مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/فصل: فيما خالف فيه الصدر الرومي ابن عربي
فصل: فيما خالف فيه الصدر الرومي ابن عربي
عدلوأما صاحبه الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول: إن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه، لكنه أكفر وأقل علما وإيمانا، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ، ولما كان مذهبهم كفرا كان كل من حذق فيه كان أكفر. فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم، وعنده أن الله هو الوجود، ولا بد من فرق بين هذا وهذا، فرق بين المطلق والمعين، فعنده أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز، وأنه إذا تعين وتميز فهو الخلق، سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها.
وهذا القول قد صرح فيه بالكفر أكثر من الأول، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة، وإن كان الأول أفسد من جهة تفرقته بين وجود الأشياء وثبوتها، وذلك أنه على القول الأول يمكن أن يجعل للحق وجودا خارجا عن أعيان الممكنات، وأنه فاض عليها، فيكون فيه اعتراف بوجود الرب القائم بنفسه الغني عن خلقه، وإن كان فيه كفر من جهة أنه جعل المخلوق هو الخالق، والمربوب هو الرب، بل لم يثبت خلقا أصلا، ومع هذا فما رأيته صرح بوجود الرب متميزا عن الوجود القائم بأعيان الممكنات.
وأما هذا فقد صرح بأنه ما ثم سوى الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة، والمطلق ليس له وجود مطلق، فما في الخارج جسم مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسان مطلق، ولا حيوان مطلق بشرط الإطلاق، بل لا يوجد إلا في شيء معين.
والحقائق لها ثلاث اعتبارات: اعتبار العموم والخصوص والإطلاق.
فإذا قلنا: حيوان عام أو إنسان عام، أو جسم عام، أو وجود عام، فهذا لا يكون إلا في العلم واللسان، وأما الخارج عن ذلك فما ثم شيء موجود في الخارج يعم شيئين؛ ولهذا كان العموم من عوارض صفات الحي. فيقال: علم عام، وإرادة عامة، وغضب عام، وخبر عام، وأمر عام. ويوصف صاحب الصفة بالعموم أيضا كما في الحديث الذي في سنن أبي داود: أن النبي ﷺ مر بعلي وهو يدعو فقال: ( يا علي، عُمَّ، فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض)، وفي الحديث أنه لما نزل قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } 1 عم وخص، رواه مسلم من حديث موسى بن طلحة عن أبي هريرة.
وتوصف الصفة بالعموم كما في حديث التشهد: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإذا قلتم ذلك فقد أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض) وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط، فليس كذلك؛ إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ، وسائر الصفات، كالإرادة، والحب، والبغض، والغضب، والرضا يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول، وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج، كقولهم: مطر عام وخصب عام، هذه التي تنازع الناس: هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجازا؟ على قولين:
أحدهما: مجاز؛ لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر، فليس هناك عموم، وقيل: بل حقيقة؛ لأن المطر المطلق قد عم.
وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج، فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره: أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها، مثل: هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم، وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن. فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية، فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات.
وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب، فإن العقل يتصور إنسانا مطلقا ووجودا مطلقا.
وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق؟ هذا فيه قولان، قيل: المطلق له وجود في الخارج، فإنه جزء من المعين، وقيل: لا وجود له في الخارج؛ إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد، والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءًا من المعين الذي لا يشركه فيه.
والتحقيق: أن المطلق بلا شرط أصلا يدخل فيه المقيد المعين، وأما المطلق بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد، وهذا كما يقول الفقهاء: الماء المطلق، فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف، وأما المطلق لا بشرط فيدخل فيه المضاف.
فإذا قلنا: الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، فالثلاثة أقسام الماء. الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل فيه ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة، فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط، والماء الذي هو قسيم للمائين هو المطلق بشرط الإطلا.
لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء، أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس، أو ماء ورد.
وأما ما كان كلامنا فيه أولا فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ، ففرق بين النوعين، فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطا كثيرا جدا، وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معينا لا يقبل الشركة، كأنا وهذا وزيد، ويقال له: المعين والجزء، وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق، وله ثلاث اعتبارات كما تقدم.
وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال: تحرير رقبة، ولم تجدوا ماء، وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ، ولا يدخل في اللفظ المطلق، أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق، كما قلنا في لفظ الماء، فإن الماء يطلق على المني وغيره كما قال: { مِن مَّاء دَافِقٍ } 2، ويقال: ماء الورد، لكن هذا لا يدخل في الماء عند الإطلاق، لكن عند التقييد، فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق، فيقال: الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق، لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم، وهو قولنا: الماء ثلاثة أقسام. فهنا أيضا ثلاثة أشياء: مورد التقسيم وهو الماء العام وهو المطلق بلا شرط، لكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف، والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه، والثاني اللفظ المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده.
وإنما كان كذلك؛لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده، ليس له حال ثالثة، فإذا أطلقه كان له مفهوم، وإذا قيده كان له مفهوم، ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص، فقيد العموم كقوله: الماء ثلاثة أقسام، وقيد الخصوص كقوله: ماء الورد.
وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه، وبين تقييد المعنى وإطلاقه، عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال: إما أن يكون أيضا مطلقا، أو مقيدا بقيد العموم، أو مقيدا بقيد الخصوص.
والمطلق من المعاني نوعان: مطلق بشرط الإطلاق، ومطلق لا بشرط.
وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقا بشرط الإطلاق، كقولنا: الماء المطلق والرقبة المطلقة، وقد يكون مطلقا لا بشرط الإطلاق، كقولنا: إنسان.
فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق، فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق، وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد، كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان.
فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج، فليس في الخارج إنسان مطلق، بل لا بد أن يتعين بهذا أو ذاك، وليس فيه حيوان مطلق، وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق.
وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج؛ لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ، فلا يمنع أن يكون معناه معينا، وبشرط الإطلاق هناك في المعنى، والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور؛ إذ لكل موجود حقيقة يتيميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء، وإذا كان له حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقا من كل وجه، فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له، فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال: هو مطلق بشرط الإطلاق، إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق، حتى يقال: تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها.
وأما المطلق من المعاني لا بشرط: فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معينا متميزا مخصوصا، والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق، إذ المطلق لا بشرط أعم، ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجودا في الخارج أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجودا في الخارج؛ لأن هذا أخص منه.
فإذا قلنا: حيوان، أو إنسان، أو جسم، أو وجود مطلق، فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق، فلا وجود له في الخارج، وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا، فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته.
فمن قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين، فحقيقة قوله أنه ليس للحق وجود أصلا ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئا أصلا.
وتلخيص النكتة: أنه لو عني به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلا، وإن عني به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا، فلا يكون للحق وجود إلا وجود الأعيان، فيلزم محذوران:
أحدهما: أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات.
والثاني: التناقض، وهو قوله: إنه الوجود المطلق دون المعين.
فتدبر قول هذا، فإنه يجعل الحق في الكائنات بمنزلة الكلى في جزئياته، وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة، والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم.
وصاحب هذا القول يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات، كما جعلها الأول في الأعيان الثابتة في العدم.
هامش
عدل