مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/أفعال العباد مفعولة مخلوقة لله
أفعال العباد مفعولة مخلوقة لله
وأفعال العباد مفعولة مخلوقة لله، ليست صفة له ولا فعلًا قائما بذاته.
وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى} 1، فمعناه: وما أوصلت إذ حذفت، ولكن الله أوصل المرمى، فإن النبي ﷺ كان قد رمى المشركين بقبضة من تراب، وقال: (شاهت الوجوه) فأوصلها الله إلى وجوه المشركين وعيونهم، وكانت قدرة النبي ﷺ عاجزة عن إيصالها إليهم، والرمي له مبدأ، وهو الحذف، ومنتهي وهو الوصول، فأثبت الله لنبيه المبدأ بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} ونفى عنه المنتهي، وأثبته لنفسه بقوله: {وَلَكِنَّ الله رَمَى} وإلا فلا يجوز أن يكون المثبت عين المنفي، فإن هذا تناقض.
والله تعالى مع أنه هو خالق أفعال العباد فإنه لا يصف نفسه بصفة من قامت به تلك الأفعال، فلا يسمي نفسه مصليا ولا صائما، ولا آكلا ولا شاربا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقول القائل: ما ثم غير إذا أراد به ما يريده أهل الوحدة، أي ما ثم غير موجود سوى الله: فهذا كفر صريح. ولو لم يكن ثم غير لم يقل: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيًّا} 2 ولم يقل: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 3 فإنهم كانوا يأمرونه بعبادة الأوثان، فلو لم يكن غير الله لم يصح قوله: {أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ولم يقل: {أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا َ} 4 ولم يقل الخليل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} 5 ولم يقل: فّطّرّنٌي{إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} 6 فإن إبراهيم لم يعاد ربه، ولم يتبرأ من ربه، فإن لم تكن تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم الأقدمون غير الله، لكان إبراهيم قد تبرأ من الله وعادى الله، وحاشا إبراهيم من ذلك.
وهؤلاء الملاحدة في أول أمرهم ينفون الصفات، ويقولون: القرآن هو الله، أو غير الله. فإذا قيل لهم: غير الله. قالوا: فغير الله مخلوق.
وفي آخر أمرهم يقولون: ما ثم موجود غير الله، أو يقولون: العالم لا هو الله ولا هو غيره.
ويقولون:
وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه
فينكرون على أهل السنة إذا أثبتوا الصفات، ولم يطلقوا عليها اسم الغير، وهم لا يطلقون على المخلوقات اسم الغير، وقد سمعت هذا التناقض من مشايخهم، فإنهم في ضلال مبين.
وأما قول الشاعر في شعره:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا؟ **
وقوله:
إذا كنت ليلى وليلى أنا **
فهذا إنما أراد به هذا الشاعر الاتحاد الوضعي، كاتحاد أحد المتحابين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغض، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، وهو تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إذ كان قد استغرق في محبوبه حتى فنى به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:
غبت بك عني ** فظننت أنك أني
فإما أن يكون غالطًا مستغرقًا بالفناء، أو يكون عني التماثل والتشابه، واتحاد المطلوب والمرهوب، لا الاتحاد الذاتي. فإن أراد الاتحاد الذاتي مع عقله لما يقول فهو كاذب مفتر، مستحق لعقوبة المفترين.
وأما قول القائل: لو رأى الناس الحق لما رأوا عابدًا ولا معبودًا، فهذا من جنس قول الملاحدة الاتحادية، الذين لا يفرقون بين الرب والعبد، وقد تقدم بيان قول هؤلاء، وهؤلاء يجمعون بين الضلال والغي، بين شهوات الغي في بطونهم وفروجهم، وبين مضلات الفتن.
وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغَيِّ في بطونكم وفروجكم)، حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان، ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم، ويقولون: هو الراهب في الصومعة، وهذه مظاهر الجمال، ويقبل أحدهم الأمرد، ويقول: أنت الله.
ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه، ويدعي أنه الله رب العالمين، أو أنه خلق السموات والأرض، ويقول أحدهم لجليسه: أنت خلقت هذا، وأنت هو، وأمثال ذلك.
فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوؤها الذي تفترشه، وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صَرْفا ولا عَدْلا.
ومن قال: إن لقول هؤلاء سرًا خفيًا وباطن حقٍ، وأنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق، فهو أحد رجلين: إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال، وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال. فالزنديق يجب قتله، والجاهل يعرَّف حقيقة الأمر، فإن أصرَّ على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله.
ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق. وهذا السر هو أشد كفرًا وإلحادا من ظاهره، فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء، قد لا يفهمه كثير من الناس.
ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض، ويتواجد عليها ويعظمها، ظانا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة، وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين، فلا يفهمون حقيقته، فإما أن يتوقفوا عنه أو يعبروا عن مذهبهم بعبارة من لم يفهم حقيقته، وإما أن ينكروه إنكارًا مجملا من غير معرفة بحقيقته، ونحو ذلك، وهذا حال أكثر الخلق معهم.
وأئمتهم إذا رأوا من لم يفهم حقيقة قولهم طمعوا فيه، وقالوا: هذا من علماء الرسوم، وأهل الظاهر، وأهل القشر، وقالوا: علمنا هذا لا يعرف إلا بالكشف والمشاهدة، وهذا يحتاج إلى شروط، وقالوا: ليس هذا عشك فادرج عنه، ونحو ذلك مما فيه تعظيم له وتشويق إليه، وتجهيل لمن لم يصل إليه.
وإن رأوه عارفا بقولهم نسبوه إلى أنه منهم، وقالوا: هو من كبار العارفين.
وإذا أظهر الإنكار عليهم والتكفير قالوا: هذا قام بوصف الإنكار لتكميل المراتب والمجالي
وهكذا يقولون في الأنبياء ونهيهم عن عبادة الأصنام.
وهذا كله وأمثاله مما رأيته وسمعته منهم.
فضَلالُهم عظيم، وإفكُهم كبير، وتلْبيسُهم شديد، والله تعالى يظهر ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، والله أعلم.
هامش
- ↑ [الأنفال: 17]
- ↑ [الأنعام: 14]
- ↑ [الزمر: 64]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [الشعراء: 75، 77]
- ↑ [الزخرف: 26، 27]