تلبيس إبليس/الباب العاشر/ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ادعاء التوكل وقطع الأسباب وترك الاحتراز في الأموال
ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في ادعاء التوكل وقطع الأسباب وترك الاحتراز في الأموال
عدلأخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي بإسناد عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: لو توكلنا على الله تعالى ما بنينا الحيطان ولا جعلنا لباب الدار غلقا مخافة اللصوص وبإسناد عن ذي النون المصري أنه قال: سافرت سنين وما صح لي التوكل إلا وقتا واحدا ركبت البحر فكسر المركب فتعلقت بخشبة من خشب المركب فقالت لي نفسي: إن حكم الله عليك بالغرق فما تنفعك هذه الخشبة فخليت الخشبة فطفت على الماء فوقعت على الساحل
أخبرنا محمد قال: سألت أبا يعقوب الزيات عن مسألة في التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني فأعطي التوكل حقه ثم قال: استحييت أن أجيبك وعندي شيء وذكر أبو نصر السراج في كتاب اللمع قال: جاء رجل إلى عبد الله بن الجلاء فسأله عن مسألة في التوكل وعنده جماعته فلم يجبه ودخل البيت فأخرج إليهم صرة فيها أربعة دوانق فقال: اشتروا بهذه شيئا ثم أجاب الرجل عن سؤاله فقيل له في ذلك فقال: استحييت من الله تعالى أن أتكلم في التوكل وعندي أربعة دوانق وقال سهل بن عبد الله: من طعن في الاكتساب فقد طعن على السنة ومن طعن على التوكل فقد طعن على الإيمان
قال المصنف: قلت قلة العلم أوجبت هذا التخطيط ولو عرفوا ماهية التوكل لعلموا أنه ليس بينه وبين الأسباب تضاد وذلك أن التوكل اعتماد القلب على الوكيل وحده وذلك لا يناقض حركة البدن في التعلق بالأسباب ولا ادخار المال فقد قال تعالى: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } أي قواما لأبدانكم وقال ﷺ: [ نعم المال الصالح مع الرجل الصالح ] وقال ﷺ: [ إنك تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ] واعلم أن الذي أمر بالوكل أمر بأخذ الحذر فقال: { خذوا حذركم } وقال: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } وقال: { أن أسر بعبادي } وقد ظاهر رسول الله ﷺ بين درعين وشاور طبيبين واختفى في الغار وقال: من يحرسني الليلة وأمر بغلق الباب
وفي الصحيحين من حديث جابر أن النبي ﷺ قال: [ أغلق بابك ] وقد أخبرنا أن التوكل لا ينافي الاحتراز
أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي نا عبد الله بن يحيى الموصلي ونصر بن أحمد قالا أخبرنا أبو الحسين بن بشران ثنا الحسين بن صفوان ثنا أبو بكر القرشي ثني أبو جعفر الصيرفي ثنا يحيى بن سعيد ثنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء رجل إلى النبي ﷺ وترك ناقته بباب المسجد فسأله رسول الله ﷺ عنها فقال: أطلقتها وتوكلت على الله قال: [ اعقلها وتوكل ]
أخبرنا ابن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا إبراهيم بن محمد بن جعفر نا أبو بكر عبد العزيز بن جعفر ثنا أبو بكر الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني ثني عبد الرحمن بن محمد بن سلام ثنا الحسين بن زياد المروزي قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: تفسير التوكل أن يرضى بما يفعل به وقال ابن عقيل يظن أقوام أن الاحتياط والاحتراز ينافي التوكل وإن التوكل هو إهمال العواقب وإطراح التحفظ وذلك عند العلماء هو العجز والتفريط الذي يقتضي من العقلاء التوبيخ والتهجين ولم يأمر الله بالتوكل إلا بعد التحرز واستفراغ الوسع في التحفظ فقال تعالى: { وشاورهم في الأمر } { فإذا عزمت فتوكل على الله } فلو كان التعلق بالاحتياط قادحا في التوكل لما خص الله نبيه حين قال له: { وشاورهم في الأمر } وهل المشاورة إلا استفادة الرأي الذي منه يؤخذ التحفظ والتحرز من العدو ولم يقنع في الاحتياط بأن يكله إلى رأيهم واجتهادهم حتى نص عليه وجعله عملا في نفس الصلاة وهي أخص العبادات فقال: { فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم } وبين علة ذلك بقوله تعالى: { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } ومن علم أن الاحتياط هكذا لا يقال أن التوكل عليه ترك ما علم لكن التوكل التفويض فيما لا وسع فيه ولا طاقة قال ﷺ: [ اعقلها وتوكل ] ولو كان التوكل ترك التحرز لخص به خير الخلق ﷺ في خير الأحوال وهي حالة الصلاة وقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى وجوب حمل السلاح حينئذ لقوله: { وليأخذوا أسلحتهم } فالتوكل لا يمنع من الاحتياط والاحتراز فإن موسى عليه السلام لما قيل له: { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } خرج ونبينا ﷺ خرج من مكة لخوفه من المتآمرين عليه ووقاه أبو بكر رضي الله عنه بسد أثقاب الغار وأعطى القوم التحرز حقه ثم توكلوا وقال تعالى في باب الاحتياط: { لا تقصص رؤياك على إخوتك } وقال: { لا تدخلوا من باب واحد } وقال: { فامشوا في مناكبها } وهذا لأن الحركة للذب عن النفس استعمال لنعمة الله تعالى وكما أن الله تعالى يريد إظهار نعمة المبدأة يريد إظهار وداعه فلا وجه لتعطيل ما أودع اعتمادا على ما جاد به لكن يجب استعمال ما عندك ثم اطلب ما عنده وقد جعل الله تعالى للطير والبهائم عدة وأسلحة تدفع عنها الشرور كالمخلب والظفر والناب وخلق للآدمي عقلا يقوده إلى حمل الأسلحة ويهديه إلى التحصين بالأبنية والدروع ومن عطل نعمة الله بترك الاحتراز فقد عطل حكمته كمن يترك الأغذية والأدوية ثم يموت جوعا أو مرضا
ولا أبله ممن يدعي العقل والعلم ويستسلم للبلاء إنما ينبغي أن تكون أعضاء المتوكل في الكسب وقلبه ساكن مفوض إلى الحق منع أو أعطى لأنه لا يرى إلا أن الحق سبحانه وتعالى لا يتصرف إلا بحكمة ومصلحة فمنعه عطاء في المعنى وكم زين للعجزة عجوزهم وسولت لهم أنفسهم أن التفريط توكل فصاروا في غرورهم بمثابة من اعتقد التهور شجاعة والخور حزما ومتى وضعت أسباب فأهملت كان ذلك جهلا بحكمة الواضع مثل وضع الطعام سببا للشبع والماء للري والدواء للمرض فإذا ترك الإنسان ذلك إهوانا بالسبب ثم دعا وسأل فربما قيل له قد جعلنا لعافيتك سببا فإذا لم تتناوله كان إهوانا لعطائنا فربما لم نعافك بغير سبب لإهوانك للسبب وما هذا إلا بمثابة من بين قراحه وماء الساقية رفسه بمسحاة فأخذ يصلي صلاة الاستسقاء طلبا للمطر فإنه لا يستحسن منه ذلك شرعا ولا عقلا
قال المصنف رحمه الله: فإن قال قائل كيف أحترز مع القدر قيل له وكيف لا تحترز مع الأوامر من المقدر فالذي قدر هو الذي أمر وقد قال تعالى: { وخذوا حذركم } أنبأنا إسماعيل بن أحمد نا عاصم بن الحسين نا ابن بشران ثنا أبو صفوان نا أبو بكر القرشي ثني شريح بن يونس نا علي بن ثابت عن خطاب بن القاسم عن أبي عثمان قال: كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال: نعم قال: فألق نفسك من الجبل وقل قدر علي قال: يا لعين الله يختبر العباد وليس للعباد أن يختبروا الله تعالى
فصل
عدلوفي معنى ما ذكرنا من تلبيسه عليهم في ترك الأسباب أنه قد لبس على خلق كثير منهم بأن التوكل ينافي الكسب أخبرنا محمد بن أبي القاسم نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم أحمد بن عبد الله قال سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: سمعت محمد بن المنذر يقول سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول: من طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان ومن طعن على الكسب فقط طعن على السنة
أخبرنا محمد بن ناصر نا أحمد بن علي بن خلف نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سأل رجل أبا عبد الله بن سالم وأنا أسمع أنحن مستعبدون بالكسب أم بالتوكل؟ فقال: التوكل حال رسول الله ﷺ والكسب سنة رسول الله ﷺ وإنما سن الكسب لمن ضعف عن التوكل وسقط عن درجة الكمال التي هي حاله فمن أطاق التوكل فالكسب غير مباح له بحال إلا كسب معاونة لا كسب اعتماد عليه ومن ضعف عن حال التوكل التي هي حال رسول الله ﷺ أبيح له طلب المعاش في الكسب لئلا يسقط عن درجة سنته حين سقط عن درجة حاله
أنبأنا عبد المنعم بن عبد الكريم نا أبي قال سمعت محمد بن الحسين قال: سمعت أبا القاسم الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين قال: إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص والكسب فليس يجيء منه شيء
قال المصنف رحمه الله: قلت هذا كلام قوم ما فهموا معنى التوكل وظنوا أنه ترك الكسب وتعطيل الجوارح عن العمل وقد بينا أن التوكل فعل القلب فلا ينافي حركة الجوارح ولو كان كل كاسب ليس بمتوكل لكان الأنبياء غير متوكلين فقد كان آدم عليه السلام حراثا ونوح وزكريا نجارين وإدريس خياطا وإبراهيم ولوط زراعين وصالح تاجرا وكان سليمان يعمل الخوص وداود يصنع الدرع ويأكل من ثمنه وكان موسى وشعيب ومحمد رعاة صلوات الله عليهم أجمعين وقال نبينا ﷺ: [ كنت أرعى غنما لأهل مكة بالقراريط ] فلما أغناه الله تعالى بما فرض له من الفيء لم يحتج إلى الكسب وقد كان أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة رضوان الله عليهم بزازين وكذلك محمد بن سيرين وميمون بن مهران بزازين وكان الزبير بن العوام وعمرو بن العاص وعامر بن كريز خزازين وكذلك أبو حنيفة وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل وكان عثمان بن طلحة خياطا وما زال التابعون ومن بعدهم يكتسبون ويأمرون بالكسب
أخبرنا محمد بن أبي طاهر نا أبو محمد الجوهري نا ابن حياة نا أبو الحسن بن معروف نا الحسين بن الفهم ثنا محمد بن سعد نا مسلم بن إبراهيم نا هشام الدستوائي قال: حدثنا عطاء بن السائب قال: لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد؟ فقال: السوق قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قال ابن سعد وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا أبو بكر بن عياش عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال: زيدوني فإن لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة فزادوه خمسمائة
قال المصنف رحمه الله: قلت لو قال رجل للصوفية من أين أطعم عيالي لقالوا قد أشركت ولو سئلوا عمن يخرج إلى التجارة لقالوا ليس بمتوكل ولا موقن وكل هذا لجهلهم بمعنى التوكل واليقين ولو كان أحد يغلق عليه الباب ويتوكل لقرب أمر دعواهم لكنهم بين أمرين أما الغالب من الناس فمنهم من يسعى إلى الدنيا مستجديا ومنهم من يبعث غلامه فيدور بالزنبيل فيجمع له وإما الجلوس في الرباط في هيئة المساكين وقد علم أن الرباط لا يخلو من فتوح كما لا تخلو الدكان من أن يقصد للبيع والشراء
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو طالب العشاري نا محمد بن عبد الرحمن المخلص نا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري ثنا أبو بكر بن عبيد قال: حدثت عن الهيثم بن خارجة ثنا سهل بن هشام عن إبراهيم بن أدهم قال: كان سعيد بن المسيب يقول: من لزم المسجد وترك الحرفة وقبل ما يأتيه فقد ألحف في السؤال
أخبرنا المحمدان بن ناصر وابن عبد الباقي قالا: نا حمد بن أحمد نا أبو نعيم الحافظ قال: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت جدي إسماعيل بن نجيدي يقول: كان أبو تراب يقول لأصحابه: من لبس منكم مرقعة فقد سأل ومن قعد في خانقاه أو مسجد فقد سأل
قال المصنف رحمه الله: قلت وقد كان السلف ينهون عن التعرض لهذه الأشياء ويأمرون بالكسب أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا محمد بن علي بن الفتح نا محمد بن عبد الرحمن المخلص نا عبيد الله بن عبد الرحمن الكسري نا أبو بكر بن عبيد القرشي نا عبيد بن الجعد نا المسعودي عن خوات التيمي قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق فاستبقوا الخيرات ولا تكونوا عيالا على المسلمين
أخبرنا ابن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا أبو القاسم التنوخي وأبو محمد الجوهري وأبو الخير القزويني قالوا نا أبو عمر بن حياة نا محمد بن خلف ثنا أبو جعفر اليماني نا أبو الحسن المدايني عن محمد بن عاصم قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا رأى غلاما فأعجبه سأل عنه هل له حرفة فإن قيل لا قال: سقط من عيني
أخبرنا إسماعيل بن أحمد نا عمر بن عبد الله النقال نا أبو الحسين بن بشران نا عثمان بن أحمد الدقاق نا حنبل ثني أبو عبد الله نا معاذ بن هشام ثني أبي قتادة عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يتجرون في تجر الشام منهم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد
أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك نا جعفر بن أحمد السراج نا عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل الضراب نا ابي أحمد بن مروان المالكي نا أبو القاسم بن الختلي: سألت أحمد بن حنبل وقلت: ما تقول في رجل جلس في بيته أو في مسجده وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم أما سمعت قول رسول الله ﷺ جعل الله رزقي تحت ظل رمحي وحديث الآخر في ذكر الطير تغدو خماصا فذكر أنها تغدو في طلب الرزق قال تعالى: { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } وقال: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم ولنا القدوة بهم وقد ذكرنا فيما مضى عن أحمد أن رجلا قال له: أريد الحج على التوكل فقال له فأخرج في غير القافلة قال لا قال فعلى جراب الناس توكلت
أخبرنا ابن ناصر نا أبو الحسين بن عبد الجبار نا عبد العزيز بن علي الأزجي نا إبراهيم بن محمد بن جعفر نا أبو بكر أحمد بن محمد الخلال نا أبو بكر المروزي قال: قلت لأبي عبد الله: هؤلاء المتوكلة يقولون نقعد وأرزاقنا على الله تعالى فقال: هذا قول رديء أليس قد قال الله تعالى: { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } ثم قال إذا قال لا أعمل وجيء إليه بشيء قد عمل واكتسب لأي شيء يقبله من غيره؟ قال الخلال: وأخبرنا عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن قوم يقولون نتوكل على الله ولا نكتسب فقال: ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب هذا قول إنسان أحمق
قال الخلال: وأخبرني محمد بن علي قال ثنا صالح أنه سأل أباه يعني أحمد بن حنبل عن التوكل فقال: التوكل حسن ولكن ينبغي أن يكتسب ويعمل حتى يغني نفسه وعياله ولا يترك العمل قال وسئل أبي وأنا شاهد عن قوم لا يعملون ويقولون نحن المتوكلون فقال هؤلاء مبتدعون
قال الخلال وأخبرنا المروزي أنه قال لأبي عبد الله أن ابن عيينة كان يقول: هم مبتدعة فقال أبو عبد الله هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا وقال الخلال أخبرنا المروزي قال سألت عبد الله عن رجل جلس في بيته وقال أجلس وأصبر وأقعد في البيت ولا أطلع على ذلك أحدا فقال: لو خرج فاحترف كان أحب إلي فإذا جلس خفت أن يخرجه جلوسه إلى غير هذا قلت إلى أي شيء يخرجه؟ قال: يخرجه إلى أن يكون يتوقع أن يرسل إليه قال الخلال: وحدثنا أبو بكر المروزي قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله أحمد بن حنبل إني في كفاية قال: الزم السوق تصل الرحم وتعود به على عيالك وقال لرجل آخر: اعمل وتصدق بالفضل على قرابتك وقال أحمد بن حنبل قد أمرتهم يعني أولاده أن يختلفوا إلى السوق وأن يتعرضوا للتجارة
قال الخلال وأخبرني محمد بن الحسين أن الفضل بن محمد بن زياد حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يأمر بالسوق يقول: ما أحسن الاستغناء عن الناس وقال الخلال: وأخبرني يعقوب بن يوسف المطوعي قال: سمعت أبا بكر بن جناد يقول: الجصاصي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أحب الدراهم إلي درهم من تجارة وأكرهها عندي الذي من صلة الإخوان
قال المصنف رحمه الله: قلت وكان إبراهيم بن أدهم يحصد وسلمان الخواص يلقط وحذيفة المرعشي يضرب اللبن وقال ابن عقيل: التسبب لا يقدح في التوكل لأن تعاطي رتبة ترقي على رتبة الأنبياء نقص في الدين ولما قيل لموسى عليه السلام: { إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } خرج ولما جاع واحتاج إلى عفة نفسه أجر نفسه ثمان سنين وقال الله تعالى: { فامشوا في مناكبها } وهذا لأن الحركة استعمال بنعمة الله وهي القوى فاستعمل ما عندك ثم اطلب ما عنده وقد يطلب الإنسان من ربه وينسى ما له عنده من الذخائر فإذا تأخر عنه ما يطلبه يسخط فترى بعضهم يملك عقارا وأثاثا فإذا ضاق به القوت واجتمع عليه دين فقيل له: لو بعت عقترك قال: كيف أفرط في عقاري وأسقط جاهي عند الناس؟ وإنما يفعل هذه الحماقات العادات وإنما قعد أقوام عن الكسب استثقالا له فكانوا بين أمرين قبيحين إما تضييع العيال فتركوا الفرائض أو التزين باسم أنه متوكل فيحن عليهم المكتسبون فضيقوا على عيالهم لأجلهم وأعطوهم وهذه الرذيلة لم تدخل قط إلا على دنيء النفس الرذيلة وإى فالرجل كل الرجل من لم يضيع جوهره الذي أودعه الله إيثارا للكسل أو لاسم يتزين بن بين الجهال فإن الله تعالى قد يحرم الإنسان المال ويرزقه جوهرا يتسبب به إلى تحصيل الدنيا بقبول الناس عليه
فصل
عدلوقد تشبث القاعدون عن التكسب بتعللات قبيحة منها أنهم قالوا لا بد من أن يصل إلينا رزقنا وهذا في غاية القبح فإن الإنسان لو ترك الطاعة وقال لا أقدر بطاعتي أن أغير ما قضى الله علي فإن كنت من أهل الجنة فأنا إلى الجنة أو من أهل النار فأنا من أهل النار قلنا له هذا يرد الأوامر كلها ولو صح لأحد ذلك لم يخرج آدم من الجنة لأنه كان يقول ما فعلت إلا ما قضي علي ومعلوم أننا مطالبون بالأمر لا بالقدر ومنها أنهم يقولون: أين الحلال حتى نطلب وهذا قول جاهل لأن الحلال لا ينقطع أبدا لقوله تعالى: [ الحلال بين والحرام بين ] ومعلوم أن الحلال ما أذن الشرع في تناوله وإنما قولهم هذا احتجاج للكسل ومنها أنهم قالوا إذا كسبنا أعنا الظلمة والعصاة مثل ما أخبرنا به عمر بن ظفر نا جعفر بن أحمد نا عبد العزيز بن علي نا ابن جهضم نا علي بن محمد السيرواني قال سمعت إبراهيم الخواص يقول: طلبت الحلال في كل شيء حتى طلبته في صيد السمك فأخذت قصبة وجعلت فيها شعرا وجلست على الماء فألقيت الشص فخرجت سمكة فطرحتها على الأرض وألقيت الثانية فخرجت لي سمكة فأنا أطرحها ثالثة إذا من ورائي لطمة لا أدري من يد من هي ولا رأيت أحدا وسمعت قائلا يقول: أنت لم تصب رزقا في شيء إلا أن تعمد إلى من يذكرنا فتقتله قال: فقطعت الشعر وكسرت القصبة وانصرفت
أنبأنا أبو المظفر عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري ثنا أبي قال سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت أبا برك الرازي يقول سمعت أبا عثمان بن الآدمي قال سمعت إبراهيم الخواص يقول: طلبت فقصدت إلخ ما تقدم
قال المصنف رحمه الله: قلت وهذه القصة إن صحت فإن الروايتين بعض من يتهم فإن اللاطم إبليس وهو الذي هتف به لأن الله تعالى أباح الصيد فلا يعاقب على ما أباحه وكيف يقال له تعمد إلى من يذكرنا فتقتله وهو الذي أباح له قتله وكسب الحلال ممدوح ولو تركنا الصيد وذبح الأنعام لأنها تذكر الله تعالى لم يكن لنا ما يقيم قوى الأبدان لأنه لا يقيمها إلا اللحم فالتحري من أخذ السمك وذبح الحيوان مذهب البراهمة فانظر إلى الجهل ما يصنع وإلى إبليس كيف يفعل أخبرنا أبو منصور القزاز نا أحمد بن علي بن ثابت نا عبد العزيز بن علي الأزجي ثنا علي بن عبد الله الهمداني ثنا محمد بن جعفر ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الملك قال سمعت شيخا يكنى أبا تراب يقول: قيل لفتح الموصلي أنت صياد بالشبكة ولم تصد شيئا إلا وتطعمه لعيالك فلم تصد وتبيع ذلك الناس فقال أخاف أن أصطاد مطيعا لله تعالى في جوف الماء فأطعمه عاصيا لله على وجه الأرض
قال المصنف رحمه الله: قلت إن صحت هذه الحكاية عن فتح الموصلي فهو من التعلل البارد المخالف للشرع والعقل لأن الله تعالى أباح الكسب وندب إليه فإذا قال قائل ربما خبزت خبزا فأكله عاص كان حديثا فارغا لأنه لا يجوز لنا إذا أن نبيع الخبز لليهود والنصارى