | ذكر تلبيسه عليهم بإدخالهم في الجدل كلام الفلاسفة واعتمادهم على تلك الأوضاع | ذكر تلبيسه على الوعاظ والقصاص | ذكر تلبيسه على أهل اللغة والأدب | ذكر تلبيس إبليس على الشعراء | ذكر تلبيس إبليس على الكاملين من العلماء | نقد مسالك الكاملين من العلماء | الباب السابع: في تلبيس إبليس على الولاة والسلاطين | الباب الثامن: ذكر تلبيس إبليس على العباد في العبادات | ذكر تلبيسه عليهم في الاستطابة والحدث | ذكر تلبيسه عليهم في الوضوء | ذكر تلبيسه عليهم في الأذان | ذكر تلبيسه عليهم في الصلاة | ترك السنن | الإكثار من صلاة الليل | تلبيسه عليهم في القرآن | ذكر تلبيسه عليهم في قراءة القرآن | ذكر تلبيسه عليهم في الصوم | ذكر تلبيسه عليهم في الحج | تلبيسه عليهم في التوكل | ذكر تلبيس إبليس على الغزاة | ذكر تلبيسه على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر | الباب التاسع: في ذكر تلبيس إبليس على الزهاد والعباد | تلبيسه على الزهاد | تلبيسه على العباد | نقد مسالك الزهاد | احتقار العلماء وذمهم | تفسح العلماء في بعض المباحات | الباب العاشر: في ذكر تلبيسه على الصوفية: من جملة الزهاد | نقد مسالك الصوفية | أوائل الصوفية يقرون بأن التعويل على الكتاب والسنة | سياق ما يروى عن الجماعة منهم من سوء الاعتقاد: ذكر تلبيس إبليس في السماع وغيره | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الطهارة | ذكر تلبيس إبليس عليهم في الصلاة | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في المساكن | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الخروج عن الأموال والتجرد عنها | نقد مسالك الصوفية في تجردهم | الصبر على الفقر والمرض | زهد الصوفية في المال | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في لباسهم | الزهد في اللباس | لبس الفوط المرقعات | كثرة ترقيع المرقعة | النهي عن لباس الشهرة وكراهته | لبس الصوف | اللباس الذي يظهر الزهد | تجريد اللباس | المبالغة في تقصير الثياب | من الصوفية من يجعل على رأسه خرقة مكان العمامة | تخصيص ثياب للصلاة وثياب للخلاء | الثوب الواحد | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في مطاعمهم ومشاربهم | ذكر طرف مما فعله قدماؤهم | الامتناع عن أكل اللحم | فصل: في بيان تلبيس إبليس عليهم في هذه الأفعال وإيضاح الخطأ فيها | الصوفية والجوع | ماء الشرب | ذكر أحاديث تبين خطأهم في أفعالهم | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في السماع والرقص والوجد | رأي الصوفية في الغناء | مذهب الإمام أحمد | مذهب الإمام مالك | مذهب أبي حنيفة | مذهب الشافعي | فصل في ذكر الأدلة على كراهية الغناء والنوح والمنع منهما | في ذكر الشبه التي تعلق بها من أجاز سماع الغناء | نقد مسالك الصوفية في السماع | حكم الغناء عند الصوفية | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الوجد | نقد مسالك الصوفية في الوجد | دفع الوجد | إذا طرب أهل التصوف صفقوا | إذا قوي طربهم رقصوا | حالات الطرب الشديدة لدى الصوفية | نقد مسالك الصوفية في تقطيع الثياب خرقا | ذكر تلبيس إبليس على كثير من الصوفية في صحبة الأحداث | مجاهدة النفس | التوبة وإطالة البكاء | المرض من شدة المحبة | قتل النفس خوف الوقوع في الفاحشة | مقاربة الفتنة والوقوع فيها | فائدة العلم | الإعراض عن المرد | صحبة الأحداث | عقوبة النظر إلى المردان | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ادعاء التوكل وقطع الأسباب وترك الاحتراز في الأموال | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك التداوي | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك الجمعة والجماعة بالوحدة والعزلة | النهي عن الانفراد | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في التخشع ومطأطأة الرأس وإقامة الناموس | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك النكاح | نقد مسالك الصوفية في تركهم النكاح | محاذير ترك النكاح | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك طلب الأولاد | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في الأسفار والسياحة | نقد مسالك الصوفية في السياحة | المشي في الليل | ذكر تلبيسه عليهم في دخول الفلاة بغير زاد | سياق ما جرى للصوفية في أسفارهم وسياحاتهم من الأفعال المخالفة للشرع | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية إذا قدموا من السفر | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية إذا مات لهم ميت | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ترك التشاغل بالعلم | مسالك الصوفية في تركهم الاشتغال بالعلم | ذكر تلبيس إبليس على جماعة من القوم في دفنهم كتب العلم وإلقائها في الماء | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في إنكارهم من تشاغل بالعلم | ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في كلامهم في العلم | ذكره نبذة من كلامهم في القرآن | ذكر تلبيس إبليس في الشطح والدعاوى | بيان جملة مروية على الصوفية من الأفعال المنكرة | رأي بعض الصوفية في الملانفية | من اندس في الصوفية من أهل الإباحة | الباب الحادي عشر في ذكر تلبيس إبليس على المتدينين بما يشبه الكرامات | الباب الثاني عشر: تلبيسه عليهم في التفكير في ذات الله تعالى من حيث هي | مخالفتهم العلماء وتقديمهم المتزهدين على العلماء | تلبيسه عليهم في قدحهم العلماء | تعظيم المتزهدين | إطلاق النفس في المعاصي | الغرور بالنسب | اعتمادهم على خلة خير ولا يبالي بما فعل بعدها | تلبيسه على العيارين في أخذ أموال الناس | الاعتماد على النافلة وإضاعة الفريضة | حضور مجالس الذكر | أصحاب الأموال | تلبيسه على الفقراء | تلبيس إبليس على جمهور العوام | تلبيس إبليس على النساء | الباب الثالث عشر في ذكر تلبيس إبليس على جميع الناس بطول الأمل