مجموع الفتاوى/المجلد الثاني/حقيقة قوله وسر مذهب ابن عربي
حقيقة قوله وسر مذهب ابن عربي
وهذا حقيقة قوله، وسر مذهبه، الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله، وأنه تقدم بذلك على الصديق، الذي جهل فقال: العجز عن درك الإدراك إدراك، وتقدم به على المرسلين، الذين ما علموا ذلك إلا من مشكاته، وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها:
منها: الكفر بذات الله؛ إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق.
ومنها: الكفر بأسماء الله؛ فإنها ليست عنده إلا أمور عدمية، فإذا قلنا: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} 1 فليس الرب عنده إلا نسبة إلى الثبوت.
السادس: أنه قال: فاختلط الأمر وانبهم، أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم، وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين، قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال.
قال: فمنا من جهل في علمه فقال: العجز عن درك الإدراك إدراك، وهذا الكلام مشهور عندهم نسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلا، وإن كان هذا اللفظ لم يحفظ عن أبي بكر، ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحوًا من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى، وإنما يرسل عنه إرسالًا من جهة من يكثر الخطأ في مراسيلهم.
كما يحكون عن عمر أنه قال: كان النبي ﷺ، وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما. وهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة. وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله ﷺ على المنبر، فقال: (إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله) فبكى أبو بكر، فقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا، أو كما قال.
فجعل الناس يقولون: عجبا لهذا الشيخ، يبكي أن ذكر رسول الله ﷺ عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة! فكان رسول الله ﷺ هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، فكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله ﷺ ومقاصده في كلامه، وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه.
وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلى رضي الله عنه: هل ترك عندكم رسول الله ﷺ شيئا؟ وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة: وفيها العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر.
وبهذا الحديث ونحوه من الأحاديث الصحيحة، استدل العلماء على أن كل ما يذكر عن على وأهل البيت، من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي ﷺ دون غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر منه الجَفْر، والبطاقة، والجدول، وغير ذلك وما يأثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره، وكذلك كذب على على رضي الله عنه وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع.
وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره، وأن النبي ﷺ كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره، ثم قد يدعون أنهم عرفوها، وتكون حقيقتها زندقة وإلحادًا.
وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة، حفظت عن رسول الله ﷺ جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم. وهذا الحديث صحيح، لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين، ومعرفة الله وتوحيده، الذي يختص به أولياءه.
ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة، الذين يخصون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن، التي تكون بين المسلمين، فإن النبي ﷺ أخبرهم بما سيكون من الفتن التي تكون بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار.
ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك، قال ابن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتهدمون البيت وغير ذلك، لقلتم: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها؛ لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم.
وكذلك قد يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان، وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، وحديث حذيفة معروف، لكن السر الذي لا يعلمه غيره: هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك، ويقال: إنهم كانوا هموا بالفتك بالنبي ﷺ، فأوحى الله إلى النبي ﷺ أمرهم، فأخبر حذيفة بأعيانهم، ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة؛ لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها.
وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة، أنه لما ذكر الفتن، وأنه أعلم الناس بها، بين أن النبي ﷺ لم يخصه بحديثها، ولكن حدث الناس كلهم قال: وكان أعلمنا أحفظنا.
ومما يبين هذا: أن في السنن أن النبي ﷺ كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة: منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي ﷺ ليبايعه، فتوقف عنه النبي ﷺ ساعة، ثم بايعه وقال: (أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلى، وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه؟). فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، هلا أومأت إلى؟ فقال: (ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين). فهذا ونحوه مما يبين أن النبي ﷺ يستوى ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه، كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنسكة ونحوهم.
السابع: أنه قال: (ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه، إلا من مشكاة خاتم الأولياء.
فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدًا، فالمرسلون من كونهم أولىاء: لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى إلى قوله: ولما مثل النبي ﷺ النبوة بالحائط من اللبن.
ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر، وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى، وما أشبه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل: فخر عليهم السقف من تحتهم، أن هذا لا عقل ولا قرآن.
وكذلك ما ذكره هنا من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم هو مخالف للعقل، فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر، ومخالف للشرع، فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء، الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا.
وقد يزعم أن هذا العلم الذي هو عنده أعلى العلم وهو القول بوحدة الوجود وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، وحقيقة تعطيل الصانع وجحده، وهو القول الذي يظهره فرعون، فلم يكفه زعمه أن هذا حق، حتى زعم أنه أعلى العلم، ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء.
فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته.
ثم أخذ يبين ذلك فقال: فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا. فالمرسلون من كونهم أولىاء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف بالأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا؟ وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي ﷺ نبيا ورسولا، فإن هذا كفر ظاهر، فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته، يعني: وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق وهي الولاية عندهم فلم تنقطع، وهذه الولاية عندهم هي أفضل من النبوة والرسالة؛ ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه:
مقام النبوة في برزخ ** فويق الرسول ودون الولي
وقال في الفصوص في كلمة عزيرية: فإذا سمعت أحدًا من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه، أنه قال: الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه.
أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي، أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدًا فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعًا له.
وإذا حوققوا على ذلك قالوا: إن ولاية النبي فوق نبوته، وإن نبوته فوق رسالته؛ لأنه يأخذ بولايته عن الله، ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم، ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته، وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي ادعوه.
وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع:
منها: أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما ادعوه باطل لا أصل له.
ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء، إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم، في كتاب ختم الولاية وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط، مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة، وله من الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده، ومن أشنعها ما ذكره في كتاب ختم الولاية، مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرىن مَنْ درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر، وعمر، وغيرهما.
ثم إنه تناقض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفردًا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال: يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأبطل ذلك.
ومنها: أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ولو أنها التطوعات المشروعة أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية، وهذا أيضا خطأ عند أئمة الطريق، فإن أكمل الخلق رسول الله ﷺ، وخير الهدي هدى محمد ﷺ، وما زال محافظا على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته.
ومنها: ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان، وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء. وهذا ضلال واضح، فإن أفضل أولىاء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وأمثالهم من السابقين الأولىن من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة.
وخير القرون قرنه ﷺ، كما في الحديث الصحيح: (خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر: (هذان سيدا كهول أهل الجنة، من الأولىن والأخرىن، إلا النبيين والمرسلين). قال الترمذي حديث حسن. وفي صحيح البخاري عن على رضي الله عنه أنه قال له ابنه: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله ﷺ؟ فقال: يا بني، أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: ثم عمر وروى بضع وثمانون نفسا عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
وهذا باب واسع، وقد قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} 2، وهذه الأربعة هي مراتب العباد: أفضلهم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون.
وقد نهى النبي ﷺ أن يفضل أحد منا نفسه على يونس بن متى مع قوله: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} 3، وقوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} 4 تنبيها على أن غيره أولى ألا يفضل أحد نفسه عليه، ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: (لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن مَتَّى). وفي صحيح البخاري أيضا عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (ما ينبغي لعبد أن يكون خيرًا من يونس ابن متى)، وفي لفظ: (أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتى)، وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: (من قال: أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال يعني رسول الله: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، (وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي ﷺ وفي لفظ: فيما يرويه عن ربه: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، وهذا فيه نهي عام.
وأما ما يرويه بعض الناس أنه قال: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، ويفسره باستواء حال صاحب المعراج، وحال صاحب الحوت، فنقل باطل وتفسير باطل، وقد قال النبي ﷺ: (اثبت أُحُد فما عليك إلا نبي، أو صديق أو شهيد)، وأبو بكر أفضل الصديقين.
ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة، ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله، وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، فإن الله يقول: {أَلا إِنَّ أولياء الله لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية 5، فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا. وهم على درجتين: السابقون المقربون، وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر، وسورة الواقعة، والإنسان، والمطففين. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه).
فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين، والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض هم السابقون المقربون، وإنما تكون النوافل بعد الفرائض. وقد قال أبو بكر الصديق في وصىته لعمر بن الخطاب: اعلم أن لله عليك حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.
والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه، وأن قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله، وهذا فاسد من وجوه كثيرة، بل كفر صريح، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء، ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم، الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم، فإنه كلما كان الولي أعظم اختصاصا بالرسول، وأخذا عنه وموافقة له كان أفضل، إذ الولي لا يكون وليا لله إلا بمتابعة الرسول باطنا وظاهرًا، فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله.
والأولياء، وإن كان فيهم محدّثون كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: (إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)، فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق، فالمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة، فإنه ليس بمعصوم، كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام.
ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافًا عند كتاب الله، وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له، كما بين له يوم الحديبية، ويوم موت النبي ﷺ، ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة، فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه، وربما قال القول فترد عليه امرأة من المسلمين قوله، وتبين له الحق فيرجع إليها، ويدع قوله كما قدر الصداق، وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النبي ﷺ فيعمل به ويدع رأيه، وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول، فيقال له: أصبت، فيقول: والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه؟
فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر، فليس فيهم معصوم، بل الخطأ يجوز عليهم كلهم، وإن كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ، وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة، والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا، فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع.
هامش