مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/السابع



السابع

السابع: أن عندهم من يدعي الإلهية من البشر، كفرعون والدجال المنتظر، أو ادعيت فيه وهو من أولياء الله نبيا كالمسيح، أو غير نبي كعلى، أو ليس من أولياء الله كالحاكم بمصر وغيرهم، فإنه عند هؤلاء الملاحدة المنافقين يصحح هذه الدعوى.

وقد صرح صاحب الفصوص بتصحيح هذه الدعوى، كدعوى فرعون، وهم كثيرًا ما يعظمون فرعون، فإنه لم يتقدم لهم رأس في الكفر مثله، ولا يأتي متأخر لهم مثل الدجال الأعور الكذاب، وإذا نافقوا المؤمنين وأظهروا الإيمان قالوا: إنه مات مؤمنًا، وإنه لا يدخل النار، وقالوا: ليس في القرآن ما يدل على دخوله النار.

وأما في حقيقة أمرهم فما زال عندهم عارفًا بالله، بل هو الله، وليس عندهم نار فيها ألم أصلا، كما سنذكره إن شاء الله عنهم، ولكن يتفطن بهذا لكون البدع مظان النفاق، كما أن السنن شعائر الإيمان.

قال صاحب الفصوص في فص الحكمة التي في الكلمة الموسوية لما تكلم على قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1 قال: وهنا سر كبير، فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم، أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال له في جواب قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} قال: الذي يظهر فيه صور العالمين، من علو وهو السماء، وسفل وهو الأرض {إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} 2، أو يظهر هو بها.

فلما قال فرعون لأصحابه: إنه لمجنون كما قلنا في معنى كونه مجنونًا أي لمستور عنه علم ما سألته عنه إذ لا يتصور أن يعلمه أصلا، زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي، لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك فقال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ٌ} 3، فجاء بما يظهر ويستر، وهو الظاهر والباطن {وَمَا بَيْنَهُمَا} 4 وهو قوله: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ} 5 {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} 6 أي إن كنتم أصحاب تقييد فإن العقل للتقييد.

والجواب الأول جواب الموقنين، وهم أهل الكشف والوجود، فقال له: {إِن كُنتُمْ موقنين} أي: أهل كشف ووجود فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في كشفكم ووجودكم.

فإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم بالجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد، وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم، فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه، وعلم موسى أن فرعون علم ذلك، أو يعلم ذلك لكونه سأل عن الماهية، فعلم أن سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال؛ فلذلك أجاب، فلو علم منه غير ذلك لخطأه في السؤال.

فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم، خاطبه فرعون بهذا اللسان، والقوم لا يشعرون فقال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 7، والسين في السجن من حروف الزوائد، أي: لأسترنك، فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول مثل هذا القول، فإن قلت لي بلسان الإشارة، فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي، والعين واحدة، فكيف فرقت؟ فيقول فرعون: إنما فرقت المراتب العين، ما تفرقت العين، ولا انقسمت في ذاتها، ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وأنا غيرك بالرتبة.

وساق الكلام إلى أن قال: ولما كان فرعون في منصب الحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وأنه جار في العرف الناموسي؛ لذلك قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 8: أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم.

ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لهم، لم ينكروه، وأقروا له بذلك، وقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} 9 فالدولة لك، فصح قوله {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون، فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق في صورة باطل؛ لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل؛ فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها؛ لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت؛ إذ لا تبديل لكلمات الله، وليست كلمة الله سوى أعيان الموجودات.


هامش

  1. [الشعراء: 23]
  2. [الشعراء: 24]
  3. [الشعراء: 28]
  4. [الشعراء: 28]
  5. [الأنعام: 101]
  6. [الشعراء: 28]
  7. [الشعراء: 29]
  8. [النازعات: 24]
  9. [طه: 72]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثاني
توحيد الربوبية | قاعدة أولية: أصل العلم الإلهي ومبدأه عند الرسول والذين آمنوا | في تمهيد الأوائل وتقرير الدلائل ببيان أصل العلم والإيمان | قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم | ثم يقال هذا أيضا يقتضي | أصل الإثبات والنفي والحب والبغض هو شعور نفسي | الإيمان هو أصل السعادة وهو قول القلب وعمله | إن المنحرفين المشابهين للصابئة | تفرق الناس في هذا المقام الذي هو غاية مطالب العباد | حقيقة مذهب الاتحادية | سئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد | الذي يدعي النبوة ويبيح الفاحشة اللوطية ويحرم النكاح فإنه من الكافرين وأخبث المرتدين | وسئل: عن كتاب فصوص الحكم | السلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه في كل مكان | حكم الاتحادية ومن اعتذر عنهم | تصور مذهبهم كاف في فساده | حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله | بنوا أصلهم على ثلاث مقالات | في قولهم إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه | فيما خالف فيه الصدر الرومي ابن عربي | أما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود | هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء | مذهب هؤلاء الاتحادية مركب من ثلاث مواد | هذا أكفر من قول النصارى من وجوه | الوجه الأول | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الثامن | التاسع | العاشر | الحادي عشر | ما حكي أن العالم بمجموعه حدقة عين الله هو عين الكفر وذلك من وجوه | في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه | حقيقة قوله وسر مذهب ابن عربي | اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك | في بعض ما يظهر به كفرهم وفساد قولهم وذلك من وجوه | أحدها | الثاني | الثالث | الرابع | الخامس | السادس | السابع | الأصول التي يعتمدها الاتحادية | زعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية أن فرعون كان مؤمنا | سئل عن أعمال تشتمل على الحلول والاتحاد | أما ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | ما ذكره من قول ابن إسرائيل الأمر أمران | قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه | سئل عن كتاب فصوص الحكم | أفعال العباد مفعولة مخلوقة لله | فيما عليه أهل العلم والإيمان من الأولين والأخرين | أن المؤمن لا بد أن يقوم بقلبه من معرفة الله والمحبة له | ما يشبه الاتحاد | جاء في أولياء الله الذين هم المتقون نوع من هذا | فهذان المعنيان صحيحان ثابتان | قد يقع بعض من غلب عليه الحال في نوع من الحلول أو الاتحاد | فإذا عرف الاتحاد المعين مما يشبه الحلول أو الاتحاد | في الغلط في ذلك | كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته فكذلك يشهد إلهيته العامة | فهذا فيما يشبه الاتحاد أو الحلول في معين | وأما كفرهم بالمعبود فإذا كان لهم في بعض المخلوقات هوى | أما اتحاد ذات العبد بذات الرب بل اتحاد ذات عبد بذات عبد | نفي كونه سبحانه والدا لشيء أو متخذا لشيء ولدا | الملاحدة لا يقتصرون في كفرهم بالله على أنه ولد شيئا أو اتخذ ولدا | رسالة شيخ الإسلام إلى نصر المنبجي | سئل عن الحلاج وفيمن قال أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج | الرد على من قال إن الحلاج من أولياء الله | سئل عمن يقول إن ما ثم إلا الله | سئل عن حديث فإن الله هو الدهر فهل هذا موافق لما يقوله الاتحادية